تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل

الخازن

مقدمة الكتاب

الجزء الأول [مقدمة الكتاب] «بسم الله الرّحمن الرّحيم» الحمد لله الذي خلق الأشياء فقدرها تقديرا، وصور شكل الإنسان فأحسنه تصويرا، ومنحه العقل وجعله سميعا بصيرا وشرفه بما عرفه به من العلم ونور قلبه تنويرا وهداه، إلى معرفته فيا لها نعمة وفضلا كبيرا، وأطلق لسانه فأذعن بشكره تحميدا وتهليلا وتكبيرا، وأرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى كافة الخلق بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه كتابا منيرا، وأودعه حكمة وحكما وترغيبا وتحذيرا، وألهم حفاظه تلاوة له وتحبيرا، وعلم عباده علومه تفهيما وتبصيرا، وضرب فيه الأمثال ليزيل جهالة وتحييرا، وجعله برهانا واضحا وصوابا لائحا ووفر فضله توفيرا، في الصدور محفوظا وبالألسنة متلوا وفي الصحف مسطورا، يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وجعل كل بليغ عن الإتيان بسورة مثله حسيرا. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. (أحمده) على تواتر إنعامه حمدا كثيرا وأتوكل عليه مفوضا أمري إليه ومستجيرا، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يغدو قلب قائلها مطمئنا مستنيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كساه من فضله عزا ومهابة وتوقيرا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه كما أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. (وبعد) فإن الله جلّ ذكره ونفذ أمره أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله رحمة للعالمين وبشيرا للمؤمنين ونذيرا للمخالفين أكمل به بنيان النبوة وختم به ديوان الرسالة، وأتم به مكارم الأخلاق، ونشر فضله في الآفاق وأنزل عليه نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، وحكم بالفوز والفلاح لمن اتبعه وبالخسران لمن أعرض عنه بعد ما سمعه عجز الخلائق عن معارضته حين تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله في مقابلته، ثم سهل على عباده المؤمنين مع إعجازه تلاوته ويسر على الألسن قراءته أمر فيه وزجر وبشر وأنذر وذكر المواعظ ليتذكر، وضرب فيه الأمثال ليتدبر، وقص فيه من أخبار الماضين ليعتبر ودل فيه على آيات التوحيد ليتفكر، ثم لم يرض منا بسرد حروفه دون حفظ حدوده ولا بإقامة كلماته دون العمل بمحكماته ولا بتلاوته دون تدبر آياته في قراءته ولا بدراسته دون تعلم حقائقه وتفهم دقائقه ولا حصول لهذه المقاصد منه إلّا بدراية تفسيره وأحكامه ومعرفة حلاله وحرامه وأسباب نزوله وأقسامه والوقوف على ناسخه ومنسوخه في خاصه وعامه، فإنه أرسخ العلوم أصلا وأسبغها فرعا وفصلا وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا فلا شرف إلّا وهو السبيل إليه ولا خير إلّا وهو الدال عليه وقد قيض الله تعالى له رجالا موفقين وبالحق ناطقين حتى صنفوا في سائر علومه المصنفات، وجمعوا سائر فنونه المتفرقات كل على قدر فهمه ومبلغ علمه نظرا للخلف واقتداء بالسلف فشكر الله سعيهم ورحم كافتهم. ولما كان كتاب معالم التنزيل الذي صنفه الشيخ الجليل والحبر النبيل الإمام العالم الكامل محيي السنة قدوة الأمة وإمام الأئمة مفتي الفرق ناصر الحديث ظهير الدين أبو محمد الحسين بن مسعود البغويّ قدس الله روحه ونور ضريحه من أجل المصنفات في علم التفسير وأعلاها وأنبلها

الفصل الأول: في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه

وأسناها جامعا للصحيح من الأقاويل عاريا عن الشبه والتصحيف والتبديل محلى بالأحاديث النبوية، مطرزا بالأحكام الشرعية موشى بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة مرصعا بأحسن الإشارات مخرجا بأوضح العبارات، مفرغا في قالب الجمال بأفصح مقال، فرحم الله تعالى مصنفه وأجزل ثوابه وجعل الجنة متقلبة ومآبه. ولما كان هذا الكتاب كما وصفت أحببت أن أنتخب من غرر فوائده ودرر فرائده وزواهر نصوصه وجواهر فصوصه مختصرا جامعا لمعاني التفسير ولباب التأويل والتعبير حاويا لخلاصة منقوله متضمنا لنكته وأصوله مع فوائد نقلتها وفرائد لخصتها من كتب التفاسير المصنفة في سائر علومه المؤلفة، ولم أجعل لنفسي تصرفا سوى النقل والانتخاب، مجتنبا حد التطويل والإسهاب وحذفت منه الإسناد لأنه أقرب إلى تحصيل المراد فما أوردت فيه من الأحاديث النبوية والأخبار المصطفوية على تفسير آية أو بيان حكم، فإن الكتاب يطلب بيانه من السنة، وعليهما مدار الشرع وأحكام الدين عزوته إلى مخرجه، وبينت اسم ناقله، وجعلت عوض كل اسم حرفا يعرف به ليهون على الطالب طلبه فما كان من صحيح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فعلامته قبل ذكر اسم الصحابي الراوي للحديث (خ) وما كان من صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري فعلامته (م) وما كان مما اتفقا عليه فعلامته (ق) وما كان من كتب السنن أبي داود والترمذي والنسائي فإني أذكر اسمه بغير علامة وما لم أجده في هذه الكتب ووجدت البغوي قد أخرجه بسند له انفرد به قلت روى البغوي بسنده، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي قلت: روى البغوي بإسناد الثعلبي، وما كان فيه من أحاديث زائدة وألفاظ متغيرة فاعتمده فإني اجتهدت في تصحيح ما أخرجته من الكتب المعتبرة عند العلماء كالجمع بين الصحيحين للحميدي وكتاب جامع الأصول لابن الأثير الجزري، ثم إني عوضت عن حذف الإسناد شرح غريب الحديث، وما يتعلق به ليكون أكمل فائدة في هذا الكتاب وأسهل على الطلاب، وسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز وحسن الترتيب مع التسهيل والتقريب. وينبغي لكل مؤلّف كتابا في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد استنباط شيء كان معضلا أو جمعه إن كان متفرقا، أو شرحه إن كان غامضا، أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب عن هذه الخصال التي ذكرت وسميته [لباب التأويل في معاني التنزيل] والله تعالى أسأل التوفيق لإتمام ما قصدت، وإليه أرغب في تيسير ما أردت، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني إنه هو السميع العليم، وهو حسبي ونعم الوكيل، عليه توكلت وإليه أنيب، وقبل أن أشرع في الكلام على التفسير أقدم مقدمة تتضمن ثلاثة فصول: الفصل الأول: في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه: (م) عن زيد بن أرقم قال قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي زاد في رواية كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل» وفي رواية: كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، وفي رواية الترمذي عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني تارك فيكم ما إنّ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (م) عن عمر بن الخطاب قال أما إن نبيكم صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» وعن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ فقلت يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد

خاضوا في الأحاديث قال: أوقد فعلوها قلت نعم قال أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم والفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب وإسناده مجهول وفي الحارث مقال. (قوله هو الفصل) أي الفاصل بين الحق والباطل ليس بالهزل أي هو جد كله ليس فيه شيء من الهزل، والجبار في صفة الآدمي هو المتسلط العاتي المتكبر على الناس، قصمه الله أي أهلكه. (قوله وهو حبل الله المتين) الحبل يرد على وجوه منها العهد ومنها الأمان فإذا اعتصم به الإنسان آواه الله تعالى إلى جواره والذكر الشرف والحكيم المحكم العاري من الاختلاف والاضطراب، والصراط المستقيم الطريق الواضح، ومعنى لا تزيغ به الأهواء أي لا يميل عن الحق، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (خ) عن عثمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (ق) عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران». (قوله الماهر بالقرآن) يعني الحاذق الكامل الحفظ الجيد التلاوة، وقوله: مع السفرة جمع سافر وهو الرسول من الملائكة سمي بذلك لأنه يسفر برسالات الله إلى أنبيائه وقيل السفرة الكتبة من الملائكة والبررة المطيعون لله تعالى فيما يأمر، به ومعنى كونه من الملائكة أن له منازل في الجنة يكون فيها رفيقا لهم. وقوله: يتعتع أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. له أجران: يعني يحصل له أجر بسبب القراءة وأجر بسبب تعبه فيها والمشقة التي تحصل له فيها وليس معناه أن له أجرا أكثر من الماهر، بل الماهر أفضل منه وأكثر أجرا (ق) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها فيه دليل على فضيلة حفاظ القرآن واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب، وقد رفعه بعضهم عن ابن مسعود، ووقفه بعضهم عليه عن ابن عباس قال: قال رجل يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال «الحالّ المرتحل». قال: وما الحال المرتحل؟ قال: «الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل». أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند الله آخر آية تقرؤها» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجا ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا» أخرجه أبو

الفصل الثاني في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم ووعيد من أوتي القرآن فنسيه ولم يتعهده

داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب وليس له إسناد صحيح (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» معنى أذن في اللغة استمع ولا نحمله على الإصغاء فإنه يستحيل على الله تعالى بل هو كناية عن تقريبه قارئ القرآن وإجزال ثوابه في ذلك وذلك لأن سماع الله لا يختلف فموجب تأويل الحديث، وقوله يتغنى بالقرآن أي يحسن صوته به ويكون ذلك مع تحزين وترقيق في القراءة، وقيل معناه يستغنى به عن الناس، والقول الأول أولى ويدل عليه سياق الحديث وهو قوله يجهر به (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». الفصل الثاني في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم ووعيد من أوتي القرآن فنسيه ولم يتعهده: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: من قال في القرآن برأيه أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن (قوله فليتبوأ) معناه فليتخذ له مباءة أي منزلا من النار. عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في كتاب الله عزّ وجلّ برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث غريب وسأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم. قال العلماء: النهي عن القول في القرآن: الرأي إنما ورد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه وما هو تابع لهواه وهذا لا يخلو إما أن يكون عن علم أو لا، فإن كان عن علم كمن يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أن المراد من الآية غير ذلك لكن غرضه أن يلبس على خصمه بما يقوي حجته على بدعته كما يستعمله الباطنية والخوارج وغيرهم من أهل البدع في المقاصد الفاسدة ليغروا بذلك الناس، وإن كان القول في القرآن بغير علم لكن عن جهل وذلك بأن تكون الآية محتملة لوجوه فيفسرها بغير ما تحتمله من المعاني والوجوه. فهذان القسمان مذمومان وكلاهما داخل في النهي والوعيد الوارد في ذلك فأما التأويل وهو صرف الآية على طريق الاستنباط إلي معنى يليق بها محتمل لما قبلها وما بعدها وغير مخالف للكتاب والسنة فقد رخص فيه أهل العلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن على قدر ما فهموا من القرآن تكلموا في معانيه وقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» فكان أكثر ما نقل عنه التفسير (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة إن تعاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت الإبل المعلقة التي حبست بالعقال» وهذا مثل ضربه لصاحب القرآن ففيه الحث على تعاهده بكثرة التلاوة والتكرار لئلا ينسى (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي استذكروا القرآن فإنه أشد تفصّيا من صدور الرجال من النعم من عقلها» وفي رواية لا يقل أحدكم نسيت آية كذا وكذا بل هو نسي. (قوله بئسما لأحدكم): أي بئست الحالة حالة من حفظ القرآن ثم غفل عنه حتى نسيه (قوله لا يقل أحدكم نسيت آية كذا وكذا) معناه إنما كره نسبة النسيان إلى النفس لأجل أن الله تعالى هو المقدر للأشياء كلها وهو الذي أنساه وإياه. وقيل أصل النسيان الترك فكره أن يقول تركت القرآن أو قصدت إلى نسيانه، وقوله: بل نسي هو بضم النون وتشديد السين وفتح الياء أي عوقب بالنسيان على ذنب صدر منه أو لسوء تعهده القرآن وقوله أشد

الفصل الثالث في جمع القرآن وترتيب نزوله وفي كونه نزل على سبعة أحرف

تفصيا أي خروجا من صدور الرجال وفي معناه تفلتا من الإبل في عقلها أي تخلصا من العقال وهو الحبل الذي تربط به، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلّا لقي الله يوم القيامة أجذم». أخرجه أبو داود الأجذم. قيل هو مقطوع اليد، وقيل هو مقطوع الحجة وقيل هو الذي به جذام. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث غريب (ق) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن ينال بسوء». أراد بالقرآن المصحف فلا يجوز حمله إلى أرض العدو وهي بلاد الكفار للنهي الوارد فيه ولو كتب كتابا إليهم فيه آية من القرآن فلا بأس بذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى هرقل ملك الروم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ. عن عمران بن حصين أنه مر على رجل يقرأ ثم سأل فاسترجع ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس» أخرجه الترمذي عن صهيب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» أخرجه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوي. عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. الفصل الثالث في جمع القرآن وترتيب نزوله وفي كونه نزل على سبعة أحرف: (خ) عن زيد بن ثابت قال: بعث إليّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر جاءني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في كل المواطن فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: فقال لي أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتتبع القرآن فاجمعه قال زيد: فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، فقلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر، وفي رواية فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا. قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة أو مع أبي خزيمة الأنصاري، فلم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر براءة فألحقتها في سورتها. قال: فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. قال بعض الرواة: اللخاف يعني الخزف (خ) عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن

أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف قد كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري من المؤمنين رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فألحقناها في سورتها في المصحف قال في رواية ابن اليمان مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادته رجلين، زاد في رواية قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد التابوه وقال عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص التابوت، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش. (شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما) (قوله بعث إلى أبو بكر لمقتل أهل اليمامة) أي لأوان قتلهم وأراد به الوقعة التي كانت باليمامة في زمن أبي بكر الصديق. وهي وقعة الردة مع أصحاب الردة فقتل فيها خلق كثير من قراء القرآن. واليمامة مدينة باليمن على يومين من الطائف وعلى أربعة أيام من مكة، ولها عمائر وهي في عداد أرض نجد (قوله استحرّ القتل) أي كثر، وينسب المكروه إلى الحر والمحبوب إلى البرد. وشرح الصدر سعته وقبوله الخير (قوله فتتبعت القرآن جمعه من الرقاع) جمع رقعة، وهي ما يكتب فيها، والعسب بضم العين والسين المهملتين جمع عسيب وهو جريد النخل وسعفه، واللخاف حجارة بيض رقاق واحدته لخفة. (قوله يغازي أهل الشام) أي مع أهل الشام في فتح إرمينية بكسر الهمزة وتخفيف الياء لا غير، سميت بارمين بن لمطي بن لومن بن يافث بن نوح وهو أول ما نزل بها سميت باسمه وآذربيجان بفتح الهمزة وسكون الذال وغير ذلك في ضبطها. وقال ابن جني فيها خمسة موانع من الصرف: التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون، وهو موضع من بلاد العجم يشتمل على بلاد كثيرة. (قوله حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة) أو مع أبي خزيمة الأنصاري. وفي الحديث الآخر فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية فاعلم أن المذكور في الحديث الأول غير المذكور في الحديث الثاني وهما قضيتان، فأما المذكور في الحديث الأول فهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن عمر بن مالك بن النجار الأنصاري، شهد بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عثمان، وهو الذي وجدت عنده آخر سورة التوبة، كذا ذكره ابن عبد البر. وأما المذكور في الحديث الثاني فهو أبو عمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الخطمي الأوسي الأنصاري يعرف بذي الشهادتين شهد بدرا، وما بعدها وقتل يوم صفين مع علي بن أبي طالب. (قوله فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله فوجدنا مع خزيمة) معناه أنه كان يطلب نسخ القرآن من الأصل الذي كتب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين يديه فلم يجد تلك الآية إلّا مع خزيمة، وليس فيه إثبات القرآن بقول الواحد لأن زيدا كان قد سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلم موضعها من سورة الأحزاب بتعليم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به الحديث قد كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها وتتبعه الرجال كان للاستظهار لا لاستحداث علم لأن القرآن العظيم كان محفوظا عند زيد وغيره من الصحابة فقد ثبت في الصحيح عن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة كلهم من الأنصار أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد يعني ابن ثابت قلت لأنس

من أبو زيد؟ قال أحد عمومتي أخرجاه في الصحيحين اسم أبي زيد سعد بن عبيد. وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة قال: حديث حسن صحيح وتقدم حديث زيد بن ثابت وفيه أنه استحرّ القتل بقراء القرآن، فثبت بمجموع هذه الأحاديث أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما ترك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعضه ويرفع الشيء بعد الشيء من التلاوة كما كان ينسخ بعض أحكامه فلم يجمع في مصحف واحد ثم لو رفع بعض تلاوته أدى ذلك إلى الاختلاف واختلاط أمر الدين، فحفظ الله كتابه في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وثبت بالدليل الصحيح أن الصحابة إنما جمعوا القرآن بين الدفين كما أنزله الله عزّ وجلّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير أن زادوا فيه أو نقصوا منه شيئا. والذي حملهم على جمعه ما جاء مبينا في الحديث وهو أنه كان مفرقا في العسب واللخاف وصدور الرجال فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا إلى خليفة رسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر فدعوا إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوا كما سمعوه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير أن قدموا أو أخروا شيئا ووضعوا له ترتيبا لم يأخذوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية، تكتب عقب آية كذا في سورة كذا، فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على النحو الذي هو في مصاحفنا الآن، وقد صح في حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل عام مرة في رمضان، وأنه عرضه في العام الذي توفي فيه مرتين. ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السلام، وهي العرضة التي نسخ فيها ما نسخ وبقي فيها ما بقي. ولهذا أقام أبو بكر زيد بن ثابت في كتابة المصحف، وألزمه بها لأنه قرأ على النبي صلّى الله عليه وسلّم في العام الذي توفي فيه مرتين فكان جمع القرآن سببا لبقائه في الأمة رحمة من الله تعالى لعباده وتحقيقا لوعده في حفظه على ما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ واعلم أن الله تعالى أنزل القرآن المجيد من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر، ثم كان ينزله مفرقا على لسان جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة رسالته نحو ما عند الحاجة وحدوث ما يحدث على ما شاء الله تعالى وترتيب نزول القرآن غير ترتيبه في التلاوة والمصحف، فأما ترتيب نزوله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأول ما نزل من القرآن بمكة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. ثم ن وَالْقَلَمِ ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. ثم المدثر. ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. ثم وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ثم وَالْفَجْرِ. ثم وَالضُّحى. ثم أَلَمْ نَشْرَحْ ثم وَالْعَصْرِ ثم وَالْعادِياتِ ثم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ثم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ثم أَرَأَيْتَ الَّذِي ثم قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. ثم الْفِيلِ. ثم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ثم وَالنَّجْمِ. ثم عَبَسَ. ثم سورة القدر. ثم سورة البروج. ثم التين. ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. ثم الْقارِعَةُ. ثم القيامة. ثم الهمزة. ثم المرسلات. ثم ق. ثم سورة البلد. ثم الطَّارِقِ ثم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ثم ص. ثم الأعراف. ثم الجن. ثم يس. ثم الفرقان. ثم فاطر. ثم مريم. ثم طه. الواقعة. ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص. ثم سورة بني إسرائيل. ثم يونس. ثم هود ثم يوسف. ثم الحجر. ثم الأنعام. ثم والصافات. ثم لقمان. ثم سبأ. ثم الزمر. ثم المؤمن. ثم السجدة. ثم حم عسق. ثم الزخرف. ثم الدخان. ثم الجاثية. ثم الأحقاف. ثم الذاريات. ثم الغاشية. ثم الكهف. ثم النحل. ثم نوح. ثم إبراهيم. ثم الأنبياء. ثم قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. ثم تنزيل السجدة ثم الطور ثم الملك. ثم الحاقة. ثم سَأَلَ سائِلٌ. ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ ثم النازعات. ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ

فصل في كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل في ذلك

ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. ثم الروم. ثم العنكبوت، واختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس العنكبوت وقال الضحاك وعطاء المؤمنين، وقال مجاهد: ويل للمطففين، فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة فذلك ثلاث وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات. وأمّا ما نزل بالمدينة فإحدى وثلاثون سورة، فأول ما نزل بها سورة البقرة. ثم الأنفال. ثم آل عمران. ثم الأحزاب. ثم الممتحنة. ثم النساء. ثم إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ. ثم الحديد. ثم سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم الرعد. ثم سورة الرحمن. ثم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ. ثم الطلاق. ثم لَمْ يَكُنِ ثم الحشر. ثم الفلق. ثم الناس. ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ثم النور. ثم الحج. ثم إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ثم المجادلة. ثم الحجرات. ثم التحريم. ثم الصف. ثم الجمعة. ثم التغابن. ثم الفتح. ثم التوبة. ثم المائدة. ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة واختلفوا في الشورى فقيل نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة، وسنذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. فصل في كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل في ذلك: (ق) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكدت أساوره في الصلاة فتربصت حتى سلم فلببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: كذبت فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسله، اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعه يقرؤها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت» ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ يا عمر» فقرأت بقراءتي التي أقرأني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه». (قوله فكدت أساوره في الصلاة) أي أو أثبه وأقاتله وهو في الصلاة والتربص التثبت. (قوله فلببته بردائه) هو بتشديد الباء الأولى ومعناه أخذت بمجامع ردائه في عنقه وجذبته به مأخوذ من اللبة وفيه بيان ما كانوا عليه من الاعتناء بالقرآن والذب عنه والمحافظة على لفظه كما سمعوه من غير عدول إلى ما تجوزه العربية، وأما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمر بإرساله فلأنه لم يثبت عنده ما يقتضي تعزيره، ولأن عمر إنما نسبة إلى مخالفته في القراءة والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم من جواز القراءة ووجوهها ما لا يعلمه عمر، ولأنه إذا قرأ وهو ملبب لا يتمكن من حضور القلب وتحقيق القراءة تمكن المطلق. (قوله إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) قال العلماء: سبب إنزاله على سبعة أحرف التخفيف والتسهيل، واختلفوا في المراد بسبعة أحرف فقيل: هو توسعه وتسهيل ولم يقصد به الحصر وقال الأكثرون: هو حصر العدد في سبعة أحرف ثم قيل هي في سبع من المعاني كالوعد والوعيد والمحكم والمتشابه والحلال والحرام والقصص والأمثال والأمر والنهي، وقيل: هي في صورة التلاوة وكيفية النطق بكلمات القرآن من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق ومد وقصر وإمالة لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيسر الله تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه. وقال أبو عبيدة هي سبع لغات من لغات العرب تميمها ومعدها وهي أفصح لغات العرب وأعلاها، وقيل: هي لغة قريش وهوازن وهذيل وأهل اليمن، وقيل: السبعة كلها لمضر وحدها وهي متفرقة في القرآن العزيز غير مجتمعة في كلمة واحدة، وقيل: بل هي مجتمعة في بعض الكلمات كقوله تعالى وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ويَرْتَعْ

وَيَلْعَبْ وباعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وبِعَذابٍ بَئِيسٍ وقيل هي سبع قراءات وهو الصحيح الموافق للحديث لأن هذه السبعة ظهرت واستفاضت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضبطها عنه الصحابة وأثبتها عثمان والجماعة في المصاحف وأخبروا بصحتها وحذفوا منها ما لم يثبت متواترا. وإن هذه الأحرف تختلف معانيها تارة وألفاظها أخرى وليست متضادة ولا متباينة. فأما من قال إن المراد بالأحرف سبعة معان مختلفة كالأحكام والأمثال والقصص فخطأ محض لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف وقد تقرر إجماع المسلمين على أنه يحرم إبدال آية أمثال بآية أحكام، وقول من قال إن المراد خواتيم الآي فيجعل مكان غفور رحيم سميع عليم ففاسد أيضا وخطأ للإجماع على أنه لا يجوز تغيير نظم القرآن والله أعلم (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فزادني فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» معنى الحديث لم أزل أطلب من جبريل أن يطلب من الله عزّ وجلّ الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف ويسأل جبريل ربه عزّ وجلّ فيزيده حتى انتهى إلى السبعة (م) عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ فحسن النبي صلّى الله عليه وسلّم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقا فقال لي: يا أبي أرسل إليّ أن اقرأ على حرف واحد فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فرد إليّ الثانية أن اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فرد إليّ الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلى الناس كلهم حتى إبراهيم. (قوله فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية) معناه وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية لأنه كان في الجاهلية غافلا ومشككا فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. وقيل: معناه أنه اعترته حيرة ودهشة ونزغ الشيطان في قلبه تكذيبا لم يعتقده وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها الإنسان لا يؤاخذ بها. (قوله ضرب في صدري ففضت عرقا) قال القاضي عياض: ضربه صلّى الله عليه وسلّم في صدره تثبيتا له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم. (قوله وكأنما انظر إلى الله تعالى فرقا) الفرق بالتحريك الخوف والخشية والمعنى أنه غشيه من الهيبة والخوف والعظمة حين ضربه ما أزال عنه ذلك الخاطر. (قوله ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها) معناه مسألة مجابة قطعا وأما باقي الدعوات فمرجوة الإجابة وليست قطعية الإجابة والله أعلم. روى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف لكل آية منه ويروي لكل حرف منه ظهر وبطن ولكل حد مطلع» قيل في معناه الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله. وقيل في معناه الظهر ما حدث عن أقوام أنهم عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وفي الباطن عظة. وقيل الظهر التلاوة باللسان كما أنزل، والبطن التدبر والتفهم والتفكر بالقلب فالتلاوة باللسان كما تكون بالتعليم والتلقين والتدبر والتفهم تكون بصدق النية وتعظيم الحرمة وإخلاص العمل وطيب المطعم من الحلال المحض. (قوله ولكل حد مطلع) معناه، مصعد يصعد إليه من معرفة علمه. وقيل المطلع الفهم وقد يفتح الله تعالى

فصل في معنى التفسير والتأويل

على المتدبر والمتفكر في القرآن العزيز من التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره «وفوق كل ذي علم عليم» والله أعلم. فصل في معنى التفسير والتأويل: فأما التفسير فأصله في اللغة من الفسر، وهو كشف ما غطى، وهو بيان المعاني المعقولة فكل ما يعرف به الشيء ومعناه فهو تفسير. وقد يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ وغريبها تفسير. وقيل هو من التفسرة وهو الدليل الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن معنى الآية وشأنها وقصتها. وأما التأويل فاشتقاقه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل يقال أولته فأول أي صرفته فانصرف، وهو رد الشيء إلى الغاية والمراد منه بيان غايته المقصودة منه فالتأويل بيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية. والفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير يتوقف على النقل المسموع والتأويل يتوقف على الفهم الصحيح والله أعلم. (القول في الاستعاذة) ولفظها المختار أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لموافقة قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ومعنى أعوذ بالله ألتجئ إليه وأمتنع به مما أخشاه من عاذ يعوذ، والشيطان أصله من شطن أي تباعد من الرحمة وقيل من شاط يشيط إذا هلك واحترق غضبا والشيطان اسم لكل عارم عات من الجن والإنس وشيطان الجن مخلوق من قوة النار فلذلك فيه القوة الغضبية الرجيم فعيل بمعنى فاعل أي يرجم بالوسوسة والشر وقيل بمعنى مفعول أي مرجوم بالشهب عند استراق السمع، وقيل مرجوم بالعذاب وقيل مرجوم بمعنى مطرود عن الرحمة وعن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى. وأما حكم الاستعاذة ففيه مسائل. المسألة الأولى: اتفق الجمهور على أن الاستعاذة سنة في الصلاة فلو تركها لم تبطل صلاته سواء تركها عمدا أو سهوا، ويستحب لقارئ القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. وحكي عن عطاء وجوبها سواء كانت في الصلاة أو غيرها. وقال ابن سيرين إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب، دليل الوجوب ظاهر قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ والأمر للوجوب، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم واظب على التعوذ فيكون واجبا، ودليل الجمهور أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة وتأخير البيان عن وقته غير جائز. وأجيب عن قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بأن معناه عند جماهير العلماء إذا أردت القراءة فاستعذ كقوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا» معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وأجيب عن مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه صلّى الله عليه وسلّم واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست بواجبة كتكبيرات الانتقالات والتسبيحات في الصلاة فكان التعوذ مثلها. المسألة الثانية: وقت الاستعاذة قبل القراءة عند الجمهور سواء كان في الصلاة أو خارجها، وحكي عن النخعي أنه بعد القراءة، وهو قول داود وإحدى الروايتين عن ابن سيرين حجة الجمهور ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» أخرجه الترمذي وقال هذا الحديث أشهر حديث في الباب وقد تكلم في بعض رجاله وقال أحمد لا يصح ولأبي داود والنسائي عن أبي سعيد نحوه. وعن جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثه وهمزه، قال نفخه الكبر ونفثه الشعر وهمزه الموتة» أخرجه أبو داود وقيل الموتة الجنون لأن من جن فقد مات عقله. وقيل همزه هو الذي يوسوسه في الصلاة ونفخه هو الذي يلقيه من

الشبه في الصلاة ليقطع عليه صلاته.، واحتج مخالف الجمهور بظاهر قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وأجيب عنه بما تقدم. وقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام رمضان بعد القراءة. لنا ما تقدم من الأدلة. المسألة الثالثة: المختار من لفظ الاستعاذة عند الشافعي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وبه قال أبو حنيفة لموافقة قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ولحديث جبير بن مطعم. وقال أحمد الأولى أن يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولحديث أبي سعيد. وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل شيء يشغله عن الله تعالى. ومن لطائف الاستعاذة أن قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إقرار من العبد بالعجز والضعف واعتراف من العبد بقدرة البارئ عزّ وجلّ وأنه هو الغني القادر على دفع جميع المضرات والآفات واعتراف من العبد أيضا بأن الشيطان عدو مبين، ففي الاستعاذة التجاء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغوي الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا الله تعالى والله أعلم.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة [سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) وهي سبع آيات بالاتفاق وسبع وعشرون كلمة ومائة وأربعون حرفا. واختلف العلماء في نزولها فقيل نزلت بمكة وهو قول أكثر العلماء. وقيل نزلت بالمدينة وهو قول مجاهد. وقيل نزلت مرتين بمكة ومرة بالمدينة وسبب ذلك التنبيه على شرفها وفضلها ولها عدة أسماء وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وفضله. (فأول ذلك فاتحة الكتاب) سميت بذلك لأن بها افتتح القرآن، وبها تفتتح كتابة المصاحف، وبها تفتتح الصلاة. (الثاني سورة الحمد) سميت بذلك لافتتاحها بالحمد لله (الثالث أم القرآن) وأم الكتاب، سميت بذلك لأنها أصل القرآن وأم كل شيء أصله، وقيل هي إمام لما يتلوها من السور. (الرابع السبع المثاني) سميت بذلك لأنها تثنى في الصلاة ويقرأ بها في كل ركعة، وقيل لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة وادخرها لهم لم ينزلها على غيرهم وقيل لأنها أنزلت مرتين (الخامس الوافية) سميت بذلك لأنها لا تقسم في القراءة في الصلاة كما يقسم غيرها من السور (السادس الكافية) سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها في الصلاة ولا يكفي عنها غيرها. (فصل: في ذكر فضلها) (خ) عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت يا رسول إلي إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له يا رسول ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ورواه مالك في الموطأ عنه وقال فيه إن النبي صلّى الله عليه وسلّم نادى أبي بن كعب وهو يصلي وذكر نحوه وفيه حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها ورواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أبيّ وهو يصلي وذكر نحو رواية الموطأ وقال فيه حديث حسن صحيح عن أبيّ بن كعب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهو مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (م) عن ابن عباس قال: بينا جبريل قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيصا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح

اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته (قوله سمع نقيضا) هو بالقاف والضاد المعجمة أي صوتا كصوت فتح الباب (م) عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام» قال فقلت يا أبا هريرة إنا أحيانا نكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدني وربما قال فوض إليّ عبدي، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». (قوله: فهي خداج) أي ناقصة (قوله: فغمز ذراعي) أي كبس ساعدي بيده. (قوله قسمت الصلاة) أراد بالصلاة هنا القراءة لأنه فسرها بها ولأن القراءة ركن من أركانها وجزء من أجزائها. (قوله: نصفين) حقيقة هذه القسمة التي جعلها بينه وبين عبده راجعة إلى المعنى لا إلى اللفظ لأن هذه السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء وقسم الثناء انتهى عند قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ من قسم الدعاء ولهذا قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. (قوله: حمدني عبدي ومجدني) أي أثنى علي لأن الحمد هو الثناء بجميل الفعال والتمجيد الثناء بصفات الجلال وقيل التحميد والتمجيد التعظيم (قوله: وربما قال فوض إلي عبدي) وجه مطابقة هذا لقوله مالك يوم الدين يقال فلان فوض أمره إلى فلان إذا رده إليه وعول فيه عليه وفي الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة وأنها متعينة وهو مذهب الشافعي وجماعة وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى بعد ذكر تفسير الفاتحة، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الباء في بسم الله حرف خافض يخفض ما بعده مثل من وعن والمتعلق به مضمر محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: أبدأ بسم الله أو باسم الله أبدأ أو أقرأ، وإنما طولت الباء في بسم الله وأسقطت الألف طلبا للخفة، وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طولها على الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة وأثبتت الألف في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لقلة استعماله وقيل إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب الله بحرف معظم وقيل الباء حرف منخفض الصورة فلما اتصل باسم الله ارتفع واستعلى وقيل إن عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتابه طولوا الباء من بسم الله وأظهروا السين ودوروا الميم تعظيما لكتاب الله عز وجل. والاسم هو المسمى عينه وذاته قال الله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ثم نادى الاسم فقال يا يحيى وقال سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وتَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ وهذا القول ليس بقوي، والصحيح المختار أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، فالاسم ما تعرف به ذات الشيء، وذلك لأن الاسم هو الأصوات المقطعة والحروف المؤلفة الدالة على ذات ذلك الشيء المسمى به، فثبت بهذا أن الاسم غير المسمى وأيضا قد تكون الأسماء كثيرة والمسمى واحد كقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وقد يكون الاسم واحدا والمسميات به كثيرة كالأسماء المشتركة وذلك يوجب المغايرة وأيضا فقوله: فَادْعُوهُ بِها أمر أن يدعي الله تعالى بأسمائه فالاسم آلة الدعاء والمدعو هو الله تعالى فالمغايرة حاصلة بين ذات المدعو وبين اللفظ المدعو به. وأجيب عن قوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى بأن المراد ذات الشخص المعبر عنه بيحيى لا نفس الاسم. وأجيب عن قوله تعالى سبح اسم ربك وتبارك اسم ربك بأن معنى هذه الألفاظ يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى

نفسه محال وقيل كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه وكون الاسم غير التسمية هو أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء، والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. واختلفوا في اشتقاق الاسم فقال البصريون من السمو وهو العلو، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به وعلا عليه، فكأنه علا على معناه وصار علما له. وقال الكوفيون من السمة وهي العلامة فكأنه علامة لمسماه، وحجة البصريين لو كان الاسم اشتقاقه من السمة لكان تصغيره وسيم وجمعه أوسام وأجمعوا على أن تصغيره سمي وجمعه أسماء وأسام (الله) هو اسم علم خاص لله تعالى تفرد به الباري سبحانه وتعالى ليس بمشتق ولا يشركه فيه أحد وهو الصحيح المختار دليله قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا يعني لا يقال لغيره الله، وقيل هو مشتق من أله يأله إلاهة مثل عبد الرجل يعبد عبادة دليله «ويذرك وآلهتك» أي وعبادتك ومعناه المستحق للعبادة دون غيره. وقيل: من الوله وهو الفزع لأن الخلق يولهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم، قال بعضهم: ولهت إليكم في بلايا تنوبني ... فألفتكم فيها كرائم محتد وقيل أصله أله، يقال: ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، وقيل أصله ولاه فأبدلت الواو همزة سمي بذلك لأن كل مخلوق وإله نحوه إما بالتخير أو بالإرادة ومن هذا قيل الله محبوب كل الأشياء يدل عليه، «وإن من شيء إلا يسبح بحمده» ومن خصائص هذا الاسم أنك إذا حذفت منه شيئا بقي الباقي يدل عليه فإن حذفت الألف بقي الله، وإن حذفت اللام وأثبت الألف بقي إله، وإن حذفتهما بقي له وإن حذفت الألف واللامين معا بقي هو والواو عوض عن الضمة. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم لأنه يدل على الذات وباقي الأسماء تدل على الصفات (الرحمن الرحيم) قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، قيل: هما بمعنى مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة وإنما جمع بينهما للتأكيد، وقيل: ذكر أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين إليه، وقيل الرحمن فيه معنى العموم والرحيم فيه معنى الخصوص فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق المؤمن والكافر والرحيم بمعنى الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة فهو على الخصوص، ولذلك قيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ورحمة الله إرادة الخير والإحسان لأهله، وقيل هي ترك عقوبة من يستحق العقاب وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحق فهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، وقيل الرحمن بكشف الكروب والرحيم بغفر الذنوب، وقيل: الرحمن بتبيين الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق. (فصل: في حكم البسملة) وفيه مسألتان: (الأولى) في كون البسملة الفاتحة وغيرها من السور سوى سورة براءة. اختلف العلماء في ذلك، فذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ذكرت في أولها سوى سورة براءة، وهو قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعطاء وابن المبارك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وإسحاق، ونقل البيهقي هذا القول عن علي بن أبي طالب والزهري والثوري ومحمد بن كعب. وذهب الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن البسملة ليست بآية من الفاتحة، زاد أبو داود ولا من غيرها من السور، وإنما هي بعض آية في سورة النمل، وإنما كتبت للفصل والتبرك قال مالك ولا يستفتح بها في الصلاة المفروضة، وللشافعي قول إنها ليست من أوائل السور مع القطع بأنها من الفاتحة. فأما حجة من منع كون البسملة آية من الفاتحة ومن غيرها فحديث أنس المشهور المخرج في الصحيحين وحديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين» قالوا ولأن أول ما نزل به جبريل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ولم يذكر البسملة في أولها فدلّ على أنها ليست منها قالوا ولأن محل القرآن لا يثبت إلا بالتواتر

والاستفاضة ولأن الصحابة أجمعوا على عدد كثير من السور منها سورة الملك ثلاثون آية وسورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة منها لكانت خمسا. وأما حجة من ذهب إلى إثباتها في أوائل السور من جهة النقل فقد صح عن أم سلمة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية منها» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال هي فاتحة الكتاب قيل فأين السابعة قال بسم الله الرحمن الرحيم أخرجهما ابن خزيمة وغيره، وروى عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يعلم فصل السورة وفي رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرّحمن الرّحيم» أخرجه أبو داود والحاكم أبو عبد الله في مستدركه وقال فيه: إنه صحيح على شرط الشيخين. وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ تم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها» قال الدارقطني في رجال إسناده كلهم ثقات وروى موقوفا، وروى الدارقطني عن أم سلمة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية وعدّها عد الأعراب، وعدّ بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم» وأخرج مسلم في أفراده عن أنس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا إذ غفا غفوة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الحديث. قال البيهقي: أحسن ما احتج به أصحابنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن وأنها من فواتح السور سوى سورة براءة ما رويناه في جمع الصحابة كتاب الله عز وجل في المصاحف وأنهم كتبوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم على رأس كل سورة سوى سورة براءة فكيف يتوهم متوهم أنهم كتبوا فيها مائة وثلاثة عشر آية ليست في القرآن، قال وقد علمنا بالروايات الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأمّ القرآن والسورة التي بعدها زاد غيره عنه إنه كان يقول لما كتبت في المصحف لم لم تقرأ وروى الشافعي عن ابن عباس أنه كان يفعله ويقول انتزع الشيطان منهم خير آية في القرآن. وفي أفراد البخاري من حديث أنس «أنه سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال كانت مدّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم» فقد ثبت بهذه الأدلة الصحيحة الواضحة أن البسملة من الفاتحة من كل موضع ذكرت فيه وأيضا فأجمع الصحابة على إثباتها في المصاحف، وأنهم طلبوا بكتابة المصاحف تجريد كلام الله عز وجل المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم قرآنا وتدوينه مخافة من أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، ولهذا لم يكتبوا فيه لفظة آمين، وإن كان قد ورد أنه كان يقولها بعد الفاتحة فلو لم تكن البسملة من القرآن في أوائل السور لما كتبوها وكان حكمها حكم آمين. (المسألة الثانية في حكم الجهر بالبسملة والإسرار) إذا ثبت بما تقدم من الأدلة أن البسملة آية من الفاتحة ومن غيرها من السور حيث كتبت كان حكمها في الجهر والإسرار حكم الفاتحة فيجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية ويسر بها مع الفاتحة في الصلاة السرية وممن قال بالجهر بالبسملة من الصحابة أبو هريرة وابن عباس وابن عمر وابن الزبير. ومن التابعين فمن بعدهم سعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وعكرمة وعطاء وطاوس ومجاهد وعلي بن الحسين وسالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي وابن سيرين وابن المنكدر ونافع مولى ابن عمر ويزيد بن أسلم وعمر ومكحول وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن دينار ومسلم بن خالد وإليه ذهب الشافعي وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك ويحكى أيضا عن ابن المبارك وأبي ثور. وممن ذهب إلى الإسرار بها من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن مغفل وغيرهم. ومن التابعين فمن بعدهم الحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة والأعمش والثوري وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. أما حجة من قال بالجهر فقد روى جماعة من

الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب وأم سلمة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جهر بالبسملة فمنهم من صرح بذلك ومنهم من فهم ذلك من عبارته ولم يرد في صريح الإسرار بها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا روايتان إحداهما ضعيفة وهي رواية عبد الله بن مغفل والأخرى عن أنس وهي في الصحيح وهي معللة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها، وروى نعيم بن عبد الله المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم ثم قرأ بأم القرآن وذكر الحديث وفيه ثم يقول إذا سلم إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وقال أما الجهر ببسم الله الرّحمن الرحيم فقد ثبت وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وروى الدارقطني بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم» وذكر الحديث قال الدارقطني إسناده كلهم ثقات وعن ابن عباس قال كان النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» أخرجه الدارقطني وقال ليس في روايته مجروح وأخرجه الحاكم أبو عبد الله وقال إسناده صحيح وليس له علة وفي رواية عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم» أخرجه الدارقطني وقال صحيح ليس في إسناده مجروح وأخرجه الترمذي وقال ليس إسناده بذلك قال الشيخ أبو شامة أي لا يماثل إسناده ما في الصحيح ولكن إذا انضم إلى ما تقدم من الأدلة رجح على ما في الصحيح وعن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم» أخرجه الدارقطني وقال إسناده صحيح وفيه عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصى صلاة الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما ألوي أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك: وقال أنس بن مالك ما ألوي أن أقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه الدارقطني وقال: كلهم ثقات. وأخرجه الحاكم أبو عبد الله وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم كلهم ثقات. قلت وفي الباب أحاديث وأدلة وإيرادات وأجوبة من الجانبين يطول ذكرها وفي هذا القدر كفاية وبالله التوفيق. قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ لفظه خبر كأنه سبحانه وتعالى يخبر أن المستحق للحمد هو الله تعالى، ومعناه الأمر أي قولوا الحمد لله وفيه تعليم الخلق كيف يحمدونه والحمد والمدح أخوان، وقيل بينهما فرق وهو أن المدح قد يكون قبل الإحسان وبعده والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان، وقيل إن المدح قد يكون منهيا عنه، وأما الحمد فمأمور به، والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ويكون بمعنى الثناء بجميل الأفعال، تقول: حمدت الرجل على علمه وكرمه والشكر لا يكون إلا على النعمة، فالحمد أعم من الشكر، إذ لا تقول شكرت فلانا على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامدا، وقيل: الحمد باللسان قولا، والشكر بالأركان فعلا، والحمد ضد الذم واللام في لله لام الاستحقاق كقولك الدار لزيد يعني أنه المستحق للحمد لأنه المحسن المتفضل على كافة الخلق على الإطلاق رَبِّ الْعالَمِينَ الرب بمعنى المالك كما يقال رب الدار ورب الشيء أي مالكه ويكون بمعنى التربية والإصلاح، يقال: رب فلان الضيعة يربها إذا أصلحها فالله تعالى، مالك العالمين ومربيهم ومصلحهم، ولا يقال الرب للمخلوق معرفا بل يقال رب الشيء مضافا. والعالمين جمع عالم لا واحد له من لفظه، وهو اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه جميع الخلق. وقال ابن عباس: هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب وقيل العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والجن والإنس ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل. واختلف في مبلغ عددهم فقيل لله ألف عالم ستمائة عالم في البحر وأربعمائة في البر. وقيل ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البر ومثلهم في البحر. وقيل ثمانية عشر ألف عالم الدنيا منها عالم واحد وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. الفسطاط الخيمة واشتقاق العالم من العلم وقيل من العلامة، وإنما سمي بذلك لأنه دال على الخالق سبحانه وتعالى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فالرحمن هو المنعم بما لا يتصور صدور تلك النعمة من العباد، والرحيم هو المنعم بما يتصور صدور تلك النعمة من العباد فلا يقال لغير الله رحمن، ويقال لغيره من العباد رحيم. فإن قلت قد سمي

مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة وهو قول شاعرهم فيه: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا. قلت هو من باب تعنتهم في كفرهم ومبالغتهم في مدح صاحبهم فلا يلتفت إلى قولهم هذا. فإن قلت: قد ذكر الرحمن الرحيم في البسملة فما فائدة تكريره هنا مرة ثانية. قلت: ليعلم أن العناية بالرحمة أكثرها من غيرها من الأمور وأن الحاجة إليها أكثر فنبه سبحانه وتعالى بتكرير ذكر الرحمة على كثرتها وأنه هو المتفضل بها على خلقه. قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني أنه تعالى صاحب ذلك اليوم الذي يكون فيه الجزاء. والمالك هو المتصرف بالأمر والنهي، وقيل: هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى. وقيل: مالك أوسع من ملك لأنه يقال مالك العبد والدابة ولا يقال ملك هذه الأشياء ولأنه لا يكون ملكا لشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون مالكا لشيء ولا يملكه وقيل ملك أولى، لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا وقيل هما بمعنى واحد مثل فرهين وفارهين، قال ابن عباس: مالك يوم الدين قاضي يوم الحساب. وقيل الدين الجزاء ويقع على الخير والشر يقال كما تدين تدان وقيل هو يوم لا ينفع فيه إلا الدين وقيل الدين القهر. يقال: دنته فدان أي قهرته فذل. فإن قلت: لم خص يوم الدين بالذكر مع كونه مالكا للأيام كلها؟ قلت: لأن ملك الأملاك يومئذ زائل فلا ملك ولا أمر يومئذ إلا لله تعالى كما قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وقال: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقد يسمى في دار الدنيا آحاد الناس بالملك وذلك على المجاز لا على الحقيقة. قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ رجع من الخبر إلى الخطاب، وفائدة ذلك من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى. ومن قوله: إياك نعبد دعاء والخطاب في الدعاء أولى. وقيل فيه ضمير أي قولوا: إياك نعبد والمعنى إياك نخص بالعبادة ونوحدك ونطيعك خاضعين لك. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده. وقيل: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤدي به الفرض لتعظيم الله تعالى، فقول العبد إياك نعبد معناه لا أعبد أحدا سواك، والعبادة غاية التذلل من العبد ونهاية التعظيم للرب سبحانه وتعالى لأنه العظيم المستحق للعبادة ولا تستعمل العبادة إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولى أعظم النعم وهي إيجاد العبد من العدم إلى الوجود ثم هداه إلى دينه فكان العبد حقيقا بالخضوع والتذلل به وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي منك نطلب المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا. فإن قلت: الاستعانة على العمل إنما تكون قبل الشروع فيه فلم أخر الاستعانة على العبادة وما الحكمة فيه؟. قلت ذكروا فيه وجوها أحدها أن هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ونحن بحمد الله نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل فلا فرق بين التقديم والتأخير. الثاني أن الاستعانة نوع تعبد فكأنه ذكر جملة العبادة أولا ثم ذكر ما هو من تفاصيلها ثانيا. الثالث كأن العبد يقول شرعت في العبادة فإني أستعين بك على إتمامها فلا يمنعني من إتمامها مانع. الرابع إن العبد إذا قال إياك نعبد حصل له الفخر وذلك منزلة عظيمة فيحصل بسبب ذلك العجب فأردف ذلك بقوله وإياك نستعين ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي أرشدنا، وقيل ثبتنا، وهو كما تقول للقائم قم حتى أعود إليك ومعناه دم على ما أنت عليه وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية يعني سؤال التثبيت وطلب مزيد الهداية لأن الألطاف والهدايات من الله لا تتناهى وهذا مذهب أهل السنّة والصراط الطريق، قال جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم أي على طريقة حسنة، قال ابن عباس: هو دين الإسلام، وقيل هو القرآن وروى ذلك مرفوعا. وقيل السنّة والجماعة وقيل معناه اهدنا صراط المستحقين للجنة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هذا بدل من الأول، أي الذين مننت عليهم بالهداية والتوفيق، وهم الأنبياء والمؤمنين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى الذين لم يغيّروا ولم يبدلوا وقيل هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعني غير صراط الذين غضبت

عليهم. والغضب في الأصل هو ثوران دم القلب لإرادة الانتقام ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وإذا وصف الله به فالمراد منه الانتقام فقط دون غيره وهو انتقامه من العصاة وغضب الله لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين وَلَا الضَّالِّينَ أي وغير الضالين عن الهدى وأصل الضلال الغيبوبة والهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه وهلك وقيل غير المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى. عن عدي بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال» أخرجه الترمذي، وذلك لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وحكم على النصارى بالضلال فقال: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وقيل: غير المغضوب عليهم بالبدعة ولا الضالين عن السنّة والله أعلم. (فصل: في آمين وحكم الفاتحة) وفيه مسألتان: الأولى: السنّة للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول آمين مفصولا عنها بسكتة، وهو مخفف وفيه لغتان المد والقصر قال في المد: ويرحم الله عبدا قال آمينا. وقال في القصر: آمين فزاد الله ما بيننا بعدا. ومعنى آمين اللهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس: معناه كذلك يكون. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقيل هو خاتم الله تعالى على عباده به يدفع عنهم الآثام (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول آمين وفي رواية للبخاري «أن الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه». (قوله: فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة). معناه وافقهم في وقت التأمين فأمن مع تأمينهم، وقيل: وافقهم في الصفة والخشوع والإخلاص والقول الأول هو الصحيح. واختلفوا في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة وقيل غيرهم من الملائكة. (قوله غفر له ما تقدم من ذنبه): يعني تغفر له الذنوب الصغائر دون الكبائر وقول ابن شهاب: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول آمين معناه أن هذه صيغة تأمينه صلّى الله عليه وسلّم. المسألة الثانية في حكم الفاتحة: اختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة فذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى وجوب الفاتحة وأنها متعينة في الصلاة ولا تجزئ إلا بها، واحتجوا بما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» أخرجاه في الصحيحين وبحديث أبي هريرة: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام» الحديث وقد تقدم في فضل سورة الفاتحة وذهب أبو حنيفة إلى أن الفاتحة لا تتعين على المصلي بل الواجب عليه قراءة آية من القرآن طويلة أو ثلاث آيات قصار واحتج بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وبقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأعرابي المسيء صلاته «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» أخرجاه في الصحيحين دليل الجمهور ما تقدم من الأحاديث. فإن قيل المراد من الحديث لا صلاة كاملة قلنا هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث ومما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» أخرجه الدارقطني وقال إسناده صحيح وعنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يخرج فينادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. وأجيب عن حديث الأعرابي بأنه محمول على الفاتحة فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على العاجز عن قراءة الفاتحة، والله أعلم.

سورة البقرة

سورة البقرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) قال ابن عباس: هي أول ما نزل بالمدينة قيل سوى آية وهي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فإنها نزلت يوم النحر بمكة في حجة الوداع وهي مائتان وست وقيل سبع وثمانون آية وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة وخمسة وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف. (فصل: في فضلها) (م) عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» قال معاوية بن سلام بلغني أن البطلة السحرة (قوله اقرءوا الزهراوين) سميتا بذلك لنورهما يقال لكل مستنير زاهر. قوله: كأنهما غمامتان أو غيايتان: قال أهل اللغة الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيرها والمعنى أن ثوابهما يأتي كغمامتين (قوله: فرقان من طير صواف) الفرقان الجماعة من الطير والصواف جمع صافة وهي التي تصف أجنحتها عند الطيران يحاجان. المحاجة المجادلة والمخاصمة وإظهار الحجة والبطلة السحرة كما جاء في الحديث مبينا يقال أبطل إذا جاء بالباطل. وفي الحديث دليل على جواز قول سورة البقرة وسورة آل عمران وكذا باقي السور، وأنه لا كراهة في ذلك وكرهه بعض المتقدمين. وقال: إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا باقي السور والصواب هو الأول وبه قال الجمهور لورود النص به (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» وعنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (بسم الله الرّحمن الرّحيم) قوله عز وجل: الم قيل إن حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر الله في القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وأورد على هذا القول بأنه لا يجوز أن يخاطب الله عباده بما لا يعلمون، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكلف الله عباده بما لا يعقل معناه كرمي الجمار فإنه مما لا يعقل معناه والحكمة فيه هو كمال الانقياد والطاعة

فكذلك هذه الحروف يجب الإيمان بها ولا يلزم البحث عنها. وقال آخرون من أهل العلم: هي معروفة المعاني. ثم اختلفوا فيها فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى فالألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد وقيل الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه، ويؤيد هذا أن العرب تذكر حرفا من كلمة تريد كلها قال الراجز: قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف قولها: قاف أي وقفت فاكتفت بجزء الكلمة عن كلها، والإيجاف الإسراع في السير قال ابن عباس: الم أنا الله أعلم. وقيل: هي أسماء الله مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ألا ترى أنك تقول الر وحم ون فيكون مجموعها الرحمن وكذلك سائرها، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعا وقيل أسماء السور وبه قال جماعة من المحققين وقال ابن عباس: هي أقسام فقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وإنما اقتصر على بعضها وإن كان المراد كلها فهو كما تقول قرأت الحمد لله، وتريد أنك قرأت السورة بكمالها فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف أو هذا الكتاب هو الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وقيل إن الله تعالى لما تحداهم بقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وفي آية بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فعجزوا عنه أنزل هذه الأحرف ومعناه أن القرآن ليس هو إلّا من هذه الأحرف وأنتم قادرون عليها فكان يجب أن تأتوا بمثله فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من عند البشر. وقيل: إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن وأراد الله صلاح بعضهم أنزل هذه الأحرف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد فإذا أصغوا إليه وسمعوه رسخ في قلوبهم، فكان ذلك سببا لإيمانهم، وقيل: إن الله تعالى غير عقول الخلق في ابتداء خطابه ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة خطابه إلّا باعترافهم بالعجز عن معرفة كنه حقيقة خطابه. واعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفا في تسع وعشرين سورة وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون وهي نصف حروف المعجم، وسيأتي الكلام على باقيها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب هو القرآن وقيل فيه إضمار، والمعنى هذا الكتاب الذي وعدتك به وكان الله قد وعد نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك به وقيل إن الله وعد بني إسرائيل أن ينزل كتابا ويرسل رسولا من ولد إسماعيل. فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وبها من اليهود خلق كثير أنزل الله تعالى هذه الآية الم ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب الذي وعدت به على لسان موسى أن أنزله على النبي الذي هو من ولد إسماعيل والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه يجمع الحروف بعضها إلى بعض والكتاب اسم من أسماء القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق، وقيل: هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه. فإن قلت قد ارتاب به قوم فما معنى لا ريب فيه. قلت معناه أنه في نفسه حق وصدق فمن حقق النظر عرف حقيقة ذلك هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى عبارة عن الدلالة وقيل دلالة بلطف وقيل الهداية الإرشاد والمعنى هو هدى للمتقين وقيل هو هاد لا ريب في هدايته والمتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف وقيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور وبعض المباحات قال ابن عباس: المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين، يقال: اتقى بترسه إذا جعله حاجزا بينه وبين ما يقصده وفي الحديث «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجزا بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه حاجزا بينه وبين النار وقيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيرا من أحد. وقيل: التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض. وقيل

التقوى ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة. وقيل: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك وقيل: التقوى الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وفي الحديث «جماع التقوى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية» وقيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز، لأنهم هم المنتفعون بالهداية، ولو لم يكن للمتقين فضل إلّا قوله تعالى هدى للمتقين لكناهم. فإن قلت كيف قال هدى للمتقين والمتقون هم المهتدون. قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب، وأصل الإيمان في اللغة التصديق قال الله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة ونقصانه أخرى. والإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا فإنه يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة وهي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمنا أم لا؟ فيه خلاف، والمختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمنا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقص كان ذلك شكا وكفرا. وقال المحققون من متكلمي أهل السنة: إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه وبين أصله من اللغة. وقال بعض المحققين: إن نفس التصديق قد يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة والبراهين وقلة إمعان النظر في ذلك ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى وأثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم ولا تزلزل، وما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة وقيل إنما سمي الإقرار والعمل إيمانا لوجه المناسبة لأنه من شرائعه، والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة من الشيء وإماطة الأذى عن الطريق وهو عزل الحجر والشوك ونحو ذلك عنه. والحياء بالمد وهو انقباض النفس عن فعل القبيح وإنما جعل من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان، وقيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله. والإسلام هو الانقياد والخضوع فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إن لم يكن معه تصديق وذلك أن الرجل قد يكون مسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن (ق) عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإيمان «قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر» قال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، وخمس لا يعلمهن إلّا الله» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ إلى قوله: عَلِيمٌ خَبِيرٌ قال ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ردوا عليّ هذا الرجل» فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا جبريل جاء ليعلم

[سورة البقرة (2): آية 4]

الناس دينهم» وفي أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو هذا الحديث وبمعناه، وقد تقدم الكلام على معنى الإيمان والإسلام. وبقي أشياء تتعلق بمعنى الحديث، فقوله كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما بارزا أي ظاهرا، وقوله: أن تؤمن بالله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر هو بكسر الخاء. وقيل في الجامع بين قوله وتؤمن بلقاء الله وبالبعث فإن اللقاء يحصل بمجرد الانتقال إلى الدار الآخرة وهو الموت والبعث هو بعده عند قيام الساعة وفي تقييده بالآخر وجه آخر وهو أن خروجه إلى الدنيا بعث من الأرحام وخروجه من القبر إلى الآخرة بعث آخر. قوله ما الإحسان هو هنا الإخلاص في العمل وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام لأن من أتى بلفظ الشهادة وأتى بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسنا، وقيل أراد بالإحسان المراقبة وحسن الطاعة، فإن من راقب الله حسن عمله، وهو المراد بقوله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأشراط الساعة علاماتها التي تظهر قبلها. قوله: إذا ولدت الأمة ربها يعني سيدها والمعنى أن الرجل تكون له الأمة فتلد له ولدا فيكون ذلك الولد ابنها وسيدها، ورعاء البهم بكسر الراء وفتح الباء وإسكان الهاء من البهم وهي الصغار من أولاد الضأن، والمعنى أنه يبسط المال على أهل البادية وأشباههم حتى يتباهون في البناء ويسودون الناس فذلك من أشراط الساعة والله أعلم. قوله تعالى بِالْغَيْبِ، والغيب هنا مصدر وضع موضع الاسم، فقيل: الغائب غيب وهو ما كان مغيبا عن العيون قال ابن عباس: الغيب هنا كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك من الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل: الغيب هنا هو الله تعالى وقيل القرآن وقيل بالآخرة وقيل بالوحي وقيل بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وما سبقونا به فقال عبد الله بن مسعود إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يداومون عليها في مواقيتها بحدودها وإتمام أركانها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وسنتها وآدابها، يقال: قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطى حقوقه، والمراد به الصلوات الخمس. والصلاة في اللغة الدعاء والرحمة ومنه وصل عليهم أي ادع لهم وأصله من صليت العود إذا لينته فكأن المصلي يلين ويخشع. وفي الشرع اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء مع النية وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم من الرزق وهو اسم لما ينتفع به من مال وولد وأصله الحظ والنصيب يُنْفِقُونَ أي يخرجون ويتصدقون في طاعة الله تعالى وسبيله، ويدخل فيه إنفاق الواجب كالزكاة والنذر والإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته عليه والإنفاق في الجهاد إذا وجب عليه والإنفاق في المندوب، وهو صدقه التطوع ومواساة الإخوان، وهذه كلها مما يمدح بها وأدخل من التي هي للتبعيض صيانة لهم وكفا عن السرف والتبذير المنهي عنهما في الإنفاق. [سورة البقرة (2): آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أي يصدقون بالقرآن المنزل عليك وبالكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء كلها فيجب الإيمان بذلك كله وَبِالْآخِرَةِ يعني بالدار الآخرة سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا وكونها بعدها هُمْ يُوقِنُونَ من الإيقان وهو العلم والمعنى يستيقنون ويعلمون أنها كائنة. [سورة البقرة (2): الآيات 5 الى 8] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

أُولئِكَ أي الذين هذه صفتهم عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على رشاد ونور من ربهم وقيل على استقامة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة والمفلح الظافر بالمطلوب أي الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ويكون الفلاح بمعنى البقاء قال الشاعر: لو كان حيّ مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح يريد البقاء فيكون المعنى أولئك هم الباقون في النعيم المقيم والفلاح والظفر وإدراك البغية من السعادة والعز والبقاء والغنى وأصل الفلاح الشق كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح، أي يقطع، فعلى هذا يكون المعنى أولئك هم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. واعلم أن الله عزّ وجلّ صدر هذه السورة بأربع آيات أنزلها في المؤمنين وبآيتين أنزلهما في الكافرين وبثلاث عشرة آية أنزلها في المنافقين فأما التي في الكفار فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا وأنكروا وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء بظلمته قال الشاعر، في ليلة كفر النجوم غمامها، أي سترها والكفر على أربعة أضرب: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلا ككفر فرعون وهو قوله ما علمت لكم من إله غيري، وكفر جحود وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر عناد وهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أمية بن أبي الصلت وأبي طالب حيث يقول في شعر له: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا وكفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر. وحاصله أن من جحد الله أو أنكر وحدانيته أو أنكر شيئا مما أنزله على رسوله أو أنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أو أحدا من الرسل فهو كافر فإن مات على ذلك فهو في النار خالدا فيها ولا يغفر الله له نزلت في مشركي العرب. وقيل في اليهود سَواءٌ عَلَيْهِمْ أي متساو لديهم أَأَنْذَرْتَهُمْ أي خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة العذاب في سابق علم الله الأزلي أنهم لا يؤمنون. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي طبع الله عليها فلا تعي خيرا ولا تفهمه وأصل الختم التغطية وحقيقة الاستيثاق من الشيء لكي لا يخرج منه ما حصل فيه ولا يدخله ما خرج، منه ومنه ختم الكتاب. قال أهل السنة: ختم الله على قلوبهم بالكفر لما سبق في علمه الأزلي فيهم وإنما خص القلب بالختم لأنه محل الفهم والعلم وَعَلى سَمْعِهِمْ أي وختم على موضوع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه كأنها مستوثق منها بالختم أيضا، وذكر السمع بلفظ التوحيد ومعناه الجمع قيل إنما وحده لأنه مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ هذا ابتداء كلام والغشاوة الغطاء، ومنه غاشية السرج أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق وهي غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. وحقيقة العذاب هو كل ما يؤلم الإنسان ويعيبه ويشق عليه وقيل هو الإيجاع الشديد وقيل هو ما يمنع الإنسان من مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش والعظيم ضد الحقير. قوله عزّ وجلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم وذلك أنهم أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا بها من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأسروا الكفر واعتقدوه وأكثرهم من اليهود. وصفة المنافق أن يعترف بلسانه بالإيمان ويقربه وينكره بقلبه ويصبح على حال ويمسي على غيرها، والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي قال الشاعر. سميت إنسانا لأنك ناسي، وقيل سمي إنسانا لأنه يستأنس بمثله

[سورة البقرة (2): آية 9]

وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي وآمنا باليوم الآخر وهو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يأتي بعد الدنيا وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة وما بعده فلا حد له ولا آخر قال الله تعالى ردا على المنافقين وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ نفى عنهم الإيمان بالكلية. [سورة البقرة (2): آية 9] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يخالفون الله والخديعة الحيلة والمكر وأصله في اللغة لإخفاء والمخادع يظهر ضد ما يضمر ليتخلص فهو بمنزلة النفاق، وهو خادعهم أي يظهر لهم نعيم الدنيا ويعجله لهم بخلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. فإن قلت المخادعة مفاعلة، وإنما تجيء في الفعل المشترك، والله تعالى منزه عن المشاركة قلت المفاعلة قد ترد لا على وجه المشاركة تقول عافاك الله وطارقت النعل وعاقبت اللص، فالمخادعة هنا عبارة عن فعل الواحد والله تعالى منزه عن أن يكون منه خداع. فإن قلت: كيف يخادع الله وهو يعلم الضمائر والأسرار؟ فمخادعة الله ممتنعة فكيف يقال يخادعون الله؟. قلت إن الله تعالى ذكر نفسه وأراد به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وذلك تفخيم لأمره وتعظيم لشأنه، وقيل أراد به المؤمنين وإذا خادعوا المؤمنين فكأنهم خادعوا الله تعالى وذلك أنهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لم يعلموا حالهم ولتجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر وهم، على خلافه في الباطن وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي إن الله تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة إلّا خادعين أنفسهم، وقيل: إن وبال ذلك الخداع راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى. والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقيل للدم نفس لأن به قوة البدن وَما يَشْعُرُونَ أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم. [سورة البقرة (2): الآيات 10 الى 14] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وأصل المرض الضعف والخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً يعني أن الآيات كانت تنزل تترى، أي آية بعد آية فلما كفروا بآية ازدادوا بعد ذلك كفرا ونفاقا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر، وقرئ بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين وقيل اليهود والمعنى إذا قال لهم المؤمنون لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني يقولونه كذبا إِلَّا كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يعني في الأرض بالكفر وهو أشد الفساد وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك لأنهم يظنون أن ما هم عليه من النفاق وإبطان الكفر صلاح وهو عين الفساد. وقيل لا يشعرون ما أعد الله لهم من العذاب وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين وقيل اليهود آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعني المهاجرين والأنصار. وقيل عبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب، والمعنى أخلصوا في إيمانكم كما أخلص هؤلاء في إيمانهم لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أي الجهال. فإن قلت كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم: أنؤمن كما آمن السفهاء. قلت كانوا يظهرون هذا

[سورة البقرة (2): الآيات 15 إلى 19]

القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك فرد الله ذلك عليهم بقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهال. وأصل السفه خفة العقل ورقة العلم وإنما سمى الله المنافقين سفهاء لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء رؤساء فقلب ذلك عليهم وسماهم سفهاء وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنهم كذلك. قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار قالُوا آمَنَّا كإيمانكم وَإِذا خَلَوْا أي رجعوا. وقيل هو من الخلوة إِلى قيل بمعنى الباء أي ب شَياطِينِهِمْ وقيل بمعنى مع أي مع شياطينهم والمراد بشياطينهم رؤساؤهم وكهنتهم قال ابن عباس وهم خمسة نفر: كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة وأبو بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وعبد الله بن السوداء بالشام، ولا يكون كاهن إلّا ومعه شيطان تابع لهم، وقيل لهم رؤساؤهم الذين شابهوا الشياطين في تمردهم قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أي بمحمد وأصحابه بما نظهر لهم من الإسلام لنأمن شرهم ونقف على سرهم ونأخذ من غنائمهم وصدقاتهم. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر الصديق فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختمه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال له علي: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة الله. فقال مهلا يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. [سورة البقرة (2): الآيات 15 الى 19] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء استهزائهم بالمؤمنين فسمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه سدّ عنهم وردوا إلى النار وَيَمُدُّهُمْ أي يتركهم ويمهلهم. والمد والإمداد واحد وأصله الزيادة وأكثر ما يأتي المد في الشر والإمداد في الخير فِي طُغْيانِهِمْ أي في ضلالهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد يَعْمَهُونَ أي يترددون في الضلالة متحيرين أُولئِكَ يعني المنافقين الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي استبدلوا الكفر بالإيمان وإنّما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعا على سبيل الاستعارة لأن الشراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. فإن قلت كيف قال اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى. قلت جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلي الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه بها. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي ما ربحوا في تجارتهم والربح الفضل عن رأس المال وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي مصيبين في تجارتهم، لأن رأس المال هو الإيمان فلما أضاعوه واعتقدوا الضلالة فقد ضلوا عن الهدى. وقيل وما كانوا مهتدين في ضلالتهم. قوله عزّ وجلّ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً المثل عبارة عن قول يشبه ذلك القول قولا آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه، وهو أحد أقسام القرآن السبعة ولما ذكر الله تعالى حقيقة

وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد نارا لينتفع بها فَلَمَّا أَضاءَتْ يعني النار ما حَوْلَهُ يعني حول المستوقد ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فإن قلت كيف وحد أولا ثم جمع ثانيا. قلت يجوز وضع الذي يوضع الذين كقوله: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا وقيل إنما شبه قصتهم بقصة المستوقد، وقيل معناه مثل الواحد منهم كمثل الذي استوقد نارا وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ قال ابن عباس: نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائرا متخوفا، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقيل: ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط. فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت: وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلّا حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلّا حيرة. وفي ضرب المثل للمنافقين بالنار ثلاث حكم: إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره فإذا ذهب ذلك بقي هو في ظلمته فكأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد قلوبهم كان إيمانهم كالمستعار. الثانية أن النار تحتاج في دوامها إلى مادة الحطب لتدوم فكذلك الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم الثالثة أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد قبلها ضياء فشبه حالهم بذلك. ثم وصفهم الله تعالى فقال صُمٌّ أي عن سماع الحق لأنهم لا يقبلونه وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه بُكْمٌ أي خرس عن النطق بالحق فهم لا يقولونه عُمْيٌ أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ومن لا بصيره له كمن لا بصر له فهو أعمى، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم وأن ينظروا إليه بعيونهم جعلوا كمن تعطلت حواسه وذهب إدراكه قال الشاعر: صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء كلهم أذن فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي عن ضلالتهم ونفاقهم. قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ أي كأصحاب صيّب وهو المطر، وكل ما أنزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب مِنَ السَّماءِ أي من السحاب لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء ومنه قيل لسقف البيت سماء وقيل من السماء بعينها، وإنما ذكر الله تعالى السماء وإن كان المطر لا ينزل إلّا منها ليرد على من زعم أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض فأبطل مذهب الحكماء بقوله من السماء ليعلم أن المطر ليس من أبخرة الأرض كما زعم الحكماء فِيهِ أي الصيّب ظُلُماتٌ جمع ظلمة وَرَعْدٌ هو الصوت الذي يسمع من السحاب وَبَرْقٌ يعني النار التي تخرج منه. قال ابن عباس: الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به السحاب. وقيل الرعد اسم ملك يزجر السحاب إذا تبددت جمعها وضمها فإذا اشتد غضبه يخرج من فيه النار فهي البرق والصواعق، وقيل الرعد تسبيح الملك. وقيل اسمه يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت كل من يسمعها أو يغشى عليه، وقيل الصاعقة قطعة من العذاب ينزلها الله على من يشاء. عن ابن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب حَذَرَ الْمَوْتِ أي مخافة الهلاك وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بحالهم وقيل يجمعهم ويعذبهم. يَكادُ الْبَرْقُ أي يقرب، يقال كاد يفعل ولم يفعل يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أي يختلسها. والخطف

[سورة البقرة (2): الآيات 20 إلى 23]

استلاب الشيء بسرعة كُلَّما أي متى ما جاء أَضاءَ لَهُمْ يعني البرق مَشَوْا فِيهِ أي في إضاءته ونوره وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي وقفوا متحيرين، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين، ووجه التمثيل أن الله عزّ وجلّ شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات وهي ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب من صفة تلك الظلمات أن الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم سامعوه أصابعهم إلى آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدته فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر هو القرآن لأنه حياة القلوب كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق. والرعد ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة فالكافرون والمنافقون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن وسماعه مخافة أن تميل قلوبهم إليه لأن الإيمان به عندهم كفر والكفر موت، وقيل هذا مثل ضربه الله تعالى للإسلام، فالمطر هو الإسلام، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن، والرعد ما فيه من ذكر الوعيد والمخاوف في الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ يعني المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذرا من الهلاك وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يعني لا ينفعهم الهرب لأن الله من ورائهم يجمعهم ويعذبهم. [سورة البقرة (2): الآيات 20 الى 23] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) يَكادُ الْبَرْقُ يعني دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة كلمة أضاء لهم يعني المنافقين، وإضاءته لهم هو تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان مَشَوْا فِيهِ يعني على المسالمة بإظهار كلمة الإيمان وقيل كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني إذا رأوا شدة وبلاء تأخروا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ أي بصوت الرعد وَأَبْصارِهِمْ بوميض البرق. وقيل: أي لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما أذهب أسماعهم وأبصارهم الباطنة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو الفاعل لما يشاء لا منازع له فيه. قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يا أيها الناس خطاب لأهل مكة ويا أيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة، وهو هنا خطاب عام لسائر المكلفين اعْبُدُوا رَبَّكُمُ قال ابن عباس: وحدوا ربكم وكل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد. وأصل العبودية التذلل والعبادة غاية التذلّل ولا يستحقها إلّا من له غاية الإفضال والإنعام وهو الله تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ أي ابتدع خلقكم على غير مثال سبق وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي وخلق الذين من قبلكم لَعَلَّكُمْ لعل وعسى حرفا ترجّ وهما أي كل منهما من الله واجب تَتَّقُونَ أي لكي تنجوا من العذاب، وقيل معناه تكونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أي خلق لكم الأرض بساطا ووطاء مذللة ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها، والحزن ما غلط من الأرض وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا قيل إذا تأمل الإنسان المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض مفروشة كالبساط والنجوم كالمصابيح والإنسان كمالك البيت وفيه ضروب النبات المهيأة لمنافعه وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه، فيجب على الإنسان المسخر له هذه الأشياء شكر الله

[سورة البقرة (2): الآيات 24 إلى 25]

تعالى عليها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يعني السحاب ماءً يعني المطر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ يعني من ألوان الثمرات وأصناف النبات رِزْقاً لَكُمْ أي وعلفا لدوابكم فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً يعني أمثالا تعبدونهم كعادته، والندّ المثل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنكم بعقولكم تعلمون أن هذه الأشياء والأمثال لا يصح جعلها أندادا لله، وأنه واحد خالق لجميع الأشياء وأنه لا مثل له ولا ضد له. قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي إن كنتم في شك لأن الله تعالى عليهم أنهم شاكون مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أي محمد صلّى الله عليه وسلّم لما تقرر إثبات الربوبية لله سبحانه وتعالى وأنه الواحد الخالق وأنه لا ضد له ولا ندّ أتبعه بإقامة الحجة على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه كما تدّعون فيه، وقوله على عبدنا إضافة تشريف لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأن القرآن منزل عليه من عند الله سبحانه وتعالى فَأْتُوا أمر تعجيز بِسُورَةٍ والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر وقيل السورة اسم للمنزلة الرفيعة، ومنه سور البلد لارتفاعه، سميت سورة لأن القارئ ينال بها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن مِنْ مِثْلِهِ أي مثل القرآن، وقيل الضمير في مثله راجع إلى عبدنا، يعني من مثل محمد صلّى الله عليه وسلّم أميّ لم يحسن الكتابة ولم يجالس العلماء ولم يأخذ العلم عن أحد، ورد الضمير إلى القرآن أوجه وأولى ويدل عليه أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في التحدي وإنما وقع الكلام في المنزل ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا أنتم بسورة مما يماثله ويجانسه، ولو كان الضمير مردودا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم لقال وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثل محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على كون القرآن معجزا ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة في طرفي الإيجاز والإطالة فتارة يأتي بالقصة باللفظ الطويل ثم يعيدها باللفظ الوجيز ولا يخل بالمقصود الأول، وأنه فارقت أساليبه أساليب الكلام وأوزانه أوزان الأشعار والخطب والرسائل ولهذا تحديت العرب به، فعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله وهم معدن البلاغة وفرسان الفصاحة ولهم النظم والنثر من الأشعار والخطب والرسائل، حتى قال الوليد بن المغيرة في وصف القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله والمعنى إن كان الأمر كما تقولون أنها تستحق العبادة فاجعلوا الاستعانة بها في دفع ما نزل بكم من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وإلّا فاعلموا أنكم مبطلون في دعواكم أنها إلهة. وقيل معناه وادعوا أناسا يشهدون لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم تقوله من تلقاء نفسه. [سورة البقرة (2): الآيات 24 الى 25] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا فيما بقي وهذه الآية دالة على عجزهم وأنهم لم يأتوا بمثله ولا بمثل شيء منه. وذلك أن النفوس الأبية إذا قرعت بمثل هذا التقريع استفرغت الوسع في الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ولو قدروا على ذلك لأتوا به فحيث لم يأتوا بشيء ظهرت المعجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبان عجزهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة، والقرآن من جنس كلامهم، وكانوا حراصا على إطفاء نوره وإبطال أمره ثم مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة من أحدهم ورضوا بسبى الذراري وأخذ الأموال والقتل وإذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذا كان الأمر كذلك وجب ترك العناد وهو قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار الَّتِي وَقُودُهَا أي حطبها النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال ابن عباس يعني حجارة الكبريت

لأنها أكثر التهابا. وقيل جميع الحجارة وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها. وقيل أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت من الحجارة وإنما قرن الناس مع الحجارة لأنهم كانوا يعبدونها معتقدين فيها أنها تنفعهم وتشفع لهم فجعلها الله عذابهم في نار جهنم أُعِدَّتْ أي هيئت لِلْكافِرِينَ قوله عزّ وجلّ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي أخبر المؤمنين، وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والبشارة إيراد الخبر السار على سامع يستبشر به ويظهر السرور في بشرة وجهه لأن الإنسان إذا فرح بشيء وسر به ظهر ذلك على بشرة وجهه ثم كثر حتى وضع موضع الخير والشر ومنه قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ولكن هو في السرور والخير أغلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الفعلات الصالحات وهي الطاعات. قيل العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء: العلم والنية والصبر والإخلاص. وقال عثمان بن عفان: وعملوا الصالحات أي أخلصوا الأعمال يعني عن الرياء أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ جمع جنة وهي البستان الذي فيه أشجار مثمرة سميت جنة لاجتنابها وتسترها بالأشجار والأوراق. وقيل: الجنة ما فيه نخيل والفردوس ما فيه كرم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها ومساكنها الْأَنْهارُ أي تجري المياه في الأنهار لأن الأنهار لا تجري وقيل معناه تجري بأمرهم وفي الحديث «إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود» أي في غير شق والخد الشق كُلَّما رُزِقُوا أي أطعموا مِنْها أي من الجنة مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي طعاما قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، وقيل: إن ثمار الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى وَأُتُوا بِهِ أي بالرزق مُتَشابِهاً قال ابن عباس مختلفا في الطعوم وقيل يشبه بعضه بعضا في الجودة لا رداءة فيها وقيل يشبه ثمار الدنيا في الاسم لا في الطعم (م) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء ورشح كرشح المسك» وفي رواية «ورشحهم المسك». قوله: يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس أي يجري على ألسنتهم كما يجري النفس فلا يشغلهم عن شيء كما أن النفس لا يشغل عن شيء قوله طعامهم جشاء، يعني أن فضول طعامهم يخرج في الجشاء وهو تنفس المعدة. والرشح العرق وقوله العرق. وقوله تعالى وَلَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ أي من الحور العين مُطَهَّرَةٌ يعني من البول والغائط والحيض والولد وسائر الأقذار وقيل هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا وقيل طهرن من مساوي الأخلاق قيل في الجنة جماع ما شئت ولا ولد وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون. والخلد البقاء الدائم الذي لا انقطاع له (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد وعلى صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» وفي رواية «ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا» (ق) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» عن أبي هريرة قال: «قلت يا رسول الله ممّ خلق الله الخلق؟ قال من الماء، قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا ييأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم» أخرجه الترمذي بزيادة وقال ليس إسناده بذلك القوي. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم

[سورة البقرة (2): الآيات 26 إلى 27]

وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قالت اليهود. ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة. وقيل قال المشركون إنا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء وذلك لأن الكفار كانوا متفقين على إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا ذلك، فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم عليه. وقيل هو انقباض النفس عن القبائح هذا أصله في وصف الإنسان، والله تعالى منزه عن ذلك كله فإذا وصف الله تعالى به يكون معناه الترك، وذلك لأن لكل فعل بداية ونهاية، فبداية الحياء هو التغير الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إليه ذلك الفعل القبيح، ونهايته ترك ذلك الفعل القبيح، فإذا ورد وصف الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه بدايته وهو التغير والخوف، بل المراد منه ترك الفعل الذي هو نهاية الحياء وغايته فيكون معنى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا أي لا يترك المثل لقول الكفار واليهود «ما» قيل ما صلة فيكون المعنى أن يضرب مثلا بعوضة، وقيل ليس هي بصلة بل هي للإبهام والنكرة، والبعوض صغار البق وهو من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصغر وله خرطوم مجوف وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس والجمل فيبلغ منه الغاية حتى أن الجمل يموت من قرصه فما فوقها يعني الذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما في الجثة. وقيل معناه فما دونها وأصغر منها، وهذا القول أشبه بالآية لأن الغرض بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الصغير الحقير وقد ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم مثلا للدنيا بجناح البعوضة وهو أصغر منها، وقد ضربت العرب المثل بالمحقرات، فقيل: هو أحقر من ذرة وأجمع من نملة وأطيش من ذبابة وألح من ذبابة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعني ضرب المثل الْحَقُّ يعني الصدق مِنْ رَبِّهِمْ الثابت الذي لا يجوز إنكاره لأن ضرب المثل من الأمور المستحسنة في العقل وعند العرب وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي بهذا المثل يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً أي من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون به ضلالا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يعني المؤمنين يصدقونه ويعلمون أنه حق وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ يعني الكافرين وقيل المنافقين. وقيل اليهود، والفسق الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ أي يخالفون ويتركون وأصل النقض الفسخ وفك المركب عَهْدَ اللَّهِ أي أمر الله وأصل العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد عقده وتوكيده وفي معنى هذا العهد أقوال أحدها أنه الذي أخذه عليهم يوم الميثاق وهو قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الثاني المراد به الذي أخذه على إجبار اليهود في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويبينوا نعته وصفته الثالث المراد به الكفار والمنافقون الذين نقضوا عهدا أبرمه

[سورة البقرة (2): الآيات 28 إلى 29]

الله تعالى وأحكمه بما أنزل في كتابه من الآيات الدالة على توحيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وجميع الرسل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود. وقيل أراد به قطع الأرحام التي أمر الله بوصلها وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعني بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون. وأصل الخسار النقص ثم قال تعالى لمشركي العرب على وجه التعجب لكن فيه تبكيت وتعنيف لهم. [سورة البقرة (2): الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يعني بعد نصب الدلائل ووضع البراهين الدالة على وحدانيته ثم ذكر الدلائل فقال تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً يعني نطفا في أصلاب آبائكم فَأَحْياكُمْ يعني في الأرحام والدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يعني بعد الموت للبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني من المعادن والنبات والحيوان والجبال والبحار والمعنى كيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في الأرض جميعا لتنتفعوا به في مصالح الدين والدنيا أما مصالح الدين فهو الاعتبار والتفكر في عجائب مخلوقات الله تعالى الدالة على وحدانيته وأما مصالح الدنيا فهو الانتفاع بما خلق فيها ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد وأقبل على خلقها وقيل عمد، وقال ابن عباس: ارتفع وفي رواية عنه صعد. قال الأزهري معناه صعد أمره وكذا ذكره صاحب المحكم وذلك أن الله تعالى خلق الأرض أولا ثم عمد إلى خلق السماء. فإن قلت كيف الجمع بين هذا وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قلت: الدحو البسط فيحتمل أن الله تعالى خلق جرم الأرض ولم يبسطها ثم خلق السماء وبسط جرم الأرض بعد ذلك، فإن قلت هذا مشكل أيضا لأن قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا يقتضي أن ذلك لا يكون إلّا بعد الدحو. قلت: يحتمل أنه ليس هنا ترتيب وإنما هو على سبيل تعداد النعم كقوله الرجل لمن يذكره ما أنعم به عليه: ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ ولعل بعض هذه النعم متقدمة على بعض والله أعلم فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ خلقهن سبع سموات مستويات لا صدع فيها ولا فطور وسيأتي ذكر خلق الأرض عند قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 30 الى 32] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله، وقيل إذ زائدة والأول أوجه لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة وهي لفظ البغوي وهي الرسالة وأراد بالملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق الأرض والسماء وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض، فعبدوا دهرا طويلا، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا، فبعث

الله إليهم جنا من الملائكة يقال لهم الجان ورأسهم إبليس وهم خزان الجنان فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى جزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا هم الأرض وخفف الله عنهم العبادة وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة، وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما فكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه فقال له ولجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي إني خالق خليفة يعني بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة والمراد بالخليفة هنا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه خلف الجن وجاء بعدهم. وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح إنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة الله في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها أي بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أي بغير حق كما فعل الجن. فإن قلت من أين عرفوا ذلك حتى قالوا هذا القول؟ قلت يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بإخبار الله إياهم أو قاسوا الشاهد على الغائب، وقيل إنهم لما رأوا أن آدم خلق من أخلاط مركبة علموا أنه يكون فيه الحقد والغضب ومنهما يتولد الفساد وسفك الدماء فلهذا قالوا ذلك. وقيل لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة، وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصاني فلما قال إني جاعل في الأرض خليفة قالوا هو ذلك. فإن قلت الملائكة معصومون فكيف وقع منهم هذا الاعتراض. قلت ذهب بعضهم إلى أنهم غير معصومين واستدل على ذلك بوجوه منها قوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ومن ذهب إلى عصمتهم أجاب عنه بأن هذا السؤال إنما وقع على سبيل التعجب لا على سبيل الإنكار والاعتراض فإنهم تعجبوا من كمال حكم الله تعالى وإحاطة علمه بما خفي عليهم، ولهذا أجابهم بقوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وقيل: إن العبد المخلص في حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة في إعظام الله عز وجل: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي نقول: سبحان الله وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون (م) عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل أي الكلام أفضل قال «ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» قال ابن عباس رضي الله عنهما كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك. وقيل أصل التسبيح تنزيه الله عما لا يليق بجلاله فيكون المعنى، ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة. ومعنى بحمدك حامدين لك أو متلبسين بحمدك، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك وَنُقَدِّسُ لَكَ أصل التقديس التطهير أن نطهرك عن النقائص وكل سوء ونصفك بما يليق بعزك وجلالك من العلو والعظمة واللام صلة وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قيل إنه جواب لقول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها فقال تعالى: أَعْلَمُ من وجوه المصلحة والحكمة ما لا تعلمون. وقيل أعلم أن فيهم من يعبدني ويطيعني وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، ومن يعصيني منكم وهو إبليس، وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فاغفر لهم. (فصل: في ماهية الملائكة وقصة خلق آدم عليه السلام) قيل إن الملائكة أجسام لطيفة هوائية خلقت من النور تقدر أن تتشكل بأشكال مختلفة، مسكنهم السموات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته لله ساجدا» أخرجه الترمذي بزيادة، وقال حديث حسن غريب. وأما صفة خلق آدم عليه السلام فقال وهب بن منبه: لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصيني فمن أطاعني أدخلته الجنة، ومن عصاني أدخلته النار. قالت الأرض أتخلق مني خلقا يكون للنار قال نعم. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، فبعث الله إليها جبريل ليأتيه بقبضة منها من أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها قالت: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئا فرجع جبريل إلى مكانه وقال: يا رب استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم

عليها فقال الله تعالى لميكائيل: انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها ليقبض منها قالت له مثل ما قالت لجبريل، فرجع إلى ربه فقال ما قالت له، فقال لعزرائيل انطلق فأتني بقبضة من الأرض فلما أتاها قالت له الأرض، أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا، فقال: وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا. وقبض منها قبضة من جميع بقاعها من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها، وصعد بها إلى السماء فسأله ربه عز وجل وهو أعلم بما صنع فأخبره بما قالت له الأرض وبما رد عليها فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك. ثم جعل الله تلك القبضة نصفها في الجنة ونصفها في النار ثم تركها ما شاء الله ثم أخرجها فعجنها طينا لازبا مدة ثم حمأ مسنونا مدة ثم صلصالا ثم جعلها جسدا وألقاه على باب الجنة فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته لأنهم لم يكونوا رأوا مثله، وكان إبليس يمر عليه ويقول لأمر ما خلق هذا ونظر إليه فإذا هو أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك، وقال يوما للملائكة إن فضل هذا عليكم ما تصنعون؟ فقالوا نطيع ربنا ولا نعصيه فقال إبليس في نفسه لئن فضل علي لأعصينه ولئن فضلت عليه لأهلكنه فلما أراد الله تعالى أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم فنظرت فرأت مدخلا ضيقا فقال يا رب كيف أدخل هذا الجسد؟ قال الله عز وجل لها ادخليه كرها وستخرجين منه كرها فدخلت في يافوخه فوصلت إلى عينيه فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا فصارت إلى أن وصلت منخريه فعطس فلما بلغت لسانه قال: الحمد لله رب العالمين وهي أول كلمة قالها فناداه الله تعالى رحمك ربك يا أبا محمد ولهذا خلقتك. ولما بلغت الروح إلى الركبتين همّ ليقوم فلم يقدر، قال الله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فلما بلغت إلى الساقين والقدمين استوى قائما بشرا سويا لحما ودما وعظاما وعروقا وعصبا وأحشاء وكسي لباسا من ظفر يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم، وجعل في جسده تسعة أبواب سبعة في رأسه وهي الأذنان يسمع بهما والعينان يبصر بهما والمنخران يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم به والأسنان يطحن بها ما يأكله ويجد لذة المطعومات بها وبابين في أسفل جسده وهما القبل والدبر يخرج منهما ثفل طعامه وشرابه وجعل عقله في دماغه وفكره وصرامته في قلبه وشرهه في كليته وغضبه في كبده ورغبته في رئته وضحكه في طحاله وفرجه وحزنه في وجهه فسبحان من جعله يسمع بعظم ويبصر بشحم وينطق بلحم ويعرف بدم وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خلق الله تعالى آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعا ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزاده ورحمة فكل من يدخل الجنة على صورة آدم. قال: فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن (م) عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما صور الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. عن أبي موسى قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب. أخرجه الترمذي وأبو داود. قوله عز وجل وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض. وقيل لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد، وقيل: أبو البشر ولما خلق الله آدم وتم خلقه علمه أسماء الأشياء كلها، وذلك أن الملائكة قالوا ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم علم منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، فأظهر الله فضل آدم عليهم بالعلم. وفيه دليل لمذهب أهل السنة أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا، قال ابن عباس: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وقيل: خلق الله كل شيء من الحيوان والجماد وغير ذلك، وعلم آدم أسماءها كلها فقال يا آدم هذا بعير وهذا فرس وهذه شاة حتى أتى على آخرها. وقيل علم آدم أسماء الملائكة وقيل أسماء ذريته وقيل علمه اللغات كلها ثُمَّ عَرَضَهُمْ يعني تلك الأشخاص، وإنما قال عرضهم ولم يقل عرضها لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومن لا يعقل عبر عنه بلفظ من يعقل

[سورة البقرة (2): الآيات 33 إلى 35]

لتغليب العقلاء عليهم كما يعبر عن الذكور والإناث بلفظ الذكور عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ يعني تعجيزا لهم أَنْبِئُونِي أي أخبروني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يعني تلك الأشخاص إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إني لم أخلق خلقا إلّا كنتم أفضل منه وأعلم قالُوا يعني الملائكة سُبْحانَكَ تنزيها لك وذلك لما ظهر عجزهم لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا أي إنك أجل من أن نحيط بشيء من علمك إلّا ما علمتنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ أي بخلقك وهو من أسماء الصفات التامة وهو المحيط بكل المعلومات الْحَكِيمُ أي في أمرك، وله معنيان أحدهما أنه القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كيلا يتطرق إليه الفساد. [سورة البقرة (2): الآيات 33 الى 35] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) قالَ يعني الله تعالى يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وذلك لما ظهر عجز الملائكة فسمى كل شيء باسمه وذكر وجه الحكمة التي خلق لها فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ يعني الله تعالى أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يعني يا ملائكتي إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ما كان وما سيكون وذلك أنه سبحانه وتعالى علم أحوال آدم قبل أن يخلقه فلهذا قال لهم: إني أعلم ما لا تعلمون وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني قول الملائكة: أتجعل فيها وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني قولكم لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا وقال ابن عباس أعلم ما تبدون من الطاعة وما كنتم تكتمون، يعني إبليس من المعصية. قوله عز وجل: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ قيل هذا الخطاب كان مع الملائكة الذين كانوا سكان الأرض والأصح أنه خطاب مع جميع الملائكة بدليل قوله: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلّا إبليس» فَسَجَدُوا يعني الملائكة وفي هذا السجود قولان أصحهما أنه كان لآدم على الحقيقة ولم يكن فيه وضع الجبهة على الأرض وإنما هو الانحناء وكان سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة كسجود إخوة يوسف له في قوله: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام. وفي سجود الملائكة لآدم معنى الطاعة لله تعالى والامتثال لأمره. والقول الثاني أن آدم كان كالقبلة، وكان السجود لله تعالى، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله تعالى، وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ سمي به لأنه أبلس من رحمة الله أي يئس، وكان اسمه عزازيل بالسريانية وبالعربية الحارث فلما عصى غير اسمه فسمي إبليس وغيرت صورته قال ابن عباس كان إبليس من الملائكة بدليل أنه استثناه منهم وقيل إنه من الجن لأنه خلق من النار ولملائكته خلقوا من النور ولأنه أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس والأول أصح لأن الخطاب كان مع الملائكة فهو داخل فيهم ثم استثناه منهم أَبى أي امتنع من السجود فلم يسجد وَاسْتَكْبَرَ أي تكبر وتعظم عن السجود لآدم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي في علم الله تعالى فإنه وجبت له النار لسابق علم الله تعالى بشقاوته (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله» وفي رواية يا ويلتاه أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. قوله عز وجل وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي اتخذها مأوى ومنزلا وليس معناه الاستقرار لأنه لم يقل أسكنتك الجنة لأنه خلق لعمارة الأرض ولما أسكن الله آدم في الجنة بقي وحده ليس معه من يستأنس به ويجالسه فألقى الله عليه النوم ثم أخذ ضلعا من أضلاع جنبه الأيسر، وهو الأقصر فخلق منه زوجته حواء، ووضع مكان الضلع لحما من غير أن يحس بذلك آدم ولم يجد ألما، ولو وجد ألما لما عطف رجل على امرأة قط، وسميت

[سورة البقرة (2): الآيات 36 إلى 38]

حواء لأنها خلقت من حي، فلما استيقظ آدم من نومه ورآها جالسة كأحسن ما خلق الله تعالى فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا زوجتك حواء قال: ولماذا خلقت؟ قالت: لتسكن إلي وأسكن إليك. واختلفوا في الجنة التي أمر آدم بسكناها فقيل إنها جنة كانت في الأرض بدليل أنه لو كانت الجنة التي هي دار الجزاء والثواب لما أخرج منها. وأجاب صاحب هذا القول عن قوله تعالى: اهْبِطا بأن المراد من الهبوط التحول والانتقال فهو كقوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً والقول الصحيح أنها الجنة التي هي دار الجزاء والثواب لأن الألف واللام للعهد والجنة بين المسلمين وفي عرفهم التي هي دار الجزاء. وقيل: كلا القولين ممكن فلا وجه للقطع وَكُلا مِنْها رَغَداً أي واسعا كثيرا حَيْثُ شِئْتُما أي كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما والمقصود منه الإطلاق في الأكل من الجنة بلا منع إلّا ما نهى عنه، وهو قوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني للأكل قيل إنما وقع هذه النهي عن جنس الشجرة. وقيل عن شجرة مخصوصة قال ابن عباس هي السنبلة وقيل الكرمة. وقيل هي شجرة التين وقيل هي شجرة العلم. وقيل الكافور. وقيل: ليس في ظاهر الكلام ما يدل على التبيين إذ لا حاجة إليه لأنه ليس المقصود تعرّف عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصود لا يجب بيانه فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يعني إن أكلتما من هذه الشجرة ظلمتما أنفسكما فمن جوّز ارتكاب الذنوب على الأنبياء قال ظلم نفسه بالمعصية. وأصل الظلم وصنع الشيء في غير موضعه ومن لم يجوز ذلك على الأنبياء جعل الظلم على أنه فعل ما كان الأولى أن لا يفعله. وقيل: يحمل على أنه فعل هذا قبل النبوة. فإن قلت: هل يجوز وصف الأنبياء بالظلم أو بظلم أنفسهم؟ قلت: لا يجوز أن يطلق عليهم ذلك لما فيه من الذم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 36 الى 38] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أي استزل آدم وحواء ودعاهما إلى الزلة وهي الخطيئة، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على عصمة الأنبياء والجواب عما صدر منهم عند قوله عز وجل: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى في سورة طه عَنْها أي الجنة فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ يعني من النعيم وذلك أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم وحواء فمنعه الخزنة فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزّان الجنة فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون. وقيل إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منهما، وكان إبليس بقرب الباب فوسوس لهما وذلك أن آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال لو أن خلدا فاغتنم ذلك الشيطان منه وأتاه من قبل الخلد. وقيل لما دخل الجنة وقف على آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا ما يبكيك قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحدا يحلف بالله كاذبا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم فأكل منها. قال إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا، قال ابن عباس: قال الله تعالى: «يا آدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش فيها إلّا نكدا فاهبط من الجنة وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وزرع وسقى حتى إذا بلغ واشتد حصده ثم درسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه وخبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه الجهد». وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهى عنها قال الله تعالى: يا آدم ما

حملك على ما صنعت؟ قال يا رب زينته لي حواء قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلّا كرها ولا تضع إلّا كرها ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك. والرنة الصوت، فلما أكلا من الشجرة تهافتت عنهما ثيابهما، وأخرجا من الجنة، فذلك قوله عز وجل وَقُلْنَا اهْبِطُوا أي انزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة والحية بأصبهان بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني العداوة التي بين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس وإليه الإشارة بقوله عز وجل: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا والعداوة التي بين ذرية آدم والحية. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالماهن منذ حاربناهن» أخرجه أبو داود، وله عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف من ثأرهن فليس مني» وفي رواية «اقتلوا الكبار كلها إلّا الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة» (م) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن بالمدينة جنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» وفي رواية «إن بهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فاخرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلّا فاقتلوه فإنه كافر» وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي موضع قرار وَمَتاعٌ أي بلغة ومستمتع إِلى حِينٍ أي إلى وقت انقضاء آجالكم. قوله عز وجل فَتَلَقَّى آدَمُ أي فتلقن، والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم. وقيل هو التعلم مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي كانت سبب توبته. وقيل إن تلك الكلمات هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقيل هي لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل قال آدم: يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته عليّ قبل أن تخلقني؟ قال: بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك. قال: يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي. وقيل: إن الله تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه فطاف بالبيت سبعا وهو يومئذ ربوة حمراء ثم صلّى ركعتين ثم استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنوبك. وقيل: إن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى. وقيل هي ثلاثة أشياء: الحياء والدعاء والبكاء. قال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما. وقيل: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أصاب الخطيئة لو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة فَتابَ عَلَيْهِ أي فتجاوز عنه وغفر له. وأصل التوبة من تاب يتوب إذا رجع فكأن التائب رجع عن ذلك الذنب الذي كان عليه، ولا تتحقق التوبة منه إلّا بثلاثة أمور. علم وحال وعمل. أما العلم فهو أن يعلم العبد ضرر الذنب وأنه حجاب عن الله تعالى، فإذا حصل هذا العلم تألم القلب فعند ذلك يحصل الندم وهو الحال فيترك العبد الذنب، ويعزم في المستقبل أن لا يعود إليه وهو العمل فإذا تحققت هذه الثلاثة الأمور وحصلت التوبة، وسيأتي بسط هذا عند قوله تعالى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً في سورة التحريم إن شاء الله تعالى إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع على عباده بقبول التوبة. والتواب في وصف الله سبحانه وتعالى: المبالغ في قبول توبة عباده الرَّحِيمُ أي بخلقه وصف سبحانه وتعالى نفسه مع كونه بأنه رحيم قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً يعني هؤلاء الأربعة. وقيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض، وفيه ضعف لأنه قال في الهبوط الأول «ولكم في الأرض مستقر» فدل على أنه كان من الجنة إلى الأرض، والأصح أنه للتأكيد فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فيه تنبيه على عظم نعم الله على آدم وحواء كأنه قال وإن أهبطتكم من الجنة إلى

[سورة البقرة (2): الآيات 39 إلى 44]

الأرض فقد أنعمت عليكم بهدايتي التي تؤديكم إلى الجنة مرة أخرى على الدوام الذي لا ينقطع وقيل المخاطب هم ذرية آدم يعني يا ذرية آدم إما يأتينكم مني رشد وبيان وشريعة وقيل كتاب ورسول فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما خلفوا وقيل لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة. [سورة البقرة (2): الآيات 39 الى 44] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي يوم القيامة هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها قوله عز وجل يا بَنِي إِسْرائِيلَ اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلّى الله عليهم وسلّم أجمعين ومعنى إسرائيل عبد الله وقيل صفوة الله والمعنى يا أولاد يعقوب اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي اشكروا نعمتي وإنما عبر عنه بالذكر لأن من ذكر النعمة فقد شكرها ومن جحدها فقد كفرها وقيل الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان ووحد النعمة لأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومعناه أن المضرة المحضة لا تكون نعمة ولو فعل الإنسان منفعة وقصد نفسه بها لا تسمى نعمة إذا لم يقصد بها الغير ثم إن النعم ثلاثة: نعمة تفرد بها الله تعالى وهي إيجاد الإنسان ورزقه ونعمة وصلت إلى الإنسان بواسطة الغير لكن الله مكنه من ذلك فالمنعم بها في الحقيقة هو الله تعالى ونعمة حصلت للإنسان بسبب الطاعة وهي أيضا من الله تعالى، فالله هو المنعم المطلق في الحقيقة لأن أصول النعم كلها منه. وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم أن الله تعالى أنقذهم من فرعون وفلق البحر لهم وأغرق فرعون وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم وإنزال التوراة ونعم غير هذه كثيرة فإن قلت إذا فسر النعمة بهذا فما كانت على المخاطبين بها بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعمة عليهم حتى يذكروها. قلت إنما ذكر المخاطبين بها لأن فخر الآباء فخر الأبناء ولأن الأبناء إذا تيقنوا أن الله قد أنعم على آبائهم بهذه النعم فقد وجب عليهم ذكرها وشكرها. وقيل إن هذه النعم هي إدراك المخاطبين بها زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم وذكرها الإيمان به وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أي امتثلوا أمري أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أي بالقول والثواب وأصل للعهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ومنه سمي الموثق الذي تلزم مراعاته عهدا وقيل أراد بالعهد جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكليف دون بعض وقيل أراد به ما ذكر في سورة المائدة وهو قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إلى قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فهذا قوله: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وقيل هو قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يعني شريعة التوراة. وقيل هو قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وقيل أراد بهذا العهد ما أثبته في كتب الأنبياء المتقدمة من وصف محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه مبعوث في آخر الزمان، وذلك أن الله عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن تبعه وصدق النور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، وهو قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي

فخافون في نقضكم العهد وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ يعني بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني أن القرآن موافق لما في التوراة من التوحيد والنبوة والأخبار ونعمت النبي صلّى الله عليه وسلّم فالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن تصديق للتوراة لأن التوراة فيها الإشارة إلى نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه نبي مبعوث فمن آمن به فقد آمن بما في التوراة ومن كذبه وكفر به فقد كذب التوراة وكفر بها وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الخطاب لليهود، نزلت في كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود، والمعنى ولا تكونوا يا معشر اليهود أول من كفر به. فإن قلت كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم؟ قلت: هذا تعريض لهم والمعنى كان يجب أن تكونوا أول من آمن به لأنكم تعرفون صفته ونعته بخلاف غيركم وكنتم تستفتحون به على الكفار فلما بعث كان أمر اليهود بالعكس. وقيل معناه ولا تكونوا أول كافر به من اليهود فيتبعكم غيركم على ذلك فتبوءوا بإثمكم وإثم غيركم ممن تبعكم على ذلك وَلا تَشْتَرُوا أي ولا تستبدلوا بِآياتِي أي ببيان صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم التي في التوراة ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا من الدنيا لأن الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالشيء اليسير الحقير الذي لا قيمة له والذي كانوا يأخذونه من الدنيا كالشيء اليسير بالنسبة إلى جميعها فهو قليل القليل فلهذا قال الله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أن كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئا معلوما من زرعهم وثمارهم ونقودهم وضروعهم فخافوا إن بينوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه واختاروا الدنيا على الآخرة وأصروا على الكفر وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي فخافون في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتقوى قريب من معنى الرهبة والفرق بينهما أن الرهبة خوف مع حزن واضطراب والتقوى جعل النفس في وقاية مما تخاف. قوله عز وجل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم. وقيل معناه ولا تخلطوا الحق الذي أنزل عليكم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في التوراة الباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وقيل لا تخلطوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم التي هي الحق بالباطل أي بصفة الدجال وذلك أنه لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسده اليهود وقالوا ليس هو الذي ننتظره وإنما هو المسيح ابن داود يعني الدجال وكذبوا فيما قالوا: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي مرسل. وفيه تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار هذا الخطاب وإن كان خاصا في الصورة لكنه عام في المعنى فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق لما فيه من الضرر والفساد وفيه دلالة أيضا على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها وجميع أركانها وَآتُوا الزَّكاةَ أي أدوا الزكاة المفروضة عليكم في أموالكم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين، يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وعبر عن الصلاة بالركوع لأنه ركن من أركانها وهذا خطاب لليهود لأن صلاتهم ليس فيها ركوع فكأنه قال لهم صلوا صلاة ذات ركوع فلهذا المعنى أعاده بعد قوله وأقيموا الصلاة لأن الأول خطاب الكافة والثاني خطاب قوم مخصوصين وهم اليهود. وفيه حث على إقامة الصلاة في الجماعة فكأنه قال صلوا مع المصلين في الجماعة. قوله عز وجل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الاستفهام فيه للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم. والبر اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات، نزلت هذه الآية في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق وقيل إن جماعة من اليهود قالوا لمشركي العرب: إن رسولا سيظهر منكم ويدعوكم إلى الحق، وكانوا يرغبونهم في اتباعه فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله ووبخهم بذلك حيث إنهم كانوا يأمرون الناس باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عنه. وقيل كانوا يأمرون الناس بالطاعة والصلاة والزكاة وأنواع البر ولا يفعلونه فوبخهم الله بذلك وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي وتعدلون عما لها فيه نفع والنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والمعنى أتتركون أنفسكم ولا تتبعون محمدا صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ

[سورة البقرة (2): الآيات 45 إلى 49]

يعني تقرؤون التوراة وتدرسونها وفيها نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وفيها أيضا الحث على الأفعال الحسنة والإعراض عن الأفعال القبيحة والإثم أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أنه حق فتتبعونه والعقل قوة يهيئ قبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ومنه قول علي بن أبي طالب: وإن العقل عقلان ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع مطبوع ... إذا لم يك مسموع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع وأصل العقل الإمساك لأنه مأخوذ من عقال الدابة كعقل البعير بالعقال ليمنعه من الشرود فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود والأفعال القبيحة. ومعنى الآية أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك لأن الإنسان إذا وعظ غيره ولم يتعظ هو فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون وقيل إن من وعظ الناس يجتهد أن ينفذ موعظته إلى القلوب فإذا خالف قوله فعله كان ذلك سبب تنفير القلوب عن قبول موعظته (ق) عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» قوله فتندلق، أي تخرج أقتاب بطنه أي أمعاء بطنه واحدها قتب وروى البغوي بسنده عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون قيل مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وقيل من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه، وقال بعضهم: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم [سورة البقرة (2): الآيات 45 الى 49] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) قوله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل إن المخاطبين بهذا هم المؤمنون لأن من ينكر الصلاة والصبر على دين محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق محمدا صلّى الله عليه وسلّم وآمن به. وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك نظم القرآن ولأن اليهود لم ينكروا أصل الصلاة والصبر لكن صلاتهم غير صلاة المؤمنين، فعلى هذا القول أن الله تعالى لما أمرهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والتزام شريعته وترك الرياسة وحب الجاه والمال قال لهم استعينوا بالصبر أي بحبس النفس عن اللذات وإن ضممتم إلى ذلك الصلاة هان عليكم ترك ما أنتم فيه من حب الرياسة والجاه والمال. وعلى القول الأول يكون معنى الآية واستعينوا على حوائجكم إلى الله. وقيل: على ما يشغلكم من أنواع البلاء. وقيل: على طلب الآخرة بالصبر وهو حبس النفس عن اللذات وترك المعاصي. وقيل بالصبر على أداء الفرائض.

وقيل الصبر هو الصوم لأن فيه حبس النفس عن المفطرات وعن سائر اللذات وفيه انكسار النفس والصلاة، أي اجمعوا بين الصبر والصلاة وقيل معناه واستعينوا بالصبر على الصلاة وعلى ما يجب فيها من تصحيح النية وإحضار القلب ومراعاة الأركان والآداب مع الخشوع والخشية، فإن من اشتغل بالصلاة ترك ما سواها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا أهمه أمر لجأ إلى الصلاة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نعي له أخوه قثم وهو في سفره فاسترجع ثم تنحى عن الطريق، فصلى ركعتين أطال فيهما السجود، ثم قام إلى راحلته وهو يقول: فاستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّها يعني الصلاة وقيل الاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يعني المؤمنين وقيل الخائفين: وقيل المطيعين المتواضعين لله وأصل الخشوع السكون فالخاشع ساكن إلى الطاعة وقيل الخشوع الضراعة وأكثر ما تستعمل في الجوارح وإنما كانت الصلاة ثقيلة على غير الخاشعين لأن من لا يرجو لها ثوابا ولا يخاف على تركها عقابا فهي ثقيلة عليه. وأما الخاشع الذي يرجو لها ثوابا ويخاف على تركها عقابا فهي سهلة عليه الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يستيقنون وقيل يعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني بعدت فيجزيهم بأعمالهم. قوله عز وجل: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يعني على عالمي زمانكم وهذا التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء وَاتَّقُوا يَوْماً أي واخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي أي لا تقضى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً يعني حقا لزمها. وقيل معناه لا تنوب نفس عن نفس يوم القيامة، ولا ترد عنها شيئا مما أصابها، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ولا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ أي في ذلك اليوم والمعنى لا تقبل الشفاعة إذا كانت النفس كافرة، وذلك أن اليهود قالوا يشفع لنا آباؤنا فرد الله عليهم ذلك بقوله ولا تقبل منها شفاعة وقيل إن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه وقيل معناه أن النفس الكافرة لو جاءت بشفيع لا يقبل منها وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية وهو مماثلة الشيء بالشيء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب. قوله عز وجل: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ أي واذكروا إذ خلصنا أسلافكم وأجوادكم فاعتدها نعمة ومنة عليهم لأنهم نجوا بنجاة أسلافهم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي من أتباعه وأهل دينه وفرعون اسم علم لمن كان يملك مصر من القبط والعماليق وفرعون هذا كان اسمه الوليد بن مصعب بن الريان وعمر أكثر من أربعمائة سنة يَسُومُونَكُمْ أي يكلفونكم ويذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ أي أشد العذاب وأسوأه، وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة كذا ومرة كذا، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال أصنافا: صنف يبنون ويزرعون، وصنف يخدمونه ومن لم يكن في عمل وضع عليه الجزية وقال ابن وهب: كانوا أصنافا في أعمال فرعون فذوو القوة يسلخون السواري من الجبال، حتى تقرعت أيديهم وأعناقهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وصنف ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج يعني الجزية ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته، غلبت يداه إلى عنقه شهرا والنساء يغزلن الكتان وينسجنه وقيل تفسير يسومونكم سوء العذاب، ما بعده وهو قوله عز وجل: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يتركونهن أحياء. وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر، وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا: يولد غلام يكون على يديه هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قتل في طلب موسى اثني عشر ألفا وقيل: سبعين ألفا، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤساء القبط على فرعون وقالوا: إن الموت قد وقع ببني إسرائيل

فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التي يذبح فيها وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي اختيار وامتحان، والبلاء يطلق على النعمة العظيمة وعلى المحنة الشديدة ليختبر الله العبد على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر فإن حمل قوله: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ على صنع فرعون كان من البلاء والمحنة وإن حمل على الإنجاء كان من النعمة. قوله عز وجل: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي فصلنا بعضه من بعض وجعلنا فيه مسالك بسبب دخولكم البحر وسمي بحرا لاتساعه. (ذكر سياق القصة) وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون، أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر بالليل، فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح، وأن يستعيروا حلى القبط لتبقى لهم أو ليتبعوهم لأجل المال، وأخرج الله كل ولد زنا كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل وكل ولد زنا كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى يرجع كل ولد إلى أبيه وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم وقيل: بلغ ذلك فرعون فقال لا أخرج في طلبهم حتى يصيح الديك فما صاح تلك الليلة ديك وخرج موسى في بني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدون ابن عشرين سنة لصغره، ولا ابن ستين سنة لكبره، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا ما بين رجل وامرأة فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا: إن يوسف لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموه فقال موسى. ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به ومن لم يعلم صمت أذناه عن سماع قولي: فكان يمر بالرجل وهو ينادي فلا يسمع صوته حتى سمعته عجوز منهم فقالت له: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما أسألك فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي فأمره أن يعطيها سؤالها فقالت: إني عجوز لا أستطيع المشي فاحملني معك وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من غرف الجنة إلا نزلتها معك قال: نعم، قالت: إنه في النيل في جوف الماء فادع الله أن يحسر عنه الماء فدعا الله فحسر عنه الماء، ودعا الله أن يؤخر عنه طلوع الفجر حتى يفرغ من أمر يوسف، ثم حفر موسى ذلك الموضع فاستخرجه وهو في صندوق من مرمر وحمله معه حتى دفنه بالشام، فعند ذلك فتح لهم الطريق فسار موسى ببني إسرائيل هو في ساقتهم وهارون في مقدمتهم، ثم خرج فرعون في طلبهم في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل سوى سائر الشيات وقيل: كان معهن مائة ألف حصان أدهم وكان فرعون في الدهم وكان على مقدمة عسكر هامان، وكان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ألف ناشب ومائة ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف، معهم الأعمدة وسار بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة، ونظروا حين أشرقت الشمس فإذا هم بفرعون في جنوده فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى أين ما وعدتنا به فكيف نصنع هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله إليه أن كنه فضربه، وقال: انفلق يا أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط منهم طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر، حتى صار يبسا وخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق عن جوانبهم الماء كالجبال الضخم لا يرى بعضهم بعضا فخافوا، وقال: كل سبط منهم قد هلك إخواننا فأوحى الله إلى جبال الماء أن تشبكي فصار الماء كالشباك يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى:

[سورة البقرة (2): آية 50]

[سورة البقرة (2): آية 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ يعني من فرعون وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ. وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منفلقا، قال لقومه: انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوا، وقيل: قالوا له: إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق فتقدمه، وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها ولم يملك فرعون من أمره شيئا، واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل خلفهم يسوقهم وهو على فرس ويقول: الحقوا بأصحابكم حتى صاروا كلهم في البحر وخرج جبريل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربع فراسخ وهو بحر القلزم وهو على طرف من بحر فارس، وقيل: هو بحر من وراء مصر يقال له: إساف وكان إغراق آل فرعون بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ يعني إلى هلاكهم وقيل: إلى مصارعهم وقيل: إن البحر قذفهم حتى نظروا إليهم ووافق ذلك يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 51 الى 54] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ واعَدْنا من المواعدة وهو من الله الأمر ومن موسى القبول وذلك أن الله وعده بمجيء الميقات مُوسى اسم عبري معرب فموسى بالعبرية الماء والشجر سمي موسى لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين سينا فسمي موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي انقضاء أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، وقرن التاريخ بالليل دون النهار لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء. (ذكر القصة في ذلك) قال العلماء: لما أنجى الله بني إسرائيل من البحر وأغرق عدوهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه: إني ذاهب إلى ميقات ربي لآتيكم منه بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون، ووعدهم أربعين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما جاء الموعد أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام على فرس يقال له: فرس الحياة لا يصيب شيئا إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه فرآه السامري، وكان صائغا اسمه ميخا وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وقيل: كان من أهل ماحرا وقيل كرمان وقيل من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة وكان منافقا يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس ورأى موضع قدم الفرس يخضر في الحال فقال في نفسه إن لهذا لشأنا وقيل رأى جبريل حين دخل البحر قدام فرعون فقبض قبضة من تراب فرسه وألقى في روعه، أنه إذا ألقي في شيء حيي فلما ذهب موسى إلى الميقات، ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله عليه التوراة في الألواح وكانت الألواح من زبرجد، وقربه نجيا وأسمعه صرير الأقلام وقيل: إنه بقي أربعين ليلة لم يحدث فيها حدثا حتى هبط من الطور، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرا من القبط حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فلما هلك فرعون وقومه بقي ذلك الحلي في أيديهم فلما فصل موسى قال لهم السامري: إن الحلي الذي استعرتموه

من القبط غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفيرة وادفنوه فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه وقيل: إن هارون أمرهم بذلك فلما اجتمعت الحلي أخذها السامري وصاغها عجلا في ثلاثة أيام، ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب فرس جبريل عليه الصلاة والسلام فصار عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر وخار خورة وقيل: كان يخور ويمشي، فقال لهم السامري «هذا إلهكم وإله موسى فنسي» أي فتركه هاهنا وخرج يطلبه وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد، فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوما، ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى، ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف عليه ثمانية آلاف رجل يعبدونه، وقيل: عبده كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح فذلك قوله عز وجل: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ يعني إلها مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي وأنتم ضارون لأنفسكم بالمعصية حيث وضعتم العبادة في غير موضعها ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد عبادتكم لعجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا عفوي عنكم، وحسن صنيعي إليكم وأصل الشكر هو تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها والشكر على ثلاث أضرب: شكر القلب وهو تصور النعمة. وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة. وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، وقيل الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية وقيل: حقيقة الشكر العجز عن الشكر. وحكي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: إلهي أنعمت عليّ النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه الصلاة والسلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة وقال الفضيل: شكر كل نعمة أن لا يعصى بعدها بتلك النعمة وقيل شكر النعمة ذكرها وقيل: شكر النعمة أن لا يراها البتة ويرى المنعم وقيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال. قوله عز وجل: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة وَالْفُرْقانَ قيل: هو نعت الكتاب والواو زائدة. والمعنى الكتاب المفرق بين الحلال والحرام والكفر والإيمان وقيل: الفرقان هو النصر على الأعداء والواو أصلية لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني بالتوراة وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يعني الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ يعني إلها تعبدونه فكأنهم قالوا ما نصنع قال فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ أي ارجعوا إلى خالقكم بالتوبة قالوا كيف نتوب قال فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني ليقتل البريء منكم المجرم. فإن قلت التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح والعزم على أن لا يعود إليه وهذا مغاير للقتل. فكيف يجوز تفسير التوبة بالقتل. قلت: ليس المراد تفسير التوبة بالقتل بل بيان أن توبتهم لا تتم إلا بالقتل، وإنما كان كذلك لأن الله أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل. فإن قلت: التائب من الردة لا يقتل فكيف استحقوا القتل وقد تابوا من الردة. قلت ذلك مما تختلف فيه الشرائع فلعل شرع موسى كان يقتضي أن يقتل التائب من الردة إما عاما في حق الكل أو خاصا في حق الذين عبدوا العجل ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ يعني القتل وتحمل هذه الشدة لأن الموت لا بد منه فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله تعالى فجلسوا محتبين من الحبوة وهو ضم الساق إلى البطن بثوب، وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته، وأصلت القوم الخناجر والسيوف، وأقبلوا عليهم فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فيرق له، فما يمكنهم المضي لأمر الله تعالى فقالوا يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله تعالى عليهم سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا فكانوا يقتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون الله وبكيا وتضرّعا إليه وقال: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل،

[سورة البقرة (2): الآيات 55 إلى 57]

فتكشف عن ألوف من القتلى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان عدد القتلى سبعين ألفا فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فعلتم ما أمرتم به فتجاوز عنكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع بالمغفرة القابل التوبة الرَّحِيمُ بخلقه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 55 الى 57] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا وذلك أن الله عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا من خيارهم وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا وخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه فقالوا لموسى: اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا قال: أفعل فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله فدخل موسى في الغمام، وقال للقوم: ادنوا حتى دخلوا تحت الغمام وخروا سجدا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجه نور ساطع فلا يستطيع أحد أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاكم وأسمعهم الله تعالى: (إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وإنما قالوا: جهرة توكيد للرؤية لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ قيل: هي الموت وفيه ضعف لأن قوله وأنتم تنظرون يرده إذ لو كان المراد منها الموت لامتنع كونهم ناظرين إليها وقيل: إن الصاعقة هي سبب الموت واختلفوا في ذلك السبب فقيل: إن نارا نزلت من السماء فأحرقتهم. وقيل: جاءت صيحة من السماء وقيل: أرسل جموعا من الملائكة فسمعوا بحسهم فخروا صعقين وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي ينظر بعضكم إلى بعض كيف يأخذه الموت فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول إلهي ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد هلك خيارهم «لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا» فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله رجلا بعد رجل، بعد ما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أي أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي لتستوفوا بقية آجالكم وأرزاقكم ولو أنهم كانوا قد ماتوا لانقضاء آجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قوله عز وجل: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يعني في التيه يقيكم حر الشمس، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه شيء يسترهم ولا يستظلون به فشكوا إلى موسى فأرسل الله غماما أبيض رقيقا يسترهم من الشمس وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن قمر وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي في التيه الأكثرون على أن المن هو الترنجبين وقيل: هو شيء كالصمغ يقع على الشجر طعمه كالشهد. وقال وهب: هو الخبز الرقاق، وأصل المن هو ما يمن الله به من غير تعب (ق) عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكماة من المن وماؤها شفاء للعين» ومعنى الحديث أن الكمأة شيء أنبته الله من غير سعي أحد ولا مؤنة وهو بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وقوله: وماؤها شفاء للعين معناه أن يخلط مع الأدوية فينتفع به لا أنه يقطر ماؤها بحتا في العين وقيل: إن تقطيره في العين ينفع لكن لوجع مخصوص، وليس يوافق كل وجع العين وكان هذا المن ينزل على أشجارهم في كل ليلة من وقت السحر إلى طلوع الشمس، كالثلج لكل إنسان صاع فقالوا: يا موسى قد قتلنا هذا المن بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأرسل الله عليهم السلوى، وهو طائر يشبه السماني وقيل هو السماني بعينه فكان الرجل يأخذ ما يكفيه يوما

[سورة البقرة (2): الآيات 58 إلى 60]

وليلة، فإذا كان يوم الجمعة يأخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت شيء كُلُوا أي وقلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ أي حلالات ما رَزَقْناكُمْ أي ولا تدخروا لغد فخالفوا وادخروا فدود وفسد، فقطع الله عنهم ذلك (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر» قوله: لم يخنز اللحم لم ينتن ولم يتغير وَما ظَلَمُونا أي وما بخسوا حقنا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني بأخذهم أكثر مما حولهم فاستحقوا بذلك عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة ولا تعب في الدنيا ولا حساب في العقبى. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 58 الى 60] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ سميت قرية لاجتماع الناس فيها قال ابن عباس: هي أريحاء قرية الجبارين وقيل: كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم: العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون لأنه هو الذي فتح أريحاء بعد موت موسى لأن موسى مات في التيه، وقيل: هي بيت المقدس وعلى هذا فيكون القائل موسى. والمعنى إذا خرجتم من التيه بعد مضي الأربعين سنة، ادخلوا بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي موسعا عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ فمن قال: إن القرية أريحاء قال ادخلوا من أي باب كان من أبوابها وكان لها سبعة أبواب ومن قال إن القرية هي بيت المقدس قال هو باب حطة سُجَّداً منحنين خضعا متواضعين كالراكع ولم يرد به نفس السجود وَقُولُوا حِطَّةٌ أي حط عنا خطايانا أمروا بالاستغفار. وقال ابن عباس قولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب والخطايا على تقدير مسألتنا حطة نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ أي نسترها عليكم من الغفر وهو الستر لأن المغفرة تستر الذنوب وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني ثوابا فَبَدَّلَ أي فغير الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي قالوا قولا غير ما قيل لهم، وذلك أنهم بدلوا قول الحطة بالحنطة، وقالوا بلسانهم حطانا سمقاثا أي حنطة حمراء، وذلك استخفافا منهم بأمر الله تعالى. وقيل: طؤطئ لهم للباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا ذلك ودخلوا زحفا على أستاههم فخالفوا في الفعل كما خالفوا في القول، وبدلوه (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة» فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ يعني عذابا من السماء، قيل: أرسل الله عليهم طاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي يعصون ويخرجون عن أمر الله تعالى. قوله عز وجل: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي طلب السقيا لقومه، وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال مبينا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ وكانت العصا من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه الصلاة والسلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا واسمها عليق، وقيل: نبعة حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى الْحَجَرَ قال وهب: لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب أي حجر كان فيتفجر عيونا لكل سبط عين، وكانوا اثني عشر سبطا، وقيل: كان حجرا معينا بدليل أنه عرفه بالألف واللام قال ابن عباس: كان حجرا خفيفا مربعا قدر رأس الرجل وكان موسى عليه الصلاة والسلام يضعه في مخلاة، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه وقيل:

[سورة البقرة (2): آية 61]

كان للحجر أربعة وجوه في كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل كان من الرخام وقيل، كان من الكذان وهي الحجارة الليّنة وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه ليغتسل، ففر به فأتاه جبريل وقال إن الله يأمرك أن ترفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة فوضعه في مخلاة فلما سألوه السقيا قيل اضرب بعصاك الحجر فكان إذا احتاجوا إلى الماء، وضعه وضربه بعصاه فتتفجر منه عيون لكل سبط عين تسيل إليهم في جدول، وكان إذا أراد حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وييبس الحجر فذلك قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً يعني على عدد أسباط بني إسرائيل، والمعنى فضربه فانفجرت قال المفسرون: انفجرت وانبجست: بمعنى واحد وقيل انبجست أي عرقت وانفجرت أي سالت قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره كُلُوا وَاشْرَبُوا أي وقلنا لهم كلوا واشربوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ يعني المن والسلوى والماء فهذا كله من رزق الله كان يأتيهم بلا مشقة ولا كلفة وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العيث أشد الفساد في هذه الآية معجزة عظيمة لموسى عليه الصلاة والسلام، حيث انفجر من الحجر الصغير ما روى منه الجمع الكثير ومعجزة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أعظم لأنه انفجر الماء من بين إصبعيه فروى منه الجم الغفير، لأن انفجار الماء من الدم واللحم أعظم من انفجاره من الحجر. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وذلك أنهم سئموا من المن والسلوى وملوه، فاشتهوا عليه غيره لأن المواظبة على الطعام الواحد تكون سببا لنقصان الشهوة. فإن قلت: هما طعامان فما بالهم قالوا على طعام واحد. قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ولو كان على مائدة الرجل عدة ألوان يداوم عليها في كل يوم لا يبدلها كانت بمنزلة الطعام الواحد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي فاسأل لنا ربك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها قال ابن عباس: الفوم الخبز وقيل هو الحنطة، وقيل هو الثوم وَعَدَسِها وَبَصَلِها إنما طلبوا هذه الأنواع لأنها تعين على تقوية الشهوة أو لأنهم ملوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة قالَ يعني موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أي الذي هو أخس وأردأ وهو الذي طلبوه بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعني بالذي هو أشرف وأفضل وهو ما هم فيه اهْبِطُوا مِصْراً يعني إن أبيتم إلا ذلك، فأتوا مصرا من الأمصار، وقيل: بل هو مصر البلد الذي كانوا فيه ودخول التنوين عليه كدخوله على نوح ولوط، والقول هو الأول فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ يعني من نبات الأرض وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم وألزموا الذل والهوان وقيل: الذلة الجزية وزي اليهودية وفيه بعد لأنه لم تكن ضربت عليهم الجزية بعد وَالْمَسْكَنَةُ أي الفقر والفاقة وسمي الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود وإن كانوا أغنياء مياسير كأنهم فقراء فلا ترى أحدا من أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود وَباؤُ أي رجعوا ولا يقال باء إلا بشر بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وغضب الله إرادة الانتقام ممن عصاه ذلِكَ أي الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم التي في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ النبي معناه المخبر من أنبأ ينبئ وقيل هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهو المكان المرتفع بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير جرم. فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون

[سورة البقرة (2): الآيات 62 إلى 63]

إلا بغير حق فما فائدة ذكره. قلت: ذكره وصفا للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وهو ما أمر الله به وتارة بغير الحق وهو قتل العدوان فهو كقوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فالحق وصف للحكم، لا أن حكمه ينقسم إلى حق وجور. يروى أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار، وقامت إلى سوق بقلها في آخره وقتلوا زكريا ويحيى وشعياء وغيرهم من الأنبياء ذلِكَ بِما عَصَوْا أي ذلك القتل والكفر بما عصوا أمري وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 62 الى 63] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا يعني اليهود سموا بذلك لقولهم: «إنا هدنا إليك» أي ملنا إليك وقيل: هادوا أي تابوا عن عبادة العجل وقيل إنهم مالوا عن دين الإسلام ودين موسى عليه السلام وَالنَّصارى سموا بذلك لقول الحواريين نحن «أنصار الله» وقيل: لاعتزائهم إلى قرية يقال لها ناصرة وكان المسيح ينزلها وَالصَّابِئِينَ أصله من صبأ إذا خرج من دين إلى دين آخر سموا بذلك لخروجهم من الدين قال عمر وابن عباس: هم قوم من أهل الكتاب قال عمر ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل: هم قوم بين اليهود والمجوس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل: هم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم وقيل: هم قوم يقرون بالله ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كل دين شيئا، والأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب وذلك أنهم يعتقدون أن الله تعالى خلق هذا العالم وجعل الكواكب مدبرة له فيجب على البشر عبادتها وتعظيمها، وأنها هي التي تقرب إلى الله تعالى. ولما ذكر هذه الوظائف قال مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن قلت: كيف قال في أول الآية إن الذين آمنوا وقال في آخرها من آمن بالله فما فائدة التعميم أولا ثم التخصيص آخرا قلت: اختلف العلماء في حكم الآية فلهم فيه طريقان أحدهما أنه أراد أن الذين آمنوا على التحقيق ثم اختلفوا فيهم فقيل هم الذين آمنوا في زمن الفطرة وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وبحيرا الراهب وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، فمنهم من أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم وتابعه ومنهم من لم يدركه فكأنه تعالى قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلهم أجرهم عند ربهم، وقيل: هم المؤمنون من الأمم الماضية وقيل: هم المؤمنون من هذه الأمة والذين هادوا يعني الذين كانوا على دين موسى ولم يبدلوا والنصارى الذين كانوا على دين عيسى ولم يغيروا والصابئين يعني في زمن استقامة أمرهم من آمن منهم ومات وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان تكون بالوفاة. وأما الطريقة الثانية فقالوا إن المذكورين بالإيمان في أول الآية إنما هو على طريق المجاز دون الحقيقة وهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل: هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم واليهود والنصارى والصابئون، فكأنه تعالى قال هؤلاء المطلوبون كل من آمن منهم الإيمان الحقيقي صار مؤمنا عند الله، وقيل: إن المراد من قوله إن الذين آمنوا يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم في الحقيقة حين الماضي، ثبتوا على ذلك في المستقبل وهو المراد من قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي في إيمانه فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي جزاء أعمالهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي في الآخرة. قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي عهدكم يا معشر اليهود وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ يعني الجبل العظيم قال ابن عباس: أمر الله جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم وسبب ذلك أن الله تعالى لما أنزل التوراة على موسى، وأمرهم أن يعملوا بأحكامها فأبوا أن

[سورة البقرة (2): الآيات 64 إلى 67]

يقبلوها لما فيها من الآصار يعني الأثقال والتكاليف الشاقة أمر الله تعالى جبريل عليه السلام، أن يقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان قدره فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم قدر قامة كالظلة وقيل لهم: إن لم تقبلوا ما في التوراة وإلا أرسلت هذا الجبل عليكم خُذُوا أي قلنا لهم خذوا ما آتَيْناكُمْ أي ما أعطيناكم بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوا ما فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى وإلا رضت رؤوسكم بهذا الجبل فلما رأوا ذلك نازلا بهم قبلوا وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصار ذلك سنة في سجود اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، ويقولون: بهذا السجود رفع عنا العذاب. [سورة البقرة (2): الآيات 64 الى 67] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قبلتم التوراة فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي بالإمهال لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي المغبونين بذهاب الدنيا والعذاب في العقبى. قوله عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ أي جاوزوا الحد فِي السَّبْتِ يقال: سبت اليهود لأنهم يعظمونه ويقطعون فيه أعمالهم، وأصل السبت القطع. (ذكر الإشارة إلى القصة) قال العلماء: بالأخبار إنهم كانوا في زمن داود عليه الصلاة والسلام بقرية بأرض أيلة وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى لا يرى الماء من كثرتها. فإذا مضى السبت تفرقت الحيتان ولزمن قعر البحر فذلك قوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ثم إن الشيطان وسوس إليهم، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ولم تنهوا عن أخذها في غيره فعمد رجال منهم فحفروا حياضا كبارا حول البحر، وشرعوا منه إليها أنهارا فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج من البحر بالحيتان إلى تلك الحياض فيقعن فيها ولا يقدرن على الخروج منها لعمقها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها وقيل: إنهم كانوا ينصبون الشخوص والحبائل يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ولم تنزل بهم عقوبة فتجرؤوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وملحوا وأكلوا وباعوا واشتروا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاثة أصناف، وكانوا نحو سبعين ألفا صنف أمسك عن الصيد ونهى عن الاصطياد وصنف أمسك ولم ينه وصنف انهمكوا في الذنب وهتكوا الحرمة وكان الصنف الناهون اثني عشر ألفا، فلما أبى المجرمون قبول نصيحتهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار فغيروا على ذلك سنين، ثم لعنهم داود وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد، ولم يفتحوا الباب فلما أبطئوا تسوروا عليهم الجدار فإذا هم جميع قردة لهم أذناب وهم تتعاوون، وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاث ولم يتولدوا. قال الله عز وجل: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أمر تحويل وتكوين، ومعنى خاسئين مبعدين مطرودين وقيل فيه تقديم وتأخير معناه كونوا خاسئين قردة ولهذا لم يقل خاسئات فَجَعَلْناها يعني عقوبتهم بالمسخ نَكالًا أي عقوبة وعبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها قيل:

معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم وقيل: جعلنا عقوبة قرية أصحاب السبت عبرة لمن بين يديها من القرى التي كانت عامرة في الحال وما خلفها أي. ما يحدث بعدها من القرى ليتعظوا بذلك وقوله عز وجل: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لئلا يفعلوا مثل فعلهم. قوله عز وجل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً البقرة واحدة البقر وهي الأنثى وأصلها البقر وهو الشق سميت بذلك لأنها تشق الأرض للحراثة. (ذكر الإشارة إلى القصة في ذلك) قال علماء السير والأخبار: إنه كان في زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام. فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما أشكل عليم، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي نحن نسألك أمر القتيل، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يعلموا ما وجه الحكمة فيه قالَ يعني موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أي أمتنع بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى استوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة الله عز وجل، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات ذلك الرجل، وصارت العجلة في الغيضة عوانا وكانت تهرب من الناس، فلما كبر ذلك الطفل، وكان بارا بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثا وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوما: يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك. فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة والله لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه: إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق، وبعث الله ملكا ليرى خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه، وهو أعلم فقال له الملك: بكم هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى أمي فقال له الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي. ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له: ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له: استأمرت أمك فقال الفتى: نعم. إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على رضاها. فقال الملك: إني أعطيتك اثني عشر دينارا ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهبا والمسك الجلد فأمسكتها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها،

[سورة البقرة (2): الآيات 68 إلى 71]

فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلا من الله تعالى ورحمة فذلك قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 68 الى 71] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها قالَ يعني موسى إِنَّهُ يَقُولُ يعني الله عز وجل: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لم تلد، والبكر الفتية التي لم تلد عَوانٌ أي نصف بَيْنَ ذلِكَ أي بين السنين فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قال ابن عباس شديد الصفرة وقيل: لونها صاف وقيل الصفراء السوداء والأول أصح لأنه يقال أصفر فاقع وأسود حالك تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي يعجبهم حسنها وصفاء لونها قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سائمة أو عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أي التبس واشتبه أمرها علينا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى وصفها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وايم الله لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر» قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي ليست مذللة بالعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست بسنانية والسانية هي التي تستسقي الماء من البئر لسقي الأرض مُسَلَّمَةٌ أي بريئة من العيوب لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها غير لونها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالبيان التام الذي لا إشكال فيه فطلبوها فلم يجدوا بقرة بكمال وصفها، إلا بقرة ذلك الفتى فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ أي وما قاربوا أن يفعلوا ما أمروا به، قيل لغلاء ثمنها وقيل: لخوف الفضيحة وقيل: لعزة وجودها بهذه الأوصاف جميعا. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 74] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة بذلك لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها قال ابن عباس أي اختلفتم واختصمتم من الدرء وهو الدفع لأن المتخاصمين يدفع بعضهم بعضا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر ما كنتم من أمر القتيل لا محالة ولا يتركه مكتوما فَقُلْنا اضْرِبُوهُ يعني القتيل بِبَعْضِها أي ببعض البقرة قال ابن عباس ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن وقيل: ضربوه بلسانها وقيل: بعجب الذنب وقيل: بفخذها اليمين والأقرب أنهم كانوا مخيرين في ذلك البعض وإنهم إذا ضربوه بأي جزء منها أجزأ وحصل المقصود وإنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك البعض ما هو. وذلك يقتضي التخيير وفي الآية إضمار تقديره فضربوه فحيي وقام بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال قتلني فلان يعني ابن عمه ثم سقط ميتا مكانه. فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة كَذلِكَ أي كما أحيا الله عاميل صاحب البقرة

يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى يعني يوم القيامة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تمنعون أنفسكم عن المعاصي. فإن قلت كان حق هذه القصة أن يقدم ذكر القتيل أولا، ثم ذكر ذبح البقرة بعد ذلك، فما وجه ترتيب هذه القصة على هذا الترتيب؟ قلت: وجهه أن الله لما ذكر من قصص بني إسرائيل وما وجد من خياناتهم تقريعا لهم على ذلك وما وجد فيهم من الآيات العظيمة، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين في نفس الأمر، فالأولى لتقريعهم على ترك المسارعة إلى امتثال الأمر وما يتبعه والثانية لتقريعهم على قتل النفس المحرمة فلو قدم قصة القتيل على قصة الذبح لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع، فلهذا قدم ذكر الذبح أولا ثم عقبه بذكر القتل. فإن قلت ما فائدة ضرب القتيل ببعض البقرة والله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء من غير ضرب بشيء؟ قلت: الفائدة فيه أن تكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد لاحتمال أن يتوهم متوهم أن موسى عليه السلام، إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإذا أحيى القتيل، عند ما ضرب ببعض البقرة انتفت الشبهة، وعلم أن ذلك من عند الله تعالى وبأمره كان ذلك. فإن قلت: هلا أمروا بذبح غير البقرة؟ قلت: الكلام في غير البقرة لو أمروا به كالكلام في البقرة ثم في ذبح البقرة فوائد منها التقرب بالقربان على ما كانت العادة جارية عندهم، ومنها أن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ومنها تحمل المشقة العظيمة في تحصيلها بتلك الصفة ومنها حصول ذلك المال العظيم الذي أخذه صاحبها من ثمنها. (فصل: في حكم هذه المسألة في شريعة الإسلام إذا وقعت) وذلك أن: إذا وجد قتيل في موضع، ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به. واللوث أن يغلب على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ثم تفرقوا عن قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على الظن أنهم قتلوه فإن ادعى الولي على بعضهم حلف خمسين يمينا على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم فإذا حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه، إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن مال المدعى عليه ولا قود عليه في قول الأكثرين، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى وجوب القود وبه قال مالك وأحمد فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول المدعي عليه لأن الأصل براءة ذمته من القتل وهل يحلف يمينا واحدة أم خمسين يمينا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يحلف يمينا واحدة كما في سائر الدعاوى. والثاني: أنه يحلف خمسين يمينا تغليظا لأمر القتيل، وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي بل إذا وجد قتيل في محلة، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا، فإن حلفوا وإلا أخذ الدية من سكانها. والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث. ما روى عن سهل بن أبي خيثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه. ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كبر كبر وهو أحدث القوم سنا» فسكت، فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو قال صاحبكم قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار فعقله النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده وفي رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وذكر نحوه وزاد في رواية فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة أخرجاه في الصحيحين، ووجه الدليل من هذا الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث لأن اليمين أبدا تكون لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله مع يمينه والله أعلم. قوله عز وجل: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أي يبست وجفت وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه، وقيل معناه غلظت واسودت مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ظهور الدلالات التي جاء بها

[سورة البقرة (2): الآيات 75 إلى 76]

موسى، وقيل: هي إشارة إلى إحياء القتيل بعد ضربه ببعض البقرة فَهِيَ يعني القلوب في الغلظ والشدة كَالْحِجارَةِ أي كالشيء الصلب الذي لا تخلخل فيه أَوْ قيل: أو بمعنى بل وقيل بمعنى الواو أي وأَشَدُّ قَسْوَةً فإن قلت: لم شبه قلوبهم بالحجارة ولم يشبهها بالحديد وهو أشد من الحجارة وأصلب. قلت: لأن الحديد قابل للين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ليست قابلة للين فلا تلين قط. ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ قيل: أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى ليسقي الأسباط والتفجير التفتح بالسعة والكثرة وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ يعني العيون الصغار التي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله، وخشيتها عبارة عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد منها، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع. فإن قلت: الحجر جماد لا يعقل ولا يفهم فكيف يخشى؟ قلت: إن الله تعالى قادر على إفهام الحجر والجمادات فتعقل وتخشى بإلهامه لها، ومذهب أهل السنة إن الله تعالى أودع في الجمادات والحيوانات، علما وحكمة لا يقف عليهما غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية يدل عليه قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقال تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ فيجب على المرء الإيمان به وبكل علمه إلى الله تعالى (م) عن جابر بن سمرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن» عن علي قال كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب (خ) عن جابر بن عبد الله قال: «كان في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذع في قبلته يقوم إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته فلما وضع المنبر سمعنا للجذع حنينا مثل صوت العشار حتى نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليه، وفي رواية: صاحت النخلة صياح الصبي فنزل صلّى الله عليه وسلّم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي لا يسكت حتى استقرت. قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر» قال مجاهد: ما ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله وذلك يشهد لما قلنا وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد والمعنى أن الله بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم بها في الآخرة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 76] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَفَتَطْمَعُونَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو الداعي إلى الإيمان وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له، وقيل: هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لأنهم كانوا يدعونهم إلى الإيمان أيضا ومعنى أفتطمعون أفترجعون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أي يصدقكم اليهود بما تخبرونهم وقيل: معناه أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم لم يؤمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وكان هو السبب في خلاصهم من الذل وظهور المعجزات على يده وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ قيل المراد بالفريق: هم الذين كانوا مع موسى يوم الميقات، وهم الذين سمعوا كلام الله تعالى، وقيل المراد بهم: الذي كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الأقرب لأن الضمير راجع إليهم في أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، فعلى هذا يكون معنى يسمعون كلام الله يعني التوراة، لأنه يصح أن يقال لمن يسمع التوراة يسمع كلام الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يغيرون كلام الله، ويبدلونه فمن فسر الفريق الذين يسمعون كلام الله بالفريق الذين كانوا مع موسى عليه السلام استدل بقول ابن عباس رضي الله عنهما إنها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك لأنهم لما رجعوا إلى قومهم بعد ما سمعوا كلام الله أما الصادقون منهم فإنهم أدوا كما سمعوا وقالت طائفة

[سورة البقرة (2): الآيات 77 إلى 79]

منهم: سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلن تفعلوا، فكان هذا تحريفهم ومن فسر الفريق الذين كانوا يسمعون كلام الله بالذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال كان تحريفهم تبديلهم صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم في التوراة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي علموا صحة كلام الله ومراده فيه ثم مع ذلك خالفوه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي فساد مخالفته ويعلمون أيضا أنهم كاذبون. قوله عز وجل وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا نزلت هذه الآية في اليهود، الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن منافقي اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به وإن صاحبكم صادق وقوله حق وإنا نجد نعته وصفته في كتابنا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا ورؤساء اليهود لاموا منافقي اليهود على ذلك وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني قص الله عليكم في كتابكم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه حق وقوله صدق لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ أي ليخاصمكم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ويحتجوا عليكم بقولكم فيقولون لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم لم لا تتبعونه، وذلك أن اليهود قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في إتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم: آمنوا به فإنه نبي حق ثم لام بعضهم بعضا، وقالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم لتكون لهم الحجة عليكم عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في الدنيا والآخرة وقيل: هو قول يهود بني قريظة بعضهم لبعض. حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا إخوان القردة والخنازير. قالوا: من أخبر محمدا بهذا؟ هذا ما خرج إلا منكم وقيل: إن اليهود أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به من الجنايات. فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما قضى الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله أَفَلا تَعْقِلُونَ أي إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. [سورة البقرة (2): الآيات 77 الى 79] أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) أَوَلا يَعْلَمُونَ يعني اليهود أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي ما يخفون وَما يُعْلِنُونَ أي ما يبدون وما يظهرون. قوله عز وجل: وَمِنْهُمْ أي من اليهود أُمِّيُّونَ أي لا يحسنون الكتابة ولا القراءة جمع أمي وهو المنسوب إلى أمه كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ جمع أمنية وهي التلاوة، ومنه قول الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل أي تلا كتاب الله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه غير عارفين بمعاني كتاب الله تعالى وقيل الأماني الأحاديث الكاذبة المختلفة وهي الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم وأضافوها إلى الله تعالى وذلك من تغيير نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته وغير ذلك، وقيل: هو من التمني وهو قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً وغير ذلك مما تمنوه فعلى هذا يكون المعنى لا يعلمون الكتاب. لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي على يقين فَوَيْلٌ الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة وأصلها في اللغة العذاب والهلاك وقال ابن عباس: الويل شدة العذاب وعن أبي سعيد الخدري. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. الخريف سنة لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ تأكيد للكتابة لأنه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب فقال: بأيديهم لنفي هذه الشبهة والمراد بالذين يكتبون الكتاب اليهود وذلك أن رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم حين قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيروها، وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة فغيروا ذلك وكتبوا مكانه طوال أزرق العينين سبط الشعر

[سورة البقرة (2): الآيات 80 إلى 81]

فكانوا إذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني هذه الصفة التي كتبوها. فإذا نظروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى تلك وجدوه مخالفا لها فيكذبونه ويقولون إنه ليس به لِيَشْتَرُوا بِهِ أي بما كتبوا ثَمَناً قَلِيلًا أي المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 80 الى 81] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَقالُوا أي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا أي لن تصيبنا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب قال ابن عباس: قالت اليهود: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنا نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع عنا العذاب بعد سبعة أيام وقيل: إنهم عنوا بالأيام الأربعين يوما التي عبدوا فيها العجل وقيل: إن اليهود زعموا أن الله تعالى عتب عليهم في أمر فأقسم ليعذبنهم أربعين يوما تحلة القسم فقال الله ردا عليهم وتكذيبا لهم قُلْ أي يا محمد لليهود أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أي وعده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: لن تمسنا النار والمعنى بلى تمسكم النار أبدا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً السيئة اسم يتناول جميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة، والسيئة هنا الشرك في قول ابن عباس وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي أحدقت به من جميع جوانبه قال ابن عباس: هي الشرك يموت عليه صاحبه وقيل: أحاطت به أي أهلكته خطيئته وأحبطت ثواب طاعته فعلى مذهب أهل السنة يتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية، بالكفر والشرك لقوله تعالى: فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فإن الخلود في النار هو للكفار والمشركين. [سورة البقرة (2): الآيات 82 الى 84] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فإن قلت: العمل الصالح خارج عن اسم الإيمان لأنه تعالى قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارا. قلت: أجاب بعضهم بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله: آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان فإذا حسن أن يقول: والذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل: إن قوله آمنوا يفيد الماضي وعملوا الصالحات يفيد المستقبل فكأنه تعالى قال آمنوا أولا ثم داوموا عليه آخرا ويدخل فيه جميع الأعمال الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني في التوراة. والميثاق العهد الشديد لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي أمر الله تعالى بعبادته فيدخل تحته النهي عن عبادة غيره لأن الله تعالى هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي برا بهما ورحمة لهما ونزولا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه، ولا يؤذيهما البتة وإن كانا كافرين بل يجب عليه الإحسان إليهما ومن الإحسان إليهما أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين يأمرهما

[سورة البقرة (2): آية 85]

بالمعروف بالرفق، واللين من غير عنف وإنما عطف بر الوالدين على الأمر بعبادته، لأن شكر المنعم واجب، ولله على عبده أعظم النعم لأنه هو الذي خلقه وأوجده بعد العدم فيجب تقديم شكره على شكر، غيره ثم إن للوالدين على الولد نعمة عظيمة، لأنهما السبب في كون الولد ووجوده ثم إن لهما عليه حق التربية أيضا فيجب شكرهما ثانيا وَذِي الْقُرْبى أي القرابة لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان إليهم: إنما هو بواسطة الوالدين فلهذا حسن عطف القرابة على الوالدين وَالْيَتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه وهو طفل صغير، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم وتجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمور: لصغره ويتمه ولخلوه، عمن يقوم بمصلحته إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه، ولا يقوم بحوائجه وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وإنما تأخرت درجة المساكين عن اليتامى، لأنه قد يمكن أن ينتفع بنفسه وينفع غيره بالخدمة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب للحاضرين من اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فلهذا عدل من الغيبة إلى الحضور، والمعنى قولوا: حقا وصدقا في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموها قاله ابن عباس. الوجه الثاني إن المخاطبين به هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، وأخذ عليهم الميثاق وإنما عدل من الغيبة إلى الحضور على طريق الالتفات كقوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ وقيل: فيه حذف تقديره وقلنا لهم: في الميثاق وقولوا: للناس حسنا ومعناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقيل هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ولما أمرهم الله تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به أخبر عنهم أنهم ما وفوا بذلك بقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن العهد إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعني من الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه فإنهم وفوا بالعهد وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي كإعراض آبائكم. قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ قيل: هو خطاب لمن كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود وقيل: هو خطاب لآبائهم وفيه تقريع لهم لا تَسْفِكُونَ أي لا تريقون دِماءَكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم بعض وقيل: معناه لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم فكأنكم أنتم سفكتم دماء أنفسكم وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره، وقيل: لا تفعلوا شيئا فتخرجوا بسببه من دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بهذا العهد أنه حق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنتم يا معشر اليهود اليوم تشهدون على ذلك. [سورة البقرة (2): آية 85] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني يا هؤلاء اليهود تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي يخرج بعضكم بعضا من ديارهم تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى جمع أسير تُفادُوهُمْ أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء، وقرئ تفادوهم أي تبادلوهم وهو مفاداة الأسير بالأسير، ومعنى الآية أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا. ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة من بني إسرائيل وجدتموه فاشتروه بما قام من ثمنه، وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حروب فكانت بنو النضير تقاتل مع حلفائهم وبنو قريظة تقاتل مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين أخرجوهم من ديارهم وخربوها. وكان إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا يفدونه به فعيرتهم العرب. وقالوا: كيف

[سورة البقرة (2): الآيات 86 إلى 88]

تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا: إنا أمرنا أن نفديهم فقالوا: كيف تقاتلونهم؟ فقالوا: إنا نستحي أن تذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى فقال: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وإن يأتوكم أسارى تفدوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهر مع أعدائهم وفك أسراهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء قال الله عز وجل: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ معناه إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلونهم بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضا فذمهم على مناقضة أفعالهم لا على الفداء لأنهم أتوا ببعض ما وجب عليهم وتركوا البعض فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ يعني يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي عذاب وهوان فكان خزي بني قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات من أرض الشام وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ يعني عذاب النار وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد عظيم. [سورة البقرة (2): الآيات 86 الى 88] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي فلا يهون عليهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا يمنعون من عذاب الله تعالى. قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة جملة واحدة وَقَفَّيْنا أي وأتبعنا من التقفية وهو أن يقفو أثر الآخر مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يعني رسولا بعد رسول وكانت الرسل بعد موسى إلى زمن عيسى عليهم السلام متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة: قيل إن الرسل بعد موسى يوشع بن نون وأشمويل وداود وسليمان وأرمياء وحزقيل وإلياس ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فجاءهم بشريعة جديدة، وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله تعالى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الدلالات الواضحات وهي المعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل هي الإنجيل. واسم عيسى بالسريانية أيشرع ومريم بمعنى الخادم وقيل هو اسم علم لها كزيد من الرجال وَأَيَّدْناهُ أي وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل: أراد بالروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى وأضاف روح عيسى إليه تشريفا وتكريما وتخصيصا له كما تقول عبد الله وأمة الله وبيت الله وناقة الله وقال ابن عباس هو اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى وقيل هو الإنجيل لأنه حياة القلوب سماه روحا كما سمى القرآن روحا وقيل هو جبريل ووصف بالقدس وهو الطهارة لأنه لم يفترق ذنبا قط وقيل القدس هو الله تعالى والروح جبريل كما تقول عبد الله، سمي جبريل روحا للطافته لأنه روحاني خلق من النور وقيل سمى روحا لمكانه من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وحمل روح القدس هنا على جبريل أولى لأنه تعالى قال وأيدناه أي قويناه بجبريل وذلك أنه أمر أن يكون مع عيسى ويسير معه حيث سار فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء فلما سمعت اليهود بذكر عيسى قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما يقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا قال الله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يعني يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى تقبل أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ أي تعظمتم عن الإيمان به

[سورة البقرة (2): الآيات 89 إلى 90]

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ يعني مثل عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوه، وذلك أن اليهود كانوا إذا جاءهم رسول بما لا يهوون كذبوه فإن تهيأ لهم قتله قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الدنيا وطلب الرياسة وَقالُوا يعني اليهود قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة فلا يعي ولا يفقه. قال ابن عباس غلف بضم اللام جمع غلاف والمعنى أن قلوبنا أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك وقيل أوعية من الوعي لا تسمع حديثا إلا وعته إلا حديثك فإنها لا تعيه ولا تعقله ولو كان خيرا لفهمته ووعته قال الله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي طردهم وأبعدهم من كل خير. وسبب كفرهم أنهم اعترفوا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم إنهم أنكروه وجحدوه فلهذا لعنهم الله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي لم يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين كان أكثر منهم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 89 الى 90] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني التوراة وهذا التصديق في صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نبوته وصفته ثابتة في التوراة وَكانُوا يعني اليهود مِنْ قَبْلُ أي من قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُونَ أي يستنصرون به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي العرب وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا أي الذي عرفوه يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم عرفوا نعته وصفته وأنه من غير بني إسرائيل كَفَرُوا بِهِ أي جحدوه وأنكروه بغيا وحسدا فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي بئس شيء اشتروا به أنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق واشتروا بمعنى باعوا والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن بَغْياً أي حسدا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني الكتاب والنبوة عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم فَباؤُ أي فرجعوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي مع غضب قال ابن عباس الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها والثاني بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل والثاني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. وقيل: الأول بعبادتهم العجل والثاني: بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَلِلْكافِرِينَ يعني الجاحدين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من الناس كلهم عَذابٌ مُهِينٌ أي يهانون فيه. [سورة البقرة (2): الآيات 91 الى 93] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني بالقرآن وقيل: بكل ما أنزل الله قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني التوراة وما أنزل على أنبيائهم وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي بما سواه من الكتب وقيل: بما بعده يعني الإنجيل

[سورة البقرة (2): الآيات 94 إلى 96]

والقرآن وَهُوَ الْحَقُّ يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ يعني التوراة قُلْ يا محمد فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنما أضاف القتل للمخاطبين من اليهود، وإن كان سلفهم قتلوا لأنهم رضوا بفعلهم قيل: إذا عملت المعصية في الأرض فمن كرهها وأنكرها بريء منها، ومن رضيها كان من أهلها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء. قوله عز وجل وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ إنما كرره تبكيتا لهم وتأكيدا للحجة عليهم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي استجيبوا وأطيعوا أي فيما أمرتم به قالُوا سَمِعْنا يعني قولك وَعَصَيْنا يعني أمرك وقيل إنهم لم يقولوا بألسنتهم، ولكن لما سمعوه وتلقوه تلقوه بالعصيان فنسب ذلك إليهم وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أي تداخل حبه في قلوبهم والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ في الثوب. وقيل: إن موسى أمر أن يبرد العجل ويذرى في النهر وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل، ظهر سحالة الذهب على شاربه قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بأن تعبدوا العجل والمعنى بئس الإيمان إيمان يأمر بعبادة العجل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بزعمكم وذلك أنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم الله تعالى بذلك في قوله تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 96] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة منها قولهم: لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه فكذبهم الله وألزمهم الحجة فقال: قل يا محمد لليهود إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة خالصة لكم دون الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فاطلبوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه وأنها له حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلّا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم ودعواكم، روي ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات» قال الله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أي لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني من الأعمال السيئة، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون من يده وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيه تخويف وتهديد لهم، وإنما خصهم بالظلم لأنه أعم من الكفر لأن كل كافر ظالم وليس كلّ ظالم كافرا فلهذا كان أعم وكانوا أولى به وَلَتَجِدَنَّهُمْ اللام للقسم والنون للتوكيد تقديره والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي حياة متطاولة، والحرص أشد الطلب وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل هو متصل بما قبله ومعطوف عليه والمعنى وأحرص من الذين أشركوا. فإن قلت: الذين أشركوا قد دخلوا تحت الناس في قوله أحرص الناس فلم أفردهم بالذكر؟. قلت: أفردهم بالذكر لشدّة حرصهم وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون إلّا الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالبعث والجزاء كان حقيقا بالتوبيخ العظيم وقيل: إن الواو واو استئناف تقديره ومن الذين أشركوا أناس يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وهم المجوس سموا بذلك لأنهم يقولون: بالنور والظلمة يود أن يتمنى أحدهم لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أي تعمير ألف سنة وإنما خص الألف لأنها نهاية العقود

[سورة البقرة (2): آية 97]

ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون: زه هزار سال أي عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان فهذه تحيتهم. والمعنى أن اليهود أحرص من المجوس الذين يقولون ذلك وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ أي بمباعده مِنَ الْعَذابِ أي النار أَنْ يُعَمَّرَ أي لو عمر طول عمره لا ينقذه من العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي لا يخفى عليه خافية من أحوالهم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 97] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال ابن عباس سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن صوريا حبر من أحبار اليهود قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل قال ذلك عدونا ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل ينزل بالعذاب والشدّة والخسف، وإنه عادانا مرارا وأشد ذلك علينا أن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بختنصر فلما كان زمنه بعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا، فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال: إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فعلى أي حق تقتله فلما كبر ذلك الغلام وقوى غزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدوا فأنزل الله هذه الآية وقيل: قالوا إن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فاتخذناه عدوا. وقيل إن عمر بن الخطاب كان له أرض بأعلى المدينة وكان ممره إليها على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يوما ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك وإنا لنطمع فيك فقال عمر والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم، لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال جبريل قالوا ذلك عدونا يطلع محمدا على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدة، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلامة، فقال لهم: تعرفون جبريل وتنكرون محمدا صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله تعالى قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدو لجبريل فقال عمر أشهد أن من كان عدوا لأحدهما كان عدوا للآخر. ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله ثم رجع عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيات وقال: لقد وافقك ربك يا عمر، فقال عمر: والله لقد رأيتني بعد ذلك في ديني أصلب من الحجر. والأقرب أن سبب هذه العداوة كون جبريل كان ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي لأن قوله: فإنه نزله على قلبك مشعر بذلك وقوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ يعني جبريل نزل بالقرآن كناية عن غير مذكور عَلى قَلْبِكَ يا محمد وإنما خص القلب بالذكر لأنه محل الحفظ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره مُصَدِّقاً أي موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبله من الكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي في القرآن هداية للمؤمنين إلى الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الثواب وبشرى لهم بثوابها إذا أتوا بها. [سورة البقرة (2): الآيات 98 الى 100] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ لما بين في الآية الأولى أن من كان عدوا لجبريل لأجل، أنه نزل بالقرآن على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وجب أن يكون عدوا لله. لأن الله تعالى هو الذي نزله على محمد بين في هذه الآية أن كل من كان عدوا لأحد هؤلاء، فإنه عدو لجميعهم وبين أن الله عدوه بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ فأما عداوتهم لله فإنها لا تضره ولا تؤثر وعداوته لهم تؤديهم إلى العذاب الدائم، الذي لا ضرر أعظم

[سورة البقرة (2): الآيات 102 إلى 101]

منه، وقيل: المراد من عداوتهم لله وعداوتهم لأوليائه وأهل طاعته فهو كقوله «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله» أي يحاربون أولياء الله وأهل طاعته. وقوله وملائكته ورسله، يعني أن من عادى واحدا منهم فقد عادى جميعهم ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بجميعهم وجبريل وميكائيل إنما خصهما بالذكر وإن كانا داخلين في جملة الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما وعلو منزلتهما وقدم جبريل على ميكائيل لفضله عليه لأن جبريل ينزل بالوحي الذي هو غذاء الأرواح وميكائيل ينزل بالمطر الذي هو سبب غذاء الأبدان، وجبريل وميكائيل اسمان أعجميان. ومعناهما: عبد الله وعبد الله لأن جبر وميك بالسريانية هو العبد وإيل هو الله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى بينات واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام وَما يَكْفُرُ بِها أي وما يجحد بهذه الآيات إِلَّا الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعتنا وما أمروا به أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخذ عليهم من العهود في محمد صلّى الله عليه وسلّم وأن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهد فأنزل الله هذه الآية أو كلما استفهام إنكار عاهدوا عهدا هو قولهم: إنه قد أظلّ زمان نبي مبعوث وإنه في كتابنا وقيل إنهم عاهدوا الله عهودا كثيرة ثم نقضوها نَبَذَهُ أي طرح العهد ونقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني اليهود بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني كفر فريق منهم بنقض العهد وكفر فريق منهم بالجحد للحق. [سورة البقرة (2): الآيات 102 الى 101] وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني مصدق بصحة التوراة ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام وقيل: إن التوراة بشرت بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم كان مجرد مبعثه مصدقا للتوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ قيل: أراد بالكتاب القرآن. وقيل: التوراة وهو الأقرب لأن النبذ لا يكون إلّا بعد التمسك، ولم يتمسكوا بالقرآن. أما نبذهم التوراة فإنهم كانوا يقرءونها ولا يعملون بها. وقيل: إنهم أدرجوها في الحرير وحلوها بالذهب ولم يعملوا ما فيها كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنهم نبذوا كتاب الله ورفضوه عن علم به ومعرفة، وإنما حملهم على ذلك عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم علماء اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتموا أمره وكان أولئك النفر قليلا. قوله عز وجل: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ يعني اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين، ومعنى تتلو تقرأ من التلاوة وقيل معناه تفتري وتكذب عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وهو قولهم: إن سليمان ملك الناس بالسحر وقيل: على ملك سليمان أي على عهده وزمانه. وقصة ذلك أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف: هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك وكتبوه ودفنوه تحت كرسيه وذلك حين نزع الله عنه الملك ولم يشعر بذلك وقيل: إن بني إسرائيل اشتغلوا بتعليم السحر في زمانه فمنعهم سليمان من ذلك وأخذ كتبهم ودفنها تحت سريره، فلما مات استخرجها الشياطين. وقالوا للناس إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما صلحاء بني إسرائيل وعلماؤهم فأنكروا ذلك.

وقالوا: معاذ الله أن يكون هذا العلم من علم سليمان وأما السفلة منهم. فقالوا: هذا هو علم سليمان وأقبلوا على تعليمه وتركوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان. فلم تزل هذه حالهم إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنزل عليه براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعني بالسحر ولم يعمل به، وفيه تنزيه سليمان عن السحر، وذلك أن اليهود أنكروا نبوة سليمان، وقالوا: إنما حصل له هذا الملك وسخرت الجن والإنس له بسبب السحر وقيل: إن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فبرأه الله من ذلك، وقيل إن بعض أحبار اليهود قال ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان إلّا ساحرا فأنزل الله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعني أن سليمان كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا ثم بين الله تعالى أن الذي برأه منه لا حق بغيره فقال وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يعني أن الذين اتخذوا السحر لأنفسهم هم الذين كفروا ثم بين سبب كفرهم فقال تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعني ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر. وقيل: يحتمل أن يكون يعلمون يعني اليهود الذين عنوا بقوله: واتبعوا. وسمي السحر سحرا لخفاء سببه، فلا يفعل إلّا في خفية وقيل: معنى السحر الإزالة وصرف الشيء عن وجهه تقول العرب ما سحرك عن كذا أي ما صرفك عنه فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه هذا أصله من حيث اللغة، وأما حقيقته فقد قيل: إنه عبارة عن التمويه والتخييل، ومذهب أهل السنة أن له وجودا أو حقيقة والعمل به كفر وذلك إذا اعتقد أن الكواكب هي المؤثرة في قلب الأعيان وروي عن الشافعي أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به وقيل إن السحر يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الإنسان على صورة الحمار، والحمار على صورة الكلب وقد يطير الساحر في الهواء، وهذا القول ضعيف عند أهل السنة لأنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق الفاعل لهذه الأشياء عند عمل الساحر لذلك إلّا أن الساحر هو الفاعل لها المؤثر فيها والأصح، أن السحر يخيل ويؤثر في الأبدان بالأمراض والجنون والموت، ويدل على ذلك أن للكلام تأثيرا في الطباع فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحم، وقد مات قوم بكلام سمعوه فالسحر بمنزلة العلل في الأبدان وأما حكمه فإنه من الكبائر التي نهى عنها، ويحرم تعلمه لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق، وأكل مال اليتيم والزنا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» أخرجاه في الصحيحين. فعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السحر من الكبائر وثناه بالشرك وأمرنا باجتنابه، وقوله: الموبقات يعني المهلكات والسحر على قسمين: أحدهما، يكفر به صاحبه وهو أن يعتقد أن القدرة لنفسه في ذلك، وهو المؤثر أو يعتقد أن الكواكب هي المؤثرة الفعالة فإذا انتهى به السحر إلى هذه الغاية صار كافرا بالله تعالى، ويجب قتله لما روي عن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» أخرجه الترمذي. والقسم الثاني، من السحر وهو التخييل الذي يشاكل النيرنجيات والشعبذة، ولا يعتقد صاحبه لنفسه فيه قدرة ولا أن الكواكب هي المؤثرة ويعتقد أن القدرة لله تعالى، وأنه هو المؤثر فهذا القدر لا يكفر به صاحبه ولكنه معصية وهو من الكبائر، ويحرم فعله فإن قتل بسحره قتل قصاصا لما روي عن مالك أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قتلت جارية لها سحرتها وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت أخرجه في الموطأ. قوله عز وجل: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين والإنزال هنا بمعنى الإلهام والتعليم أي ما ألهما وعلما وقرئ في الشاذ الملكين بكسر اللام. قال: هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقيل: علجان ووجهه أن الملائكة لا يعلمون السحر والقراءة المشهورة بفتح اللام. فإن قلت: كيف يجوز أن يضاف إلى الله تعالى إنزال ذلك على الملائكة وكيف يجوز للملائكة تعليم السحر؟ قلت: قال ابن جرير الطبري إن الله تعالى عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان

للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده من بني آدم عنه فغير منكر أن يكون الله تعالى علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهم يقولان: لمن جاء يتعلم ذلك منهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق بين المرء وزوجه فيتمحض المؤمن بتركه التعليم منهما، ويجري للكافر بتعلمه الكفر والسحر منهما ويكون الملكان في تعليمهما ما علما من ذلك مطيعين لله تعالى إذ كان عن إذن الله تعالى، لهما بتعليم ذلك وغير ضارهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ما بعد نهيهما إياه عنه بقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر، إذ كانا قد أديا ما أمرا به. وقال غيره إنهما لا يتعمدان ذلك بل يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه فالشقي من ترك نصحهما، وتعلم السحر من وصفهما، والسعيد من قبل نصحهما وترك تعلم السحر منهما. وقيل: إن الله تعالى امتحن الناس بهما في ذلك الزمان فالشقي من تعلم السحر منهما فيكفر به والسعيد من تركه فيبقى على إيمانه، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بنهر طالوت بقوله: «فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني» بِبابِلَ قيل: هي بابل العراق بأرض الكوفة سميت بذلك لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود. وقيل: إنها بابل نهاوند والأول أصح وأشهر هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان سريانيان. وقصة الآية على ما ذكره ابن عباس وغيره. قالوا: إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم. وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم وهم يعصونك فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم وكان اسم هاروت عزا وماروت عزايا، فغير اسمهما لما قارفا الذنب وركب الله فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك، والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. وقيل: بل افتتنا في أول يوم وذلك أنه اختصم إليهما امرأة يقال لها: الزهرة وكانت من أجمل أهل فارس. وقيل: كانت ملكة فلما رأياها أخذت بقلوبهما فقال أحدهما لصاحبه هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي. قال: نعم فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلّا أن تعبدا هذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث، ومعها قدح خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فشربا فلما انتشيا وقعا بالمرأة فزنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه خوف الفضيحة. وقيل: إنهما سجدا للصنم. وقيل: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها. فقال: أحدهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي؟ قال: نعم قال هل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب. فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها فقالت: لا إلّا أن يقضيا لي على زوجي فقضيا. ثم سألاها نفسها فقالت: لا إلّا أن تقتلاه فقال أحدهما: لصاحبه أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة؟ فقتلاه ثم سألاها نفسها فقالت: لا إلّا أن لي صنما أعبده إن أنتما صليتما معي عنده فعلت. فقال أحدهما: لصاحبه مثل القول الأول فرد عليه مثله فصليا معها عنده فمسخت شهابا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قالت لهم لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا: اسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما بمدركي حتى تعلماني إياه فقال أحدهما للآخر: علمها. فقال: إني أخاف الله فقال الآخر فأين رحمة الله فعلمها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء

فمسخها الله كوكبا، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر آخرون ذلك وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السيارة السبعة التي أقسم الله بها فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ والتي فتنت هاروت وماروت كانت امرأة تسمى الزهرة لجمالها وحسنها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا. قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام وأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل. وقالا له: رأينا يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختاروا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذبان قيل: إنهما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة. وقيل: إنهما منكوسان يضربان بسياط الحديد. وقيل: إن رجلا قصدهما ليتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقة عيونهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله فقال: لا إله إلّا الله فلما سمعا كلامه قالا: لا إله إلّا الله من أنت؟ قال: رجل من الناس. فقالا: من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالا؟ أو قد بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: نعم فقال: الحمد لله وأظهر الاستبشار فقال الرجل مم استبشاركما؟ قالا: إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا. (فصل: في القول بعصمة الملائكة) أجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلا، واتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة حكم النبيين، سواء في العصمة في باب البلاغ عن الله عز وجل وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء فكذلك الملائكة وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم، كالأنبياء مع أممهم، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة فذهب طائفة من المحققين. وجميع المعتزلة إلى عصمة جميع الملائكة عن جميع الذنوب والمعاصي، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية، وذهب طائفة إلى أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها قصة هاروت وماروت عن علي وما نقله أهل الأخبار والسير. ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة. عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد. وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه شيء وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآيات، افتراء اليهود على سليمان أولا، ثم عطف على ذلك قصة هاروت وماروت ثانيا، قالوا: ومعنى الآية وما كفر سليمان يعني بالسحر الذي افتعله عليه الشياطين، واتبعتهم في ذلك اليهود فأخبر عن افترائهم وكذبهم، وذكروا أيضا في الجواب عن هذه القصة وأنها باطلة وجوها: الأول: إن في القصة أن الله تعالى قال: للملائكة لو ابتليتم بما ابتليت به بنو آدم لعصيتموني، قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك وفيه رد على الله تعالى وذلك كفر وقد ثبت أنهم كانوا معصومين قبل ذلك فلا يقع هذا منهم. الوجه الثاني: أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد لأن الله تعالى لا يخير من أشرك، وإن كان قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما. الوجه الثالث أن المرأة لما فجرت فكيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وصارت كوكبا وعظم الله قدرها بحيث أقسم بها في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فبان بهذه الوجوه ركة هذه القصة، والله أعلم بصحة ذلك وسقمه. والأولى تنزيه الملائكة عن كل ما لا يليق بمنصبهم وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا يعني وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه أولا ويقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء ومحنة فَلا تَكْفُرْ أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، قيل: يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات فإن أبى قبول نصحهما وصمم على التعليم يقولان له: ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا فعل ذلك خرج منه نور ساطع في السماء فذلك الإيمان

[سورة البقرة (2): الآيات 103 إلى 104]

والمعرفة. وينزل شيء أسود مثل الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما يعني من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أي علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين، كالتمويه والتخييل والنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده البغضاء والنشوز، والخلاف بين الزوجين ابتلاء من الله تعالى لا أن السحر له تأثير في نفسه بدليل قوله: وَما هُمْ يعني السحرة بِضارِّينَ بِهِ أي بالسحر مِنْ أَحَدٍ أي أحدا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بعلمه وقضائه وتكوينه فالساحر يسحر والله تعالى يقدر ويكون ذلك بقضائه تعالى وقدرته ومشيئته وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ يعني السحر لأنهم يقصدون به الشر وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أي اختار السحر ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعني ما له نصيب في الجنة وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي باعوا حط أنفسهم حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فإن قلت: كيف أثبت الله لهم العلم أولا في قوله: ولقد علموا على التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم آخر في قوله لو كانوا يعلمون. قلت: قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق ثم مع هذا العلم خالفوا واشتغلوا بالسحر وتركوا العمل بكتاب الله تعالى وما جاءت به الرسل عنادا منهم وبغيا، وذلك على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك منهم من العقاب فكأنهم حين لم يعملوا بعلمهم كانوا منسلخين منه. [سورة البقرة (2): الآيات 103 الى 104] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني اليهود آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وَاتَّقَوْا يعني اليهودية والسحر، وما يؤثمهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي لكان ثواب الله إياهم خَيْرٌ لهم يعني هذا الثواب لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني ذلك. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله من المراعاة أي ارعنا سمعك وفرغه لكلامنا وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا، بلغة اليهود ومعناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل: من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا: راعنا يعني أحمق فلما سمعت اليهود هذه الكلمة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن فكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضربن عنقه فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا أي لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا. وقيل معناه انتظرنا وتأن بنا وفهمنا وَاسْمَعُوا أي ما تؤمرون به وأطيعوا نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم راعنا لئلا يتطرق أحد إلى شتمه وأمرهم بتوقيره وتعظيمه وأن يتخيروا لخطابه صلّى الله عليه وسلّم من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أدقها، وإن سألوه بتبجيل وتعظيم ولين لا يخاطبوه بما يسر اليهود وَلِلْكافِرِينَ يعني اليهود عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم. [سورة البقرة (2): الآيات 105 الى 106] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) ما يَوَدُّ أي ما يحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود وَلَا الْمُشْرِكِينَ يعني عبدة الأوثان لأن الكفر اسم جنس تحته نوعان أهل الكتاب وهم الذين بدلوا كتابهم وكذبوا الرسل وعبدة الأوثان وهم من عبدوا غير الله أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني ما أنزل الله عز وجل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الوحي والنبوة، وإنما

كرهت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين، وذلك أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ولوددنا لو كان خيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يعني أنه تعالى يختص بنبوته ورسالته من يشاء من عباده، ويتفضل بالإيمان والهداية على من أحب من خلقه رحمة منه لهم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه منه ابتداء وتفضلا عليهم من غير استحقاق أحد منهم لذلك بل له الفضل والمنة على خلقه. قوله عز وجل: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية. وسبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول: اليوم قولا ويرجع عنه غدا ما يقول: إلا من تلقاء نفسه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ فأنزل ما ننسخ من آية فبين بهذه الآية وجه الحكمة في النسخ وأنه من عنده لا من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأصل النسخ في اللغة يكون بمعنى النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب، وهو أن ينقل من كتاب إلى كتاب آخر كذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا المعنى يكون القرآن كله منسوخا، وذلك أنه نسخ من اللوح المحفوظ ونزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ويكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة وهو إزالة شيء بشيء يعقبه كنسخ الشمس الظل، والشيب الشباب فعلى هذا المعنى يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا، وهو المراد من حكم هذه الآية وهو إزالة الحكم بحكم يعقبه. (فصل في حكم النسخ) هو في اصطلاح العلماء، عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والنسخ جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود، فإن منهم من ينكره عقلا لكنه منعه سمعا، وشذت طائفة قليلة من المسلمين فأنكرت النسخ احتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ، ووقوعه بأن الدلائل قد دلت على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته لا تصح، إلا مع القول، بالنسخ وهو نسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ. ولنا على اليهود إلزامات: منها أن الله تعالى حرم عليهم العمل في يوم السبت، ولم يحرمه على من كان قبلهم. ومنها أنه قد جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الفلك: إني جعلت كل دابة مأكولا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم. ثم إنه تعالى حرم على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات. ومنها إن آدم عليه الصلاة والسلام كان يزوج الأخ للأخت وقد حرمه على من بعده وعلى موسى عليه الصلاة والسلام فثبت بهذا جواز النسخ، وحيث ثبت جواز النسخ فقد اختلفوا فيه على وجوه: أحدها أن القرآن نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما. الوجه الثاني المراد من النسخ هو نسخ القرآن ونقله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا الوجه الثالث، وهو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن المراد من النسخ هو رفع حكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده وهو المراد بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها لأن الآية إذ أطلقت، فالمراد به آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة، واستدل بهذه الآية وهو أنه تعالى قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وذلك يفيد أنه تعالى هو الآتي والمؤتي به هو من جنس القرآن، وما كان من جنس القرآن فهو قرآن. وقوله: نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة ولأن السنة لا تكون خيرا من القرآن ولا مثله. واحتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا وصية لوارث» أجاب الشافعي رضي الله عنه: بأن هذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من

[سورة البقرة (2): الآيات 107 إلى 108]

الوصية، وتقرير هذا وبسطه معروف في أصول الفقه. ثم النسخ في القرآن على وجوه: أحدها ما رفع حكمه وتلاوته كما روى عن أبي إمامة بن سهل: أن قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرّحمن الرّحيم، فغدوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تلك السورة رفعت بتلاوتها وحكمها» أخرجه البغوي بغير سند. وقيل: إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فرفع بعضها تلاوة وحكما. الوجه الثاني، ما رفع تلاوته وبقي حكمه مثل آية الرجم روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ووعيناها وعقلناها ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. أخرجه مسلم وللبخاري نحوه. والوجه الثالث ما رفع حكمه وثبت خطه وتلاوته وهو كثير في القرآن، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي وبالسنة عند غيره وآية عدة الوفاة بالحول، نسخت بآية أربعة أشهر وعشرا وآية القتال وهي قوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الآية نسخت بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الآية ومثل هذا كثير في القرآن. وأما معنى الآية فقوله: ما ننسخ من آية أي نرفعها أو نرفع حكمها أو ننسها قرئ بضم النون وكسر السين، ومعناها نثبتها على قلبك وقال ابن عباس: نتركها لا ننسخها. وقيل: معناه نأمر بتركها فعلى هذا يكون النسخ الأول رفع الحكم، وإقامة غيره مقامه والإنساء نسخ من غير إقامة غيره مقامه وقرئ ننسأها بفتح النون والسين وبالهمزة ومعناها: نؤخرها فلا ننزلها أو نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كآية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة، والحكم قال سعيد بن المسيب وعطاء: ما ننسخ من آية فهو ما نزل من القرآن جعلاه من نسخت الكتاب إذا نقلته إلى كتاب آخر وننسأها أن نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجوركم وليس معناه أن آية خير من آية لأن كلام الله تعالى كله واحد أَوْ مِثْلِها أي في المنفعة والثواب فما نسخ إلى الأيسر كان أسهل في العمل كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فكان خيرا لهم في عاجلهم لسقوط التعب والمشقة عليهم، وما نسخ إلى الأشق كان أكمل في الثواب كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة فنسخ ذلك، وفرض صيام شهر رمضان فكان صوم شهر كامل في كل سنة أثقل على الأبدان، وأشق من صيام أيام معدودات فكان ثوابه أكمل وأكثر. أما المثل فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس، وصرفه إلى المسجد الحرام واستواء الأجر في ذلك لأن على المصلي التوجه إلى حيث أمره الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على النسخ والتبديل، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلا وآجلا. [سورة البقرة (2): الآيات 107 الى 108] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه تعالى هو المتصرف في السموات والأرض، وله سلطانهما دون غيره يحكم فيهما وفيما فيهما بما شاء من أمر ونهي ونسخ وتبديل هذا الخبر وإن كان خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لكن فيه تكذيب لليهود الذين أنكروا النسخ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام

[سورة البقرة (2): الآيات 109 إلى 110]

فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض، وأن الخلق كلهم عبيده وتحت تصرفه يحكم فيهم بما يشاء، وعليهم السمع والطاعة وَما لَكُمْ يعني يا معشر الكفار عند نزول العذاب مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مما سوى الله مِنْ وَلِيٍّ أي قريب وصديق، وقيل من وال وهو المقيم بالأمور وَلا نَصِيرٍ أي ناصر يمنعكم من العذاب وقيل في معنى الآية، وليس لكم أيها المؤمنين بعد الله من قيم يأمركم ولا نصير يؤيدكم، ويقويكم على أعدائكم. قوله عز وجل: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ نزلت في اليهود، وذلك أنهم قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا كما سئل قوم موسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أتريدون وقيل بل تريدون أن تسألوا رسولكم يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وذلك أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة ففي الآية منعهم ونهيهم عن السؤالات المقترحة بعد ظهور الدلالات والمعجزات وثبوت الحجج والبراهين على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ أي يستبدل الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ قصد الطريق، وقيل: إن قوله ومن يتبدل الكفر بالإيمان خطاب للمؤمنين أعلمهم أن اليهود أهل غش وحسد، وأنهم يتمنون للمؤمنين المكاره فنهاهم الله تعالى أن يقبلوا من اليهود شيئا ينصحونهم به في الظاهر، وأخبرهم أن من ارتد عن دينه فقد أخطأ قصد السبيل. قوله عز وجل:. [سورة البقرة (2): الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في نفر من اليهود، وذلك أنهم قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار بن ياسر. كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال: إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ما عشت قالت اليهود، أما هذا فقد، صبأ وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم إنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بذلك، فقال: أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل الله تعالى: وَدَّ أي تمنى كثير من أهل الكتاب يعني اليهود لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أي يا معشر المؤمنين مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر حَسَداً أي يحسدونكم حسدا وأصل الحسد تمني زوال النعمة عمن يستحقها، وربما يكون مع ذلك سعي في إزالتها، والحسد مذموم لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب» أخرجه أبو داود، فإذا أنعم الله على عبده نعمة فتمنى آخر زوالها عنه، فهذا هو الحسد وهو حرام فإن استعان بتلك النعمة على الكفر، والمعاصي فتمنى آخر زوالها عنه فليس بحسد، ولا يحرم ذلك لأنه لم يحسده على تلك النعمة، من حيث إنها نعمة بل من حيث إنه يتوصل بتلك النعمة إلى الشر والفساد وقوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أي من تلقاء أنفسهم لم يأمرهم الله بذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يعني في التوراة أن قول محمد صلّى الله عليه وسلّم ودينه، حق لا يشكون فيه فكفروا به حسدا وبغيا فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا أي فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وحسد وكان هذا الأمر بالعفو، والصفح قبل أن يؤمر بالقتال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بعذابه وهو القتل والسبي لبني قريظة والإجلاء والنفي لبني النضير قال ابن عباس: هو أمر الله له بقتالهم في قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه وعيد وتهديد لهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ لما أمر الله المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبتين، ونبه بذلك على سائر

[سورة البقرة (2): الآيات 111 إلى 113]

الواجبات ثم قال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي من طاعة وعمل صالح، وقيل أراد بالخير المال يعني صدقة التطوع، لأن الزكاة تقدم ذكرها تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ يعني ثوابه وأجره حتى التمرة واللقمة مثل أحد إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لا يخفى عليه شيء من قليل الأعمال، وكثيرها ففيه ترغيب في الطاعات، وأعمال البر وزجر عن المعاصي. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً يعني يهوديا، وقيل هو جمع هائد أَوْ نَصارى وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية قيل: نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا مع اليهود في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذب بعضهم بعضا في دعواه قال الله: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير حق قُلْ يعني يا محمد هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا دون غيرهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما تدعون. ثم قال تعالى ردا عليهم: بَلى أي ليس الأمر كما تزعمون ولكن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فإنه الذي يدخل الجنة وينعم فيها ومعنى أسلم وجهه لله أخلص في دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله. وقيل خضع وتواضع لله، لأن أصل الإسلام الاستسلام وهو الخضوع، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء، وإذا جاد الإنسان بوضع وجهه على الأرض في السجود فقد جاد بجميع أعضائه، قال عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا يعني بذلك استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته الأرض والمزن، وهو محسن أي في عمله لله فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب عمله وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي في الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما فاتهم من الدنيا. قوله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود وتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود للنصارى: ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت النصارى لليهود ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بموسى والتوراة فأنزل الله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ يعني وكلا الفريقين يقرءون الكتاب، وليس في كتابهم هذا الاختلاف فدلت تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم لما فيه على كفرهم وكونهم على الباطل. وقيل: إن الإنجيل الذي تدين بصحته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوة موسى وما فرض الله فيها على بني إسرائيل من الفرائض، وإن التوراة التي تدين بصحتها اليهود تحقق نبوة عيسى وما جاء به من عند ربه من الأحكام ثم كلا الفريقين، قالوا: ما أخبر الله عنهم بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ مع علم كل واحد من الفريقين ببطلان ما قاله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني مشركي العرب قالوا في نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إنهم ليسوا على شيء مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعني مثل قول اليهود

[سورة البقرة (2): الآيات 114 إلى 115]

للنصارى والنصارى لليهود. وقيل: أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. قالوا في أنبيائهم: ليسوا على شيء فَاللَّهُ يَحْكُمُ أي يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بين المحق والمبطل فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني من أمر الدين قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ نزلت في خراب بيت المقدس وذلك أن ططوس الرومي غزا بني إسرائيل فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم وحرق التوراة وخرب بيت المقدس فلم يزل خرابا حتى بناه المسلمون في زمن عمر بن الخطاب فأنزل الله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ أي ومن أكفر وأبغى ممن منع مساجد الله، يعني بيت المقدس ومحاريبه أن يذكر فيها اسمه أي يعبد ويصلي له فيها وَسَعى فِي خَرابِها وقيل: أن بختنصر المجوسي من أهل بابل هو الذي غزا بني إسرائيل وخرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى من أجل اليهود، قتلوا يحيى بن زكريا أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم قال ابن عباس: لم يدخلها بعد عمارتها رومي أو نصراني إلّا خائفا إن علم به قتل وقيل أخيفوا بالجزية والقتل فالجزية على الذمي، والقتل على الحربي وقيل: خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية ورومية وعمورية لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني الصغار والذل والقتل والسبي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني النار. وقيل: إن الآية نزلت في مشركي مكة وأراد بالمساجد المسجد الحرام وذلك أنهم منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أن يصلوا فيه في ابتداء الإسلام، ومنعوهم من حجه والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من يعمره بذكر الله تعالى وصلواته فيه فقد سعوا في خرابه أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين يعني مشركي مكة يقول الله تعالى: أفتحها عليكم أيها المسلمون حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم ففتحها عليهم وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينادى بالموسم لما نزلت سورة براءة: ألا لا يحجن البيت بعد هذا العام مشرك فكان هذا خوفهم وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم. فإن قلت كيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو إما بيت المقدس أو المسجد الحرام؟. قلت يجوز أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصا كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ومن أظلم ممن آذى الصالحين. فإن قلت أي القولين أرجح؟. قلت رجح الطبري القول الأول وقال إن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس بدليل أن مشركي مكة لم يسعوا في خراب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأوقات من الصلاة فيه، وأيضا فإن الآية التي قبل هذه والتي بعدها في ذم أهل الكتاب، ولم يجر لمشركي مكة ذكر ولا للمسجد الحرام فتعين أن يكون المراد بهذه بيت المقدس، ورجح غيره القول الثاني بدليل أن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود فكيف يسعون في خرابه وهو موضع حجهم. وذكر ابن العربي في أحكام القرآن قولا ثالثا، وهو أنه كل مسجد قال وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال. قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وعن عامر بن ربيعة عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت

[سورة البقرة (2): آية 116]

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. وقال ابن عمر نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته (ق) عن ابن عمر قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ» وكان ابن عمر يفعله وفي رواية لمسلم «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت وفيه نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ الآية. وقيل: نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة وذلك أن اليهود عيرت المؤمنين وقالوا: ليس لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة يستقبلون هكذا فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في تخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليصلوا حيث شاؤوا من النواحي ثم إنها نسخت بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ومعنى الآية إن لله المشرق والمغرب وما بينهما خلقا وملكا، وإنما خص المشرق والمغرب اكتفاء عن جميع الجهات لأن له كلها وما بينهما خلقه وعبيده، وإن على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه فما أمرهم باستقباله فهو القبلة فإن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، وأمر بالتوجه إليها فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فهنالك قبلة الله التي وجهكم إليها، وقيل معناه فثم وجه الله تعالى بعلمه وقدرته. والوجه صفة ثابتة لله تعالى لا من حيث الصورة. وقيل: فثم رضا الله أي يريدون بالتوجه إليه رضاه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ من السعة وهو الغني أي يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود والتدبير. وقيل واسع المغفرة عَلِيمٌ أي بأعمالكم ونياتكم حيثما تصلوا، وتدعوا لا يغيب عنه منها شيء. (مسألة تتعلق بحكم الآية) وهي أن المسافر إذا كان في مفازة أو بلاد الشرك، واشتبهت عليه القبلة فإنه يجتهد في طلها بنوع من الدلائل ويصلي إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده ولا إعادة عليه وإن لم يصادف القبلة فإن جهة الاجتهاد قبلته، وكذا الغريق في البحر إذا بقي على اللوح فإنه يصلي على حسب حاله، وتصح صلاته وكذلك المشدود على جذع بحيث لا يمكنه الاستقبال. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 116] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: عزيز ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا المسيح ابن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أي تنزيها لله فنزه الله نفسه عن اتخاذ الولد وعن قولهم: وافترائهم عليه (خ) عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله عز وجل: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم إني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا فكيف ينسب إليه الولد وهو داخل فيهما. وقيل: إن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد والله تعالى منزه عن الشبيه والنظير. وقيل: إن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه والانتفاع به عند عجز الوالد وكبره، والله تعالى منزه عن ذلك كله فإضافة الولد إليه محال كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يعني أن أهل السموات والأرض مطيعون لله ومقرون له بالعبودية، وأصل القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع. وقيل: أصله: القيام ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاة طول القنوت» فعلى هذا يكون معنى الآية كل له قائمون بالشهادة ومقرون له بالوحدانية. وقيل: قانتون أي مذللون مسخرون لما خلقوا له. واختلف العلماء في حكم الآية فقال بعضهم: هو خاص ثم سلكوا في تخصيصه طريقين. أحدهما: قالوا هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة. الثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الكفار وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام لأن لفظة كل تقتضي الشمول والإحاطة ثم سلكوا في الكفار طريقين. أحدهما أن ظلالهم تسجد لله وتطيعه. والثاني أن هذه الطاعة تكون في يوم القيامة. ومن ذهب إلى تخصيص حكم الآية أجاب عن لفظة كل بأنها لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

[سورة البقرة (2): الآيات 117 إلى 119]

ولم تؤت ملك سليمان فدل على أن لفظة كل لا تقتضي ذلك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 117 الى 119] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها ومبدعها ومنشئها على غير مثال سبق. وقيل: البديع الذي يبدع الأشياء أي يحدثها مما لم يكن وَإِذا قَضى أَمْراً أي قدره وأراد خلقه. وقيل: إذا أحكم أمرا وحتمه وأتقنه. وأصل القضاء الحكم والفراغ والقضاء في اللغة على وجوه كلها ترجع إلى انقطاع الشيء وتمامه والفراغ منه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي إذا أحكم أمرا وحتمه فإنما يقول له فيكون ذلك الأمر على ما أراد الله تعالى وجوده. فإن قلت المعدوم لا يخاطب فكيف قال فإنما يقول له كن فيكون. قلت: إن الله تعالى عالم بكل ما هو كائن قبل تكوينه وإذا كان كذلك كانت الأشياء التي لم تكن كأنها كائنة لعلمه بها فجاز أن يقول لها: كوني ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود وقيل اللام في قوله: لَهُ لام أجل فيكون المعنى إذا قضى أمرا، فإنما يقول: لأجل تكوينه وإرادته له كن فيكون فعلى هذا يذهب معنى الخطاب. قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن عباس هم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هم النصارى وقيل: هم مشركو العرب لَوْلا أي هلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي عيانا بأنك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة وعلامة على صدقك كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كفار الأمم الخالية مِثْلَ قَوْلِهِمْ وذلك أن اليهود سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، وأن يسمعهم كلام الله. وسألوه من الآيات ما ليس لهم مسألته فأخبر الله عن الذين كانوا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم قالوا: مثل ما قال من كان قبلهم تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعني أن المكذبين للرسل تشابهت أقوالهم وأفعالهم. وقيل تشابهت في الكفر والقسوة والتكذيب وطلب المحال قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي الدلالات على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني أن آيات القرآن وما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات الباهرات كافية لمن كان طالبا لليقين، وإنما خص أهل الإيقان بالذكر لأنهم هم أهل التثبت في الأمور ومعرفة الأشياء على يقين. قوله عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي بالصدق وقال ابن عباس: بالقرآن وقيل: بالإسلام وقيل: معناه إنا لم نرسلك عبثا، بل أرسلناك بالحق بَشِيراً أي مبشرا لأوليائي، وأهل طاعتي بالثواب العظيم وَنَذِيراً أي منذرا ومخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم وَلا تُسْئَلُ قرئ بفتح التاء على النهي قال ابن عباس: وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت هذه الآية، والمعنى إنا أرسلناك لتبليغ ما أرسلت به ولا تسأل عن أصحاب الجحيم. وقرئ ولا تسأل بضم التاء ورفع اللام على الخبر. وقيل: على النفي والمعنى إنا أرسلناك بالحق لتبليغ ما أرسلت به، فإنما عليك البلاغ ولست مسؤولا عمن كفر عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ أي عن أهل النار، سميت النار جحيما لشدة تأججها. وقيل: الجحيم معظم النار. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 120 الى 121] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله هذه الآية والمعنى إنك وإن هادنتهم فلا يرجون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرجون منك إلا باتباع ملتهم. وقال ابن عباس: هذا في أمر القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى

[سورة البقرة (2): الآيات 122 إلى 124]

نجران كانوا يرجون النبي صلّى الله عليه وسلّم، حين كان يصلي إلى بيت المقدس، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ يعني إلا باليهودية، وَلَا النَّصارى يعني إلا بالنصرانية وهذا شيء لا يتصور إذ لا يجتمع في رجل واحد شيئان في وقت واحد وهو قوله: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ يعني دينهم وطريقتهم قُلْ أي يا محمد إِنَّ هُدَى اللَّهِ يعني دين الله الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى أي يصح أن يسمى هدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ يا محمد أَهْواءَهُمْ يعني أهواء اليهود والنصارى، فيما يرضيهم عنك وقيل: أهواءهم أقوالهم التي هي أهواء وبدع بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي البيان لأن دين الله هو الإسلام وأن القبلة هي قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يعني يلي أمرك ويقوم بك وَلا نَصِيرٍ أي ينصرك ويمنعك من عقابه وقيل: في قوله ولئن اتبعت أهواءهم أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، والمعنى إياكم أخاطب ولكم أؤدب وأنهى فقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد جاءكم بالحق والصدق وقد عصيته فلا تتبعوا أنتم أهواء الكافرين. ولئن اتبعتم أهواءهم بعد الذي جاءكم من العلم والبينات ما لكم من الله من ولي ولا نصير. قوله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا الرهب، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة وقيل: هم مؤمنون عامة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يحرّفونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: معناه يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويقفون عنده ويكلون علمه إلى الله تعالى. وقيل: معناه تدبروه حق تدبره وتفكروا في معانيه وحقائقه وأسراره أُولئِكَ يعني الذين يتلونه حق تلاوته يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون به. فإن قلنا: إن الآية في أهل الكتاب فيكون المعنى إن المؤمن بالتوراة الذي يتلوها حق تلاوتها هو المؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأن في التوراة نعته وصفته. وإن قلنا: إنها نزلت في المؤمنين عامة فظاهر وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي خسروا أنفسهم حيث استبدلوا الكفر بالإيمان. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 124] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي أيادي لديكم وصنعي بكم واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم في نعم كثيرة أنعمت بها عليكم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي واذكروا تفضيلي إياكم على عالمي زمانكم، وفي هذه الآية عظة لليهود الذي كانوا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وفي هذه الآية ترهيب لهم والمعنى يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي المحرفين له، خافوا عذاب يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ أي لا يقبل منها فدية ولا يشفع لها شافع وهذا من العام الذي يراد به الخاص كقوله تعالى وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ومعنى الآية ولا تنفعها شفاعة إذا وجب عليها العذاب ولم تستحق سواه. وقيل: إنه رد على اليهود في قولهم إن آباءنا يشفعون لنا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا ناصر لهم ينصرهم من الله إذا انتقم منهم قوله عز وجل: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ إبراهيم اسم أعجمي ومعناه أب رحيم وهو إبراهيم بن تارخ وهو آزر بن ناخور بن شاروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان مولد إبراهيم بالسوس من أرض الأهواز وقيل: ببابل وقيل بكوثى وهي قرية من

سواد الكوفة. وقيل: بحران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل وهي أرض نمروذ الجبار. وإبراهيم عليه السلام تعترف بفضله جميع الطوائف قديما، وحديثا فأما اليهود والنصارى فإنهم مقرون بفضله ويتشرفون بالنسبة إليه وأنهم من أولاده وأما العرب في الجاهلية فإنهم أيضا يعترفون بفضله ويتشرفون على غيرهم به لأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه وخدام بيته، ولما جاء الإسلام زاده الله شرفا وفضلا فحكى الله تعالى عن إبراهيم أمورا توجب على المشركين والنصارى واليهود قبول قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه لأن ما أوجبه الله على إبراهيم عليه السلام هو من خصائص دين محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي ذلك حجة على اليهود والنصارى ومشركي العرب في وجوب الانقياد لمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإيمان به وتصديقه. وأصل الابتلاء الامتحان والاختبار ليعرف حال الإنسان وسمي التكليف بلاء لأنه يشق على الأبدان. وقيل: ليختبر به حال الإنسان فإذا قيل: ابتلى فلان بكذا يتضمن أمرين: أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني ظهور جودته ورداءته وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم، والوقوف على ما يجهل منها لأنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد. ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة وعلى هذا ينزل قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ. واختلفوا في تلك الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس: هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام لم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب الله له البراءة فقال: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ومعنى هذا الكلام إنه لم يبتل أحد قبل إبراهيم فأما بعده فقد أتى الأنبياء بجميع ما أمروا به من الدين خصوصا، نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد أتى بجميع ما أمر به، وهي عشرة مذكورة في سورة براءة في قوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية وعشرة في سورة الأحزاب في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وعشرة في سورة المؤمنون في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ الآيات وهي مذكورة أيضا في سورة سأل سائل. وعن ابن عباس أيضا قال: ابتلاه الله بعشرة أشياء هن الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء (ق). عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الفطرة خمس، وفي رواية خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط» (م) عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء». يعني الاستنجاء قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء قال العلماء: الفطرة السنة. وقيل: الملة وقيل: الطريقة وهذه الأشياء المذكورة في الحديث وأنها من الفطرة قيل كانت على إبراهيم عليه السلام فرضا وهي لنا سنة واتفقت العلماء على أنها من الملة وأما معانيها فقد قيل: أما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم كانوا يقصون لحاهم، أو يوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم، والأنف من الطعام والقلح والوسخ، وأما قص الأظفار فللجمال، والزينة فإنها إذا طالت قبح منظرها، واحتوى الوسخ فيها وأما غسل البراجم وهي العقد التي في ظهور الأصابع فإنه يجتمع فيها الوسخ ويشين المنظر، وأما حلق العانة ونتف الإبط فللتنظف عما يجتمع من الوسخ في الشعر وأما الاستنجاء، فلتنظيف ذلك المحل عن الأذى وأما الختان فلتنظيف القلفة، عما يجتمع فيها من البول. واختلف العلماء في وجوبه فذهب الشافعي إلى أن الختان واجب لأنه تنكشف له العورة، ولا يباح ذلك إلا في الواجب وذهب غيره إلى أنه سنّة. وأول من ختن إبراهيم عليه السلام ولم يختتن أحد قبله (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اختتن إبراهيم بالقدوم» يروى القدوم بالتخفيف والتشديد، فمن خفف ذهب إلى أنه اسم للآلة التي يقطع بها ومن شدد قال: إنه اسم موضع. عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: «كان

[سورة البقرة (2): آية 125]

إبراهيم خليل الرحمن أول الناس ضيف الضيف وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب. قال: رب ما هذا قال الرب تبارك وتعالى وقارا يا إبراهيم قال يا رب زدني وقارا» أخرجه مالك في الموطأ وقيل: في الكلمات إنها مناسك الحج. وقيل: ابتلاه الله بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فأحسن النظر فيهن وبالنار والهجرة وذبح ولده والختان، فصبر عليها وقيل: إن الله اختبر إبراهيم بكلمات أوحاها إليه وأمره أن يعمل بهن فأتمهن أي أداهن حق التأدية، وقام بموجبهن حق القيام وعمل بهن من غير تفريط وتوان ولم ينتقص منهن شيئا. واختلفوا هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل: كان قبل النبوة بدليل قوله في سياق الآية: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والسبب يتقدم على المسبب. وقيل: بل كان هذا الابتلاء بعد النبوة لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي وذلك بعد النبوة. والصواب أنه إن فسر الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس كان ذلك قبل النبوة، وإن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة. وقوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي يقتدى بك في الخير ويأتمون بسنّتك وهديك، والإمام هو الذي يؤتم به قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي قال إبراهيم: واجعل من ذريتي وأولادي أئمة يقتدى بهم قالَ الله لا يَنالُ أي لا يصيب عَهْدِي أي نبوتي. وقيل الإمامة الظَّالِمِينَ يعني من ذريتك والمعنى لا ينال ما عاهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ذريتك وولدك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ يعني البيت الحرام، وهو الكعبة ويدخل فيه الحرم فإن الله تعالى وصفه بكونه آمنا وهذه صفة جميع الحرم مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مرجعا من ثاب يثوب إذا رجع، والمعنى يثوبون إليه من كل جانب يحجونه وَأَمْناً أي موضعا ذا أمن يؤمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة. ويقولون: هم أهل الله. وقال ابن عباس: معاذا وملجأ (ق) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: إلا الإذخر». معنى الحديث: أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب في الحرم وإنما أحل ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة فقط ولا يحل لأحد بعده. قوله: لا يعضد شوكه أي لا يقطع شوك الحرم وأراد به ما لا يؤذي منه أما ما يؤذي منه كالعوسج فلا بأس بقطعه. قوله: ولا ينفر صيده أي لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج. قوله: ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أي ينشدها. والنشد رفع الصوت بالتعريف. واللقطة في جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولا فإن جاء صاحبها أخذها. وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان. وحكم مكة في اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها من البلاد فإنه محدود بسنة. قوله: ولا يختلى خلاه. الخلي مقصور الرطب من النبات الذي يرعى وقيل: هو اليابس من الحشيش وخلاه قطعه. وقول: لقينهم القين الحداد وقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قيل: الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة والمزدلفة والرمي وسائر المشاهد، والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجلي إبراهيم عليه السلام فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي وقيل: إنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله (ق) عن أنس بن مالك قال قال عمر: «وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى

فنزلت: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» الحديث. وكان بدء قصة المقام على ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس قال: أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم من أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل. فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له: ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا قال: نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه وقال ربنا: إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي، ورفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول: بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال: لها الملك لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيتا لله يبتنيه هذا الغلام، وأبوه وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله فكانت كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: نعم. قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فألقى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنس فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وآنسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا وفي رواية ذهب يصيد لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد، وشدة فقال: هل أوصاك بشيء قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه. فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل فقال: وما طعامكم؟ قالت اللحم قال: وما شرابكم قالت: الماء قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه وفي رواية فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: قد ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألّا تنزل عندنا فتطعم وتشرب. قال: وما طعامكم وشرابكم قالت: طعامنا اللحم

[سورة البقرة (2): آية 126]

وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم. قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت: نعم يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك فقال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاسمع ما أمرك ربك، قال: وتعينني قال وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاءه بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم: وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وقيل: إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم: انزل اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عند شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي. وقال هذا يروى عن ابن عمر موقوفا. واختلفوا في قوله: مصلى فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال مصلّى مدعى من الصلاة التي هي الدعاء، ومن فسر المقام بالحجر قال معناه واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى قبلة، أمروا بالصلاة عنده وهذا القول هو الصحيح، لأن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يعقل منه إلا الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود، ولأن مصلى الرجل هو الموضع الذي يصلي فيه وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما وألزمناهما وأوجبنا عليهما. قيل: إنما سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولدا، ويقول في دعائه: اسمع يا إيل وإيل بلسان السريانية هو الله. فلما رزق الولد سماه به أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ يعني الكعبة أضافه إليه تشريفا وتفضيلا وتخصيصا، أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقيل طهراه من سائر الأقذار والأنجاس، وقيل طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور لِلطَّائِفِينَ يعني الدائرين حوله وَالْعاكِفِينَ يعني المقيمين به والمجاورين له وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع وساجد وهم المصلون وقيل: الطائفين يعني الغرباء الواردين إلى مكة والعاكفين يعني أهل مكة المقيمين بها. قيل: إن الطواف للغرباء أفضل والصلاة لأهل مكة بمكة أفضل. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا إشارة إلى مكة وقيل إلى الحرم بَلَداً آمِناً أي ذا أمن يأمن فيه أهله، وإنما دعا إبراهيم له بالأمن لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر فإذا لم يكن آمنا، لم يجلب إليه شيء من النواحي فيتعذر المقام به. فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وجعله بلدا آمنا فما قصده جبار إلا قصمه الله تعالى كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة. فإن قلت: قد غزا مكة الحجاج وخرب الكعبة. قلت لم يكن قصده بذلك مكة ولا أهلها ولا إخراب الكعبة، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير من الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك فلما حصل قصده أعاد بناء الكعبة فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها. واختلفوا هل كانت مكة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو حرمت بدعوته على قولين: أحدهما أنها كانت محرمة قبل دعوته بدليل

[سورة البقرة (2): آية 127]

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» وقول إبراهيم عليه السلام: «إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم» فهذا يقتضي أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم. القول الثاني: أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» وهذا يقتضي أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالا كغيرها من البلاد، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم، ووجه الجمع بين القولين وهو الصواب أن الله تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أرادها بسوء، ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها الله تعالى إبراهيم وأسكن بها أهله فحينئذ سأل إبراهيم ربه عز وجل أن يظهر تحريم مكة لعباده على لسانه فأجاب الله تعالى دعوته، وألزم عباده تحريم مكة فصارت مكة حراما بدعوة إبراهيم، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها فهذا وجه الجمع بين القولين وهو الصواب، والله أعلم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر فاستجاب الله تعالى له وجعل مكة حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه عز وجل أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته فأجابه الله بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ صار ذلك تأديبا له في المسألة، فلا جرم خص هاهنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ أي سأرزق الكافر أيضا قَلِيلًا أي في الدنيا إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألجئه وأكرهه وأدفعه إلى عذاب النار، والمضطر هو الذي لا يملك لنفسه الامتناع مما اضطر إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المكان الذي يصير إليه الكافر وهو العذاب. [سورة البقرة (2): آية 127] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ وكانت قصة بناء البيت على ما ذكره العلماء، وأصحاب السير أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى، فأنزل البيت المعمور وهو من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي، وباب غربي فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل الله عليه الحجر الأسود، وكان أبيض فاسودّ من مس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له، من الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام. ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ويعبد فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحية، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب وقيل: هي المتلوية في هبوبها، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم، حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه كتطويق الحجفة، وقال ابن عباس: بعث الله سبحانه وتعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير، وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها يا

[سورة البقرة (2): الآيات 128 إلى 129]

إبراهيم ابن على قدر ظلها لا تزد ولا تنقص. وقيل: إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول فذلك قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة فذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ جمع قاعدة وهي أس البيت. وقيل جدرة من البيت. قال ابن عباس: بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان جبل بالشام والجودي جبل بالجزيرة، وبنى قواعده من حراء جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال ائتني بأحسن منه فمضى إسماعيل ليطلب حجرا أحسن منه فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فقذف بالحجر الأسود فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه وقيل: إن الله أمد إبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما في بناء البيت فلما فرغا من بنائه قالا: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا وفي الآية إضمار تقديره ويقولان ربنا تقبل منا أي ما عملنا لك، وتقبل طاعتنا إياك وعبادتنا لك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ أي لدعائنا الْعَلِيمُ يعني بنياتنا. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 128 الى 129] رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يعني موحدين مخلصين مطيعين خاضعين لك. فإن قلت: الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وقد كانا كذلك حالة هذا الدعاء فما فائدة هذا الطلب؟ قلت فيه وجهان أحدهما أن الإسلام عرض قائم بالقلب وقد لا يبقى، فقوله: واجعلنا مسلمين لك يعني في المستقبل وذلك لا ينافي حصوله في الحال. الوجه الثاني يحتمل أن يكون المراد منه طلب الزيادة في الإيمان فكأنهما طلبا زيادة اليقين والتصديق وذلك لا ينافي حصوله في الحال وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أي من أولادنا أُمَّةً أي جماعة مُسْلِمَةً أي خاضعة منقادة لَكَ وإنما أدخل من التي هي للتبعيض لأن الله تعالى أعلمهما بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إن في ذريتهما الظالم فلهذا خص بعض الذرية بالدعاء. فإن قلت: لم خص ذريتهما بالدعاء. قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة، قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء: إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم. وقيل: أراد بالأمة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَأَرِنا أي علمنا وبصرنا مَناسِكَنا أي شرائع ديننا وأعلام حجنا، وقيل: مناسكنا يعني مذابحنا والنسك الذبيحة، وقيل متعبداتنا وأصل النسك العبادة والناسك العابد فأجاب الله دعاءهما وبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم. قال إبراهيم: نعم فسمي ذلك الوقت عرفة والموضع عرفات وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عباده الرَّحِيمُ بهم واحتج بقوله «وتب علينا» من جوز الذنوب على الأنبياء. ووجهه أن التوبة لا تطلب من الله إلّا بعد تقدم الذنب فلولا تقدم الذنب لم يكن لطلب التوبة وجه. وأجيب عنه بأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه عز وجل فإنه لا ينفك عن تقصير في بعض الأوقات. أما على سبيل السهو أو ترك الأولى والأفضل، وكان هذا الدعاء لأجل ذلك، وقيل: يحتمل أن الله تعالى لما أعلم إبراهيم أن في ذريته من ظالم فلا جرم سأل ربه التوبة لأولئك الظلمة، والمعنى وتب على الظلمة من أولادنا حتى يرجعوا إلى طاعتك فيكون ظاهر الكلام الدعاء لأنفسهما والمراد به ذريتهما. وقيل: يحتمل أنهما لما رفعا قواعد البيت وكان ذلك المكان أحرى الأماكن بالإجابة دعوا الله بذلك الدعاء ليجعلا ذلك سنة وليقتدى من بعدهما في ذلك الدعاء لأن ذلك المكان هو موضع التنصل من الذنوب وسؤال التوبة والمغفرة من

[سورة البقرة (2): الآيات 130 إلى 131]

الله تعالى. قوله عز وجل: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني وابعث في الأمة المسلمة أو الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقوله: رسولا منهم يعني ليدعوهم إلى الإسلام ويكمل الدين والشرع، وإذا كان الرسول منهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه كان أقرب لقبول قوله ويكون هو أشفق عليهم من غيره، وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله «رسولا منهم» هو محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن إبراهيم عليه السلام إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلّى الله عليه وسلّم فدل على أن المراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم وروى البغوي بإسناده عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام» وقوله: لمنجدل في طينته معناه أنه مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح وأراد بدعوة إبراهيم قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم في آخر الزمان وأنقذهم به من الكفر والظلم وأراد ببشارة عيسى عليه السلام قوله في سورة الصف: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي يقرأ عليهم آياتِكَ يعني ما توحيه إليه وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الذي كان يتلوه عليهم هو القرآن فوجب حمله عليه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني معاني الكتاب وحقائقه لأن المقصود الأعظم تعليم ما في القرآن من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن ودراسته ليبقى مصونا عن التحريف، والتبديل ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره وَالْحِكْمَةَ أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى الرجل حكيما إلّا إذا اجتمع فيه الأمران. وقيل: الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرناه من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شيء موضعه، وقيل الحكمة معرفة الأشياء بحقائقها. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا فروى ابن وهب قال: قلت لمالك ما الحكمة. قال: المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له. وقال قتادة: الحكمة هي السنة وذلك لأن الله تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد بها شيئا آخر وليس ذلك إلّا السنة. وقيل الحكمة: هي العلم بأحكام الله تعالى التي لا يدرك علمها إلّا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمعرفة بها منه. وقيل الحكمة: هي الفصل بين الحق والباطل. وقيل: هي معرفة الأحكام والقضاء وقيل: هي فهم القرآن، والمعنى ويعلمهم ما في القرآن من الأحكام والحكمة وهي ما فيه من المصالح الدينية والأحكام الشرعية. وقيل: كل كلمة وعظتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان، وسائر الأرجاس والرذائل والنقائص، وقيل: يزكيهم من التزكية أي يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة، إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ ثم ختم إبراهيم الدعاء بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس: العزيز الذي لا يوجد مثله. وقيل: هو الذي يقهر ولا يقهر وقيل هو المنيع الذي لا تناله الأيدي، وقيل العزيز القوي والعزة القوة من قولهم أرض عزاز أي صلبة قوية الْحَكِيمُ أي العالم الذي لا تخفى عليه خافية، وقيل هو العالم بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 131] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه إلى الإسلام مهاجرا وسلمة، وقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي يترك دينه وشريعته، وفيه تعريض باليهود والنصارى ومشركي العرب

[سورة البقرة (2): الآيات 132 إلى 135]

لأن اليهود والنصارى يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم والوصلة إليه، لأنهم من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والعرب يفتخرون به لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإذا كان كذلك كان إبراهيم هو الذي طلب بعثة هذا الرسول في آخر الزمان فمن رغب عن الإيمان بهذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم ومعنى يرغب عن ملة إبراهيم أي يترك دينه وشريعته يقال: رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه إلّا من سفه نفسه قال ابن عباس: خسر نفسه وقيل: أهلك نفسه وقيل: امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة. وقيل: الجهل وضعف الرأي فكل سفيه جاهل لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعترف بأن الله خالقها وقد جاء «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ومعناه: أن يعرف نفسه بالذل والعجز والضعف والفناء، ويعرف ربه بالعز والقدرة والقوة والبقاء ويدل على هذا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام اعرف نفسك واعرفني قال: يا رب وكيف أعرف نفسي وكيف أعرفك؟ قال: اعرف نفسك بالعجز والضعف والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ أي اخترناه فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني الفائزين وقيل: مع الأنبياء في الجنة إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي استقم على الإسلام واثبت عليه لأنه كان مسلما لأن الأنبياء إنما نشئوا على الإسلام والتوحيد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال له ذلك حين خرج من السرب وذلك عند استدلاله بالكواكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وافتقارها إلى محدث مدبر فلما عرف ذلك قال له ربه: أسلم قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال إبراهيم: خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لمالك الخلائق ومدبرها ومحدثها. وقيل: معنى أسلم أخلص دينك وعبادتك لله واجعلها سليمة. وقيل: الإيمان من صفات القلب والإسلام من صفات الجوارح وإن إبراهيم كان مؤمنا بقلبه عارفا بالله فأمره الله أن يعمل بجوارحه وقيل: معناه أسلم نفسك إلى الله تعالى وفوض أمرك إليه. قال: أسلمت أي فوضت أمري لرب العالمين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 132 الى 135] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ يعني بكلمة الإخلاص، وهي لا إله إلّا الله. وقيل هي الملة الحنيفية وكان لإبراهيم ثمانية أولاد إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ومدين ومدان ويقنان وزمران وشيق وشوخ وأمهم قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم حين وفاة سارة، فإن قلت، لم قال: وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم؟. قلت: لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم. وقيل: لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحا لغيرهم وَيَعْقُوبُ أي ووصى يعقوب بمثل ما وصي به إبراهيم، وسمي يعقوب لأنه هو والعيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه قال ابن عباس: وقيل سمي يعقوب لكثرة عقبه وكان له من الولد اثنا عشر وهم: روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا

وربالون ويشجرودان ونفتالى وجاد وآشر ويوسف وبنيامين، ثم خاطب يعقوب بنيه فقال يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي اختار لكم دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مؤمنون مخلصون فالمعنى دوموا على إسلامكم حتى يأتيكم الموت وأنتم مسلمون لأنه لا يعلم في أي وقت يأتي الموت على الإنسان. وقيل: في معنى وأنتم مسلمون أي محسنون الظن بالله عز وجل يدل عليه ما روي عن جابر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحدكم إلّا وهو يحسن الظن بربه» أخرجاه في الصحيحين. قوله عز وجل: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أي حين احتضر وقرب من الموت نزلت في اليهود، وذلك لأنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم، والمعنى أم كنتم يا معشر اليهود شهودا على يعقوب إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنسبوهم إلى اليهودية فإني ما ابتعثت خليلي إبراهيم، وولده وأولادهم إلّا بدين الإسلام، وبذلك وصوا أولادهم وبه عهدوا إليهم ثم بين ما قال يعقوب لبنيه فقال تعالى: إِذْ قالَ يعني يعقوب لِبَنِيهِ يعني لأولاده الاثني عشر ما تَعْبُدُونَ أي أي شيء تعبدون مِنْ بَعْدِي قيل إن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره: بين الحياة والموت، فلما خير يعقوب وكان قد رأى أهل مصر يعبدون الأوثان والنيران فقال انظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم فأمهله فجمع ولده وولد ولده قال لهم قد حضر أجلي ما تعبدون من بعدي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إنما قدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق وأدخله في جملة الآباء وإن كان عما لهم لأن العرب تسمي العم أبا والخالة أمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عم الرجل صنو أبيه» وقال في عمه العباس «ردوا عليّ أبي» إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مخلصون العبودية تِلْكَ إشارة إلى الأمة المذكورة، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي مضت لسبيلها والمعنى يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والمسلمين من أولادهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم لَها ما كَسَبَتْ يعني من العمل وَلَكُمْ يعني يا معشر اليهود والنصارى ما كَسَبْتُمْ أي من العمل وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني كل فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره. قوله عز وجل: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى نجران السيد، والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المؤمنين في الدين، فكل فريق منهم يزعم أنه أحق بدين الله فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن وقالت النصارى كذلك، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلّا ذلك فأنزل الله عز وجل: قُلْ يعني يا محمد بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني إذا كان لا بد من الاتباع فنتبع ملة إبراهيم لأنه مجمع على فضله حَنِيفاً أصله من الحنف وهو ميل واعوجاج يكون في القدم، قال ابن عباس: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، قال الشاعر: ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل دين والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم، وقيل: الحنيفية الختان وإقامة المناسك مسلما، يعني أن الحنيفية هي دين الإسلام وهو دين إبراهيم عليه السلام وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم وفيه تعريض لليهود والنصارى وغيرهم ممن يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك، ثم علم المؤمنين طرائق الإيمان فقال تعالى:

[سورة البقرة (2): الآيات 136 إلى 137]

[سورة البقرة (2): الآيات 136 الى 137] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ يعني قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: آمنا بالله أي صدقنا بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ يعني وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وهو عشر صحائف وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر واحدهم سبط وكانوا أنبياء، وقيل: السبط هو ولد الولد وهو الحافد ومنه قيل: للحسن والحسين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل وكان في الأسباط أنبياء وَما أُوتِيَ مُوسى يعني التوراة وَعِيسى يعني الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ والمعنى آمنا أيضا بالتوراة والإنجيل والكتب التي أوتي جميع النبيين وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور وأن الجميع من عند الله وأن جميع ما ذكر الله من أنبيائه كانوا على هدى وحق لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض وكما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأقرت ببعض الأنبياء وكما تبرأت النصارى من محمد صلّى الله عليه وسلّم وأقرت ببعض الأنبياء بل نؤمن بكل الأنبياء وأن جميعهم كانوا على حق وهدى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن لله تعالى خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية (خ) عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا. الآية. قوله عز وجل: فَإِنْ آمَنُوا يعني اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي بما آمنتم به ومثل صلة فهو كقوله: «ليس كمثله شيء» أي ليس مثله شيء وقيل: فإن أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم فَقَدِ اهْتَدَوْا والمعنى إن حصلوا دينا آخر يساوي هذا الدين في الصحة، والسداد فقد اهتدوا ولكن لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصحة والسداد استحال الاهتداء بغيره لأن هذا الدين مبناه على التوحيد والإقرار بكل الأنبياء وما أنزل إليهم وقيل معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف ومنازعة وقيل: في عداوة ومحاربة وقيل: في ضلال، وأصله من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب عداوته وقيل هو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي يكفيك الله يا محمد شر اليهود والنصارى وهو ضمان من الله تعالى لإظهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنه إذا تكفّل بشيء أنجزه وهو إخبار بغيب نفيه معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أنجز الله وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأحوالهم يسمع جميع ما ينطقون به، ويعلم جميع ما يضمرون من الحسد، والغل وهو مجازيهم، ومعاقبهم عليه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 138 الى 140] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) صِبْغَةَ اللَّهِ قال ابن عباس: دين الله وإنما سماه الله صبغة لأن أثر الدين يظهر على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب وقيل: فطرة الله وقيل: سنة الله وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ المختتن بالدم قال ابن عباس: إن النصارى إذا ولد لأحدهم مولود وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يسمونه ماء المعمودية وصبغوه

[سورة البقرة (2): الآيات 141 إلى 143]

به ليطهروه به مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك به قالوا الآن صار نصرانيا حقا، فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما تفعله النصارى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي دينا وقيل تطهيرا لأنه يطهر من أوساخ الكفر وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي مطيعون قُلْ يعني يا محمد لليهود والنصارى الذين قالوا إن دينهم خير من دينكم وأمروكم باتباعهم أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي أتخاصموننا وتجادلوننا في دين الله الذي أمرنا أن نتدين به والمحاجة المجادلة لإظهار الحجة، وذلك أنهم قالوا: إن ديننا أقدم من دينكم وإن الأنبياء منا وعلى ديننا فنحن أولى بالله منكم، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا لهم: أتحاجوننا في الله وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي ونحن وأنتم في الله سواء فإنه ربنا وربكم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن لكل أحد جزاء عمله وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي مخلصو الطاعة والعبادة له وفيه توبيخ لليهود والنصارى والمعنى وأنتم به مشركون. والإخلاص أن يخلص العبد دينه، وعمله لله تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله، قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قوله عز وجل: أَمْ تَقُولُونَ يعني اليهود والنصارى وهو استفهام ومعناه التوبيخ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني أتزعمون أن إبراهيم وبنيه كانوا على دينكم وملتكم وإنما حدثت اليهودية والنصرانية بعدهم فثبت كذبكم يا معشر اليهود والنصارى على إبراهيم وبنيه قُلْ يا محمد أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ يعني بدينهم أَمِ اللَّهُ؟ أي الله أعلم بذلك. وقد أخبر أن إبراهيم وبنيه لم يكونوا على اليهودية والنصرانية ولكن كانوا مسلمين حنفاء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ يعني أخفى شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمدا أحق بنعته وصفته وجدوا ذلك في كتبهم وكتموه وجحدوه، والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فكتمها وأخفاها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني من كتمانكم الحق فيما ألزمكم به في كتابه من أن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين حنفاء. وأن الدين هو الإسلام لا اليهودية والنصرانية، والمعنى وما الله غافل عن عملكم بل هو محصيه عليكم ثم يعاقبكم عليه في الآخرة. [سورة البقرة (2): الآيات 141 الى 143] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم وبنيه لَها ما كَسَبَتْ أي جزاء ما كسبت وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي جزاء ما كسبتم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أن كل إنسان إنما يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله لا عن كسب غيره وعمله، وفيه وعظ وزجر لليهود ولمن يتكل على فضل الآباء، وشرفهم أي لا تتكلوا على فضل الآباء فكل يؤخذ بعمله وإنما كررت هذه الآية لأنه إذا اختلف مواطن الحجاج، والمجادلة حسن تكريره للتذكير به وتأكيده. وقيل: إنما كرره تنبيها لليهود لئلا يغتروا بشرف آبائهم. قوله عز وجل: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ أي الجهال من الناس والسفه خفة في النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية، ولا شك أن ذلك في باب الدين أعظم لأن العادل عن الأمر الواضح في أمر دنياه يعد سفيها، فمن كان كذلك في أمر دينه، كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلّا وهو سفيه ولهذا أمكن حمل هذا اللفظ على اليهود والمشركين، والمنافقين فقيل: نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ. وقيل: نزلت

في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد أمره واشتاق مولده، وقد توجه إلى نحو بلدكم فلعله يرجع إلى دينكم وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام وقيل: يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمنافقين واليهود ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالا قالوا أو مجالا جالوا ما وَلَّاهُمْ يعني أي شيء صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعني بيت المقدس، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله ولما قال السفهاء ذلك رد الله تعالى عليهم بقوله: قُلْ يا محمد لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يعني أن له قطري المشرق والمغرب وما بينهما ملكا فلا يستحق شيء أن يكون لذاته قبلة لأن الجهات كلها شيء واحد، وإنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة فلا اعتراض عليه وهو قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني من عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. قوله عز وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الكاف في قوله وكذلك كاف التشبيه جاء لمشبه به وفيه وجوه أحدها أنه معطوف على ما تقدم من قوله في حق إبراهيم: ولقد اصطفيناه في الدنيا، وكذلك جعلناكم أمة وسطا الثاني أنه معطوف على قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكذلك هديناكم وجعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب كذلك جعلناكم أمة وسطا يعني عدولا خيارا، وخير الأمور أوسطها، قال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقيل: متوسطة والمعنى أهل دين وسط بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في أمر الدين لا كغلو النصارى في عيسى، ولا كتقصير اليهود في الدين وهو تحريفهم وتبديلهم. وسبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمد قبلتنا إلّا حسدا وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ولقد علم محمد أنّا أعدل الناس فقال معاذ: إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها، وخيرها وأكرمها على الله تعالى». وقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يعني يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم، وقيل: إن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين وَيَكُونَ الرَّسُولُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم عَلَيْكُمْ شَهِيداً يعني عدلا مزكيا لكم وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون ما جاءنا من نذير فيسأل الله الأنبياء عن ذلك فيقولون: كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة الحجة فيقولون أمة محمد تشهد لنا فيؤتى بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيشهدون لهم بأنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة. فيقولون: أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم (خ) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً زاد الترمذي وسطا عدولا. قوله عز وجل: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أي وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها، وهي بيت المقدس، وإنما حذف ذكر الصرف اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، وقيل: معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة وقيل: معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها وهي الكعبة وإِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فإن قلت ما معنى قوله: إلّا لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قلت: أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد. والمعنى لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه

[سورة البقرة (2): آية 144]

الثواب والعقاب، وقيل: العلم هنا بمعنى الرؤية أي لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلب على عقبيه وقيل: معناه إلّا لتعلم رسلي وحزبي وأوليائي من المؤمنين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وكان من شأن العرب إضافة ما فعله الاتباع إلى الكبير. كقولهم: فتح عمر العراق وجبى خراجها وإنما فعل ذلك أتباعه عن أمره، وقيل إنما قال إلّا لنعلم وهو بذلك عالم قبل كونه على وجه الرفق بعباده ومعناه إلّا لتعلموا، أنتم إذ كنتم جهالا به قبل كونه فإضافة العلم إلى نفسه رفقا بعباده المخاطبين. وقيل: معناه لعلمنا لأنه تعالى سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين ومعنى من يتبع الرسول أي يطيعه في أمر القبلة وتحويلها مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرجع إلى ما كان عليه من الكفر فيرتد، وفي الحديث «إنه لما تحولت القبلة إلى الكعبة ارتد قوم إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه» وَإِنْ كانَتْ أي وقد كانت لَكَبِيرَةً يعني تولية القبلة ثقيلة شاقة وقيل هي التولية من بيت المقدس إلى الكعبة وقيل الكبيرة هي القبلة التي وجهه إليها قيل التحويل وهي بيت المقدس، وأنث الكبيرة لتأنيث القبلة وقيل: لتأنيث التولية إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني الصادقين في اتباع الرسول وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم الله بها مدة، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون: إنما الهدى فيما أمر الله به والضلالة نهى الله عنه قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني لا يضيع أجورهم، والرأفة أخص من الرحمة وأرق، وقيل: الرأفة أشد من الرحمة. وقيل: الرأفة الرحمة وقيل: في الفرق بين الرأفة والرحمة. أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه وإزالة الضرر وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه أيضا جميع الإفضال والإنعام فذكر الله الرأفة، ولا بمعنى أنه لا نضيع أعمالهم ثم ذكر الرحمة ثانيا لأنها أعم وأشمل. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ سبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يستقبل بيت المقدس يتألف بذلك اليهود وقيل إن الله تعالى أمره بذلك ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه، إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته وصفته في التوراة فصلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وقيل: كان يحب ذلك من أجل أن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم فقال: جبريل صلّى الله عليه وسلّم إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان ثم عرج جبريل وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء، رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله عز وجل قد نرى تقلب وجهك في السماء يعني، تردد وجهك وتصرف نظرك في السماء أي إلى جهة السماء، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى لأنها رأس

[سورة البقرة (2): آية 145]

القصة وأول ما نسخ من أحكام الشرع أمر القبلة فَلَنُوَلِّيَنَّكَ أي فلنحولنك ولنصرفنك قِبْلَةً أي ولنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وتلقاءه وأراد به الكعبة (ق) عن ابن عباس قال: لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة يعني أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إلى الكعبة أبدا فهي قبلتكم (ق) عن البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلّى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن صلّى معه، فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الكعبة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ ذاك أنه يصلّي قبل بيت المقدس، وهي قبلة أهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. قال البراء في حديثه هذا: وأنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ واختلفت العلماء في وقت تحويل القبلة فقال الأكثرون: كان في يوم الاثنين بعد الزوال للنصف من رجب، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وقيل: كان يوم الثلاثاء لثمانية عشر شهرا وقيل: كان لستة عشر شهرا وقيل: لثلاثة عشر شهرا وقيل: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين، ووصل الخبر إلى أهل قباء في صلاة الصبح (ق) عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أي من بر أو بحر مشرق أو مغرب فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي نحو البيت وتلقاءه، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، قيل: أراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت عن يمينه ومشرق الشتاء عن يساره كان مستقبلا للقبلة، وهذا في حق أهل المشرق لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء والذي بينهما فقوسها مكة. والفرض لمن بمكة في القبلة إصابة عين الكعبة، ولمن بعد من مكة إصابة الجهة، ويعرف ذلك بدلائل القبلة وليس هذا موضع ذكرها، ولما تحولت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما هو إلّا شيء ابتدعته من تلقاء نفسك فتارة تصلّي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره فأنزل الله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني أمر القبلة وتحويلها إلى الكعبة ثم هددهم فقال تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ يعني وما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود، فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة وقرئ تعملون بالتاء. قال ابن عباس: يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم فأنا أثيبكم على طاعتكم أفضل الثواب، وأجزيكم أحسن الجزاء. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ أي بكل معجزة وقيل: بكل حجة

[سورة البقرة (2): الآيات 146 إلى 148]

وبرهان وذلك بأنهم قالوا: ائتنا بآية على ما تقول فأنزل الله تعالى هذه الآية: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعني الكعبة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعني أن اليهود تصلي إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق وأنت يا محمد تصلّي إلى الكعبة. فكيف يكون سبيل إلى اتباع قبلة أحد هؤلاء مع اختلاف جهاتها فالزم أنت قبلتك التي أمرت بالصلاة إليها وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يعني وما اليهود بتابعة قبلة النصارى ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود، لأن اليهود والنصارى لا يجتمعون على قبلة واحدة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي في أمر القبلة وقيل معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأن اليهود والنصارى مقيمون على باطل، وعناد للحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرها. قيل: هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به الأمة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يتبع أهواءهم أبدا. وقيل: هو خطاب له خاصة فيكون ذلك على سبيل التذكير والتنبيه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 146 الى 148] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني علماء اليهود والنصارى وقيل: أراد به مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معرفة جلية بالوصف المعين الذي يجدونه عندهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ أي لا يشكون فيه ولا تشتبه عليهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم من أبناء غيرهم، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله أنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أشد من معرفتي بابني فقال عمر وكيف ذلك فقال: أشهد أنه رسول الله حق من الله وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبل عمر رأس عبد الله وقال: وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت. وقيل: الضمير في يعرفونه يعود إلى أمر القبلة والمعنى أن علماء اليهود والنصارى يعرفون أن القبلة التي صرفتك إليها هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك كما يعرفون أبناءهم لا يشكون في ذلك وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي من علماء أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل أمر القبلة وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أن كتمان الحق معصية. وقيل يعلمون أن صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وهم مع ذلك يكتمونه الْحَقَّ أي الذي يكتمونه هو الحق مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم، علموا صحة نبوتك وقيل: يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك. فإن قلت: النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي؟. قلت: هذا الخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن المراد غيره والمعنى فلا تشكوا أنتم أيها المؤمنون وقد تقدم نظير هذا. قوله عز وجل: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي ولكل أهل ملة قبلة، والوجهة اسم للمتوجه إليه. وقيل الوجهة الهيئة والحالة في التوجه إلى القبلة، وقيل في قوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ إن المراد به جميع المؤمنين، أي ولكل أهل جهة من الآفاق وجهة من الكعبة يصلون إليها. وقيل: المراد بالوجهة المنهاج والشرع والمعنى ولكل قوم شريعة وطريقة لأن الشرائع مصالح للعباد فلهذا اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الزمان والأشخاص وَمُوَلِّيها أي مستقبلها والمعنى أن لكل أهل ملة وجهة هو مول وجهه إليها، وقيل: متوليها أي مختارها وقيل: إن هو عائد على اسم الله تعالى، والمعنى إن الله موليها إياه، وقرئ مولّاها أي مصروف إليهااسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا بالطاعات وقبول الأوامر وفيه حث على المبادرة إلى الأولوية والأفضلية. فعلى هذا تكون الآية دليلا لمذهب الشافعي في أن الصلاة أول الوقت أفضل لقوله: فاستبقوا

[سورة البقرة (2): الآيات 149 إلى 150]

الخيرات لأن ظاهر الأمر للوجوب، فإذا لم يتحقق الوجوب فلا أقل من الندب أَيْنَما تَكُونُوا يعني أنتم وأهل الكتاب أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني يوم القيامة فهو وعد لأهل الطاعة بالثواب ووعيد لأهل المعصية بالعقاب نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على الإعادة بعد الموت والإثابة لأهل الطاعة والعقاب لمستحق العقوبة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من أي موضع خرجت في سفر وغيره فول وجهك يا محمد قبل المسجد الحرام ونحوه وَإِنَّهُ يعني التوجه إليه لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الحق الذي لا شك فيه فحافظ عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي ليس هو بساه عن أعمالكم، ولكنه محصها لكم، وعليكم فيجازيكم بها يوم القيامة وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فإن قلت: هل في هذا التكرار فائدة. قلت: فيه فائدة عظيمة جليلة وهي أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة، وإيضاح البيان فحسن التكرار فيهم لنقلهم من جهة إلى جهة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ قيل: أراد بالناس أهل الكتاب: وقيل: هو على العموم وقيل هم قريش واليهود فأما قريش فقالوا: رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة أبيه وسيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا وقالت اليهود: لم ينصرف محمد عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلّا أنه يعمل برأيه فعلى هذا يكون الاستثناء في قوله: إلّا الذين ظلموا منهم متصلا صحيحا والمعنى، لا حجة لأحد عليكم إلّا مشركو قريش واليهود فإنهم يجادلونك الباطل والظلم، وإنما سمي الاحتجاج بالباطل حجة، لأن اشتقاقها من حجه إذا غلبه فكما تكون صحيحة فكذلك تسمى حجة وتكون باطلة قال الله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقيل: هذا الاستثناء منقطع عن الكلام الأول، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يجادلونك بالباطل كما قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب أي لكن سيوفهم بهن فلول، وليس بعيب وقيل: في معنى الآية إن اليهود عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمدا سيحول إليها فتكون حجتهم أنهم يقولون إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إلى الكعبة ولم تحول أنت فلما حول إلى الكعبة ذهبت حجتهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلّا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق. فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوهم في انصرافكم إلى الكعبة في تظاهرهم عليكم بالمجادلة الباطلة فإني وليكم وناصركم، أظهركم عليهم بالحجة والنصرة وَاخْشَوْنِي أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية. وقيل: تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية الله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة. ولعل وعسى من الله واجب. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): الآيات 151 إلى 152]

[سورة البقرة (2): الآيات 151 الى 152] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ كاف التشبيه تحتاج إلى شيء ترجع إليه فقيل ترجع إلى ما قبلها ومعناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم وقيل إن إبراهيم قال: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وقال: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، فبعث الله فيهم رسولا منهم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم ووعده إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة، والمعنى كما أجبت دعوته ببعثة الرسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه، وأجعلكم مسلمين، وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية. وقيل: إن الكاف متعلقة بما بعدها وهو قوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ والمعنى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم فاذكروني، ووجه التشبيه أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بإرسال الرسول، وإن قلنا: إنها متعلقة بما قبلها كان وجه التشبيه أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة، وفيكم خطاب لأهل مكة والعرب وكذا قوله منكم، وفي إرساله رسولا منهم نعمة عظيمة عليه لما فيه من الشرف لهم ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فكان بعثة الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبول قوله والانقياد له، والمعنى كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رَسُولًا مِنْكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يعني القرآن وذلك من أعظم النعم لأنه معجزة باقية على الدهر وَيُزَكِّيكُمْ أي ويطهركم من دنس الشرك والذنوب وقيل يعلمكم ما إذا فعلتموه صرتم أزكياء مثل محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ يعني أحكام الكتاب وهو القرآن وقيل إن التعليم غير التلاوة فليس بتكرار وَالْحِكْمَةَ يعني السنة والفقه في الدين وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ يعني يعلمكم من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وقصص الأنبياء والخبر عن الحوادث المستقبلية مما لم تكونوا تعلمون وذلك قبل بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَاذْكُرُونِي قيل الذكر يكون باللسان، وهو أن يسبحه ويحمده ويمجده ونحو ذلك من الأذكار، ويكون بالقلب وهو أن يتفكر في عظمة الله تعالى، وفي الدلائل الدالة على وحدانيته، ويكون بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، مثل الصلاة وسائر الطاعات التي للجوارح فيها فعل أَذْكُرْكُمْ أي بالثواب والرضا عنكم قال ابن عباس: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، وقال أهل المعاني: اذكروني بالتوحيد والإيمان: أذكركم بالجنان والرضوان. وقيل: اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص اذكروني بالقلوب، أذكركم بغفران الذنوب. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» قوله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي» قيل: معناه بالغفران إذا استغفر وبالقبول والإجابة، إذا دعا، وبالكفاية إذا طلب الكفاية. وقيل: المراد منه تحقيق الرجاء وتأميل العفو وهذا أصح قوله: وأنا معه إذا ذكرني يعني بالرحمة والتوفيق والهداية والإعانة. وقوله: «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي». النفس في اللغة لها معان: منها ذات الشيء والله تعالى له ذات حقيقة. ومنها الغيب فعلى هذا يكون المعنى فإن ذكرني خاليا ذكرته بالإثابة والمجازاة مما لا يطلع عليه أحد. قوله: «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». الملأ أشراف الناس وعظماؤهم الذين يرجع إلى رأيهم وهذا مما استدلت به المعتزلة ومن وافقهم على تفضيل الملائكة على الأنبياء. وأجيب عنه بأن الذكر غالبا يكون في جماعة لا نبي فيهم. قوله: «وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا إلخ». وهذا من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره فلا بد من التأويل فعلى هذا يكون ذكر الشبر والذراع والباع والمشي والهرولة استعارة، ومجازا فيكون المراد بقرب العبد من الله

[سورة البقرة (2): الآيات 153 إلى 154]

تعالى القرب بالذكر والطاعة والعمل الصالح والمراد بقرب الله من العبد قرب نعمه وألطافه وبره وكرمه وإحسانه إليه، وفيض مواهبه ورحمته عليه والمعنى كلما زاد بالطاعة والذكر زدت بالبر والإحسان وإن أتاني في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة صبا وسبقته بها (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله عز وجل: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه» (ق) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» المفردون الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه، وبقوا وهم يذكرون الله تعالى. ويقال: تفرد الرجل إذا تفقه واعتزل. وقوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي يعني بالطاعة وَلا تَكْفُرُونِ أي بالمعصية فمن أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفره. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 154] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات أما الصبر فهو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات، وسائر الطاعات وتجنب الجزع وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به، ومنهم من حمله على الجهاد وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها تجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له. وقيل: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تمحيص الذنوب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي بالعون والنصر وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وهم: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أخو سعد بن أبي وقاص وذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن العاص بن نضلة بن عمرو بن خزاعة ثم بني غبشان وعاقل بن البكير من بني سعد بن ليث بن كنانة ومهجع مولى لعمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء من بني الحارث بن فهر ومن الأنصار ثمانية، وهم سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد بن المنذر، ويزيد بن الحارث بن قيس بن فسحم وعمير بن الحمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء وهي أمهما، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم ظلما لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية وأخبر أن من قتل في سبيل الله فإنه حي بقوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ وإنما أحياهم الله عز وجل في الوقت لإيصال الثواب إليهم. وعن الحسن أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم، ويصل إليهم الروح والريحان والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا فيصل إليهم، الألم والوجع ففيه دليل على أن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ وكذا العصاة يعذبون في قبورهم. فإن قلت: نحن نراهم موتى فما معنى قوله بل أحياء وما وجه النهي، في قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات. قلت: معناه لا تقولوا أموات بمنزلة غيرهم من الأموات بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان كما ورد، «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة» فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الروح من أجسادهم، وجواب آخر وهو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب، لأنهم صاروا إلى الآخرة فنحن لا نشاهدهم كذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي لا ترونهم أحياء فتعلموا ذلك حقيقة،

[سورة البقرة (2): الآيات 155 إلى 156]

وإنما تعلمون ذلك بإخباري إياكم به. فإن قلت: ليس سائر المطيعين من المسلمين لله يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر؟. قلت: إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك، وجواب آخر أنه رد لقول من قال: إن من قتل في سبيل الله قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأخبر الله تعالى بقوله: بَلْ أَحْياءٌ بأنهم في نعيم دائم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 155 الى 156] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي لنختبرنكم يا أمة محمد واللام جواب القسم تقديره، والله لنبلونكم، والابتلاء لإظهار الطائع من العاصي لا ليعلم شيئا، لم يكن عالما به فإنه سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها وحدوثها بِشَيْءٍ إنما قال: بشيء ولم يقل بأشياء لئلا يوهم أن أشياء تدل على ضروب من الخوف. وكذا الباقي فلما قال بشيء كان التقدير بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. وقيل: معناه بشيء قليل من هذه الأشياء مِنَ الْخَوْفِ قال ابن عباس: يعني خوف العدو والخوف توقع مكروه يحصل منه ألم في القلب وَالْجُوعِ يعني القحط وتعذر حصول القوت وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ يعني بالهلاك والخسران وَالْأَنْفُسِ أي ونقص من الأنفس بالموت أو القتل وَالثَّمَراتِ يعني الجوائح في الثمار وقيل: قد يكون بالجدب أيضا وبترك العمل والعمارة في الأشجار. وحكي عن الشافعي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال: الخوف خوف الله تعالى والجوع صيام شهر رمضان ونقص من الأموال يعني إخراج الزكاة والصدقات والأنفس يعني بالأمراض، والثمرات يعني موت الأولاد، لأن الولد ثمرة القلب. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم. قال: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم قال فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. فإن قلت ما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء في قوله: ولنبلونكم. قلت فيه حكم: منها أن العبد إذا علم أنه مبتلي بشيء، وطن نفسه على الصبر، فإذا نزل به ذلك البلاء لم يجزع. ومنها أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين مقيمين على دينهم ثابتين عند نزول البلاء صابرين له علموا بذلك صحة الدين فيدعوهم ذلك إلى متابعته والدخول فيه. ومنها أن الله تعالى أخبر بهذا الابتلاء، قبل وقوعه فإذا وقع كان ذلك إخبارا عن غيب فيكون معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومنها أن المنافقين إنما أظهروا الإيمان طمعا في المال وسعة الرزق من الغنائم فلما أخبر الله أنه مبتلي عباده فعند ذلك تميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، ومنها أن الإنسان في حال الابتلاء أشد إخلاصا لله منه في حال الرخاء، فإذا علم أنه مبتلي دام على التضرع والابتهال إلى الله تعالى لينجيه مما عسى أن ينزل به من البلاء ثم قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ يعني عند نزول البلاء والمعنى وبشر يا محمد الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به من الشدائد والمكاره، ثم وصفهم بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي نائبة وابتلاء قالُوا إِنَّا لِلَّهِ أي عبيدا وملكا وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني في الآخرة (م) عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلّا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قيل: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب عليه السلام ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. وقيل: في قول العبد إنا لله وإنا إليه راجعون تفويض منه إلى الله وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب.

[سورة البقرة (2): آية 157]

[سورة البقرة (2): آية 157] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ قال ابن عباس: أي مغفرة من ربهم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم صل على آل أبي أوفى» أي أغفر لهم وأرحمهم وإنما جمع الصلوات لأنه عنى مغفرة، بعد مغفرة ورحمة بعد رحمة وَرَحْمَةٌ قال ابن عباس: ونعمة والرحمة من الله إنعامه وإفضاله وإحسانه، ومن الآدميين رقة وتعطف. وقيل: إنما ذكر الرحمة بعد الصلوات لأن الصلاة من الله الرحمة لاتساع المعنى واتساع اللفظ وتفعل ذلك العرب كثيرا، إذا اختلف اللفظ، واتفق المعنى، وقيل: كررهما للتأكيد أي عليهم رحمة بعد رحمة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يعني إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الجنة الفائزون بالثواب. وقيل: المهتدون إلى الحق والصواب. وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية. (فصل: في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين) (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيرا يصب منه» يعني يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك (ق) عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلّا كفر الله عنه بها خطاياه» النصب التعب والإعياء والوصب المرض (ق) عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حط الله عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد» الأرزة شجر معروف بالشام ويعرف في العراق، ومصر بالصنوبر والصنوبر ثمرة الأرزة وقيل: الأرزة الثابتة في الأرض. عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبد شرّا أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة» وبهذا الإسناد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» وقال حديث حسن صحيح (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلّا الجنة عن سعد بن أبي وقاص وقال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. [سورة البقرة (2): آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) قوله عز وجل: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الصفا جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، وقيل هي الحجارة الصافية. والمروة الحجر الرخو، وجمعها مرو ومروات وهذان أصلهما في اللغة، وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام وشعائر الله أعلام دينه وأصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة،

ودعاء وذبيحة فهو شعيرة من شعائر الله. ومشاعر الحج معالمه الظاهرة للحواس ويقال: شعائر الحج فالمطاف والموقف والمنحر، كلها شعائر والمراد بالشعائر هنا المناسك التي جعلها الله أعلاما لطاعته فالصفا، والمروة منها حيث يسعى بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ قصد البيت هذا أصله في اللغة وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة لإقامة المناسك أَوِ اعْتَمَرَ أي زار البيت والعمرة الزيارة ففي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أي فلا إثم عليه وأصله من جنح إذا مال عن القصد المستقيم أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يدور بهما ويسعى بينهما. وسبب نزول هذه الآية، أنه كان على الصفا والمروة صنمان يقال لهما إساف ونائلة فكان إساف على الصفات ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا، والمروة تعظيما للصنمين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، تحرج المسلمون عن السعي بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية وأذن في السعي بينهما وأخبر أنه من شعائر الله (ق) عن عاصم بن سليمان الأحول قال قلت لأنس: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. وفي رواية قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى نزلت إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. (فصل) اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وبه قال الحسن: وإليه ذهب مالك والشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع. وهو قول ابن عباس: وبه قال ابن سيرين وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أنه ليس بركن وعلى من تركه دم وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء أن من تركه فلا شيء عليه واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه حجه وروي عنه أنه لا شيء في تركه عمدا، ولا سهوا ولا ينبغي أن يتركه ونقل الجمهور عنه أنه تطوع وسبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ يصدق عليه أنه لا إثم عليه في فعله، فدخل تحته الواجب والمندوب والمباح فظاهر هذه الآية، لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام الثلاثة لا دلالة فيه على خصوصية أحدهما، فإذا لا بد من دليل خارج يدل على أن السعي واجب أو غير واجب فحجة الشافعي ومن وافقه في أن السعي بين الصفا والمروة، ركن من أركان الحج والعمرة، ما روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجزاة واسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبته وسمعته يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» وصححه الدارقطني (ق) عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أرأيت قول الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه، أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية (م) عن جابر في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال: «ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: «إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا» الحديث فإذا ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سعى وجب علينا السعي لقوله تعالى: فاتبعوه، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني مناسككم» والأمر للوجوب ومن القياس أن السعي أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ويؤتى به في إحرام كامل فكان ركنا كطواف الزيارة

[سورة البقرة (2): الآيات 159 إلى 163]

واحتج أبو حنيفة ومن لا يرى وجوب السعي بقوله: «فلا جناح عليه أن يطوف بهما». وهذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فبين أنه تطوع وليس بواجب. وأجيب عن الأول بأن قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ ليس فيه إلّا أنه لا إثم على فعله وهذا القدر مشترك بين الواجب، وغيره كما تقدم بيانه فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب. وعن الثاني وهو التمسك بقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور، أولا بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر يدل على ذلك قول الحسن: إن المراد من قوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً جميع الطاعات في الدين يعني فعل فعلا زائدا على ما افترض عليه من صلاة وصدقة وصيام وحج وعمرة، وطواف، وغير ذلك من أنواع الطاعات. وقال مجاهد: ومن تطوع خيرا بالطواف بهما وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضا وقيل معناه ومن تطوع خيرا فزاد في الطواف بعد الواجب والقول الأول أولى للعموم فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة عَلِيمٌ أي بنيته وحقيقة الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه والشكر هو تصور النعمة، وإظهارها والله تعالى لا يوصف بذلك لأنه لا يلحقه المنافع والمضار، فالشاكر في صفة الله تعالى مجاز فإذا وصف به أريد به أنه المجازي على الطاعة بالثواب، إلّا أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مظاهرة في الإحسان إليهم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 163] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى نزلت في علماء اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة. وقيل: إن الآية على العموم فيمن كتم شيئا من أمر الدين لأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبت، ومن قال بالقول الأول، وإنها في اليهود قال: إن الكتم لا يصح إلّا منهم لأنهم كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعنى الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إلى بيانه وإظهاره، فمن كتم شيئا من أمر الدين فقد عظمت مصيبته (ق) عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى وقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ إلى آخر الآيتين، وهل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين؟ فيه خلاف والأصح، أنه إذا ظهر للبعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوما، وقيل: متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره وإلّا فلا مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ يعني في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا يكون المراد بالناس علماء بني إسرائيل، ومن قال: إن المراد بالكتاب جميع ما أنزل الله على أنبيائه من الأحكام قال المراد بالناس العلماء كافة أُولئِكَ يعني الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم من رحمته وأصل اللعن في اللغة الطرد والإبعاد وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال ابن عباس: جميع الخلائق إلّا الجن والإنس وذلك أن البهائم تقول إنما منعنا القطر بمعاصي بني آدم. وقيل: اللاعنون هم الجن والإنس لأنه وصفهم بوصف من يعقل وقيل: ما تلا عن اثنان من المسلمين إلّا رجعت إلى اليهود والنصارى الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي ندموا على ما فعلوا فرجعوا عن الكفر إلى الإسلام وَأَصْلَحُوا يعني الأعمال فيما بينهم وبين الله تعالى وَبَيَّنُوا يعني ما كتموا من العلم فَأُولئِكَ

[سورة البقرة (2): آية 164]

أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلي الرَّحِيمُ يعني بهم بعد إقبالهم علي. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قيل: هذا اللعن يكون يوم القيامة يؤتى بالكافر فيوقف فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون. فإن قلت: الكافر لا يلعن نفسه ولا يلعنه أهل دينه وملته فما معنى قوله والناس أجمعين. قلت فيه أوجه: أحدها: أنه أراد بالناس من يعتد بلعنه وهم المؤمنون. الثاني: أن الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة. الثالث: أنهم يلعنون الظالمين والكفار من الظالمين فيكون قد لعن نفسه خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في اللعنة وقيل: في النار وإنما أضمرت لعظم شأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤجلون. وقيل: لا ينظرون ليعتذروا. وقيل: لا ينظر إليهم نظر رحمة. (فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم) قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام وقد شرط الله في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر ويجوز لعن الكفار يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله وأما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعيين وأما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده» ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ولعن من غير منار الأرض، ومن انتسب لغير أبيه وكل هذه في الصحيح. قوله عز وجل: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ سبب نزول هذه الآية، أن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص ومعنى الوحدة الانفراد، وحقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعض ولا ينقسم والواحد في صفة الله أنه واحد لا نظير له وليس كمثله شيء وقيل واحد في ألوهيته وربوبيته ليس له شريك لأن المشركين أشركوا معه الآلهة فكذبهم الله تعالى بقوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني لا شريك له في ألوهيته ولا نظير له في الربوبية والتوحيد، هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فالله تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته وواحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له سبحانه وتعالى: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يعني أنه المولى لجميع النعم وأصولها وفروعها فلا شيء سواه بهذه الصفة لأن كل ما سواه إما نعمة وأما منعم عليه. وهو المنعم على خلقه الرحيم بهم. عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، وفاتحة آل عمران: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح. وقيل: لما نزلت هذه الآية. قال المشركون: إن محمدا يقول: «إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان صادقا» فأنزل الله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في عجائب مصنوعاته وإتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد ولامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا

العالم والمدبر له واحد قادر مختار، فبين سبحانه وتعالى من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع أولها: إن في خلق السموات والأرض وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض لأنها جنس واحد وهو التراب، والآية في السماء هي سمكها وارتفاعها بغير عمد، ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار والثمار والنبات. النوع الثاني قوله تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما في المجيء والذهاب وقيل اختلافهما في الطول والقصر والزيادة والنقصان والنور والظلمة. وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم. والآية في الليل والنهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون في الليل فاختلاف الليل والنهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد. النوع الثالث قوله تعالى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ أي السفن واحدة وجمعه سواء، وسمي البحر بحرا لاتساعه وانبساطه، والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال فلا ترسب وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة، وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلّا الله تعالى النوع الرابع قوله تعالى: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح، والآية في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في تجاراتهم، ومنافعهم وأيضا فإن الله تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوض البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع، لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. النوع الخامس قوله تعالى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب سمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء خلق الله الماء في السحاب، ومنه ينزل إلى الأرض وقيل: أراد السماء بعينها خلق الله الماء في السماء ومنه ينزل إلى السحاب ثم منه إلى الأرض فَأَحْيا بِهِ أي بالماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها وجدبها سماه موتا مجازا لأنها إذا لم تنبت شيئا، ولم يصبها المطر فهي كالميتة، والآية في إنزال المطر وإحياء الأرض به أن الله تعالى جعله سببا لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة، وعند الاستسقاء والدعاء وإنزاله بمكان دون مكان. النوع السادس قوله تعالى: وَبَثَّ أي فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ قال ابن عباس: يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان. النوع السابع قوله تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ يعني في مهابّها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا ونكباء وهي الريح التي تأتي من غير مهب صحيح، فكل ريح تختلف مهابها تسمى: نكباء وقيل: تصريفها في أحوال مهابها لينة وعاصفة وحارة وباردة وسميت ريحا لأنها تريح قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح وقيل ما هبت ريح إلّا لشفاء سقيم أو ضده. وقيل: البشارة في ثلاث رياح الصبا والشمال والجنوب والدبور: هي الريح العقيم التي أهلكت بها عاد فلا بشارة فيها، والآية في الريح أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهي مع ذلك في غاية القوة تقلع الشجر والصخر وتخرب البنيان العظيم وهي مع ذلك حياة الوجود فلو أمسكت طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض. النوع الثامن قوله تعالى: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي الغيم المذلل سمي سحابا لسرعة سيره كأنه يسحب. والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض، ففي هذه الأنواع الثمانية المذكورة في هذه الآية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار، وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير وهو المراد من قوله: «وإلهكم إله واحد لا إله إلّا

[سورة البقرة (2): آية 165]

هو» وقوله: لَآياتٍ أي فيما ذكر من دلائل مصنوعاته الدالة على وحدانيته قيل إنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقا مدبرا مختارا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون بصفاء عقولهم ويتفكرون بقلوبهم، فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا ومدبرا مختارا وصانعا قادرا على ما يريد. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) وَمِنَ النَّاسِ يعني المشركين مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يعني أصناما يعبدونها والند المثل المنازع فعلى هذا الأصنام أندادا بعضها لبعض وليست أندادا لله تعالى وتعالى الله أن يكون له ند، أوله مثل منازع وقيل: الأنداد الأكفاء من الرجال وهم رؤساؤهم وكبراؤهم الذين يطيعونهم في معصية الله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ أي يودونهم ويميلون إليهم والحب نقيض البغض وأحببت فلانا أي جعلته معرضا بأن تحبه والمحبة الإرادة كَحُبِّ اللَّهِ أي كحب المؤمنين لله والمعنى: يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم عزّ وجلّ. وقيل: معناه يحبونهم كحب الله فيكون المعنى أنهم يسوون بين الأصنام وبين الله في المحبة فمن قال بالقول الأول لم يثبت للكفار محبة الله تعالى ومن قال بالقول الثاني أثبت للكفار محبة الله تعالى لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أي أثبت وأدوم على محبته لأنهم لا يختارون مع الله سواه، والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا آخر أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني. وقيل: إن الكفار يعدلون عن أصنامهم في الشدائد ويقبلون إلى الله تعالى كما أخبر عنهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. والمؤمنون لا يعدلون عن الله تعالى في السراء ولا في الضراء ولا في الشدة ولا في الرخاء وقيل: إن المؤمنين يوحدون ربهم والكفار يعبدون أصناما كثيرة فتنقص المحبة لصنم واحد. وقيل: إنما هو قال وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن الله أحبهم أولا فأحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم وسيأتي بسط الكلام في معنى المحبة عند قوله: يحبهم ويحبونه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرئ بالتاء والمعنى ولو ترى يا محمد الذين ظلموا. يعني أشركوا في شدة العذاب، لرأيت أمرا عظيما وقرئ بالياء ومعناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب حين يقذف بهم في النار لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوه من الأصنام لا ينفعهم إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً معناه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرون العذاب أن القوة ثابتة لله جميعا، والمعنى أنهم شاهدوا من قدرة الله تعالى ما تيقنوا معه أن القوة له جميعا، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من الشرك والجحود وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) إِذْ تَبَرَّأَ أي تنزه وتباعد الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ أي القادة من مشركي الإنس من الأتباع وذلك يوم القيامة حين يجمع القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض عند نزول العذاب بهم وعجزهم عن دفعه عن أنفسهم فكيف عن غيرهم. وقيل: هم الشياطين يتبرؤون من الإنس، والقول هو الأول وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يعني الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها من قرابة وصداقة. وقيل: الأعمال التي كانت بينهم يعملونها في الدنيا. وقيل: العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها. وأصل السبب في اللغة الحبل

[سورة البقرة (2): الآيات 168 إلى 170]

الذي يصعد به النخل وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودة سببا تشبيها بالحبل الذي يصعد به وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يعني الأتباع لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أي كما أراهم العذاب يريهم الله أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم أيقنوا بالهلاك. والحسرة الغم على ما فاته وشدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، والمعنى أن الله تعالى يريهم السيئات التي عملوها، وارتكبوها في الدنيا فيتحسرون لم عملوها؟. وقيل: يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها. وقيل: يرفع لهم منازلهم في الجنة فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يتحسرون ويندمون على ما فاتهم ولا ينفعهم الندم وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. والحلال المباح الذي أحله الشرع وانحلت عقدة الحظر عنه، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب ما يستلذ، والمسلم لا يستطيب إلّا الحلال ويعاف الحرام. وقيل: الطيب هو الطاهر لأن النجس تكرهه النفس وتعافه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تسلكوا سبيله. وقيل معناه لا تأثموا به ولا تتبعوا آثاره وزلاته، والمعنى احذروا أن تتعدوا ما أحل الله لكم إلى ما يدعوكم إليه الشيطان. قيل: هي النذور في المعاصي. وقيل: هي المحقرات من الذنوب ثم بين علة هذا التحذير، بقوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة وقد أظهر الله تعالى عداوته بآية السجود لآدم ثم بين عداوته ما هي فقال تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ يعني بالإثم. والسوء ما يسوء صاحبه ويخزيه وَالْفَحْشاءِ يعني بها المعاصي وما قبح من قول أو فعل. قال ابن عباس: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما يجب فيه الحد. وقيل الفحشاء الزنا. وقيل هو البخل وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني من تحريم الحرث والأنعام ويتناول ذلك جميع المذاهب الفاسدة التي لم يأذن فيها الله ولم ترد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. واعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في قلبه، وماهية هذه الخواطر حروف وأصوات منتظمة خفية تشبه الكلام في الخارج، ثم إن فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى وهو المحدث لها في باطن الإنسان، وإنما الشيطان كالعرض، والله هو المقدر له على ذلك وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وإنما أقدر على ذلك لإيصال هذه الخواطر إلى باطن الإنسان. قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ هذه قصة مستأنفة والضمير في «لهم» يعود إلى غير مذكور. قال ابن عباس: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام. فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منا وأعلم منا فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إن الآية متصلة بما قبلها والضمير في «لهم» يعود إلى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وهم مشركو العرب. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا يعني من عبادة الأصنام. وقيل: بل الضمير في «لهم» يعود على قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ والمعنى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله يعني في تحليل ما حرموا على أنفسهم قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا يعني وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من التحريم والتحليل، قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ يعني الذين يتبعونهم

[سورة البقرة (2): الآيات 171 إلى 172]

لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً يعني لا يعلمون شيئا من أمر الدين، لفظه عام ومعناه خاص وذلك أنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا وَلا يَهْتَدُونَ أي إلى الصواب. ثم ضرب لهم مثلا فقال تعالى: [سورة البقرة (2): الآيات 171 الى 172] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً النعيق صوت الراعي بالغنم، ولا يقال نعق إلّا للراعي بالغنم وحدها، ومعنى الآية: ومثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تسمع إلّا صوتا فصار الداعي إلى الله وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الراعي، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه المثل أن الغنم تسمع الصوت ولا تفطن للمراد وكذلك الكفار يسمعون صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولكن لا ينتفعون به، وقيل معناه ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفهم من الأمر والنهي إلّا الصوت فيكون المعنى بالمثل المنعوق به خارج عن الناعق. وقيل: معناه ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم، فهو لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه غني عن الدعاء والنداء، فكذلك الكافر ليس له من دعاء الأصنام وعبادتها إلّا العناء والبلاء، والفرق بين هذا القول والقول الذي قبله أن المحذوف هنا هو المدعو وهي الأصنام وفي القول الأول المحذوف هو الداعي وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم فقال: صم لأنهم إذا سمعوا الحق ودعاء الرسول، ولم ينتفعوا به صاروا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع ولا يعقل كأنه أصم، بكم أي عن النطق بالحق عمي أي عن طريق الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ قيل المراد به العقل الكسبي لأن العقل الطبيعي كان حاصلا فيهم قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ قيل إن الأمر في قوله: كلوا قد يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس ودفع الضرر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض. والطيب هو الحلال (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله طيب ولا يقبل إلّا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». قوله: أشعث أغبر هو البعيد العهد بالدهن والغسل والنظافة. وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوما تنزهوا عن أكل المستلذ من المطاعم فأباح الله تعالى لهم ذلك وَاشْكُرُوا لِلَّهِ يعني على نعمه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي اشكروا الله الذي رزقكم هذه النعم إن كنتم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه إلهكم لا غيره وقيل إن كنتم عارفين بالله وبنعمه فاشكروه عليها. [سورة البقرة (2): آية 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) قوله عز وجل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ لما أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات بين في هذه الآية أنواعا من المحرمات، أما الميتة فكل ما فارقته روحه من غير ذكاة مما يذبح. وأما الدم فهو الجاري وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله فحرم الله الدم. وأما الخنزير فإنه أراد بلحمه جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يعني وما ذبح للأصنام والطواغيت وأصل الإهلال رفع الصوت وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم

بذكر آلهتهم إذا ذبحوا لها فجرى ذلك مجرى أمرهم وحالهم حتى قيل لكم ذابح مهل وإن لم يجهر بالتسمية فَمَنِ اضْطُرَّ يعني إلى أكل الميتة وأحوج إليها غَيْرَ باغٍ أصل البغي الفساد وَلا عادٍ أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فأكل فلا إثم عليه، أي فلا حرج في أكلها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي لما أكله في حال الضرورة رَحِيمٌ يعني حيث رخص لعباده في ذلك. (فصل في حكم هذه الآية وفيه مسائل) الأولى في حكم الميتة أجمعت الأمة على تحريم أكل الميتة، وأنها نجسة واستثنى الشرع منها السمك والجراد، أما السمك فلقوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه الجماعة غير البخاري ومسلم. قال الترمذي: فيه حديث حسن صحيح. وأما الجراد فلما روي عن ابن أبي أوفى قال: «غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع غزوات، أو ستا وكنا نأكل الجراد ونحن معه» أخرجاه في الصحيحين. واختلف في السمك الميت الطافي على الماء فقال مالك والشافعي لا بأس به وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي إنه مكروه وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما طفى من صيد البحر فلا تأكله وعن ابن عباس وجابر بن عبد الله مثله وروي عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحته. واختلف في الجراد، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا. وروى مالك أن ما وجد ميتا فلا يحل وما أخذ حيا يذكى زكاة مثله بأن يقطع رأسه ويشوى فإن غفل عنه حتى يموت فلا يحل. المسألة الثانية في حكم الدم: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل، ولا ينتفع به. قال الشافعي: تحرم جميع الدماء سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح. وقال أبو حنيفة: دم السمك ليس بحرام قال لأنه إذا يبس ابيض واستثنى الشارع من الدم الكبد والطحال. روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد ومن الدم الكبد والطحال» وفي لفظ آخر: «أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد» أخرجه ابن ماجة وأحمد بن حنبل. قال أحمد وعلي بن المديني: عبد الرحمن بن زيد ضعيف. وأخوه عبد الله بن زيد قوي. ثقة. وقد أخرج الدارقطني هذا الحديث من رواية عبد الله بن زيد عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا وضعف أبو بكر بن العربي هذا الحديث وقال: يروى عن عمر بما لا يصح سنده وقال البيهقي: يروى هذا الحديث عن ابن عمر موقوفا ومرفوعا والصحيح الموقوف. واختلف في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال فقال: مالك لا تخصيص لأن الكبد والطحال لحم، ويشهد لذلك العيان الذي لا يفتقر إلى برهان وقال الشافعي: هما دمان ويشهد له الحديث فهو تخصيص من العموم. المسألة الثالثة في الخنزير: أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الانتفاع متعلق به ثم اختلفوا في نجاسته فقال جمهور العلماء إنه نجس وقال مالك: إنه طاهر. وكذا كل حيوان عنده، لأن علة الطهارة هي الحياة وللشافعي قولان: في ولوغ الخنزير الجديد أنه كالكلب والقديم يكفي في ولوغه غسلة واحدة. والفرق بينهما أن التغليظ في الكلب لأن العرب كانت تألفه بخلاف الخنزير. وقيل: إن التغليظ في الكلب تعبدي لا يعقل معناه فلا يتعدى إلى غيره. المسألة الرابعة في حكم قوله: وما أهل به لغير الله: من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان التي كانوا يذبحونها لأصنامهم، وأجاز ذبيحة النصارى إذا سمي عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب لعموم قوله: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم.

[سورة البقرة (2): الآيات 174 إلى 175]

وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. المسألة الخامسة في حكم المضطر: المضطر هو المكلف بالشيء، الملجأ إليه المكره عليه والمراد بالمضطر في قوله فمن اضطر أي خاف التلف حتى قيل: من اضطر إلى أكل فلم يأكل الميتة فلم يأكل منها حتى مات دخل النار. والمضطر على ثلاثة أقسام: إما بإكراه أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد شيئا البتة فإن التحريم يرتفع مع وجود هذه الأقسام بحكم الاستثناء في قوله: فلا إثم عليه وتباح له الميتة فأما الإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه وأما المخمصة فلا يخلو إن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء فيه. وللشافعي قولان أحدهما أنه يأكل ما يسد به الرمق، وبه قال أبو حنيفة. والثاني يأكل قدر الشبع، وبه قال مالك. المسألة السادسة في قوله غير باغ ولا عاد: قال ابن عباس: معنى غير باغ غير خارج على السلطان ولا عاد أي معتد يعني العاصي بسفره بأن يخرج لقطع الطريق أو أبق من مولاه فلا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل من الميتة إذا اضطر إليها، ولا يترخص برخص المسافرين حتى يتوب، وبه قال الشافعي: لأن إباحة الميتة له إعانة له على فساده وذهب قوم إلى أن البغي والعدوان يرجعان إلى الأكل وبه قال أبو حنيفة. وأباح أكل الميتة للمضطر وإن كان عاصيا، وقيل في معنى قوله غير باغ أي غير طالب الميتة وهو يجد غيرها ولا عاد أي غير متعد ما حدّ له، وقيل: غير مستحل لها ولا متزود منها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 175] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم وذلك أنهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو من غيرهم خافوا على ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكتموها فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ أي في الكتاب من صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونعته ووقت نبوته هذا قول المفسرين قال الإمام فخر الدين الرازي وعند المتكلمين هذا ممتنع لأن التوراة والإنجيل قد بلغا من الشهرة والتواتر إلى حيث تعذر ذلك فيهما بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان منهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محالها الصحيحة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهذا هو المراد بالكتمان فيصير المعنى، إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي بالكتمان وقيل يعود الضمير إلى ما أنزل الله من الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا وهي المآكل التي كانوا يأخذونها من سفلتهم أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ يعني ما يؤديهم إلى النار وهو الرشا والحرام فلما كان يفضي بهم ذلك إلى النار فكأنهم أكلوها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة وما يسرهم بل يكلمهم بالتوبيخ، وهو قوله اخسئوا فيها وقيل أراد به الغضب يقال فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع يصل ألمه إلى قلوبهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ معناه: أنهم اختاروا الضلالة على الهدى واختاروا العذاب على المغفرة لأنهم كانوا عالمين بالحق، ولكن كتموه وأخفوه وكان في إظهاره الهدى والمغفرة وفي كتمانه الضلالة والعذاب فلما أقدموا على إخفاء الحق

[سورة البقرة (2): الآيات 176 إلى 177]

وكتمانه كانوا بائعين الهدى بالضلالة والمغفرة بالعذاب فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما الذي صبرهم وأي شيء جسرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل، فهو استفهام بمعنى التوبيخ وقيل: إنه بمعنى التعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، فلما أقدموا على ما يوجب النار مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بالعذاب والصابرين عليه، تعجب من حالهم بقوله: فما أصبرهم على النار. [سورة البقرة (2): الآيات 176 الى 177] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ يعني ذلك العذاب بسبب إن الله نزل الكتاب بِالْحَقِّ فكفروا به وأنكروه وقيل معناه فعلنا بهم ذلك، لأن الله أنزل الكتاب بالحق فحرفوه فعلى هذا يكون المراد بالكتاب التوراة وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ يعني اختلفوا في معانيه وتأويله فحرفوها وبدلوها، وقيل: آمنوا ببعض وكفروا ببعض لَفِي شِقاقٍ أي خلاف ومنازعة بَعِيدٍ يعني عن الحق. قوله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ هذا خطاب لأهل الكتاب لأن النصارى تصلي قبل المشرق واليهود قبل المغرب إلى بيت المقدس، وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكن فيما بينه في هذه الآية. وقال ابن عباس: هو خطاب للمؤمنين وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام إذا أتى بالشهادتين وصلى إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزلت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة، أنزل الله هذه الآية فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ أي في صلاتكم قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا ذلك وَلكِنَّ الْبِرَّ يعني ما بينته لكم والبر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله الموجبة للثواب والمؤدية إلى الجنة ثم بين خصالا من البر فقال تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أي ولكن البر من آمن بالله فالمراد بالبر هنا الإيمان بالله والتقوى من الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وإنما ذكر الإيمان باليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان كانوا ينكرون البعث بعد الموت وَالْمَلائِكَةِ أي ومن البر الإيمان بالملائكة كلهم لأن اليهود قالوا: إن جبريل عدونا وَالْكِتابِ قيل: أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله وَالنَّبِيِّينَ يعني أجمع وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ يعني من أعمال البر إيتاء المال على حبه قيل إن الضمير راجع إلى المال فالتقدير على هذا وآتى المال على حب المال (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» قوله حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح وإن لم يتقدم لها ذكر وقوله لفلان كذا هو كناية عن الموصى له وقوله وقد كان لفلان كناية عن الوارث وقيل الضمير في حبه راجع إلى الله تعالى أي وآتي المال على حب الله وطلب مرضاته ذَوِي الْقُرْبى يعني أهل قرابة المعطي وإنما قدمهم لأنهم أحق بالإعطاء. عن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة» أخرجه النسائي (ق): «إن ميمونة رضي الله عنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت

[سورة البقرة (2): آية 178]

أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال أو قد فعلت قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» الوليدة الجارية وَالْيَتامى اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر وقيل: يقع على الصغير والبالغ أي وآتى الفقراء من اليتامى وَالْمَساكِينَ جمع مسكين سمي بذلك لأنه دائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له وَابْنَ السَّبِيلِ يعني المسافر المنقطع عن أهله سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل هو الضيف ينزل بالرجل لأنه إنما وصل إليه من السبيل وهو الطريق والأول أشبه لأن ابن السبيل اسم جامع جعل للمسافر وَالسَّائِلِينَ يعني الطالبين المستطعمين. عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «للسائل حق ولو جاء على فرس» أخرجه أبو داود عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» أخرجه مالك في الموطأ عن أم نجيد قالت: قلت يا رسول الله إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئا أعطيه إياه قال: «إن لم تجدي إلّا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ردوا المسكين ولو بظلف محرق» قوله ردوا المسكين، لم يرد به رد الحرمان وإنما أراد به ردوه بشيء تعطونه إياه ولو كان ظلفا وهو خف الشاة وفي كونه محرقا مبالغة في قلة ما يعطي وَفِي الرِّقابِ يعني المكاتبين. وقيل: هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأسارى وَأَقامَ الصَّلاةَ يعني المفروضة في أوقاتها وَآتَى الزَّكاةَ يعني الواجبة وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ يعني ما أخذه الله من العهود على عباده بالقيام بحدوده والعمل بطاعته. وقيل: أراد بالعهد ما يجعله الإنسان على نفسه ابتداء من نذر وغيره. وقيل: العهد الذي كان بينه وبين الناس مثل الوفاء بالمواعيد وأداء الأمانات إِذا عاهَدُوا يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا نذروا أوفوا وإذا حلفوا بروا في أيمانهم وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم وإذا ائتمنوا أدوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ أي في الشدة والفقر والفاقة وَالضَّرَّاءِ يعني المرض والزمانة وَحِينَ الْبَأْسِ يعني القتال والحرب في سبيل الله. وسمي الحرب بأسا لما فيه من الشدة (ق) عن البراء قال كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله احمر البأس: أي اشتد الحرب ونتقي به أي نجعله وقاية لنا من العدو أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 178] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى نزلت في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية بسبب قتيل، فكانت بينهم قتلى وحروب وجراحات كثيرة، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام. وقيل نزلت في الأوس والخزرج، وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهر، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية وأمره بالمساواة فرضوا وسلموا. وقيل: إنما نزلت هذه الآية لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل والعرب في الجاهلية كانوا يوجبون القتل تارة ويوجبون أخذ الدية تارة وكانوا يتعدون في الحكمين فإن وقع القتل على شريف قتلوا به عددا ويأخذون دية الشريف أضعاف دية الخسيس، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم أوجب الله رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض عليكم الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى. فإن قلت: كيف يكون القصاص فرضا

والولي مخير فيه بين العفو والقصاص وأخذ الدية؟ قلت: إن القصاص فرض على القاتل للولي لا على الولي. وقيل إذا أردتم القصاص فقد فرض عليكم. والقصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل فيفعل به مثل ذلك، فلو قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر فمات فيقتل القاتل بمثل الذي قتل به وهو قول مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة والرواية الثانية عن أحمد الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ومعناه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم فيقتل كل صنف إذ قتل بمثله الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: سألت عليا هل عندكم من النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء سوى القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلّا أن يؤتى الله عبدا فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة قال: العقل وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر، وقد أخرج مسلم عن علي نحو هذا من غير رواية أبي جحيفة. العقل هنا هو الدية والعاقلة الجماعة من أولياء القاتل الذين يعقلون. عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد» أخرجه الترمذي، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل الذمي والحر بالعبد وهذه الآية مع الأحاديث حجة لمذهب الشافعي ومن وافقه ويقولون هي مفسرة لما أبهم في قوله: «النفس بالنفس» وأن تلك واردة لحكاية ما كتب على بني إسرائيل في التوراة وهذه الآية خطاب للمسلمين بما كتب عليهم وذهب أصحاب الرأي إلى أن هذه منسوخة بقوله «النفس بالنفس» وتقتل الجماء بالواحد يدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. قال البخاري وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه: أن أربعة قتلوا صبيا فقال عمر مثله. وروى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا. الغيلة أن يقتل الرجل خديعة ومكرا من غير أن يعلم ما يراد به. وقوله لقتلتهم لو تمالأ أي تعاونوا واجتمعوا عليه. وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد، ورضي بالدية أو العفو عنها، أو قبول الدية في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه وأراد بالأخ ولي المقتول، وإنما قيل له أخ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم والمطالب به. وقيل: إنما ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بما هو ثابت بينهما من الجنسية وأخوة الإسلام. وفي قوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود وثبتت الدية لأن شيئا من الدم قد بطل فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فليتبع الولي القاتل بالمعروف فلا يأخذ أكثر من حقه ولا يعنفه وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه وقيل في تقدير الآية: وإذا عفا ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل، وهو وجوب القصاص فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وليؤد ما وجب عليه من الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مطل ولا مدافعة. وفي الآية دليل على أن القاتل يصير كافرا وأن الفاسق مؤمن ووجه ذلك من وجوه: الأول إن الله تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمنا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فسماه مؤمنا حال ما وجب عليه من القصاص. وإنما وجب عليه بعد صدور القتل منه وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن. الوجه الثاني: أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم بقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أراد بالأخوة أخوة الإيمان فلولا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة.

[سورة البقرة (2): الآيات 179 إلى 180]

الوجه الثالث: أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والعفو لا يليق إلّا عن المؤمن لا عن الكافر. وقوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ يعني الذي ذكر من الحكم بشرع القصاص والعفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم، يعني في حقكم ورحمة، وذلك لأن العفو وأخذ الدية كان حراما على اليهود وكان القصاص حتما في التوراة، وكان في شرع النصارى أخذ الدية ولم يكتب عليهم القصاص، وقيل: كان عليهم العفو دون القصاص وأخذ الدية فخير الله هذه الأمة بين القصاص أو العفو وأخذ الدية توسعة عليهم وتيسيرا وتفضيلا لهم على غيرهم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعني بعد هذا التخفيف فقتل الجاني بعد العفو أو قبول الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو أن يقتل قصاصا ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه. وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الآخرة .. [سورة البقرة (2): الآيات 179 الى 180] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) قوله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أي بقاء، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل قتل ترك القتل وامتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من هم بقتله. وقيل: إن نفس القصاص سبب للحياة وذلك أن القاتل إذا اقتص منه ارتدع غيره ممن كان يهم بالقتل. واعلم أن هذا الحكم ليس مختصا بالقصاص الذي هو القتل بل يدخل فيه جميع الجراح والشجاج وغير ذلك لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح لم يجرح، فيصير ذلك سببا لبقاء الجارح والمجروح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت فيقتص من الجارح. وقيل في معنى الآية إن الحياة سلامته من قصاص الآخرة فإنه إذا اقتص منه في الدنيا لم يقتص منه في الآخرة، وفي ذلك حياته وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول الذين يعرفون الصواب لأن العاقل لا يريد إتلاف نفسه بإتلاف غيره لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني لعلكم تنتهون عن القتل خوف القصاص. قوله عز وجل: كُتِبَ أي فرض وأوجب عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي قرب ودنا منه، وظهرت آثاره عليه من العلل والأمراض المخوفة وليس المراد منه معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء إِنْ تَرَكَ خَيْراً يعني مالا قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري: فتجب الوصية في الكل وقيل: إن لفظة الخير لا تطلق إلّا على المال الكثير وهو قول الأكثرين واختلفوا في مقدار الكثير الذي تقع فيه الوصية فقيل: ألف درهم فما زاد عليها. وقيل: سبعمائة فما فوقها. وقيل: ستون دينارا فما فوقها. وقيل: إنه من خمسمائة إلى ألف وقيل: إنه المال الكثير الفاضل عن العيال، روي أن رجلا قال لعائشة: إني أريد أن أوصي فقالت كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم قالت: كم عيالك؟ قال أربعة. قالت إنما قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. الْوَصِيَّةُ أي الإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به وقيل: هي القول المبين لما يستأنف من العمل والقيام به بعد الموت لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت الوصية في ابتداء الإسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال. وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف والرياء ويتركون الأقربين فقراء فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث، وبما روي عن عمرو بن خارجة قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب فسمعته يقول: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» أخرجه النسائي والترمذي، نحوه وذهب ابن عباس إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق من يرث، وبقي وجوبها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين. وهو قول الحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار وحجة هؤلاء أن الآية دالة على وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك الوجوب في حق من يرث بآية الميراث وبالحديث، المذكور فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية

[سورة البقرة (2): آية 181]

للقريب الذي لا يرث فعلى قول هؤلاء النسخ يتناول بعض أحكام الآية، وذهب الأكثرون من المفسرين والعلماء وفقهاء الحجاز والعراق إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق الكافة وهي مستحبة في حق من لا يرث ويدل على استحباب الوصية والحث عليها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه» وفي رواية: «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين» وفي رواية: «ثلاث ليال إلّا ووصيته مكتوبة عنده» قال نافع سمعت عبد الله بن عمر يقول: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك إلّا ووصيتي مكتوبة عندي أخرجه الجماعة. قوله: ما حق امرئ الحق يشتمل معناه على الوجوب والندب والحث، فيحمل هنا على الحث في الوصية لأنه لا يدري متى يأتيه الموت فربما أتاه بغتة فيمنعه عن الوصية. وقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط فلا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلّا ابنة لي أفأتصدق بثلثي ما لي قال لا قلت فالشطر يا رسول الله قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير أو قال والثلث كبير إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» العالة الفقراء وقوله يتكففون الناس التكفف. المسألة: من الناس كأنه من الطلب بالأكف (ق) عن ابن عباس قال: في الوصية: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسعد والثلث كثير وقال علي بن أبي طالب لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك» وقيل يوصي بالسدس أو بالخمس أو الربع حَقًّا أي ثابتا ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب عَلَى الْمُتَّقِينَ أي على المؤمنين الذين يتقون الشرك. [سورة البقرة (2): آية 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الوصية من الأولياء والأوصياء وذلك التغيير يكون إما في الكتابة أو في قسمة الحقوق، أو الشهود بأن يكتموا الشهادة أو يغيروها. وإنما ذكر الكناية في بدله مع أن الوصية مؤنثة لأن الوصية بمعنى الإيصاء كقوله: «فمن جاءه موعظة» أي وعظ والتقدير فمن بدل قول الميت، أو ما أوصي به بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي من الموصي وتحققه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي إن إثم ذلك التبديل لا يعود إلّا على المبدل، والموصي والموصى له بريئان منه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني لما أوصى به الموصي عَلِيمٌ يعني بتبديل المبدل. [سورة البقرة (2): الآيات 182 الى 183] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) فَمَنْ خافَ أي علم وهو خطاب عام لجميع المسلمين مِنْ مُوصٍ جَنَفاً يعني جورا في الوصية وعدولا عن الحق، والجنف الميل أَوْ إِثْماً أي ظلما فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وقيل الجنف الخطأ في الوصية والإثم العمد. وقيل في معنى الآية: إنه إذا حضر رجل مريضا وهو يوصي فرآه يميل في وصيته إما بتقصير أو إسراف أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج عليه أن يأمره بالعدل في وصيته وينهاه عن الجنف والميل، وقيل إنه أراد به إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف متعمدا فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ويرد الوصية إلى العدل والحق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فلا حرج عليه في الصلح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن أصلح وصيته بعد الجنف والميل. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل والمرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية

[سورة البقرة (2): آية 184]

فتجب لهما النار» ثم قرأ أبو هريرة: «من بعد وصية يوصي بها أو دين» إلى قوله: «ذلك الفوز العظيم» أخرجه أبو داود والترمذي. قوله: فيضار إن المضارة إيصال الضرر إلى شخص ومعنى المضارة في الوصية أن لا تمضى أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها أو يحيف في الوصية ونحو ذلك. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ أي فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. والصوم في اللغة: الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة ومنه قوله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام، والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع في وقت مخصوص وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم والمعنى أن الصوم عبادة قديمة أي في الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم وذلك لأن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل عمله وقيل إن صيام شهر رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فصاموا رمضان زمانا فربما وقع في الحر الشديد والبر الشديد وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء: فجعلوه في فصل الربيع ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصاموا أربعين يوما، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا فبرأ فزاد فيه أسبوعا، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر فقال: ما شأن هذه الثلاثة أيام أتموه خمسين يوما فأتموه وقيل أصابهم موتان فقالوا: زيدوا في صيامكم فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده. وقيل: إن النصارى فرض الله عليهم صوم رمضان فصاموا قبله يوما وبعده يوما ثم لم يزالوا يزيدونه يوما بعد يوم حتى بلغ خمسين فلذلك نهى عن صوم يوم الشك لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني ما حرم عليكم في صيامكم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من كسر النفس وترك الشهوات من الأكل والجماع وغيرهما. وقيل: معناه لعلكم تتقون ما فعله النصارى من تغيير الصوم وقيل: لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين لأن الصوم من شعارهم. [سورة البقرة (2): آية 184] أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي مقدرات. وقيل قليلات. قيل: إنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا وصوم يوم عاشوراء ثم نسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان. قال ابن عباس أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ثم الصوم (ق) عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه وقيل إن المراد من قوله أياما معدودات أيام شهر رمضان ووجهه أن الله تعالى قال أولا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وهذا يحتمل صوم يوم أو يومين ثم بينه بقوله: معدودات على أنه أكثر من ذلك لكنها غير منحصرة بعدد ثم بين حصرها بقوله: شهر رمضان فإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمل الأيام المعدودات على غير رمضان فتكون الآية غير منسوخة يقال: إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ أي فأفطر فعليه فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعني غير أيام مرضه وسفره وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي يطيقون الصوم. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة وهو قول عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ

[سورة البقرة (2): آية 185]

التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصارت هذه الآية ناسخة للتخيير (ق) عن سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسخها وفي رواية حتى نزلت هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقال قتادة: هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له أن يفطر ويفتدي ثم نسخ ذلك. وقال الحسن: هذا في المريض الذي يقع عليه اسم المرض وهو يستطيع الصوم خير بين الصيام وبين أن يفطر ويفتدي ثم نسخ. وذهب جماعة منهم ابن عباس إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومعناها وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب، ثم عجزوا عنه عند الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم وقرأ ابن عباس: وعلى الذين يطوقونه بضم الياء وفتح الطاء وبالواو المشددة المفتوحة عوض الياء ومعناه يكلفون الصوم (خ) عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: «وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين» قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ الفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله الإنسان، يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها ويجب على من أفطر في رمضان ولم يقدر على القضاء، لكبر أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من غالب قوت البلد وهذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء العراق عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم وقال بعضهم نصف صاع من البر وصاع من غيره، وقال ابن عباس يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يعني زاد على مسكين واحد فأطعم عن كل يوم مسكينين فأكثر، وقيل فمن زاد على قدر الواجب عليه فأطعم صاعا وعليه مد فهو خير له وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ قيل هو خطاب مع الذين يطيقونه فيكون المعنى وأن تصوموا أيها المطيقون وتتحملوا المشقة فهو خير لكم من الإفطار والفدية، وقيل: هو خطاب مع الكافة وهو الأصح لأن اللفظ عام فرجوعه إلى الكل أولى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن الصوم خير لكم وقيل: معناه إذا صمتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى. واعلم أنه لا رخصة لأحد من المسلمين المكلفين في إفطار رمضان بغير عذر والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة: أحدها السفر والمرض والحيض والنفاس فهؤلاء إذا أفطروا فعليهم القضاء دون الكفارة. الثاني الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفارة وإليه ذهب الشافعي، وذهب أهل الرأي إلى أنه لا فدية عليهما. الثالث الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه فعليهم الكفارة دون القضاء. [سورة البقرة (2): آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) قوله عز وجل: شَهْرُ رَمَضانَ يعني وقت صيامكم شهر رمضان، سمي الشهر شهرا لشهرته يقال: للسر إذا أظهره شهره وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه وقيل: سمي الشهر شهرا باسم الهلال، وأما رمضان فاشتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة في الشمس وقيل: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسموه به. وقيل: إن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فيكون معناه شهر الله والأصح أن رمضان اسم لهذا الشهر كشهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لما خص الله شهر رمضان بهذه العبادة العظيمة بين سبب تخصيصه بإنزال أعظم كتبه فيه، والقرآن اسم لهذا الكتاب المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روي عن الشافعي أنه كان يقول القرآن اسم وليس بمهموز وليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل فعلى هذا القول إنه ليس بمشتق وذهب

الأكثرون إلى أنه مشتق من القرء وهو الجمع فسمي قرآنا لأنه يجمع السور والآيات بعضها إلى بعض، ويجمع الأحكام والقصص والأمثال والآيات الدالة على وحدانية الله تعالى. قال ابن عباس أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله: «فلا أقسم بمواقع النجوم» وروى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان، وفي رواية في أول ليلة من رمضان وأنزلت توراة موسى في ست ليال مضين من رمضان وأنزل إنجيل عيسى في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمد صلّى الله عليه وسلّم في الرابعة والعشرين لست بقين بعدها» فعلى هذا يكون ابتداء نزول القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان، وهو قول ابن إسحاق وأبي سليمان الدمشقي وقيل في معنى الآية شهر رمضان الذي نزل بفرض صيامه القرآن كما تقول نزلت هذه الآية في الصلاة والزكاة ونحو ذلك من الفرائض يروى ذلك عن مجاهد والضحاك وهو اختيار الحسن بن الفضل هُدىً لِلنَّاسِ يعني من الضلال وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. فإن قلت هذا فيه إشكال وهو أنه يقال ما معنى قوله: وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس؟ قلت إنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ثم الهدى على قسمين: تارة يكون هدى جليا وتارة لا يكون كذلك، فكأنه قال هو هدى في نفسه ثم قال: هو المبين من الهدى الفارق بين الحق والباطل وقيل: إن القرآن هدى في نفسه فكأنه قال: إن القرآن هدى للناس على الإجمال وبينات من الهدى والفرقان على التفصيل، لأن البينات هي الدلالات الواضحات التي تبين الحلال الحرام والحدود والأحكام، ومعنى الفرقان الفارق بين الحق والباطل. قوله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي فمن كان حاضرا مقيما غير مسافر فأدركه الشهر فليصمه والشهود الحضور، وقيل: هو محمول على العادة بمشاهدة الشهر وهي رؤية الهلال ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» أخرجاه في الصحيحين، ولا خلاف أنه يصوم رمضان من رأى الهلال ومن أخبر به واختلف العلماء في وجه الخبر عنه منهم من قال يجزئ فيه خبر الواحد، قاله أبو ثور: ومنهم من أجراه مجرى الشهادة في سائر الحقوق قاله مالك: ومنهم من أجرى أوله مجرى الأخبار فقبل فيه خبر الواحد وأجرى آخره مجرى الشهادة فلا يقبل في آخر أقل من اثنين قاله الشافعي: وهذا للاحتياط في أمر العبادة لدخولها وخروجها وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إنما كرره لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فلو اقتصر على هذا لاحتمل أن يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه. (فصل في حكم الآية) وفيه مسائل: الأولى: اختلفوا في المرض المبيح للنظر على ثلاثة أقوال: أحدها وهو قول أهل الظاهر أي مرض كان وهو ما يطلق عليه اسم المرض، فله أن يفطر تنزيلا للفظ المطلق على أقل أحواله، وإليه ذهب الحسن وابن سيرين. القول الثاني وهو قول الأصم إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام، لوقع في مشقة عظيمة تنزيلا للفظ المطلق على أكمل أحواله. القول الثالث وهو قول أكثر الفقهاء إن المرض المبيح للفطر، هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة علة محتملة كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتدت حماه وصاحب وجع العين يخاف لو صام أن يشتد وجع عينه فالمراد بالمرض، ما يؤثر في تقويته قال الشافعي إذا أجهده الصوم أفطر، وإلّا فهو كالصحيح.

المسألة الثانية: الفطر في السفر مباح، والصوم جائز وبه قال عامة العلماء وقال ابن عباس وأبو هريرة وبعض أهل الظاهر: لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصيام في السفر» وحمله عامة العلماء على من يجهده الصوم في السفر فالأولى له الفطر ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ قالوا صائم قال: ليس من البر الصيام في السفر» أخرجه البخاري ومسلم، وحجة الجمهور على جواز الصوم والفطر في السفر ما روي عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» أخرجاه في الصحيحين. المسألة الثالثة: اختلف العلماء في قدر السفر المبيح للفطر. فقال داود: الظاهري أي سفر كان ولو كان فرسخا. وقال الأوزاعي: السفر المبيح للفطر مسيرة يوم واحد. وقال الشافعي وأحمد ومالك: أقله مسيرة ستة عشر فرسخا يومان وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله مسيرة ثلاثة أيام. المسألة الرابعة: إذا استهل الشهر وهو مقيم ثم أنشأ السفر في أثنائه جاز له أن يفطر حالة السفر ويجوز له أن يصوم في بعض السفر وأن يفطر في بعضه إن أحب، يدل عليه ما روي عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجاه في الصحيحين. الكديد اسم موضع وهو على ثمانية وأربعين ميلا من مكة. المسألة الخامسة: اختلفوا في الأفضل. فذهب الشافعي إلى أن الصوم أفضل من الفطر في السفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد الفطر، أفضل من الصوم في السفر، وقالت طائفة من العلماء: هما سواء، وأفضل الأمرين أيسرهما، لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. المسألة السادسة: يبيح الفطر كل سفر مباح ليس سفر معصية ولا يجوز للعاصي بسفره أن يترخص برخص الشرع وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ معناه فأفطر فعليه عدة من أيام آخر فظاهر هذا أنه يجوز قضاء الصوم متفرقا وإن كان التتابع أولى، وفيه أيضا وجوب القضاء من غير تعيين لزمن القضاء فيدل على جواز التراخي في القضاء ويدل عليه أيضا ما روي عن عائشة قالت: «كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلّا في شعبان ذاك من الشغل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم» أخرجاه في الصحيحين يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ أي التسهيل في هذه العبادة وهي إباحة الفطر للمسافر والمريض وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي وقد نفى عنكم الحرج في أمر الدين قيل: ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلّا كان ذلك أحب إلى الله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض والحيض، لتقضوا بعددها وقيل: أراد عدد أيام الشهر (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين» وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ فيه قولان أحدهما أنه تكبير ليلة العيد، قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا إهلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي: واجب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يكبر في عيد الفطر ويكبر في عيد الأضحى حجة الشافعي ومن وافقه قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ قالوا: معناه ولتكملوا عدة صوم رمضان ولتكبروا الله على ما هداكم إلى آخر هذه العبادة القول الثاني في معنى قوله لتكبروا الله، أي ولتعظموا الله شكرا على ما أنعم به عليكم ووفقكم للقيام بهذه العبادة عَلى ما هَداكُمْ أي أرشدكم إلى طاعته وإلى ما يرضى به عنكم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على نعمه.

[سورة البقرة (2): آية 186]

(فصل: في فضل شهر رمضان وفضل صيامه) (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل شهر رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار» الصفد الغل أي شدت بالأغلال (ق) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. قوله إيمانا واحتسابا أي طلبا لوجه الله تعالى وثوابه وقيل إيمانا بأنه فرض عليه، واحتسابا ثوابه عند الله وقيل: معناه نية وعزيمة وهو أن يصوم على التصديق به والرغبة في ثوابه طيبة بها نفسه غير كارهة (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: «إلّا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» زاد في رواية «والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم». قوله: كل عمل ابن آدم له معناه أن له فيه حظا لاطلاع الخلق عليه إلّا الصوم فإنه لا يطلع عليه أحد وإنما خص الصوم بقوله تعالى لي وإن كانت جميع الأعمال الصالحة له وهو يجزى عليها لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بقول ولا فعل حتى تكتبه الحفظة وإنما هو من أعمال القلوب بالنية ولا يطلع عليه إلّا الله تعالى لقول الله تعالى: إنما أتولى جزاءه على ما أحب لا على حساب ولا كتاب له. وقوله: وللصائم فرحتان فرحة عند فطره أي بالطعام لما بلغ به من الجوع لتأخذ النفس حاجتها منه وقيل فرحة بما وفق له من إتمام الصوم الموعود عليه بالثواب وهو قوله: وفرحة عند لقاء ربه لما يرى من جزيل ثوابه. وقوله: ولخلوف بضم الخاء وفتحها لغتان وهو تغير طعم الفم وريحه لتأخير الطعام ومعنى كونه أطيب عند الله من ريح المسك هو الثناء على الصائم والرضا بفعله، لئلا يمتنع من المواظبة على الصوم الجالب للخلوف والمعنى أن خلوف فم الصائم أبلغ عند الله في القبول من ريح المسك عند أحدكم. قوله: الصيام جنة أي حصن من المعاصي لأن الصوم يكسر الشهوة فلا يواقع المعاصي قوله فلا يرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الإنسان من المرأة، وقيل: هو التصريح بذكر الجماع. والصخب الضجر والجلبة والصياح (ق) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة بابا يقال له باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيام يقال أين الصائمون فيقومون. لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد وفي رواية إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلّا الصائمون» عن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» وفي رواية: «أي العمل أفضل فقال عليك بالصوم فإنه لا عدل له» أخرجه النسائي. [سورة البقرة (2): آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) قوله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ قال ابن عباس قال يهود المدينة: يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وأن غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل سأل بعض الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه وقيل إنهم سألوه في أي ساعة ندعو ربنا فنزلت. وقيل: إنهم قالوا أين ربنا؟ فنزلت هذه الآية وهذا السؤال لا يخلو إما أن يكون عن ذات الله أو عن صفاته أو عن أفعاله أما السؤال عن ذات الله فهو سؤال عن القرب والبعد بحسب الذات، وأما السؤال عن صفاته تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يسمع ربنا دعاءنا، وأما السؤال عن أفعاله تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يجيب ربنا إذا دعوناه؟ فقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فيحتمل هذه الوجوه كلها، وقوله تعالى

فَإِنِّي قَرِيبٌ معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى علي شيء، وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله (ق) عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبير، أو قال: توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلّا الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم» قوله اربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بها وقيل معناه أمسكوا عن الجهر فإنه قريب يسمع دعاءكم. وقوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أي أسمع دعاء عبدي الداعي إذا دعاني وقيل: الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله تعالى كقول العبد: يا الله لا إله إلّا أنت فقولك يا الله فيه دعاء، وقولك: لا إله إلّا أنت فيه توحيد وثناء على الله تعالى فسمي هذا دعاء بهذا الاعتبار وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ، وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له ربا ومدبرا يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه وذلك ظاهر فإن العبد إذا دعا، وهو يعلم أن له ربا بإخلاص وتضرع أجاب الله دعوته. فإن قلت: إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب له فما وجه: قوله أجيب دعوة الداع؟ وقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. قلت ذكر العلماء فيه أجوبة: أحدها أن هذه الآية مطلقة وقد وردت آية أخرى مقيدة وهي قوله: «بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء» والمطلق يحمل على المقيد. وثانيها أن معنى الدعاء هنا هو الطاعة ومعنى الإجابة هو الثواب وذلك في الآخرة. وثالثها أن معنى الآيتين خاص. وإن كان لفظهما عاما فيكون معناه أجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء أو أجيبه إن كانت الإجابة خيرا له أو أجيبه إذا لم يسأل إثما أو محالا. ورابعها أن معناها عام أي أسمع وهو معنى الإجابة المذكورة في الآية، وأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فالإجابة حاصلة عند وجود الدعوة وقد يجيب السيد عبده ولا يعطيه سؤله. وخامسها أن للدعاء آدابا وشرائط وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها وأتى بها كان من أهل الإجابة ومن أخطأها كان من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب والله أعلم. وقوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يعني إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبتهم إذا دعوني لحوائجهم. والإجابة في اللغة الطاعة. فالإجابة من العبد الطاعة ومن الله الإثابة والعطاء وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي لكي يهتدوا إلى مصالح دينهم ودنياهم. (فصل: في فضل الدعاء وآدابه) (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يجب الإيمان به وبأنه حق على ما يليق به ونكل علمه إلى الله تعالى ورسوله وإن ظاهره المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويله مع اعتقادنا تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوقين وعن الانتقال والحركات. والمذهب الثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف أنها تؤول على ما يليق فعلى هذا نقل عن مالك وغيره أن معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته وقيل: إنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وفي الحديث الحث على الدعاء والترغيب فيه عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب. الصفر الخالي يقال بيت صفر ليس فيه متاع. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» أخرجه الترمذي. قوله الله أكثر معناه الله أكثر إجابة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي. وله عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم

[سورة البقرة (2): آية 187]

قال: «الدعاء مخ العبادة» وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل» وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يرد القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البر» وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله قد دعوت فلم يستجب لي» ولمسلم قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء». قوله يستحسر أي يستنكف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كلّ وضعف (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له» زاد البخاري «ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له» قوله ليعزم المسألة أي لا تكن في دعائك ربك مترددا بل أعزم وجد في المسألة. عن فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ليدع بما شاء» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ سبب نزول هذه الآية أنه كان في ابتداء الأمر بالصوم إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها فإذا صلى، أو رقد حرم عليه ذلك كله إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد ما صلّى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما كنت بذلك جديرا يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك فنزلت في عمر وأصحابه أحل لكم أي أبيح لكم ليلة أراد بالليلة ليالي الصيام الرفث إلى نسائكم الرفث كلام يستقبح لفظه من ذكر الجماع ودواعيه وهو هنا كناية عن الجماع قال ابن عباس إن الله تعالى حي كريم يكنى فما ذكره من المباشرة والملامسة وغير ذلك إنما هو الجماع هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ أي سكن لكم وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي سكن لهن قيل لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر وسمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وقيل اللباس اسم لما يوارى فيكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه» عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس يريد فيما ائتمنكم عليه وخيانتهم أنهم كانوا يباشرون في ليالي الصوم، والمعنى يظلمونها بالمجامعة بعد العشاء وهو من الخيانة وأصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي فيه الأمانة ويقال للعاصي خائن لأنه مؤتمن على دينه فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فتبتم فتاب عليكم وتجاوز عنكم وَعَفا عَنْكُمْ أي ومحا ذنوبكم (خ) عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ الآية قال ابن عباس: فكان

ذلك مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن فهو حلال لكم في ليالي الصوم، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة واحد بصاحبه وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي ما قضى لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد، وقيل: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ يعني الولد. وقيل: اطلبوا ليلة القدر. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نزلت في صرمة بن قيس بن صرمة الأنصاري، ويقال قيس بن صرمة وذلك أنه ظل يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخنا فأخذت تعمل له ذلك فلما فرغت فإذا هو قد نام وكان قد أعيا من التعب، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله وأبى أن يأكل وأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما رآه قال: يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحا فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية وقوله: طليحا أي مهزولا مجهودا (خ) عن البراء قال كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ومعنى الآية: وكلوا واشربوا في ليالي الصوم، حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود: بياض النهار من سواد الليل، وسميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الأفق ممتدا كالخيط، قال الشاعر: فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا السدف اختلاط الظلام وأسدف الفجر أضاء (ق) عن سهل بن سعد قال لما نزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل «من الفجر» فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله عز وجل بعده مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار (ق) عن عدي بن حاتم: «لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل فلا يتبين لي فغدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» قال: وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. واعلم أن الفجر الذي يحرم به على الصائم الطعام والشراب والجماع هو الفجر الصادق المستطير المنتشر في الأفق سريعا، لا الفجر الكاذب المستطيل. فإن قلت كيف شبه الصبح الصادق بالخيط والخيط مستطيل والصبح الصادق ليس بمستطيل؟. قلت إن القدر الذي يبدو من البياض هو أول الصبح يكون رقيقا صغيرا ثم ينتشر فلهذا شبه بالخيط، والفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب أن الفجر الكاذب يبدو في الأفق فيرتفع مستطيلا ثم يضمحل ويذهب ثم يبدو الفجر الصادق بعده منتشرا في الأفق مستطيرا (م) عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا» وحكاه حماد بيديه قال يعني معترضا وفي رواية الترمذي: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق» فإذا تحقق طلوع الفجر الثاني وهو الصادق حرم على الصائم الطعام والشراب والجماع إلى غروب الشمس وهو قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ

يعني منتهى الصوم إلى الليل فإذا دخل الليل حصل الفطر (ق) عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» وهل يلزم الصائم أن يتناول عند تحقق غروب الشمس شيئا؟ فيه وجهان: أحدهما نعم يلزم ذلك لنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال. والثاني لا، لأنه قد حصل الفطر بمجرد دخول الليل سواء أكل أو لم يأكل، وتمسكت الحنفية بهذه الآية في أن الصوم النفل يجب إتمامه وقالوا: لأن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر وهو للوجوب وهو يتناول كل الصيام. أجاب أصحاب الشافعي عنه بأن هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض فكان المراد منه صوم الفرض ويدل على إباحة الفطر من النفل ما روي عن عائشة قالت: «دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فقال هل عندكم شيء، قلنا لا قال: فإني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلت يا رسول الله أهدي لنا حيس. قال: أرنيه فلقد أصبحت صائما فأكل» أخرجه مسلم. الحيس هو خلط الأقط والتمر والسمن وقد يجعل عوض الأقط دقيق أو فتيت وقيل هو التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق والأول أعرف. قوله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ الاعتكاف هو الإقبال على الشيء والملازمة له على سبيل التعظيم. وهو في الشرع عبارة عن الإقامة في المسجد على عبادة الله تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرض لرجل منهم حاجة إلى أهله خرج إليها وخلا بها، ثم اغتسل ورجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك حتى يفرغوا من اعتكافهم. واعلم أن الله تعالى بين أن الجماع يحرم على الصائم بالنهار ويباح له في الليل، فكان يحتمل أن يكون حكم الاعتكاف كحكم الصوم فبين الله تعالى في هذه الآية أن الجماع يحرم على المعتكف في النهار والليل حتى يخرج من اعتكافه. (فصل في حكم الاعتكاف) الاعتكاف سنة ولا يجوز في غير المسجد، وذلك لأن المسجد يتميز عن سائر البقاع بالفضل لأنه بني لإقامة الطاعات والعبادات فيه. ثم اختلفوا فنقل عن علي أنه لا يجوز إلّا في المسجد الحرام لقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فخصه به وقال عطاء: لا يجوز إلّا في المسجد الحرام ومسجد المدينة. وقال حذيفة: يجوز في هذين المسجدين ومسجد بيت المقدس. وقال الزهري: لا يصح إلّا في الجامع وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلّا في مسجد له إمام ومؤذن وقال الشافعي ومالك وأحمد يجوز في سائر المساجد لعموم قوله: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ إلّا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج من معتكفه لصلاة الجمعة (ق) عن عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه بعده (ق) عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان». (فروع: الأول:) يجوز الاعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه، وقال أبو حنيفة: الصوم شرط في الاعتكاف ولا يصح إلّا به، وحجة الشافعي ما روي عن عمر: «قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فأوف بنذرك» أخرجاه في الصحيحين ومعلوم أنه لا يصح الصوم في الليل. (الفرع الثاني) لا يقدر للاعتكاف زمان عند الشافعي وأقله لحظة، ولا حد لأكثره، فلو نذر اعتكاف ساعة صح نذره، ولو نذر أن يعتكف مطلقا يخرج من نذره باعتكاف ساعة. قال الشافعي: وأحب أن يعتكف يوما، وإنما قال ذلك للخروج من الخلاف فإن أقل زمن الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم بشرط أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس.

[سورة البقرة (2): آية 188]

(الفرع الثالث) الجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به وأما ما دون الجماع كالقبلة ونحوها فمكروه ولا يفسد به عند أكثر العلماء، وهو أظهر قول الشافعي والثاني يبطل به وهو قول مالك، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا، وهو قول أبي حنيفة، وأما الملامسة بغير شهوة فجائز، ولا يفسد به الاعتكاف لما روي عن عائشة: «أنها كانت ترجل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي حائض وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه» زاد في رواية: «وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة إذا كان معتكفا» وفي رواية: «وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان» أخرجاه في الصحيحين. الترجيل تسريح الشعر، وقولها إلّا لحاجة حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها هاهنا كل ما يضطر الإنسان إليه مما لا يجوز له فعله في المسجد وموضع معتكفه. وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف من تحريم الأكل والشرب والجماع حدود الله وقيل حدود الله فرائض الله. وأصل الحد في اللغة المنع، والحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وحد الشيء بالوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره وقيل معنى حدود الله المقادير التي قدرها ومنع من مخالفتها فَلا تَقْرَبُوها أي فلا تأتوها ولا تغشوها. فإن قلت في الآية إشكالان: أما الأول فهو أنه قال: تلك حدود الله وهو إشارة إلى ما تقدم من الأحكام وبعضها فيه إباحة وبعضها فيه حظر فكيف قال في الجميع فلا تقربوها؟. الإشكال الثاني هو أنه تعالى قال في هذه الآية: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها وقال في آية أخرى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وقال في آية أخرى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ فكيف الجمع بين هذه الآيات؟. قلت: الجواب عن السؤالين من وجهين: أما الإشكال الأول، فجوابه أن الأحكام التي تقدمت فيما قبل، وإن كانت كثيرة إلّا أن أقربها إلى هذه الآية قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ وذلك يوجب تحريم الجماع في حال الاعتكاف، وقال قبلها: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وذلك يوجب تحريم الأكل والشرب في النهار فلما كان الأقرب إلى هذه الآية جانب التحريم قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها والجواب عن الإشكال الثاني أن من كان في طاعة الله تعالى والعمل بفرائضه فهو منصرف في حيزي الحق فنهي أن يتعداه فيقع في حيز الباطل ثم بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل فيقع فيه فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وقيل أراد بحدوده هنا محارمه ومناهيه لقوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ونحو هذا التحريم فهي حدود لا تقرب كَذلِكَ أي كما بين لكم ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أي معالم دينه وأحكام شريعته لِلنَّاسِ مثل هذا البيان الشافي الوافي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا ما حرم عليهم فينجوا من العذاب. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ادّعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أرض فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للحضرمي: ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض فأنزل الله هذه الآية. والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله له. وأصل الباطل الشيء الذاهب. (فصل) أما حكم الآية فأكل المال بالباطل على وجوه: الأول: أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب. الثاني:

[سورة البقرة (2): آية 189]

أن يأكله بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك. الثالث: أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم وشهادة الزور. الرابع: الخيانة وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك. وإنما عبر عن أخذ المال بالأكل لأنه المقصود الأعظم، ولهذا وقع في التعارف فلان يأكل أموال الناس بمعنى يأخذها بغير حلها وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ أي وتلقوا أمور تلك الأموال التي فيها الحكومة إلى الحكام. قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه المال وليس عليه بينة فيجحد ويخاصم إلى الحكام وهو يعلم أن الحق عليه وهو آثم بمنعه وقيل: هو أن يقيم شهادة الزور عند الحاكم وهو يعلم ذلك. وقيل معناه ولا تأكلوا المال بالباطل وتنسبوه إلى الحكام، وقيل: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراما (ق) عن أم سلمة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض» وفي رواية «ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها» قوله سمع جلبة خصم يعني أصوات خصم قوله ألحن بحجته، يقال: فلان ألحن بحجته من فلان أي أقوم بها منه وأقدر عليها، من اللحن بفتح الحاء وهو الفطنة لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً أي طائفة وقطعة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ يعني بالظلم وقال ابن عباس باليمين الكاذبة وقيل بشهادة الزور وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنكم على الباطل. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) يَسْئَلُونَكَ أي يا محمد عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقا كما بدا ولا يكون على حال واحدة فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وكان هذا سؤالا منهم على وجه الفائدة عن وجه الحكمة في تبيين حال الهلال في الزيادة والنقصان والأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس أول ليلة من الشهر قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ جمع ميقات، والمعنى أن فعلنا ذلك لمصالح دينية ودنيوية ليعلم الناس أوقات حجهم وصومهم وإفطارهم ومحل ديونهم وأجائرهم وعدد النساء وأوقات الحيض وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالأهلة ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة وَالْحَجِّ أي وللحج، وإنما أفرد الحج بالذكر وإن كان داخلا في جملة العبادات لفائدة عظيمة وهي أن العرب في الجاهلية كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها لفرض الحج بالأهلة، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر التي عينها الله تعالى له كما كانت العرب تفعل بالنسيء وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها (ق) عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها، وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فأنزل الله هذه الآية وقيل كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم لم يدخل حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من بابه، فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلما يصعد منه، وإن كان من أهل الوبر دخل وخرج من خلف الخباء ولا يدخل ولا يخرج من الباب ويرون ذلك برا، وكانت الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم، سموا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيتا البتة ولم يستظلوا بظل، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل حائطا فدخل

[سورة البقرة (2): آية 190]

رجل من الأنصار معه وقيل كانت الحمس لا يبالون بذلك، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل ذات يوم بيتا فدخل على أثره رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت من الباب وهو محرم فأنكروا عليه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم دخلت من الباب وأنت محرم فقال: رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني أحمسي فقال الرجل إن كنت أحمسيا فأنا أحمسي رضيت بهديك وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يجعلوا بينهم وبين السماء شيئا، وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما خرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ثم بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل من الأنصار من بني سلمة على أثره فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لم فعلت ذلك؟ قال: لأني رأيتك دخلت فقال عليه الصلاة والسلام: إني أحمسي فقال الأنصاري وأنا أحمسي يقول أنا على دينك فأنزل الله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها يعني في حال الإحرام وغيره وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [سورة البقرة (2): آية 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) قوله عز وجل: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وطلب رضوانه (ق) عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان في ابتداء الإسلام أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمر بقتال من قاتله منهم بهذه الآية. قال الربيع بن أنس: هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمر الله بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً. وبقوله: اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ فصارت آية السيف ناسخة لهذه الآية وقيل إنها محكمة ومعناها على هذا القول وقاتلوا في سبيل الله الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من لم يعدّ نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ والزمنى والمكافيف والمجانين فلا تقاتلوهم لأنهم لم يقاتلوكم، وهو قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا وقال ابن عباس ولا تقتلوا النساء والصبيان والشيوخ والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام (م) عن بريدة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تعتدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. قوله: لا تَغْلُوا الغلول الخيانة وهو ما يخفيه أحد الغزاة من الغنيمة وقوله: وَلا تَعْتَدُوا أي ولا تنقضوا العهد وقيل في معنى الآية: لا تعتدوا أي لا تبدؤوهم بالقتال فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية القتال قال ابن عباس: لما صد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف بالبيت، فلما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء خافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ويصدّوهم عن البيت وكره المسلمون قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم في الشهر الحرام وفي الحرم ورفع عنهم الحرج والجناح في ذلك وقال ولا تعتدوا بابتداء القتال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 191 الى 193] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

[سورة البقرة (2): آية 194]

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي حيث وجدتموهم وأدركتموهم في الحل والحرم، وتحقيق القول فيه أن الله تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على القتال وفي هذه الآية أمرهم بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني أن شركهم بالله أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام وإنما سمي الشرك بالله فتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم. وإنما جعل أعظم من القتل لأن الشرك بالله ذنب يستحق صاحبه الخلود في النار وليس القتل كذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة وليس القتل كذلك فثبت أن الفتنة أشد من القتل وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ اختلف العلماء في هذه الآية فذهب مجاهد في جماعة من العلماء إلى أنها محكمة وأنه لا يحل أن يقاتل في المسجد الحرام إلّا من قاتل فيه وهو قوله: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أي فقاتلوهم، وثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن مكة لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة» فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلّا أن يقاتلوا فيقاتلوا ويكون دفعا لهم وذهب قتادة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فأمر بقتالهم في الحل والحرم. وقيل إنها منسوخة بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا يعني عن القتال. وقيل عن الشرك والكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لما سلف رَحِيمٌ يعني بعباده حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وَقاتِلُوهُمْ أي وقاتلوا المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك والمعنى وقاتلوهم حتى يسلموا ولا يقبل من الوثني إلّا الإسلام والقتل بخلاف الكتابي والفرق بينهما أن أهل الكتاب معهم كتب منزلة فيها شرائع وأحكام يرجعون إليها وإن كانوا قد حرفوا وبدلوا فأمهلهم الله تعالى بحرمة تلك الكتب من القتل وأمر بإصغارهم وأخذ الجزية منهم لينظروا في كتبهم ويتدبروها فيقفوا على الحق منها فيتبعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا، وأما عبدة الأصنام فلم يكن لهم كتاب يرجعون إليه ويرشدهم إلى الحق فكان إمهالهم زيادة في شركهم وكفرهم فأبى الله عز وجل أن يرضى منهم إلّا بالإسلام أو القتل وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي الطاعة والعبادة لله وحده فلا يعبد من دونه شيء فَإِنِ انْتَهَوْا يعني عن القتال وقيل عن الشرك والكفر فَلا عُدْوانَ أي فلا سبيل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قاله ابن عباس فعلى القول الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى القول الآخر الآية محكمة. وقيل: معناه فلا تظلموا إلّا الظالمين، سمي جزاء الظالمين ظلما على سبيل المشاكلة، وسمي الكافر ظالما لوضعه العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج معتمرا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده المشركون عن البيت بالحديبية فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع من قابل فيقضي عمرته فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم رجع في ذي القعدة سنة سبع فقضى عمرته وذلك قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ يعني ذا القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم عمرتكم بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صددتم فيه عن البيت وَالْحُرُماتُ جمع حرمة وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الإحرام قِصاصٌ القصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، والمعنى أنهم لما منعوكم عن العمرة وأضاعوا هذه الحرمات في سنة ست، فقد وفقتم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع. وقيل: هذا في القتال، ومعناه: فإن بدءوكم بالقتال في الشهر الحرام فاقتلوهم فيه فإنه قصاص فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي بالقتال

[سورة البقرة (2): آية 195]

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي فقاتلوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ سمي الجزاء بالاعتداء على سبيل المشاكلة وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني به الجهاد وذلك أن الله تعالى لما أمر بالجهاد والاشتغال به يحتاج إلى الانفاق فأمر به، والإنفاق هو صرف المال في وجوه المصالح الدينية كالإنفاق في الحج والعمرة وصلة الرحم والصدقة وفي الجهاد وتجهيز الغزاة وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة لله تعالى لأن كل ذلك مما هو في سبيل الله لكن إطلاق هذه اللفظة ينصرف إلى الجهاد (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا لله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات. عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف» أخرجه الترمذي والنسائي وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قيل: الباء زائدة ومعناه لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، والمراد بالأيدي الأنفس والمعنى ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، عبر بالأيدي عن الأنفس، وقيل الباء على أصلها وفي الكلام حذف تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب في هلاكها وقيل التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه، ومعنى الآية النهي عن ترك الانفاق في سبيل الله لأنه سبب الإهلاك قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلّا سهم أو مشقص ولا يقول أحدكم لا أجد شيئا. السهم هنا هو ما يرمى به، والمشقص سهم فيه نصل عريض وقيل كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإمّا أن ينقطع بهم وإما أن يكونوا عالة فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ومن لم يكن عنده شيء ينفق عليه في الغزو فلا يخرج لئلا يلقي نفسه في التهلكة وهو أنه يهلك من الجوع والعطش والمشي. وقيل نزلت الآية في ترك الجهاد (ت) عن أبي عمران واسمه أسلم قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس. سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: «أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم يرد علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم» وقال حديث غريب صحيح مات أبو أيوب في آخر غزوة غزاها بأرض قسطنطينية ودفن في أصل سورها فهم يتبركون بقبره ويستسقون به (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق» قال ابن المبارك فنرى أن ذلك كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل الإلقاء إلى التهلكة هو أن يقنط من رحمة الله، وهو أن الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك على المعاصي فهو القنوط فنهى الله عن ذلك. وقيل في معنى الآية: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق (خ) عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال نزلت في النفقة وَأَحْسِنُوا أي بالإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته وقيل أحسنوا في الإنفاق ولا تسرفوا ولا تقتروا، نهوا عن الإسراف والإقتار في الإنفاق وقيل معناه: وأحسنوا في أداء فرائض الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم على إحسانهم ..

[سورة البقرة (2): آية 196]

[سورة البقرة (2): آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) قوله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال ابن عباس وهو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقيل هو أن تفرد لكل واحد منهما سفرا وقيل إتمامها أن تكون النفقة حلالا وتنتهي عما نهى الله عنه. وقيل إتمامها أن تخرج من أهلك لهما لا للتجارة ولا لحاجة. وقيل إذا شرع فيهما وجب عليه الإتمام. (فصل) واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا (م) عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» وفي وجوب العمرة قولان للشافعي أصحهما إنها واجبة وهو قول علي وابن عمر وابن عباس والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وإليه ذهب أحمد بن حنبل، والقول الثاني إنها سنة ويروى ذلك عن ابن مسعود وجابر وإبراهيم والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة. حجة من أوجب العمرة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ وإني أهلك بهما فقال أهديت لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم أخرجه أبو داود والنسائي بأطول من هذا وجه الدليل أنه أخبر عن وجوبهما عليه وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروي عن ابن عباس أنها كقرينها في كتاب الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وعن ابن عمر قال: «الحج والعمرة فريضتان» وعنه: «ليس أحد من خلق الله إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلا» وعن ابن عباس قال: «العمرة واجبة كوجوب الحج» وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلّا الجنة» أخرجه النسائي والترمذي وزاد: «وما من مؤمن يظل يومه محرما إلّا غابت الشمس بذنوبه» وقال حديث حسن صحيح. وجه الدليل أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة والأمر للوجوب ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة كالحج، وحجة من قال بأنها سنة ما روي عن جابر قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا وأن تعتمروا خير لكم» أخرجه الترمذي. وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطأة وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه وقلة مراعاته لما يحدث به واجتمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أنواع إفراد وتمتع وقران فصورة الإفراد أن يحج ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. وصورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج. وصورة القرآن أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج فينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا. واختلفوا في الأفضل فذهب مالك والشافعي إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران يدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفرد الحج، أخرجه مسلم وله عن ابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

الحج مفردا، وفي رواية إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل بالحج مفردا، وله عن جابر قال: قدمنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نصرخ بالحج صراخا. وعن ابن عمر قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. أخرجه مالك في الموطأ وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القران أفضل يدل عليه ما روي عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة جميعا وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لبيك عمرة وحجا، أخرجاه في الصحيحين. وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل، يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان فأول من نهى عنهما معاوية» أخرجه الترمذي (ق) عن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج وكان من الناس من أهدى ومنهم لم يهد فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وطاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهدى فساق الهدي من الناس». اختلفت الروايات في حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم هل كان مفردا أو متمتعا أو قارنا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة ورجحت كل طائفة نوعا وادّعت أن حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته صلّى الله عليه وسلّم أنه كان أولا مفردا ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنا فمن روى أنه كان مفردا فهو الأصل ومن روي القرآن اعتمد آخر الأمر ومن روي التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقرآن كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد، وبهذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة في صفة حجة الوداع وهو الصحيح وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث كلاما موجزا في ذلك فقال إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن فيه ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الأمر به كما تجوز إضافته إلى فاعله كما يقال بنى فلان داره وأريد به أنه أمر ببنائها وكما يروى: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا» وإنما أمر برجمه، واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم، فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره، وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وإنما سمعه يلبي بالحج. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما عائشة فقربها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معروف واطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها، ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وواظبوا عليه. وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين. وأركان العمرة أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير، وبهذه الأركان تمام الحج والعمرة. قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أصل الحصر في اللغة الحبس والتضييق، ثم اختلف أهل اللغة في الحصر والإحصار فقيل إذا رد الرجل عن وجه يريده فقد أحصر، وإذا حبس فقد حصر وقال ابن السكيت أحصره المرض

إذا منعه من السفر أو حاجة يريدها وحصره العدو إذا ضيق عليه. وقال الزجاج: الرواية عن أهل اللغة يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض أحصر والمحبوس حصر، وقال ابن قتيبة في قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عد ويقال أحصر فهو محصر فإن حبس في دار أو سجن قيل حصر فهو محصور وذهب قوم إلى أنهما بمعنى واحد. قال الزجاج: يقال الرجل من حصرك هنا ومن أحصرك وقال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس وحصر في الحبس أقوى من أحصر وقيل الإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو والمنع الباطن كالمرض والحصر لا يقال إلّا في المنع الباطن وأما قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فمحمول على الأمرين وبحسب اختلاف أهل اللغة في معناها اختلف الفقهاء في حكمها فذهب قوم إلى أن كل مانع من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فإنه يبيح له التحلل من إحرامه وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عكرمة قال حدّثني الحجاج بن عمرو قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجة أخرى» قال عكرمة: فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا: صدق، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وذهب قوم إلى أنه لا يباح له التحلل إلّا بحبس العدو وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وبه قال مالك والليث والشافعي وأحمد وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد واحتجوا بأن نزول الآية كان في قصة الحديبية في سنة ست وكان ذلك حبسا من جهة العدو لأن كفار مكة منعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من الطواف بالبيت فنزلت هذه الآية فحل النبي صلّى الله عليه وسلّم من عمرته ونحر هديه وقضاها من قابل ويدل عليه أيضا سياق الآية وهو قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ والأمن لا يكون إلّا من خوف وثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلّا حصر العدو فثبت بذلك أن المراد من الإحصار هو حصر العدو دون المرض وغيره. وأجيب عن حديث الحجاج بن عمرو بأنه محمول على من شرط التحلل بالمرض ونحوه إحرامه ويدل على جواز الاشتراط في الإحرام ما روي عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إني أريد الحج أفأشترط؟ قال نعم قالت كيف أقول؟ قال قولي لبيك اللهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ولغيره أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: حجي واشترطي وقولي اللهم محلى حيث حبستني فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إذا اشترط في الحج فعرض له مرض أو عذر أن يتحلل ويخرج من إحرامه ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس وهو المراد من قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ومعنى الآية فإن أحصرتم دون تمام الحج أو العمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي والهدي ما يهدى إلى البيت وأعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قال ابن عباس: شاة لأنه أقرب إلى اليسر، ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر وإليه ذهب الشافعي لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذبح الهدي عام الحديبية بها، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل في ذلك الوقت. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه، وفيه قولان أحدهما أنه الحرم فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا فمحله يوم يبلغ هديه إلى الحرم وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني محل ذبحه حيث أحصر سواء كان في الحل أو في الحرم، ومعنى محله يعني حيث يحل ذبحه وأكله وهو قول مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روي عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلق رأسه، أخرجه البخاري. قوله عز وجل: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ معناه ولا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلّا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى وهو القمل أو الصداع فَفِدْيَةٌ فيه إضمار تقديره فحلق رأسه فعليه فدية، نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة (ق) عن كعب بن عجرة قال: أتى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم قال فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم

ستة مساكين أو انسك نسيكة لا أدري بأي ذلك بدأ وفي رواية قال نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وذكر نحوه وفي أخرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وذكره، وفي أخرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: ما كنت أرى أن الوجع بلغ منك ما أرى أو ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى أتجد شاة؟ قلت لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع». قال كعب فنزلت في خاصة وهي لكم عامة ومعنى قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أي صوم ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ يعني إطعام ثلاثة أصوع ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ واحدتها نسيكة أى ذبيحة وأعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهذه الفدية على التخيير إن شاء ذبح أو صام أو تصدق وكل هدي أو طعام يلزم المحرم فإنه لمساكين الحرم إلّا هدي المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر. وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء. قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ يعني من خوفكم وبرأتم من مرضكم وقيل إذا أمنتم من الإحصار فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قال ابن الزبير معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة فاستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام المقبل وقيل معناه فإذا أمنتم وقد أحللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تعتمروا في تلك السنة ثم اعتمرتم في السنة القابلة في أشهر الحج ثم أحللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج فعليكم ما استيسر من الهدي وقال ابن عباس: هو الرجل يقدم معتمرا من أفق الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام بمكة حلالا حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال عن العمرة إلى إحرامه بالحج. ومعنى التمتع في اللغة هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة والتلذذ بما كان محظورا عليه في حال الإحرام إلى إحرامه بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني فعليه ما استيسر من الهدي وهو شاة يذبحها يوم النحر، فلو ذبح قبله بعد ما أحرم بالحج أجزأه عند الشافعي كدم الجبرانات ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر كدم الأضحية. ولوجوب دم التمتع خمس شرائط: أحدها: أن يقدم العمرة على الحج. الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث: أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة. الرابع: أن يحرم من مكة ولا يعود إلى ميقات بلده، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه لم يكن متمتعا. الخامس: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام فهذه الشروط معتبرة في وجوب دم التمتع ومتى فقد شيء منها لم يكن متمتعا ودم التمتع دم جبران عند الشافعي فلا يجوز أن يأكل منه. وقال أبو حنيفة: هو دم نسك فيجوز أن يأكل منه وقوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت اشتغاله بالحج. قيل: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وقيل بل المستحب أن يصوم في أيام الحج بحيث يكون يوم عرفة مفطرا فإن لم يصم قبل يوم النحر فقيل يصوم أيام التشريق وبه قال مالك وأحمد وهو أحد قولي الشافعي. وقيل: بل يصوم بعد أيام التشريق وهو رواية عن أحمد والقول الآخر للشافعي وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يعني وصوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وأهليكم قاله ابن عباس وبه قال الشافعي، فلو صام قبل الرجوع إلى أهله لم يجزه عنده وقيل المراد من الرجوع هو الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع فعلى هذا يجزئه أن يصوم السبعة أيام بعد الفراغ من أعمال الحج وقبل الرجوع إلى أهله وبه قال أبو حنيفة: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يعني في الثواب والأجر وقيل كاملة في قيامها مقام الهدي لأنه قد يحتمل أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي فاعلم الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقام الهدي وقيل فائدة التكرار التوكيد كقول الفرزدق: ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى سهام ولأن القرآن أنزل بلغة العرب والعرب تكرر الشيء تريد به التوكيد وقيل فائدة ذلك الفذلكة في علم الحساب وهو أن يعلم العدد مفصلا ثم يعلمه جملة ليحتاط به من جهتين فكذلك قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ

[سورة البقرة (2): آية 197]

وقيل إن العرب لما كانوا لا يعلمون الحساب وكانوا يحتاجون إلى زيادة بيان وإيضاح فلذلك قال تلك عشرة كاملة وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي أكملوها ولا تنقصوها ذلِكَ أي هذا الحكم الذي تقدم لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وهو قول مالك. وقيل: هم أهل الحرم وبه قال طاوس. وقال ابن جريج: هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة. وقال الشافعي: كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقيل هم من دون الميقات وقال أبو حنيفة حاضر والمسجد الحرام أهل الميقات والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق فمن كان من أهل هذه المواضع فما دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وقيل حاضرو المسجد الحرام من تلزمه الجمعة فيه ومعنى الآية أن المشار إليه في قوله: ذلِكَ يرجع إلى أقرب مذكور وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وهو الآفاقي فأما المكي إذا تمتع أو قرن فلا هدي عليه ولا بد له لأنه لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوجب خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقا من حديث عكرمة قال سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال: «أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلّا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل من شيء حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم والشاة تجزئ فجمعوا بين النسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفي الحديث زيادة قال الحميدي قال أبو مسعود الدمشقي هذا حديث غريب ولم أجده إلّا عند مسلم بن الحجاج ولم يخرجه في صحيحه، من أجل عكرمة فإنه لم يرو عنه في صحيحه وعندي أن البخاري إنما أخذه من مسلم. وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما فرضه عليكم ونهاكم عنه في الحج وفي غيره وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره وتهاون بحدوده وارتكب مناهيه .. [سورة البقرة (2): آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) قوله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ يعني أشهر الحج أشهر معلومات وقيل وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر وبه قال عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير ومن التابعين الحسن وابن سيرين والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور وحجة الشافعي ومن وافقه أن الحج يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها فدل على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج وأيضا فإن الإحرام بالحج فيه لا يجوز فدل على أنه وما بعده ليس من أشهر الحج. وقال ابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة آخرها يوم النحر وبه قال ابن عمر وعروة بن الزبير وطاوس وعطاء والنخعي وقتادة ومكحول والضحاك والسدي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وهي إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول أن يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر لأن فيه يقع طواف الإفاضة وهو تمام أركان الحج، وقيل إن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر وبه قال الزهري: وهي الرواية الأخرى عن مالك وحجة هذا القول إن الله تعالى ذكر أشهر الحج بلفظ الجمع وأقل الجمع المطلق ثلاث، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك. فإن قلت هنا

إشكال. وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج. قلت قوله هي مواقيت للناس والحج وعام وهذه الآية وهي قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ خاص والخاص مقدم على العام. وقيل: إن الآية الأولى مجملة وهذه الآية مفسرة لها. فإن قلت إنما قال الحج أشهر بلفظ الجمع وعند الشافعي أشهر الحج شهران وعشر ليال وعند أبي حنيفة وعشرة أيام فما وجه هذا؟ قلت: إن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وقيل إنه نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا وإنما رآه في ساعة منها ولا إشكال فيه على القول الثالث وهو قول من قال إن أشهر الحج ثلاث شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني فمن ألزم نفسه وأوجب عليها فيهن الحج والمراد بهذا الفرض ما به يصير حاجا وهو فعل يفعله ثم اختلفوا في ذلك الفعل فقال الشافعي: ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية ووجهه أن فرض الحج عبارة عن النية فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج وقال أبو حنيفة: لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى تنضم إليه التلبية أو سوق الهدي ووجهه أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا به من انضمام شيء إلى النية كتكبيرة الإحرام مع النية في الصلاة، وفي الآية دليل على أن الإحرام بالحج لا ينعقد إلّا في أشهره وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق لأن الله تعالى خصص هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه ولا فائدة وقال مالك والثوري وأبو حنيفة: ينعقد إحرامه بالحج في جميع شهور السنة ووجهه أن الإحرام إلزام الحج فجاز تقديمه على الوقت كالنذر لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها مواقيت للحج بقوله: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وقد تقدم الجواب عنه. وقوله تعالى فَلا رَفَثَ قال ابن عباس الرفث الجماع وفي رواية عنه أن الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لهن بالفحش من الكلام فعلى هذا القول التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا، قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس بذنب بعيره يلويه وهو يحدو ويقول: وهن يمشين بنا هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا فقلت: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء وقوله لميسا هو اسم امرأة وقيل الرفث كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه وقوله فلا رفث يحتمل أن يكون نهيا عن تعاطي الجماع وأن يكون نهيا عن الحديث في ذلك لأنه من دواعيه وقيل الرفث هو الفحش والخنا والقول القبيح. وقيل الرفث اللغو من الكلام ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب» وَلا فُسُوقَ أصله الخروج عن الطاعة قال ابن عباس: هي المعاصي كلها وهو قول طاوس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي وقال ابن عمر: هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر، وأخذ الشعر وما أشبه ذلك وقيل هو السباب والتنابز بالألقاب (ق) عن أبي هريرة قال سمعت رسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ قال ابن عباس الجدال هو المراء وهو أن يماري الرجل صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه وقيل: هو قول الرجل الحج اليوم يقول آخر الحج غما وقيل هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج «اجعلوا أهلا لكم بالحج عمرة إلّا من قلد الهدي قالوا كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج فهذا كان جدالهم. وقيل: هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بمزدلفة وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة وكل يقول الصواب فيما فعلته فأنزل الله: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ فأخبر أن أمر الحج قد استقر على ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا خلاف فيه بعده وذلك معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» وقيل: معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء وقيل: ظاهر الآية خبر ومعناه نهي أي لا ترفثوا

[سورة البقرة (2): آية 198]

ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج وإنما نهي عن ذلك وأمر باجتنابه في الحج وإن كان اجتناب ذلك في كل الأحوال والأزمان واجبا لأن الرفث والفسوق والجدال في الحج أسمج وأفظع منه في غيره وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو الذي يجازيكم عليها، حث الله على فعل الخير عقيب النهي عن الشر وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجمال الوفاق والأخلاق الجميلة، وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ربط الأنفس عن الشر حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه. وقيل: إنما ذكر الخير وإن كان عالما بجميع أفعال العباد من الخير والشر لفائدة، وهي أنه تعالى إذا علم من العبد الخير ذكره وشهره وإذا علم منه الشر ستره وأخفاه فإذا كان هذا فعله مع عبده في الدنيا فكيف يكون في العقبى وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يخرجون للحج من غير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحج بيت ربنا أفلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس وربما أفضى بهم الحال إلى النهب والغصب فأنزل الله وتزودوا أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس واتقوا إبرامهم والتثقيل عليهم فإن خير الزاد التقوى وقيل في معنى الآية وتزودوا من التقوى فإن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا، ولا بد فيه من زاد ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب وسفر من الدنيا إلى الآخرة، ولا بد فيه من زاد أيضا وهو تقوى الله والعمل بطاعته وهذا الزاد أفضل من الزاد الأول، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة وفي هذا المعنى قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وَاتَّقُونِ أي وخافوا عقابي وقيل معناه واشتغلوا بتقواي وفيه تنبيه على كمال عظمة الله جل جلاله: يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الذين يعلمون حقائق الأمور. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ يعني رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة (خ) عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج. وقرأها ابن عباس هكذا وفي رواية أن تبتغوا في مواسم الحج فضلا من ربكم. وعكاظ سوق معروف بقرب مكة، ومجنة بفتح الميم وكسرها سوق بقرب مكة أيضا، قال الأزرقي: هي بأسفل مكة على بريد منها وذو المجاز سوق عند عرفة كانت العرب في الجاهلية يتجرون في هذه الأسواق ولها مواسم فكانوا يقيمون بعكاظ عشرين يوما من ذي القعدة ثم ينتقلون إلى مجنة فيقيمون بها ثمانية عشر يوما عشرة أيام من آخر ذي القعدة، وثمانية أيام من أول ذي الحجة ثم يخرجون إلى عرفة في يوم التروية وقال الداودي: مجنة عند عرفة وعن أبي أمامة التيمي قال: كنت رجلا أكري في هذا الوجه وكان الناس يقولون لي: إنه ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت له يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكري في هذا الوجه وإن أناسا يقولون إنه ليس لك حج فقال ابن عمر أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ فقلت بلى قال فإن ذلك حجا جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فأرسل إليه

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وقرأها عليه وقال لك حج» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال بعض العلماء: إن التجارة إن أوقعت نقصا في أعمال الحج لم تكن مباحة وإن لم توقع نقصا فيه كانت من المباحات التي الأولى تركها لتجريد العبادة عن غيرها لأن الحج بدون التجارة أفضل وأكمل. قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ أي دفعتم والإفاضة دفع بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة سميت بذلك وإن كانت بقعة واحدة لأن كل موضع من تلك المواضع عرفة فسمي مجموع تلك المواضع عرفات وقيل. إن اسم الموضع عرفات. واسم اليوم عرفة قال عطاء كان جبريل يرى إبراهيم المناسك ويقول له: عرفت فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك: إن آدم لما أهبط وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات في يوم عرفة فتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات، وقال السدي: إن إبراهيم لما أذن في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأبى من أبى أمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له، فخرج فلما بلغ الشجرة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فطار فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فنظر إليه فلم يعرفه فجازه فسمي ذا المجاز، ثم انطلق إبراهيم حتى وقع بعرفات فعرفها بالنعت، فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع فسمي ذلك الموضع المزدلفة. وفي رواية عن ابن عباس أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ولده فلما أصبح تروى يومه أجمع أي تفكر هل هذه الرؤيا من الله تعالى أم من الشيطان فسمي يوم التروية، ثم رأى ذلك في ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي اليوم عرفة. وقيل: سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم وقيل: سمي عرفة من العرف وهو الطيب وسميت منى لما يمنى فيها من الدماء أي يصبّ فيكون فيه الفروث والدماء، فلا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عن مثل هذا فتكون طيبة. واعلم أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ولا يتم الحج إلّا به، ومن فاته الوقوف في وقته فقد فاته الحج. ويدخل وقت الوقوف بعرفة بزوال الشمس من يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة فمن وقف بعرفات في هذا الوقت ولو لحظة واحدة من ليل أو نهار، فقد حصل له الوقوف ويتم حجه وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوعه من يوم النحر ووقت الإفاضة من عرفات، بعد غروب الشمس فإذا غربت الشمس دفع من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة (ق) عن أسامة بن زيد قال دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة أمامك ثم ركب فلما جاء المزدلفة، نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره، في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما شيئا. وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ سمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج وأصل الحرام المنع فهو ممنوع من أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، والمشعر الحرام هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام وقيل المشعر الحرام هو المزدلفة وسماه الله بذلك لأن الصلاة والمبيت به والدعاء عنده من معالم الحج وقيل المشعر الحرام، هو قزح وهو آخر حد المزدلفة والأول أصح. وسميت المزدلفة من الازدلاف وهو الاقتراب، لأنها منزلة من الله تعالى وقربة. وقيل: لنزول الناس بها زلف الليل: وقيل: لاجتماع الناس بها وتسمى المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيها بين المغرب والعشاء، قيل المراد بالذكر عند المشعر الحرام هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك. ويدل عليه أن قوله: فاذكروا الله أمر وهو للوجوب ولا يجب هناك إلّا الصلاة، والذي عليه جمهور العلماء أن المراد بالذكر هو الدعاء والتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير (ق) عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف

[سورة البقرة (2): آية 199]

النبي صلّى الله عليه وسلّم، من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى فكلاهما قال: لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبي حتى رمى جمرة العقبة، عن جابر قال دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس هذا الحديث ذكره البغوي بغير سند. ولم أجده في الأصول، قال طاوس كانوا في الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد طلوعها وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، فنسخ الله تعالى أحكام الجاهلية فأخر الإفاضة من عرفة إلى ما بعد غروب الشمس وقدم الإفاضة من المزدلفة إلى ما قبل طلوعها. وثبير جبل بمكة ومعنى قولهم أشرق ثبير أدخل أيها الجبل في الشروق وهو نور الشمس وقولهم كيما نغير أي ندفع للنحر يقال أغار إذا أسرع ودفع في عدوه (خ) عن عمرو بن ميمون قال قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون: أشرق ثبير فخالفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأفاض قبل طلوع الشمس. وقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي اذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ أي لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه، والهاء في من قبله راجعة إلى الهدي وقيل إلى الرسول أي من قبل إرسال الرسول لمن الضالين، وهو كناية عن غير مذكور وقيل يرجع إلى القرآن والمعنى واذكروه كما هداكم بكتابه الذي أنزله عليكم، وإن كنتم من قبل إنزاله لمن الضالين. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 199] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس، وفي المخاطبين بهذا قولان أحدهما أنه خطاب لقريش قال أهل التفسير: كانت قريش ومن دان بدينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله وقطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه ويتعاظمون أن يقفوا مع سائر الناس بعرفات، وكان سائر الناس يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات مع سائر الناس، ثم يفيضوا منها إلى جمع وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت كان قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، وكان يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قولها: كانوا يسمون الحمس هو جمع أحمس وأصله من الشدة والشجاعة وإنما سميت قريش وكنانة حمسا لتشددهم في دينهم فعلى هذا القول الناس معناهم جميع العرب سوى الحمس، والقول الثاني: إنه خطاب لسائر المسلمين أمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، وهو المراد بقوله من حيث أفاض الناس، وقيل: الناس هم آدم وحده بدليل قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي بالياء وقال هو آدم عهد إليه فنسي، ووجه هذا أن الوقوف بعرفات والإفاضة منها شرع قديم وما سواه مبتدع محدث، وقيل: المراد من هذه الآية أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر، قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، وأراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما لأنه كانت إفاضتهم من المزدلفة قبل طلوع الشمس، ووجه هذا القول أن الإفاضة من عرفات قد تقدم ذكرها في قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ثم قال بعد ذلك ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فدل على أن هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى لكن القول الأول هو الأصح الذي عليه جمهور المفسرين. فإن قلت على القول الأول الذي هو قول جمهور المفسرين إشكال، وهو أن ظاهر الكلام لا يقتضي ذلك لأن قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ والإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من

[سورة البقرة (2): آية 200]

جمع فكيف قال ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فكأنه قال فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات وذلك غير جائز. قلت: أجيب عن هذا الإشكال بأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله فعلى هذا الترتيب يصح أن تكون هذه الإفاضة تلك الإفاضة بعينها وقيل: إن ثم في قوله ثم أفيضوا بمعنى الواو أي وأفيضوا كقوله ثم كان من الذين آمنوا والإفاضة الدفع (ق) عن هشام بن عروة عن أبيه قال سأل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسير في حجة الوداع قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام والنص فوق العنق. العنق بفتح العين ضرب من السير سريع، هو أشد من المشي والفجوة: الفرجة وهي المتسع من الأرض، والنص السير السريع حتى يستخرج من الناقة أقصى وسعها (خ) عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: يا أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، الإيضاع السير السريع الشديد. قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي من مخالفتكم في الموقف ولجميع ذنوبكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أن الله هو الساتر لذنوب عباده برحمته والغفور يفيد المبالغة في الغفر وكذا الرحيم وفيه دليل على أنه تعالى يقبل التوبة من عباده التائبين ويغفر لهم، لأنه تعالى أمر المذنب بالاستغفار ثم وصف نفسه تعالى بأنه كثير الغفران كثير الرحمة فدل ذلك على أنه تعالى يغفر للمستغفرين ويرحم المذنبين بمنه وكرمه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 200] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي فرغتم من حجكم وعبادتكم وذبحتم نسائككم أي ذبائحكم وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير والثناء عليه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال أهل التفسير، كانت العرب في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، وقيل: عند البيت فيذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم، فيقول أحدهم: كان أبي كبير الجفنة رحب الفناء يقرى للضيف وكان كذا وكذا يعد مفاخره ومناقبه ويتناشدون الأشعار في ذلك ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح وغرضهم الشهرة والسمعة والرفعة بذكر مناقب سفلهم وآبائهم، فلما من الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لله لا لآبائهم وقال: اذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم وأحسنت إليكم وإليهم قال ابن عباس: معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وذلك أن الصبي أول ما يفصح بالكلام ويقول: أبه أمه لا يعرف غير ذلك فأمرهم أن يذكروه كذكر الصبيان الصغار الآباء أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أي بل أشد ذكرا، وقيل: أو بمعنى الواو أي وأشد ذكرا أي وأكثر ذكرا للآباء لأنه هو المنعم عليهم وعلى الآباء، فهو المستحق للذكر والحمد مطلقا، وسئل ابن عباس عن هذه الآية قيل له قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه فقال: ليس كذلك ولكن أن تغضب لله عز وجل إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا يعني أن المشركين كانوا يسألون الله في حجهم للدنيا، ونعيمها كانوا يقولون: اللهم أعطنا إبلا وغنما وبقرا وعبيدا وإماء وكان أحدهم بقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الفئة كبيرا الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته. قال قتادة: هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط تعس، وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قوله: تعس عبد الدينار هذا دعاء عليه بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار والخميصة ثوب من خز أو صوف معلم، وقوله وانتكس هذا دعاء عليه أيضا لأن من انتكس على رأسه أو في أمره

[سورة البقرة (2): آية 201]

فقد خاب، وخسر وقوله وإذا شيك هذا فعل ما لم يسم فاعله، تقول شاكته الشوكة إذا دخلت في جسمه والانتقاش إخراج الشوكة من الجسم وإنما كان سؤال المشركين للدينار ولم يطلبوا التوبة والمغفرة ونعيم الآخرة لأنهم كانوا ينكرون البعث وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي وما له في الآخرة من حظ ولا نصيب. [سورة البقرة (2): آية 201] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني المؤمنين. واعلم أن الله تعالى قسم الداعين فريقين البعث: فريق اقتصروا في الدعاء على طلب الدنيا وهم الكفار لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والآخرة، والفريق الثاني: هم المؤمنون الذين جمعوا في الدعاء بين طلب الدنيا والآخرة وذلك لأن الإنسان خلق ضعيفا محتاجا لا طاقة له بآلام الدنيا ومتاعبها فالأولى له أن يستعيذ بالله من شرها وآلامها لأنه لو اضطرب على الإنسان عرق من عروقه، لشوش عليه حياته في الدنيا، وتعطل عن الاشتغال بطاعة الله تعالى فثبت بذلك أن طلب الدنيا في الدعاء من أمر الدين، فلذلك قال الله تعالى: إخبارا عن المؤمنين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً قيل: إن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة والأمن والكفاية والتوفيق إلى الخير والنصر على الأعداء والولد الصالح والزوجة الصالحة (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» وقيل: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة وقيل: الحنسة في الدنيا الرزق الحلال والعمل الصالح وفي الآخرة المغفرة والثواب. وقيل: من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة يعني في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية. (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلا من المسلمين قد خف فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» قال: فدعا الله به فشفاه (ق) عن أنس بن مالك. قال كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عن عبد الله بن السائب قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بين الركنين: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» أخرجه أبو داود. [سورة البقرة (2): الآيات 202 الى 203] أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين الداعين بالحسنتين ووجه هذا القول أن الله ذكر حكم الفريق بكماله. فقال: وما له في الآخرة من خلاق وقيل: يرجع إلى الفريقين لَهُمْ جميعا أي لكل فريق من هؤلاء نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا كَسَبُوا يعني من الخير والدعاء بالثواب والجزاء على الدعاء بالدنيا من جنس ما كسب ودعا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ذكروا في معنى الحساب أن الله تعالى يعلم العباد بما لهم وعليهم بمعنى أن الله تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها وبمقادير ما لهم من الثواب وعليهم من العقاب. وقيل: إن المحاسبة عبارة عن المجازاة ويدل عليه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وقيل: إن الله تعالى يكلم عباده يوم القيامة ويعرفهم أحوال أعمالهم وما لهم من الثواب والعقاب. وقيل: إنه تعالى إذا حاسب عباده فحسابه سريع لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد وروية فكر وصف الله نفسه تعالى بسرعة الحساب مع كثرة الخلائق وكثرة أعمالهم ليدل بذلك على كمال قدرته لأنه تعالى لا يشغله

شأن عن شأن ولا يحتاج إلى آلة ولا مادة ولا مساعد، فلا جرم كان قادرا على أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمح البصر، وروي أنه تعالى يحاسب الخلائق في قدر حلب شاة أو ناقة، وقيل: في معنى كونه تعالى سريع الحساب أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم، وذلك أنه تعالى يسأله السائلون في الوقت الواحد كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك، لأنه تعالى عالم بجميع أحوال عباده وأعمالهم وقيل في معنى الآية إن إتيان القيامة قريب لأن كل ما هو كائن وآت قريب لا محالة، وفيه إشارة إلى المبادرة بالدعاء والذكر وسائر الطاعات وطلب الآخرة. قوله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني بالتوحيد والتعظيم والتكبير في أدبار الصلوات وعند رمي الجمرات، وذلك أنه يكبر مع كل حصاة من حصى الجمار فقد ورد في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كبر مع كل حصاة فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ يعني أيام التشريق وهي أيام منى ورمي الجمار سميت معدودات لقلتهن وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو قول ابن عمر وابن العباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب الشافعي. وقيل: إن الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده. وهو قول علي بن أبي طالب ويروى عن ابن عمر أيضا وهو مذهب أبي حنيفة (م) عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله» ومن الذكر في هذه الأيام التكبير (خ) عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات، وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا وفي رواية أنه كان يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى أخرجه البخاري بغير إسناد وأجمع العلماء على أن المراد بهذا هو التكبير عند رمي الجمار، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق، وأجمعوا أيضا على أن التكبير في عيد الأضحى وفي هذه الأيام في إدبار الصلوات سنة واختلفوا في وقت التكبير فقيل يبتدئ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق فيكون التكبير على هذا القول في خمسة عشر صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال الشافعي: في أصح أقواله قال الشافعي: لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج قيل: هذا الوقت هو التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر. وقيل: إنه يبتدئ به من صلاة المغرب ليلة النحر ويختم بصلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو القول الثاني الشافعي فيكون التكبير على هذا القول: في ثمانية عشر صلاة والقول الثالث للشافعي إنه يبتدئ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة، ويختم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة وهو قول علي بن أبي طالب، ومكحول وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال ابن مسعود يبتدأ به من صبح يوم عرفة ويختم بصلاة العصر من يوم النحر، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات، وبه قال أبو حنيفة وقال أحمد بن حنبل: إذا كان حلالا كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الصبح من يوم عرفة وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإن كان محرما كبر عقيب سبعة عشر صلاة أولها الظهر من يوم النحر وآخرها عصر آخر أيام التشريق. ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثا نسقا الله أكبر الله أكبر الله أكبر وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وهو قول أهل المدينة، قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن ويروى عن ابن مسعود أنه يكبر مرتين فيقول الله أكبر الله أكبر وهو قول أهل العراق. وقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي فمن تعجل النفر الأول وهو في الثاني من أيام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فلا حرج عليه وذلك أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمي عند كل جمرة سبع حصيات ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك واسع له لقوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني فلا إثم على من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني ومن تأخر إلى

[سورة البقرة (2): آية 204]

النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه في تأخره. واعلم أنه إنما يجوز التعجيل لمن نفر بعد الزوال من اليوم الثاني من أيام التشريق وقبل غروب الشمس، من ليلة ذلك اليوم وإن غربت عليه الشمس، وهو بمنى لزمه المبيت بها لرمي اليوم الثالث، هذا مذهب الشافعي وأكثر الفقهاء وقال أبو حنيفة: يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي، بعد ورخص لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى. فإن قلت: قوله ومن تأخر فلا إثم عليه فيه إشكال وهو أن الذي أتى بأفعال الحج كاملة تامة فقد أتى بما يلزمه، فما معنى قوله فلا إثم عليه إنما يخاف من الإثم من قصر فيما يلزمه. قلت فيه أجوبة أحدها أنه تعالى لما أذن في التعجيل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة، فإنه يأثم فأزال الله تعالى هذه الشبهة وبين إنه لا إثم عليه في الأمرين فإن شاء عجل وإن شاء أخر. الجواب الثاني أن من الناس من كان يتعجل ومنهم من كان يتأخر، وكل فريق يصوب فعله على فعل الفريق الآخر فبين الله تعالى أن كل واحد من الفريقين مصيب في فعله وأنه لا إثم عليه. الجواب الثالث إنما قال: ومن تأخر فلا إثم عليه لمشاكلة اللفظة الأولى فهو كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ومعلوم أن جزاء السيئة ليس بسيئة. الجواب الرابع أن فيه دلالة على جواز الأمرين فكأنه تعالى قال: فتعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل ولا في التأخير لِمَنِ اتَّقى أي ذلك التخيير ونفي الإثم للحاج المتقي وقيل لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئا مما نهاه الله عنه من قتل صيد وغيره، مما هو محظور في الحج، وقيل: معناه أنه ذهب إثمه إن اتقى فيمن بقي من عمره، وذلك أن الحاج يرجع مغفورا له بشرط أن لا يرتكب ما نهي عنه فيما بقي من عمره وهو قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في المستقبل والتقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي فيجازيكم بأعمالكم وفيه حث على التقوى. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 204] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه أبي وإنما سمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة، عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه أشار على بني زهرة الرجوع يوم بدر، وقال لهم: إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس به قالوا: نعم ما رأيت قال إني سأخنس بكم فاتبعوني فخنس فسمي الأخنس بذلك وكان الأخنس حلو الكلام حلو المنظر، وكان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويجالسه ويظهر الإسلام ويقول: إني لأحبك ويحلف بالله على ذلك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدني مجلسه وكان الأخنس منافقا فنزل فيه، ومن الناس من يعجبك قوله، أي يروقك وتستحسنه ويعظم في قلبك في الحياة الدنيا، يعني أن حلاوة كلامه فيما يتعلق بأمر الدنيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعني قوله: والله إني بك مؤمن ولك محبّ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد الجدال في الباطل، وقيل: هو كاذب القول، وقيل: هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة (ق) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» يعني الشديد في الخصومة. [سورة البقرة (2): الآيات 205 الى 207] وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق سَعى فِي الْأَرْضِ أي سار ومشى

في الأرض لِيُفْسِدَ فِيها يعني بقطع الأرحام وسفك دماء المسلمين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وذلك أن الأخنس بن شريق كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا، فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، وقيل: خرج إلى الطائف مقتضيا دينا كان له على غريم فأحرق له كدسا وعقر له أتانا وقيل معناه إذا تولى أي صار واليا وملك الأمر سعى في الأرض ليفسد فيها يعني بالظلم والعدوان كما يفعله ولاة السوء والظلمة، وقيل: يظهر ظلمه حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل بسبب منع المطر وقيل أن الآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة ولا يمتنع أن تنزل في رجل واحد ثم تكون عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن المحبة عبارة عن الإرادة. وأجيب عنه بأن الإرادة معنى غير المحبة، فإن الإنسان قد يريد شيئا ولا يحبه وذلك لأنه قد يتناول الدواء المر ولا يحبه فبان الفرق بين الإرادة والمحبة، وقيل: إن المحبة مدح الشيء وتعظيمه والإرادة بخلاف ذلك وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أي خف الله في سرك وعلانيتك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته العزة وحمية الجاهلية على فعل الإثم وقيل بأن يعمل الإثم وهو الظلم وترك الالتفات إلى الوعظ وعدم الإصغاء إليه. وأصل العزة المنعة والتكبر فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي كافية له جهنم جزاء وعذابا، وجهنم اسم من أسماء النار التي يعذب بها الكفار في الآخرة، وقيل: هو اسم أعجمي وقيل بل هو عربي سميت النار بذلك لبعد قعرها وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش والمهاد التوطئة أيضا والمعنى أن العذاب بالنار يجعل تحته وفوقه قال ابن مسعود إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. قوله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد (خ) عن أبي هريرة قال بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارتها، فقالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى، فقال: أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ تمرة، وإنه لموثق في الحديد. وما كان إلّا رزقا رزقه الله خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال: لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن ركعتين عند القتل، وقال: اللهم أحصهم عددا وقال: فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل

عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقوله عالجوه: أي مارسوه، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى. وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة. والقطف العنقود من العنب: قوله على أوصال شلو. الشلو العضو من أعضاء الإنسان. والممزع: المفرق. والظلة: الشيء الذي يظل من فوق الإنسان. والدبر: جماعة النحل والزنابير. وقال أهل التفسير: إن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلمونا دينك، وكان ذلك مكرا منهم فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري، وذكر نحو حديث البخاري، زاد عليه: فقالوا: نصلب خبيبا حيا، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده ذلك إلّا عتوا فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ يعني سلامان. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب محمدا عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس، فلما بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام، فأنزلاه عن خشبته، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما ويده على جراحته وهي تبض دما اللون لون الدم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فأخبروا قريشا فركب معهم سبعون فارسا فلما لحقوهم قذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما. فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل في الزبير والمقداد: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب ابن سنان الرومي، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال: والله لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي. فقالوا نعم، ففعل، فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ربح البيع أبا يحيى، وتلا عليه هذه الآية. وقال الحسن: أتدرون فيم نزلت هذه الآية؟ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل: لا إله إلّا الله فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل، وقيل نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن عباس: رضي الله عنهما: أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم

[سورة البقرة (2): الآيات 208 إلى 209]

فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله، وكان علي كرم الله وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة. وسمع عمر رجلا يقرأ هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل. عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. وأما تفسير الآية فذكر المفسرون أن المراد بهذا الشراء البيع ومنه قوله: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ أي باعوه والمعنى أن المسلم باع نفسه بثواب الله تعالى في الدار الآخرة، وهذا البيع هو أن يبذل نفسه في طاعة الله من صلاة وصيام، وحج وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة فصار كالبائع، والله تعالى المشتري، والثمن هو ثواب الله تعالى في الآخرة ابتغاء مرضاة الله أي طلب رضا الله وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي من رأفة الله بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 209] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك لما أسلموا قاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، وقالوا: إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وقالوا أيضا: يا رسول الله إن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة. والمعنى استسلموا لله وأطيعوه فيما أمركم به وقيل هو خطاب لمن لم يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام. وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا فنرى أن نكتب بعضها فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلّا اتباعي» قوله أتتهوكون أي تتحيرون أنتم في دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى، وقوله لقد جئتكم بها يعني بالملة الحنيفية بيضاء نقية، أي لا تحتاج إلى شيء، وقيل يحتمل أن يكون خطابا للمنافقين من المؤمنين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا في السلم أي الانقياد والطاعة لأن أصل السلم الاستسلام، وهو الانقياد كافة، أي بأجمعكم ولا تتفرقوا، وقيل يحتمل أن يرجع إلى الإسلام والمعنى ادخلوا في أحكام الإسلام وشرائعه كافة وهذا المعنى أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها. قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: للإسلام ثمانية أسهم فعل الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: وقد خاب من لا سهم له وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغير ذلك، وقيل: لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية والأهواء المضلة لأن من اتبع سنة إنسان فقد تبع آثره إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني الشيطان. فإن قلت عداوته بإيصال الضرر وإلقاء الوسوسة فكيف يصح ذلك مع الاعتقاد، فإن الله هو الفاعل لجميع الأشياء. قلت: إنه يحاول إيصال الضرر والبلاء إلينا، ولكن الله منعه عن ذلك وأما معنى الوسوسة فمعلوم أنه يزين المعاصي وإلقاء الشبهات، وكل سبب لوقوع الإنسان في مخالفة الله تعالى فيصده بذلك عن الثواب، فهذا من أعظم جهات العداوة. فإن قلت: كيف يصح وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نراه؟ قلت: إن الله تعالى بين عداوته ما هي فكأنه بين وإن لم يشاهد فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم وضللتم

[سورة البقرة (2): الآيات 210 إلى 211]

وقال ابن عباس أشركتم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي في نقمته ممن خالفه غالب لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني أنه لا ينتقم إلّا بحق والحكيم ذو الإصابة في الأمور كلها وفي الآية وعيد وتهديد لمن في قلبه شك ونفاق، أو عنده شبهة في الدين قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 210 الى 211] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة مِنَ الْغَمامِ يعني السحاب الأبيض الرقيق سمي غماما لأنه يغم ويستر وقيل هو شيء غير السحاب ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم وهو كهيئة الضباب الأبيض وَالْمَلائِكَةُ أي وتأتيهم الملائكة. وروى الطبري في تفسيره بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من الغمام طاقات يأتي الله عزّ وجلّ فيها محفوظا، وذلك قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ قال عكرمة: والملائكة حوله وقيل معناه حول الغمام وقيل حول الرب تبارك وتعالى. واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات وللعلماء في آيات الصفات وأحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة: الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديث الصفات، وأنه يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم مع الإيمان، والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث وعن الحركة والسكون. قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلّا الله ورسوله. وكان الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرءوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل هذا مذهب أهل السنة ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى: عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ... ولا ذاته شيء عقيدة صائب نسلم آيات الصفات بأسرها ... وأخبارها للظاهر المتقارب ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا فعل اللبيب المغالب ونركب للتسليم سفنا فإنها ... لتسليم دين المرء خير المراكب (المذهب الثاني) وهو قول جمهور علماء المتكلمين، وذلك أنه أجمع جميع المتكلمين من العقلاء والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء والذهاب، ويدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، والله تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مرادا، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئا لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات وقيل معناه إلّا أن يأتيهم أمر الله ووجه هذا التأويل أن الله تعالى فسره في آية أخرى فقال: هل ينظرون إلّا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، فصار هذا الحكم مفسرا لهذا المجمل في هذه الآية. وقيل: معناه يأتيهم الله بما أوعد من الحساب والعقاب فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ وقيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن

[سورة البقرة (2): آية 212]

بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة، وقيل معناه ما ينظرون إلّا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام. فإن قلت: لم كان إتيان العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة ومنه ينزل المطر، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم وأفظع وقيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة وأهوالها وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي وجب العذاب وفرغ من الحساب، وذلك فصل الله القضاء بين العباد يوم القيامة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إلى الله تصير أمور العباد في الآخرة. فإن قلت: هل كانت ترجع إلى غيره؟ قلت: إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة، ولكن المراد من هذا إعلام الخلق إنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، وجواب آخر وهو أنه لما عبد قوم غيره في الدنيا أضافوا أفعاله إلى سواه ثم فإذا كان يوم القيامة وانكشف الغطاء ردوا إلى الله ما أضافوه إلى غيره في الدنيا. قوله عز وجل: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يسأل يهود المدينة، وليس المراد بهذا السؤال العلم بالآيات لأنه كان صلّى الله عليه وسلّم قد علمها بإعلام الله إياه، ولكن المراد بهذا السؤال التقريع والتوبيخ والمبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله وترك الشكر، وقيل المراد بهذا السؤال التقرير وتذكير النعم التي أنعم بها على سلفهم كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي من دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ يعني يغير الآية التي جاءته من الله لأنها هي سبب الهدى والنجاة من الضلالة، وقيل هي حجج الله الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم أنكروها وبدلوها، وقيل المراد بنعم الله عهده الذي عهد إليهم فلم يفوا به فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن بدل نعمة الله. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد، وقيل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه. وقيل: نزلت في رؤساء اليهود. ويحتمل أنها نزلت في الكلّ. والمزين هو الله تعالى بدليل قراءة من قرأ زين بفتح الزاي وذلك أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو المزين لهم بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة وخلق الأشياء العجيبة والمناظر الحسنة، وإنما فعل ذلك ابتلاء العبادة وذلك أنه جعل دار الدنيا ابتلاء وامتحان وركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء والقسر الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبب الذي تميل النفس إليه مع إمكان. ردها عنه فنظر الخلق إلى الدنيا أكثر من قدرها فأعجبهم حسنها وزهرتها وزينتها فأحبوها وفتنوا بها. وقيل: إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها وأحبوها، فكان هذا الإمهال هو التزين. وقيل: إن المزين هو الشيطان وغواة الجن والإنس، وذلك أنهم زينوا للكفار الحرص على الدنيا وطلبها وقبحوا لهم أمر الآخرة. وقيل: أوهموهم أن لا آخرة ليقبلوا على لذات الدنيا وطلب الحرص عليها، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تعالى زين الذين كفروا يتناول جميع الكفار فيدخل فيه الشيطان وغواة الجن والإنس وأن كلهم مزين لهم وهذا المزين لا بد وأن يكون مغايرا لهم فثبت بهذا ضعف قول المعتزلة وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أن الكفار يستهزئون بفقراء المؤمنين، قال ابن عباس: مثل عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيب وبلال ونظرائهم. وقيل: كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا يعني الفقراء من المؤمنين فَوْقَهُمْ أي فوق الكفار يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن الفقراء في عليين والكفار والمنافقين في أسفل السافلين (ق) عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا أخبركم

[سورة البقرة (2): آية 213]

بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ جعظري مستكبر» العتل الفظ الغليظ الشديد في الخصومة الذي لا ينقاد لخير. والجواظ الفاجر المختال في مشيته، وقيل هو القصير البطين. والجعظري الفظ الغليظ، وقيل هو الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده (ق) عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء» الجد بفتح الجيم هو الحظ والغنى وكثرة المال وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قال ابن عباس: يعطي كثيرا بغير مقدار لأن كل ما يدخل عليه الحساب فهو قليل، والمعنى أنه يوسع لمن يشاء من عباده وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة، وقيل معناه أنه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب وقيل معناه أنه يرزقه بغير استحقاق وقيل معناه أنه تعالى لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها لأن الحساب إنما يكون ليعلم قدر ما يعطي والله غني عالم بما يعطي ولا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون وقيل معناه إن الله يقتر الرزق على ما يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء، ولا يعطي كل واحد على قدر حاجته، بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه، ولا معارض له في حكمه، ويحاسب فيما رزق، ولا يقال له لم أعطيت هذا وحرمت هذا، ولا لم أعطيت هذا أكثر من ذاك؟ لأنه تعالى لا شريك له في ملكه ينازعه ولا يسأل عما يفعل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب والكرامة بغير محاسبة منه لهم على ما من به عليهم وذلك أن نعيم الجنة لا نفاد له ولا انقطاع. وقيل: إنه تعالى يعطي أهل الجنة الثواب والأجر بقدر أعمالهم ثم يتفضل عليهم فذلك الفضل منه إليهم بغير حساب قوله عز وجل. [سورة البقرة (2): آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد. قيل هو آدم وذريته كانوا مسلمين على دين واحد إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا. وقيل كان الناس على شريعة واحدة من الحق والهدى من وقت آدم إلى مبعث نوح ثم اختلفوا، فبعث الله نوحا، وهو أول رسول بعث، ثم بعث بعده الرسل. وقيل هم أهل السفينة الذين كانوا مع نوح وكانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاته. وقيل إن العرب كانت على دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. وقيل كانت الناس أمة واحدة حين أخرجوا من ظهر آدم لأخذ الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فاعترفوا بالعبودية ولم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم، ثم لما ظهروا إلى الوجود اختلفوا بسبب البغي والحسد. وقيل إن آدم وحده كان أمة واحدة يعني إماما وقدوة يقتدى به وإنما ظهر الاختلاف بعده. وقيل كان الناس أمة واحدة على الكفر والباطل بدليل قوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فإن قيل: أليس قد كان فيهم من هو مسلم نحو هابيل وشيث وإدريس ونحوهم؟ فالجواب أن الغالب في ذلك الزمان كان الكفر والحكم للغالب. وقيل إن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة وليس فيها ما يدل على أنهم كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر المذكورون منهم في القرآن بأسماء الأعلام ثمانية وعشرون نبيا مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن آمن وأطاع وَمُنْذِرِينَ يعني مخوفين بالعقاب لمن كفر وعصى، وإنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة للأبدان والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود هو الأول فكان أولى بالتقديم وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي الكتب أو يكون التقدير وأنزل مع كل واحد الكتاب بِالْحَقِّ أي بالعدل والصدق وجملة الكتب

[سورة البقرة (2): آية 214]

المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم القرآن لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ يعني الكتاب وإنما أضيف الحكم إلى الكتاب وإن كان الحاكم هو الله تعالى لأنه أنزله. والمعنى ليحكم الله بالكتاب الذي أنزله وقيل معناه ليحكم بين الناس كل نبي بكتابة المنزل عليه فإسناد الحكم إلى الكتاب أو للنبي مجاز والله هو الحاكم في الحقيقة فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب والمراد به التوراة والإنجيل والذين أوتوه اليهود والنصارى واختلافهم هو تكفير بعضهم بعضا بغيا وحسدا. وقيل اختلافهم هو تحريفهم وتبديلهم. وقيل الكناية فيه راجعة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم والمعنى وما اختلف في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد وضوح الدلالات على صحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم إلّا اليهود الذين أوتوا الكتاب بغيا منهم وحسدا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي إنهم لم يبق لهم عذر في العدول عنه وترك ما جاء وإنما تركوا إتباعه بغيا وحسدا، وهو طلب الدنيا وطلب الرياسة فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلى ما اختلفوا فيه مِنَ الْحَقِّ والمعنى فهدى الله الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق وقيل هو من المقلوب والمعنى فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه وكان اختلافهم الذي اختلفوا فيه الجمعة فهدى الله تعالى هذه الأمة الإسلامية إليها (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون يقوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغدا لليهود وبعد غد للنصارى» وفي رواية قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له» زاد النسائي: يعني يوم الجمعة، ثم اتفقا فالناس لنا تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد (م) عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الله الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق. وقيل اختلفوا في شأن القبلة فصلت اليهود نحو المغرب إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، وهدانا الله إلى الكعبة. وقيل اختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا، فهدانا إلى الحق فقلنا: كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى ابن مريم فاليهود فرطوا فيه والنصارى أفرطوا فيه، فهدانا الله في ذلك كله للحق. والمعنى فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق الذي اختلف فيه من اختلف بِإِذْنِهِ يعني بعلمه وأمره وإرادته وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. [سورة البقرة (2): آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) قوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق، وذلك أن المسلمين أصابهم ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ. وقيل: نزلت في غزوة أحد. وقيل: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة في أول الهجرة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا أموالهم وديارهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآثر قوم النفاق فأنزل الله هذه الآية تطييبا لقلوبهم. ومعنى الآية: أحسبتم والميم صلة. وقيل: هل حسبتم والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان

[سورة البقرة (2): الآيات 215 إلى 216]

قبلكم من إتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والابتلاء والاختبار وهو قوله: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي شبه الذين مضوا قبلكم من النبيين وأتباعهم من المؤمنين ومثل محنتهم مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ أي أصابهم الفقر والشدة والمسكنة وهو اسم من البؤس وَالضَّرَّاءُ يعني المرض والزمانة وضروب الخوف وَزُلْزِلُوا أي وحركوا بأنواع البلايا والرزايا وأصل الزلزلة الحركة وذلك لأن الخائف لا يستقر بل لا يزال يضطرب ويتحرك لقلقه حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم وأصبر وأضبط للنفس عند نزول البلاء وكذا أتباعهم من المؤمنين. والمعنى أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء ولم يبق لهم صبر وذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية واستبطئوا النصر قيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إجابة لهم في طلبهم. والمعنى: هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله فكونوا يا معشر المؤمنين كذلك وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق فإن نصر الله قريب (خ) عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تنتصر لنا ألا تدعو لنا فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون». [سورة البقرة (2): الآيات 215 الى 216] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال، فقال يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال والمعنى: وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر فَلِلْوالِدَيْنِ وإنما قدم الإنفاق على الوالدين لوجوب حقهما على الولد لأنهما كانا السبب في إخراجه من العدم إلى الوجود وَالْأَقْرَبِينَ وإنما ذكر بعد الوالدين الأقربين لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم وَالْيَتامى وإنما ذكر بعد الأقربين اليتامى لصغرهم، ولأنهم لا يقدرون على الاكتساب، ولا لهم أحد ينفق عليهم وَالْمَساكِينِ وإنما أخرهم لأن حاجتهم أقل من حاجة غيرهم وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الحاجة والفقر فانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق. ثم لما فصل الله هذا التفصيل الحسن الكامل أتبعه بالإجمال فقال تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وما تفعلوا من خير مع هؤلاء أو غيرهم طلبا لوجه الله تعالى ورضوانه فإن الله به عليم فيجازيكم عليه وذكر علماء التفسير أن هذه الآية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة وقال الحسن إنها محكمة ووجه إحكامها أن الله ذكر فيها من تجب النفقة عليه مع فقره وهما الوالدان. وقال ابن زيد: هذا في النفل، وهو ظاهر الآية فمن أحب التقرب إلى الله تعالى بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية، فيقدم الأول فالأول. (بقي في الآية سؤال: وهو أنه كيف طابق السؤال الجواب وهو أنهم سألوا عن بيان ما ينفق فأجيبوا ببيان المصرف، وأجيب عن هذا السؤال بأنه قد تضمن قوله: ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو المال ثم ضم إلى جواب السؤال ما يكمل به المقصود، وهو بيان المصرف لأن النفقة لا تعد نفقة إلّا أن تقع موقعها قال الشاعر: إن الصنيعة لا تعد صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع

[سورة البقرة (2): الآيات 217 إلى 218]

قوله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم الجهاد. واختلف العلماء في حكم الآية فقال عطاء الجهاد تطوع والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهم وإليه ذهب الثوري وحكى عن الأوزاعي نحوه، وحجة هذا القول أن قوله كتب يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة وحجة من أوجبه على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قوله عليكم يقتضى تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، وقيل: بل الآية على ظاهرها والجهاد فرض على كل مسلم ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» أخرجه أبو داود بزيادة فيه (ق) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وقيل: إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين وهذا القول: هو المختار الذي عليه جمهور العلماء. قال الزهري كتب الله القتال على الناس جاهدوا أو لم يجاهدوا فمن غزا فيها ونعمت ومن قعد عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغنى عنه قعد قال الله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ولو كان القاعد تاركا فرضا لم يعده بالحسنى، واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين. القول الثاني: إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً القول الثالث: إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة. وقوله تعالى: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي القتال شاق عليكم وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال، لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح والخوف لا أنهم كرهوا أمر الله قيل: نسخ هذا الكره بقوله تعالى إخبارا عنهم: «وقالوا سمعنا وأطعنا» وقيل: إنما كان كراهتهم القتال قبل أن يفرض عليهم لما فيه من الخوف والشدة وكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذين تكرهون من القتال هو خير لكم من تركه لئلا يكرهونه بعد أن فرض عليهم وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لفظة عسى توهم الشك مثل لعل، وهي من الله يقين. وقيل: إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل وتدل على حصول الشك للمستمع، والمعنى أن الغزو فيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة وقيل: ربما كان الشيء شاقا في الحال وهو سبب المنافع الجليلة في المستقبل، ومثله شرب الدواء المر فإنه ينفر عنه الطبع في الحال ويكرهه لكن يتحمل هذه الكراهة والمشقة لتوقع حصول الصحة في المستقبل وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني القعود عن الغزو وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ يعني لما فيه من فوت الغنيمة والأجر وطمع العدو فيكم، لأنه إذا علم ميلكم إلى الراحة والدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتالكم وإذا علم أن فيكم شهامة وجلادة على القتال كف عنكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ يعني ما في الجهاد من الغنيمة والأجر والخير وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك والمعنى أن العبد إذا علم قصور علمه وكمال علم الله ثم إن الله تعالى أمره بأمر كان ذلك الأمر فيه مصلحة عظيمة فيجب على العبد امتثال أمر الله تعالى وإن كان يشق على النفس في الحال. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 217 الى 218] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ سبب نزول هذه الآية. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين وأمره على السرية وكتب له كتابا، وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك به، ولا تستكرهنّ أحدا منهم على السير معك فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، فإذا فيه: بسم الله الرّحمن الرّحيم أما بعد فسر على بركة الله تعالى، بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير. فقال: سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى ومضى أصحابه معه وكانوا ثمانية رهط، ولم يتخلف عنه أحد منهم حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز، يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزل في بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة الطائف وفي العير عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله بن المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقا أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم فلما رأوه آمنوا وقالوا: قوم عمار فلا بأس علينا وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من رجب فتشاور القوم فيهم، وقالوا: متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم، فقتله فكان أول قتيل من المشركين وأسر الحكم بن كيسان وعثمان وكانا أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء وأخذ الحرائب يعني المال، وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين. وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لعبد الله بن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك وعنف المسلمون أصحاب السرية فيما صنعوا، وقالوا لم صنعتم ما لم تؤمروا به، فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير فعزل منها الخمس، وكان أول خمس في الإسلام وأول غنيمة قسمت فقسم الباقي على أصحاب السرية وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم. فقال بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فاداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا. وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا، وقتله الله، فطلب المشركون جيفته بالثمن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية وأما تفسير الآية فقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ يعني يا محمد عن الشهر الحرام يعني رجبا وسمي بذلك لتحريم القتال فيه وفي السائلين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما أنهم المسلمون سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل أخطئوا أم أصابوا وقيل: إن المسلمين كانوا يعلمون أن القتال في الحرم وفي الشهر الحرام لا يحل فلما كتب عليهم القتال سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية: والقول الثاني أن السائلين هم المشركون وإنما سألوه على وجه العيب على المسلمين فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ أي قل لهم يا محمد قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم مستكبر واختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين أحدهما أنها محكمة وأنه لا يجوز الغزو في

[سورة البقرة (2): آية 219]

الشهر الحرام إلّا أن يقاتلوا فيه فيقاتلوا على سبيل الدفع. روي عن عطاء أنه كان يحلف بالله ما يحل للناس، أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه وما نسخت. والقول الثاني الذي عليه جمهور العلماء وهو الصحيح أنها منسوخة. قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار. القتال جائز في الشهر الحرام وهذه الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وبقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني في الأشهر الحرم وغيرها وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا ابتداء كلام والمعنى وصدكم المسلمين عن الحج أو وصدكم عن الإسلام من يريده وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وصدكم عن المسجد الحرام وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين حين آذوهم حتى هاجروا وتركوا مكة، وإنما جعلهم الله أهله لأنهم كانوا هم القائمين بحقوق المسجد الحرام دون المشركين أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام وَالْفِتْنَةُ أي الشرك الذي أنتم عليه أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ يعني قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس وقيل: عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إن عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وبإخراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة والمسلمين، ومنعهم إياهم من البيت وَلا يَزالُونَ يعني مشركي مكة يُقاتِلُونَكُمْ يعني يا معشر المؤمنين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ يعني إلى دينهم وهو الكفر إِنِ اسْتَطاعُوا يعنى إن قدروا على ذلك وفيه استبعاد لاستطاعتهم فهو كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق علي وهو واثق أنه لا يظفر به وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يعني ومن يطاوعهم منكم فيرجع إلى دينهم فيمت على ردته قبل أن يتوب فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت أعمالهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وهو أن المرتد يقتل وتبين زوجته منه، ولا يستحق الميراث من أقاربه المؤمنين ولا ينصر إن استنصر ولا يمدح ولا يثنى عليه ويكون ماله فيئا للمسلمين هذا في الدنيا، ولا يستحق الثواب على أعماله ويحبط أجرها في الآخرة وظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما تتفرع عليه الأحكام إذا مات المرتد على الكفر، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت عليه شيء من أحكام الردة وفيه دليل للشافعي أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت المرتد على ردته. وعند أبي حنيفة أن الردة تحبط العمل وإن أسلم وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يعني الذين ماتوا على الردة والكفر هم أصحاب النار هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها أبدا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه وذلك أن أصحاب السرية قالوا: يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا ونطمع أن يكون لنا غزو. فأنزل الله هذه الآية، وعن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزرا فليس لهم فيه أجر فأنزل الله هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا مساكنهم وعشائرهم وأموالهم وفارقوا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عن المشركين وعن بلادهم إلى غيرها، وجاهدوا يعني المشركين في سبيل الله أي في طاعة الله فجعل الله لأصحاب هذه السرية جهادا أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يطمعون في نيل رحمة الله أخبر أنهم على رجاء الرحمة. وقيل: المراد من الرجاء هنا القطع في أصل الثواب وإنما دخل الظن في كميته ووقته. قال قتادة: أثنى الله تعالى على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أحسن الثناء فقال: «إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله» هؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب وَاللَّهُ غَفُورٌ أي لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم والمعنى أنه تعالى غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا به قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل الله هذه الآية: وأصل الخمر في اللغة الستر والتغطية وسميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه. وقيل: لأنها تستره وتغطيه وجملة القول في تحريم الخمر أن الله عز وجل أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام، وهي لهم حلال ثم نزل بالمدينة في جواب سؤال عمر ومعاذ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فتركها قوم لقوله، إثم كبير وشربها قوم لقوله ومنافع للناس ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما، ودعا إليه ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف حرف لا إلى آخر السورة فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فحرم الله السكر في أوقات الصلوات فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء، فيصبح وقد زال سكره فيصلي الصبح، ويشربها بعد صلاة الصبح، فيصحو وقت الظهر ثم إن عتبان بن مالك اتخذ صنيعا يعني وليمة ودعا رجالا من المسلمين، وفيهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم فافتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، ويروى أن حمزة بن عبد المطلب، شرب الخمر يوما وخرج فلقي رجلا من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثل ببيتين لكعب بن مالك يمدح قومه وهما: جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة ... فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر فأحياؤنا من خير أحياء من مضى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر فقال حمزة: أولئك المهاجرون وقال الأنصاري، بل نحن الأنصار فتنازعا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصاري فهرب الأنصاري وترك ناضحه فقطعه حمزة فجاء الأنصاري مستعديا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بفعل حمزة فغرم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناضحا فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى الآية التي في المائدة إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا يا رب، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل هذا التدريج وهذا الرفق. قال أنس: حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر (ق) عن أنس قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا إذ جاء رجل، فقال: حرمت الخمر فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر هذا الرجل. الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين شراب يتخذ من بسر مطبوخ والمفضوخ المشدوخ والمكسور والإهراق الصب والقلال جمع قلة وهي الجرة الكبيرة. (فصل: في تحريم الخمر ووعيد من شربها) أجمعت الأمة على تحريم الخمر، وأنه يحد شاربها ويفسق بذلك مع اعتقاد تحريمها فإن استحل كفر بذلك ويجب قتله (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا، ومات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة» لفظ مسلم (م) عن جابر: «أن رجلا قدم من

جيشان وجيشان من اليمن فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو مسكر هو؟ قال: نعم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل مسكر حرام وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: وما طينة الخبال يا رسول الله. قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» وعن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال. قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله قال: صديد أهل النار» أخرجه أبو داود. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعا وإن مات فيها مات كافرا فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض. وفي رواية عن القرآن لم تقبل صلاته أربعين يوما وإن مات فيها مات كافرا» أخرجه النسائي. عن عثمان بن عفان قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلّا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه أخرجه النسائي موقوفا عليه وفيه قصة عن أنس قال لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها أخرجه الترمذي. (فصل: في أحكام تتعلق بالخمر) وفيه مسائل: الأولى في ماهيتها: قال الشافعي: الخمرة عبارة عن عصير العنب النيء الشديد الذي قذف بالزبد وكذلك نقيع الزبيب والتمر المتخذ من العسل والحنطة والشعير والأرز والذرة، وكل ما أسكر فهو خمر، وقال أبو حنيفة: الخمر من العنب والرطب ونقيع التمر والزبيب فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه والمسكر منه حرام واحتج على ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى بعض عماله أن ارزق المسلمين من الطلاء، ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وفي رواية: أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكم واحد أخرجه النسائي. الطلاء بكسر الطاء والمد الشراب المطبوخ من عصير العنب الذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، واحتج أيضا بما روي عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب أخرجه النسائي. واستدل أيضا على أن السكر حرام لما روي عن أبي الأحوص عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اشربوا ولا تسكروا» وعن عائشة نحوه أخرجه النسائي. وقال هذا حديث غير ثابت، واستدل الشافعي على أن الخمر في عدة أشياء بما روي عن ابن عمر أن عمر قال على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما بعد أيها الناس أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل ثلاث، وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا أخرجه البخاري ومسلم (ق) عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام. البتع شراب يتخذ من العسل كان أهل اليمن يشربونه. عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من العنب خمرا وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من التمر خمرا» أخرجه أبو داود. وزاد في رواية والذرة وإني أنهاكم عن كل مسكر وللترمذي نحوه وزاد وإن من العسل خمرا (خ) عن ابن عباس أنه سئل عن الباذق فقال: سبق حكم محمد في الباذق، فما أسكر فهو حرام عليك والشراب الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب إلّا الحرام الخبيث قال صاحب المطالع: الباذق بفتح الذال المعجمة هو الطلاء المطبوخ من عصير العنب كان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر، وكل ما أسكر فهو خمر لأن الاسم لا ينقله عن معناه الموجود فيه. وقال ابن الأثير في النهاية الباذق الخمر تعريب باذه وهو اسم للخمر بالفارسية أي لم يكن في زمانه أو سبق. قوله: فيها وفي غيرها من جنسها. وقيل معناه سبق حكم محمد صلّى الله عليه وسلّم إن ما أسكر فهو حرام. عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كل مسكر ومفتر أخرجه أبو داود: والمفتر كل شراب أحمى الجسد وصار

فيه فتور وضعف وانكسار واستدل الشافعي على ما أسكر كثيره فقليله حرام، مما روي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» أخرجه الترمذي وأبو داود. عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» أخرجه أبو داود والنسائي. وفي رواية له «والحسوة منه حرام» الفرق بالتحريك مكيال يسع تسعة عشر رطلا بالبغدادي، وأجيب عن حديث عمر في الطلاء بأنه معارض بما روي عن السائب يزيد أن عمر قال: وجدت من فلان ريح شراب وزعم أنه شرب الطلاق وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته فسأل عنه فقيل له: إنه يسكر فجلده عمر الحد تاما أخرجه مالك في الموطأ. وأما حديث ابن عباس، فموقوف عليه ومعارض بما روي عنه في الباذق، وقوله: والسكر من كل شراب قد رواه الحفاظ السكر بفتح السين. قال صاحب الغريبين: السكر خمر الأعاجم، ويقال لما يسكر السكر وروى هذا الحديث ابن حنبل وقال فيه: والمسكر من كل شراب، وقال موسى بن هارون: وهو الصواب، وأما حديث أبي الأحوص ففيه وهمان: أحدهما في سنده حيث قال: عن أبي بردة، وإنما يرويه سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه والوهم الثاني في متنه حيث قال: اشربوا ولا تسكروا، وإنما يرويه الناس ولا تشربوا مسكرا، ويدل على صحة هذا ما روى مسلم في صحيحه عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا» وقال النسائي: في حديث أبي الأحوص هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم لا يعلم أن أحدا تابعه عليه من أصحاب سماك، وأما حديث عائشة فيه فهو غير ثابت كما تقدم في قول النسائي. المسألة الثانية: في الحكم بنجاسة الخمر. الخمر وما يلحق بها نجسة العين ويدل على نجاستها قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ والرجس في اللغة النجس والشيء المستقذر وقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ فأمر باجتنابها فكانت نجسة العين ويدل على نجاستها أيضا أنها محرمة التناول لا للاحترام، ولأن الناس مشغوفون بها فينبغي أن يحكم بنجاستها تأكيدا للزجر عنها. المسألة الثالثة: في تحريم بيعها والانتفاع بها. أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عام فتح مكة: «إن الله تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير والأصنام» أخرجاه في الصحيحين مع زيادة اللفظ (ق). عن عائشة قالت خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «حرمت التجارة في الخمر» (ق) عن ابن عباس قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من باع الخمر فليشقص الخنازير» أخرجه أبو داود. وقوله فليشقص الخنازير أي فليقطعها قطعا قطعا كما تقطع الشاة للبيع والمعنى من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنازير فإنهما في التحريم سواء. عن أبي طلحة قال يا نبي الله إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري. فقال: أهرق الخمر واكسر الدنان أخرجه الترمذي. وقال وقد روي عن أنس إن أبا طلحة كان عنده خمر لأيتام وهو أصح. فإن قلت فما وجه قوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قلت: منافعها اللذة التي توجد عند شربها والفرح والطرب معها وما كانوا يصيبون من الربح في ثمنها، وذلك قبل التحريم فلما حرمت الخمر حرم ذلك كله. (فصل) وأما الميسر فهو القمار واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال بسهولة من غير تعب، وكذا قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله هذه الآية. وأصل الميسر أن أهل الثروة من العرب في الجاهلية كانوا يشترون جزورا فينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين

جزءا، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها: الأزلام والأقلام وأسماؤها الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد وكانوا يسهمون لسبعة منها أنصباء فللفذ سهما وللتوأم سهمين وللرقيب ثلاثة أسهم وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة وثلاثة من القداح لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد قال بعضهم: فلي في الدنيا سهام ... ليس فيهن ربيح إنما سهمي وغد ... ومنيح وسفيح ثم يجمعون القداح في خريطة يسمونها الريابة، ويضعونها على يد رجل عدل عندهم يسمونه المحيل والمفيض فيحيلها في الخريطة، ويخرج منها قدحا باسم رجل منهم فأيهم خرج اسمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج من القداح، وإن خرج له قدح من الثلاثة التي لا أنصباء لها لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله وقيل: لا يأخذ ولا يغرم ويسمون ذلك القدح لغوا ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لا يفعله ويسمونه البرم يعني البخيل الذي لا يخرج شيئا بين الأصحاب لبخله. وأما حكم الآية فالمراد به جميع أنواع القمار. فكل شيء فيه قمار فهو من الميسر روي عن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر يعني الرهن فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأما النرد فيحرم اللعب به سواء كان بخطر أم لا يدل على تحريمه ما روي عن بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في دم خنزير. أخرجه مسلم. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله» أخرجه أبو داود. وعن علي بن أبي طالب قال النرد والشطرنج من الميسر. واختلفوا في الشطرنج فمذهب أبي حنيفة أنه يحرم اللعب به سواء كان برهن أو بغير رهن، ومذهب الشافعي أنه مباح بشروط ذكرها الشافعي فقال: إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان ويروى عن الهذيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراما، وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع مال، وأخذ مال وهذا ليس كذلك وقوله تعالى: قُلْ فِيهِما يعني في الخمر والميسر إِثْمٌ كَبِيرٌ أي وزر عظيم وقيل: إن الخمر عدو للعقل فإذا غلبت على عقل الإنسان ارتكب كل قبيح ففي ذلك آثام كبيرة منها إقدامه على شرب المحرم ومنها فعل ما لا يحل فعله. وأما الإثم الكبير في الميسر فهو أكل المال الحرام بالباطل وما يجري بينهما من الشتم والمخاصمة والمعاداة وكل ذلك فيه آثام كثيرة وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يعني أنهم كانوا يربحون في بيع الخمر قبل تحريمها. وأما منافع الميسر فهو أخذ مال بغير كد ولا تعب. قيل ربما أن الواحد منهم كان يقمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له المال الكثير، وربما كان يصرفه إلى المحتاجين فيكسب بذلك الثناء والمدح، وهو المنفعة وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما يعني إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، وقيل: إثمهما قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر. قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حضهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق فقال الله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ يعني الفضل والعفو ما فضل عن قدر الحاجة. فكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة. ويتصدقون بالفاضل بحكم هذه الآية ثم نسخ ذلك بآية الزكاة وقيل: هو التصدق عن ظهر غنى (ق) عن الزهري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» وقيل: هو الوسط في الإنفاق من غير إسراف ولا إقتار وقيل: هو في صدقة التطوع إذ لو كان المراد بهذا الإنفاق الواجب لبين الله قدره فلما لم يبينه دل ذلك على أن المراد به صدقة التطوع كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يبين لكم الأمور التي سألتم عنها من وجوه الإنفاق ومصارفه لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. يعني فتأخذون ما يصلحكم في الدنيا وتنفقون الباقي فينفعكم

[سورة البقرة (2): آية 220]

في الآخرة. وقيل: لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قال ابن عباس لما نزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً تخرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجا شديدا حتى عزلوا أموالهم عن أموالهم وتركوا مخالطتهم، وربما كان يصنع لليتيم الطعام فيفضل منه فيتركونه ولا يأكلونه، فاشتد ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى ويسألونك عن اليتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي إصلاح أموال اليتامى من غير أخذ أجرة، ولا عوض خير لكم أي أعظم أجرا. وقيل: هو أن يوسع على اليتيم من طعام نفسه ولا يوسع من طعام اليتيم وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ يعني في الطعام والخدمة والسكنى وهذا فيه إباحة المخالطة أي شاركوهم في أموالهم واخلطوها بأموالكم ونفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم، فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح والرضا وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ يعني المفسد لمال اليتيم والمصلح له، ويعلم الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وأكل مال اليتيم بغير حق والذي يقصد الإصلاح. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم وأصل العنت الشدة والمشقة، والمعنى لكلفكم في كل شيء ما يشق عليكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي غالب يقدر أن يشق على عباده ويعنتهم ولكنه حكيم لا يكلف عباده إلّا ما تتسع فيه طاقتهم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ نزلت في أبي مرثد بن أبي مرثد الغنوي واسم أبي مرثد يسار بن حصين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلته في الجاهلية فأتته فقالت: ألا تخلو فقال ويحك يا عناق إن الإسلام حال بيني وبين ذلك فقالت له: هل لك أن تتزوج بي؟ قال نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره فقالت: أبي تتبرم واستعانت عليه فضربوه ضربا شديدا، ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة، وانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه بما كان من أمره، وأمر عناق وما لقي بسببها وقال يا رسول الله: أيحل لي أن أتزوجها فأنزل الله تعالى هذه الآية وأصل النكاح في اللغة الوطء ثم كثر حتى قيل العقد نكاح. ومعنى الآية: ولا تنكحوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمنّ أي يصدقن بالله ورسوله وهو الإقرار بالشهادتين والتزام أحكام المسلمين واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل: إنها تدل على أن كل مشركة يحرم نكاحها على كل مسلم من أي أجناس الشرك كانت كالوثنية والمجوسية والنصرانية وغيرهن من أصناف المشركات، ثم استثنى الله تعالى من ذلك نكاح الحرائر الكتابيات بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فأباح الله تعالى نكاحهن بهذه الآية قال ابن عباس في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وقيل: إن حكم الآية نزل في مشركات العرب الوثنيات خاصة ولم ينسخ منها

[سورة البقرة (2): آية 222]

شيء ولم يستثن وإنما حكمها عام مخصوص، قال قتادة: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن يعني مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. وبيان هذا في مسألة وهي أن لفظ الشرك على من يطلق؟ فالأكثرون من العلماء وهو القول الصحيح المختار أن لفظ الشرك يندرج فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك عبدة الأصنام والمجوس وغيرهم. ويدل على أن اليهود والنصارى يطلق عليهم اسم الشرك. قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ثم قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فهذه الآية صريحة في شرك اليهود والنصارى وقيل: كل من كفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإن زعم أن الله تعالى واحد فهو مشرك وذلك أن من كفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مع صحة نبوته، وظهور معجزاته فقد زعم أن ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم، هو من عند غير الله فقد أشرك مع الله غيره فعلى هذا القول أيضا يدخل فيه اليهود والنصارى لإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: إن اسم الشرك لا يتناول إلّا عبدة الأوثان فقط والأول أصح لما تقدم من الأدلة فعلى قول من قال: إن اسم الشرك لا يتناول إلا الوثنيات تكون الآية محكمة وعلى قول الأكثرين أن اسم الشرك يتناول الوثنيات والكتابيات وغيرهن تكون الآية محكمة في حق الوثنيات منسوخة في حق الكتابيات وقوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ يعني أنفع وأصلح وأفضل مِنْ مُشْرِكَةٍ يعني حرة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يعني بجمالها ومالها ونسبها فالأمة المؤمنة خير وأفضل عند الله من الحرة المشركة، نزلت في خنساء وليدة كانت لحذيفة بن اليمان فقال: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك ثم أعتقها وتزوجها. وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة كانت عنده أمة سوداء فغضب عليها يوما فلطمها، ثم فزع فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال: وما هي يا عبد الله قال: هي تشهد أن الله لا إله إلّا الله وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي. فقال: هذه أمة مؤمنة. قال عبد الله: فو الذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله هذه الآية: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا هذا خطاب لأولياء المرأة أي لا تزوجوا المسلمة من المشركين. حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركين من أي أصناف الشرك كان، وانعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ يعني حرا وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بحسنه وماله وجماله أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يعني يدعون إلى الشرك الذي يؤدي إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ يعني أنه تعالى بين هذه الأحكام وأباح بعضها، وحرم بعضها، فاعملوا بما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه فإن من عمل بذلك استحق الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ أي بتسير الله وإرادته وتوفيقيه وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ أي يوضح أدلته وحججه في أوامره ونواهيه وأحكامه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي فيتعظون. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (م) عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصنعوا كل شيء إلّا النكاح» فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما الوجد الغضب، وأصل الحيض السيلان والانفجار. يقال: حاض الوادي إذا سال وفاض ماؤه قُلْ هُوَ أَذىً أي هو شيء قذر والأذى

في اللغة ما يكره من كل شيء فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي فاجتنبوا مجامعتهن وَلا تَقْرَبُوهُنَّ يعني بالوطء والمجامعة فهو كالتوكيد لقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ يعني في الحيض والمعنى ولا تقربوهن حتى يزول عنهن الدم، وقرئ يطهرن بتشديد الطاء ومعناه حتى يغتسلن فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن من حيضهن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: طئوهن في الفرج ولا تعتدوا إلى غيره فإنه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهن إلى غير المأتي وقيل: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله به وهو الطهر. وقيل: معناه وأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات. (فصل: في حكم هذه الآية وفيه مسائل) المسألة الأولى: أجمع المسلمون على تحريم الجماع في زمن الحيض، ومستحله كافر عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد» أخرجه الترمذي. وقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ ومن فعله وهو عالم بالتحريم عزره الإمام وفي وجوب الكفارة قولان أحدهما أنه يستغفر الله ويتوب إليه ولا كفارة عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، والقول الثاني أنه تجب عليه الكفارة، وهو القول القديم للشافعي وبه قال أحمد بن حنبل: لما روي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بنصف دينار وفي رواية. قال: إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار أخرجه الترمذي. وقال: رفعه بعضهم عن ابن عباس ووقفه بعضهم. المسألة الثانية: أجمع العلماء على جواز الاستمتاع بالمرأة الحائض بما فوق السرة ودون الركبة وجواز مضاجعتها وملامستها، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا وأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضها، ثم يباشرها وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يملك إربه وفي رواية قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض أخرجاه في الصحيحين المراد بالمباشرة الاستمتاع بما دون الفرج، وفور كل شيء أوله وابتناؤه وقولها يملك إربه يروى بسكون الراء وهو العضو وبفتحها وهو الحاجة (م) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ناوليني الخمرة من المسجد قلت: أنا حائض. قال إن حيضتك ليس في يدك. الخمرة حصير صغير مضفور من سعف النخل أو غيره بقدر الكف وقولها: من المسجد يعني ناداها من المسجد لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان معتكفا في المسجد، وعائشة في حجرتها فطلب منها الخمرة وهي حائض. المسألة الثالثة: يحرم على الحائض الصلاة والصوم ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله، فلو أمنت الحائض من التلويث في عبور المسجد جاز في أحد الوجهين قياسا على الجنب والثاني لا لأن حدثها أغلظ، ويجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة لما روي عن معاذة العدوية، قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت: أحرورية أنت؟ قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة أخرجاه في الصحيحين. المسألة الرابعة: لا يرتفع شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل، أو تتيمم عند عدم الماء إلا الصوم، فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فإنه يصح، وإن اغتسلت في النهار وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز للزوج غشيانها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، وهو عشرة أيام عنده قبل الغسل، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يجوز للزوج غشيانها ما لم تغتسل من الحيض أو تتيمم عند عدم الماء لأن الله تعالى علق جواز وطء الحائض بشرطين: أحدهما انقطاع الدم والثاني الغسل فقال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ يعني من الحيض فَإِذا تَطَهَّرْنَ يعني اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فدل ذلك على أن الوطء لا يحل قبل الغسل. وقوله

[سورة البقرة (2): آية 223]

تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ يعني من الذنوب، والتواب الذي كلما أذنب جدد توبة، وقيل: التواب هو الذي لا يعود إلى الذنب وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ يعني من الأحداث وسائر النجاسات بالماء. وقيل: المتطهرين من الشرك وقيل: هم الذين لم يصيبوا الذنوب. [سورة البقرة (2): آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) قوله عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية (ق) عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وفي رواية للترمذي كانت اليهود تقول: من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث وعن ابن عباس قال: جاء عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما أهلكك قال: حولت رحلي الليلة قال: فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قوله: حولت رحلي هو كناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد هذا ظاهره، ويجوز أن يريد به أنه أتاها في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها، وعن ابن عباس قال: كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أشق ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب أن يصنع بها ذلك فأنكرته عليه. وقالت: إنا كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد، أخرجه أبو داود والوثن الصنم. وقيل: الصورة لا جثة لها. وقوله: على حرف، الحرف الجانب وحرف كل شيء جانبه وقوله: يشرحون النساء. يقال شرح فلان جاريته إذا وطئها على قفاها وأصل الشرح البسط وقوله: سرى أمرهما أي ارتفع وعظم وتفاخم وأصله من سرى البرق إذا لج في اللمعان. عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ في صمام واحد ويروى سمام بالسين أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن وقوله تعالى: حَرْثٌ لَكُمْ معناه مزرع لكم ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه فجعل فرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات الخارج فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يعني كيف شئتم وحيث شئتم، إذا كان في القبل والمعنى كيف شئتم مقبلة ومدبرة، على كل حال إذا كان في الفرج وفي الآية دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن محل الحرث والزرع هو القبل لا الدبر، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» أخرجه أبو داود. وقال سعيد بن المسيب: هذا في العزل يعني إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم لا تعزلوا، وسئل ابن عباس عن العزل فقال: حرثك إن شئت فعطش وإن شئت فارو ويروى عنه أنه قال: تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية وبه قال أحمد: وكره جماعة العزل وقالوا: هو الوأد الخفي وروى نافع قال كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ قال: تدري فيم نزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية وروى عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر فقال له: يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن فقال: كذب العبد وأخطأ إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن، ويحكى عن مالك إباحة ذلك وأنكره أصحابه،

[سورة البقرة (2): آية 224]

وأجمع جمهور العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وقالوا: لأن الله حرم الفرج في حال الحيض لأجل النجاسة العارضة وهو الدم فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة ولأن الله تعالى نص على ذكر الحرث والحرث به يكون نبات الولد فلا يحل العدول عنه إلى غيره. وقوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني الولد وقيل: قدموا التسمية والدعاء عند الجماع (ق) عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا» وقيل: أراد به تقديم الإفراط (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» قوله إلا تحلة القسم يعني قدر ما يبر الله قسمه فيه وهو قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فإذا وردها جاوزها فقد أبر الله قسمه، وقيل: قدموا لأنفسكم يعني من الخير والعمل الصالح بدليل سياق الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا أن تأتوا شيئا مما نهاكم الله عنه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني بالكرامة من الله تعالى. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نزلت في عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف عبد الله لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصم له فكان إذا قيل له: فيه يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني فأنزل الله هذه الآية، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف ألا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك والعرضة ما يجعل معرضا للشيء، وقيل: العرضة الشدة والقوة وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء، فهو عرضة، والمعنى: ولا تجعلوا الحلف بالله سببا مانعا لكم من البر والتقوى يدعى أحدكم إلى بر وصلة رحم فيقول قد حلفت بالله لا أفعله فيعتل بيمينه في ترك البر والإصلاح أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قبل معناه لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه» وقيل: معناه لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين متقين مصلحين فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجراءة عليه وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي لحلفكم عَلِيمٌ يعني بنياتكم. قوله عز وجل: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو كل ساقط مطرح من الكلام، وما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر. واللغو في اليمين هو الذي لا عقد معه كقول القائل: لا والله بلى والله على سبق اللسان من غير قصد ونية وبه قال الشافعي: ويعضده ما روي عن عائشة قالت نزل قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 225] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ في قول الرجل: لا والله وبلى والله أخرجه الترمذي. موقوفا ورفعه أبو داود قال: قالت عائشة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو قول الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله» ورواه عنها أيضا موقوفا، وقيل: في معنى اللغو هو أن يحلف الرجل على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين له خلاف ذلك، وبه قال أبو حنيفة: ولا كفارة فيه ولا إثم عليه عنده، قال مالك في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذا ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. قال: والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضى به أحدا ويعتذر المخلوق أو يقطع به مالا، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح له فعله، ثم يفعله أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل أن يحلف لا يبيع ثوبه بعشرة دراهم، ثم يبيعه بذلك أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه، وفائدة الخلاف الذي بين الشافعي وأبي

[سورة البقرة (2): آية 226]

حنيفة في لغو اليمين أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل، لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن وأبو حنيفة يحكم بضد ذلك، ومذهب الشافعي هو قول: عائشة والشعبي وعكرمة ومذهب أبي حنيفة هو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة ومكحول. وقيل: في معنى اللغو إنه اليمين في الغضب وقيل: هو ما يقع سهوا من غير قصد البتة ومعنى لا يؤاخذكم أي لا يعاتبكم الله بلغو اليمين. وقيل: لا يُؤاخِذُكُمُ أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني لكن يؤاخذكم بما عزمتم عليه وقصدتم له، وكسب القلب هو العقد والنية. (فصل في بيان حكم الآية: وفيه مسائل) المسألة الأولى: لا تنعقد اليمين إلا بالله وبأسمائه وصفاته، فأما اليمين بالله فهو كقول الرجل: والذي نفسي بيده والذي أعبده، ونحو ذلك، والحلف بأسمائه كقوله والله والرحمن والرحيم والمهيمن ونحو ذلك والحلف بصفاته كقوله وعزة الله، وقدرته وعظمته ونحوه، فإذا حلف بشيء من ذلك ثم حنث فعليه الكفارة. المسألة الثانية: لا يجوز الحلف بغير الله كقوله: والكعبة والنبي وأبي ونحو ذلك، فإذا حلف بشيء من ذلك لا تنعقد يمينه ولا كفارة عليه، ويكره الحلف به لما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدرك عمر وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» أخرجاه في الصحيحين. المسألة الثالثة: إذا حلف على أمر في المستقبل، فحنث فعليه الكفارة وإن كان على أمر ماض ولم يكن، أو على أنه لم يكن فكان فإن كان عالما به حال حلفه بأن يقول: والله ما فعلت وقد فعل أو لقد فعلت وما فهل فهذه اليمين الغموس، وهي من الكبائر سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم وتجب فيها الكفارة عند الشافعي سواء كان عالما أو جاهلا، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا كفارة عليه، فإن كان عالما فهي كبيرة، وإن كان جاهلا فهي من لغو اليمين وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر أنه لا يؤاخذكم عليها، ولو شاء آخذهم وألزمهم للكفارة في العاجل والعقوبة عليها في الآجل حَلِيمٌ يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة، قال الحليمي في معنى الحليم: إنه الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنه يرزق العاصي كما يرزق المطيع ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقى البر المتقي وقد يقيه الآفات والبلايا، وهو غافل لا يذكره فضلا عن أن يدعوه كما يقيها الناسك الذي يدعوه ويسأله، وقال أبو سليمان الخطابي: الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم، إنما الحليم الصفوح مع القدرة على الانتقام المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 226] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يؤلون أي يحلفون والألية اليمين قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت والإيلاء في عرف الشرع، هو اليمين على ترك الوطء كما إذا قال: والله لا أجامعك أو لا أباضعك أو لا أقربك قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فأبت أن تعطيه حلف لا يقربها السنة والسنتين والثلاث فيدعها لا أيّما، ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل الله ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية، وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية فكان الرجل يريد امرأته، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فيتركها لا أيما ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فجعل الله

[سورة البقرة (2): الآيات 227 إلى 228]

تعالى له الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية للذين يؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أي انتظار أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ والتربص التثبت والانتظار. فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا عن اليمين بالوطء، والمعنى فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته فإنه غفور رحيم لكل التائبين. (فروع) تتعلق بحكم الآية: (الفرع الأول): إذا حلف أنه لا يقرب زوجته أبدا أو مدة هي أكثر من أربعة أشهر فهو مول، فإذا مضت أربعة أشهر، يوقف الزوج، ويؤمر بالفيء وهو الرجوع أو الطلاق، وذلك بعد مطالبة الزوجة فإن رجع عما قال بالوطء إن قدر عليه أو بالقول مع العجز عنه، فإن لم يفيء ولم يطلق طلق عليه الحاكم واحدة، وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وابن عمر، قال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كلهم يقول: يوقف المولي. وذهب إليه سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن عباس وابن مسعود: إذا مضت مدة أربعة أشهر يقع عليها طلقة بائنة. وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة، وقال سعيد بن المسيب والزهري: يقع عليها طلقة رجعية. (الفرع الثاني): لو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر فليس بمول بل هو حالف فإن وطئها قبل مضي المدة لزمه كفارة يمين. (الفرع الثالث): لو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، فليس بمول بعد مضي المدة عند الشافعي لأن بقاء المدة شرط للوقوف، وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق، وقد مضت المدة، وعند أبي حنيفة يكون موليا ويقع الطلاق بمضي المدة. (الفرع الرابع): مدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد، جميعا عند الشافعي لأنها مدة ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعن مالك وأبي حنيفة تتنصف مدة الإيلاء بالرق غير أن عند أبي حنيفة تنتصف مدة الإيلاء برق المرأة، وعند مالك برق الزوج كما في الطلاق. (الفرع الخامس): إذا وطئ خرج من الإيلاء ويجب عليه كفارة يمين، وهذا قول أكثر العلماء وقيل: لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعده المغفرة فقال: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومن قال: بوجوب الكفارة عليه، قال: ذلك في إسقاط العقوبة عنه لا في الكفارة. [سورة البقرة (2): الآيات 227 الى 228] وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي تحققوه بالإيقاع فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني أي لأقوالهم عَلِيمٌ يعني بنياتهم وفيه دليل على أنها لا تطلق ما لم يطلقها زوجها، لأنه تعالى شرط فيها العزم. قوله عز وجل: وَالْمُطَلَّقاتُ أي المخليات من حبال أزواجهن والمطلقة هي التي أوقع الزوج عليها الطلاق يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أي ينتظرن فلا يتزوجن ثَلاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء والقرء اسم يقع على الحيض، والطهر، قال أبو عبيدة: الأقراء من الأضداد كالشفق اسم للحمرة، والبياض وقيل: إنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر.

وقيل: بالعكس واختلفوا في أصله فقيل أصله الجمع من قرأ أي جمع لأن في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع في البدن وقيل: أصله الوقت. يقال رجع فلان لقرئه أي لوقته الذي كان فيه لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت وبحسب اختلاف أهل اللغة في الأقراء اختلف الفقهاء على قولين: أحدهما أن الأقراء هي الحيض روى ذلك عن عمرو علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء، وبه قال عكرمة والضحاك والسدي والأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وقال أحمد بن حنبل: كنت أقول إن الأقراء هي الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض، القول الثاني أنها الأطهار، يروى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة وبه قال الزهري وأبان بن عثمان ومالك والشافعي وحجة من يقول إن الأقراء هي الحيض قوله صلّى الله عليه وسلّم للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك يعني أيام حيضك لأن المرأة لا تدع الصلاة إلا أيام حيضها وحجة من يقول: إنها الأطهار أن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لعمر مره فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة، التي أمر الله أن يطلق لها فأخبر أن زمان العدة هو الطهر لا الحيض ويعضد من اللغة قول الأعشى: ففي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عرائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أراد أنه كان يخرج للغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعند غيره أطول وذلك أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها، وحلت للأزواج ويحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءا على قول من يجعل الأقراء الأطهار، قالت عائشة رضي الله عنها: إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج وروي عنها أنها قالت: القرء الطهر ليس بالحيضة. قال الشافعي: والنساء بهذا أعلم لأن هذا مما يبتلي به النساء وإن طلقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرابعة انقضت عدتها، وعلى قول من يجعل الأقراء حيضا وهو مذهب أبي حنيفة لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة. إن كان وقع الطلاق في حال الطهر أو من الحيضة الرابعة، إن وقع في حال الحيض فإن قلت ما معنى الإخبار عنهن بالتربص في قوله: والمطلقات يتربصن بأنفسهن. قلت: هو خبر في صورة الأمر، وأصل الكلام وليتربص المطلقات فاخرج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يلتقي بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عن موجود ونظيره قولهم في الدعاء: يرحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة فكأنه قال: وجدت الرحمة فهو يخبر عنها. (فصل في أحكام العدة وفيه مسائل) المسألة الأولى: عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وسواء في ذلك الحرة والأمة. المسألة الثانية: عدة المتوفى عنها سوى الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام سواء مات عنها زوجها قبل الدخول أو بعده وسواء في ذلك الحيض والأمة والآيسة. المسألة الثالثة: عدة المطلقة المدخول بها وهي ضربان: أحدهما الحيض فعدتها بالإقراء، وهي ثلاثة أقراء الضرب الثاني الآيسات من الحيض وإما الكبر، أو تكون لم تحض قط فعدتها ثلاثة أشهر وأما المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها.

المسألة الرابعة: عدة الإماء نصف عدة الحرائر فيما له نصف وفي الأقراء قرآن لأنه لا يتنصف قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ينكح العبد اثنتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عباس: يعني الولد، وقيل: الحيض والمعنى أنه لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض أو الحمل لتبطل بذلك الكتمان حق الزوج من الرجعة والولد إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا وعيد شديد لتأكيد تحريم الكتمان وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عما في الرحم من الحيض أو الولد، والمعنى أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة فيه سواء، فهو كقولك أدّ حقي إن كنت مؤمنا يعنى أن أداء الحقوق من أفعال المؤمنين وتقول للذي يظلم: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني والمعنى ينبغي أن يمنعك إيمانك من الظلم، وفي سبب وعيد النساء بهذا قولان أحدهما أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة. قاله ابن عباس: والثاني أنه لأجل إلحاق الولد بغير أبيه قاله قتادة وقيل: كانت المرأة إذا رغبت في زوجها تقول: إني حائض وإن كانت قد طهرت ليراجعها وإن كانت زاهدة فيه كتمت حيضها وتقول قد طهرت لتفوته فنهاهن الله عن ذلك وأمرن بأداء الأمانة وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ يعني أزواجهن سمي الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته، وأصل البعل السيد والمالك والمعنى وأزواجهن أولى برجعتهن وردهن إليهم في ذلك أي في حال العدة فإذا انقضى وقت العدة فقد بطل حق الرد والرجعة إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً يعني إن أراد الزوج بالرجعة الإصلاح وحسن العشرة لا الإضرار بهن، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يراجعون، ويريدون بذلك الإضرار فنهى الله المؤمنين عن مثل ذلك، وأمرهم بالإصلاح وحسن العشرة بعد الرجعة وَلَهُنَّ يعني وللنساء على الأزواج مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ يعني للأزواج بِالْمَعْرُوفِ وذلك أن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يراعي حق الآخر فيما له، وعليه فيجب على الزوج أن يقوم بجميع حقها، ومصالحها ويجب على الزوجة الانقياد والطاعة له، قال ابن عباس في معنى الآية: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله تعالى. قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (م) عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وقال: فيها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانات الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. قوله: «فاتقوا الله في النساء» فيه الحث على الوصية بهن ومراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف. قوله: «فإنكم أخذتموهن بأمانات الله» ويروى بأمانة وقوله: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» معناه بإباحة الله والكلمة هي قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وقيل: الكلمة هي قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقيل: الكلمة هي كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقوله: لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه معناه ولا يأذن لأحد أن يتحدث إليهن، وكان من عادة العرب أن يتحدث الرجال مع النساء ولا يرون ذلك عيبا ولا يعدونه ريبة إلى أن نزلت آية الحجاب فنهوا عن ذلك وليس المراد بوطء الفرش نفس الزنا فإن ذلك محرم على كل الوجوه، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان المراد ذلك لم يكن الضرب فيه ضربا غير مبرح إنما كان فيه الحد، والضرب المبرح هو الشديد. وقول: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف يعني بالعدل وفيه وجوب نفقة الزوجة، وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع. وقوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي منزلة ورفعة قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال. وقيل: إن فضيلة الرجال على النساء بأمور منها العقل والشهادة والميراث والدية وصلاحية الإمامة والقضاء وللرجال أن يتزوج عليها ويتسرى، وليس لها ذلك وبيد الرجل الطلاق فهو قادر على تطليقها وإذا طلقها رجعية فهو قادر على رجعتها وليس شيء من ذلك بيدها وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يمتنع عليه شيء

[سورة البقرة (2): آية 229]

حَكِيمٌ أي في جميع أفعاله وأحكامه. روى البغوي بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها، ثم رجع فرأى رجالا يسجد بعضهم لبعض فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) الطَّلاقُ مَرَّتانِ عن عروة بن الزبير قال: كان الرجل إذا طلق زوجته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تحلين أبدا فأنزل الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فاستقبل الناس الطلاق جديدا من ذلك اليوم من كان طلق أو لم يطلق أخرجه الترمذي. وله عن عائشة قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء الله أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل القرآن الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قالت عائشة: فاستأنف الطلاق مستقبلا من كان قد طلق ومن لم يطلق، ومعنى الآية أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثالثة إلا أن تنكح زوجا آخر، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الطلاق الثلاث في دفعة واحدة وهو الشافعي، وقيل في معنى الآية: إن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة وهذا التفسير هو قول من قال: إن الجمع بين الثلاثة حرام إلا أن أبا حنيفة قال: يقع الثلاث وإن كان حراما وقيل: إن الآية دالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته والعدد الذي تبين به زوجته منه، والمعنى أن عدد الطلاق الذي لكم فيه رجعة على أزواجكم إذا كن مدخولا بهن تطليقتان، وأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يعني بعد الرجعة وذلك أنه إذا راجعها بعد التطليقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف وهو كل ما عرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يعني أنه يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها من غير مضارة. وقيل هو أنه إذا طلقها أدى إليها جميع حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها. (فروع): تتعلق بأحكام الطلاق: (الفرع الأول): صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق، من غير نية ثلاث الطلاق والفراق والسراح، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط. (الفرع الثاني): الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها فله مراجعتها من غير رضاها مادامت في العدة فإذا لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها، فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها. (الفرع الثالث): العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين. واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة فالعبد يملك على زوجته الحرة

ثلاث تطليقات، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ يعني أعطيتموهن شيئا يعني من مهر أو غيره، ثم استثنى الخلع فقال تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى ويقال حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، وكان بينهما كلام فأتت أباها تشكو إليه زوجها وقالت: إنه يسب أبي ويضربني فقال: ارجعي إلى زوجك فإنى أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال: فرجعت إليه الثالثة وبها أثر الضرب فقال: ارجعي إلى زوجك فلما رأت إن أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكت إليه زوجها وأرته أثارا بها من ضربه وقالت: يا رسول الله لا أنا ولا هو فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ثابت فقال: مالك ولأهلك فقال: والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلى منها غيرك فقال: لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سألها فقالت: صدق يا رسول الله ولكني خشيت أن يهلكني فأخرجني منه. وقالت: يا رسول الله ما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه هو أكرم الناس حبا لزوجته ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو قال ثابت أعطيتها حديقة نخل فقل لها فلتردها علي، وأخلى سبيلها، فقال لها: تردين عليه حديقته وتملكين أمرك قالت: نعم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ففعل. (خ) عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا مال ولكني أكره الكفر في الإسلام. قال أبو عبد الله: يعني تبغضه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» قوله: ما أعتب عليه يعني ما أجد عليه والعتبى الموجدة والحديقة البستان من النخل إذا كان عليه الحائط ومعنى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أي يعلما الزوجان من أنفسهما أن لا يقيما حدود الله والمعنى تخاف المرأة أن تعصي الله في أمور زوجها، ويخاف الزوج أنه إذا لم تطعه أن يعتدي عليها، فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئا مما أعطاها إلا أن يكون النشوز من قبلها، وذلك أن تقول لا أطيع لك أمرا ولا أطأ لك مضجعا، ونحو ذلك، وقرئ يخافا بضم الياء، ومعناه إلا أن يعلم ذلك من حالهما يعني يعلم القاضي والوالي فَإِنْ خِفْتُمْ يعني فإن خشيتم وأشفقتم، وقيل: معناه فإن ظننتم أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعني ما أوجب الله على كل واحد منهما من طاعته فيما أمره به من حسن الصحبة، والمعاشرة بالمعروف وقيل: هو يرجع إلى المرأة وهو سوء خلقها واستخفافها بحق زوجها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك، والمعصية فيما افتدت به نفسها أو أعطت من المال لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق، ولا على الزوج فيما أخذ من المال إذا أعطته المرأة طائعة راضية. (فصل: في حكم الخلع وفيه مسائل) الأولى: قال الزهري والنخعي وداود: لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فهو فاسد، وحجة هذا القول: أن الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة شيئا عند طلاقها، ثم استثنى الله تعالى حالة مخصوصة فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فكانت هذه صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز الخلع من غير نشوز ولا غضب، غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة» أخرجه أبو داود والترمذي. عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» أخرجه أبو داود ودليل الجمهور على جواز الخلع من غير نشوز قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لها شيء فإذا بذلت كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة أمر نفسها أولى. وأجيب عن الاستثناء المذكور في هذه الآية أنه محمول على الاستثناء المنقطع.

[سورة البقرة (2): آية 230]

المسألة الثانية: الخلع جائز على أكثر مما أعطاها وبه قال أكثر العلماء، وقال بعضهم: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي، وبه قال الزهري والشعبي والحسن وعطاء وطاوس وقال سعيد بن المسيب: بل يأخذ دون ما أعطاها حتى يكون الفضل فيه وحجة الجمهور أن الخلع عقد على معاوضة، فوجب أن لا يقيد بمقدار معين كما أن للمرأة أن لا ترضى عند عقد النكاح إلا بالكثير فكذلك للزوج أن لا يرضى عند الخلع إلا بالبذل الكثير، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته. المسألة الثالثة: اختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أو طلاق؟ فقال الشافعي في القديم: إنه فسخ وهو قول ابن عباس وطاوس وعكرمة. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وقال الشافعي في الجديد: إنه طلاق وهو الأظهر وهو قول عثمان وعلي وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب ومجاهد ومكحول والزهري. وبه قال أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري. وحجة القول القديم أن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعده الخلع ثم ذكر الطلقة الثالثة فقال: [سورة البقرة (2): آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ولو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا وحجة القول الجديد أنه لو كان فسخا لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع وأيضا لو كان الخلع فسخا فإذا خالعها ولم يذكر مهرا وجب أن يجب المهر عليها كالإقالة، فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكره فثبت أن الخلع ليس بفسخ وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق وأيضا فإن الطلقة الثالثة قوله: أو تسريح بإحسان. وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه طلاقا ينقص به عدد الطلاق فإن تزوجها بعده كانت معه على طلقتين وإن جعلناه فسخا بانت منه بثلاث. قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني هذه أوامر الله ونواهيه وهو ما تقدم من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وحدود الله ما منع من مجاوزتها وهو قوله: فَلا تَعْتَدُوها أي فلا تجاوزها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي يجاوزها فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قوله عز وجل: فَإِنْ طَلَّقَها يعني الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي لا تحل له رجعتها بعد الثلاث حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يعني حتى تتزوج زوجا آخر غير المطلق فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعا والمراد هنا الوطء، نزلت في تميمة وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي وكانت تحت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا (ق) عن عائشة قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» قولها: فبت طلاقي أي قطعه والبت القطع وقولها: مثل هدبة الثوب أي طرفة وهو كناية عن استرخاء الذكر قوله: حتى يذوق عسيلتك بضم العين تصغير العسل شبة لذة الجماع بالعسل وهو كناية عنه وإنما أنث العسل لأن من العرب من يؤنثه، وقيل: أنثه حملا له على المعنى، لأن المراد منه النطفة، وعبد الرحمن المذكور هو عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء مشددة، وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن زوجي قد مسني فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتت أبا بكر فقالت يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرجع إلى زوجي الأول فإن زوجي الآخر قد مسني وطلقني، فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أتيته وقال له ما قالت لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر أتت عمر وقالت له ما قالت لأبي بكر فقال لها: لئن رجعت إليه لأرجمنك. قوله

[سورة البقرة (2): آية 231]

تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها يعني الزوج الثاني بعد وطئها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على المرأة والزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا يعني بنكاح جديد إِنْ ظَنَّا أي علما وأيقنا وقيل: إن رجوا لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلّا الله تعالى: أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعني يقيما بينهما الصلاح وحسن العشرة والصحبة وقيل: معناه إن علما أن نكاحها على غير دلسة، والمراد بالدلسة التحليل. فرعان: الأول: مذهب جمهور العلماء أن المطلقة بالثلاث لا تحل للزوج المطلقة منه بالثلاث إلّا بشرائط، وهي أن تعتد منه ثم تتزوج بزوج آخر ويطأها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه، فإذا حصلت هذه الشرائط فقد حلت للأول وإلّا فلا، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد والمذهب الأول هو الأصح، واختلف العلماء في اشتراط الوطء هل ثبت بالكتاب أو بالسنة؟ على ثلاثة أقوال: الثالث وهو المختار أنه ثبت بهما (الثاني) إذا تزوج بالمطلقة ثلاثة ليحلها للأول فهذا نكاح باطل وعقد فاسد وبه قال: مالك وأحمد لما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه لعن المحلل والمحلل له» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي أنه قال هو التيس المستعار ولو تزوجها ولم يشترط في النكاح أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل إذا طلقها وانقضت العدة غير أنه يكره إذا كان في عزمهما ذلك، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، ودليل ذلك أن الآية دلت على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد وقد وجد ذلك فوجب القول بانتهاء الحرمة، وقال نافع: «أتى رجل إلى ابن عمر فقال: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول فقال: لا إلّا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وقوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني يعلمون ما أمرهم به ونهاهم عنه، وإنما خص العلماء لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك البيان. [سورة البقرة (2): آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) قوله عز وجل: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نزلت في ثابت بن يسار رجل من الأنصار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها يقصد بذلك مضارّتها فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها، ولم يرد انقضاء العدة لأنه لو انقضت عدتها لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ هنا بلوغ مقاربة كما يقال: بلغ فلان البلد إذا قاربه وشارفه، فهذا من باب المجاز الذي يطلق اسم الكل فيه على الأكثر. وقيل إن الأجل اسم للزمان فيحمل على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة، فيه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة إلى الرجعة وعلى هذا التأويل فلا حاجة لنا إلى المجاز فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهن بِمَعْرُوفٍ وهو أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس. وقيل: كانوا يضاروهن لتفتدي المرأة منه بمالها لِتَعْتَدُوا أي لتظلموهن بمجاوزتكم في أمورهن حدود الله التي بينها لكم. وقيل معناه: لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه بمخالفة أمر الله وتعريضها عذاب الله وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يعني بذلك ما بين من حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله، فلا تتخذوا ذلك استهزاء ولعبا، فمن وجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصل إليه هذه الأحكام التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتخذها هزوا، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد، وقيل: هو راجع إلى قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فكل من خالف أمرا من أمور الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا. وقيل: كان

[سورة البقرة (2): آية 232]

الرجل يطلق ويعتق ويتزوج ويقول كنت لاعبا فنهوا عن ذلك. عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» أخرجه أبو داود والترمذي. وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني بالإيمان الذي أنعم به الله عليكم فهداكم له وسائر نعمه التي أنعم بها عليكم وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أي واذكروا نعمته فيما أنزله عليكم مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ يعني السنة التي علمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسنها لكم. وقيل: المراد بالحكمة مواعظ القرآن يَعِظُكُمْ بِهِ أي بالكتاب الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني خافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى يعلم ما أخفيتم من طاعة ومعصية في سر وعلن لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نزلت في معقل بن يسار المزني عضل أخته جميلة، وكانت تحت أبي القداح عاصم بن عدي فطلقها معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلى أتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها فزوجتك ثم طلقتها طلاقا لك فيه رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب والله لا أنكحتها لك أبدا، ففي ذلك نزلت هذه الآية: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه أخرجه البخاري، وقيل إن جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فلما انقضت عدتها أراد أن يرتجعها فأبى جابر وقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها قد رضيته فنزلت هذه الآية: وأراد ببلوغ الأجل في قوله فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ انقضاء العدة بخلاف الآية التي قبل هذه الآية. قال الشافعي: دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ خطاب للأولياء، والمعنى لا تضيقوا عليهن أيها الأولياء، فتمنعوهن من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن فهو خطاب عام لجميع الأولياء، وإن كان سبب الآية خاصا. وأصل العضل المنع والتضييق ومنه قول أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا يعني إذا أضاق الأمر، وفي الآية دليل للشافعي ومن وافقه في أن المرأة لا تلي عقد النكاح ولا تأذن فيه إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن عضل ولا لنهي الولي عن العضل معنى. وقوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني إذا تراضى الخطاب والنساء، والمعروف هنا ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز. وقيل هو أن يرضى كل واحد منهما بما التزمه لصاحبه بحق العقد حتى تحصل الصحبة الحسنة والعشرة الجميلة ذلِكَ أي ذلك الذي ذكر من النهي يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني أن المؤمن هو الذي ينتفع بالوعظ دون غيره ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يعني أنه خير لكم وأطهر لقلوبكم وأطيب عند الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ يعني ما في ذلك من الزكاة والتطهير وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): آية 233]

[سورة البقرة (2): آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالْوالِداتُ يعني المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن وقيل المراد بهن جميع الوالدات سواء كن مطلقات أو متزوجات، ويدل عليه أن اللفظ عام، وما قام على دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه، ولأنه ظاهر اللفظ فوجب حمله عليه يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ هذا خبر بمعنى الأمر، والتقدير والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر ندب واستحباب لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها ولكمال شفقتها عليه ويدل على أنه لا يجب على الوالدة إرضاع الولد. قوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة وقال تعالى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى هذا نص صريح في ذلك، فإن لم يوجد من يرضع الطفل أو لم يقبل غير لبن أمه وجب عليها إرضاعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر، فإن رغبت الأم في إرضاع ولدها، فهي أولى به من غيرها حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الحول السنة، وأصله من حال يحول إذا انقلب، وإنما قال كاملين للتوكيد لأنه مما يتسامح فيه، تقول: أقمت عند فلان حولا وإن لم تستكمله، فبين الله أنهما حولان كاملان أربعة وعشرون شهرا، وهذا التحديد بالحولين ليس تحديد إيجاب، ويدل على ذلك قوله بعده: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فلما علق الإتمام بإرادتنا علمنا أن هذا الإتمام غير واجب، فثبت أن المقصود من هذا التجديد قطع النزاع بين الزوجين في مقدار زمن الرضاعة فقدر الله تعالى ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند التنازع، قال ابن عباس في رواية عكرمة: إذا وضعت الولد لستة أشهر أرضعته حولين وإن وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثا وعشرين شهرا، وإن وضعته لتسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا، كل ذلك ثلاثون شهرا، لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال في رواية الوالي عنه: هو حد لكل مولود في أي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلّا باتفاق من الأبوين، فأيهما أراد فطام الولد قبل الحولين فليس له ذلك إلّا إذا اتفقا عليه يدل على ذلك قوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وقيل: فرض الله على الوالدات إرضاع الولد حولين ثم أنزل التخفيف فقال: لمن أراد أن يتم الرضاعة، أي هذا منتهى الرضاع لمن أراد إتمام الرضاعة، وليس فيما دون ذلك حد محدود، وإنما هو على مقدار إصلاح الطفل وما يعيش به وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعني الأب، وإنما عبر عنه بهذا لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم قال بعضهم: وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء وقيل: إن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولود على فراشه، فكأنه قال: إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه رِزْقُهُنَّ أي طعامهن وَكِسْوَتُهُنَّ أي لباسهن بِالْمَعْرُوفِ أي على قدر الميسرة لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها يعني طاقتها، والمعنى أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلّا قدر ما تتسع به مقدرته ولا يبلغ إسراف القدرة لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يعني لا ينزع الولد من أمه بعد أن رضيت بإرضاعه ولا يدفع إلى غيرها وقيل معناه لا تكره الأم على إرضاع الولد إذا قبل الصبي لبن غيرها لأن ذلك ليس بواجب عليها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يعني لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها تضاره بذلك، وقيل معناه لا يلزم الأب أن يعطي أم الولد أكثر مما يجب عليه لها إذا لم يرضع الولد من غير أمه، فعلى هذا يرجع الضرار إلى الوالدين فيكون المعنى: لا يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد. وقيل يحتمل أن يكون الضرر راجعا إلى الولد. والمعنى: لا يضار كل واحد من الأبوين الولد فلا ترضعه حتى يموت فيتضرر

[سورة البقرة (2): آية 234]

بذلك ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه فيضره بذلك، فعلى هذا تكون الباء صلة، والمعنى لا تضار والدة ولدها ولا أب ولده وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يعني وعلى وارث أبي الولد إذا مات مثل ما كان يجب عليه من النفقة والكسوة فيلزم وارث الأب أن يقوم مقامه في القيام بحق الولد. وقيل: المراد بالوارث وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه فعلى هذا الوارث مثل ما كان على أبي الصبي في حال حياته، واختلف في أي وارث هو فقيل هم عصبة الصبي كالجد والأخ والعم وابنه. وقيل: هو كل وارث له من الرجال والنساء، وبه قال أحمد: فيجبرون على نفقة الصبي كل على قدر سهمه منه. وقيل هو من كان ذا رحم محرم منه وبه قال أبو حنيفة. وقيل المراد بالوارث الصبي نفسه، فعلى هذا تكون أجرة رضاع الصبي في ماله فإن لم يكن له مال فعلى الأم ولا يجبر على نفقة الصبي غير الأبوين، وبه قال مالك والشافعي. وقيل معناه وعلى الوارث ترك المضارة فَإِنْ أَرادا يعني الوالدين فِصالًا يعني فطام الولد قبل الحولين عَنْ تَراضٍ مِنْهُما أي على اتفاق من الوالدين في ذلك وَتَشاوُرٍ أي يشاورون أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد، والمشاورة استخراج الرأي بما فيه مصلحة فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي فلا حرج ولا إثم على الوالدين في الفطام قبل الحولين إذا لم يضر بالولد وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم أو تعذر ذلك لعلة بهن من انقطاع لبن أو غير ذلك أو أردن التزويج فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ يعني إلى المراضع ما آتَيْتُمْ يعني لهن من أجرة الرضاع وقيل إذا سلمتم إلى أمهاتهم من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن بِالْمَعْرُوفِ أي بالإحسان والإجمال أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن من تفريطهن بقطع معاذيرهن وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني وخافوا الله فيما فرض عليكم من الحقوق وفيما أوجب عليكم لأولادكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها، فإنه تعالى يراها ويعلمها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يعني يموتون مِنْكُمْ وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا، فمن مات فقد استوفى عمره كاملا، ويقال توفي فلان يعني قبض وأخذ وَيَذَرُونَ أي ويتركون أَزْواجاً والمراد بالأزواج هنا النساء لأن العرب تطلق اسم الزوج على الرجل والمرأة يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً يعني قدر هذه المدة وإنما قال عشرا بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى إن أحدهم ليقول: صمت عشرا من الشهر لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام وقيل إن هذه الأيام أيام حزن ولبس إحداد فشبهها بالليالي على سبيل الاستعارة ووجه الحكمة في أن الله تعالى حد العدة بهذا القدر لأن الولد يركض في بطن أمه لنصف مدة الحمل، يعني يتحرك. وقيل: إن الروح ينفخ في الولد في هذه العشرة أيام، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» أخرجاه في الصحيحين بزيادة، فدل هذا الحديث على أن خلق الولد يجتمع في مدة أربعة أشهر ويتكامل خلقه بنفخ الروح فيه في هذه الأيام الزائدة. (فصل: في حكم عدة المتوفى عنها زوجها والإحداد. وفي مسائل) المسألة الأولى: عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر وعدة الأمة على نصف عدة الحرة شهران

وخمسة أيام، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو بكر الأصم: عدة الأمة كعدة الحرائر وتمسك بظاهر هذه الآية، وعدة الحامل بوضع الحمل سواء فيه الحرة والأمة، ولو وضعت بعد وفاة زوجها بلحظة حل لها أن تتزوج، ويدل على هذا ما روي عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال: ما لي أراك تجملت للخطاب لعلك ترجين النكاح وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي، أخرجاه في الصحيحين، وفيه قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها حتى تطهر، فعلى هذا حكم الآية عام في كل من توفي عنها زوجها بأن تعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم خصص من هذا العموم أولات الأحمال بهذا الحديث وبقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. المسألة الثانية: يجب على من توفي عنها زوجها الإحداد، وهو ترك الزينة والطيب ودهن الرأس بكل دهن والكحل المطيب، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فيرخص لها، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: تكتحل به بالليل وتمسحه بالنهار. عن أم سلمة قالت: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت عليّ صبرا فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ قلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب، فقال: إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلّا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك» أخرجه أبو داود وللنسائي نحوه. قوله «فإنه يشب الوجه» أي يوقده ويحسنه وبنوره من شب النار إذا أوقدها. قوله «تغلفين به رأسك» أي تلطخين به رأسك والتغلف هو الغمرة على وجه المرأة وكذا رأسها إذا لطخته بشيء فأكثرت منه. ولا يجوز لها لبس الديباج والحرير والحلي والمصبوغ للزينة كالأحمر والأصفر ويجوز لها لبس ما صبغ لغير الزينة كالأسود والأزرق، ويجوز لها أن تلبس البياض من الثياب والصوف والوبر (ق) عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا» قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا» (م) عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوجها أربعة أشهر وعشرا» (ق) عن أم عطية قالت: «كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلّا ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضتها في نبذة من كست أظفار». قولها: إلّا ثوب عصب العصب بالعين والصاد المهملتين من البرود الذي صبغ غزله قبل النسج. قولها: نبذة من كست. النبذة الشيء اليسير. والكست لغة في القسط وهو شيء معروف يتبخر به. عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب» أخرجه أبو داود. قولها: ولا الممشقة الثياب. الممشقة هي المصبوغة بالمشق وهي المغرة، عن نافع: «أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها وهي حادّ على زوجها ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمضان» أخرجه مالك في الموطأ.

[سورة البقرة (2): آية 235]

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة، فقال بعضهم: ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وذلك لا يحل إلّا بالقصد إلى التربص ولا يحل ذلك إلّا مع العلم. قال الجمهور: السبب هو الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها أو بعضها ثم بلغها خبر موت الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ويدل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. المسألة الرابعة: أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت هذه الآية متقدمة في التلاوة وسنذكر تمام الكلام عليه بعد في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ خطاب للأولياء لأنهم هم الذين يتولون العقد فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني من التزين والتطيب والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه ونكاح من يجوز لها نكاحه وقيل إنما عنى بذلك النكاح خاصة، وقيل معنى قوله: بِالْمَعْرُوفِ هو النكاح الحلال الطيب. واحتج أصحاب أبي حنيفة على جواز النكاح بغير ولي بهذه الآية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، وأجاب أصحاب الشافعي أن قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ للأولياء ولو صح العقد بغير ولي لما كان مخاطبا. وأجيب على قوله فيما فعلن في أنفسهن إنما هو التزين والتطيب بعد انقضاء العدة لا أنها تزوج نفسها وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه خافية. والخبير في صفة الله تعالى هو العالم بكنه الشيء وحقيقته من غير شك والخبير في صفة المخلوقين إنما يستعمل في نوع من العلم وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد والفكر، والله تعالى منزه عن ذلك كله. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) وَلا جُناحَ أي لا حرج عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ أي لوحتم وأشرتم به والتعريض ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وقيل هو الإشارة إلى الشيء بما يفهم السامع مقصوده من غير تصريح به وقيل التعريض من الكلام ما له ظاهر وباطن مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ يعني المعتدات في عدتهن والخطبة بالكسر طلب النكاح والتماسه وقيل هو ذكر النساء والخطبة بالضم كلام منظوم له أول وآخر، ومعنى الآية فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. والتعريض بالخطبة في العدة مباح وهو أن يقول: إنك لجميلة، وإنك لصالحة وإن غرضي التزويج وإني فيك لراغب وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ونحو ذلك، من الكلام الموهم من غير تصريح لأن يقول إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك ونحو ذلك ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن تيسر لي امرأة صالحة، أخرجه البخاري. وروي أن سكينة بنت حنظلة تأيمت فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام. فقالت سكينة: غفر الله لك أتخطبني في العدة وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده صلّى الله عليه وسلّم من شدة تحامله عليها فما كانت تلك خطبة أَوْ أَكْنَنْتُمْ يعني أضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ يعني

[سورة البقرة (2): آية 236]

من نكاحهن وقيل هو أن يدخل ويسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء، والمقصود أنه لا حرج عليكم في التعريض للمرأة في عدة الوفاة، ولا فيما يضمر الرجل في نفسه من الرغبة فيها عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ يعني بقلوبكم لأن شهوة النفس والتمني لا يخلو منه أحد، فلما كان هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط عنه الحرج وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اختلفوا في معنى هذا السر المنهيّ عنه فقيل هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة يعرض بالنكاح ومراده الزنا ويقول لها: دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك، فنهوا عن ذلك. وقيل هو قول بالرجل للمرأة لا تفوتيني نفسك فإني ناكحك. وقيل: هو أن يأخذ عليها العهد والميثاق أن لا تتزوج غيره وقيل هو أن يخطبها في العدة وقال الشافعي: السر الجماع، وهو رواية عن ابن عباس. قال الكلبي: لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع، ويدل على أن لفظ السر كناية عن الجماع قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن السر أمثالي بسباسة اسم امرأة. وإنما وقع الكناية عن الجماع بالسر لأنه مما يسر والله تعالى حييّ كريم فكنى به عن لفظ الجماع الصريح. ومعنى الآية: لا تواعدوهن مواعدة سرية أو لا تواعدوهن بالشيء الموصوف بالسرّ وقيل في معنى الآية أن الله تعالى أن أذن في أول الآية في التعريض بالخطبة ومنع في آخرها عن التصريح بالخطبة إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني هو ما ذكر من التعريض بالخطبة. وقيل: هو إعلام ولي المرأة أنه راغب في نكاحها وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة حتى تنقضي وإنما سماها الله كتابا لأنها فرضت به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ أي فخافوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة على من جاهره بالمعصية بل يستر عليه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة يعني ولم تعينوا لهن صداقا ولم توجبوه عليكم. نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمتعها ولو بقلنسوتك. فإن قلت: هل على من طلق امرأته جناح بعد المسيس حتى يوضع عنه الجناح قبل المسيس فما وجه نفي الحرج والجناح عنه؟ قلت، فيه سبب قطع الوصلة: وما جاء في الحديث: «إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فنفى الله الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك، وقيل معناه لا حرج عليكم في تطليقهن قبل المسيس في أي وقت شئتم حائضا كانت المرأة أو طاهرا، لأنه لا سنة في طلاقهن قبل الدخول وَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتبلغ به من الزاد عَلَى الْمُوسِعِ أي الغنى الذي يكون في سعة من غناه قَدَرُهُ أي قدر إمكانه وطاقته وَعَلَى الْمُقْتِرِ أي الفقير الذي هو في ضيق من فقره قَدَرُهُ أي قدر إمكانه وطاقته مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ يعني متعوهن تمتيعا بالمعروف يعني من غير ظلم ولا حيف حَقًّا أي حق ذلك التمتع حقا واجبا لازما عَلَى الْمُحْسِنِينَ يعني إلى المطلقات بالتمتع، وإنما خص المحسنين بالذكر لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان. وقيل: معناه من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه وطريقه. والمحسن هو المؤمن. (فصل: في بيان حكم الآية وفيه فروع) الفرع الأول: إذا تزوج امرأة ولم يفرض لها مهرا ثم طلقها قبل المسيس يجب لها عليه المتعة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: المتعة مستحبة ولو طلقها قبل الدخول، وقد فرض لها مهرا وجب لها عليه نصف المهر المفروض ولا متعة لها عليه.

[سورة البقرة (2): آية 237]

الفرع الثاني المطلقة المدخول بها: فيها قولان قال في القديم: لا متعة لها لأنها تستحق المهر كاملا، وبه قال أبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال في الجديد: لها المتعة لقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وهو الرواية الأخرى عن أحمد قال ابن عمر: لكل مطلقة متعة إلّا التي فرض لها المهر ولم يدخل بها زوجها فحسبها نصف المهر. الفرع الثالث في قدر المتعة: قال ابن عباس: أعلاها خادم، وأوسطها ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار، وأقلها دون ذلك وقاية أو مقنعة أو شيء من الورق وهو مذهب الشافعي لأنه قال أعلاها على الموسع خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن وحسن ثلاثون درهما. وروي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته وحممها، يعني متعها جارية سوداء، ومتع الحسن بن علي زوجته بعشرة آلاف درهم فقالت. متاع قليل من حبيب مفارق. وقال أبو حنيفة: مبلغها إذا اختلف الزوجان قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه تتقدر بما تجزي فيه الصلاة وقال في الرواية الأخرى تتقدر بتقدير الحاكم، والآية تدل على أن المتعة تعتبر بحال الزوج في اليسر والعسر وأنه مفوض إلى الاجتهاد لأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات، وبين أن حال الموسر مخالف حال المعسر في ذلك. الفرع الرابع: ومن حكم الآية أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر صح النكاح، ولها مطالبته بأن يفرض لها صداقا، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ يعني تجامعوهن وهذا في المطلقة بعد تسمية المهر وقبل الدخول حكم الله لها بنصف المهر ولا عدة عليها وهو قوله تعالى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي سميتم لهن مهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف المهر المسمى، ومذهب الشافعي أن الخلوة من غير مسيس لا توجب إلا نصف المهر المسمى لأن المسيس إما حقيقة في المس باليد أو جعل كناية عن الجماع وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله. وقال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر ومعنى الخلوة الصحيحة أن يخلو بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي، فالحسي نحو الرتق والقرن أو يكون معهما ثالث، والشرعي نحو الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام سواء كان فرضا أو نفلا، والآية حجة لمذهب الشافعي، قال شريح: لم أسمع الله ذكر في كتابه بابا ولا سترا إن زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق، وقال ابن عباس: إذا خلا بها ولم يمسها فلها نصف المهر. فرع: لو مات أحد الزوجين بعد التسمية وقبل المسيس فلها المهر كاملا وعليها العدة إن كان الزوج هو الميت. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني النساء المطلقات والمعنى إلّا أن لا تترك المرأة نصيبها من الصداق فتهبه للزوج فيعود جميع الصداق إلى الزوج أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فيه قولان: أحدهما أنه الولي وهو قول ابن عباس في رواية عنه والحسن وعلقمة وطاوس والشعبي والنخعي والزهري والسدي وبه قال الشافعي في القديم ومالك. والقول الثاني أنه الزوج، وهو قول علي وابن عباس في الرواية الأخرى وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والربيع وقتادة ومقاتل والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وهو قول أبي

[سورة البقرة (2): آية 238]

حنيفة والشافعي في الجديد وأحمد وجمهور الفقهاء فعلى القول الأول يكون معنى الآية إلّا أن تعفو المرأة إذا كانت ثيبا بالغة من أهل العفو عن نصيبها للزوج أو يعفو وليها إذا كانت المرأة بكرا صغيرة أو غير جائزة التصرف فيجوز عفو وليها فيترك نصيبها للزوج وإنما يجوز عفو الولي بشروط وهي أن تكون بكرا صغيرة ويكون الولي أبا أو جدا لأن غيرهما لا يزوج الصغيرة وعلى القول الثاني أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وصحح هذا القول الطبري والواحدي فيكون معنى الآية أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج فيعطي المرأة الصداق كاملا لأن الله تعالى لما ذكر عفو المرأة عن النصف الواجب لها ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط عنه فيحسن للمرأة أن تعفو ولا تطالب بشيء من الصداق وللرجل أن يعفو فيوفي لها المهر كاملا. وروي أن جبير بن مطعم تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو، ولأن المهر حق المرأة فليس لوليها أن يهب من مالها شيئا، فكذلك المهر لأنه مال لها وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى هذا خطاب للرجال والنساء جميعا وإنما غلب جانب التذكير لأن الذكورة هي الأصل والتأنيث فرع عنها والمعنى وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى وقيل هو خطاب للزوج والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق فهو أقرب للتقوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ يعني ليتفضل بعضكم على بعض فيعطي الرجل الصداق كاملا أو يترك المرأة نصيبها من الصداق حثهما جميعا على الإحسان ومكارم الأخلاق إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ يعني من عفو بعضكم لبعض عما وجب له عليه من حق بَصِيرٌ أي لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) حافِظُوا أي داوموا وواظبوا عَلَى الصَّلَواتِ يعني الخمس المكتوبات أمر الله عز وجل عباده بالمحافظة على الصلوات الخمس المكتوبات بجميع شروطها وحدودها وإتمام أركانها وفعلها في أوقاتها المختصة بها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى تأنيث الأوسط ووسط كل شيء خيره وأعدله وقيل الوسطى يعني الفضلى من قولهم للأفضل أوسط وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل وقيل سميت الوسطى لأنها أوسط الصلوات محلا. (فصل في ذكر اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى) قد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى على مذاهب: الأول أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس، وبه قال مالك والشافعي، ويدل على ذلك أن مالكا بلغه أن علي بن أبي طالب وابن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الفجر أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقا. ولأنها بين صلاتي جمع فالظهر والعصر يجمعان وهما صلاتا نهار، والمغرب والعشاء يجمعان وهما صلاتا ليل وصلاة الفجر لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها ولأنها تأتي في وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء إلى غيرها ولأنها تأتي في وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء وكثرة النعاس وغفلة الناس عنها فخصت بالمحافظة عليها لكونها معرضة للضياع ولأن الله تعالى قال عقبها وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ والقنوت هو طول القيام وصلاة الفجر مخصوصة بطول القيام ولأن الله تعالى خصها بالذكر في قوله وقرآن الفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار فهي مكتوبة في ديوان حفظة الليل وديوان حفظة النهار فدل ذلك على مزيد فضلها. المذهب الثاني أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري ورواية عائشة وبه قال عبيد الله بن شداد وهو رواية عن أبي حنيفة ويدل على

ذلك ما روي عن زيد بن ثابت وعائشة قالا: الصلاة الوسطى صلاة الظهر، أخرجه مالك في الموطأ عن زيد والترمذي عنهما تعليقا وأخرجه أبو داود عن زيد قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ولأن صلاة الظهر تأتي وسط النهار وفي شدة الحر ولأنها تأتي بين البردين يعني صلاة الفجر وصلاة العصر. المذهب الثالث أنها صلاة العصر وهو قول علي وابن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة، وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وقال الترمذي: هو قول أكثر الصحابة فمن بعدهم وقال الماوردي من أصحابنا: هذا مذهب الشافعي لصحة الأحاديث فيه قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث ويدل على صحة هذا المذهب ما روي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم الأحزاب وفي رواية يوم الخندق «ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وفي رواية «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» وذكر نحوه وزاد في أخرى «ثم صلاها بين المغرب والعشاء» أخرجاه في الصحيحين (م) عن ابن مسعود قال حبس المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا» عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلاة الوسطى صلاة العصر» أخرجه الترمذي وله عن ابن مسعود مثله وقال في كل واحد منهما حسن صحيح (م) عن أبي يونس مولى عائشة قال أمرتني عائشة أن أكتب مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويروى عن حفصة نحو ذلك، ولأن صلاة العصر تأتي وقت اشتغال الناس بمعايشهم فكان الأمر بالمحافظة عليها أولى، ولأنها تأتي بين صلاتي نهار وهما الفجر والظهر وصلاتي ليل وهما المغرب والعشاء، وقد خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة والتغليظ لمن ضيعها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة فقال في يوم ذي غيم: بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» أخرجه البخاري. قوله بكروا بصلاة العصر أي قدموها في أول وقتها (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» قوله: وتر أي نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا بلا أهل ولا مال ومعنى الحديث ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله. المذهب الرابع أنها صلاة المغرب قاله قبيصة بن ذؤيب، وحجة هذا المذهب أن صلاة المغرب تأتي بين بياض النهار وسواد الليل ولأنها أزيد من ركعتين كما في الصبح، وأقل من أربع، ولا تقصر في السفر وهي وتر النهار، ولأن صلاة الظهر تسمى الأولى لأن ابتداء جبريل كان بها، وإذا كانت الظهر أولى الصلوات كانت المغرب هي الوسطى. المذهب الخامس أنها صلاة العشاء ولم ينقل عن أحد من السلف فيها شيء، وإنما ذكرها بعض المتأخرين، وحجة هذا المذهب أنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران وهما المغرب والصبح ولأنها أثقل صلاة على المنافقين. المذهب السادس أن الصلاة الوسطى هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها لأن الله تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات الخمس ثم عطف عليها بالصلاة الوسطى، وليس في الآية ذكر بيانها، وإذا كان كذلك أمكن أن يقال في كل واحدة من الصلوات الخمس أنها هي الوسطى أبهمها الله على عباده مع ما خصها بمزيد التوكيد تحريضا لهم على المحافظة على أداء جميع الصلوات على صفة الكمال والتمام ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في جميع أسمائه ليحافظوا على ذلك كله. وهذا المذهب اختاره

[سورة البقرة (2): آية 239]

جمع من العلماء قال محمد بن سيرين إن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال حافظ على الصلوات كلها تصبها وسئل الربيع ابن خيثم عن الصلاة فقال للسائل الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظا على الوسطى ثم قال أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن فقال السائل لا فقال الربيع إنك أن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى. والصحيح من هذه الأقوال كلها قولان قول من قال إنها الصبح وقول من قال إنها العصر وأصح الأقوال كلها أنها العصر للأحاديث الصحيحة الواردة فيها والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي طائعين فهو عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها قيل لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم طائعين، وقيل القنوت هو الدعاء والذكر بدليل: «أمن هو قانت» ولما أمر بالمحافظة على الصلوات وجب أن يحمل هذا القنوت على ما فيها من الذكر والدعاء فمعنى الآية وقوموا لله داعين ذاكرين وقيل إنما خص القنوت بصلاة الصبح والوتر لهذا المعنى، وقيل: القنوت هو السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة، ويدل على ذلك ما روي عن زيد بن أرقم قال: «كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» أخرجاه في الصحيحين، وقيل: القنوت هو طول القيام في الصلاة ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاة طول القنوت» أخرجه مسلم ومن القنوت أيضا طول الركوع والسجود وغض البصر والهدوء في الصلاة وخفض الجناح والخشوع فيها وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا إلّا ناسيا قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أي رجالة أَوْ رُكْباناً يعني على الدواب جمع راكب والمعنى إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود والخضوع والخشوع لخوف عدو أو غيره فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا على دوابكم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وهذا في حال المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب. وصلاة الخوف قسمان: أحدهما أن يكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية، وقسم في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في موضعه، فإذا التحم القتال ولم يكن تركه لأحد فمذهب الشافعي أنهم يصلون ركبانا على الدواب ومشاة على الأرجل إلى القبلة وإلى غير القبلة يؤمنون بالركوع والسجود ويكون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصياح فإنه لا حاجة إليه، وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي بل يؤخر الصلاة ويقضيها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخر الصلاة يوم الخندق فصلى الظهر والعصر والمغرب بعد ما غربت الشمس فيجب علينا الاقتداء به في ذلك واحتج الشافعي لمذهبه بهذه الآية. وأجيب عن تأخير النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة يوم الخندق بأنه لم يكن نزل حكم صلاة الخوف وإنما نزل بعد فلما نزلت صلاة الخوف لم يؤخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك صلاة قط، أما الخوف الحاصل لا في القتال بل بسبب آخر كالهارب من العدو أو قصده سبع هائج أو غشيه سيل يخاف على نفسه الهلاك لو صلى صلاة أمن فله أن يصلي صلاة شدة الخوف بالإيماء في حال العدو لأن قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ مطلق يتناول الكل. فإن قلت: قوله تعالى: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يدل على أن المراد منه خوف العدو حال القتال. قلت هو كذلك إلّا أنه هناك ثابت لدفع الضرر، وهذا المعنى موجود هنا فوجب أن يكون الحكم كذلك هاهنا وروي عن ابن عباس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أخرجه مسلم، وقد عمل بظاهر هذا جماعة من السلف منهم الحسن البصري وعطاء وطاوس

[سورة البقرة (2): آية 240]

ومجاهد وقتادة والضحاك وإبراهيم وإسحاق بن راهويه قالوا: يصلي في حال شدة الخوف ركعة وقال الشافعي ومالك وجمهور العلماء صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات قال كان الخوف في الحضر وجب عليه أن يصلي أربع ركعات وإن كان في السفر صلّى ركعتين ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد به ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في صلاة الخوف وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأحاديث. وقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ يعني من خوفكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا لله الصلوات الخمس تامة بأركانها وسننها كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم ولولا هدايته وتعليمه إيانا لم نعلم شيئا ولم نصل إلى معرفة شيء فله الحمد على ذلك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يعني يا معشر الرجال وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يعني زوجات وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرئ بالنصب على معنى فليوصوا وصية وبالرفع على معنى كتب عليهم وصية مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ أي متعوهن متاعا وقيل جعل الله لهن ذلك متاعا والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وما تحتاج إليه غَيْرَ إِخْراجٍ أي غير مخرجات من بيوتهن نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ومعه أبواه وامرأته وله أولاد فمات فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبويه وأولاده ميراثه ولم يعط امرأته شيئا وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا وكان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولا وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى، وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك فدلت هذه الآية على مجموع أمرين: أحدهما أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة والثاني أن عليها عدة سنة ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخ بآية الميراث فجعل لها الربع أو الثمن عوضا عن النفقة والسكنى ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشرا. فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية المتقدمة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل كقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مع قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. وقوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني يا معشر أولياء الميت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني التزين للنكاح ولرفع الحرج عن الورثة وجهان: أحدهما أنه لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والوجه الثاني لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم في بيت زوجها حولا ولها النفقة والسكنى وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى ثم نسخ الله ذلك بأربعة أشهر وعشرا وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده حَكِيمٌ يعني فيما شرع من الشرائع وبين من الأحكام. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): الآيات 241 إلى 243]

[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 243] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إنما أعاد الله تعالى ذكر المتعة هنا لزيادة معنى وهو أن في تلك الآية بيان حكم غير الممسوسة وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة وقيل لأنه لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ إلى قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل من المسلمين إن فعلت أحسنت وإن لم أرد لم أفعل فأنزل الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فجعل المتعة لهن بلام التمليك وقال تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك وقد تقدم أحكام المتعة. وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني يبين لكم ما يلزم ويلزم أزواجكم أيها المؤمنون وكما عرفتكم أحكامي والحق الذي يجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات كذلك أبين لكم سائر أحكامي في آياتي التي أنزلتها على محمد صلّى الله عليه وسلّم في هذا الكتاب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام وما فيه صلاحكم وصلاح دينكم اهـ. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قال أكثر المفسرين: كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فسلم الذين خرجوا وهلك أكثر من بقي بالقرية فلما ارتفع الطاعون رجع الذين خرجوا سالمين فقال الذين بقوا كان أصحابنا أحزم منا رأيا لو صنعا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء فيها فرجع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها فخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا. (ق) عن عمر أنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه» فحمد الله عمر ثم انصرف وقيل إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي تأتيها بها وباء فلا تخرج حتى ينقطع منها الوباء فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا فرارا منه فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم موتوا عقوبة لهم فماتوا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فما أتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج الناس إليهم فعجزوا عن دفنهم فحظروا حظيرة دون السباع فذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا محمد بإعلامي إياك وهو من رؤية القلب قال أهل المعاني هو تعجيب له يقول هل رأيت مثل هؤلاء كما تقول ألم تر إلى صنيع فلان وكل ما في القرآن من قوله ألم تر ولم يعاينه النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا معناه. قوله تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ قيل هو من العدد واختلفوا في مبلغ عددهم فقيل ثلاثة آلاف وقيل عشرة آلاف وقيل بضع وثلاثون ألفا وقيل أربعون ألفا وقيل سبعون ألفا وأصح الأقوال قول من قال إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف لأن الله تعالى قال: وَهُمْ أُلُوفٌ والألوف جمع الكثير وجمع القليل آلاف وقيل معنى وهم ألوف مؤتلفون جمع ألف والأول أصح قالوا فمر عليهم مدة فبليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم حزقيل بن بوذى هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى. وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل بعد موسى كان يوشع بن نون ثم كان من بعده كالب بن يوقنا ثم قام من بعده حزقيل. وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله تعالى الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهب الله لها حزقيل ويقال له ذو الكفل سمي به لأن تكفل سبعين نبيا وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل على هؤلاء الموتى وقف عليهم وجعل يفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك قال نعم يا رب فأحياهم الله تعالى وقيل دعا ربه حزقيل أن يحيهم فأحياهم الله تعالى وقيل إنهم كانوا قومه أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا لا قوم لي فأوحى الله إليه إني قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل أحيوا

[سورة البقرة (2): الآيات 244 إلى 245]

بإذن الله فعاشوا، وقيل إنهم قالوا حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلّا أنت ثم رجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلّا عاد دنسا مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. قال ابن عباس: وإنها لتوجد اليوم تلك الريح في ذلك السبط من اليهود: قال قتادة: مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثهم الله ليستوفوا بقية آجالهم ولو جاءت آجالهم لما بعثوا. فإن قلت كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا وقد قال الله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قلت إن موتهم كان عقوبة لهم كما قال قتادة وقيل إن موتهم وإحياءهم كان معجزة من معجزات ذلك النبي ومعجزات الأنبياء خوارق للعادات، ونوادر فلا يقاس عليها فيكون قوله إلّا الموتة الأولى عاما مخصوصا بمعجزات الأنبياء أي إلّا الموتة الأولى التي ليست من معجزات الأنبياء ولا من خوارق العادات وفي هذه الآية احتجاج على اليهود ومعجزة عظيمة لنبينا صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبرهم بأمر لم يشاهدوه وهم يعلمون صحة ذلك وفيه احتجاج على منكري البعث أيضا إذ قد أخبر الله تعالى وهو الصادق في خبره أنه أماتهم ثم أحياهم في الدنيا فهو تعالى قادر على أن يحييهم يوم القيامة، وقوله تعالى: حَذَرَ الْمَوْتِ أي مخافة الطاعون وكان قد نزل بهم وقيل إنهم أمروا بالجهاد ففروا منه حذر الموت فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا يحتمل أنهم ماتوا عند قوله تعالى مُوتُوا ويحتمل أن يكون ذلك أمر تحويل فهو كقوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ثُمَّ أَحْياهُمْ يعني بعد موتهم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني أن الله تعالى تفضل على أولئك الذين أماتهم باحيائهم لأنهم ماتوا على معصيته فتفضل عليهم بإعادتهم إلى الدنيا ليتوبوا وقيل هو على العموم فهو تعالى متفضل على كافة الخلق في الدنيا ويخص المؤمنين بفضله يوم القيامة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يعني أن أكثر من أنعم الله عليه لا يشكره أما الكافر فإنه لم يشكره أصلا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 244 الى 245] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل هو خطاب للذين أحيوا أحياهم الله ثم أمرهم بالجهاد فعلى هذا القول فيه إضمار تقديره وقيل لهم قاتلوا في سبيل الله وقيل هو خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعناه لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء فلم ينفعهم ذلك ففيه تحريض للمؤمنين على الجهاد وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني لما يقوله المتعلل عن القتال عَلِيمٌ بما يضمره. قوله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له قرضا على رجاء ما وعدهم به من الثواب لأنهم يعلمون لطلب الثواب، وقيل: القرض من ما أسلفت من عمل صالح أو شيء قال أمية بن أبي الصلت: كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا أو مدينا كالذي دانا وأصل القرض في اللغة القطع سمي به لأن المقرض يقطع من ماله شيئا فيعطيه ليرجع إليه مثله ومعنى الآية من ذا الذي يقدم لنفسه إلى الله ما يرجو ثوابه عنده وهذا تلطف من الله تعالى في استدعاء عباده إلى أعمال البر والطاعة وقيل في الآية اختصار تقديره من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه فهو كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ أي يؤذون عباد الله، وكما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟» الحديث، واختلفوا في المراد بهذا القرض، فقيل هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل هو الصدقة الواجبة قيل صدقة التطوع لأن الله تعالى سماه قرضا والقرض لا يكون إلّا تبرعا ولما روى الطبري بسنده عن ابن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي

[سورة البقرة (2): آية 246]

يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم نعم يا أبا الدحداح قال: ناولني يدك فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي حائطا فيه ستمائة نخلة ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال اخرجي من الحائط فإني قد أقرضته لربي، زاد غيره فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كم من عذق رداح لأبي الدحداح وقيل في معنى يقرض الله أي ينفق في طاعته فيدخل فيه الواجب والتطوع وهو الأقرب حسنا يعني محتسبا طيبة به نفسه. وقيل: هو الإنفاق من المال الحلال في وجوه البر وقيل هو أن لا يمن بالقرض ولا يؤذي وقيل هو الخالص لله تعالى ولا يكون فيه رياء ولا سمعة فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعني ثواب ما أنفق أَضْعافاً كَثِيرَةً قيل هو يضاعفه إلى سبعمائة ضعف، وقال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلّا الله تعالى وهذا هو الأصح وإنما أبهم الله ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ قيل يقبض بإمساك الرزق والتقتير على من يشاء ويبسط بمعنى يوسع على من يشاء وقيل يقبض بقبول الصدقة ويبسط بالخلف والثواب وقيل إنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم على الإنفاق أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلّا بتوفيقه وإرادته وإعانته والمعنى والله يقبض بعض القلوب حتى لا تقدر على الإنفاق في الطاعة وعمل الخير ويبسط بعض القلوب حتى تقدر على فعل الطاعات والإنفاق في البر. كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك» أخرجه مسلم. وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يجب الإيمان بها والسكوت عنها وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا إثبات جارحة، هذا مذهب أهل السنة وسلف هذه الأمة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ أشراف القوم ووجوههم وأصله الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد موت موسى أي من بعد زمنه منه إِذْ قالُوا يعني أولئك الملأ لِنَبِيٍّ لَهُمُ اختلفوا في ذلك النبي فقيل هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب وقيل هو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب وإنما سمي شمعون لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما فاستجاب الله لها فولدت غلاما فسمته شمعون ومعناه سمع الله دعائي وتبدل السين بالعبرانية شينا وقال أكثر المفسرين هو أشمويل بن يال وقيل: هو ابن هلفائي. قيل إنه من ولد هارون ومعرفة حقيقة ذلك النبي بعينه ليست مرادة من القصة إنما المراد منها الترغيب في الجهاد وذلك حاصل. (ذكر الإشارة إلى القصة) كان سبب مسألة أولئك الملأ لذلك النبي أنه لما مات موسى عليه السلام خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم أمر الله تعالى. ويحكم بالتوراة حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف من بعده كالب بن يوقنا كذلك، ثم حزقيل كذلك، حتى قبضه الله تعالى فعظمت الأحداث بعده في بني إسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم إلياس نبيا فدعاهم إلى الله تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى

[سورة البقرة (2): آية 247]

يبعثون إليهم ليجددوا ما نسوا من التوراة ويأمروهم بالعمل بأحكامها. ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله تعالى ثم قبضه الله تعالى. ثم خلف من بعده خلوف وعظمت فيهم الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلثاثا وهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا كلهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه بالعربية إسماعيل. تقول: سمع الله دعائي فلما كبر الغلام أسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جانب الشيخ وكان الشيخ لا يأمن عليه أحدا فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل! فقام الغلام فزعا إلى الشيخ وقال: يا أبتاه رأيتك تدعوني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام: دعوتني فقال: نم فإن دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له: جبريل عليه السلام وقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه وقالوا له استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية على نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده ويأتيه بالخبر من ربه. قال وهب فبعث الله أشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فذلك قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك قالَ يعني قال النبي صلّى الله عليه وسلّم هَلْ عَسَيْتُمْ هذا استفهام شك يقول لعلكم إِنْ كُتِبَ أي فرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يعني مع ذلك الملك أَلَّا تُقاتِلُوا يعني لا تفوا بما قلتم وتجنبوا عن القتال معه قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فإن قلت ما وجه دخول أن والعرب لا تقول ما لك أن لا تفعل كذا ولكن تقول ما لك لا تفعل كذا. قلت دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله: ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ والحذف كقوله ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقيل معناه: وما لنا في أن لا نقاتل بحذف حرف الجر وقيل أن هنا زائدة ومعناه وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم فظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا كانوا في ديارهم وأبنائهم وإنما أخرج من أسر منهم ومعنى الآية أنهم قالوا لنبيهم إنا إنما كنا تركنا الجهاد لأنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع نساءنا وأولادنا قال الله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ في الكلام حذف وتقديره فسأل الله ذلك النبي فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم القتال تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يعني لم يتولوا عن الجهاد هم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي في قصتهم إن شاء الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يعني هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف أمر ربه ولم يف بما قال. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً وذلك أن أشمويل سأل الله عز وجل أن يبعث لهم

[سورة البقرة (2): آية 248]

ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس، وقيل له إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملكه عليهم واسم طالوت بالعبرانية ساول بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب. وإنما سمي طالوت لطوله وكان أطول من جميع الناس برأسه ومنكبيه وكان طالوت رجلا دباغا يدبغ الأديم قاله وهب وقيل كان سقاء يستقي الماء على حمار فضلّ حماره فخرج يطلبه. وقال وهب: ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله أبوه ومعه غلام في طلبها فمر على بيت أشمويل النبي فقال الغلام لطالوت لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا أو ليدعو لنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له حاجتهما إذ نش الدهن في القرن فقام أشمويل فقاس طالوت بالعصا فكانت على طوله فقال لطالوت قرب رأسك فقربه إليه فدهنه بدهن القدس. وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فقال طالوت أو ما علمت أن سبطي من أدنى أسباط بني إسرائيل قال: بلى قال فبأي آية قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ثم قال لبني إسرائيل إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا وقيل إنه جلس عنده وقال يا أيها الناس إن الله ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل إلى نبيهم أشمويل وقالوا له: ما شأن طالوت تملك علينا وليس هو من بيت النبوة ولا المملكة وقد عرفت أن النبوة في سبط لاوي بن يعقوب والمملكة في سبط يهوذا بن يعقوب فقال لهم نبيهم أشمويل إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون له الملك وكيف يستحقه وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة فسبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون عليهما السلام وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان عليهما السلام ولم يكن طالوت من أحدهما. وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب فلهذا السبب أنكروا كونه ملكا لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه ثم أكدوا ذلك بقولهم وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ يعني أنه فقير والملك يحتاج إلى المال قالَ يعني أشمويل النبي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أي اختاره عليكم وخصه بالملك وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من زعم من الشيعة أن الإمامة موروثة وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة فرد الله عليهم وأعلمهم أن هذا شرط فاسد والمستحق للملك من خصه الله به وَزادَهُ بَسْطَةً أي فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ وذلك أنه كان من أعلم بني إسرائيل وقيل إنه أوحى إليه حين أوتي الملك وقيل هو العلم في الحرب وَالْجِسْمِ يعني بالطول وذلك لأنه كان أطول من الناس برأسه ومنكبيه وقيل بالجمال وكان طالوت من أجمل بني إسرائيل وقيل المراد به القوة لأن العلم بالحروب والقوة على الأعداء مما فيه حفظ المملكة وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ يعني أن الله تعالى لا اعتراض عليه لأحد في فعله فيخص بملكه من يشاء من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ يعني أن الله تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة وسعت رحمته كل شيء ووسع فضله ورزقه كل خلقه والمعنى أنكم طعنتم في طالوت بكونه فقيرا والله واسع الفضل والرزق فإذا فوض إليه الملك فتح عليه أبواب الرزق والمال من فضله وسعته وقيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى عَلِيمٌ يعني أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بما يحتاج إليه في تدبير نفسه وملكه والعليم هو العالم بما يكون وبما كان. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وذلك أنهم سألوا أشمويل النبي فقالوا ما آية ملكه فقال:

إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت. وكانت قصة التابوت على ما ذكره علماء السير والأخبار أن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه صور الأنبياء عليهم السلام وكان التابوت من خشب الشمشاد طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين فكان عند آدم ثم صار إلى شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم عليه السلام ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر أولاده ثم صار إلى يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ثم كان عنده إلى أن مات ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان في التابوت ما ذكر الله تعالى وهو قوله: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ واختلفوا في تلك السكينة ما هي فقال علي بن أبي طالب: هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان. وقال مجاهد: هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان، وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا النصر، فكانوا إذ خرجوا وضعوا التابوت قدامهم، فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا. وقال ابن عباس هي طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء وقال وهب هي روح من الله تعالى تتكلم إذا اختلفوا في شيء فتخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح هي ما يعرفون من الآيات التي يسكنون إليها وقال قتادة والكلبي هي فعلية من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه وهذا القول أولى بالصحة فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر. وقوله تعالى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني موسى وهارون أنفسهما بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي موسى الأشعري: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» فالمراد به داود نفسه. واختلفوا في تلك البقية التي ترك آل موسى وآل هارون فقيل رضاض من الألواح وعصا موسى قاله ابن عباس وقيل عصا موسى وعصا هارون وشيء من ألواح التوراة وقيل كانت العلم والتوراة. وقيل كان فيه عصا موسى ونعلاه وعصا هارون وعمامته وقفيز من المن الذي ينزل على بني إسرائيل فكان التابوت عند بني إسرائيل يتوارثونه قرنا بعد قرن وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه فيتكلم ويحكم بينهم. وكانوا إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فينصرون فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عز وجل عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وأخذوه منهم وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى وهو الذي ربي أشمويل ابنان شابان وكان عيلى حبر بني إسرائيل وصاحب قربانهم في زمنه فأحدث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه وذلك أنه كان منوط القربان الذي ينوطونه كلابين فما أخرجا كانا للكاهن الذي كانا ينوطه فجعل ابناه كلاليب. وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحي إلى أشمويل: أن انطلق إلى عيلى وقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئا وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهما. فأخبره أشمويل بذلك ففزع وسار إليهم عدوهم من حولهم فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا القتال جعل عيلى يتوقع الخبر فجاءه رجل فأخبره أن الناس قد انهزموا وقد قتل ابناه قال: فما فعل في التابوت قال أخذه العدو. وكان عيلى قاعدا على كرسيه فشهق ووقع على قفاه فمات فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا فسألوا أشمويل البينة على صحة ملك طالوت فقال لهم نبيهم يعني أشمويل: إن آية ملكه يعني علامة ملكة التي تدل على صحته أن يأتيكم التابوت وكانت قصة رجوع التابوت على ما ذكره أصحاب الأخبار أن الذين أخذوا التابوت من بني إسرائيل أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود فجعلوه في بيت أصنام لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوا التابوت من بيت الأصنام ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك

[سورة البقرة (2): آية 249]

الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم. فقال بعضهم لبعض أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله على أهل تلك الناحية فأرة فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتا قد أكلت ما في جوفه. فأخرجوه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا فيه فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم وهي من بنات الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم. فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها في ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بالثورين أربعة أملاك يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما ما لم يرع بني إسرائيل إلا والتابوت عندهم فكبروا وحمدوا الله تعالى. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي تسوقه. وقال ابن عباس جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت. وقال الحسن كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم. وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فأقبلت الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره فأقروا بملكه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ يعني قال لهم نبيهم أشمويل إن في مجيء التابوت تحمله الملائكة لآية لكم يعني علامة ودلالة على صدقي فيما أخبرتكم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بذلك قال المفسرون فلما جاءهم التابوت وأقروا بالملك لطالوت تأهب للخروج إلى الجهاد فأسرعوا لطاعته وخرجوا معه وذلك قوله تعالى: [سورة البقرة (2): آية 249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي خرج وأصل الفصل القطع يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل. وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة وعشرون ألفا ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فسارعوا إلى الخروج في الجهاد وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا قالَ طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي مختبركم به لتبين طاعتكم وهو أعلم بذلك قال ابن عباس هو نهر فلسطين وقيل هو نهر عذب بين الأردن وفلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي فليس من أهل ديني وطاعتي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذقه يعني الماء فَإِنَّهُ مِنِّي يعني من أهل طاعتي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قرئ بفتح الغين وضمها لغتان، وقيل الغرفة بالضم التي تحصل في الكف من الماء والغرفة بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر فَشَرِبُوا مِنْهُ يعني من النهر إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قيل هم أربعة آلاف لم يشربوا منه وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وهو الصحيح ويدل على ذلك ما روي عن البراء بن عازب قال: «كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة» أخرجه البخاري قيل البضع هنا ثلاثة عشر، فلما وصلوا إلى النهر ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل وكان من اغترف منه غرفة كما أمره الله تعالى كفته لشربه وشرب دوابه وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما والذين شربوا منه وخالفوا أمر

[سورة البقرة (2): آية 250]

الله تعالى اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وجبنوا وبقوا على شط النهر ولم يجاوزوه، وقيل جاوزوه كلهم ولكن الذين شربوا لم يحضروا القتال وإنما قاتل أولئك القليل الذين لم يشربوا وهو قوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ يعني جاوز النهر طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني أولئك القليل قالُوا يعني الذين شربوا من النهر وخالفوا أمر الله تعالى وكانوا أهل شك ونفاق فعلى هذا يكون قد جاوز النهر مع طالوت المؤمن والمنافق والطائع والعاصي فلما رأوا العدو قال المنافقون لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فأجابهم المؤمنون بقولهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً وقيل لم يجاوز النهر مع طالوت إلا المؤمنون خاصة لقوله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. فإن قلت فعلى هذا القول من القائل «لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده». قلت يحتمل أن يكون أهل الإيمان وهم الثلاثمائة وبضعة عشر انقسموا إلى قسمين قسم حين رأوا العدو وكثرته وقلة المؤمنين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فأجابهم القسم الآخر بقولهم» كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» ومعنى لا طاقة لنا لا قوة لنا اليوم بجالوت وجنوده قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يستيقنون ويعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقو ثواب الله ورضوانه في الدار الآخرة كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء الله وإرادته وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني بالنصر والمعونة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 250] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) وَلَمَّا بَرَزُوا يعني طالوت وجنوده المؤمنين لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ يعني الكافرين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى منها قالُوا يعني المؤمنين أصحاب طالوت رَبَّنا أَفْرِغْ أي اصبب عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي قو قلوبنا لتثبت أقدامنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وذلك أن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام فسأل المؤمنون الله أن ينصرهم على القوم الكافرين. [سورة البقرة (2): آية 251] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ يعني أن الله تعالى استجاب دعاء المؤمنين فأفرغ عليهم الصبر وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين حين التقوا فهزموهم بإذن الله يعني بقضائه وإرادته وأصل الهزم في اللغة الكسر أي كسروهم وردوهم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وكانت قصة قتله ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال داود لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته، فقال له أبوه أبشر يا بني فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنه فلم يهجني فقال له أبوه: أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك، ثم أتاه يوما آخر فقال له: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلّا سبح معي فقال: يا بني أبشر فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى. قالوا فأرسل جالوت الجبار إلى طالوت ملك بني إسرائيل أن ابرز إلي وأبرز إليك أو أبرز إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت ونادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله في ذلك فدعا الله فأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد.

وقيل له إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي إذا وضع هذا القرن على رأسه سال على رأسه حتى يدهن من رأسه ولا يسيل على وجهه بل يكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه فدعا طالوت بني إسرائيل وجربهم فلم يوافقه أحد منهم فأوحى الله إلى نبيهم إن في ولد إيشا من يقتل جالوت فدعا طالوت إيشا وقال له أعرض على بنيك فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرض واحدا واحدا على القرن فلا يرى شيئا فقال لإيشا هل بقي لك ولد غير هؤلاء فقال لا؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا رب إنه قد زعم أنه لا ولد غيرهم فقال له كذب فقال له النبي: إن ربي قد كذبك، فقال إيشا: صدق ربي يا نبي الله إن لي ولدا صغيرا مسقاما اسمه داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته فجعلته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكان داود عليه السلام رجلا قصيرا مسقاما أزرق أمعر مصفرا فدعا به طالوت ويقال إنه خرج إليه فوجده في الوادي وقد سال الوادي ماء وهو يحمل شاتين شاتين يعبر بهما السيل إلى الزريبة التي يريح فيها غنمه، فلما رآه طالوت قال هذا هو الرجل المطلوب لا شك فيه فهذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه طالوت ووضع القرن على رأسه فنش وفاض فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال نعم فقال له: هل أنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله قال نعم أنا أرعى الغنم فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة من الغنم فأقوم فأفتح لحييه عنها وأخرجها من قفاه، فأخذ طالوت داود ورده إلى العسكر، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون فحمله ثم مر بحجر آخر. فقال يا داود احملني فإني حجر موسى فحمله ثم مر بحجر آخر فقال له: يا داود احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت، فحمله فوضع الثلاثة في مخلاته، فلما رجع طالوت إلى العسكر ومعه داود وتصافوا للقتال برز جالوت يطلب المبارزة فانتدب له داود عليه السلام فأعطى داود فرسا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم رجع إلى طالوت فقال من حوله: جبن الغلام فجاء فوقف على طالوت فقال له ما شأنك فقال له داود عليه السلام إن لم ينصرني ربي لم يغن هذا السلاح عني شيئا وإن نصرني فلا حاجة لي به فدعني أقاتل كما أريد قال نعم فأخذ داود مخلاته وتقلدها وأخذ المقلاع بيده ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة حديد وزنها ثلاثمائة رطل فلما نظر إلى داود وهو يريده وقع الرعب في قلبه فقال له: جالوت وأنت تبرز لي قال: نعم وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام فقال: اتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب فقال: نعم وأنت شر من الكلب. قال جالوت: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء، فقال داود عليه السلام: أو يقسم الله لحمك، ثم قال داود: باسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا ثم قال باسم إله إسحاق وأخرج حجرا ثم قال باسم إله يعقوب وأخرج حجرا ووضعها في مقلاعه فصارت الثلاثة حجرا واحدا، وأدار داود المقلاع ورمي به جالوت فسخر الله له الريح فحملت الحجر حتى أصاب أنف البيضة فخلط دماغ جالوت وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وخر جالوت صريعا قتيلا، فأخذ داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح بنو إسرائيل بذلك فرحا شديدا وهزم الله الجيش فرجع طالوت بالناس إلى المدينة سالمين غانمين وجعل الناس يذكرون داود فجاء داود إلى طالوت وقال له. أنجز لي ما وعدتني به فقال له أتريد ابنة الملك بغير صداق فقال له داود ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال: لا أكلفك إلّا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإن قتلت مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم مائتي غلفة فجاء بها إلى طالوت وألقاها بين يديه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود عليه السلام وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر بذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فأخبرت بذلك داود وقالت له: إنك مقتول الليلة قال ومن يقتلني قالت: أبي قال: وهل أجرمت جرما يوجب القتل قالت حدثني بذلك من لا يكذب ولا

عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك فقال إن كان يريد ذلك فلا أستطيع خروجا ولكن ائتني بزق خمر فأتته به فوضعه في مضجعه على سريره وسجاه ودخل داود تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لابنته أين بعلك قالت هو نائم على سريره فضربه بالسيف فسال الخمر فلما وجد ريح الخمر قال يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال: إن رجلا طلبت منه ما طلبت لحقيق أن لا يدعني حتى يدرك ثأره مني فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله عنه الحجاب ففتح الأبواب ودخل عليه وهو نائم على فراشه، فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله وخرج فاستيقظ طالوت فبصر بالسهام فعرفها فقال يرحم الله داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه فلما كان من الليلة القابلة أتاه ثانيا فأعمى الله عنه الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق وضوئه وكوزه الذي يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه ثم خرج وتوارى، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد، الطلب فلم يقدر عليه. ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله وركض في أثره فاشتد داود في عدوه. وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل هنا لتخرق هذا النسج وانطلق طالوت وتركه فخرج داود حتى أتى جبل المتعبدين فتعبد معهم وطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلّا قتله فقتل خلقا كثيرا من العباد والعلماء حتى أتى بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز فلم يقتلها، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها ثم وقع في قلب طالوت التوبة والندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس. وكان كل ليلة يخرج إلى القبور ويبكي وينادي أنشد الله عبدا يعلم لي توبة إلّا أخبرني بها فلما كثر ذلك منه ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد حزنا وبكاء فتوجه الخباز إلى طالوت لما رأى من حاله وقال: ما لك أيها الملك فأخبره وقال : هل تعلم لي توبة أو تعلم في الأرض عالما أسأله عن توبتي فقال له الخباز أيها الملك إن دللتك على عالم يوشك أن تقتله فقال لا فتوثق منه باليمين فأخبره أن تلك المرأة العالمة عنده. فقال: انطلق بي إليها لأسألها عن توبتي قال نعم فانطلق به فلما قربا من الباب قال له الخباز. أيها الملك إنها إذا رأتك فزعت ولكن ائت خلفي فلما دخلا عليها قال لها الخباز: يا هذه ألست تعلمين حقي عليك؟ قالت: بلى قال فإن لي إليك حاجة فتقضيها قالت نعم قال هذا طالوت قد جاءك يسأل هل له من توبة فلما سمعت بذكر طالوت غشى عليها فلما أفاقت قالت والله ما أعلم له توبة ولكن دلوني على قبر نبي فانطلقوا بها إلى قبر أشمويل فوقفت عليه ودعت وكانت تعلم الاسم الأعظم ثم قالت يا صاحب القبر فخرج ينفض التراب عن رأسه فلما نظر إلى ثلاثتهم قال: ما لكم أقامت القيامة قالت المرأة لا ولكن هذا طالوت قد جاء يسألك هل له من توبة فقال أشمويل: يا طالوت ما فعلت بعدي قال لم أدع من الشر شيئا إلّا فعلته وجئت أطلب التوبة فقال أشمويل يا طالوت كم لك من الولد قال عشرة رجال قال ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم إن أشمويل سقط ميتا ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه بنوه على ما يريد. وكان قد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فجمع أولاده وقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذونني منها فقالوا بلى ننقذك بما نقدر عليه قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما آمركم به قالوا: اعرض علينا ما أردت فذكر لهم القصة قالوا: وإنك لمقتول قال نعم قالوا فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت. فتجهز هو وولده وخرج طالوت مجاهدا في سبيل الله فتقدم أولاده فقاتلوا حتى قتلوا ثم شد هو من بعدهم فقاتل حتى قتل وجاء قاتل طالوت إلى داود فبشره بقتله وقال له:

[سورة البقرة (2): الآيات 252 إلى 253]

قد قتلت عدوك فقال داود: ما أنت بباق بعده وقتله فكان ملك طالوت إلى أن قتل مدة أربعين سنة فأتى بنو إسرائيل إلى داود فملكوه عليهم وأعطوه خزائن طالوت. قال الكلبي والضحاك ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلّا على داود فذلك قوله تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوة جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل بل كانت النبوة في سبط والملك في سبط وقيل الحكمة هي العلم مع العمل به وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أي وعلم الله داود صنعة الدروع فكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلّا من عمل يده، وقيل علمه منطق الطير وقيل علمه الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان ولم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوت داود فكان إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري وتسكن الرياح عند قراءته، وقيل علمه سياسة الملك وضبطه، وذلك لأنه لم يكن من بيت الملك حتى يتعلمه من آبائه، وقال ابن عباس هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النور وحلقها مستديرة مفصلة بالجوهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فكان لا يحدث في الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة فيعلم داود ذلك الحدث ولا يمسها ذو عاهة إلّا برىء. وكانوا يتحاكمون إليهما بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدى على صاحبه أو أنكره حقا أتى السلسلة فمن كان صادقا مديده إلى السلسلة فنالها ومن كان كاذبا لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخبث. فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلما طالبه بالوديعة أنكره إياها فتحاكما إلى السلسلة، فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وجعل الجوهرة فيها واعتمد عليها حتى أتيا السلسلة فقال صاحب الجوهرة: رد على الوديعة فقال صاحبه ما أعرف لك عندي وديعة فإن كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده وقال للمنكر قم أنت أيضا فتناولها فقال لصاحب الجوهرة أمسك عكازتي فأخذها الرجل منه وقام المنكر إلى السلسلة وقال: اللهم إن كنت تعلم أن الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب السلسلة مني ومد يده فتناولها فعجب القوم من ذلك وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني ولو أن الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الإيمان والطاعة بعضا وهم أهل الكفر والمعاصي قال ابن عباس ولولا دفع الله بجنوده المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد وقيل معناه ولو دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يعني لهلكت بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ يعني إن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام وإفضال عم الناس كلهم. [سورة البقرة (2): الآيات 252 الى 253] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني حيث تخبر بهذه الأخبار العجيبة والقصص القديمة من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار فدل ذلك على أنك من المرسلين وأن الذي تخبر به وحي من الله

تعالى. قوله عز وجل: تِلْكَ الرُّسُلُ يعني جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فيه دليل على زوال الشبهة لمن أوجب التسوية بين الأنبياء في الفضيلة لاستوائهم في القيام بالرسالة وأجمعت الأمة على أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض وأن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أفضلهم لعموم رسالته وهو قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً مِنْهُمْ أي من الرسل مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي كلمة الله وهو موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم رفع الله منصبه ومرتبته على كافة سائر الأنبياء بما فضله عليهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات فما أوتي نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلّا أوتي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك وفضل محمد صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الأنبياء بآيات ومعجزات أخر مثل انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع الذي حن عند مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم له شاهدة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من الآيات والمعجزات التي لا تحصى كثرة، وأعظمها وأظهرها معجزة وآية القرآن العظيم الذي عجز أهل الأرض عن معارضته والإتيان بمثله فهو معجزة باقية إلي يوم القيامة (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من نبي من الأنبياء إلّا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (ق) عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلائق كافة وختم بي النبيون» فإن قلت لم ذكره على سبيل الرمز والإشارة ولم يصرح باسمه صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: في هذا الإبهام والرمز من تفخيم فضله وإعلاء قدره صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى لما فيه من الشهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه ولا يلتبس فهو كما يقول الرجل وقد فعل شيئا فعله بعضكم أو أحدكم ويريد نفسه فيكون أفخم من التصريح به كما سئل الخطيئة: من أشعر الناس؟ قال زهير والنابغة. ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه وقوله تعالى: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ يعني الحجج والأدلة الباهرة والمعجزات على نبوته مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي وقويناه بجبريل عليه السلام فكان معه إلى أن رفعه إلى عنان السماء السابعة. فإن قلت لم خص موسى وعيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء. قلت لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله تعالى وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية عظيمة وتأييد عيسى بروح القدس آية عظيمة أيضا فلما أوتي موسى وعيسى من الآيات العظيمة خصا بالذكر في باب التفضيل فعلى هذا كل من كان من الأنبياء أعظم آيات وأكثر معجزات كان أفضل ولهذا أحرز نبينا صلّى الله عليه وسلّم قصبات السبق في الفضل لأنه أعظم الأنبياء آيات وأكثرهم معجزات فهو أفضلهم صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي ولو أراد الله وأصل المشيئة الإرادة مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني بعد الرسل الذين وصفهم الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه وَلكِنِ اخْتَلَفُوا يعني اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ أي ثبت على إيمانه بالله ورسوله بفضل الله وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ أي ومنهم من تعمد الكفر بعد قيام الحجة وبعثة الرسل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا أي ولو أراد الله أن يحجزهم عن الاقتتال والاختلاف لحجزهم عن ذلك وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ يعني أنه تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلا منه ورحمة ويخذل من يشاء عدلا منه لا اعتراض عليه في ملكه وفعله. سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن القدر فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): الآيات 254 إلى 255]

[سورة البقرة (2): الآيات 254 الى 255] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قيل أراد به الزكاة الواجبة وقيل أراد به صدقة التطوع والإنفاق في وجوه الخير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ أي لا فدية فيه وإنما سماه بيعا لأن الفداء شراء النفس من الهلاك، والمعنى قدموا لأنفسكم اليوم من أموالكم من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فيكسب الإنسان ما يفتدي به من العذاب وَلا خُلَّةٌ أي ولا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ وظاهر هذا يقتضي نفي الخلة والشفاعة وقد دلت النصوص على ثبوت المودة والشفاعة، بين المؤمنين فيكون هذا عاما مخصوصا وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. (فصل: في فضل هذه الآية الكريمة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي. قوله: إن لكل شيء سناما. سنام كل شيء أعلاء تشبيها بسنام البعير والمراد منه تعظيم هذه السورة والسيد الفاضل في قومه والشريف والكريم وأصله من ساد يسود وقوله هي سيدة أي القرآن أي أفضله. (م) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر» عن واثلة بن الأسقع: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أخرجه أبو داود. وقال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقومية والملك والقدرة والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات، وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور فما كان ذكرا له من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار وفي هذا الحديث حجة لمن يقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة، ومنع من جواز تفضيل بعض القرآن على بعض جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني قالا لأن تفضيل بعضه على بعض يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله عز وجل نقص وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق لفظ أعظم وأفضل على بعض الآيات أو السور بمعنى عظيم وفاضل، ومن أجاز تفضيل بعض القرآن على بعض من العلماء والمتكلمين قالوا: هذا التفضيل راجع إلى عظم أجر القارئ أو جزيل ثوابه وقول: إن هذه الآية أو هذه السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر وهذا هو المختار وهو معنى الحديث والله أعلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ ليلته تلك حتى يصبح» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وأما التفسير فقوله عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفي الإلهية عن كل ما سواه وأثبت الإلهية له سبحانه وتعالى فهو كقولك لا كريم إلّا زيد فإنه أبلغ من قولك زيد كريم الحي يعني الباقي على الأبد الدائم بلا زوال، والحي في صفة الله تعالى وهو الذي لم يزل موجودا وبالحياة موصوفا لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والعدم فكل شيء هالك إلّا وجهه سبحانه وتعالى. القيوم قال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه تعالى قائم بتدبير

خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه وقيل وهو القائم الدائم بلا زوال الموجود الذي يمتنع عليه التغير وقيل هو القائم على كل نفس بما كسبت والقيوم فيعول من القيام وهو نعت للقائم على الشيء لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى نعاسا وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان والنوم هو الثقل المزيل للعقل والقوة. وقيل: السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فالسنة هي أول النوم والنوم هو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء والمعنى لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم لأن النوم والسهو والغفلة محال على الله تعالى لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم وذلك نقص وآفة والله تعالى منزه عن النقص والآفات، وأن ذلك تغير والله تعالى منزه عن التغير، (م) عن أبي موسى الأشعري قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا بخمس كلمات فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور». وفي رواية: «النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». شرح ما يتعلق بلفظ هذا الحديث منقول من شرح مسلم للشيخ محيي الدين النووي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» فمعناه الإخبار أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه لأن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس والله تعالى منزه عن ذلك وقوله: «يخفض القسط ويرفعه» أراد بالقسط الميزان الذي يقع به العدل ومعناه أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أعمال العباد المرتفعة إليه وقيل أراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ومعنى يخفض يقبض ويضيق على من يشاء ويرفعه أي يوسعه على من يشاء وقوله: «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار» يعني أن الحفظة من الملائكة يصعدون بأعمال العباد في الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل قوله: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» سبحات بضم السين المهملة والباء الموحدة تحت وبضم التاء في آخره جمع سبحة، ومعنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه والحجاب أصله في اللغة المنع وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد، فالمراد به هنا الشيء المانع من الرؤية، وسمي ذلك الشيء المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من في قوله من خلقه لبيان الجنس لا للتبعيض ومعنى الحديث لو زال المانع وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته هذا آخر كلام للشيخ على هذا الحديث والله أعلم. وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ إن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله تعالى؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما فجعل ينعس وينتبه وهما في يده في كل يد واحدة حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر إنما هو مثل ضربة الله تعالى له يقول فكذلك السموات والأرض، ورواه عن أبي هريرة مرفوعا قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحكي عن موسى على المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله» وذكر نحو حديث ابن عباس قال بعض العلماء: إن صح هذا الحديث فيحمل على أن هذا السؤال كان من جهال قوم موسى كطلب الرؤية من موسى لأن الأنبياء عليهم السلام هم أعلم بالله من غيرهم فلا يجوز أن ينسب لموسى مثل هذا السؤال والله تعالى أعلم. قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أن الله تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم وهم عبيده وفي ملكه. فإن قلت لم قال له ما في السموات ولم يقل من في السموات؟ قلت: لما كان المراد إضافة كل ما سواه إليه من الخلق والملك وكان الغالب فيهم من لا يعقل أجرى الغالب مجرى

الكل فعبر عنه بلفظ ما مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بأمره وهذا استفهام إنكاري والمعنى لا يشفع عنده أحد إلّا بأمره وإرادته، وذاك لأن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلّا ما استثناه بقوله إِلَّا بِإِذْنِهِ يريد بذلك شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعني ما بين أيديهم من الدنيا وما خلفهم من الآخرة وقيل بعكسه لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا وراء ظهورهم وقيل يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم وقيل يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما هم فاعلوه والمقصود من هذا أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ يقال: أحاط بالشيء إذا علمه وهو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وحقيقته، فإذا علمه ووقف عليه وجمعه في قلبه فقد أحاط به والمراد بالعلم المعلوم والمعنى أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى: إِلَّا بِما شاءَ يعني أن يطلعهم عليه وهم من الأنبياء والرسل ليكون ما يطلعهم عليه من علم غيبه دليلا على نبوتهم كما قال تعالى: «فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول» وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال فلان وسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وأصل الكرسي في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي في العرف اسم لما يقعد عليه سمي به لتركب خشباته بعضها على بعض. واختلفوا في المراد بالكرسي هنا على أربعة أقوال: أحدها أن الكرسي هو العرش نفسه قال الحسن لأن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه. القول الثاني أن الكرسي غير العرش وهو أمامه وهو فوق السموات السبع ودون العرش قال السدي إن السموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة وعن ابن عباس أن السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقيل إن كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات والأرض وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى: ملك على صورة أبي البشر آدم وهو يسأل الرزق والمطر لبني آدم من السنة إلى السنة، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة، وملك على صورة الثور وهو يسأل الرزق للأنعام من السنة إلى السنة وملك على صورة السبع وهو يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة. وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش. القول الثالث: إن الكرسي هو الاسم الأعظم لأن العلم يعتمد عليه. كما أن الكرسي يعتمد عليه قال ابن عباس كرسيه علمه. القول الرابع: المراد بالكرسي الملك والسلطان والقدرة لأن الكرسي موضع الملك والسلطان فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسي على سبيل المجاز وَلا يَؤُدُهُ أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه حِفْظُهُما أي حفظ السموات والأرض وَهُوَ الْعَلِيُّ أي الرفيع فوق خلقه الذي ليس فوقه شيء فيما يجب له أن يوصف به من معاني الجلال والكمال فهو العلي بالإطلاق المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد وقيل معنى العلو في صفة الله تعالى منقول إلى اقتداره وقهره واستحقاق صفات المدح جميعها على كل وجه وقيل معناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين الْعَظِيمُ يعني أنه ذو العظمة والكبرياء الذي لا شيء أعظم منه. وقال ابن عباس: العظيم الذي قد كمل في عظمته وقيل العظيم هو ذو العظمة والجلال والكمال وهو في صفة الله تعالى ينصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): آية 256]

[سورة البقرة (2): آية 256] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ سبب نزول هذه الآية فيما يروى عن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة وهي التي لا يعيش لها ولد فكانت تنذر لئن عاش لها ولد، لتهودنه فإذا عاش جعلته في اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم وقيل: كان لرجل من الأنصار. من بني سالم بن عوف يقال له أبو الحصين ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت فلزمهما أبوهما وقال لا أدعكما حتى تسلما فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا انظر فأنزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فخلى سبيلهما وقيل نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا بذل الجزية لم يكرهوا على الإسلام وذلك أن العرب كانت أمة أمية ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فلم يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل ونزل في أهل الكتاب لا إكراه في الدين يعني إذا قبلوا الجزية فمن أعطى الجزية منهم لم يكره على الإسلام فعلى هذا القول تكون الآية محكمة ليست بمنسوخة وقيل: بل الآية منسوخة وكان ذلك في ابتداء الإسلام قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسخت بآية القتال وهو قول ابن مسعود وقال الزهري سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى لا إكراه في الدين قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين فأبى المشركون إلّا أن يقاتلوه فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ومعنى لا إكراه في الدين أي دين الإسلام ليس فيه إكراه عليه قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يعني ظهر ووضح وتميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الآيات والبراهين الدالة على صحته فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يعني الشيطان، وقيل: هو الساحر والكاهن، وقيل هو كل ما عبد من دون الله تعالى، وقيل: كل ما يطغي الإنسان فهو طاغوت فاعول من الطغيان وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي ويصدق بالله أنه ربه ومعبوده من دون كل شيء كان يعبده وفيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر أن يتوب أولا عن الكفر ويتبرأ منه ثم يؤمن بعد ذلك بالله فمن فعل ذلك صح إيمانه وهو قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي فقد تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى وهو دين الإسلام لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها حتى تؤديه إلى الجنة والمعنى أن المتمسك بالدين الصحيح الذي هو دين الإسلام كالمتمسك بالشيء الوثيق الذي لا يمكن كسره ولا انقطاعه وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني أنه تعالى يسمع قول من كفر بالطاغوت وأتى بالشهادتين عَلِيمٌ بما في قلبه من الإيمان وقيل معناه سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إسلامهم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 257 الى 258] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم ومعينهم وقيل محبهم ومتولي أمورهم فلا يكلهم إلى غيره وقيل هو متولي هدايتهم يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان وكل ما في القرآن من ذكر الظلمات والنور، فالمراد به الكفر والإيمان غير الذي في سورة الأنعام وهو قوله تعالى وجعل الظلمات والنور، فالمراد به

الليل والنهار وإنما سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه ولأن الظلمة تحجب الأبصار عن إدراك الحقائق فكذلك الكفر يحجب القلوب عن إدراك حقائق الإيمان وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أي من الهدى إلى الضلالة. فإن قلت: كيف قال يخرجونهم من النور إلى الظلمات وهم كفار لم يكونوا في نور قط؟ قلت: هم اليهود كانوا موقنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة نبوته قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته وصفته فلما بعث كفروا به وجحدوا نبوته وقيل: هو على العموم في حق جميع الكفار سمي منع الطاغوت إياهم عن الدخول فيه إخراجا من الإيمان بمعنى صدهم الطاغوت عنه وحرمهم خيره وإن لم يكونوا دخلوا فيه قط فهو كقول الرجل لأبيه أخرجتني عن مالك إذا أوصى به لغيره في حياته وحرمه منه وكقول الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: «إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله» ولم يكن قط في ملتهم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني الكفار والطاغوت أهل النار الذين يخلدون فيها دون غيرهم. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ يعني هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي خاصم إبراهيم وجادله لأن ألم تر كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها استفهام كما يقال ألم تر إلى فلان كيف يصنع معناه هل رأيت فلانا في صنعه والذي حاج إبراهيم هو نمرود بن كنعان الجبار وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لأن آتاه الله الملك فطغى وتجبر بسببه وكانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه قال مجاهد ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود، وبختنصر. واختلفوا في وقت هذه المحاجة فقيل: لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه فقال له: من ربك الذي تدعونا إليه؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت وقيل: كان هذا بعد إلقائه في النار وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام فكان إذا أتاه أحد يمتار سأله من ربك؟ فيقول أنت فيميره فخرج إبراهيم عليه السلام إليه يمتار لأهله الطعام فأتاه فقال له من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر» فرده بغير طعام فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب رمل أعفر فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم فلما أتى أهله وضع متاعه ثم نام فقامت زوجته سارة إلى رحله ففتحته فإذا هو طعام أجود ما رآه أحد فصنعت منه خبزا فلما انتبه قربته إليه فقال لها إبراهيم من أين هذا؟ وكان عهد أهله وليس عندهم طعام فقالت من الطعام الذي جئت به فعلم إبراهيم أن الله قد رزقه فحمد الله تعالى: ثم إن الله تعالى بعث إلى نمرود الجبار ملكا فقال له إن ربك يقول لك أن آمن بي وأتركك في ملكك قال وهل رب غيري فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة فرد عليه مثل ذلك فقال له الملك أجمع جموعك فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض حتى سترت الشمس فلم يروها فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلّا العظام ونمرود ينظر ولم يصبه شيء من ذلك ثم بعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكثت في رأسه أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق وكان أرحم الناس به من يجمع له يديه ثم يضرب بهما رأسه فكان كذلك يعذب أربعمائة سنة مدة ملكه حتى أماته الله عز وجل: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له نمرود من ربك قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قالَ يعني قال نمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قال أكثر المفسرين دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء فانتقل إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إلى حجة أخرى لا عجزا عن نصر حجته الأولى فإنها كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان لإبراهيم أن يقول لنمرود فأحيي من أمت إن كنت صادقا ولكن انتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى لما رأى من قصور فهم نمرود وضعف رأيه فإنه عارض الفعل بمثله ونسي

[سورة البقرة (2): آية 259]

اختلاف الفعلين قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يعني تحير نمرود ودهش وانقطعت حجته ولم يرجع إليه شيئا وعرف أنه لا يطيق ذلك. فإن قلت كيف بهت الذي كفر وكان يمكنه أن يقول لإبراهيم سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب. قلت إنما لم يقله لأنه خاف أنه لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان ذلك زيادة في فضيحة نمرود وانقطاعه وقيل إن الله تعالى صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه ومعجزة لإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وهو الصحيح وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني لا يرشدهم إلى حجة يدحضون بها حجج أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة وعنى بالظالمين نمرود. قول عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هذه معطوفة على الآية التي قبلها والمعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية فيكون هذا عطفا على المعنى وقيل تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم وهل رأيت كالذي مر على قرية وقيل الكاف زائدة التقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو إلى الذي مر على قرية واختلفوا في ذلك المار فروى عن مجاهد أنه كان كافرا شك في البعث وهذا قول ضعيف لقوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ والله تعالى لا يخاطب الكافر ولقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وهذا اللفظ لا يستعمل في حق الكافر وإنما يستعمل في حق الأنبياء وقال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي هو عزيز بن شرخيا وقال وهب بن منبه هو أرمياء بن حلقيا من سبط هارون وهو الخضر ومقصود القصة تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى على إحياء خلقه بعد إماتتهم لا تعريف اسم ذلك المار على القرية فجائز أن يكون ذلك المار هو عزيز وجائز أن يكون أرمياء وفي هذه القصة دلالة عظيمة بنبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه أخبر اليهود بما يجدونه في كتبهم ويعرفونه وهو أمي لم يقرأ الكتب القديمة واختلفوا في تلك القرية فقيل هي بيت المقدس وذلك لما خربها بختنصر والمراد بالإحياء هنا عمارتها وقيل هي القرية التي أهلك الله أهلها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل وهي دير سابرآباد وقيل سلماباد وقيل هي دير هرقل وقيل قرية العنب هي على فرسخين من بيت المقدس وقوله هي دير سابراباد موضع كان بفارس وسلماباد محلة أو قرية من نواحي جرجان وقيل: أيضا من نواحي همدان ودير هرقل بكسر أوله وراء ساكنة وقاف مكسورة دير مشهور بين البصرة وعسكر مكرم. وقيل: هو موضع الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم لحزقيل كما تقدم ويقال إن المراد بقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها هي التي عندها أحيا الله حمار عزير وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها وذلك أن السقوف سقطت أولا وقفت الحيطان عليها بعد ذلك قالَ يعني ذلك المار أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فمن قال إن ذلك المار كان كافرا وهو ضعيف إنما حمله على الشك في قدرة الله ومن قال كان نبيا حمله على سبيل الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة لا على سبيل الإنكار لقدرة الله تعالى أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد كما قال إبراهيم عليه السلام: «رب أرني كيف تحيي الموتى» ومعنى أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ من أين يحيي هذه القرية والمراد بالإحياء عمارتها فأحب الله أن يريه آية في نفسه وفي إحياء تلك القرية. وكان سبب القصة في ذلك ما روي عن وهب بن منبه أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من الله تعالى فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله

تعالى إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي عليهم وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي فقال أرمياء يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني فقال الله تعالى: إني ألهمك فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله تعالى في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله عز وجل إني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله تعالى إليه إني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث هم أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما رأى الله تضرعه وبكاءه ناداه يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل مالا أسربه فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه وقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح وقال إن يعذبنا ربنا فبذنوبنا وإن يعف عنا فبرحمته ثم إنهم مكثوا بعد ذلك الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا في الشر فقل الوحي وذلك حين اقترب هلاكهم فدعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر البابلي فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس فلما فصل سائرا وأتى الخبر إلى ملك بني إسرائيل قال لأرمياء: أين ما زعمت أن الله تعالى أوحى إليك فقال أرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله تعالى إلى أرمياء ملكا قد تمثل له في صورة رجل من بني إسرائيل فقال له أرمياء من أنت قال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلّا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلّا سخطا لي فأفتني فيهم فقال أرمياء: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت قال أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي فقال له أرمياء أما طهرت أخلاقهم بعدلك فيهم فقال يا نبي الله والذي بعثك بالحق نبيا ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمه إلّا قدمتها إليهم وأفضل فقال أرمياء: ارجع إليهم فأحسن إليهم واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم فقام الملك فمكث أياما ثم إن بختنصر نزل بجنوده بيت المقدس ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء يا نبي الله أين ما وعدك الله فقال إني بربي واثق ثم أقبل ذلك الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت قال أنا الذي جئتك في شأن أهلي مرتين فقال أرمياء: أما آن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه فقال الملك يا نبي الله إن كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه فاليوم رأيتهم على عمل لا يرضي الله تعالى فقال له أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم يسخط الله تعالى فغضبت لله عز وجل فأتيتك لأخبرك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق أن تدعو الله عليهم ليهلكوا فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم فما خرجت الكلمة من فيه حتى أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء على بيت المقدس فالتهب مكان القربان وأحرقت سبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني به فنودي أنهم لم يصبهم ما أصابهم إلّا بفتياك ودعائك عليهم، فاستيقن أرمياء أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسولا من الله تعالى إليه فخرج أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ويقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان بقي في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده من كان بقي من بني إسرائيل من صغير وكبير فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة. وكان في

أولئك الغلمان دانيال عليه السلام وحنانيا وعزير، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا قتلهم وثلثا سباهم وثلثا أقرهم بالشام فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمهم فلما ولى بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حمار له ومعه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشي إيليا وهي أرض بيت المقدس فلما رأى خرابها قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. ومن قال: إن المار كان عزيرا قال: إن بختنصر لما خرب بيت المقدس بسبايا بني إسرائيل وكان فيهم عزيز ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف بالقرية فلم ير أحدا وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق، ولما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها وإنما قال ذلك تعجبا لا شكا في البعث. ورجعنا إلى حديث وهب قال ثم إن أرمياء ربط حماره بحبل جديد وألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام ونزع الله منه الروح فمات مائة عام وأمات حماره وبقي عصيره وتينه عنده وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى ومنع لحمه من السباع والطير، فلما مضى من وقت موته مدة سبعين سنة أرسل الله تعالى ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك وقال له: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان فانتدب الملك ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه وأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيها فعمروها ثلاثين سنة وكثروا كأحسن ما كانوا، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا الله جسده وهو ينظر ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه تلوح بيض متفرقة فسمع صوتا من السماء أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض، ثم نودي إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكان كذلك، ثم نودي إن الله يأمرك أن تحيي فقام الحمار بإذن الله ثم نهق وعمر الله أرمياء فهو يدور في الفلوات فذلك قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أصل العام من العوم وهو السباحة سميت السنة عاما لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي ثم أحياه وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها قالَ كَمْ لَبِثْتَ يعني قال الله تعالى له كم قدر الزمان الذي مكثت فيه ميتا قبل أن أبعثك من مكانك حيا؟ ويقال إن الله تعالى لما أحياه بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت قالَ يعني ذلك المبعوث بعد مماته لَبِثْتُ يَوْماً وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس فقال لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ يعني قال الله له، وقيل قال الملك له بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعني التين الذي كان معه قبل موته وَشَرابِكَ يعني العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني لم تغيره السنون التي أتت عليه فكان التين كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر من ساعته لم يتغير ولم ينتن وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ أي وانظر إلى إحياء حمارك فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض ثم كساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قيل الواو زائدة مقحمة وقيل: دخول الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها والمعنى وفعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء لنجعلك آية للناس يعني عبرة ودلالة على البعث بعد الموت. وقال أكثر المفسرين وقيل: إنه عاد إلى القرية وهو شاب أسود الرأس واللحية وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز شمط فكان ذلك آية للناس وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً قرئ بالراء ومعناه كيف نحييها يقال أنشر الله الميت إنشارا يعني أحياه وقرئ بالزاي ومعناه: كيف نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد، وتركيب بعضها على بعض وإنشاز الشيء رفعه وانزعاجه يقال: نشزته فنشز أي رفعته فارتفع واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون إنه أراد عظام الحمار قيل إن الله تعالى أحيا عزيرا أو أرميا على اختلاف القولين فيه ثم قال: له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فنظر وبعث الله ريحا فجاءت بعظام

[سورة البقرة (2): آية 260]

الحمار من كل سهل وجبل، فاجتمعت فركب بعضها على بعض حتى الكسرة من العظم رجعت إلى موضعها فصار حمارا من عظام ليس عليه لحم، ولا فيه دم ثم كسا الله تلك العظام اللحم والعروق والدم، فصار حمارا ذا لحم ودم لا روح فيه، ثم بعث الله ملكا فأقبل إليه يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه الروح فقام الحمار حيا بإذن الله تعالى،، ثم نهق وقيل: أراد بالعظام عظام هذا الرجل نفسه وذلك أن الله تعالى أماته ثم بعثه ولم يمت حماره. ثم قيل: له انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره حيا قائما كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير ثم قيل له: انظر إلى العظام كيف ننشزها وذلك أن الله أول ما أحيا منه عينيه فنظر فرأى سائر جسده ميتا وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشزها، ولنجعلك آية للناس وعن ابن عباس وغيره من المفسرين لما أحيا الله عزيرا بعد ما أماته سنة ركب حماره حتى أتى إلى محلته فأنكره الناس، وأنكر منازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، وكانت أمة لهم ولما خرج عزير عنهم كانت بنت عشرين سنة، وكانت قد عرفته وعقلته فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير فقالت: نعم وبكت وقالت ما رأيت أحدا يذكر عزيرا منذ كذا وكذا فقال: أنا عزير فقالت: سبحان الله إن عزيرا فقدناه من مائة سنة ولم نسمع له بذكر فقال: إني عزير إن الله تعالى أماتني مائة سنة ثم أحياني فقالت: إن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة وكان يدعو للمريض وصاحب البلايا بالعافية فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال لها: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير وانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم فدعا عزير ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله تعالى قد أماته مائة سنة ثم بعثه قال: فنهض الناس إليه، وقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فنظر إليها فرآها فعرف أنه عزير، وقيل: لما رجع عزير إلى قريته وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلائق بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فثبتت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة، وبعثه نبيا فقال أنا عزير: فلم يصدقوه فقال إني عزير وقد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم، قالوا: فاملها علينا فأملاها عليهم من ظهر قلبه فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعد ما ذهبت إلّا أنه ابنه فقالوا: عزير ابن الله وستأتي القصة في سورة التوبة إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ يعني فلما اتضح له عيانا ما كان ينكره من إحياء القرية ورآه عيانا في نفسه قالَ أَعْلَمُ قرئ مجزوما موصولا على الأمر يعني قال الله له أعلم وقرئ أعلم على قطع الألف، ورفع الميم على الخبر عن الذي قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها والمعنى فلما تبين له ورأى ذلك عيانا قال: أعلم أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني الإماتة والإحياء. [سورة البقرة (2): آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قوله عز وجل: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى اختلفوا في سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام فقيل: إنه مر على دابة ميتة وهي جيفة حمار وقيل: بل كانت حوتا ميتا وقيل: كان رجلا ميتا بساحل البحر وقيل: بحر طبرية فرآها وقد توزعها دواب البحر والبر. فإذا مد البحر جاءت الحيتان فأكلت منها وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت منها. فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها.

وقال: يا رب إني قد علمت إنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف الدواب فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك، فأزداد يقينا فعاتبه الله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يعني ألم تصدق قالَ بَلى يا رب قد علمت وآمنت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي ليسكن قلبي عند المعاينة أراد إبراهيم عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين لأن الخبر ليس كالمعاينة وقيل لما رأى الجيفة على البحر وقد تناولتها السباع والطير ودواب البحر تفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، ولم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى ولا دافعا له ولكنه أحب أن يرى ذلك عيانا كما أن المؤمنين يحبون أن يروا نبيهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويحبون رؤية الله تعالى في الجنة ويطلبونها، ويسألونه في دعائهم مع الإيمان بصحة ذلك وزوال الشك عنهم فكذلك أحب إبراهيم أن يصير الخبر له عيانا، وقيل: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت فقال نمرود: أنا أحيي وأميت فقتل أحد الرجلين وأطلق الآخر فقال إبراهيم: إن الله تعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر إبراهيم أن يقول: نعم فانتقل إلى حجة أخرى ثم سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي فإذا قيل: أنت عاينته فأقول نعم وقال سعيد بن جبير لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له، فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس وكان إذا خرج أغلق بابه فلما جاء، وجد في الدار رجلا فثار إليه ليأخذه وقال له. من أذن لك أن تدخل داري فقال: أذن لي رب الدار فقال: إبراهيم صدقت وعرف أنه ملك فقال له: من أنت قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك أن الله قد اتخذك خليلا فحمد الله عز وجل وقال له: ما علامة ذلك قال: أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك فحينئذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي بأنك اتخذتني خليلا، وتجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي». (القول على معنى الحديث) وما يتعلق به اختلف العلماء في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على أقوال كثيرة فأحسنها وأصحها ما نقل المزني وغيره من العلماء أن الشك مستحيل في حق إبراهيم فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم ولقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم لم يشك وإنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك فنفى ذلك عنه، وقال الخطابي: ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس وكذلك قوله: لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي وفيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل زيادة العلم بالبيان، والعيان يفيد من المعرفة، والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال وقيل: لما نزلت هذه الآية قال: قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم ومعناه أن هذا الذي تظنونه شكا أنا أولى به فإنه ليس بشك، وإنما هو طلب لمزيد اليقين وإنما رجح إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم على نفسه صلّى الله عليه وسلّم تواضعا منه وأدبا، أو قيل أن يعلم أنه صلّى الله عليه وسلّم خير ولد آدم وأما تفسير الآية فقوله تعالى: وإذ قال إبراهيم: أي واذكر يا محمد، إذ قال: إبراهيم، وقيل: إنه معطوف على قوله: «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» والتقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال يعني قال الله إبراهيم: «أولم تؤمن» الألف في أولم تؤمن من ألف إثبات وإيجاب كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا. أي ألستم كذلك والمعنى أو لست قد

[سورة البقرة (2): الآيات 261 إلى 262]

آمنت وصدقت أني أحيي الموتى قال بلى قد آمنت وصدقت ولكن ليطمئن قلبي يعني سألتك ذلك إرادة طمأنينة القلب وزيادة اليقين وقوة الحجة وقال ابن عباس: معناه ولكن لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل أخذ طاوسا وديكا وحمامة وغرابا وقيل نسرا بدل الحمامة. فإن قلت لم خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة. قلت لأن الطير صفته الطيران في السماء والارتفاع في الهواء، وكانت همة إبراهيم عليه السلام كذلك وهو العلو في الوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته. فإن قلت: لم خص هذه الأربعة الأجناس من الطير بالأخذ. قلت فيه إشارة ففي الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة، والجاه وفي النسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وفي الديك إشارة إلى شدة الشغف بحب النكاح وفي الغراب إشارة إلى شدة الحرص، ففي هذه الطيور مشابهة لما في الإنسان من حب هذه الأوصاف وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق أعلى الدرجات في الجنة، وفاز بنيل السعادات فَصُرْهُنَّ قرئ بكسر الصاد ومعناه قطعهن ومزقهن وقرئ بضم الصاد ومعناه أملهن إِلَيْكَ ووجههن وقيل: معناه اجمعهن واضممهن إليك فمن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار ومعناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذف اكتفاء بقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً لأنه يدل عليه قال لمفسرون: أمر الله تعالى إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها وأن يخلط ريشها ولحمها ودمها بعضه ببعض ففعل ثم أمره أن يجعل على كل جبل منهن جزءا. واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء وأن يجعلها أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر، قيل: جبل على جهة الشرق وجبل على جهة الغرب، وجبل على جهة الشمال وجبل على جهة الجنوب وقيل جزأه سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن بيده ثم دعاهن فقال: تعالين بإذن الله تعالى: فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى وكل عظم يطير إلى العظم الآخر وكل بضعة تطير إلى البضعة الأخرى، وإبراهيم ينظر حتى لقيت كل جثة بعضها ببعض في السماء بغير رؤوس ثم أقبلن سعيا إلى رؤوسهن كلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه وإن لم يكن تأخر عنه حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وقيل: المراد بالسعي الإسراع والعدو وقيل المشي، والحكمة في سعي الطيور إليه دون الطيران، لأن ذلك أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور أو أن أرجلها غير سليمة، فنفى الله تعالى هذه الشبهة بقوله: يَأْتِينَكَ سَعْياً وقيل: المراد بالسعي المشي والمراد بالمشي الطيران وفيه ضعف لأنه لا يقال: للطائر إذا طار سعى وقيل السعي هو الحركة الشديدة وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعني أنه تعالى غالب على جميع الأشياء لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني في جميع أموره. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 262] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل أراد به الإنفاق في الجهاد وقيل هو الإنفاق في جميع أبواب الخير ووجوه البر فيدخل فيه الواجب والتطوع، وفيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي كمثل زارع حبة أَنْبَتَتْ يعني أخرجت تلك الحبة سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. فإن قلت فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها. قلت: ذلك غير مستحيل وما لا يكون مستحيلا فضرب المثل به جائز وإن لم يوجد والمعنى في كل سنبلة مائة حبة إن جعل الله ذلك فيها، وقيل هو موجود في الدخن، وقيل: إن المقصود من الآية أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة والربح أنه إذا بذر حبة

واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك، ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند الله في الآخرة أن لا يترك الإنفاق في سبيل الله، إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة ومائة وسبعمائة وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يعني أنه تعالى يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء وقيل معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء من سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلّا الله وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني يعطي عن سعة، وقيل واسع القدرة على المحازاة وعلى الجود والإفضال عَلِيمٌ يعني بنية من ينفق في سبيله، وقيل عليم بمقادير الإنفاق وبما يستحق المنفق من الجزاء والثواب عليه. قوله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت هذه الآية وقال عبد الرحمن بن سمر «وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأما عبد الرحمن فجاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أخرجتها لربي عز وجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»، والمعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم في حوائجهم ومؤنتهم ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً أي لا يتبع نفقته التي أنفقها عليهم بالمن والأذى وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول: قد أعطيتك كذا وكذا فيعدد نعمه عليه فيكدرها عليه والأذى هو أن يعيره فيقول: كم تسأل وأنت فقير أبدا وقد بليت بك وأراحني الله منك وأمثال ذلك. والمن في اللغة الإنعام، والمنة النعمة الثقيلة يقال: من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة ويكون ذلك بالقول: أيضا ومنه قول الشاعر: فمني علينا بالسلام فإنما ... كلامك ياقوت ودر منظم ومن المن بالقول ما هو مستقبح بين الناس، مثل أن يمن على الإنسان بما أعطاه، قال عبد الرحمن بن يزيد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فلا تسلم عليه والعرب تمدح بترك المن وكتم النعمة وتذم على إظهارها والمن بها قال قائلهم في المدح بترك المن: زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته ... وهو في العالم مشهور كبير وقال قائلهم يذم المنان بالعطاء: أتيت قليلا ثم أسرعت منة ... فنيلك ممنون لذاك قليل وأما الأذى فهو ما يصل إلى الإنسان من ضرر بقول أو فعل. إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار المعروف إلى الناس، والمن عليهم به والأذى هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم فحرم الله تعالى على عباده المن بالمعروف والأذى فيه وذم فاعله. فإن قلت: قد وصف الله تعالى نفسه بالمنان فما لفرق. قلت المنان في صفة الله تعالى معناه المتفضل فمن الله إفضال على عباده وإحسانه إليهم فجميع ما هم فيه منة منه سبحانه وتعالى ومن العباد تعيير وتكدير فظهر الفرق بينهما. وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما خلفوا من الدنيا.

[سورة البقرة (2): الآيات 263 إلى 264]

[سورة البقرة (2): الآيات 263 الى 264] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام حسن ورد جميل على الفقير السائل وقيل: عدة حسنة توعده بها، وقيل: دعاء صالح تدعو له بظهر الغيب وَمَغْفِرَةٌ أي تستر عليه خلته وفقره ولا تهتك ستره وقيل هو أن يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه حالة رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعني هذا القول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي تدفعها إلى الفقير يَتْبَعُها أَذىً وهو أن يعطي الفقير الصدقة ويمن عليه بها ويعيره بقول أو يؤذيه بفعل وَاللَّهُ غَنِيٌّ أي مستغن عن صدقة العباد والغنى الكامل الغني الذي لا يحتاج إلى أحد وليس كذلك إلّا الله تعالى حَلِيمٌ يعني أنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة على من يمن على عباده ويؤذي بصدقته. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ يعني أجور صدقاتكم بِالْمَنِّ وَالْأَذى يعني على السائل الفقير، وقال ابن عباس بالمن على الله تعالى والأذى لصاحبها ثم ضرب الله تعالى لذلك مثلا فقال تعالى كَالَّذِي أي كإبطال الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ أي مراءاة لهم وسمعة ليروا نفقته ويقولوا: إنه سخي كريم وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين لكن من فعل المنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء به فَمَثَلُهُ أي مثل هذا المرائي بصدقته وسائر أعماله كَمَثَلِ صَفْوانٍ هو الحجر الأملس الصلب وهو واحد وجمع فمن جعله جمعا قال واحده صفوانه ومن جعله واحدا قال جمعه صفي عَلَيْهِ تُرابٌ أي على ذلك الصفوان تراب فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد العظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً يعني ترك المطر ذلك الصفوان صلدا أملس لا شيء عليه من ذلك التراب، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن المنان بصدقته يؤذي الناس يرى الناس أن لهؤلاء أعمالا في الظاهر، كما يرى التراب على الصفوان فإذا جاء المطر أذهبه وأزاله وكذلك حال هؤلاء يوم القيامة، تبطل أعمالهم وتضمحل لأنها لم تكن لله تعالى كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يقدرون على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني الذين سبق في علمه أنهم يموتون على الكفر. روى البغوي بسنده عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال: الرياء يقال لهم يوم تجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضا الله وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني على الإنفاق في طاعة الله تعالى وتصديقا بثوابه، وقيل: معناه إن أنفسهم موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت وقيل: إحسانا وقيل تصديقا والمعنى أنهم يخرجون زكاة أموالهم، وينفقون أموالهم في سائر وجوه البر والطاعات طيبة

أنفسهم بما أنفقوا على يقين بثواب الله وتصديق بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا وقيل معناه على يقين بإخلاف الله عليهم وقيل: معناه أنهم يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم قيل: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كانت لله خالصة أمضاها، وإن خالطه شك أو رياء أمسك كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي بستان قال الفراء إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس بِرَبْوَةٍ هي المكان المرتفع عن الأرض المستوي لأن ما ارتفع من الأرض عن مسيل الماء والأودية كان ثمرها أحسن وأزكى إذا كان لها من الماء ما يرويها وقيل: هي الأرض المستوية الجيدة الطيبة إذا أصابها المطر انتفخت وربت فإذا كانت الأرض بهذه الصفة كثر ريعها وحملت أشجارها أَصابَها وابِلٌ وهو المطر الكثير الشديد قال بعضهم: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها وابل هطل أراد بالحزن ما غلظ وارتفع من الأرض فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي فأعطت ثمرتها مثلين قيل إنها حملت في سنة من الريع ما يحمله غيرها في سنتين وقيل أضعفت فحملت في السنة مرتين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي طش وهو المطر الخفيف الضعيف، والمعنى إن لم يكن أصابها وابل وأصابها طل فتلك حال هذه الجنة في تضاعف ثمرها فإنها لا تنقص بالطل عن مقدار ثمرها بالوابل وهذا مثل ضربه الله تعالى: لعمل المؤمن المخلص في إنفاقه وسائر أعماله، يقول الله تعالى كما أن هذه الجنة تريع وتزكو في كل حال ولا تخلف سواء كان المطر قليلا أو كثيرا فكذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص في صدقته وإنفاقه الذي لا يمن ولا يؤذي سواه قلت نفقته أو كثرت وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أن الله تعالى لا تخفى عليه نفقة المخلص في صدقته الذي لا يمن بها ولا يؤذي والذي يمن بصدقته ويؤذي قوله عز وجل: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هذه متصلة بما قبلها وهو قوله تعالى. لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أيود يعني أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب إنما خصهما بالذكر لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها ولما فيهما من الغذاء والتفكه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني أن جري الأنهار فيها من تمام حسنها، وسبب لزيادة ثمرها لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لأن ذلك من تمام كمال البستان وحسنه وَأَصابَهُ الْكِبَرُ يعني صاحب هذه الجنة كثرت جهات حاجاته ولم يكن له كسب غيرها فحينئذ يكون في غاية الاحتياج إلى تلك الجنة فإن قلت: كيف عطف وأصابه الكبر على أيود، وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل قلت فيه وجهان أحدهما أن يكون له جنة حال ما أصابه الكبر والوجه الثاني أنه عطف على المعنى، فكأنه قيل أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ يعني له أولاد صغار عجزت عن الحركة بسبب الضعف والصغر فَأَصابَها يعني أصاب تلك الجنة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الإعصار ريح ترتفع إلى السماء وتستدير كأنها عمود وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول مثل عمل المنافق والمرائي بعمله في حسنه كحسن جنة ينتفع بها صاحبها فلما كبر وضعف وصار له أولاد ضعاف أصاب جنته إعصار فيه نار فأحرقها وهو أحوج ما يكون إليها فحصل في قلبه من الغم والحسرة ما لا يعلمه إلّا الله تعالى لكبره وضعفه وضعف أولاده فهو لا يجد ما يعود به على أولاده، وهم لا يجدون ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم، فكذلك حال من أتى يوم القيامة بأعمال حسنة ولم يقصد بها وجه الله تعالى، فيبطلها الله تعالى، وهو في غاية الحاجة إليها حين لا مستعتب له ولا توبة. وقال عبيد بن عمير: قال عمر يوما لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيمن ترون نزلت هذه الآية أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ قالوا: الله أعلم فغضب عمر وقل قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قل يا ابن أخي ولا تحقرن نفسك فقال ضرب الله مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ يعني كما بين الله تعالى لكم أمر النفقة المقبولة، وغير المقبولة كذلك يبين الله لكم من الآيات سوى ذلك لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي فتتعظوا وقال ابن

[سورة البقرة (2): آية 267]

عباس: لعلكم تتفكرون يعني في زوال الدنيا وإقبال الآخرة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي من خيار ما كسبتم وجيده وقيل: من حلالات ما كسبتم بالتجارة والصناعة وفيه دليل على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلّا النار» أخرجه الترمذي. المتخوض الذي يأخذ المال من غير وجهه كما يخوض الإنسان في الماء يمينا وشمالا (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام» (خ) عن المقدام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» أخرجه الترمذي والنسائي. واختلفوا في المراد بقوله تعالى: أَنْفِقُوا فقيل: المراد به الزكاة المفروضة لأن الأمر للوجوب والزكاة واجبة فوجب صرف الآية إليها وقيل: المراد به صدقة التطوع وقيل: إنه يتناول الفرض والنفل جميعا لأن المفهوم من هذا الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل فوجب أن يدخل تحت هذا الأمر فعلى القول الأول أن المراد من هذا الإنفاق هو الزكاة يتفرع عليه مسائل: المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة الذهب والفضة والنعم وعروض التجارة، لأن ذلك يوصف بأنه مكتسب وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في مال التجارة وقال داود الظاهري: لا تجب الزكاة بحكم التجارة في العروض إلّا أن ينوي به التجارة في حال تملكه، ودليل الجمهور ما روي عن سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بإخراج الصدقة من الذي يعد للبيع» أخرجه أبو داود وعن أبي عمرو بن خماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر ألا تؤدي زكاتك يا خماس فقلت مالي غير هذا واهب في القرظ قال: ذاك مال فضع فوضعها فحسبها فأخذ منها الزكاة فإذا حال الحول على عروض التجارة قوم فإن بلغ قيمته عشرين دينارا أو مائتي درهم أخرج منه ربع العشر. المسألة الثانية: في قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض من النبات مما يزرع الآدميون، لكن جمهور العلماء خصصوا هذا العموم فأوجبوا الزكاة في النخيل، والكروم وفيما يقتات ويدخر من الحبوب وأوجب أبو حنيفة الزكاة في كل ما يقصد من نبات الأرض، كالفواكه والبقول والخضراوات كالبطيخ والقثاء والخيار ونحو ذلك، دليل الجمهور ما روي عن معاذ: «أنه كتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: ليس فيها شيء» أخرجه الترمذي. وقال هذا الحديث ليس بصحيح وليس يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب شيء وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، مرسلا والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس في الخضراوات صدقة. قلت وحديث موسى بن طلحة أخرجه الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني في أحكامه عن عطاء بن السائب قال: «أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة فقال له: موسى بن طلحة: ليس ذلك لك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: ليس في ذلك صدقة» رواه الأثرم في سننه وهو أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به وقال الزهري والأوزاعي ومالك تجب الزكاة في الزيتون، وتجب في الثمار عند

بدو الصلاح وهو أن يحمر البسر ويصفر ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف، وفي الحبوب عند الاشتداد ووقت الإخراج بعد الدراس والتصفية. المسألة الثالثة: يجب إخراج العشر فيما سقي بالمطر والأنهار والعيون ونصف العشر فيما سقي بنضح أو سانية، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر» أخرجه البخاري. ولأبي داود والنسائي قال: «فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر وما سقي بالسواني والنضح نصف العشر» قال أبو داود البعل ما شرب بعروقه ولم يتعن في سقيه وقال وكيع: هو الذي ينبت من ماء السماء قوله: أو كان عثريا أراد به القوي من الزرع وهو البعل وقد فسره في لفظ الحديث والنضح هو الاستسقاء وكذلك السانية وهي الدابة التي يسقي عليها سواء كانت من الإبل أو البقر، ولا يجب العشر في السماء والزروع حتى تبلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا، وقال أبو حنيفة: يجب العشر في كل قليل أو كثير من الثمار والزروع واحتج الجمهور في إيجاب النصاب بما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمسة أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة ذود صدقة» وفي رواية «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر أو حب صدقة» أخرجاه في الصحيحين، ومن قال: إن المراد بقوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ صدقة التطوع احتج بما روي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي ولا تقصدوا الخبيث يعني الرديء من أموالكم مِنْهُ تُنْفِقُونَ أي من الخبيث. عن البراء بن عازب في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته: وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصا، فسقط البسر أو التمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي بالقنوفية الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلّا على إغماض وحياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده أخرجه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب وقيل كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم، ويعزلون الجيد لأنفسهم فأنزل الله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ يعني الرديء منه تنفقون يعني تتصدقون وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ يعني ذلك الشيء الخبيث الرديء إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ الإغماض في اللغة غض البصر، وإطباق الجفن والمراد به هنا التجويز والمساهلة، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك قال ابن عباس: معناه لو أن لأحدكم على رجل حقا فجاءه بهذا لم يأخذه إلّا وهو يرى أنه قد أغمض عن حقه وتركه وقال البراء: هو لو أهدى ذلك ما أخذتموه إلّا على استحياء من صاحبه وغيظ فكيف ترضون إلى ما لا ترضون لأنفسكم إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء لأن أهل السهمان شركاء له فيما عنده، وإن كان كله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ يعني عن صدقاتكم لم يأمركم بالتصدق لعوز واحتياج إليها حَمِيدٌ أي محمود في أفعاله، وقيل: حميد بمعنى حامد أي أجركم على ما تفعلونه من الخير. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): الآيات 268 إلى 269]

[سورة البقرة (2): الآيات 268 الى 269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يخوفكم الفقر يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا وإذا لم يذكر الخير والشر يقال: في الخير وعدته وفي الشر أوعدته والفقر سوء الحال، وقلة ذات اليد وأصله من كسر فقار الظهر ومعنى الآية أن الشيطان يخوفكم بالفقر، ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت افتقرت وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ يعني يوسوس لكم ويحسن لكم، البخل ومنع الزكاة والصدقة قال الكلبي كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلّا هذا الموضع وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يخوف الرجل أولا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء، وهي البخل وذلك لأن البخيل على صفة مذمومة عند كل أحد فلا يستطيع الشيطان أن يحسن له البخل إلّا بتلك المقدمة وهي التخويف من الفقر، فلهذا قال تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ يعني مغفرة لذنوبكم وسترا لكم وَفَضْلًا يعني رزقا وخلفا. فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى منافع الدنيا، وما يحصل من الرزق والخلف. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث حسن غريب قوله: إن للشيطان لمة بابن آدم اللمة الخطرة الواحدة من الإلمام وهو القرب من الشيء والمراد بهذه اللمة اللمة التي تقع في القلب من فعل خير أو شر والعزم فأما لمة الشيطان فوسوسة وأما لمة الملك فإلهام من الله تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه عَلِيمٌ يعني بما تنفقونه لا تخفى عليه خافية (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلّا وملكان ينزلان يقول: أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى أنفق ينفق عليك» وفي رواية «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده» وفي رواية «فإنه لم يغض ما في يمينه، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع» وفي رواية وبيده الأخرى الفيض القبض يرفع ويخفض (ق) عن أسماء بنت بكر الصديق قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنفقي ولا تحصي فيحصى عليك ولا توعي فيوعى عليك» قوله: ولا توعي أي لا تشحي فيشح الله عليك فيجازيك بالتقتير في رزقك ولا يخلف عليك ولا يبارك لك، والمعنى لا تجمعي وتمنعي بل أنفقي ولا تعدي ولا تشحي. قوله عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: هي علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه، وقال الضحاك: القرآن والفهم فيه وإنما قال: ذلك لتضمن القرآن الحكمة وقال في القرآن: مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يعلمونهن ولا يكونوا كأهل النهروان يعني الخوارج تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب فجهلوا علمها فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال وشهدوا على أهل السنة بالضلالة فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيما نزل لم يختلف في شيء منه، وقيل: هي القرآن والعلم والفقه وقيل هي الإصابة في القول والفعل. وحاصل هذه الأقوال إلى شيئين: العلم والإصابة فيه، ومعرفة الأشياء بذواتها وأصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها قال الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم أي امنعوا سفهاءكم، وقال السدي: الحكمة النبوة لأن النبي يحكم بين الناس فهو حاكم وقيل الحكمة

[سورة البقرة (2): الآيات 270 إلى 271]

الورع في دين الله لأن الورع يمنع صاحبه من أن يقع في الحرام، أو ما لا يجوز له فعله وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ يعني ومن يؤته الله الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً تنكير تعظيم معناه فقد أوتي أي خير كثير. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي وما يتعظ بما وعظه الله إلّا ذوو العقول الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 270 الى 271] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يعني فيما فرضه الله عليكم من إعطاء زكاة وغيرها أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يعني به ما أوجبتموه على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به والنذر أن يوجب الإنسان على نفسه شيئا ليس بواجب يقال نذرت لله نذرا وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه النذر من خوف التقصير في الأمر المهم، والنذر في الشرع على ضربين مفسر، وغير مفسر. فالمفسر أن يقول لله على صوم أو حج أو عتق أو صدقة فيلزمه الوفاء به، ولا يجزيه غيره وغير المفسر وهو أن يقول: نذرت لله لا أفعل كذا ثم يفعله أو يقول لله على نذر من غير تسمية شيء فيلزمه فيه كفارة يمين (خ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به» أخرجه أبو داود عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم» أخرجه النسائي (ق) عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» (م) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون سبب النهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما مالا فيأتي به تكلفا من غير نشاط أو يكون سببه كونه يأتي به على سبيل المعارضة عن الأمر الذي طلبه فينقص أجره، وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى وقال بعضهم يحتمل أن يكون النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النظر يرد القدر أو يمنع من حصول المقدور فنهى عنه خوفا من اعتقاد ذلك، وسياق الحديث يؤكد هذا، وقوله: في بعض روايات الحديث إنه لا يأتي بخير معناه أنه لا يرد شيئا من القدر. وقوله: فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وإنما يأتي بها في مقابلة شيء يريده كقوله إن شفى الله مريضي فلله على كذا ونحو ذلك مما يحصل بالنذر والله أعلم، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي يعلم ما أنفقتم ونذرتم فيجازيكم به وإنما قال: يعلمه ولم يقل يعلمهما لأنه رد الضمير على الآخر منهما فهو كقوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وقيل: إن الكناية عادت على: «ما» في قوله وما أنفقتم لأنها اسم فهو كقوله: «وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به» ولم يقل بهما وَما لِلظَّالِمِينَ يعني الواضعين الصدقة في غير موضعها وقيل: الذين يريدون بصدقاتهم الرياء والسمعة وقيل: هم الذين يتصدقون بالمال الحرام مِنْ أَنْصارٍ أي من أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى، ففيه وعيد عظيم لكل ظالم قوله عز وجل: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا الصدقات والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة فيدخل فيه الزكاة الواجبة، وصدقة التطوع فَنِعِمَّا هِيَ أي فنعمت الخصلة هي وقيل فنعم الشيء هي وقيل: معناه فنعم شيئا إبداء الصدقات وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروا الصدقة وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ أي وتعطوها الفقراء في السر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني إخفاء الصدقة أفضل من العلانية وكل مقبول إذا كانت النية صادقة، واختلفوا في المراد بالصدقة المذكورة في الآية فقال

[سورة البقرة (2): آية 272]

الأكثرون المراد بها صدقة التطوع، واتفق العلماء على أن كتمان صدقة التطوع أفضل وإخفاؤها خير من إظهارها، لأن ذلك أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص، ولأن فيه بعدا عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة، وفي صدقة السر أيضا فائدة ترجع إلى الفقير الآخذ وهي أنه إذا أعطى في السر زال عنده الذل والانكسار وإذا أعطى في العلانية يحصل له الذل والانكسار ويدل على أن صدقة السر أفضل ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلّا ظله إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله تعالى ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» أخرجاه في الصحيحين ووجه جواز إظهار الصدقة يكون ممن قد أمن على نفسه من مداخلة الرياء في عمله أو يكون ممن يقتدى به في أفعاله فإذا أظهر الصدقة تابعه غيره على ذلك، وأما الزكاة فإظهار إخراجها أفضل من كتمانها كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل وصلاة التطوع في البيت أفضل ولكن في إظهار الزكاة نفي التهمة عن المزكي وقيل إن الآية واردة في زكاة الفرض، وكان إخفاؤها خيرا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا لا يظنون بأحد أنه يمنع الزكاة، فأما اليوم في زماننا إظهار الزكاة أفضل حتى لا يساء الظن به وقيل إن الآية عامة في جميع الصدقات الواجبة والتطوع والإخفاء أفضل في كل صدقة من زكاة غيرها. وقوله تعالى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قيل إن من صلة زائدة تقديره ونكفر عنكم سيئاتكم قال ابن عباس جميع سيئاتكم وقيل أدخل من للتبغيض ليكون العباد على وجل ولا يتكلوا والمعنى ونكفر عنكم الصغائر من سيئاتكم وأصل التكفير في اللغة التغطية والستر وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني من إظهار الصدقات وإخفائها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قيل سبب نزول هذه الآية: أن ناسا من المسلمين كان لهم قرابات وأصهار في اليهود وكانوا ينفعونهم وينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوا بذلك أن يسلموا وقيل كانوا يتصدقون على فقراء أهل المدينة فلما كثر المسلمون نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة إلى الدخول في الإسلام لحرصه صلّى الله عليه وسلّم على سلامهم فنزل ليس عليك هداهم ومعناه ليس عليك هداية من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فحينئذ نتصدق عليهم فأعلمه الله تعالى أنه إنما بعث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليك وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني أن الله تعالى يوفق من يشاء فيهديه إلى الإسلام وأراد بالهداية هنا هداية التوفيق وأما هداية البيان والدعوة فكانت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما نزلت هذه الآية أعطوهم وتصدقوا عليهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ما تفعلوا تنفعوا به أنفسكم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ ظاهره خبر ومعناه نهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وقال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أنه قد علم أن مرادهم بنفقتهم ما عنده وقيل معناه لستم في صدقاتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلّا وجه الله وقد علم هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة الرحم وسد خلة مضطر قال بعض العلماء: لو أنفقت على شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلّا إلى المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة، وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وخالفه سائر العلماء في ذلك فعلى هذا تكون الآية مختصة بصدقة التطوع أباح الله تعالى أن تصرف إلى فقراء المسلمين وفقراء أهل

[سورة البقرة (2): آية 273]

الذمة فأما زكاة الفرض فلا يجوز صرفها إلى أهل الذمة بحال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفر لكم جزاؤه وقال ابن عباس: يجازيكم به يوم القيامة ومعناه يؤدي إليكم يوم القيامة ولهذا حسن إدخال إلى مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا من ثواب أعمالكم. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) لِلْفُقَراءِ اختلفوا في موضع اللام في قوله للفقراء فقيل: هو مردود على موضع اللام من قوله فلأنفسكم فكأنه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنما تنفقون لأنفسكم، وقيل معناه الصدقات التي سبق ذكرها الفقراء. وقيل خبر محذوف تقديره للفقراء الذين من صفتهم كذا وكذا حق واجب وهم فقراء المهاجرين كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أصحاب الصفة فحث الله تعالى الناس على مواساتهم فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى وقوله: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني هم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يعني لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش والكسب، وهم أهل الصفة الذين تقدم ذكرهم وقيل حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله، وقيل هم قوم أصابتهم جراحات في الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصاروا زمنى حصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي يظن من لم يختبر حالهم أنهم أغنياء من التعفف وهو تفعل من العفة وهي ترك الشيء والكف عنه. يقال: تعفف إذا ترك السؤال ولزم القناعة والمعنى يظنهم من لم يعرف حالهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ السيماء والسيمياء والسمة العلامة التي يعرف بها الشيء واختلفوا في معناها فقيل: هي الخضوع والتواضع وقيل هي أثر الجهد من الحاجة والفقر وقيل: هي صفرة ألوانهم من الجوع ورثاثة ثيابهم من الضر لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً يعني إلحاحا قيل: إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء وإذا كان عنده عشاء لا يسأل غداء وقيل لا يسألون الناس أصلا لأنه قال يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وهو ترك المسألة فعلم بذلك أنهم لا يسألون ألبتة ولأنه قال تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت من معرفتهم بالعلامة حاجة فمعنى الآية ليس يصدر منهم سؤال حتى يقع فيهم إلحاف. فهم لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاف (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل» الناس لفظ (خ) عن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له» من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح وقيل: يا رسول الله ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» أخرجه أبو داود وقال: زاد هشام في حديثه وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين درهما وفي رواية عطاء بن يسار من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف» أخرجه النسائي (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه

[سورة البقرة (2): آية 274]

قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر». وقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى يعلم مقادير الإنفاق ويجازي عليها ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قال ابن عباس في رواية عنه: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية وفي رواية عنه قال: «لما نزل للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله» بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أهل الصفة، وبعث علي بن أبي طالب في الليل بوسق من تمر فأنزل الله فيهما: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني بنفقة الليل نفقة علي وبالنهار نفقة عبد الرحمن وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية لأنه تعالى قدم نفقة الليل على نفقة النهار وقدم السر على العلانية وقيل: نزلت الآية في الذين يربطون الخيل للجهاد في سبيل الله لأنهم يعلفونها بالليل والنهار وفي السر: والعلانية (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات وقيل: إن الآية عامة في الذين ينفقون أموالهم في جميع الأوقات ويعمون بها أصحاب الحاجات والفاقات. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي جزاء أعمالهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني في الآخرة. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يعاملون به وإنما خص الأكل لأنه معظم الأمر المقصود من المال لأن المال لا يؤكل إنما يصرف في المأكول ثم يؤكل فمنع الله التصرف في الربا بما ذكر فيه من الوعيد (م) عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء» وأصل الربا في اللغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر فالربا الزيادة في المال لا يَقُومُونَ يعني من قبورهم يوم القيامة إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي يصرعه، وأصل الخبط الضرب والوطء وهو ضرب على غير استواء يقال ناقة خبوط للتي تضرب الأرض بقوائمها وتطأ الناس بأخفافها ومنه قولهم: يخبط خبط عشواء للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير اهتداء وتمييز وتدبر، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل وجنون مِنَ الْمَسِّ يعني من الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا كان به جنون، ومعنى الآية أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مثل المصروع الذي لا يستطيع الحركة الصحيحة لأن الربا ربا في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإسراع. قال سعيد بن جبير تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قصة الإسراء قال: «فانطلق بي جبريل إلى رجال كثير كل رجل بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه

فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة، قال: وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم الساعة أبدا. قال: ويوم القيامة يقول أدخلوا آل فرعون أشد العذاب قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس». قوله: بطنه مثل البيت الضخم أي العظيم الكبير الغليظ، وقوله: منضدين أي موضوعين بعضهم على بعض والسابلة الطريق، وقوله مثل الإبل المنهومة، النهم بالتحريك إفراط في الشهوة بالطعام من الجوع. قوله عز وجل: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي ذلك الذي نزل بهم من العذاب بقولهم هذا واستحلالهم إياه وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه يطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق زدني في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك وكانوا يقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى. ورد عليهم ذلك بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا يعني وأحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل وذلك لأن الله تعالى خلق الخلق فهم عبيده وهو مالكهم يحكم فيهم بما يشاء ويستعبدهم بما يريد ليس لأحد أن يعترض عليه في شيء مما حل أو حرم، وإنما على كافة الخلق الطاعة والتسليم لحكمه وأمره ونهيه. وذكر بعض العلماء الفرق بين البيع والربا فقال إذا باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا للعشرين فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أما إذا باع عشرة دراهم بعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة بغير عوض ولا يمكن أن يقال: إن العوض هو الإمهال في مدة الأجل لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة فقد ظهر الفرق بين الصورتين. (فصل: في حكم الربا وفيه مسائل) المسألة الأولى: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوها: أحدها: أن الربا يقتضي أخذ مال الغير بغير عوض، لأن من يبيع درهما بدرهمين نقدا كان أو نسيئة فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض فهو حرام. الوجه الثاني: إنما حرم عقد الربا لأنه يمنع الناس من الاشتغال بالتجارة لأن صاحب الدراهم إذا تمكن من عقد الربا خف عليه تحصيل الزيادة من غير تعب ولا مشقة، فيقضي ذلك إلى انقطاع منافع الناس بالتجارات وطلب الأرباح. الوجه الثالث: أن الربا هو سبب إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، فلما حرم الربا طابت النفوس بقرض الدراهم للمحتاج واسترجاع مثله لطلب الأجر من الله تعالى. الوجه الرابع: أن تحريم الربا قد ثبت بالنص ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بتحريم الربا وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في ذلك. المسألة الثانية: اعلم أن الربا في اللغة هو الزيادة، وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام فثبت أن الزيادة المحرمة هو الربا وهو على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ق) عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالورق ربا إلّا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلّا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلّا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلّا هاء وهاء». وفي رواية: «الورق بالورق ربا إلّا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلّا هاء وهاء» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى» وفي رواية: «التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد واستزاد فقد أربى إلّا ما اختلفت ألوانه. (م) عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا

بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» فنص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جريان الربا في هذه الستة أشياء وهي النقدان وأربعة أصناف من المطعومات وهي البر والشعير والتمر والملح، فذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا ثبت في هذه الأشياء لأوصاف فيها، فيعتدي إلى كل ما يوجد من تلك الأصناف فيه ثم اختلفوا في تلك الأوصاف فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها هو واحد وهو النفع فأثبتوا الربا في جميع الأموال وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر، واختلفوا في ذلك الوصف فذهب الشافعي ومالك إلى أنه ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وذهب أصحاب الرأي إلى أنه ثبت بعلة الوزن فأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحو ذلك، وأما الأربعة أشياء المطعومة فذهب أصحاب الرأي إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الوزن والكيل فأثبتوا الربا في جميع المكيلات والموزونات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوهما، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن فكل مطعوم مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ولا يثبت فيما سوى ذلك مما ليس بمكيل أو موزون وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي في القديم. وقال في الجديد: ثبت الربا فيها بوصف الطعم فأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض من صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك. فقال له معمر: لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل» وكان طعامنا الشعير قيل له: فإنه ليس بمثله فقال إني أخاف أن يضارع أخرجه مسلم فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما. المسألة الثالثة: الربا نوعان ربا فضل وهو الزيادة وربا نسيئة وهو الأجل، فإن باع ما يدخل فيه الربا بجنسه إن باع أحد النقدين بجنسه كالذهب بالذهب أو المطعوم بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحو ذلك فيشترط فيه التماثل والمساواة بمعيار الشرع فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط فيه المساواة في الوزن وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير يشترط في بيعه بجنسه المساواة في الكيل، ويشترط التقابض في مجلس العقد فإن باع ما يدخل فيه الربا بغير جنسه ينظر فإن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل إن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه كما لو باعه بغير مال الربا فإن باعه بما لا يوافقه في الوصف لا في الجنس مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو كان مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا التفاضل فيجوز بيعه متفاضلا ويثبت فيه ربا النسيئة فيشترط في بيعه التقابض في المجلس لقوله صلّى الله عليه وسلّم «إلّا يدا بيد». وقوله «هاء وهاء» ففيه اشتراط التقابض في المجلس وتحريم النسيئة وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إلّا سواء بسواء مثلا بمثل» ففيه إيجاب المماثلة وتحريم التفاضل عند اتفاق الجنس وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» ففيه إطلاق التبايع مع التفاضل عند اختلاف الجنس مع اشتراط التقابل في المجلس وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يدا بيد» والله أعلم. المسألة الرابعة: في القرض وهو من أقرض شيئا وشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا يدل عليه ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا أخرجه مالك في الموطأ. قال فإن لم يشترط فضلا في وقت القرض فرد المستقرض أفضل مما أخذ جاز. ويدل على ذلك ما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها فأبى أن يأخذها وقال هذه خير من دراهمي. فقال ابن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة أخرجه مالك في الموطأ. وقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي تذكير وتخويف وإنما ذكر الفعل لأن تأنيثه غير حقيقي فجاز تذكيره وذلك لأن الوعظ والموعظة شيء واحد فَانْتَهى

[سورة البقرة (2): آية 276]

أي عن أكل الربا فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يعني بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود إلى أكل الربا وقيل معناه وأمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء. وقيل: إن الآية فيمن يعتقد تحريم أكل الربا ثم يأكله فأمره إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وَمَنْ عادَ يعني إلى أكل الربا بعد التحريم مستحلّا له فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. [سورة البقرة (2): آية 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) قوله عز وجل: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته قال ابن عباس لا يقبل الله منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أي يزيدها ويثمرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف أجرها في الآخرة. (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله الطيب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم والبخاري «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله. وفي رواية ولا يقبل الله إلّا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل». وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ يعني كل مصر على كفره مقيم عليه مستحل لأكل الربا أَثِيمٍ يعني متماديا في الإثم وفيه نهي عنه وأن من أكل الربا لا ينزجر عنه ولا يتركه وقيل يحتمل أن يكون الكفار راجعا إلى مستحل الربا والأثيم راجعا إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): الآيات 277 الى 278] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا بالله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني التي أمرهم الله بها وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة بأركانها وحدودها في أوقاتها وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني المفروضة عليهم في أموالهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي لهم ثواب أعمالهم في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي يوم القيامة. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا قيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر فلما كانا وقت الجذاذ قال صاحب التمر لهما: إن أنتما أخذتما حقكما لم يبق لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا منه الزيادة فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فنهاهما، وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما، وقيل نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: فيما رواه جابر من أفراد مسلم «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» وقيل: نزلت في أربعة إخوة من ثقيف وهم: مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بن عمرو بن عميرة بن عوف الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم، وكانوا يرابون فلما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة بنو عمرو الثقفي وطلبوا رباهم من بني المغيرة فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مكة فكتب عتاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقضية الفريقين وكان ذلك مالا

[سورة البقرة (2): الآيات 279 إلى 280]

عظيما فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا الله فيما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه، وذروا أي واتركوا ما بقي من الربا والمعنى واتركوا طلب ما بقي لكم ما فضل على رؤوس أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم محققين لإيمانكم قولا وفعلا. [سورة البقرة (2): الآيات 279 الى 280] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تتركوا ما بقي من الربا بعد تحريمه فَأْذَنُوا قرئ بكسر الذال والمد على وزن آمنوا ومعناه: فأعلموا غيركم أنه حرب لله ورسوله وقرئ فأذنوا بفتح الذال مع القصر ومعناه فاعلموا أنتم وأيقنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قال ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب. قال أهل المعاني: حرب الله النار وحرب رسوله السيف واختلفوا في معنى هذه المحاربة فقيل المراد بها المبالغة في الوعيد والتهديد دون نفس الحرب، وقيل: بل المراد منه نفس الحرب وذلك أن من أصر على أكل الربا وعلم به الإمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن كان آكل الربا ذا شوكة وصاحب عسكر حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية. قال ابن عباس: من كان مقيما على أكل الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع أي تاب وإلّا ضرب عنقه وَإِنْ تُبْتُمْ أي إن تركتم أكل الربا ورجعتم عنه فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ يعني لا تظلمون أنتم الغريم بطلب زيادة على رأس المال. ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال فلما نزلت هذه الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى الله فإنه لا يدان لنا يعني لا قوة لنا بحرب الله ورسوله ورضوا برءوس أموالهم. فشكا بنو المغيرة العسرة ومن كان عليه دين وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله عز وجل: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ يعني وإن كان الذي عليه الحق من غرمائكم معسرا والعسر نقيض اليسر وهو تعذر وجدان المال، وأعسر الرجل إذا أضاق ولم يجد ما يؤديه في دينه فَنَظِرَةٌ أي فإمهال وتأخير إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى زمن اليسار وهو ضد الإعسار وهو وجدان المال الذي يؤديه في دينه واختلفوا في حكم الآية وهل الإنظار مختص بالربا أم هو عام في كل دين؟ على قولين: القول الأول وهو قول ابن عباس وشريح والضحاك والسدي إن الآية في الربا. وذكر عن شريح أن رجلا خاصم رجلا إليه فقضى عليه وأمر بحبسه فقال رجل: كان عند شريح إنه معسر والله تعالى يقول في كتابه: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فقال شريح إنما ذاك في الربا وإن الله تعالى قال في كتابه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه. والقول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين أن حكم الآية عام في كل دين على معسر واحتجوا بأن الله تعالى قال: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ولم يقل ذا عسرة ليكون الحكم عاما في جميع المعسرين وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني وإن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين فتتركوا رؤوس أموالكم للمعسر خير لكم، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسرين وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن التصدق خير لكم وأفضل لأن فيه الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى. (فصل: في ثواب إنظار المعسر والوضع عنه وتشديد أمر الدين والأمر بقضائه) (م) عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر قال الله قال الله قال: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه». (م) عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلّا

[سورة البقرة (2): آية 281]

ظله». (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس فإن رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» وعن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء» أخرجه أبو داود (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عز وجل عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»، (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مطل الغني ظلم، زاد في رواية وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع». (ق) عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى فقال: يا كعب قلت: لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه. (ق) عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلّا سنا فوقها فقال: أعطوه فقال: أوفيتني وفاك الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن خيركم أحسنكم قضاء وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استقضاه حتى هم به بعض أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم أمر له بأفضل من سنه». (م) عن أبي قتادة الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف قلت قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلّا الدين فإن جبريل قال لي ذلك» عن محمد بن جحش قال: «كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد فسكتنا وفزعنا. فلما كان من الغد سألته يا رسول الله: ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه دينه» أخرجه النسائي. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 281] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) وَاتَّقُوا أي وخافوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قرئ بفتح التاء أي تصيرون فيه إلى الله وقرئ بضم التاء وفتح الجيم أي تردون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي في ذلك اليوم. وفي هذه الآية وعد شديد وزجر عظيم قال ابن عباس: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال جبريل ضعها على رأس مائتين وثمانين من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا وعشرين يوما وقيل: تسع ليال وقيل سبعا ومات صلّى الله عليه وسلّم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة. وروى الشعبي عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): آية 282]

[سورة البقرة (2): آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قال ابن عباس لما حرم الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. وقوله إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم بالدين أو داين بعضكم بعضا والتداين تفاعل من الدين يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال بدين بعد قوله: إذا تداينتم لأن المداينة قد تطلق على المجازاة وعلى المعطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ويخلص أحد المعنيين من الآخر. وقيل إنما قال بدين ليرجع الضمير إليه في قوله: فاكتبوه إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلا يحسن النظم بذلك وقيل إنما ذكره تأكيدا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى مدة معلومة الأول والآخر مثل السنة والشهر ولا يجوز إلى غير مدة معلومة كما لو قال إلى الحصاد أو نحوه والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل بخلاف القرض فإنه لا يلزم فيه الأجل عند أكثر أهل العلم. (ق) عن ابن عباس قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين فقال لهم: «من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» وقوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا الدين الذي تداينتم به بيعا كان ذلك أو سلما أو قرضا واختلفوا في هذه الكتابة فقيل: هي واجبة وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وقيل الأمر محمول على الندب والاستحباب فإن ترك فلا بأس وهو قول جمهور العلماء وقيل بل كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وهو قول الحسن والشعبي والحكم بن عيينة ثم بين الله تعالى كيفية الكتابة فقال تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ أي ليكتب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بِالْعَدْلِ أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره قيل إن فائدة الكتابة هي حفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة تعذر عليه طلب زيادة أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك تعذر عليه الجحود أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلما كانت هذه الفائدة من الكتابة أمر الله تعالى بها وَلا يَأْبَ أي ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فقيل بوجوبهما لأن ظاهر الكلام نهى عن الامتناع من الكتابة وإيجابها على كل كتاب فإذا طولب بالكتابة وتحمل الشهادة من هو من أهلهما وجب عليه ذلك. وقيل: هو من فرض الكفاية وهو قول الشعبي فإن لم يوجد إلّا واحد وجب عليه ذلك وقيل هو على الندب والاستحباب وذلك لأن الله تعالى لما علمه الكتابة وشرفه بها استحب له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم ويشكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه وقيل: كانت الكتابة وتحمل الشهادة واجبتين على الكاتب والشاهد ثم نسخهما الله تعالى بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي كما شرعه الله وأمر به فَلْيَكْتُبْ وذلك أن يكتب بحيث لا يزيد ولا ينقص ويكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ولا يخص أحد الخصمين بالاحتياط له دون الآخر، وأن يكون كل واحد منهما آمنا من أبطال حقه، وأن يكون ما يكتبه متفقا عليه عند العلماء، وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها وهذه الأمور لا تحصل إلّا لمن هو فقيه عالم باللغة ومذاهب العلماء. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني أن المطلوب الذي عليه الحق يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحق فيذكر قدره وجنسه وصفة الأجل ونحو ذلك. والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ربه يعني المملي وَلا يَبْخَسْ أي ولا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي وجب شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أي جاهلا بالإملاء وقيل هو الطفل

الصغير. وقال الشافعي: السفيه هو المبذر المفسد لماله ودينه أَوْ ضَعِيفاً يعني شيخا كبيرا وقيل: هو ضعيف العقل لعته أو جنون أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ يعني لخرس أو عمى أو عجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله، وعليه فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم وهو قوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة المحجور عليهم لأنه مقامه في صحة الإقرار. وقال ابن عباس: أراد بالولي صاحب الدين يعني إن عجز الذي عليه الحق عن الإملاء فليملل صاحب الحق لأنه أعلم بحقه بِالْعَدْلِ أي بالصدق وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ يعني وأشهدوا على حقوقكم شهيدين لأن المقصود من الكتابة هو الإشهاد مِنْ رِجالِكُمْ يعني من أهل ملتكم يعني من المسلمين الأحرار دون العبيد والصبيان وهذا قول أكثر أهل العلم. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد وحجة هذا القول أن قوله من رجالكم عام يتناول العبيد وغيرهم وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا اجتمعت هذه الشرائط فيه كانت شهادته معتبرة. وحجة جمهور العلماء ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فهذا نص يقتضي أن من تحمل شهادة وجب عليه الأداء إذا ما طولب بها والعبد ليس كذلك فإن السيد إذا لم يأذن له في ذلك حرم عليه الذهاب إلى الشهادة فوجب أن لا يكون العبد من أهل الشهادة فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليشهد رجل وامرأتان، وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال جائزة في الأموال فيثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى أنه يجوز شهادة النساء مع الرجال في سائر الحقوق غير العقوبات، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلّا برجلين عدلين، وذهب الشافعي إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والكبارة والثيوبة ونحوها تجوز شهادة رجل وامرأتين أو شهادة أربع نسوة. واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود، وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ يعني من كان مرضيا عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة. وقبول الشهادة عشرة وهي: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط والسهو، وأن لا يكون بينه وبين من شهد عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته. فالذي يكذب على الله أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر حتى تصح شهادته. ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا تجوز لأن الله تعالى قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيما على الكبائر مصرا على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئا مما يستحيي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعا عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة». قال الفزاري: القانع التابع، أخرجه الترمذي. قوله: لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئا من أوامر الله أو ارتكب شيئا مما نهى الله عنه لا يكون عدلا. والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل: المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم. وقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما أي تنسى إحدى المرأتين فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لأن الغالب على طباع

[سورة البقرة (2): آية 283]

النساء النسيان فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى لو نسيت إحداهما تذكرها الأخرى فتقول حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا فيحصل بذلك الذكرى. وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا والمعنى أن شهادتهما تصيرا كشهادة ذكر، والقول الأول أصح لأنه معطوف على تضل وهو النسيان. وقوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يعني إذا دعوا لتحمل الشهادة وسماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء وهذا أمر إيجاب عند بعضهم. وقال قوم: يجب إذا لم يكن غيره فإن كان غيره فهو مخير، وقيل: هو أمر ندب فهو مخير في جميع الأحوال. وقال بعضهم هذا في إقامة الشهادة وأدائها. ومعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا الأداء الشهادة التي تحملوها. وقيل: الآية في الأمرين جميعا يعني في التحمل والأداء والإقامة إذا كان عارفا. وقيل الشاهد بالخيار ما لم يشهد فإذا شهد وجب عليه الأداء وَلا تَسْئَمُوا أي ولا تملوا ولا تضجروا أَنْ تَكْتُبُوهُ الضمير راجع إلى الحق أو الدين صَغِيراً كان أَوْ كَبِيراً يعني قليلا كان الحق أو الدين أو كثيرا إِلى أَجَلِهِ يعني إلى محل الحق والدين ذلِكُمْ يعني ذلك الكتاب أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعني أعدل عند الله لأنه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ يعني أن الكتابة تذكر الشهود وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يعني وأحرى وأقرب إلى أن لا تشكوا في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أي إلّا أن تقع تجارة حاضرة يدا بيد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي فيما بينكم ليس فيها أجل فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي لا ضرر عليكم أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة الحاضرة، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح، وإنما رخص الله تعالى في الكتابة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس، فلو كلفوا فيها الكتابة والإشهاد لشق ذلك عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتبايعين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلا حاجة إلى الكتابة والإشهاد وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ يعني فيما جرت العادة بالإشهاد فيه. واختلفوا في هذا الأمر فقيل هو للوجوب فيجب أن يشهد في صغير الحق وكبيره ونقده ونسيئته وقيل: هو أمر ندب واستحباب وهو قول الجمهور. وقيل إنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. وقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذا نهي عن المضارة وأصله يضارر بكسر الراء الأولى ومعناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب والشاهد فيأبى أن يشهد أو يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق، وكذلك الشاهد وقيل: أصله يضارر بفتح الراء الأولى ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب والشاهد وهما مشغولان فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي: إن الله أمركما أن تجيبا إذا دعيتما ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن مضارتهما، وأمر أن يطلب غيرهما وَإِنْ تَفْعَلُوا يعني ما نهيتم عنه من الضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي معصية وخروج عن الأمر. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا الله واحذروه فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ يعني ما يكون إرشادا لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادا لكم في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى عليم بجميع مصالح عباده لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي في سفر وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يعني ولم تجدوا آلات الكتابة فَرِهانٌ جمع رهن وقرئ فرهان مَقْبُوضَةٌ يعني فارتهنوا ممن تدينونه رهونا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم، وأصل الرهن الدوام يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت، والرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينا. فإن قلت: لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب ولا يختص به سفر دون حضر وقد صح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رهن

[سورة البقرة (2): آية 284]

درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب. قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب. والإشهاد أمر الله تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعا ومع وجود الكاتب وعدمه. وقال مجاهد: لا يجوز إلّا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية أن الكلام إنما خرج على الأغلب لا على سبيل الشرط. واتفق العلماء على أن الرهن لا يتم إلّا بالقبض وهو قوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يعني ارتهنوا واقبضوا، لأن المقصود من الرهن هو استيثاق جانب صاحب الحق وذلك لا يتم إلّا بالقبض فلو رهن ولم يسلم لم يجبر الراهن على التسليم، فإذا سلم الرهن لزم من جهته حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني فليؤد المديون الذي عليه الحق الذي كان أمينا في ظن الدائن الذي هو صاحب الحق أمانته يعني حقه سمي الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه حيث أمن من جحوده فلم يكتب ولم يشهد عليه ولم يأخذ منه رهنا حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن الذي ائتمنه وأن يؤدي إليه حقه الذي ائتمنه عليه ولم يرتهن منه عليه شيئا ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي المديون في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه، ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ يعني إذا دعيتم إلى إقامتها وأدائها وذلك لأن الشاهد متى امتنع من إقامة الشهادة وكتمها فقد أبطل بذلك حق صاحب الحق فلهذا نهى عن كتمان الشهادة وبالغ في الوعيد عليه فقال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه والآثم الفاجر، وإنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي والصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من بيان الشهادة وكتمانها ففيه وعيد وتحذير لمن كتم الشهادة ولم يظهرها. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وهذا يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها، والمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق: وأجيب عن هذا بأن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إظهاره إلى الوجود، فهذا مما يؤاخذ الإنسان به. والقسم الثاني ما يخطر بالبال ولا يمكن دفعه عن نفسه لكن يكره ولا يعزم على فعله ولا إظهاره إلى الوجود فهذا معفو عنه بدليل قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. وقال قوم: إن هذه الآية خاصة ثم اختلفوا في وجه تخصيصها فقال بعضهم: هي متصلة بالآية التي قبلها وإنما نزلت في كتمان الشهادة ومعنى الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أيها الشهود من كتمان الشهادة أي تخفوه أي تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهذا ضعيف، لأن اللفظ هام وإن كان واردا عقيب قضية فلم يلزم صرفه إليها. وقال بعضهم: إن الآية نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين والمعنى: وإن تبدوا أي تظهروا ما في أنفسكم يعني من ولاية الكفار أو تخفوه فلا تظهروه يحاسبكم به الله. وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها ويدل عليه ما روي عن

أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية. اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصبنا بل قول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها الله عز وجل فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال نعم: «ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا» قال نعم ربنا: «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» قال نعم: «واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين» قال نعم أخرجه مسلم وله عن ابن عباس نحوه وفيه قد فعلت بدل نعم (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به وفي رواية ما وسوست به صدورها» وقال قوم: إن الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد إلّا على الأمر والنهي ولا يرد على الإخبار. وقول الله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر فلا يرد عليه النسخ ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسبا فقال: بما كسبت قلوبكم وليس لله عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة جارحة أو همة قلب إلّا يعلمه الله ثم يخبره به ويحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقال آخرون في معنى الآية: إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه وعاقبهم عليه غير أن معاقبتهم على ما أخفوه أخف مما لم يعملوا به وهو ما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة عن أمية إنها سألت عائشة عن قول الله عز وجل وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وعن قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها، حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة». وقال قوم في معنى الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم يعني مما عزمتم عليه أو تخفوه أي ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله. فأما حديث النفس مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها ولا يؤاخذ به. قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما أخذ بها وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف فيرجع معنى هذه المحاسبة إلى كونه تعالى عالما بكل ما في الضمائر والسرائر مما ظهر وخفي ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله أي يخبركم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله ويعذب الكافرين إظهارا لعدله. يروى عن ابن عباس ويدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله ولم يقل: يؤاخذكم به لأن المحاسبة غير المؤاخذة ويدل عليه أيضا ما روي عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النجوى قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يدني المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: أعرف رب أعرف مرتين فيقول الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: يغفر لمن

[سورة البقرة (2): آية 285]

يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلا ويعذب الكافرين عدلا. قوله عز وجل: [سورة البقرة (2): آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد فعلت ربنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: قد فعلت ربنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال قد فعلت أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. قال الزجاج: لما ذكر الله في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من كلام الحكماء ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بجميع ذلك ومعنى آمن الرسول صدق الرسول يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمعنى صدق الرسول أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ أي وصدق المؤمنون بذلك أيضا كُلٌّ أي كل واحد من المؤمنين آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فهذه أربع مراتب من أصول الإيمان وضرورياته، فأما الإيمان بالله فهو أن يؤمن بأن الله واحد أحد لا شريك له ولا نظير له ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء، وأما الإيمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله. وأما الإيمان بكتبه فهو أن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند الله هي وحي الله إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند الله بغير شك ولا ارتياب، وأن القرآن لم يحرف ولم يبدل ولم يغير، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه يكشف عن متشابهه. وأما الإيمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل الله إلى عباده وأمناؤه على وحيه، وأنهم معصومون وأنهم أفضل الخلق، وأن بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وأجيب عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو إثبات نبوة الأنبياء والرد على اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الأنبياء على بعض بقوله: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض» ومعنى قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فتؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى بل نؤمن بجميع رسله، وفي الآية إضمار تقديره وقالوا: يعني المؤمنين لا نفرق بين أحد من رسله وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك، والمعنى قال المؤمنون: سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به، وأطعناه فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له فيما أمرنا به ونهانا عنه، غُفْرانَكَ رَبَّنا أي نسألك غفرانك ربنا، أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ يعني قالوا، إليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر ذنوبنا. روى البغوي بغير سند عن حكيم بن جابر: «أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله عز وجل قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه». قال بتلقين الله تعالى غفرانك ربنا وإليك المصير. قوله عز وجل:

[سورة البقرة (2): آية 286]

[سورة البقرة (2): آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قيل: يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى ويحتمل أن يكون حكاية عن المؤمنين وفيه إضمار كأنه قال الله تعالى عنهم وقالوا: لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها يعني طاقتها والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه. قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة وذلك أنه لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ضج المؤمنون منها وقالوا: يا رسول الله نتوب من عمل اليد والرجل واللسان فكيف نتوب من الوسوسة وحديث النفس؟ فنزلت هذا الآية. والمعنى أنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة وحديث النفس؟ كان ذلك ما لم تطيقوه وقال ابن عباس في رواية عنه: هم المؤمنون خاصة وسع الله عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم ما لا يستطيعون. كما قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وسئل سفيان بن عيينة عن قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قال: إلّا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قول حسن، لأن الوسع ما دون الطاقة وقيل معناه أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلّا وسعها فلا يتعبدها بما لا تطيق. لَها ما كَسَبَتْ يعني للنفس ما عملت من الخير فلها أجره وثوابه. وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ يعني من الشر عليها وزره وعقابه وقيل في معنى الآية: إن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. قوله عز وجل: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا وهذا تعليم من الله تعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه ومعناه قولوا: ربنا لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فكأنه أعدى عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به. إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فيه وجهان: أحدهما أنه من النسيان الذي هو السهو وهو ضد التذكر قيل: كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة فيحرم عليهم شيء مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك. فإن قلت: أليس فعل الناسي في محل العفو بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى العفو عنه بالدعاء؟ قلت: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن النسيان على ضربين: أما الأول: فهو ما كان من العبد على وجه التضييع والتفريط، وهو ترك ما أمر بفعله كمن رأى على ثوبه دما فأخر إزالته، عنه ثم نسي فصلى فيه، وهو على ثوبه فيعد مقصرا إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته أما إذا لم يره فيعذر فيه وكذا لو ترك ما أمر بفعله على وجه السهو أو ارتكب منهيا عنه من غير قصد إليه كأكل آدم عليه السلام من الشجرة التي نهى عنها على وجه النسيان من غير عزم على المخالفة كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فمثل هذا يجب أن يسأل الله تعالى أن يعفو له عن ذلك. وأما الضرب الثاني فهو كمن ترك صلاة ثم نسيها أو ترك دراسة القرآن بعد أن حفظه حتى نسيه فهذا لا يعذر بنسيانه وسهوه لأنه فرط فثبت أن النسيان على قسمين وإذا كان كذلك صح طلب العفو والغفران عن النسيان. الوجه الثاني من الجواب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من المتقين لله حق تقاتة فإن صدر منهم ما لا ينبغي فلا يكون إلا على سبيل السهو والنسيان فطلبهم العفو والغفران لما يقع منهم على سبيل السهو والنسيان إنما هو لشدة خوفهم وتقواهم. الوجه الثالث أن المقصود من هذا الدعاء هو التضرع والتذلل لله تعالى. وأما الخطأ في قوله أو أخطأنا فعلى وجهين أيضا: أحدهما أن يأتي العبد ما نهي عنه بقصد وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ فيحسن طلب العفو والغفران لذلك الفعل الذي ارتكبه. الوجه الثاني أن يكون الخطأ على

سبيل الجهل والظن لأن له فعله كمن ظن أن وقت الصلاة لم يدخل وهو في يوم غيم فأخرها حتى خرج وقتها فهذا من الخطأ الموضوع عن العبد. لكن طلب العفو والغفران لسبب تقصيره وقوله: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني عهدا ثقيلا وميثاقا غليظا فلا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم عليه، وقيل معناه ولا تشدد علينا كما شددت على اليهود من قبلنا وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه. ونحو هذا من الأثقال والآصار التي كتبت عليهم فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات والعهود الثقيلة وقد أجاب الله تعالى دعاءهم برحمته وخفف عنهم بفضله وكرمه فقال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «وقيل الإصر ذنب لا توبة له فسأل المؤمنون ربهم أن يعصمهم من مثله رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يعني لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا وتكليف ما لا يطاق على وجهين: أحدهما ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر والزمن العدو فهذا النوع من التكليف الذي لا يكلف الله به عبده بحال. الوجه الثاني من تكليف ما لا يطاق هو ما في قدره العبد احتماله مع المشقة الشديدة والكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة والفرائس الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة ونحوه. فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم ما لا طاقة لهم به واستدل بهذه الآية من يقول إن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تخفيفة بالدعاء من الله تعالى. وقيل في قوله ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به هو حديث النفس والوسوسة وقيل هيجان الغلمة وقيل هو الحب وقيل هو شماتة الأعداء وقيل: هو الفرقة والقطيعة وقيل هو مسخ القردة والخنازير نعوذ بالله من ذلك كله وَاعْفُ عَنَّا أي تجاوز عن ذنوبنا وامحها عنا وَاغْفِرْ لَنا أي استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا وَارْحَمْنا أي تغمدنا برحمة تنجينا بها من عقابك فإنه ليس بناج من عقابك إلّا من رحمته. وقيل: إنا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلّا برحمتك، وأصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وإذا وصف بها الله تعالى فليس يراد بها إلّا الإحسان المجرد والتفضل على العباد دون الرقة. وقيل: إن طلب العفو هو أن يسقط عنه عقاب ذنوبه، وطلب المغفرة هو أن يستر عليه صونا له من الفضيحة كأن العبد يقول: أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإذا عفا الله تعالى عن العبد وستره طلب الرحمة التي هي الإنعام والإحسان ليفوز بالنعيم والثواب أَنْتَ مَوْلانا أي ناصرنا وحافظنا وولينا ومتولي أمورنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني الجاحدين الذين عبدوا غيرك وجحدوا وحدانيتك. قال ابن عباس في قوله غفرانك ربنا قال قد غفرت لكم. وفي قوله: لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصرا قال: لا أحمل عليكم ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. قال: لا أحملكم واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. قال قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين. كان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال آمين. (م) عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسرى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها. وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال فراش من ذهب قال فأعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المقحمات. المقحمات: الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار وأصل الاقتحام الولوج. (ق) عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه معناه كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة وشيطان فلا يقربه تلك الليلة وقيل كفتاه عن قيام الليل. (م) عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء

فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلّا اليوم فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله كتب لنا كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب آخر تفسير سورة البقرة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة آل عمران

سورة آل عمران (مدنية وهي مائتا آية وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) قوله عز وجل: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم وهم العاقب واسمه عبد المسيح وهو أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسيد واسمه الأيهم وهو ثمالهم القائم بمالهم وصاحب رحلهم الذي يقوم بأمر طعامهم وشرابهم وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم وكان ملوك الروم يكرمونه لما بلغهم عن علمه واجتهاده في دينه فدخلوا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين كان يصلي العصر وعليهم ثياب الحبرات جبب وأردية يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعوهم فصلوا إلى المشرق فلما فرغوا كلم السيد والعاقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك. قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قال إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا في عيسى فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلّا وهو يشبه أباه قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا: بلى قال ألستم على كل شيء يحفظه ويرزقه. قالوا بلى قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا: لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علم قالوا لا. قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا: بلى قال: بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث. قالوا: بلى قال: فكيف يكون إلها كما زعمتم فسكتوا. فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها زاد بعضهم. فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا حسبنا ثم أبوا إلّا جحودا فأنزل الله ردا عليهم الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني إن كانت منازعتكم يا معشر النصارى في معرفة الإله فهو الله الذي لا إله إلّا هو فكيف تثبتون له ولدا فبين تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه لأنه الواحد الأحد ليس معه إله ولا له ولد ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أما الحي في صفة الله تعالى فهو الدائم الباقي الذي لا يصح عليه الموت. وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 3 إلى 6]

[سورة آل عمران (3): الآيات 3 الى 6] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي بالصدق والعدل مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع. وقوله لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من مجاز الكلام وذلك أن ما بين يديه فهو أمامه فقيل لكل شيء تقدم على الشيء هو بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن. فإن قلت لم قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل. قلت لأن القرآن نزل منجما مفصلا في أوقات كثيرة ونزل هو للتكثير وأنزل التوراة والإنجيل جملة واحدة هُدىً لِلنَّاسِ يعني أن إنزال التوراة والإنجيل قبل القرآن كان هدى للناس. فإن قلت كيف وصف القرآن في أول البقرة بأنه هدى للمتقين ووصف هنا التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس. قلت إنما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين لأنهم هم الذين انتفعوا به وتبعوه ووصف هنا التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس لأن المناظرة كانت مع نصارى نجران وهم يعتقدون صحة التوراة والإنجيل فلهذا السبب قال هنا هُدىً لِلنَّاسِ وقيل إن قوله هدى للناس يعود إلى الكتب الثلاثة يعني القرآن المتقدم ذكره والتوراة والإنجيل وإنما وصف هذه الكتب بأنها هدى للناس لما فيها من الشرائع والأحكام وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني الفارق بين الحق والباطل قيل أراد به القرآن وإنما أعاد ذكره تعظيما لشأنه ومد حاله لكونه فارقا بين الحق والباطل وقيل إنما أعاد ذكره ليبين أنه تعالى أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فارقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى في أمر عيسى عليه السلام وقيل المراد به الكتب الثلاثة لأنها كلها هدى للناس ومفرقة بين الحلال والحرام والحق والباطل. وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني الكتب المنزلة وغيرها قيل أراد بهم نصارى وفد نجران كفروا بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل إن خصوص السبت لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من كفر بشيء من آيات الله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغلب ذُو انْتِقامٍ يعني ممن كفر به والانتقام المبالغة في العقوبة. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا يخفى عليه شيء من أمر العالم وهو المطلع على أحوالهم فقوله: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف والأرحام جمع رحم كَيْفَ يَشاءُ يعني الصور المختلفة المتفاوتة في الحلقة ذكرا أو أنثى أبيض أو أسود حسنا أو قبيحا كاملا أو ناقصا والمعنى أنه الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صورا مختلفة في الشكل والطبع واللون وذلك من نطفة. (ق) عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل؟ فكتب له ذلك في بطن أمه» وقيل إن الآية واردة في الرد على النصارى وذلك أن عيسى عليه السلام كان يخبر ببعض الغيب فيقول: أكلت في دارك كذا صنعت كذا وإنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وخلق من الطين طيرا فادعت

[سورة آل عمران (3): آية 7]

النصارى فيه الإلهية وقالوا: ما قدر على ذلك إلّا أنه إله فرد الله تعالى عليهم بذلك. وأخبر أن الإله المستحق لهذا الاسم هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه المصور في الأرحام كيف يشاء، وأن عيسى عليه السلام ممن صوره في الرحم فنبه بكونه مصور في الرحم على أنه عبد مخلوق كغيره وأنه يخفى عليه ما لا يخفى على الله عز وجل: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وهذا أيضا في الرد على النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله كأنه قال: كيف يكون ولد إله وقد صوره الله في الرحم. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني مبينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه سميت محكمة من الإحكام كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني هن أصل الكتاب الذي يعول عليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام فإن قلت: كيف قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب؟ قلت: لأن الآيات في اجتماعها وتكاملها كالآية الواحدة وكلام الله كله شيء واحد. وقيل: إن كل آية منهن أم الكتاب كما قال وجعلنا ابن مريم وأمه آية يعني أن كل واحد منهما آية وَأُخَرُ جمع أخرى مُتَشابِهاتٌ يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره ومعناه يخالف معناه. فإن قلت: قد جعله هنا محكما ومتشابها وجعله في موضع آخر كله محكما فقال في أول هود الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وجعله في موضع آخر كله متشابها. فقال تعالى في الزمر: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً فكيف الجمع بين هذه الآيات. قلت: حيث جعله كله محكما أراد أنه كله حق وصدق ليس فيه عبث ولا هزل وحيث جعله كله متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحسن والحق والصدق، وحيث جعله هنا بعضه محكما وبعضه متشابها فقد اختلفت عبارات العلماء فيه فقال ابن عباس: المحكمات الثلاث آيات التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ونظيرها في بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الآيات. وعنه أن الآيات المحكمة هي الناسخ والمتشابهات هي الآيات المنسوخة وبه قال ابن مسعود وقتادة والسدي وقيل إن المحكمات ما فيه أحكام الحلال والحرام والمتشابهات ما سوى ذلك يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا وقيل: إن المحكمات ما طلع الله عباده على معناه والمتشابه ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة فجميع هذا مما استأثر الله بعلمه وقيل: إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل أوجها وروي ذلك عن الشافعي وقيل إن المحكم سائر القرآن والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور. قال ابن عباس إن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له حيي بلغنا: أنك أنزل عليك الم فأنشدك الله أأنزل عليك قال نعم. قال: إن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل عليك غيرها؟ قال: نعم آلمص قال: فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة فهل أنزل عليك غيرها؟ قال نعم الر قال: هذه أكثر هي مائتان وإحدى وثلاثون سنة فهل من غيرها؟ قال: نعم آلمر قال هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة. وقد اختلط علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا. فأنزل الله هذه الآية قوله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ وقيل: إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما

تكررت ألفاظه وقيل: إن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه ما احتاج إلى بيان وقيل: إن المحكم هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والمتشابه هو القصص والأمثال. فإن قلت: إنما نزل القرآن لبيان الدين وإرشاد العباد وهدايتهم فما فائدة المتشابه وهلا كان كله محكما؟ قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة أحدها. أن القرآن أنزل بألفاظ العرب ولغاتهم وكلام العرب على ضربين أحدهما: الإيجاز للاختصار والموجز الذي لا يخفى على سامعه لا يحتمل غير ظاهره، والإطالة لبيان المراد والتوكيد. الضرب الثاني: المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات وإغماض بعض المعاني، وهذا الضرب هو المستحسن عند العرب والبديع في كلامهم فأنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما واضحا لقالوا: هلا أنزل بالضرب المستحسن عند الجواب الثاني أن الله تعالى أنزل المتشابه لفائدة عظيمة، وهي أن يشتغل أهل العلم والنظر بردهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ويتصل بالبحث عن معانيه اهتمامهم فيثابون على تعبهم كما أثبتوا على عباداتهم. ولو أنزل القرآن كله محكما لاستوى في معرفته العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره ولماتت الخواطر وخمدت الفكرة، ومع الغموض تقع الحاجة إلى الفكرة والحيلة إلى استخراج المعاني. وقد قيل في عيب الغنى إنه يورث البلادة وفي فضيلة الفقر إنه يورث الفطنة. وقيل: إنه يبعث على الحيلة لأنه إذا احتاج احتال. الجواب الثالث: أن أهل كل علم يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة ليختبروا بذلك أذهان المتعلمين منهم على انتزاع الجواب لأنهم إذ قدروا على انتزاع المعاني الغامضة كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو. الجواب الرابع: ان الله تعالى أنزل المتشابه في كتابه مختبرا به عباده ليقف المؤمن عنده ويرد علمه إلى عالمه فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق فيداخله الزيغ فيستحق بذلك العقوبة كما ابتلى بنو إسرائيل بالنهر والله أعلم بمراده. وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق وقيل: الزيغ الشك واختلفوا في المعنى بهم والمشار إليهم فقيل هم وفد نجران الذين خاصموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عيسى عليه السلام وقالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته؟ قال: بلى قالوا: حسبنا فأنزل الله هذه الآية. وقيل: هم اليهود لأنهم طلبوا معرفة مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه بحساب الجميل من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: هم المنافقون وقيل: هم الخوارج وكان قتادة يقول: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم. وقيل هم جميع المبتدعة فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ يعني يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ثم نسخت. وقيل كل من احتج لباطله بالمتشابه فهو المعنى بهذه الآية. (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- إلى- وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فقال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم» وقوله تعالى: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك والكفر. وقيل: طلب الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم وقيل: طلب إفساد ذات البين وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي تفسيره. وأصل التأويل في اللغة: المرجع والمصير تقول: آل الأمر إلى كذا إذا رجع إليه وتسمى العاقبة تأويلا لأن الأمر يصير إليه. قال ابن عباس في قوله: وابتغاء تأويله أي طلب بقاء ملك محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: المراد بهم الكفار طلبوا متى يبعثون وكيف أحياهم بعد الموت وقيل هو طلب تفسير المتشابه وعلمه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني تأويل المتشابه وقيل: لا يعلم انقضاء ملك هذه الأمة إلّا الله تعالى لأن انقضاء ملكها مع قيام الساعة. ولا يعلم ذلك إلّا الله وقيل: يجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كعلم قيام الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وعلم الحروف المقطعة، وأشباه ذلك مما استأثر الله بعلمه فالإيمان به واجب وحقائق علومه مفوضة إلى الله تعالى، وهذا قول أكثر المفسرين وهو مذهب ابن

[سورة آل عمران (3): الآيات 8 إلى 11]

مسعود وابن عباس في رواية عنه، وأبي بن كعب وعائشة وأكثر التابعين فعلى هذا القول تم الكلام عند قوله: إِلَّا اللَّهُ فيوقف عليه ثم ابتدأ فقال عز من قائل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الثابتون في العلم وهم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في علمهم شك يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال ابن عباس: سماهم راسخين في العلم بقولهم آمنا به فرسوخهم في العلم هو الإيمان به. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يعني المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا منه وما لم نعلم ونحن متعبدون في المتشابه بالإيمان به، ونكل معرفته إلى الله تعالى. وفي المحكم يجب علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه. وروي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه فمنه تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله. وقيل: إن الواو في قوله والراسخون في العلم واو عطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون آمنا به. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وعن مجاهد عنه أنا ممن يعلم تأويله. ووجه هذا القول أن الله تعالى أنزل كتابه لينتفع به عباده ولا يجوز أن يكون في القرآن شيء لا يعرفه أحد من الأمة وفي المراد بالراسخين في العلم هنا قولان أحدهما: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. والقول الثاني: أن الراسخين هم العلماء العاملون بعلمهم. سئل أنس بن مالك عن الراسخين في العلم فقال: العالم العامل بما علم المتبع له وقيل، الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي وما يتعظ بما في القرآن إلّا ذوو العقول وهذا ثناء من الله عز وجل على الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 8 الى 11] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي ويقول الراسخون في العلم: ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي أعطنا توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى وقيل: هب لنا تجاوزا ومغفرة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض والوهاب في صفة الله تعالى أنه يعطي كل أحد على قدر استحقاقه. (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» هذا من أحاديث الصفات وللعلماء فيه قولان أحدهما: الإيمان به وإمراره كما جاء، من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه بل نؤمن به كما جاء وأنه حق ونكل علمه إلى مراد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم. والقول الثاني إنه يتأول بحسب ما يليق به وأن ظاهره غير مراد قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فعلى هذا المراد هو المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي يريد أنه تحت قدرته وفي تصرفه إلّا أنه حال في كفه فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراد منها كما لا يمتنع على الإنسان ما بين إصبعيه فخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما يفهمونه ويعلمونه من أنفسهم، وإنما ثنى لفظ

[سورة آل عمران (3): الآيات 12 إلى 13]

الإصبعين والقدرة واحدة لأنه جرى على المعهود من التمثيل بحسب ما اعتادوه وإن كان غير مقصود به التثنية أو الجمع، وهذا مذهب جمهور المتكلمين وغيرهم من المتأخرين. وإنما خص القلوب بالذكر لفائدة وهي أن الله تعالى جعل القلوب، محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال ثم جعل سائر الجوارح تابعة للقلوب في الحركات والسكنات والله أعلم. قوله عز وجل: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي ليوم القضاء. وقيل: اللام بمعنى في أي يوم لا ريب فيه أي لا شك فيه أنه كائن وهو يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ هذا من بقية دعاء الراسخين في العلم، وذلك أنهم طلبوا من الله تعالى أن يصرف قلوبهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة وذلك من مصالح الدين والدنيا ثم إنهم اتبعوا ذلك بقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ومعناه إنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك حق، وأنك لا تخلف الميعاد فمن أزغت قلبه فهو هالك، ومن مننت عليه بالهداية والرحمة فهو ناج من العذاب سعيد. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: هم قريظة والنضير لَنْ تُغْنِيَ أي لن تنفع ولن تدفع عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من عذاب الله شيئا وقيل: من بمعنى عند أي عند الله شيئا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قال ابن عباس: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر. وقيل: كسنة آل فرعون وقيل كعادة آل فرعون والمعنى أن عادة هؤلاء الكفار في تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجحود الحق كعادة آل فرعون فإنهم كذبوا موسى وصدقوا فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كفار الأمم الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني لما جاءتهم بها الرسل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي فعاقبهم الله بسبب تكذيبهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ وقيل في معنى الآية: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 12 الى 13] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ قرئ بالتاء والياء فيهما فمن قرأ بالياء المنقوطة تحت فمعناه بلغهم يا محمد أنهم سيغلبون ويحشرون، ومن قرأ التاء المنقوطة فوق فمعناه قل لهم: ستغلبون وتحشرون إِلى جَهَنَّمَ قيل: أراد بالذين كفروا مشركي قريش والمعنى قل لكفار مكة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون في الآخرة إلى جهنم فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم وقيل: إن أبا سفيان جمع جماعة من قومه بعد وقعة بدر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن هذه الآية نزلت في اليهود. وقال ابن عباس: إن يهود المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر، هذا والله النبي الذي بشر به موسى لا ترد له راية وأرادوا إتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا واقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوا وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة فنقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة ليستفزهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل لكم ما نزل بهم فقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا الله لو قاتلناك لعرفت إنا نحن الناس. فأنزل الله عز وجل قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني من اليهود سَتُغْلَبُونَ أي ستهزمون وَتُحْشَرُونَ يعني في الآخرة إلى جهنم وَبِئْسَ

الْمِهادُ أي الفراش والمعنى: بئس ما مهد لهم في النار. قوله عز وجل: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا قيل: الخطاب للمؤمنين يروى ذلك عن ابن مسعود والحسن. وقيل: هو خطاب لكفار مكة فيكون عطفا على الذي قبله فيخرج على قول ابن عباس (1). وقيل: هو خطاب لليهود قاله ابن جرير. فإن قلت: لم قال قد كان لكم آية ولم يقل قد كانت لأن الآية مؤنثة؟ قلت: كل ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره وقيل: إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ. وقال الفراء: إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه ومعنى الآية قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون في فئتين أي فرقتين وأصلها في الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض أي يرجع الْتَقَتا يعني يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان وكان معهم من السلاح ستة أذرع وثمانية سيوف. وقوله تعالى: وَأُخْرى كافِرَةٌ أي وفرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة وكان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مائة فرس وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرئ بالتاء يعني ترون أهل مكة ضعفي المسلمين يا معشر اليهود وذلك أن جماعة من اليهود كانوا قد حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة ولمن النصر فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين، ورأوا النصر للمسلمين فكان ذلك معجزة. وقرئ يرونهم بالياء واختلفوا في وجه قراءة الياء فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما: يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم. فإن قلت: كيف قال مثليهم وإنما كانوا ثلاثة أمثالهم. قلت: هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا محتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم ووجه آخر وهو أن يكون الله تعالى أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي يعلم المؤمنون أنهم يغلبونهم لإزالة الخوف من قلوبهم، وهذا التأويل الثاني هو الأصح قلل الله المشركون في أعين المسلمين حتى رأوهم مثليهم. فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وبين قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وكيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين أو المسلمين استكثروا المشركين، وإن الفئتين تساويا في استقلال إحداهما الأخرى. قلت: إن التقليل والتكثير كانا في حالتين مختلفتين فإن قيل: إن الفئة الرائية هم المسلمون فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه. ثم قلل الله المشركين في أعين المسلمين حتى اجترءوا عليهم فصبروا على قتالهم بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا فاهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وفي رواية أخرى عنه قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة قال فأسرنا منهم رجلا فقلنا: كم كنتم قال: ألفا وإن قلنا إن الفئة الرائية هم المشركون على قول بعضهم إن الرؤية راجعة إلى المشركين يعني رأى المشركون المسلمين مثليهم فقلل الله المسلمين في أعين المشركين في أول القتال ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا، فلما أخذوا في القتال كثر الله المسلمين في أعين المشركين ليجبنوا فيكون ذلك سبب خذلانهم، وقد روي أن المشركين لما أسروا يوم بدر قالوا للمسلمين: كم كنتم قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا قالوا: يعني المشركين ما كنا نراكم إلّا تضعفون علينا فكان في وقعة بدر أحوال في التكثير والتقليل وما ذلك إلّا إظهارا للقدرة التامة وقوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي في رأي العين وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من النصرة. وقيل رؤية الجيش مثليهم لَعِبْرَةً أي لآية والعبرة الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى

[سورة آل عمران (3): آية 14]

العلم وأصلها من العبور كأنه طريق يعبرونه فيوصلهم إلى مرادهم. وقيل: العبرة هي التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول والبصائر. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) زُيِّنَ لِلنَّاسِ قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى لأنه تعالى خالق الجميع أفعال العباد ولأن الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبد تزيين لها قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ وقال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها وقال تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكل ذلك يدل على أن المزين هو الله تعالى. ومما يؤيد ذلك قراءة مجاهد زين بفتح الزاي على تسمية الفاعل وقال الحسن: المزين هو الشيطان وهو قول طائفة من المعتزلة ويدل على ذلك أن الله تعالى زهد في هذه الأشياء بأن أعلم عباده زوالها. ولأن الله تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة، والمزين لذلك هو الشيطان، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا ويدل عليه آخر الآية وهو قوله تعالى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة أن كل ما كان حراما كان المزين له هو الشيطان، وكل ما كان مباحا كان المزين له هو الله تعالى، والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة لأن الله تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه. وقوله تعالى: حُبُّ الشَّهَواتِ يعني المشتهيات لأن الشهوة توقان النفس إلى الشيء المشتهى مِنَ النِّساءِ إنما بدأ بذكر النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان وَالْبَنِينَ إنما خص البنين بالذكر لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ووجه حبه ظاهر لأنه يتكثر به ويعضده ويقوم مقامه. وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمة بالغة وهي بقاء التوالد ولو زالت تلك المحبة لما حصل ذلك وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ جمع قنطار وسمي قنطارا من الإحكام والعقد يقال: قنطرته إذا أحكمته ومنه القنطرة المحكمة الطاق واختلفوا في القنطار هل محدود أو غير محدود؟ على قولين أحدهما: أنه محدود ثم اختلفوا في حده فروي عن معاذ بن جبل أن القنطار ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: ألف ومائتا مثقال وعنه أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم وبه قال الحسن: وقال سعيد بن جبير: هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم. ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة: هو ثمانون ألفا وقال مجاهد: سبعون ألفا. وقال السدي: هو أربعة آلاف مثقال والقول الثاني: إن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس: القنطار مال الكثير بعضه على بعض وروي عن أبي عبيدة أنه حكي عن العرب أن القنطار وزن لا يحد وهو اختيار ابن جرير الطبري وغيره. وقال الحاكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال أبو نصرة: القنطار ملء مسك ثور ذهبا أو فضة وقال القنطار من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بعبور القنطرة المقنطرة أي المجموعة وقيل: المضاعفة لأن القناطير جمع وأقله ثلاثة والمقنطرة المضاعفة أن تكون ستة أو تسعة وقيل المقنطرة المسكوكة المنقوشة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنما بدأ بهما من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء وإنما كانا محبوبين لأن المالك لهما مالك قادر على ما يريده وهي صفة كمال وهي محبوبة. وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى والفضة لأنها تنفض أي تتفرق وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط سميت الأفراس خيلا لاختيالها في مشيتها. وقيل: لأن الخيل لا يركبها أحد إلّا وجد في نفسه مخيلة عجبا واختلفوا في معنى المسومة على ثلاثة أقوال القول الأول: إنها الراعية يقال أممت الدابة وسومتها إذا أرسلتها المرعى والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها والقول

[سورة آل عمران (3): آية 15]

الثاني أنها من السمة وهي العلامة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقيل: الثالث هي الغرة والتحجيل التي تكون في الخيل وقيل: هي الخيل البلق وقيل: هي المعلمة بالكي. والقول الثالث: إنها المضمرة الحسان وتسويمها حسنها وَالْأَنْعامِ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها إلّا للإبل خاصة فإنه غلب عليها وَالْحَرْثِ يعني الزرع ذلِكَ يعني ذلك الذي ذكر من هذه الأصناف مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي الذي يستمتع به في الحياة الدنيا وهي زائلة فانية يشير إلى أن الحياة الدنيا متاع يفني وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة. وقيل: فيه إشارة إلى أن من أتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ يعني الذي ذكر من متاع الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا قال ابن عباس في رواية عنه يريد المهاجرين والأنصار. أراد أن يعرفهم ويشوقهم إلى الآخرة قال العلماء: ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك عِنْدَ رَبِّهِمْ معناه أن الله تعالى أخبر أن ما عنده خير مما كان في الدنيا وإن كان محبوبا فحثهم على ترك ما يحبون لما يرجون ثم فسر لك الخير فقال تعالى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ. (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك: فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك فيقول، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا وقيل: إن العبد إذا علم أن الله تعالى قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني أن الله تعالى عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كلّا على عمله فيثبت ويعاقب على قدر الأعمال. وقيل: إن الله تعالى بصير بالذين اتقوا فلذلك أعدلهم الجنات. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 16 الى 18] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صدقنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي استر علينا وتجاوز عنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. قوله عز وجل: الصَّابِرِينَ يعني على أداء الواجبات وعن المحرمات والمنهيات، وفي البأساء والضراء وحين البأس. وقيل: الصابرين على دينهم وما أصابهم وَالصَّادِقِينَ يعني في إيمانهم. وقال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت ألسنتهم وقلوبهم في السر والعلانية والصدق يكون في القول والأفعال والنية، فأما صدق القول فهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل هو عدم الانصراف عنه قبل إتمامه، والصدق في النية العزم على الفعل حتى يبلغه. وَالْقانِتِينَ يعني المطيعين لله وقيل لهم المصلون، وهو عبارة عن دوام الطاعة والمواظبة عليها وَالْمُنْفِقِينَ يعني أموالهم في طاعة الله تعالى، ويدخل فيه نفقة الرجل على نفسه وعلى أهله وأقاربه وصلة رحمه، والزكاة والنفقة في جميع القربات وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يعني المصلين بالسحر وهو الوقت بعد ظلمة الليل إلى طلوع الفجر، وقيل كانوا يصلون بالليل حتى إذا كان وقت السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار فكان هذا دأبهم في ليلهم. قال نافع: كان ابن عمر يحيي الليل ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا

[سورة آل عمران (3): آية 19]

فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر ويدعو حتى يصلي الصبح. (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له. وفي لفظ مسلم فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني الحديث وله في رواية أخرى فيقول: هل من سائل؟ فيعطى هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الصبح»؟ هذا الحديث من أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان معروفان مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية عنه، والمذهب الثاني هو مذهب من يتأول أحاديث الصفات. قال أبو سليمان الخطابي: إنما ينكر هذا الحديث من يقيس الأمور على ما يشاهده من النزول الذي هو تدل من أعلى إلى أسفل، وانتقال من فوق إلى تحت وهذا صفة الأجسام، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه، وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقيل في قوله: والمستغفرين بالأسحار وصف الله تعالى هؤلاء بما وصف ثم بين أنهم مع ذلك لشدة خوفهم ووجلهم أنهم يستغفرون بالأسحار. وروي أن لقمان قال لابنه: يا بني لا تكن أعجز من الديك فإنه يصوت بالأسحار وأنت نائم الجنة. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني بيان نعته وصفته في كتبهم. وقال الربيع: إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل وأودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة والاختلاف، بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب وهم من أبناء الملوك السبعين حتى أهرقوا الدماء ووقع الشر والاختلاف، وذلك بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة من الأحكام بَغْياً بَيْنَهُمْ أي طلبا بينهم للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة. وقيل: نزلت في نصارى نجران ومعناه وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني الإنجيل واختلافهم كان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ادعوا فيه من الإلهية إلا من بعد ما جاءهم العلم. يعني بأن الله تعالى واحد أحد وأن عيسى عبده ورسوله بغيا بينهم يعني المعاداة والمخالفة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وعيد وتهديد لمن أصر على الكفر من اليهود والنصارى الذين جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصموك يا محمد في الدين، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب والدين هو الإسلام ونحن عليه فأمر الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يحتج عليهم بأنه اتبع أمر الله الذي هم يقرون به بقوله: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي انقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف جوارح الإنسان الظاهرة إذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه وقيل: أراد بالوجه العمل أي خلصت عملي لله وقصدت بعبادتي الله وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني ومن أسلم كما

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 إلى 23]

أسلمت أنا وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ يعني مشركي العرب أَأَسْلَمْتُمْ لفظه استفهام ومعناه أمر أي أسلموا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا يعني إلى الفوز والنجاة في الآخرة، فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: قد أسلمنا فقال لليهود: أتشهدون أن موسى كليم الله وعبده ورسوله فقالوا: معاذ الله وقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدا قال الله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعني تبليغ الرسالة. وليس عليك هدايتهم واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في الآية فذهب طائفة إلى أنها محكمة، والمراد بها تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يحرص على إيمانهم ويتألم لتركهم الإجابة، وذهب طائفة إلى أنها منسوخة بآية السيف لأن المراد بها الاقتصار على التبليغ وهذا منسوخ بآية السيف وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني أنه تعالى عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 23] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني يجحدون القرآن وينكرونه وهم اليهود والنصارى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ كان أنبياء بني إسرائيل يأتيهم الوحي ولم يكن يأتيهم كتاب لأنهم كانوا ملتزمين بأحكام التوراة، فكانوا يذكرون قومهم فيقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم وصدقهم فيذكرونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فيقتلونهم أيضا، فهم الذين يأمرون بالقسط يعني بالعدل من الناس. روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ «قال رجل: قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إلى أن انتهى إلى قوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال على فراشك. وقيل: هم الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة فعلى هذا القول إنما سميت الصلاة استغفارا لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة. قوله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قيل سبب نزول الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا فإنا نسألك عن شيء: فإن أنت أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال: اسألاني قالا: فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الحبران. وقيل: إن هذه الآية نزلت في نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام فقوله تعالى: شهد الله يعني بيّن الله وأظهر لأن معنى الشهادة تبيين وإظهار. وقيل: معنى شهد الله حكم الله وقضى. وقيل: معناه أعلم الله أنه لا إله إلّا هو وذلك بيان الدلائل لما أمكن التوصل إلى معرفة الوحدانية، فهو تعالى أرشد عباده إلى معرفة توحيده بما بين من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته سئل بعض الأعراب ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على وجود الصانع الخبير. قال ابن عباس: خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه بنفسه

قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ أي وشهد الملائكة فمعنى شهادة الله تعالى الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والاعتراف بأنه لا إله إلّا هو، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة حسن إطلاق لفظ الشهادة عليهما وَأُولُوا الْعِلْمِ أي وشهد أولوا العلم بأنه لا إله إلا هو، واختلفوا في أولي العلم فقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق بالله تعالى وقيل: هم علماء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار وقيل: هم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم علماء جميع المؤمنين قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل نصب على الحال والقطع أو المدح ومعناه أنه تعالى قائم بتدبير خلقه كما يقال: فلان قائم بأمر فلان يعني أنه مدبر له ومتعهد لأسبابه، وفلان قائم بحق فلان، أي أنه مجاز له فالله مدبر أمر خلقه وقائم بأرزاقهم ومجاز لهم بأعمالهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرره للتأكيد، وقيل إن الأول وصف وتوحيد والثاني رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلّا هو. وقيل فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه فيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يقهر الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ يعني أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام كما قال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وفيه رد على اليهود والنصارى وذلك لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية رد الله عليهم ذلك فقال: إن الدين عند الله الإسلام. وقرئ أن الدين بفتح الهمزة ردا على أن الأولى والمعنى شهد الله أنه لا إله إلّا هو، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وأصل الدين في اللغة الجزاء. يقال كما تدين تدان ثم صار اسما للملة والشريعة، ومعناه الانقياد للطاعة والشريعة، قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم وهو الاستسلام والانقياد والدخول في الطاعة. وروى البغوي بسند الثعلبي عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كان ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا. قلت: سمع فيها شيئا فصليت الصبح معه وودعته ثم قلت له: إني سمعتك ترددهما فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدثك فيها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يجاء بصاحبها يوم القيامة. فيقول الله عز وجل: إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفي بالعهد أدخلوا عبدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم» فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إنما دخلت الفاء في قوله فبشرهم مع أنه خبر إن لأنه في معنى الجزاء والتقدير من كفر فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، وهذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار الكفار بالعذاب قام مقام بشرى المحسنين بالثواب، وفي هذه الآية توبيخ لليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن كان أسلافهم الذين قتلوا الأنبياء لأنهم رضوا بفعلهم أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أي بطلت أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وبطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا ولا يجازى عليه في الآخرة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني يمنعونهم من العذاب. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أنزلت في اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ يعني القرآن، وذلك أن اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه. قال ابن عباس: إن الله جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على

[سورة آل عمران (3): الآيات 24 إلى 26]

غير الهدى فأعرضوا عنه. وروي عن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم. قال: إن إبراهيم كان يهوديا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله الآية. فعلى هذا القول يكون المراد بكتاب الله التوراة. وروي عنه أيضا أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم. فقال النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو: جرت عليهما يا محمد وليس عليهما الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيني وبينكم التوراة» فقالوا: قد أنصفت. فقال من أعلمكم بالتوراة؟ فقالوا رجل أعور يقال له عبد الله بن صوريا يسكن فدك فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبريل قد وصفه للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أأنت ابن صوريا؟ قال: نعم قال: أنت أعلم اليهود بالتوراة. قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتوراة وقال له: اقرأ فقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها وقرأ ما بعدها فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله قد جاوزها ثم قام ورفع كفه عنها وقرأها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى اليهود وفيها: أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديين فرجما فغضبت اليهود لذلك فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني علمهم الذي علموه من التوراة يدعون إلى كتاب الله يعني القرآن أو التوراة على اختلاف الروايتين لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليقضي بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني الرؤساء والعلماء وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن الحق وقيل الذين تولوا هم العلماء، والذين أعرضوا هم الأتباع. [سورة آل عمران (3): الآيات 24 الى 26] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ تقدم تفسيره في سورة البقرة وَغَرَّهُمْ أي وأطمعهم فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يحلفون ويكذبون قيل: هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل: هو قولهم: لن تمسنا النار إلّا أياما معدودات وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لِيَوْمٍ أي في يوم لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي لا شك فيه أنه كائن وواقع وهو يوم القيامة، وفيه تهديد لهم واستعظام لما أعد لهم في ذلك اليوم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم فيه وإن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وطمع فيما لا يكون ولا يحصل لهم. قيل: إن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود تفضحهم على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من حسناتهم إن كانت لهم حسنة ولا يزاد على سيئاتهم. قوله عز وجل: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم دعا ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ معناه يا الله لما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره. وقيل: إن الميم فيه معنى آخر

[سورة آل عمران (3): آية 27]

وهو يا الله أمنا بخير أي اقصدنا مالك الملك أي مالك العباد وما ملكوا. وقيل: مالك السموات والأرض، وقيل معناه بيده الملك يؤتيه من يشاء وقيل: معناه مالك الملوك ووارثهم يوم لا يدعي الملك أحد غيره. وفي بعض كتب الله المنزلة أنا الله ملك الملوك ومالك الملك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم. وقيل: الملك هو القدرة والمالك هو القادر. والمعنى أنه تعالى قادر على كل شيء، وملك على كل مالك، ومملوك وقادر ومقدور. وقيل: معناه مالك الملك أي جنس الملك يتصرف فيه كيف يشاء تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ يعني النبوة لأنها أعظم مراتب الملك، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم له الأمر على بواطن الخلق وظواهرهم، والملك ليس له الأمر إلّا على ظواهر بعض الخلق وهو من يطيعه منهم وطاعة النبي واجبة على الكافة وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ يعني بذلك نزع النبوة من بني إسرائيل وإيتاءها محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا نبي بعده ولم يشركه في نبوته ورسالته أحد، وقيل: تؤتي الملك من تشاء يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتنزع الملك ممن تشاء، يعني من أبي جهل وصناديد قريش وقيل تؤتي الملك من تشاء يعني أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتنزع الملك ممن تشاء يعني فارس والروم. وقيل: تؤتي الملك من تشاء يعني آدم وذريته وتنزع الملك ممن تشاء يعني إبليس وجنوده الذين كانوا في الأرض قبل آدم. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة والرسالة وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ يعني اليهود بأخذ الجزية منهم ونزع النبوة عنهم، وقيل: تعز المهاجرين والأنصار، وتذل فارس والروم، وقيل: تعز من تشاء يعني محمدا وأصحابه دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء يعني أبا جهل وأضرابه حين قتلوا وألقوا في قليب بدر يوم بدر، وقيل: تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل: تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر، وقيل: تعز من تشاء بالقناعة والرضا، وتذل من تشاء بالحرص والطمع بِيَدِكَ الْخَيْرُ يعني النصر والغنيمة. وقيل: الألف واللام تفيد العموم والمعنى بيدك كل الخيرات. فإن قلت: كيف قال بيدك الخير دون الشر. قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله تعالى إلى عباده المؤمنين وهو الذي أنكرته اليهود والمنافقون فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك. وقيل: إن قوله بيدك الخير لا ينافي أن يكون بيد غيره، فيكون المعنى بيدك الخير وبيدك ما سواه إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه المنتفع به والمرغوب فيه. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إيتاء الملك من تشاء، وإعزاز من تشاء وإذلال من تشاء. [سورة آل عمران (3): آية 27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الآية. لما ذكر الله تعالى أنه مالك الملك أردفه بذكر قدرته الباهرة في حال الليل والنهار، وفي المعاقبة بينهما وحال إخراج الحي من الميت ثم عطف عليه أنه يرزق من يشاء بغير حساب، وفي ذلك دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة لذوي الأفهام والعقول، فهو قادر أن ينزع الملك من فارس والروم واليهود ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم فقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني تدخل الليل في النهار وهو أن تجعل الليل قصيرا وما نقص منه زائدا في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل. وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره. وقيل: المراد أنه تعالى يأتي بسواد الليل عقيب ضوء النهار، ويأتي بضوء النهار بعد ظلمة الليل والقول الأول أصح وأقرب إلى معنى الآية لأنه إذا نقص الليل كان ذلك القدر زيادة في النهار وبالعكس وهو معنى الولوج. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وهو أنه تعالى يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من

[سورة آل عمران (3): آية 28]

الإنسان ويخرج الفرخ وهو حي من البيضة وهي ميتة وبالعكس، وكذلك سائر الحيوان. وقيل: يخرج النبات الغض الأخضر من الحب اليابس، ويخرج النخلة من النواة وبالعكس. وقيل: معناه أنه تعالى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن لأن المؤمن حي الفؤاد، والكافر ميته وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني من غير تضييق ولا تقتير، بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه. [سورة آل عمران (3): آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قوله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودة لكفار مكة. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون المشركون واليهود ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. وقيل: إن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية. وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ يعني أنصارا وأعوانا من دون المؤمنين يعني من غير المؤمنين، والمعنى لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن نهى الله المؤمنين أن يوالوا الكفار أو يلاطفوهم لقرابة بينهم أو محبة أو معاشرة، والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني موالاة الكفار من نقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين أو يودهم ويحبهم فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي فليس من دين الله في شيء. وقيل: معناه فليس من ولاية الله في شيء وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي إلّا أن تخافوا منهم مخافة. ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلّا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفارا فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو غير ذلك من المحرمات، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ثم هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم، وأنكر قوم التقية اليوم وقالوا: إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: إن الحسن يقول: التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان فقال سعيد: ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب. وقيل: إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي ويخوفكم الله أن تعصوه بأن ترتكبوا المنهي أو تخالفوا المأمور به أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني أن الله يحذركم عقابه إذا صرتم إليه في الآخرة. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 إلى 30]

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 30] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ يعني ما في قلوبكم من موالاة الكفار ومودتهم وإنما ذكر الصدر لأنه وعاء القلب أَوْ تُبْدُوهُ يعني تبدوا مودة الكفار قولا وفعلا وقيل معناه إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تبدوه أي تظهروه بالحرب والمقاتلة له يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يحفظه عليكم ويجازيكم به، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض فكيف يخفى عليه حالكم وموالاتكم الكفار وميلكم إليهم بقلوبكم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يعني تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا يوم القيامة لم ينقص ولم يبخس منه شيء، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي تجد ما عملت من الخير محضرا فتسر به وما عملت من سوء تَوَدُّ أي تتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي وبين ما عملت من السوء أَمَداً بَعِيداً أي مكانا بعيدا قيل: كما بين المشرق والمغرب والأمد الأجل والغاية، وقيل معناه تود أنها لم تعمله ويكون بينها وبينه أمد بعيد وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إنما كرره لتأكيد الوعيد وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قيل: معناه أنه رؤوف بهم حيث حذرهم نفسه وعرفهم كمال قدرته وعلمه، وأنه يمهل ولا يهمل. وقيل: معناه أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة ولتدارك العمل الصالح. وقيل: إنه تعالى لما قال: ويحذركم الله نفسه وهو وعيد أتبعه بقوله والله رؤوف بالعباد، وهو وعد ليعلم العبد المؤمن أن رحمته ووعده غلبت وعيده وسخطه. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فنزلت هذه الآية، فعرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم فلم يقبلوها. وقال ابن عباس: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل فقالت قريش: إنما نعبدها حبا لله لتقربنا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية. وقيل: إن نصارى نجران قالوا: إنما نقول هذا القول في عيسى حبا لله وتعظيما له فأنزل الله قُلْ يا محمد إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فيما تزعمون فاتبعوني يحببكم الله لأنه قد ثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة فوجب على كافة الخلق متابعته. والمعنى قل: إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره مطيعين له فاتبعوني، فإن اتباعي من محبة الله تعالى وطاعته. وقال العلماء: إن محبة العبد لله عبارة عن إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد ثناؤه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه فذلك قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يعني أن من غفر له فقد أزال عنه العذاب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله عز وجل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني أن طاعة الله متعلقة بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن طاعته لا تتم مع عصيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: كل أمر أو نهي ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جرى ذلك في الفريضة واللزوم مجرى ما أمر الله به في كتابه أو نهى عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن طاعتكم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم طاعتكم لي، فأمّا أن تطيعوني وتعصوا محمدا فلن أقبل منكم. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم. (خ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلّا من أبى قالوا: ومن

[سورة آل عمران (3): الآيات 33 إلى 35]

يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى». (ق) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني». قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 35] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإسلام. ومعنى اصطفى اختار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء آدم هو أبو البشر عليه السلام ونوحا هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام. وحكى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه وَآلَ إِبْراهِيمَ قيل: أراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه، وقيل آل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذلك أن الله تعالى جعل إبراهيم أصلا لشعبتين فجعل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أصلا للعرب ومحمد صلّى الله عليه وسلّم منهم فهو داخل في هذا الاصطفاء، وجعل إسحاق أصلا لبني إسرائيل، وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم جمع له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة. وقيل: أراد بآل إبراهيم من كان على دينه وَآلَ عِمْرانَ واختلفوا في عمران هذا فقيل: هو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وهو والد موسى وهارون فيكون آل عمران موسى وهارون أو نفسه، وقيل: هو عمران بن آشيم بن آمون وقيل: ابن ماتان وهو من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وعمران هذا هو والد مريم وابنها عيسى فعلى هذا يكون المراد بآل عمران مريم وابنها عيسى عليه السلام، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم عَلَى الْعالَمِينَ أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم من النبوة والرسالة ذُرِّيَّةً أي اصطفى ذرية وأصلها من ذرأ بمعنى خلق وقيل: من الذر لأن الله تعالى استخرجهم من ظهر آدم كالذر وإنما سمي الآباء والأبناء ذرية لأن الله خلق بعضهم من بعض، فالأبناء من ذرية الآباء والآباء من ذرية آدم وهو ممن ذرأه الله تعالى أي خلقه بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي بعضها من ولد بعض وقيل: بعضها من بعض في التناصر والتعاضد وقيل: بعضها على دين بعض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم وإنما يصطفي لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولا وفعلا. قوله عز وجل: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا أم مريم وعمران هو عمران بن ماثان وقيل: ابن أشيم وليس بعمران أبي موسى لأن بينهما ألفا وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل في ذلك الزمن وأحبارهم وملوكهم رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي جعلت الحمل الذي في بطني نذرا محررا مني لك، والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمعنى محررا أي عتيقا خالصا مفرغا لعبادة الله وخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من أمور الدنيا. قيل: كان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة فيقوم عليها ويخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ثم يخير فإن أحب أقام فيها، وإن أحب ذهب حيث شاء، فإن اختار الخروج بعد أن اختار الإقامة في الكنيسة لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من أنبياء بني إسرائيل ومن علمائهم إلا ومن أولاده محرر لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يحرر إلّا الغلمان ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك على ما ذكره أصحاب السير والأخبار أن زكريا وعمران تزوجا أختين فكانت إيشاع بنت فاقوذا وهي أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت فاقوذا أخت إيشاع عند عمران وهي أم مريم، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وكبرت وكانوا أهل بيت

[سورة آل عمران (3): آية 36]

صالحين وهم من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة إذ بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت نفسها بذلك للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدا وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمه فلما حملت بمريم حررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى فلا تصلح لذلك فوقعا جميعا في هم شديد من أجل ذلك. فمات عمران قبل أن تضع حنة حملها ثم قال تعالى حاكيا عنها فَتَقَبَّلْ مِنِّي يعني فتقبل نذري، والتقبل أخذ الشيء على الرضا وأصله من المقابلة لأنه يقابل بالجزاء وهذا سؤال من لا يريد بما فعله إلّا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في دعائه وعبادته إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ يعني لتضرعي ودعائي الْعَلِيمُ يعني بنيتي وما في ضميري. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 36] فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت حملها وإنما قال: وضعتها لأنه كان في علم الله أنها جارية وكانت حنة ترجو أن يكون غلاما قالَتْ يعني حنة رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى تريد بذلك اعتذار إلى الله من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار لا على سبيل الإعلام، لأن الله تعالى عالم بما في بطنها قبل أن تضعه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرئ بجزم التاء إخبارا عن الله تعالى والمعنى أنه تعالى قال: والله أعلم بالشيء الذي وضعت. وقرئ وضعت برفع التاء وهو من كلام أم مريم على تقدير أنها لما قالت رب: إني وضعتها أنثى خافت أن تكون أخبرت الله بذلك فأزالت هذه الشبهة بقولها والله أعلم بما وضعت وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يعني في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل الذكر على الأنثى لأن الذكر يصلح للخدمة للكنيسة ولا تصلح الأنثى لذلك لضعفها، وما يحصل لها من الحيض لأنها عورة ولا يجوز لها الحضور مع الرجال. وقيل: في معنى الآية: إن المراد منها هو تفضيل هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت: كان الذكر مطلوبي لخدمة المسجد وهذه الأنثى هي موهوبة لله تعالى، وليس الذكر التي طلبت كالأنثى التي هي موهبة لله تعالى وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ يعني العابدة والخادمة وهو بلغتهم أرادت بهذه التسمية أن يفضلها الله على إناث الدنيا وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها أي أمنعها وأجيرها بك وذريتها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يعني اللعين الطريد وذلك أن حنة أم مريم لما فاتها ما كانت تطلب من أن يكون ولدها ذكرا، فإذا هي أنثى تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها ويعصمها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات العابدات. (ق) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من بني آدم من مولود إلّا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من نخسه إياه إلّا مريم وابنها». ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم «وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم». وللبخاري عنه قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ يعني أن الله تعالى تقبل مريم من حنة مكان الذكر المحرر بمعنى قبل ورضي. قال الزجاج: الأصل في العربية تقبلها بتقبل ولكن قبول محمول على قبلها قبولا كما يقال: قبلت الشيء قبولا إذا رضيته. وقال أبو عمر: ليس في المصادر فعول بفتح الفاء إلّا هذا ولم أسمع فيه الضم. قيل معنى التقبل والقبول واحد وهما سواء وهو أن يرى الشيء ويأخذه. وقيل معنى التكفل في التربية والقيام بشأنها، وإنما قال بقبول

للجمع بين الأمرين يعني التقبل الذي بمعنى التكفل والقبول الذي بمعنى الرضا وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً معناه وأنبتها فنبتت هي نباتا حسنا قال ابن عباس في قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي سلك بها طريق السعداء: «وأنبتها نباتا حسنا» يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قال أهل الأخبار: لما ولدت حنة مريم أخذتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأخبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، وقالت: دونكم النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم قال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالت له الأحبار لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نفترع عليها فتكون عند من خرج سهمه بها، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار قيل: هو الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها من غيره وكان على كل قلم مكتوب اسم واحد منهم وقيل بل كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ووقف وانحدرت أقلامهم ثم رسبت في النهر. وقيل جري قلم زكريا مصعدا إلى أعلى وجرت أقلامهم مع جري الماء إلى أسفل فسهمهم زكريا وقرعهم، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: وكفلها زكريا قرئ بتشديد الفاء ومعناه وضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة. وقرئ بتخفيف الفاء ومعناه ضمها زكريا إلى نفسه بالقرعة وقام بأمرها وهو زكريا بن أذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتا واسترضع لها المراضع وقيل: ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بني لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطه ولا يرقى إليه إلّا بسلم ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم فذلك قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ يعني الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد وقيل: المحراب ما يرقى إليه بدرج. وقيل كان زكريا يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها المحراب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً يعني فاكهة في غير وقتها فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء قالَ يعني زكريا يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذه الفاكهة قالَتْ يعني مريم مجيبة لزكريا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني من الجنة. وقيل: إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثديا بل كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول زكريا: يا مريم أنى لك هذا فتقول هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة في المهد كما تكلم ولدها عيسى عليه السلام وهو صغير في المهد. وقال محمد بن إسحاق: أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها وكفالتها فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي: فقالوا: والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم لرجل نجار يقال له يوسف بن يعقوب وكان وكان ابن عم لمريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة ذلك عليه. فقالت: يا يوسف أحسن بالله الظّن فإن الله سيرزقنا، فصار يوسف يرزق لمكانها منه فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها إذا أدخله عليها في المحراب أنماه الله وزاده فيدخل زكريا عليها فيقول: يا مريم أنى لك هذا فتقول: هو من عند الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم أو ابتداء كلام من الله عز وجل ومعناه أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير لكثرته أو من غير سبب، وفي هذه الآية دليل على جواز كرامات الأولياء وظهور خوارق العادات على أيديهم قال أهل الأخبار: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادر أن يصلح زوجي ويهب لي ولدا في غير حينه مع الكبر وطمع في الولد. وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ وأيس من الولد فذلك قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (3): آية 38]

[سورة آل عمران (3): آية 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ يعني أنه عليه السلام دخل محرابه وأغلق الأبواب وسأل ربه الولد قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً يعني أنه قال: يا رب أعطني من عندك ولدا مباركا تقيا صالحا رضيا والذرية تطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هنا الواحد وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرية إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي سامعه ومجيبه. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 39] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل عليه السلام، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيما لشأنه ولأنه رئيس الملائكة، وقل أن يبعث إلّا ومعه جمع من الملائكة فجرى ذلك على مجرى العادة وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي في المسجد وذلك أن زكريا عليه السلام كان الخبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح لهم الباب فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في محرابه عند المذبح والناس ينتظرون أن يأذن في الدخول إذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع زكريا منه فناداه جبريل عليه السلام يا زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بولد اسمه يحيى قال ابن عباس: سمي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقيل: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهم بمعصية قط مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني عيسى ابن مريم وإنما سمي عيسى عليه السلام كلمة لأن الله تعالى قال له: كن فكان من غير أب دلالة على كمال القدرة فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان. وقيل سمي كلمة لأن عيسى عليه السلام كان يرشد الخلق إلى الحقائق والأسرار ويهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى فسمي كلمة بهذا الاعتبار. وقيل سمي كلمة لأن الله تعالى بشر به مريم على لسان جبريل عليه السلام: وقيل لأن الله تعالى أخبر الأنبياء الذين قبله في كتبه المنزّلة عليهم أنه يخلق نبيا من غير واسطة أب، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد أنه يخلقه كذلك، وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر وكانا ابني خالة وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام. وقيل: إن أم يحيى لقيت أم عيسى وهما حاملتان فقالت أم يحيى لأم عيسى: يا مريم أشعرت أني حامل فقالت مريم: وأنا أيضا حامل فقالت أم يحيى: يا مريم إني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله: مصدقا بكلمة من الله يعني أن يحيى آمن بعيسى وصدق به وَسَيِّداً من ساد يسود. والسيد هو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله. وكان يحيى عليه السلام سيد المؤمنين ورئيسهم في الدين والعلم والحلم. وقيل: السيد هو الحسن الخلق وقيل: هو الذي يطيع ربه وقيل: هو الفقيه العالم وقيل: سيدا في العلم والعبادة والورع وقال السيد هو الحليم الذي لا يغضبه شيء وقيل: السيد هو الذي يفوق في جميع خصال الخير. وقيل: هو السخي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوأ من البخل لكن سيدكم عمرو بن الجموح» وَحَصُوراً قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الحصور الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن فعلى هذا هو فعول بمعنى فاعل يعني أنه حصر نفسه عن الشهوات وأصله من الحصر وهو الحبس: وقيل: هو العنين وقيل هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليغض بصره وفيه قول آخر: وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز، وأيضا فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة، فحمل

[سورة آل عمران (3): آية 40]

الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أنه من أولاد الأنبياء الصالحين. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 40] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ يعني زكريا رَبِّ أي يا رب قيل خطاب مع جبريل لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوهم الملائكة فعلى هذا القول يكون الرب هنا بمعنى السيد والمربي أي يا سيدي، وقيل: إنه خطاب مع الله تعالى فيكون الرب بمعنى المالك، وذلك أن الملائكة لما بشروه بالولد تعجب ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى فقال رب أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ يعني من أين يكون وكيف يكون لي غلام وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ قيل: هو من المقلوب ومعناه وقد بلغت الكبر وشخت. وقيل: معناه وقد نالني الكبر وأدركني الضعف. فإن قلت كيف أنكر زكريا الولد مع تبشير الملائكة إياه به وما معنى هذه المراجعة، ولم تعجب من ذلك بعد وعد الله إياه به أكان شاكا في وعد الله أو في قدرته؟ قلت: لم يشك زكريا عليه السلام في وعد الله وفي قدرته إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام والاستعلام والمعنى من أي جهة يكون لي الولد أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ورد شبابي علي؟ أو يكون ونحن على حالنا من الكبر والضعف؟ فأجابه بقوله كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وقال عكرمة والسدي: لما سمع زكريا نداء الملائكة جاءه الشيطان وقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله تعالى، وإنما هو من الشيطان، ولو كان من الله تعالى لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور: فقال ذلك زكريا دفعا للوسوسة واعترض على الجواب بأنه لا يجوز أن يشتبه على الأنبياء كلام الملائكة بكلام الشيطان، إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق بأخبارهم عن الوحي السماوي، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لما دلت الدلائل على صدق الأنبياء فيم يخبرون به عن الله تعالى بواسطة الملك، فلا مدخل للشيطان فيه وذلك فيما يتعلق بالدين والشرائع، فأما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فقد يحتمل فيه حصول الوسوسة فسأل زكريا ذلك لنزول هذه الوسوسة من خاطره. قال الكلبي: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة. وقيل: ابن تسع وتسعين سنة وقال ابن عباس في رواية الضحاك: كان ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أي عقيم لا تلد قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يعني أنه تعالى قادر على هبة الولد على الكبر يفعل ما يشاء لا يعجزه شيء. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 41 الى 42] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) قالَ يعني زكريا يا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة والشكر لك قالَ آيَتُكَ أي علامتك على الذي طلبت معرفة علمه أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تقدر على تكليم الناس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي مدة ثلاثة أيام بلياليها. قال جمهور المفسرين: عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع إبقائه على قدرة التسبيح والذكر ولذلك قال في آخر الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني في أيام منعك من تكليم الناس وهذه من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لأن قدرته على التسبيح والذكر مع عجزه عن تكليم الناس بأمور الدنيا. وذلك مع صحة الجسم وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات، وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في هذه الأيام لعبادة الله تعالى وذكره ولا يشغل لسانه بشيء آخر توقيرا منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة وشكرا لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله، وأن يكون ذلك دليلا على وجود الحمل ليتم

[سورة آل عمران (3): الآيات 43 إلى 45]

سروره بذلك وقال قتادة: إنما أمسك لسانه عن الكلام عقوبة لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ببشارة الولد فلم يقدر على الكلام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً يعني الإشارة والإشارة قد تكون باليد وبالعين وبالإيماء بالرأس وكانت إشارته بالإصبع المسبحة. وقيل: الرمز قد يكون باللسان من غير تبين كلام وهو الصوت الخفي شبه الهمس وقيل: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا والقول الأول أصح لموافقة أهل اللغة عليه وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وذلك لما منعه الله من الكلام في تلك المدة أمره بالذكر فقال: واذكر ربك كثيرا فإنك لا تمنع من ذلك ولا يحال بينك وبينه وَسَبِّحْ أي وعظم ربك ونزهه عن النقائص وقيل: وصل لربك وسميت الصلاة تسبيحا لأن فيها تنزيها للرب سبحانه وتعالى بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ فأما العشي فهو ما بين زوال الشمس إلى غروبها، ومنه سميت صلاتا الظهر والعصر صلاتي العشي والإبكار هو ما بين طلوع الفجر إلى الضحى. قوله عز وجل: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل عليه السلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي واختارك وَطَهَّرَكِ يعني من مسيس الرجال. وقيل: من الحيض والنفاس. وكانت مريم لا تحيض وقيل: من الذنوب وَاصْطَفاكِ أي واختارك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانها وقيل: على جميع نساء العالمين. فإن قلت هل فرق بين الاصطفاء الأول والثاني؟ قلت: ذكر العلماء في معناهما وجوها يتحصل منها الفرق فقيل في معنى الاصطفاء الأول إن الله تعالى اختار مريم وقبلها منذورة محررة ولم تحرر قبلها أنثى ولم يجعل ذلك لغيرها من النساء وأن الله بعث إليها رزقها من عنده وكفلها زكريا ومعنى الإصطفاء الثاني أن الله تعالى وهب لها عيسى من غير أب وأسمعها كلام الملائكة ولم يحصل ذلك لغيرها من النساء (ق) عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول: خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض قيل: أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في قوله خير نسائها ومعناه أنهما خير كل النساء بين السماء والأرض قال الشيخ محيي الدين النووي: والأظهر أن معناه أن كل واحدة مهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» قال العلماء معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق وثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه من غير ثريد وفضل عائشة على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 43 الى 45] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي قالت الملائكة لها شفاها أطيعي ربك وقيل: معناه أطيلي القيام في الصلاة لربك. قال الأوزاعي: لما قالت الملائكة لها ذلك قامت حتى تورمت قدماها وسالت دما وقيحا وحكي عن مجاهد نحوه وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ إنما قدم السجود على الركوع لأن الواو لا تقتضي الترتيب إنما هي للجمع كأنه قيل لها: افعلي الركوع والسجود وقيل: إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم. وقال ابن الأنباري: أمرها أمرا عاما وحضها على فعل الخير فكأنه قال: استعملي السجود في حال والركوع في حال ولم يرد تقديم السجود على الركوع بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين. وإنما قال:

اركعي مع الراكعين ولم يقل: مع الراكعات لأن لفظ الراكعين أعم فيدخل فيه الرجال والنساء، والصلاة مع الرجال أفضل وأتم. وقيل: معناه افعلي كفعل الراكعين وقيل: المراد به الصلاة في جماعة أي صلى مع المصلين في جماعة. قوله عز وجل: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يقول الله عز وجل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بذلك الذي ذكرت لك من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام من أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نلقيه إليك يا محمد لأنه لا يمكنك أن تعلم أخبار الأمم الماضين إلّا بوحي منا إليك وإنما قال نوحيه لأنه رد الضمير إلى ذلك فلذلك يذكر اللفظ وَما كُنْتَ يعني يا محمد لَدَيْهِمْ هنالك عندهم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعني التي كانوا يكتبون بها في الماء لأجل الاقتراع أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني يربيها ويقوم بمصالحها قيل سبب منازعتهم في كفالة مريم حتى اقترعوا على ذلك أنها كانت بنت عمران وكان رئيسهم وكبيرهم فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها وقيل: لأن مريم حررت لعبادة الله وخدمة المسجد وكان أبوها قد مات فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني في كفالتها وتربيتها قوله عز وجل: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ معناه وما كنت لديهم يا محمد إذ يختصمون وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة يعني جبريل عليه السلام: يا مريم إن الله يبشرك والبشارة إخبار المرء بما يسره من خير بكلمة منه يعني برسالة من الله وخير من عنده فهو كقول القائل ألقى إليّ فلان كلمة سرني بها وأخبرني خيرا فرحت به. ومعنى الآية إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل وذلك الولد اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وقال قتادة في قوله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ هو قوله تعالى: كن فسماه الله كلمة لأنه كان عن الكلمة التي هي كن كما يقال لما قدر الله من شيء هذا قدر الله وقضاء الله يعني أن هذا الأمر عن قدره وقضائه حدث. وقال ابن عباس: الكلمة هي عيسى عليه السلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد عن الكلمة التي هي كن. فإن قلت إن كل مخلوق إنما يوجد بواسطة الكلمة التي هي كن فلم خص عيسى عليه السلام بهذا الاسم وسماه كلمة دون غيره؟. قلت: إن كل مخلوق وإن وجد حدوثه وخلقه بواسطة الكلمة إلّا أن هذا السبب ما هو المتعارف، ولما كان حدوث عيسى عليه السلام بمجرد الكلمة من غير واسطة أخرى فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أتم وأكمل وبهذا التأويل حسن أن يسمى عيسى عليه السلام نفس الكلمة لأنه حدث عنها، فإن قلت الضمير في قوله اسم عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير؟ قلت: لأن المسمى بها مذكر فلهذا ذكر الضمير. فإن قلت لم قال اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة الاسم منها واحد وهو عيسى، وأما المسيح فلقب وابن مريم صفة. قلت: الضمير في قوله اسمه يرجع إلى عيسى وللمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قال الذي يعرف به ويتميز عن سواه هو مجموع هذه الثلاثة واختلفوا لم سمي عيسى عليه السلام مسيحا وهل هو اسم مشتق أو موضوع؟ فقيل: إنه موضوع واسمه بالعبرانية مشيحا فغيرته العرب وأصل عيسى أيشوع كما قالوا موسى وأصله موشى أو ميشى وقال الأكثرون: إنه اسم مشتق ثم ذكروا فيه وجوها قال ابن عباس: سمي عيسى مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلّا برأ منها وقيل لأنه مسح بالبركة وقيل: لأنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل: إنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل. وقيل: لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم بمكان فكأنه يمسح الأرض أي يقطعها مساحة فعلى هذا القول تكون الميم زائدة وقيل سمي مسيحا لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له وسمي الدجال مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين وقيل: المسيح هو الصديق وبه سمي عيسى عليه السلام وقد يكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال فعلى هذا تكون هذه الكلمة من الأضداد. وقوله تعالى: وَجِيهاً أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما وجاهته في الدنيا فبسبب النبوة وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وأما وجاهته في الآخرة فبسبب علو مرتبته عند الله وهو قوله تعالى: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني عند الله يوم القيامة لأن لأهل الجنة منازل ودرجات

[سورة آل عمران (3): الآيات 46 إلى 48]

ومنازل الأنبياء ودرجاتهم أعلى من سواهم وقيل: فيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء. [سورة آل عمران (3): الآيات 46 الى 48] وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني ويكلم الناس صغيرا وهو في المهد وذلك قبل أوان الكلام ووقته والكلام الذي تكلم به هو ما ذكره الله عنه في سورة مريم وهو قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ الآية. وتكلم ببراءة أمه مما رماها به أهل الفرية من القذف. ويحكى أن مريم قالت كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح وهو في بطني وأنا أسمع ولما تكلم ببراءة أمه سكت بعد ذلك فلم يتكلم إلّا في الوقت الذي يتكلم فيه الصغير قال ابن عباس: تكلم عيسى ساعة ثم سكت ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق وَكَهْلًا يعني ويكلم الناس في حال الكهولة والكهل في اللغة هو الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه والكهل عند العرب الذي جاوز الثلاثين وقيل: هو الذي وخطه الشيب، وهو السن الذي يستحكم فيه العقل وتتنبأ فيه الأنبياء. قال ابن قتيبة: لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله فمعنى الآية أنه يكلم الناس وهو في المهد ببراءة أمه وهي معجزة عظيمة، ويكلم الناس في حال الكهولة بالدعوة والرسالة وقيل: فيه بشارة لمريم أخبرها بأنه يبقى حتى يكتهل وقيل: فيه أخبار بأنه يتغير من حال إلى حال ولو كان إلها كما زعمت النصارى لم يدخل عليه التغيير ففيه رد على النصارى الذين يدعون فيه الألوهية. وقال الحسن بن الفضل: وكهلا يعني ويكلم الناس كهلا بعد نزوله من السماء وفي هذه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض ويقتل الدجال. وقال مجاهد: الكهل الحكيم والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة وَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني أنه من العباد الصالحين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء وإنما ختم أوصاف عيسى عليه السلام بكونه من الصالحين بعد ما وصفه بالأوصاف العظيمة. لأن الصلاح من أعظم المراتب وأشرف المقامات لأنه لا يسمى المرء صالحا حتى يكون مواظبا على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أقواله وأفعاله. فلما وصفه الله تعالى بكونه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين وأنه يكلم الناس في المهد وكهلا أردفه بقوله ومن الصالحين ليكمل له أعلى الدرجات وأشرف المقامات. قوله عز وجل: قالَتْ يعني مريم رَبِّ يعني يا سيدي تقوله لجبريل لما بشرها بالولد وقيل تقوله لله عز وجل: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أو لم يصبني رجل وإنما قالت ذلك تعجبا لا شكا في قدرة الله تعالى إذ لم تكن العادة جرت أن يولد ولد من غير أب قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني هكذا يخلق الله منك ولدا من غير أن يمسك بشر فيجعله آية للناس وعبرة فإنه يخلق ما يشاء ويصنع ما يريد وهو قوله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يعني كما يريد وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يعني الكتابة والخط باليد وَالْحِكْمَةَ يعني العلم والسنة وأحكام الشرائع وَالتَّوْراةَ يعني التي أنزلت على موسى وَالْإِنْجِيلَ يعني الذي أنزل عليه وهذا إخبار من الله تعالى لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة وعلو المنزلة.

[سورة آل عمران (3): آية 49]

[سورة آل عمران (3): آية 49] وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى ابن مريم عليه السلام فلما بعث إليهم قال أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بعلامة من ربكم على صدق قولي وإنما قال بآية وقد جاء بآيات كثيرة لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى لبني إسرائيل قالوا: ما هذه الآية؟ قال أَنِّي أَخْلُقُ أي أصور وأقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ والهيئة الصورة المهيأة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في الطين المهيأ المصور فَيَكُونُ طَيْراً قرئ بلفظ الجمع لأن الطير اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع. وقرئ فيكون طائرا على التوحيد على معنى يكون ما أنفخ فيه طائرا أو ما أخلقه يكون طائرا وقيل إنه لم يخلق غير الخفاش وهو الذي يطير في الليل، وإنما خص الخفاش لأنه من أكمل الطير خلقا وذلك لأنه يطير بلا ريش وله أسنان ويقال: إن الأنثى منه لها ثدي وتحيض ذكروا أن عيسى عليه السلام لما ادّعى النبوة وأظهر لهم المعجزات أخذوا يتعنتون عليه فطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا فأخذ طينا وصوره كهيئة الخفاش، ثم نفخ فيه فإذا هو طير يطير بين السماء والأرض قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عنهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال الله تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ معناه بتكوين الله وتخليقه والمعنى إني أعمل هذا التصوير أنا، فأما خلق الحياة فيه فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزة على يد عيسى عليه السلام وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ أي وأشفي الأكمه والأبرص وأصحهما، واختلفوا في الأكمه فقال ابن عباس: هو الذي ولد أعمى وقيل: هو الأعمى وإن كان أبصر وقيل: هو الأعشى وهو الذي يبصر بالليل، والأبرص هو الذي به وضح وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك إلّا أنه ليس في علم الطب إبراء الأكمه والأبرص فكان ذلك معجزة له ودليلا على صدقه. وقال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد نحو خمسين ألفا فمن أطاق أن يمشي إليه مشى، ومن لم يطق مشى عيسى عليه السلام إليه وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان برسالته وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: قد أحيا أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح وكلهم بقي وولد له إلّا سام بن نوح فأما عازر فكان صديقا لعيسى عليه السلام فأرسلت إليه أخت عازر إن أخاك عازر يموت وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام فأتاه عيسى وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت بهم إلى قبره فدعا الله عيسى فقام عازر حيا بإذن الله تعالى فخرج من قبره وعاش وولد له. وأما ابن العجوز فإنه مر به وهو ميت على عيسى عليه السلام يحمل على السرير فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وأتى أهله وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها يأخذ العشور من الناس وماتت بالأمس فدعا الله عيسى فأحياها بدعوته فعاشت وولد لها، وأما سام بن نوح فإن عيسى جاء إلى قبره ودعا الله باسمه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت الساعة فقال عيسى عليه السلام: لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له: مت فقال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت مرة أخرى فدعا الله عيسى ففعل وَأُنَبِّئُكُمْ يعني وأخبركم بِما تَأْكُلُونَ أي مما لم أعاينه وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أي وما ترفعونه فتخبؤونه في بيوتكم لتأكلوه فيما بعد ذلك، قيل: كان عيسى عليه السلام يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكله اليوم وبما يدخره للعشاء. وقيل كان في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا وقد رفعوا لك كذا فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا؟ فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لا تقعدوا مع ذلك

[سورة آل عمران (3): الآيات 50 إلى 51]

الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا هنا فقال: وما في البيت؟ قالوا خنازير فقال كذلك يكونون. ففتحوا عليهم الباب فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل وظهر فهموا به فخافت عليه أمه فحملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر. وقال قتادة: إنما كان هذا في نزول المائدة وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا فيه من طعام الجنة وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا الغد فخانوا وادخروا، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى عليه السلام ومعجزة عظيمة له، وهي إخباره عن المغيبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه ذلك وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر عليه إلّا الأنبياء عليهم السلام، فإن قلت قد يخبر المنجم والكاهن عن مثل ذلك فما الفرق؟. قلت: إن المنجم والكاهن لا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في أخباره عليها، أما المنجم فإنه يستعين على ذلك بواسطة معرفة الكواكب وامتزاجاتها أو بواسطة حساب الرمل أو نحو ذلك وقد يخطئ في كثير مما يخبر به، وأما الكاهن فإنه يستعين برائد من الجن وقد يخطئ أيضا في كثير مما يخبر به وأما أخبار الأنبياء عليهم السلام عن المغيبات فليس إلّا بالوحي السماوي وهو من الله تعالى وليس ذلك باستعانة بواسطة حساب ولا غيره فحصل الفرق إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي تقدم ذكره من خلق الطير من الطين بإذن الله وإبراء والأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات لَآيَةً لَكُمْ أي لعبرة ودلالة على صدق أني رسول من الله إليكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بذلك. [سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 51] وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) وَمُصَدِّقاً قيل: إنه عطف على قوله ورسولا وقيل إنه عطف على أني قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ المعنى وجئتكم مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وذلك لأن الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضهم بعضا فكل واحد منهم يصدق الذي قبله ويصدق بما أنزل الله من الكتب والشرائع والأحكام فلهذا قال عيسى عليه السلام مصدقا لما بين يدي من التوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال وهب بن منبه: أن عيسى كان على شريعة موسى عليهما السلام وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلّا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار وذلك أن الله تعالى كان قد حرم على اليهود بعض الأشياء عقوبة لهم على بعض ما صدر منهم من الخيانات كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فبقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود إلى أن جاء عيسى عليه السلام فرفع عنهم تلك التشديدات التي كانت عليهم وقال قتادة: كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب والشحوم وأشياء من الطير والحيتان زاد بعضهم فجاءهم عيسى بالتخفيف وأحلها لهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيرا من أحكام التوراة ورفع السبت ووضع الأحد وكان ذلك كله بأمر الله فكان ذلك ناسخا لتلك الأحكام والشرائع والناسخ والمنسوخ حق وصدق وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة واضحة شاهدة على صحة رسالتي ثم خوفهم بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُونِ يعني فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله وما أدعوكم إليه هو قولي إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ لأن جميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد ولم يختلفوا في الله تعالى وفي هذه الآية حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم من سائر النصارى بإخبار الله عن عيسى عليه السلام أنه كان بريئا مما نسبه إليه النصارى وأنه كان عبد الله وخصه بنبوته ورسالته ثم ختم ذلك بقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني التوحيد. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (3): آية 52]

[سورة آل عمران (3): آية 52] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي وجد وعرف وقيل: رأى والإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة والمعنى أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك عيسى منهم وعرف إصرارهم عليه وعزمهم على قتله. (ذكر سبب القصة:) قال أهل الأخبار والسير: لما بعث الله عيسى إلى بني إسرائيل وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما وكان لتلك القرية ملك جبار معتد فجاء ذلك الرجل في بعض الأيام وهو مهموم حزين فدخل منزله عند امرأته فقالت مريم: ما شأن زوجك أراه كئيبا حزينا فقالت: لا تسأليني فقالت مريم: أخبريني لعل الله أن يفرج كربته قالت المرأة: إن لنا ملكا جبارا وقد جعل على كل رجل منا يوما يطعمه فيه هو وجنوده ويسقيهم الخمر وإن لم يفعل ذلك عاقبه واليوم نوبتنا وليس عندنا سعة لذلك فقالت لها قولي له: لا يهتم لذلك فأنا آمر ابني أن يدعو له فيكفي ذلك ثم قالت مريم لعيسى في ذلك فقال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شر فقالت مريم: لا نبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا فقال عيسى: قولي له إذا قرب ذلك الوقت فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عيسى عليه السلام فتحول ماء القدور مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم تر الناس مثله، فلما جاء الملك وأكل من ذلك الطعام وشرب من ذلك الخمر قال من أين لك هذا الخمر؟ فقال الرجل: هو من أرض كذا فقال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه فقال: هي من أرض أخرى فلما رآه الملك اختلط شدد عليه فقال الرجل: أنا أخبرك أن عندي غلاما لا يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إياه، وأنه دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه في ملكه وقد مات قبل ذلك بأيام وكان يحبه حبا شديدا فقال الملك: إن رجلا دعا الله تعالى حتى صار الماء خمرا بدعوته ليستجيبن له في إحياء بني فطلب عيسى وكلمه في ذلك فقال له عيسى لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر فقال الملك: لا أبالي أليس أراه فقال: عيسى: إن أنا أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكة الرجل فقد عاش فبادروا إلى السلاح وقالوا: قد أكلنا هذا الملك حتى إذا دنا أجله يريد أن يستخلف علينا ابنه ليأكلنا كما أكلنا أبوه فقاتلوه وظهر أثر عيسى فقصدوا قتله وكفروا به وقيل: إن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم فأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عز وجل عنه بقوله قالَ يعني عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله وقيل: معناه إلى أن أبين أمر الله وأظهر دينه وقيل: إلى بمعنى في أي في ذات الله وسبيله وقيل: إلى في موضعها والمعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله لي قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وذلك أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الله تعالى وتمردوا عليه وكفروا به خرج يسيح في الأرض فمر بجماعة يصطادون السمك، وكانوا اثنى عشر ورئيسهم شمعون ويعقوب فقال عيسى عليه السلام: ما تصنعون؟ قالوا: نصيد السمك قال: أفلا تمشون حتى نصيد الناس قالوا: ومن أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فسألوه آية تدلهم على صدقه وكان شمعون قد رمي بشبكته في الماء فدعا الله عيسى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق من كثرته فاستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين من السمك فعند ذلك آمنوا به وانطلقوا معه واختلف في الحواريين فقيل: كانوا يصطادون السمك فلما آمنوا بعيسى صاروا يصطادون الناس ويهدونهم إلى الدين، سموا حواريين لبياض ثيابهم يقال: حورت الشيء بمعنى بيضته: وقيل: كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي

[سورة آل عمران (3): الآيات 53 إلى 54]

يبيضونها. وقيل: إن مريم سلمت عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر من سلمته إليه الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال لعيسى: إنك قد تعلمت هذه الصنعة وأنا خارج إلى السفر ولا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد علمت كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فأريد أن تفرغ منها وقت وقدومي. وخرج المعلم إلى سفره فطبخ عيسى حبا واحدا على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال؟ كوني بإذن الله على ما أريد منك ثم قدم الحواري والثياب كلها في الحب فقال لعيسى: ما فعلت؟ قال قد فرغت منها قال وأين هي؟ قال في الحب قال كلها: قال: نعم قال لقد أفسدت علي الثياب قال عيسى: لا ولكن قم فانظر وقام عيسى وأخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر وثوبا أسود حتى أخرجها كلها على الألوان التي يريد الحواري فجعل الحواري يتعجب من ذلك وعلم أن ذلك من الله تعالى فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه وهم الحواريون. وقيل: سموا حواريين لصفاء قلوبهم ولما ظهر عليهم من أثر العبادة ونورها وقيل: الحواريون الأصفياء وكانوا أصفياء عيسى وخاصته وقيل: الحواريون هم الخلفاء وقيل: هم الوزراء وكانوا خلفاء عيسى ووزراؤه وقيل: الحواريون هم الأنصار والحواري الناصر والحواري الرجل الذي يستعان به (ق) عن جابر بن عبد الله قال: ندب النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير قال الحواريون: نحن أنصار الله يعني أنصار دين الله ورسوله وأعوانه آمَنَّا بِاللَّهِ أي صدقنا بأن الله ربنا ورب كل شيء وَاشْهَدْ يعني أنت يا عيسى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ قيل: معناه واشهد بأنا منفادون لما تريد من نصرك والذب عنك ومستسلمون لأمر الله عز وجل وقيل: هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين عيسى وكل الأنبياء قبله لا اليهودية والنصرانية. [سورة آل عمران (3): الآيات 53 الى 54] رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يعني قال الحواريون بعد إشهاد عيسى عليهم بأنهم مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت يعني بكتابك الذي أنزلته على عيسى عليه السلام وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ يعني عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق واتبعوا أمرك ونهيك فأثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سألوا الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم فلهذا قال ابن عباس في قوله: فاكتبنا مع الشاهدين أي مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لأنهم المخصوصون بتلك الفضيلة فإنهم يشهدون للرسل بالبلاغ وقيل: مع الشاهدين يعني النبيين لأن كل نبي شاهد على أمته قوله عز وجل: وَمَكَرُوا يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وأصل المكر صرف الغير عما يقصده بضرب من الحيلة وقيل: هو السعي بالفساد في الخفية فأما مكرهم بعيسى فإنهم دبروا في قتله وهموا به وذاك أن عيسى عليه السلام بعد أن أخرجه قومه هو وأمه رجع مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة وأظهر رسالته إليهم فهموا بقتله والفتك به فلذلك مكرهم والمكر من الخلق الخبيث والخديعة والحيلة وَمَكَرَ اللَّهُ أي جازاهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته وقيل: مكر الله استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يحتسب ومكر الله في هذه الآية خاصة هو إلقاء الشبه على صاحبهم الذي دلهم على عيسى حين أرادوا قتله حتى قتل قال ابن عباس أن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحر والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم ولعنهم فمسخوا خنازير فلما رأى ذلك يهودا رأس اليهود وملكهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله عز وجل جبريل فأدخله

[سورة آل عمران (3): آية 55]

خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله من تلك الروزنة وأمر يهودا ملك اليهود رجلا من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة فيقتله ظنوا أنه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. وقال وهب بن منبه: إن اليهود طرقوا عيسى في بعض الليل ونصبوا له خشبة ليصلبوه عليها فأظلمت الأرض وأرسل الله عز وجل الملائكة فحالت بينهم وبينه فجمع عيسى عليه السلام الحواريين تلك الليلة وأوصاهم وقال: ليكفر بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إلى اليهود وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه، فلما دخل البيت الذي فيه المسيح ألقى الله شبه عيسى عليه ورفع الله عيسى عليه السلام وأخذ الذي دل عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب الذي ألقي عليه شبه عيسى جاءت مريم وامرأة أخرى كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون بدعوته فجعلتا تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى عليه السلام وقال: على من تبكيان إن الله عز وجل قد رفعني ولم يصبني إلّا خير وهذا شيء شبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى أهبط إلى مريم المجدلانية وهو اسم موضع نسبت إليه فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عز وجل إليها فاشتعل الجبل نورا حين هبط فجمعت له الحواريين فبثهم دعاة في الأرض ثم رفعه الله فتلك الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون تكلم كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ يعني وهو أفضل المجازين بالسيئة العقوبة. وقال السدي: إن اليهود حبست عيسى عليه السلام في بيت ومعه عشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم كان قد نافق ألقى عليه شبه فأخذ وقتل وصلب وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول فقال رجل منهم: أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى ورفعه إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة الطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسا ملكيا أرضيا سماويا. قال أهل التاريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 55] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ اختلفوا في معنى التوفي هنا على طريقين: فالطريق الأول أن الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير وذكروا في معناها وجوها: الأول: معناه أني قابضك ورافعك إلي من غير موت من قولهم توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وقبضته تاما، والمقصود منه هنا أن لا يصل أعداؤه من اليهود إليه بقتل ولا غيره. الوجه الثاني: أن المراد بالتوفي النوم ومنه قوله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والتي لم تمت في منامها فجعل النوم وفاة، وكان عيسى قد نام فرفعه الله وهو نائم لئلا يلحقه خوف، فمعنى الآية أني منيمك ورافعك إلى الوجه الثالث أن المراد بالتوفي حقيقة الموت، قال ابن عباس: معناه أني مميتك قال وهب بن منبه: إن الله توفى عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ثم رفعه إليه وقيل: إن النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه. الوجه الرابع: أن الواو في قوله ورافعك إلي لا تفيد الترتيب والآية تدل على أن الله تعالى يفعل به ما ذكر فأما كيف يفعل؟ ومتى يفعل؟ فالأمر فيه موقوف على

[سورة آل عمران (3): الآيات 56 إلى 59]

الدليل. وقد ثبت في الحديث أن عيسى سينزل ويقتل الدجال وسنذكره إن شاء الله تعالى. الوجه الخامس: قال أبو بكر الواسطي: معناه أني متوفيك عن شهواتك وعن حظوظ نفسك ورافعك إلي ذلك أن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء صارت حالته حالة الملائكة في زوال الشهوة. الوجه السادس: أن معنى التوفي أخذ الشيء وافيا ولما علم الله تعالى أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله إليه هو روحه دون جسده كما زعمت النصارى أن المسيح رفع لاهوته يعني روحه وبقي في الأرض ناسوته يعني جسده فرد الله عليهم بقوله إني متوفيك ورافعك إلي فأخبر الله تعالى أنه رفع بتمامه إلى السماء بروحه وجسده جميعا. الطريق الثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك إلى الأرض وقيل: لبعضهم هل تجد نزول عيسى إلى الأرض في القرآن؟ قال: نعم قوله تعالى وكهلا وذلك لأنه لم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلا بعد نزوله من السماء. (ق) عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد زاد وفي رواية حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته وفي رواية كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم. وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت فأخبرني قال فأمكم كتاب ربكم عز وجل وبسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وفي إفراد مسلم من حديث النواس بن سمعان قال: فبينما هما إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ليس بيني وبينه يعني عيسى نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله الملل في زمانه كلها إلّا الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون أخرجه أبو داود ونقل بعضهم أن عيسى عليه السلام يدفن في حجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين نبيين محمد وعيسى عليهما السلام. قوله عز وجل: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مخرجك من بينهم ومنجيك منهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني وجاعل الذين اتبعوك في التوحيد وصدقوا قولك وهم أهل الإسلام من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فوق الذين كفروا بالعز والنصر والغلبة بالحجة الظاهرة. وقيل: هم الحواريين الذين اتبعوا عيسى على دينه وقيل: هم النصارى فهم فوق اليهود وذلك لأن ملك اليهود قد ذهب ولم يبق لهم مملكة وملك النصارى باق فعلى هذا القول يكون الاتباع بمعنى المحبة والادعاء لا اتباع الدين لأن النصارى وإن أظهروا متابعة عيسى عليه السلام فهم أشد مخالفة له وذلك أن عيسى عليه السلام لم يرض بما هم عليه من الشرك، والقول الأول هو الأصح لأن الذين اتبعوه هم الذين شهدوا له بأنه عبد الله ورسوله وكلمته وهم المسلمون وملكهم باق إلى يوم القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني يقول الله عز وجل: إلي مرجع الفريقين في الآخرة الذين اتبعوا عيسى وصدقوا به والذين كفروا به فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني من الحق في أمر عيسى ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 56 الى 59] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الذين جحدوا نبوة عيسى وخالفوا ملته وقالوا فيه ما قالوا من الباطل ووصفوه بما لا ينبغي من سائر اليهود والنصارى فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا يعني بالقتل والسبي والذلة وأخذ الجزية منهم

وَالْآخِرَةِ أي وأعذبهم في الآخرة بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من عذابنا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بعيسى عليه السلام وصدقوا بنبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني عملوا بما فرضت عليهم وشرعت لهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يحب من ظلم غيره حقا له أو وضع شيئا في غير موضعه والمعنى أنه تعالى لا يرحمهم ولا يثني عليهم بجميل ثم قال تعالى: ذلِكَ يعني الذي ذكرته لك من أخبار عيسى وأمه مريم والحواريين وغير ذلك من القصص نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نخبرك به يا محمد على لسان جبريل، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل عليه السلام إلى نفسه سبحانه تعالى لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلا فأضافه إليه مِنَ الْآياتِ يعني من القرآن وقيل الآيات يعني العلامات الدالة على نبوتك يا محمد لأنها أخبار لا يعلمها إلّا من يقرأ ويكتب أو نبي يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي المحكم الممنوع من الباطل قيل المراد من الذكر الحكيم القرآن لأنه حاكم يستفاد منه. جميع الأحكام وقيل: الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ الذي منه تنزلت جميع كتب الله على رسله وهو لوح من درة بيضاء معلق بالعرش. قوله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الآية. أجمع أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في محاجة نصارى وفد نجران قال ابن عباس: إن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان فيهم السيد والعاقب فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما شأنك تذكر صاحبنا فقال من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أجل إنه عبد الله فقالوا له: فهل رأيت له مثلا أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قل لهم إذا أتوك إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقيل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا: يا محمد هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي في الخلق والإنشاء في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم في كونه خلقه من تراب من غير أب وأم، ومعنى الآية أن صفة خلق عيسى من غير أب كصفة آدم في كونه خلقه من تراب لا من أب وأم، فمن أقر بأن الله خلق آدم من التراب اليابس وهو أبلغ في القدرة، فلم لا يقر بأن الله خلق عيسى من مريم من غير أب بل الشأن في خلق آدم أعجب وأغرب وتم الكلام عند قوله كمثل آدم لأنه تشبيه كامل ثم قال تعالى: خلقه من تراب فهو خير مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم في كونه خلقه من تراب أي قدره جسدا من طين ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي أنشأه خلقا بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقا بالكلمة فعلى هذا القول ذكروا في الآية إشكالا وهو أنه تعالى قال: خلقه من تراب ثم قال له: كن فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدما على قوله كن ولا تكوين بعد الخلق. وأجيب عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أخبر بأنه خلقه من تراب لا من ذكر وأنثى ثم ابتدأ خبرا آخر. فقال: إني أخبركم أيضا أني قلت له كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى خلقه جسدا من تراب ثم قال له: كن بشرا فكان يصح النظم وقيل: الضمير في قوله كن يرجع إلى عيسى عليه السلام وعلى هذا إشكال في الآية. فإن قلت: كيف شبه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام وقد وجد عيسى من غير أب ووجد آدم من غير أب ولا أم. قلت: هو مثله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران لأن الوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وحكي أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له قال: فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم قالوا: وكان يحيي الموتى فقال: حزقيل أولى لأن عيسى أحيا

[سورة آل عمران (3): الآيات 60 إلى 61]

أربعة نفر وأحيا حزقيل أربعة آلاف: قالوا: وكان يبرئ الأكمه والأبرص قال: فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما وقوله كُنْ فَيَكُونُ قال ابن عباس: معناه كن فكان فأريد بالمستقبل الماضي وقيل: معناه ثم قال له: كن وأعلم يا محمد أن قال له ربك كن فإنه يكون لا محالة. [سورة آل عمران (3): الآيات 60 الى 61] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين إن ذلك كذلك وهذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يشك قط فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ والمعنى فلا تكن من الممترين يا أيها السامع كائنا من كان لهذا التمثيل والبرهان الذي ذكر فهو من باب التهيج لزيادة الثبات والطمأنينة. قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي فمن جاد لك في عيسى وقيل في الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني بأن عيسى عبد الله ورسوله فَقُلْ تَعالَوْا أي هلموا والمراد منه المجيء وأصله من العلو بالرأي والعزم كما تقول تعال نتفكر هذه المسألة نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم إبناءه وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ قيل: أراد بالأبناء الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبالنفس صلّى الله عليه وسلّم وعليا رضي الله عنه وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين ثُمَّ نَبْتَهِلْ قال ابن عباس: نتضرع في الدعاء وقيل: معناه نجتهد ونبالغ في الدعاء. وقيل: معناه نلتعن والابتهال الالتعان يقال عليه بهلة الله أي لعنة الله فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ يعني منا ومنكم في أمر عيسى قال المفسرون: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا فلما خلا بعضهم ببعض قالوا للعاقب: وكان كبيرهم وصاحب رأيهم ما ترى يا عبد المسيح قال لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فإن أبيتم إلّا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لهم: إذا دعوت فأمنوا فلما رآهم أسقف نجران قال: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل أهله لأزاله من مكانه فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نباهلك وأن نتركك على دينك وتتركنا على ديننا فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا ذلك. فقال: إني أناجز فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ما لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا وأن نؤدي إليك في كل سنة ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب زاد في رواية وثلاثا وثلاثين درعا عادية وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا غازية فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا». فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا لتبيين الصادق من الكاذب منه ومن خصمه وذلك يختص به وبمن يباهله فما معنى ضم الأبناء والنساء في المباهلة. قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه، فلذلك ضمهم في المباهلة، ولم يقتصر على تعريض نفسه لذلك وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك استئصال إن تمت المباهلة، وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلب وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتى يقتل وإنما قدمهم في الذكر على النفس لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب

[سورة آل عمران (3): الآيات 62 إلى 64]

منزلتهم، وفيه دليل قاطع وبرهان واضح على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 62 الى 64] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) إِنَّ هذا يعني الذي قص عليك يا محمد من خبر عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وأصله من القصص وهو تتبع الأثر والقصص الخبر الذي تتتابع فيه المعاني وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إنما دخلت من لتوكيد النفي والمعنى أن عيسى ليس بإله كما زعمت النصارى ففيه رد عليهم ونفي جميع من ادّعى من المشركين أنهم آلهة وإثبات الإلهية لله تعالى وحده لا شريك له في الإلهية وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره وادّعى معه إلها آخر الْحَكِيمُ يعني في تدبيره وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم. قوله لهم. قوله عز وجل: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ قال المفسرون: لما قدم وفد نجران المدينة اجتمعوا باليهود واختصموا في إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به وقالت اليهود: بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود: ما تريد إلّا أن نتخذك ربما كما اتخذت النصارى عيسى ربا. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله عز وجل: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا أي هلموا إلى كلمة يعني فيها إنصاف ولا ميل فيها لأحد على صاحبه، والعرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح كلمة سواء أي عدل لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن وتفسير الكلمة قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس فجعلوا الواحد ثلاثة واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وذلك أنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الشرك ويسجدون لهم فهذا معنى اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فثبت أن النصارى قد جمعوا بين هذه الثلاثة أشياء ومعنى الآية قل: يا محمد لليهود والنصارى هلموا إلى أمر عدل نصف وهو أن لا نقول عزير ابن الله ولا نقول المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بشر مخلوق مثلنا ولا نطيع أحبارنا ورهباننا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع ولا يسجد بعضنا لبعض لأن السجود لغير الله حرام فلا نسجد لغير الله وقيل: معناه ولا نطيع أحدا في معصية الله فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عما أمرتهم به فَقُولُوا أنتم لهؤلاء اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مخلصون بالتوحيد لله والعبادة له. (ق) عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم اليرسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون لفظ الحديث أحد روايات البخاري، وقد أخرجه

[سورة آل عمران (3): الآيات 65 إلى 66]

بأطول من هذا وفيه زيادة قوله اليريسيين وفي رواية الأريسيين والأريس الأكار وهو الزراع والفلاح وقيل: هم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول بعثه الله فخالفه قومه وقيل هم الأروسيون وهم نصارى أتباع عبد الله بن أروس وهم الأروسة. وقيل: هم الأريسون بضم الهمزة وهم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم وقيل: هم المتبخترون وقيل: هم اليهود والنصارى الذين صددتهم عن الإسلام واتبعوك على كفرك. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 65 الى 66] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: اجتمع عند النبي صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران وأحبار اليهود فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا يهوديا. وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلّا نصرانيا فأنزل الله فيهم يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم؟ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ومعنى الآية اليهود والنصارى لما اختصموا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن إبراهيم عليه السلام وادّعت كل طائفة أنه كان منهم وعلى دينهم فبرأ الله عز وجل إبراهيم مما ادعوا فيه وأخبر أن اليهودية والنصرانية إنما حدثا بعد نزول التوراة والإنجيل وإنما نزلا بعد إبراهيم بزمان طويل فكان بين إبراهيم وبين موسى ونزول التوراة عليه خمسمائة سنة وخمسة وسبعون سنة وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة. وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة وأورد على هذا التأويل أن الإسلام أيضا إنما حدث بعد إبراهيم وموسى وعيسى بزمان طويل، وكذلك إنزال القرآن إنما نزل بعد التوراة والإنجيل فكيف يصح ما ادعيتم في إبراهيم أنه كان حنيفا مسلما وأجيب عنه بأن الله عز وجل أخبر في القرآن بأن إبراهيم كان حنيفا مسلما وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا فصح وثبت ما ادعاه المسلمون وبطل ما ادعاه اليهود والنصارى. وهو قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني بطلان قولكم يا معشر اليهود والنصارى حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه وهو موضع النداء يعني يا هؤلاء والمراد بهم أهل الكتابين يعني يا معشر اليهود والنصارى حاجَجْتُمْ أي جادلتم وخاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني فيما وجدتم في كتبكم وأنزل عليكم بيانه في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني أنه ليس في كتابكم أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا وَاللَّهُ يَعْلَمُ يعني ما كان إبراهيم عليه من الدين وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك والمعنى وأنتم جاهلون بما تقولون في إبراهيم ثم برأه الله عز وجل عما قالوا فيه وأعلمهم أن إبراهيم بريء من دينهم. فقال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 67 الى 68] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يعني لم يكن كما ادعوه فيه، ثم وصفه بما كان عليه من الدين فقال تعالى: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً يعني مائلا عن الأديان إلى الدين المستقيم وهو الإسلام وقيل: الحنيف الذي يوجد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني الذين يعبدون الأصنام وقيل: فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بإلهية المسيح وعبادتهم له. قوله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ يعني أخصهم به وأقربهم منه لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني الذين كانوا في زمانه وآمنوا به واتبعوا شريعته وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني هذه الأمة

الإسلامية وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يعني بالنصر والمعونة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين أخرجه الترمذي وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وكان من أمر بدر وما كان اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ثأرا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهما الهدايا الأدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولأصحابك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلّا السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد فقتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكم. قال: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله تعالى فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك فقال لهما النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق نسجد لله الذي خلقك وملكك إنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر أنا قال فتكلم قال: إنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وإنما أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم فقال النجاشي أعبيد هم أم أحرار؟ فقال بل أحرار كرام فقال النجاشي: نجوا من العبودية فقال جعفر: سلهما هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو: لا ولا قطرة قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه فقال عمرو: لا ولا قيراط فقال النجاشي: فما تطلبون منهم قال كنا وإياهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي: وما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا قالوا: اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له فقال له: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ

[سورة آل عمران (3): الآيات 69 إلى 72]

عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه فقال النجاشي: فما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما بقذى العين وقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم غرم ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 72] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ نزلت في معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت فيهم ودت طائفة أي تمنت جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود لو يضلونكم يعني عن دينكم ويردونكم إلى الكفر وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين وَما يَشْعُرُونَ يعني أن وبال الإضلال يعود عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمني إضلال المسلمين وما يقدرون على ذلك إنما يضلون أمثالهم وأتباعهم وأشياعهم يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب لليهود لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن. وقيل المراد بآيات الله الواردة في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وسبب كفرهم بالتوراة والإنجيل على هذا القول هو تحريفهم وتبديلهم ما فيها من بيان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته والبشارة بنبوته لأنهم ينكرون ذلك، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أن نعته وصفته مذكور في التوراة والإنجيل، وذلك أن أحبار اليهود كانوا يكتمون الناس نعته وصفته فإذا خلا بعضهم ببعض أظهروا ذلك فيما بينهم وشهدوا أنه حق يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وذلك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعلمون بقلوبهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله وأن دينه حق، وكانوا ينكرون ذلك بألسنتهم وكانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات والتشكيكات، وذلك أن الساعي في إخفاء الحق لا يقدر على ذلك إلّا بهذه الأمور فقوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ معناه تحريف التوراة وتبديلها فيخلطون المحرف الذي كتبوه بأيديهم بالحق المنزل وقيل هو خلط الإسلام باليهودية والنصرانية وذلك أنهم تواطؤوا على إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره، والمراد بذلك تشكيك الناس وقيل إنهم كانوا يقولون: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم معترف بصحة نبوة موسى وإنه حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى لا ينسخ فهذا من تلبيساتهم على الناس وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته في التوراة وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنه رسول من عند الله وأن دينه حق وإنما كتمتم الحق عنادا وحسدا وأنتم تعلمون ما تستحقون على كتمان الحق من العقاب. قوله عز وجل: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وهذا نوع آخر من

[سورة آل عمران (3): آية 73]

تلبيسات اليهود، وقيل تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون اعتقاد القلب ثم اكفروا آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا أن محمدا ليس هو بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه فإذا فعلتم ذلك شك أصحاب محمد في دينه واتهموه وقالوا: إنهم أهل الكتاب وأعلم به منا فيرجعون عن دينهم وقيل: هذا في شأن القبلة وذلك أنه لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد في أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يرجعون فيقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا فأطلع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على سرهم وأنزل هذه الآية، ووجه النهار أوله والوجه مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه وأنشدوا في معناه. من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عنه أي إنا ألقينا هذه الشبهة لعلهم يشكون في دينهم فيرجعون عنه ولما دبروا هذه الحيلة أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بها فلم تتم لهم ولم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام من الله تعالى لكان ربما أثر ذلك في قلوب بعض من كان في إيمانه ضعف قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 73] وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هذا متصل بالأول وهو من قول اليهود يقول بعضهم لبعض ولا تؤمنوا أي ولا تصدقوا إلّا لمن تبع دينكم أي وافق ملتكم التي أنتم عليها وهي اليهودية. واللام في لمن صلة كقوله ردف لكم أي ردفكم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إن الدين دين الله والبيان بيانه، وهذا خبر من الله تعالى ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال: هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول وهو إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ومعنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من فلق البحر وإنزال المن والسلوى عليكم وغير ذلك من الكرامات، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم فلما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك قال في أثناء ذلك قل إن الهدى هدى الله، والمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وأمره فإذا أمر بدين آخر وجب اتباعه والانقياد لحكمه لأنه هو الذي هدى إليه وأمر به وقيل: معناه قل لهم: يا محمد إن الهدى هدى الله وقد جئتكم به ولن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف وقرأ الحسن والأعمش إن يؤتى بكسر الألف فيكون قول اليهود تاما عند قوله إلّا لمن تبع دينكم وما بعده من قول الله تعالى والمعنى قل يا محمد إن الهدى هدى الله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وتكون أن معنى الجحد أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد من الدين والهدى أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني إلّا أن يحاجوكم أي اليهود بالباطل فيقولوا: نحن أفضل منكم وقوله عند ربكم أي عند فعل ربكم وقيل: أو في قوله أو يحاجوكم بمعنى حتى ومعنى الآية ما أعطى الله أحدا مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم وقرأ ابن كثير آن يؤتى بالمد على الاستفهام، وحينئذ يكون في الكلام اختصار تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة فتحسدونه ولا تؤمنون به هذا قول قتادة والربيع قالا: هذا من قول الله تعالى قل يا محمد إن الهدى هدى الله ألأن أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وقوله: أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون أو بمعنى إن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر. والمعنى وأن

[سورة آل عمران (3): الآيات 74 إلى 75]

يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم قل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه ويحتمل أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ويكون نظم الآية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، فإن حسدوكم فقل إن الفضل بيد الله، فإن حاجوكم فقل إن الهدى هدى الله ويحتمل أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله لعلهم يرجعون وقوله: ولا تؤمنوا من كلام الله تعالى ثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبس اليهود وتزويرهم في دينهم يقول الله عز وجل: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلّا لمن تبع دينكم ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. فتكون الآية كلها خطابا للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا ولا يشكوا وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بِيَدِ اللَّهِ أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقال الله تعالى ردا عليهم قل لهم ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأصل الفضل في اللغة الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير وَاللَّهُ واسِعٌ أي ذو سعة يتفضل على من يشاء عَلِيمٌ أي بمن يتفضل عليه وهو للفضل أهل. [سورة آل عمران (3): الآيات 74 الى 75] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ يعني بنبوته ورسالته وقيل بدينه الذي هو الإسلام وقيل بالقرآن مَنْ يَشاءُ يعني من خلقه وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلّا بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الاختصاص وللفاعل أن يفعل ما يشاء إلى من يشاء بغير استحقاق وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قوله عز وجل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ الآية نزلت في اليهود أخبر الله عز وجل أن فيهم أمانة وخيانة وقسمهم قسمين، والقنطار عبارة عن المال الكثير والدينار عبارة عن المال القليل يقول منهم من يؤد الأمانة وإن كثرت مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومنهم من لا يؤديها وإن قلت: وهم كفار أهل الكتاب مثل كعب بن الأشرف وأصحابه قال ابن عباس في هذه الآية: أودع رجل من قريش عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه فذلك قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يعني فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فخانه وجحده ولم يؤده إليه. وقيل: أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود لأن مذهبهم أن يحل قتل من خالفهم في أمر الدين وأخذ ماله بأي طريق كان إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال ابن عباس: يريد تقوم عليه وتطالبه بالإلحاح والخصومة والملازمة وقيل: معناه إلّا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلا عليه بالمطالبة له والتعنيف بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقيل أراد أنه إن أودعته شيئا ثم استرجعته منه في الحال وأنت قائم على رأسه لم تفارقه رده عليك. وإن أخرت استرجاع ما أودعته وأنكره ولم يرده عليك ذلِكَ أي سبب ذلك الاستحلال والخيانة بِأَنَّهُمْ قالُوا يعني اليهود لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني أنهم يقولون ليس علينا إثم ولا حرج في أخذ مال العرب وذلك أن اليهود قالوا: أموال العرب حلال لنا إنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم وقيل: إن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا وقيل إنهم قالوا: إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد

[سورة آل عمران (3): الآيات 76 إلى 77]

العرب فهو لنا، وإنما هم ظلمونا وغصبوها منا فلا سبيل علينا في أخذها منهم بأي طريق كان وقيل إن اليهود كانوا يبايعون رجالا من المسلمين في الجاهلية. فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فأكذبهم الله تعالى فقال وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعين اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أنهم كاذبون ثم إنه تعالى رد على اليهود قولهم فقال: [سورة آل عمران (3): الآيات 76 الى 77] بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) بَلى أي ليس الأمر كما قالوا بل عليهم سبيل ولفظة بلى لمجرد نفي ما قبلها فعلى هذا يحسن الوقوف عليها ثم يبتدئ من أوفى أي ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن الذي أنزل عليه وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها وقيل الهاء في قوله بعهده راجعة إلى الموفى وَاتَّقى يعني الكفر والخيانة ونقض العهد فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني الذين يتقون الشرك. (ق) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر، وفي رواية إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا قال عكرمة نزلت هذه الآية في أحبار اليهود ورؤسائهم أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب الذين كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرشا والمآكل التي كانوا يأخذونها من أتباعهم وسفلتهم وقيل نزلت في ادعاء اليهود الذين قالوا: إنه ليس علينا في الأميين سبيل وكتبوا ذلك بأيديهم وحلفوا أنه من عند الله وقيل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له. (ق) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان» قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصداقه من كتاب الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية وفي رواية: «قال من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية. فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا كذا وكذا فقال صدق فيّ نزلت كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: شاهداك أو يمينه قلت إنه إذا يحلف لا يبالي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان». ونزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية. وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا: إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي. وقيل نزلت هذه الآية في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. (خ) عن عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجل أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية. وقيل الأقرب حمل الآية على الكل فقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق فكل ذلك من عهد الله الذي يجب الوفاء به. ومعنى إن الذين يشترون يستبدلون بعهد الله يعني الأمانة وأيمانهم يعني الكاذبة ثمنا قليلا يعني شيئا يسيرا من حطام الدنيا، وذلك لأن

[سورة آل عمران (3): الآيات 78 إلى 79]

المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا فكل واحد من يعطي، والمأخوذ ثمنا للآخر فهذا معنى الشراء أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم في الآخرة ونعيمها وجميع منافعها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يعني كلاما يسرهم به أو ينفعهم. وقيل: هو بمعنى الغضب وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيرا وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم بجميل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك»، (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب «وللنسائي» المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. (م) عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقالوا: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك» قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 78 الى 79] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَإِنَّ مِنْهُمْ يعني من اليهود لَفَرِيقاً يعني طائفة وجماعة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر يَلْوُونَ أي يعطفون ويميلون، وأصل اللي الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يعني بالتحريف والتغيير والتبديل وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه قال الواحدي: ويحتمل أن يكون المعنى يلوون بألسنتهم الكتاب لأنهم يحرفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم فيأتون به على القلب ونقل الإمام فخر الدين عن القفال قال يلوون ألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله يلوون ألسنتهم بالكتاب وقيل إنهم غير واصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم من التوراة وبدلوها، وآية الرجم وغير ذلك مما بدلوا وغيروا لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ يعني لتظنوا أن الذي حرفوه وبدلوه من الكتاب الذي أنزله الله أنبيائه وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ يعني ذلك الذي يزعمون أنه من الكتاب ما هو منه وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني الذي يقولونه ويغيرونه، وإنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أنهم كاذبون. وقال ابن عباس: إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس فيه. قوله عز وجل: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ قيل إن نصارى نجران قالوا إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا فقال الله تعالى ردا عليهم: ما كان لبشر يعني عيسى عليه السلام أن يؤتيه الله الكتاب يعني الإنجيل. وقال ابن عباس في قوله تعالى ما كان لبشر يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يؤتيه الله الكتاب يعني القرآن وذلك أن أبا رافع من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا: يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ قال معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله وما بذلك أمرني

[سورة آل عمران (3): الآيات 80 إلى 81]

الله، وما بذلك بعثني فأنزل الله هذه الآية ما كان لبشر أي ما ينبغي لبشر وهو جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ويوضع موضع الواحد والجمع أن يؤتيه الله الكتاب والحكم يعني الفهم والعلم، وقيل هو إمضاء الحكم من الله تعالى والنبوة يعني المنزلة الرفيعة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ومعنى الآية أنه لا يجتمع لرجل نبوة مع القول للناس كونوا عبادا لي من دون الله وكيف يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد أتاه الله ما أتاه من الكتاب والحكم والنبوة وذلك أن الأنبياء موصون بصفات لا يحصل معها ادعاء الإلهية والربوبية منها إن الله تعالى أتاهم الكتب السماوية، ومنها إيتاء النبوة ولا يكون إلّا بعد كمال العلم وكل هذه تمنع من هذه الدعوى وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ يعني ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، واختلفوا في معنى الرباني فقال ابن عباس: معناه كونوا فقهاء علماء وعنه كونوا فقهاء معلمين وقيل معناه حكماء حكماء، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم وكباره وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي وقيل الرباني الذي جمع بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس، ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم واحدهم ربان وهو الذي يربى العلم ويربي الناس أي يعلمهم وينصحهم والألف والنون للمبالغة فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وطاعته، وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية. وقيل الربانيون هم ولاة الأمر والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التأويل لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء ومعلمين الناس الخير ومواظبين على طاعة الله وعبادته. وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم وعلم الناس طريق الخير. وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع علمه وخاب سعيه. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 80 الى 81] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) وَلا يَأْمُرَكُمْ قرئ بنصب الراء عطفا على قوله ثم يقول: فيكون مردودا على البشر وقيل على إضمار أن أي ولا أن يأمركم، وقرئ برفع الراء على الاستئناف وهو ظاهر ومعناه ولا يأمركم الله وقيل لا يأمركم محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل ولا يأمركم عيسى وقيل ولا يأمركم الأنبياء أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً يعني كفعل قريش والصابئين حيث قالوا الملائكة بنات الله وكفعل اليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح والعزير ما قالوا وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله عز وجل من أهل الكتاب لم يحك عنهم إلّا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ إنما قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني لا يقول هذا ولا يفعله. قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قال الزجاج: موضع إذ نصب والمعنى واذكر في أقاصيصك إذ أخذ

الله. وقال الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين. وأصل الميثاق في اللغة عقد يؤكد بيمين، ومعنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين: أحدهما: أنه مأخوذ من الأنبياء. والثاني: أنه مأخوذ لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين. وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس وقيل: إنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين ويدل عليه قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وإنما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين، وإنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب والنبيون منا، وقيل أخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم جميعا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع وهو قول ابن عباس قال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه وقيل إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد والميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يؤمنوا به وينصروه وهذا قول كثير من المفسرين وقوله لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ قرئ بفتح اللام من لما وبكسرها مع التخفيف في القراءتين فمن قرأ بفتح اللام قال: معنى الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول يعني ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم في التوراة لتؤمنن به للذي عندكم في التوراة من ذكره ومن قرأ بكسر اللام جعل قوله لتؤمنن به من أخذ الميثاق كما يقال أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف فكان معنى الآية وإذ استحلف الله النبيين للذي أتاهم من كتاب وحكمة متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه وقوله ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ وذلك أن الله وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة وشرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته وأحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقا لها فيجب الإيمان به والانقياد لقوله ولام قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم تقديره والله لتؤمنن به وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال البغوي: قال الله عز وجل للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح أخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي الآية. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد من الله واجب، فإذا جاء رسول وظهرت المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم فهذا هو المراد من الميثاق قالَ أَأَقْرَرْتُمْ يعني قال الله تعالى: أأقررتم فإن فسرنا أن أخذ الميثاق كان من النبيين كان معناه قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان به والنصر له وإن فسرنا بأن أخذ الميثاق كان على الأمم كان معناه قال كل نبي لأمته أأقررتم وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه وإن كان النبيون أخذوه على الأمم فلذلك طلب هذا الإقرار وأضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا الميثاق وتأكيده على الأمم وطالبوهم بالقبول وأكدوا ذلك بالإشهاد وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي عهدي والإصر العهد الثقيل وقيل سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. قالُوا أَقْرَرْنا أي قال النبيون: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك قالَ فَاشْهَدُوا يعني قال الله عز وجل للنبيين: فاشهدوا يعني أنتم على أنفسكم وقيل: على أممكم وأتباعكم الذين أخذتم عليهم الميثاق وقيل: قال الله للملائكة فاشهدوا فهو

[سورة آل عمران (3): الآيات 82 إلى 83]

كناية عن غير مذكور، وقيل: معناه فاعلموا وبينوا لأن أصل الشهادة العلم والبيان وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني قال الله يا معشر الأنبياء وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى أتباعكم أو قال للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليهم. [سورة آل عمران (3): الآيات 82 الى 83] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونصرته بَعْدَ ذلِكَ الإقرار فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الإيمان والطاعة. قوله عز وجل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله أفغير دين الله الهمزة للاستفهام والمراد منه الإنكار والتوبيخ يعني أفبعد أخذ الميثاق عليهم ووضوح الدلائل لهم أن دين إبراهيم هو دين الله الإسلام. تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أفغير دين الله تطلبون يا معشر اليهود والنصارى وقرى بالياء على الغيبة ردا على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع وانقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس. واختلفوا في معنى قوله طوعا وكرها فقيل: أسلم أهل السموات طوعا وأسلم بعض أهل الأرض طوعا وبعضهم كرها من خوف القتل والسبي، وقيل: أسلم المؤمن طوعا وانقاد الكافر كرها، وقيل هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعا، ومن سبقت له الشقاوة قال ذلك كرها. وقيل: أسلم المؤمن طوعا فنفعه إسلامه يوم القيامة والكافر يسلم كرها عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة وقيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده فأما المسلم فينقاد لله فيما أمره أو نهاه عنه طوعا وأما الكافر فينقاد لله كرها في جميع ما يقتضي عليه ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قرئ بالتاء والياء والمعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 86] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ لما ذكر الله عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم مصدقا لما معهم فقال تعالى: قل آمنا بالله وإنما وحد الضمير في قوله قل وجمع في قوله آمنا بالله لأنه إنما خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن الله تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال: آمنا بالله تنبيها على أنه حين قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، ومعنى الآية: قل يا محمد صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا لا إله غيره ولا رب سواه وإنما قدم الإيمان بالله على غيره لأنه الأصل وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني وقل يا محمد وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وإنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب وأنه لم يحرف ولم يبدل وغيره حرف وبدل وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل

[سورة آل عمران (3): الآيات 87 إلى 90]

الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر وكانوا أنبياء ثم جمع جميع الأنبياء فقال وَالنَّبِيُّونَ أي وما أوتي النبيون مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون ببعض النبيين ويكفرون ببعض فأمر الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر عن نفسه وعن أمته أنه يؤمن بجميع الأنبياء. فإن قلت: لم عدي أنزل في «هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها في البقرة بحرف الانتهاء». قلت لوجود المعنيين جميعا لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وتارة بالمعنى الآخر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتنا. قوله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وأن كل دين سواه غير مقبول عنده لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين وقعوا في الخسارة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب وروى ابن جرير الطبري عن عكرمة: في قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت اليهود فنحن مسلمون فقال الله عز وجل لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم قل لهم ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا. قوله عز وجل: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ نزلت في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وحجوج بن الأسلت. وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والنصارى وذلك أن اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم يستفتحون به على الكفار ويقرون به ويقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم كفروا به بغيا وحسدا ومعنى كيف يهدي الله كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما كفروا أي جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم أي تصديقهم إياه وإقرارهم به وبما جاء به من عند ربه وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ يعني وبعد أن أقروا وشهدوا أن محمدا رسول الله إلى خلقه وأنه حق وصدق وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الحجج والبراهين والمعجزات الدالة على صحة نبوته التي بمثلها ثبتت النبوة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم إلى الحق والصواب لما سبق في علمه تعالى أنهم ظالمون وقيل لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب. فإن قلت: كيف قال في أول الآية كيف يهدي الله قوما كفروا وقال في آخرها والله لا يهدي القوم الظالمين وهذا تكرار؟ قلت: ليس فيه تكرار لأن قوله كيف يهدي الله قوما كفروا إنما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الآية فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني جميع الكفار المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي وإنما سمي الكافر ظالما لأنه وضع العبادة في غير موضعها. [سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 90] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ يعني الذين كفروا بعد إيمانهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها أي في عذاب اللعنة وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن وقت العذاب لا يؤخر عنهم من وقت إلى وقت ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد ارتدادهم وكفرهم وذلك أل الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى إلّا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا الله فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبا وقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توبته وحسن إسلامه وَأَصْلَحُوا أي وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة فبيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى

[سورة آل عمران (3): الآيات 91 إلى 92]

يضاف إليها العمل الصالح. وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو وقيل: غفور بإزالة العذاب رحيم بإعطاء الثواب. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ نزلت في اليهود وذلك أنهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى وغيره من أنبيائهم ثم ازدادوا كفرا يعني كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وقيل نزلت في اليهود والنصارى وذلك أنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه لما ثبت عندهم من نعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفوا يعني ذنوبا في حال كفرهم. وقيل نزلت في جميع الكفار وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ثم ازدادوا كفرا يعني بإقامتهم على كفرهم حتى هلكوا عليه، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد ريب المنون وقيل نزلت في أحد عشر رجلا من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام فلما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا على كفرهم بمكة وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا ومتى أردنا الرجعة ينزل فينا مثل ما نزل في الحارث فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم على كفره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية. فإن قلت قد وعد الله قبول التوبة ممن تاب فما يعني قوله لن تقبل توبتهم؟ قلت اختلف المفسرون في معنى قوله: لن تقبل توبتهم فقال الحسن وعطاء وقتادة والسدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو وقت الحشرجة لأن الله تعالى قال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته كأنه قال إن اليهود أو الكفار أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ثم ماتوا على ذلك لن تقبل توبتهم وقال ابن عباس: إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك ولم يتوبوا من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة. وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر وقال ابن جرير الطبري: معنى لن تقبل توبتهم أي مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم لأن الله تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده وأنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره لأن الله تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم. وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وهم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطئوا منهاجه. قوله عزّ وجلّ: [سورة آل عمران (3): الآيات 91 الى 92] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ قال ابن عباس: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حبا في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافرا من جميع أصناف اليهود والنصارى وعبدة الأصنام، فالآية عامة في جميع من مات على الكفر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها وَلَوِ افْتَدى بِهِ قيل معناه لو افتدى به والواو زائدة مقحمة وقيل الواو على حالها وفائدتها أنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا وقد مات على كفره لم ينفعه ذلك وكذا لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه

تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه. فإن قلت الكافر لا يملك شيئا في الآخرة فما وجه قوله فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا؟ قلت: الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير والمعنى لو أن للكافر قدر ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لبذله في تخليص نفسه من العذاب ولكن لا يقدر على شيء من ذلك وقيل معناه لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبا ثم مات على كفره لم ينفعه ذلك لأن الطاعة مع الكفر غير مقبولة أُولئِكَ إشارة إلى من مات على الكفر لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من العذاب (ق) عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك لفظ مسلم. قوله عز وجل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قال ابن عباس: يعني الجنة، وقيل: البر هو التقوى، وقيل هو الطاعة وقيل معناه لن تنالوا حقيقة البر ولن تكونوا أبرار حتى تنفقوا مما تحبون وقيل معناه لن تنالوا بر الله وهو ثوابه وأصل البر التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا». (م) عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا أبرارا وتدخلوا في زمرة الأبرار ومن قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال الله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وقيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (ق) عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: إن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا إلّا وقد كان، واختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس: هو الزكاة المفروضة والمعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة وفيه بعدا لأنه ترغيب في إخراج الزكاة وقال ابن عمر: المراد بها سائر الصدقات وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (ق) عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحا وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ ذلك مال رابح» أو قال ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه قوله بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرضا وتكريرها للمبالغة وهي مبنية على السكون فإذا وصلت جرب ونونت فقلت: بخ بخ قوله: مال رابح أي ذو ربح وفي الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه وثوابه وبيرحا اسم موضع بالمدينة وهو حائط كان لأبي طلحة. وروي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن الله عزّ وجلّ يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خطرت على قلبه هذه الآية:

[سورة آل عمران (3): آية 93]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال عبد الله فذكرت ما أعطاني الله تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه الله تعالى قال ولولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها وعن عمرو بن دينار قال لما نزلت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد قبلت صدقتك وفي رواية كأن زيدا أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أما إن الله قد قبلها وروى أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة فقال للراعي خنتني فقال الراعي وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوما حاجتكم إليه فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي وقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يعلمه ويجازيكم به. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 93] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكل ذلك كله فلست على ملته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان ذلك حلالا لإبراهيم قالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله عز وجل كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرم إسرائيل على نفسه وهو يعقوب من قبل أن ينزل التوراة يعني ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم بل كان ذلك حلالا على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وإنما حرمه يعقوب بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحضار التوراة وطلب منهم أن يستخرجوا منها أن ذلك كان حراما على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك وافتضحوا وبأن كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم وقيل: إن اليهود أنكروا شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وادعوا أن النسخ غير جائز، فأبطل الله ذلك عليهم وأخبر أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ وبطل قول اليهود بأن النسخ غير جائز، فأنكرت اليهود ذلك وقالوا: بل كان ذلك حراما من زمن آدم إلى هذا الوقت فألزمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحضار التوراة وقال: إن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخاف اليهود من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل بذلك كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها وبطل قولهم بأن النسخ غير جائز، وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم كان رجلا أميا لم يقرأ الكتب ولم يعرف ما في التوراة، فلما أخبر أن ذلك ليس في التوراة علم أن الذي أخبر به صلّى الله عليه وسلّم وحي من الله تعالى وقوله تعالى: كل الطعام يعني كل أنواع الطعام أو سائر المطعومات كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، واختلفوا في الذي حرم يعقوب على نفسه قيل حرم لحوم الإبل وألبانها وروى الطبري بسنده عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. وقال ابن عباس: هي العروق وكان سبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا وكان أصل وجعه فيما

[سورة آل عمران (3): الآيات 94 إلى 96]

روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذر لئن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح أحدهم. وفي رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة وقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا، فلما قدم يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال له: إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك. وقال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، وكان يعقوب رجلا بطشا قويا فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب وصعد إلى السماء ويعقوب ينظر فهاج به عرق النسا ولقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم ولا يأكلونها، وقيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبدا لله تعالى وسأل ربه أن تنجز فحرمه الله على ولده وهو ظاهر الآية لأن الله تعالى قال: كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالا لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم الله تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها وقال عطية: إنما كان حراما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال: إن عافاني الله تعالى لا يأكله ولد لي ولم يكن ذلك محرما عليهم في التوراة وقال الكلبي: لم يحرمه الله في التوراة وإنما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا أو صب عليهم رجزا وهو الموت. وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه لله عز وجل فكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة فَاتْلُوها أي فاقرؤوها وما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة فقال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 94 الى 96] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الافتراء اختلاق الكذب والافتراء الكذب والقذف والإفساد وأصله من فري الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي هم المستحقون للعذاب لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم وهذا رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم فيما بقي عليهم مما نطق به القرآن من تعديد مساويهم التي كانوا يرتكبونها قُلْ صَدَقَ اللَّهُ يعني قل صدق الله يا محمد فيما أخبر أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ، وبطل قول اليهود وقيل معناه صدق الله في قوله أن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة

لإبراهيم عليه السلام، وإنما حرمت على بني إسرائيل بسبب تحريمها إسرائيل على نفسه وقيل صدق الله في أن سائر الأطعمة كانت محللة على بني إسرائيل وإنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم ففيه تعريض بكذب اليهود والمعنى ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأخبر وأنتم كاذبون يا معشر اليهود فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم من ملة إبراهيم وهي الإسلام وهو الدين الصحيح وهو الذي عليه محمد ومن آمن معه وإنما دعاهم إلى ملة إبراهيم لأنها ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لم يدع مع الله إلها آخر ولا عبدا سواه. قوله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم وأرض المحشر. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية، وقيل لما ادعت اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم أكذبهم الله تعالى وأخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وأمرهم باتباعه فقال تعالى في الآية المتقدمة: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحج إلى الكعبة ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج وقوله: إن أول بيت وضع للناس الأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه وقيل هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقبه شيء آخر، أو لم يحصل والمعنى أن أول بيت وضع للناس أي وضعه الله موضعا للطاعات والعبادات وقبلة للصلاة وموضعا للحج وللطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الطاعات وكونه وضع للناس يعني يشترك فيه جميع الناس كما قال تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. فإن قلت: كيف أضافه إلى نفسه مرة في قوله وطهر بيتي وأضافه للناس أخرى بقوله وضع للناس. قلت: أما إضافته إلى نفسه فعلى سبيل التشريف والتعظيم له كقوله ناقة الله، وأما إضافته إلى الناس فلأنه يشترك فيه جميع الناس لأنه موضع حجهم وقبلة صلاتهم للذي ببكة. قيل هي مكة نفسه والعرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب لازم وقيل بكة اسم لموضع البيت ومكة اسم للبلد وفي اشتقاق بكة وجهان: أحدهما: أنه من البك الذي هو عبارة عن الدفع يقال بكه يبكه إذا دفعه وزاحمه ولهذا قال سعيد بن جبير: سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ولم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى وهذا قول عبد الله بن الزبير، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا مص كل ما فيه من اللبن، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وسميت مكة أم رحم لأن الرحمة تنزل بها، والحاطمة لأنها تحطم من استخلف بحرمتها، أو لأن الناس يحطم بعضهم بعضا من الزحمة، وسميت أم القرى لأنها أصل كل بلدة ومن تحتها دحيت الأرض، واختلف العلماء في كون البيت أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما أنه أول في الوضع والبناء قال مجاهد: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين وفي رواية عنه إن الله خلق موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي عام، وقيل هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض خلقه قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض من تحته. وهذا قول ابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي. وقيل هو أول بيت بني على الأرض. وروي عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور وأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين في الأرض أن يبنوا بيتا في الأرض على مثاله وقدره فبنوا هذا البيت واسمه الضراح، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام وكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت له الملائكة بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وقال ابن عباس: هو أول بيت بناه آدم في الأرض قيل إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش وشكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة فبناها وطاف بها وبقي ذلك البناء إلى زمان نوح

[سورة آل عمران (3): آية 97]

عليه السلام فلما كان الطوفان رفع الله البيت إلى السماء وبقي موضع البيت أكمة بيضاء إلى أن بعث الله إبراهيم عليه السلام فأمره ببنائه. القول الثاني، أن المراد من الأولية كون هذا أول بيت وضع للناس مباركا ويدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وروي أن رجلا قام إلى علي بن أبي طالب فقال: ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال : لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع الناس مباركا وهدى وفيه مقام إبراهيم ومن دخل كان آمنا وقال الحسن: وهو أول مسجد عبد الله فيه، وقال مطرف: هو أول بيت وضع للعبادة. وقال الضحاك: هو أول بيت وضع فيه البركة، وأول بيت وضع للناس يحج إليه، وأول بيت جعل قبلة للناس. (ق) عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا فحيثما أدركت الصلاة فصلّ» زاد البخاري فإن الفضل فيه وقوله مُبارَكاً يعني ذا بركة وأصل البركة النمو والزيادة، وقيل هو ثبوت الخير الإلهي فيه وقيل هو أول بيت خص بالبركة وزيادة الخير وقيل لأن الطاعات وسائر العبادات تتضاعف ويزداد ثوابها عنده (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يعني أنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم. وقيل لأن فيه دلالة على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره. وقيل هو هدي للعالمين إلى الجنة لأن من قصده بأن صلّى إليه أو حجه فقد أوجب الله تعالى له الجنة برحمته. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 97] فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أي فيه دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله، ثم اختلفوا في تفسير تلك الآيات فقيل هي قوله مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وقيل الآيات غير مذكورة وهي ما يدل على فضل هذا البيت منها أن الطير لا يطير فوق الكعبة في الهواء بل ينحرف عنها إذا وصل إليها يمينا وشمالا، ومنها أن الوحوش لا تؤذي بعضها في الحرم حتى الكلاب لا تهيج الظباء ولا تصطادها، ومنها أن الطير إذا مرض منه شيء استشفى بالكعبة ومنها تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمة البيت وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه الله كما أهلك أصحاب الفيل وغيرهم، ومن الآيات التي فيه الحجر الأسود والملتزم والحطيم وزمزم ومشاعر الحج التي فيه كلها من الآيات، ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الجليل والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل فهذه فضيلة عظيمة لهذا البيت. قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قيل لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم، علم أن المراد بقوله ومن دخله كان آمنا جميع الحرم ويدل عليه أيضا دعوة إبراهيم حيث قال رب اجعل هذا البلد آمنا يعني من أن يهاج فيه وكانت العرب يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض وكان من دخل الحرم آمن من القتل والغارة وهو المراد من حكم الآية على قول أكثر المفسرين قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وقيل في معنى الآية ومن دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان آمنا، وقيل هو خبر بمعنى الأمر تقديره ومن دخله فأمنوه وهو قول ابن عباس حتى ذهب أبو حنيفة إلى أن من وجب عليه القتل قصاصا كان أو أحدا فالتجأ إلى الحرم فإنه لا يستوفى منه القصاص أو الحد في الحرم لكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى ولا يكلم ويضيق عليهم حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد خارج الحرم. وقال الشافعي: إذا وجب عليه القصاص خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم استوفي منه في الحرم. وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم أو سرق أو

زنى فإنه يستوفى منه الحد في الحرم عقوبة له، وقيل في معنى الآية ومن دخله معظما له متقربا بذلك إلى الله تعالى كان آمنا من العذاب يوم القيامة وقيل ومن دخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك. قوله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي ولله على الناس فرض حج البيت والحج أحد أركان الإسلام. (ق) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان» فعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الحج من أركان الإسلام الخمسة و «من استطاع إليه سبيلا» يعني وفرض الحج واجب على ما استطاع من أهل التكليف ووجد السبيل إلى حج البيت الحرام. (فصل في فضل البيت والحج والعمرة) (ق) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول بيت وضع للناس مباركا يصلي فيه الكعبة قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما». عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن وإنما سودته خطايا بني آدم» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحجر: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق» وله عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب». قال الترمذي: وهذا يروي عن ابن عمر موقوفا (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى» (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى». (م) عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال له رجل: في كل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال الزاد والراحلة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد الجوزي المكي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حج لله عز وجل وفي لفظ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» أخرجه الترمذي وقال: «غفر له ما تقدم من ذنبه» وعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلّا الجنة. وما من مؤمن يظل يومه محرما إلا غابت الشمس بذنوبه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم لبى إلا بلي ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا وقال الترمذي: هذا حديث غريب وله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» قال الترمذي: هذا حديث غريب. (فصل: في أحكام تتعلق بالحج) قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، ولا يجب على الكافر والمجنون، ولو حجا لم يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لقول المجنون ولا يجب على الصبي والعبد ولو حج صبي يعقل، أو حج عبد صح حجهما تطوعا، ولا يسقط الفرض فإذا بلغ الصبي وعتق العبد واجتمع فيهما شرائط الحج وجب عليهما

أن يحجا ثانيا، ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فلو تكلف غير المستطيع الحج وحج صح حجه وسقط عنه فرض عنه فرض حجة الإسلام والاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعا بنفسه، والآخر أن يكون مستطيعا بغيره فأما المستطيع بنفسه فهو أن يكون قويا قادرا على الذهاب ووجد الزاد والراحلة لما تقدم من حديث ابن عمر في الزاد والراحلة قال ابن المنذر، وحديث الزاد والراحلة لا يثبت لأنه ليس بمتصل وإنما المرفوع ما رواه إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم متروك الحديث قال يحيى بن معين: إبراهيم ليس بثقة قال ابن المنذر: واختلف العلماء في قوله تعالى: من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة الآية على العموم إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا فعلى كل مستطيع الحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج على ظاهر الآية قال: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة الصحة، وقال الضحاك: إذا كان شابا صحيحا فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وقال مالك الاستطاعة على إطاقة الناس الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي وآخر يقدر على المشي على رجليه وقالت طائفة: الاستطاعة الزاد والراحلة كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل واحتجوا بحديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: الاستطاعة وجهان: أحدهما أن يكون الرجل مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج فتكون استطاعته تامة فعليه فرض الحج. والثاني: لا يقدر أن يثبت على الراحلة وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه، أو قادر على مال ويجد من يستأجره فيحج عنه فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج. أما حكم الزاد والراحلة فهو أن يجد راحلة تصلح له ووجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم وعن دين إن كان عليه ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت العادة بخروج أهل البلد في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلّا بقطع أكثر من مرحلة لا يلزمه الخروج معهم. ويشترط أن يكون الطريق آمنا فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر أو رصدي يطلب الخفارة لا يلزمه. ويشترط أن تكون منازل الماء مأهولة معمورة يجد فيها ما جرت العادة بوجوده من الماء والزاد فإن تفرق أهلها بجدب أو غارت مياهها فلا يلزمه الخروج ولو لم يجد الراحلة وهو قادر على المشي أو لم يجد الزاد وهو قادر على الاكتساب لا يلزمه الحج عند من جعل وجدان الزاد والراحلة شرطا لوجوب الحج ويستحب له أن يفعل ذلك ويلزمه الحج عند مالك. وأما المستطيع بغيره فهو أن يكون الرجل عاجزا بنفسه بأن كان زمنا أو به مرض لا يرجى برؤه وله مال يمكنه أن يستأجر من يحج عنه فيجب عليه أن يستأجر من يحج عنه وإن لم يكن له مال وبذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه لزمه الحج إن كان يعتمد على صدقه لأن وجوب الحج متعلق بالاستطاعة. وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة وعند مالك لا يجب على من غصب ماله وحجة من أوجب الحج ببذله الطاعة. ما روي عن ابن عباس قال: «كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحجة أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم وذلك في حجة الوداع» أخرجاه في الصحيحين. قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته وكفر به فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن جميع خلقه وقيل نزلت فيمن وجد ما يحج ثم مات ولم يحج فهو كفر به لما روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 إلى 100]

مجهول والحارث يضعف في الحديث وقيل هو الذي إن حج لم يره برا وإن قعد لم يره إثما، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل حيث قالوا: إنا مسلمون فنزلت ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا. وقالوا: الحج إلى مكة غير واجب وكفروا به فنزلت ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. فعلى هذه الأقوال تكون هذه الآية متعلقة بما قبلها وقيل إنه كلام مستأنف ومعناه ومن كفر بالله واليوم الآخر فإن الله غني عن العالمين. وقوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 100] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قيل الخطاب لعلماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل الخطاب لجميع أهل الكتاب اليهود والنصارى الذين أنكروا نبوته لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه حق وصدق والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل المراد بآيات الله القرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ أي والله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ، يعني لم تصرفون عن دين الله من آمن وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهة والشكوك وذلك بإنكارهم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم تَبْغُونَها عِوَجاً، يعني زيغا وميلا عن الحق والعوج بالكسر الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى فأما الشيء الذي يرى كالحائط والقناة ونحو ذلك يقال فيه عوج بفتح العين والهاء في قوله تبغونها عائدة على السبيل والمعنى لم تطلبون الزيغ والميل في سبيل الله بإلقاء الشبه في قلوب الضعفاء وَأَنْتُمْ شُهَداءُ قال ابن عباس: يعني وأنتم شهداء أن نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته مكتوب في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام وقيل معناه وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم الدالة على نبوته وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد لهم وذلك أنهم كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلذلك قال الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية قال زيد بن أسلم: مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين فمر بنفر من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال له اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهر وهي الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضهم إلى بعض على دعواهم في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزعة من

[سورة آل عمران (3): الآيات 101 إلى 102]

الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا واعتنق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين قال جابر: فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني شاسا اليهودي وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء وفي الآخرة النار ثم قال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 101 الى 102] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وكلمة كيف كلمة تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال، فالمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله وهي القرآن حالا بعد حال وكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكم يرشدكم إلى مصالحكم وذلك يمنع من وقوع الكفر فكان وقوع الكفر منهم بعيدا على هذا الوجه قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبي الله صلّى الله عليه وسلّم أما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله تعالى فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة. (م) عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ الناس وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة، وفيه حث لهم في الالتجاء إلى الله تعالى في دفع شر الكفار عنهم فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ. قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أصلح بينهم فافتخر بعد ذلك منهم رجلان وهما ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج. فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدبر ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحكمه في بني قريظة وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال ابن عباس: هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى. وقال مجاهد: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم وعن أنس قال: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، وقيل حق تقاته يعني واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. واختلف العلماء في هذا القدر من هذه الآية هل هو منسوخ أم لا على قولين أحدهما أنه منسوخ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا؟ فأنزل الله تعالى الناسخ وهو قوله تعالى في سورة التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد والسدي. والقول الثاني أنها محكمة غير منسوخة وهو رواية عن ابن عباس أيضا وبه قال طاوس: وموجب هذا الاختلاف يرجع إلى معنى الآية فمن قال إنها منسوخة قال حق تقاته هو أن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه فهذا يعجز العبد عن الوفاء به فتحصيله ممتنع ومن قال بأنها محكمة قال: إن حق تقاته أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته فكان قوله تعالى

[سورة آل عمران (3): آية 103]

اتقوا الله ما استطعتم مفسرا لحق تقاته لا ناسخا ولا مخصصا فمن اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقواه وقيل معنى حق تقاته كما يجب أن يتقي وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، وقيل في معنى قول ابن عباس هو أن يطاع فلا يعصى هذا صحيح والذي يصدر من العبد على سبيل السهو والنسيان غير قادح فيه لأن التكليف في تلك الحال مرفوع عنه وكذلك قوله: وأن يشكر فلا يكفر فواجب على العبد حضور ما أنعم الله به عليه بالبال، وأما عند السهو فلا يجب عليه. وكذلك قوله وأن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة لا عند السهو والنسيان. وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لفظ النهي واقع على الموت والمعنى واقع على الأمر بالإقامة على الإسلام، والمعنى كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك. وقيل هذا في الحقيقة نهي عن ترك الإسلام المعنى لا تتركوا الإسلام فإن الموت لا بد منه فمتى جاءكم صادفكم وأنتم على الإسلام لأنه لما كان يمكنكم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، وقيل معناه ولا تموتن إلّا وأنتم مسلمون مخلصون مفوضون إلى الله أموركم تحسنون الظن به عزّ وجلّ. عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فقال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 103] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي تمسكوا بحبل الله والحبل هو السبب الذي يتوصل به إلى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف وقيل حبل الله هو السبب الذي به يتوصل إليه فعلى هذا اختلفوا في معنى الآية فقال ابن عباس: معناه تمسكوا بدين الله لأنه سبب يوصل إليه، وقيل حبل الله هو القرآن لأنه أيضا سبب يوصل إليه. وفي أفراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة» الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به» وذكره البغوي بغير سند وقال ابن مسعود: هو الجماعة وقال عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة وقيل بحبل الله يعني بأمر الله وطاعته وَلا تَفَرَّقُوا يعني كما تفرقت اليهود والنصارى وقيل ولا تفرقوا يعني كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضا ويقتل بعضكم بعضا. قيل معناه لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها ففيه النهي عن التفرق والاختلاف والأمر بالاتفاق والاجتماع لأن الحق لا يكون إلا واحدا وما عداه يكون جهلا وضلالا وإذا كان كذلك وجب النهي عن الاختلاف في الدين وعن الفرقة لأن كل ذلك كان عادة أهل الجاهلية فنهوا عنه وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال». قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً قال

محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة قتيل ثم تطاولت تلك العداوة والحروب بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسبب ذلك أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه قدم مكة حاجا أو معتمرا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث وأمر بالدعوة فتصدى له النبي حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما الذي معك؟ قال مجلد لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرضها علي فعرضها عليه فقال: إن هذا الكلام حسن ومعي أفضل من هذا قرآن أنزل الله عز وجل على نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول قول حسن ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج يوم بعاث وإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم. ثم قدم أبو الحيس أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم وجلس إليهم وقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم له قالوا وما هو؟ قال أنا رسول الله قد بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيس حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج فلم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلّى الله عليه وسلّم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على القبائل من العرب كما كان يصنع في كل موسم فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفر أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة وعقبة بن عامر بن بابي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالي اليهود قالوا نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وهم أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّا الآن مبعوث قد أظل زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا معه وقالوا إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى بلادهم فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابنا عفراء ورافع بن مالك العجلاني وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت وزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر فهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف الآية فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم قال وذلك قبل أن يفرض الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ، وكان منزله على

أسعد بن زرارة ثم إن أسعد بن زرارة خرج ومصعب فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد بن خالتي ولولا ذلك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما بعد مشركان فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب: وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب إن يجلس أكلمه فلما وقف عليهما متشتما وقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة قال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن قال والله لعرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراقه وتسهله ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق ثم صلى ركعتين ثم قال: إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر سعد إلى أسيد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقال: لا نفعل إلا ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضبا للذي ذكره من بني حارثة فأخذ الحربة ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا فانصرف إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره وقد كان قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن يتبعك لم يخالفك أحد منهم، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره فقال سعد: أنصفت ثم ركزا الحربة وجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا فعرفنا والله الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراق وجهه وتسهله ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته وأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رأوه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة. قال: فإن كان رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما أمسى في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة ورجع أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير إلى منزل أسعد فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلّا ما كان من دار أمية بن زيد وخطمة ووائل ووافق ذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فوعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية قال كعب ابن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد معنا العقبة وكان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل

خرجنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوقف له فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزو ومنعة قال فقلنا: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيّا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم فأخرجوا اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا فإنا نأخذ على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط يا أهل الحباحب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا عدو الله هذا أزب العقبة يعني شيطان العقبة اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انفضوا إلى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا به وبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدتان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوه يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ورمى بهما إليّ وقال والله لتنتعلنهما قال أبو جابر مه والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه قال فقلت لا أردهما قال: والله يا أبا صالح لئن صدق الفأل لأسلبنه قال: ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدوا العقد فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال

[سورة آل عمران (3): آية 104]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها» فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابعوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا إلى المدينة ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجمع الله عز وجل أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عز وجل: وَاذْكُرُوا يعني يا معشر الأنصار نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني بالإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً يعني قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ يعني بالإسلام وبنبيّه عليه الصلاة والسلام فأصبحتم بنعمته إخوانا يعني فصرتم برحمته وبدينه الإسلام إخوانا في الدين والولاية بعد العداوة وَكُنْتُمْ يا معشر الأوس والخزرج عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ يعني على طرف حفرة مثل شفا البئر ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا على كفركم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي فخلصكم بالإيمان من الوقوع في النار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. [سورة آل عمران (3): آية 104] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ اللام في قوله ولتكن لام الأمر أي لتكن منكم أمة دعاة إلى الخير، وقيل إن كلمة من في قوله منكم للتبيين لا للتبعيض وذلك لأن الله عز وجل أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيجب على كل مكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه (م) عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فعلى هذا يكون معنى الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به واحد سقط الفرض عن الباقين، وقيل إن من هنا للتبعيض وذلك لأن في الأمة من لا يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجز وضعف فحسن إدخال لفظ من في قوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وقيل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يختص بالعلماء ولاة الأمر فعلى هذا يكون المعنى ليكن بعضكم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. (خ) عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا» والخير المذكور في الآية هو كل شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: هو هنا كناية عن الإسلام والمعنى لتكن أمة أي جماعة دعاة إلى الإسلام وإلى كل فعل حسن يستحسن في الشرع والعقل وقيل الدعوة إلى فعل الخير يندرج تحتها نوعان: أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف. والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الحسن أولا وهو الخير ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه والمنكر ضد ذلك وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم تسيره. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 105 الى 106] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا يعني ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تفرقوا يعني أهل الكتاب

وهم اليهود والنصارى في قول أكثر المفسرين واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، وقيل تفرقوا واختلفوا بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد وقيل تفرقوا بسبب العداوة واتباع الهوى واختلفوا في دين الله فصاروا فرقا مختلفين قال الربيع في هذه الآية: هم أهل الكتاب نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا أو يختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب. وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في الدين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة وقال أبو أمامة: هم الحرورية: قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية على درج جامع دمشق فذرفت عيناه ثم قال: كلاب أهل النار وكانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، شر قتيل تحت أديم السماء، وخير قتيل تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء قلت فما شأنك دمعت عيناك قال رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا بعد إيمانهم ثم أخذ بيدي وقال: إن بأرضي منهم كثير وفي رواية ثم قرأ بعد قوله: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا إلى قوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ورواه الترمذي عن أبي غالب قال رأى أبو أمامة: رؤوسا منصوبة على درج دمشق فقال أبو أمامة كلاب أهل النار شر قتلي تحت أديم السماء خير قتلي من قتلوه ثم قرأ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى آخر الآية قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات حتى عد سبعا ما حدثتكموه وقال فيه هذا حسن وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الحجج الواضحات فعلموها ثم خالفوها وإنما قال جاءهم ولم يقل جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيها بعلامة التثنية والجمع وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا لهم عذاب عظيم في الآخرة وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والخلاف عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أخرجه أبو داود. أراد بربقة الإسلام عقد الإسلام وأصله أن الربق حبل فيه عدة عرا يشد بها الغنم الواحدة من العري ربقة. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد» بحبوحة الجنة وسطها والفذ هو الواحد. قوله عز وجل: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني اذكروا يوم تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين، وقيل تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وقيل تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين وفي بياض الوجوه وسوادها قولان: أحدهما، إن البياض كناية عن الفرح والسرور والسواد كناية عن الغم والحزن، وهذا مجاز مستعمل يقال لمن نال بغيته وظفر بمطلوبه ابيضّ وجهه يعني من السرور والفرح ولمن ناله مكروه اسود وجهه وأريد لونه يعني من الحزن والغم قال الله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا يعني من الحزن فعلى هذا بياض الوجوه إشراقها وسرورها واستبشارها بعملها، وذلك أن المؤمن إذا ورد القيامة على ما قدم من خير وعمل صالح استبشر بثواب الله ونعمه عليه فإذا كان كذلك وسم وجهه ببياض اللون وإشراقه واستنارته وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه وعن يمينه وشماله. وأما الكافر والظالم إذا ورد القيامة على ما قدم من قبيح عمل وسيئات حزن واغتم لعلمه بعذاب الله فإذا كان كذلك وسم وجهه بسواد اللون وكمودته واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بفضل الله وسعة رحمته من الظلمات يوم القيامة والقول الثاني بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه فيبيض وجه المؤمن ويكسى نورا ويسود وجه الكافر ويكسى ظلمة لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما والحكمة في بياض الوجوه وسوادها أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن عرفوا أنه من أهل السعادة وإذا رأوا سواد وجه الكافر عرفوا أنه من أهل الشقاوة فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي فيقال لهم أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتقريع. فإن قلت كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين فمن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم. قلت

[سورة آل عمران (3): الآيات 107 إلى 108]

اختلف العلماء في ذلك فروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى فآمن الكل، فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان، وقال الحسن: هم المنافقون وذلك أنهم تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروه بقلوبهم. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب وذلك أنهم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه فلما بعث أنكروه وكفروا به وقيل هم الذين ارتدوا زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهم أهل الردة (ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأنا لهم اختلجوا دوني فأقول أي رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي لا تدري ما أحدثوا بعدك» زاد في رواية فأقول: «سحقا لمن بدل بعدي» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى» وقيل هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب وقتلهم وهم الحرورية. (م) عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي لما ساروا إلى الخوارج فقال عليّ: أيّها الناس إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» وفي رواية سويد بن غفلة عنه يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة (ق) عن بشير بن عمرو. قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في الخوارج شيئا قال: سمعته يقول وأهوى بيده إلى العراق «ويخرج منهم قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية» وقيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية ونحوهم ومن قال بهذا القول يقول كفرهم بعد إيمانهم هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا». وقال الحارث الأعور: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: على المنبر إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار ثم قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ الآية ثم نادى هم الذين كفروا بعد الإيمان ورب الكعبة. وقوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 107 الى 108] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يعني المؤمنين المطيعين لله عز وجل فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعني ففي جنة الله وإنما سميت الجنة رحمة لأنها دار رحمة وفيه إشارة إلى أن العبد وإن عمل بالطاعات لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى هُمْ فِيها خالِدُونَ قيل: إنما كرر كلمة في لأن في كل واحدة منهن معنى غير الأخرى المعنى أنهم في رحمة الله وأنهم في الرحمة خالدون تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن وقيل هذه الآيات التي تقدمت نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي بالمعنى الحق لأن المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ يعني لا يعاقب أحدا بغير جرم واستحقاق للعقوبة وإنما ذكر الظلم هنا لأنه قد تقدم ذكر العقوبة في قوله فأما الذين اسودّت وجوههم إلى قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أخبر أنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أفعالهم المنكرة وأنه لا يظلم أحدا من خلقه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 109 إلى 110]

[سورة آل عمران (3): الآيات 109 الى 110] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لما ذكر الله أنه لا يريد ظلما للعالمين لأنه لا حاجة به إلى الظلم، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالا أو عزا أو سلطانا أو يتم نقصا فيه بما يظلم به غيره ولما كان الله عز وجل مستغنيا عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض وأن جميع ما فيهما ملكه وأهلهما عبيده، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحدا من خلقه لأنهم عبيده، وفي قبضته ثم قال: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني وإليه مصير جميع الخلائق المؤمن والكافر والطائع والعاصي فيجازي الكل على قدر استحقاقهم ولا يظلم أحدا منهم. قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ سبب نزول هذه الآية أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: نحن أفضل منكم وديننا خير من دينكم الذي تدعوننا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف في لفظة كان فقيل هي بمعنى الحدوث والوقوع والمعنى حدثتم ووجدتم وخلقتم خير أمة وقيل كان هنا ناقصة وهي عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض ولا تدل على انقطاع طارئ بدليل قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فعلى هذا التقدير يكون المعنى: كنتم في علم الله خير أمة وقيل كنتم مذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة وقيل معناه كنتم منذ آمنتم خير أمة وقيل قوله خير أمة تابع لقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ والتقدير أنه يقال لهم عند دخول الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا استحققتم ما أنتم فيه من بياض الوجوه والنعم المقيم، وقيل كنتم بمعنى أنتم وقيل يحتمل أن يكون كان بمعنى صار فمعنى قوله كنتم أي صرتم خير أمة. فأما المخاطبون بهذا من هم ففيه خلاف قال ابن عباس في قوله كنتم خير أمة هم الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب قال لو شاء الله تعالى لقال: أنتم فكنا كلنا ولكن في خاصة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن صنع مثل ما صنعتم كانوا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني به كانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل المسلمين باتباعهم وطاعتهم. (ق) عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن» زاد في رواية: «ويحلفون ولا يستحلفون». (ق) عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» قوله: «خير الناس قرني» يعني أصحابي والقرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه الزمان الزمان الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» النصيف النصف. وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: كنتم خير أمة هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال الزّجاج قوله كنتم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله: «كتب عليكم الصيام، كتب عليكم القصاص» فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا هاهنا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال أنتم الأمة تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى أخرجه الترمذي وقال حديث حسن

وأصل الأمة الجماعة المجتمعة على الشيء. وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الجماعة الموصوفين بالإيمان بالله عز وجل وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار» أخرجه الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل» أخرجه أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل أمتي كمثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» أخرجه الترمذي وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم» وله عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المسرع المجد ثلاثا ثم إنهم يتضاغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» قال الترمذي سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه وقال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد الله زاد غيره في الحديث وهم شركاء الناس في سائر الأبواب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أمتي من يشفع في الفئام من الناس ومنهم من يشفع في القبيلة ومنهم من يشفع للعصبة من يشفع للواحد» أخرجه الترمذي (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف سماطين متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي» أخرجه الترمذي. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وقوله تعالى: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ معناه كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ومعنى أخرجت أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وقيل معناه كنتم للناس خير أمة أخرجت (خ) عن أبي هريرة قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وقيل أخرجت صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس وقيل معناه ما أخرج للناس أمة خير من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية وكونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. والمعروف هو التوحيد، والمنكر هو الشرك، والمعنى تأمرون الناس بقول لا إله إلا الله وتنهونهم عن الشرك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي وتصدقون بالله وتخلصون له التوحيد والعبادة. فإن قلت لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان يلزم أن يكون مقدما على كل الطاعات والعبادات؟. قلت الإيمان بالله أمر يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة وإنما فضلت هذه الأمة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر الأمم، وإذا كان كذلك كان المؤثر في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يضر شيء من الطاعات مقبولا فثبت أن الموجب لهذه الخيرية لهذه الأمة هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، فلهذا السبب حسن تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان وقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني ولو آمن اليهود والنصارى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالدين الذي جاء به لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني مما هم عليه من اليهودية والنصرانية وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة واستتباع العوام ولو أنهم آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة وهو دخول الجنة مِنْهُمُ يعني من أهل الكتاب الْمُؤْمِنُونَ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود والنجاشي

[سورة آل عمران (3): الآيات 111 إلى 112]

وأصحابه الذين أسلموا من النصارى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون في الكفر، وقيل إن الكافر قد يكون عدلا في دينه وهؤلاء مع كفرهم فاسقون. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 111 الى 112] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً سبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود عمدوا إلى من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم فأنزل الله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذى يعني باللسان من طعنهم في دينكم أو تهديد أو إلقاء شبهة وتشكيك في القلوب وكل ذلك يوجب الأذى والغم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يعني منهزمين مخذولين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني لا يكون لهم النصر عليكم بل تنصرون عليهم وفيه تثبيت لمن أسلم من أهل الكتاب لأنهم كانوا يؤذونهم بالقول ويهددونهم ويوبخونهم فأعلمهم الله تعالى أنهم لا يقدرون أن يجاوزوا الأذى بالقول إلى غيره من الضرر ثم وعدهم الغلبة والانتقام منهم وأن عاقبتهم الخذلان والذل فقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يعني جعلت الذلة ملصقة بهم كالشيء يضرب على الشيء فيلتصق به، والمراد بالذلة قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم وقيل الذلة ضرب الجزية عليهم لأنهم ذلة وصغار وقيل ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكا قاهرا ولا رئيسا معتبرا بل مستضعفون في جميع البلاد أَيْنَما ثُقِفُوا أي حيثما وجدوا وصودفوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ يعني إلا بعهد من الله وهو أن يسلموا فتزول عنهم الذلة وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني المؤمنين ببذل الجزية والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وهو ذمة الله وعهده وذمة المسلمين وعهدهم لا عزلهم إلا هذه الواحدة وهي التجائوهم إلى الذمة لما قبلوه من بذل الجزية. وإنما سمي العهد حبلا لأنه سبب يوصل إلي الأمن وزال الخوف وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يعني رجعوا بغضب من الله واستوجبوه وقيل أصله من البواء وهو المكان والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ يعني كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير خارجين منها قال الحسن المسكنة هي الجزية، وذلك لأن الله تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء، وذلك يدل على أنها باقية عليهم والباقي عليهم هو الجزية فدل على أن المسكنة هي الجزية، وقيل المراد بالمسكنة هو أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي ذلك الذي نزل بهم بسبب عصيانهم لله عز وجل وتعديهم لحدوده فنزل بهم ما نزل قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 114] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) لَيْسُوا سَواءً قال ابن عباس: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود ما آمن محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا شرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي قوله: لَيْسُوا سَواءً قولان أحدهما أنه كلام تام يوقف عليه والمعنى أهل الكتاب الذي سبق ذكرهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ليسوا سواء، وقيل

[سورة آل عمران (3): الآيات 115 إلى 118]

معناه لا يستوي اليهود وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق. والقول الثاني أن قوله: لَيْسُوا سَواءً متعلق بما بعده ولا يوقف عليه وقوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ فيه اختصار وإضمار والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة غير قائمة فترك ذكر الأمة الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين وهذا على مذهب العرب أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الآخر قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني امرؤ لها ... مطيع فلا أدري أرشد طلابها أراد أم غير رشد فاكتفى بذكر أحد الرشدين دون الآخر. وقال الزّجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأنه قد جرى ذكر أهل الكتاب بقوله: كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فأعلم الله أن منهم أمة قائمة فلا حاجة بنا إلى أن نقول وأمة غير قائمة إنما ابتدأ بذكر فعل الأكثر منهم وهو الكفر والمشاقة، ثم ذكر من كان مباينا لهم في فعلهم فقال: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة» قال ابن عباس: قائمة أي مهدية قائمة على أمر الله تعالى لم يضعوه ولم يتركوه، وقيل قائمة أي عادلة وقيل قائمة على كتاب الله عز وجل وحدوده وقيل: قائمة في الصلاة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي يقرءون كتاب الله عز وجل: آناءَ اللَّيْلِ يعني ساعاته وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني يصلون، عبر بالسجود عن الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود وقيل: هي صلاة التهجد بالليل وقيل هي صلاة العشاء لأن اليهود لا يصلونها وقيل يحتمل أنه أراد بالسجود الخضوع والخشوع لأن العرب تسمي الخشوع سجودا وقال عطاء في قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به وكانوا عدة نفر من الأنصار منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا قبل الإسلام موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا به وصدقوه، ثم وصفهم الله تعالى بصفات ما كانت في اليهود فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وذلك لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون، وقيل إن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله واليهود يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من فعل المعاصي واليهود لا يحترزون منها فلم يحصل الإيمان الخالص بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني غير مداهنين كما يداهن اليهود بعضهم بعضا. وقيل يأمرون بالمعروف يعني بتوحيد الله تعالى والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وينهون عن المنكر يعني عن الشرك وعن كتم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إليها خوف الفوت وذلك أن من رغب في أمر سارع إليه وقام به غير متوان عنه وقيل يسارعون في الخيرات غير متثاقلين ولا كسالى وَأُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بما وصفوا به مِنَ الصَّالِحِينَ أي من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله عز وجل ورضي عنهم واستحقوا ثناءه عليهم، وذلك لأن الصلاح ضد الفساد فإذا حصل الصلاح للإنسان فقد حصل له أعلى الدرجات وأكمل المقامات وقيل يحتمل أن يراد بالصالحين المسلمون والمعنى أولئك الذين تقدم وصفهم من جملة المسلمين. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 115 الى 118] وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قرئ بالياء لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب وذلك أن اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه إنكم خسر ثم بسبب هذا الدين الذي دخلتم فيه فأخبر الله تعالى أنهم فازوا بالدرجات العلى وما فعلوه مكن خير يجازيهم به ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فيدخل فيه كل فاعل للخير وقرئ بالتاء على أنه ابتداء كلام وهو خطاب لجميع المؤمنين ويدخل فيه مؤمنوا أهل الكتاب أيضا ومعنى الآية وما تفعلوا من خير أيها المؤمنون فلن تكفروه أي فلن تعدموا ثوابه ولن تجرموه أو تمنعوه بل يشكره لكم ويجازيكم به وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيه بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل الإيمان والتقوى. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عباس: يريد بني قريظة والنضير وذلك أن رؤساء اليهود مالوا إلى تحصيل الأموال في معاداة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما كان مقصودهم بمعاداته تحصيل الرياسة والأموال فقال الله عز وجل: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وقيل: نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بالأموال وأنفق أبو سفيان مالا كثيرا في يومي بدر وأحد على المشركين وقيل: إن الآية عامة في جميع الكفار لأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراء اللفظ على عمومه ومعنى الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ أي تدفع أموالهم بالفدية لو افتدوا بها من عذاب الله ولا أولادهم بالنصر وإنما خص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بالفداء بالمال وتارة بالاستعانة بالأولاد فأعلم الله تعالى أن الكافر لا ينفعه شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص له من عذاب الله وهو قوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها ولا يفارقونها قوله عز وجل: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم وقيل: أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا وقيل: أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى وذلك لأن إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق ويعمل أعمال البر فإن كان كافرا فإن الكفر محبط لجميع أعمال البر فلا ينتفع بما أنفق في الدنيا لأجل الآخرة وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى فإنه لا ينتفع بنفقته في الآخرة ثم ضرب لذلك الإنفاق مثلا فقال تعالى: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة إن الصر البرد الشديد وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد: والوجه الثاني أن الصر هو السموم الحارة التي تقتل وهو رواية عن ابن عباس وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة وعلى الوجهين فالتشبيه صحيح والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة أو حر فهي مهلكة أيضاصابَتْ يعني الريح التي فيها صررْثَ قَوْمٍ أي زرع قوم لَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالكفر والمعاصي ومنع حق الله فيه أَهْلَكَتْهُ يعني فأهلكت الريح الزرع ومعنى الآية مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع به أصحابه. فإن قلت الغرض تشبيه ما أنفقوا وأبطال ثوابه وعدم الانتفاع به الحرث الذي هلك بالريح فكيف شبهه بالريح المهلكة للحرث؟ قلت هو من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين فعلى هذا زال الإشكال ومن التشبيه ما حصلت فيه المشابهة بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإن جعلنا هذا المثل من هذا القسم ففيه وجهان: أحدهما أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث. الوجه الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك الريح وهو الحرث والمقصود من ضرب هذا المثل هو تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب

[سورة آل عمران (3): الآيات 119 إلى 120]

بالكلية ولا يبقى منه شيء. وقوله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ يعني بأن لم يقبل نفقاتهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني أنهم عصوا الله فاستحقوا عقابه فأبطل نفقاتهم وأهلك حرثهم وقيل ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بنفقاتهم مستحقة للقبول. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً الآية قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم ويدل على صحة هذا القول أن الآيات المتقدمة فيها ذكر اليهود فتكون هذه الآية كذلك، وقيل كان قوم من المؤمنين يصافون المنافقين ويفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فنهاهم الله عن ذلك وحجة هذا القول أن الله ذكر في سياق هذه الآية قوله: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وهذه صفة المنافقين لا صفة اليهود وقيل المراد بهذه جميع أصناف الكفار، ويدل على صحة هذا القول معنى الآية لأن الله تعالى قال لا تتخذوا بطانة من دونكم فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من دون المؤمنين فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار والبطانة خاصة الرجل المطلع على سره واشتقاقه من بطانة الثوب بدلالة قولهم لبست فلانا إذا اختصصته، ويقال فلان شعاري ودثاري والشعار الذي يلي الجسد وكذلك البطانة والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد القرب يسمي بطانة لأنه يستبطن أمره ويطلع منه على ما لا يطلع عليه غيره مِنْ دُونِكُمْ قبل من صلة زائدة والتقدير لا تتخذوا بطانة دونكم، وقيل من للتبيين أي لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم والمعنى لا تتخذوا أولياء ولا أصفياء من غير أهل ملتكم ثم بين سبحانه وتعالى علة النهي عن مباطنتهم فقال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يعني لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد وهو الخبال لأن أصل الخبال الفساد والضرر الذي يلحق الإنسان فيورثه نقصان العقل وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي يودون عنتكم وهو ما يشق عليكم من الضرر والشر والهلاك والعنت المشقة قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي ظهرت العداوة من أفواقهم بالشتيمة والوقيعة بين المسلمين وقيل هو إطلاع المشركين على أسرار المؤمنين وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ يعني من العداوة والغيظ أَكْبَرُ أي أعظم مما يظهرونه قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني الدالة على وجوب الإخلاص في الدين من موالاة المؤمنين ومعادة الكافرين إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يعني ما بين لكم فتتعظون به. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 119 الى 120] ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) ها أَنْتُمْ ها للتنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور أُولاءِ اسم للمشار إليهم في قوله تُحِبُّونَهُمْ والمعنى أنتم إليها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم وبينهم من القرابة والرضاع والمصاهرة والحلف وَلا يُحِبُّونَكُمْ يعني اليهود لما بينكم وبينهم من المخالفة في الدين، وقيل تحبونهم يعني تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر وهو شر الأشياء لأن فيه هلاك الأبد وقيل هم المنافقون تحبونهم لما أظهروا من الإيمان وأنتم لا تعلمون ما في قلوبهم ولا يحبونكم لأن الكفر ثابت في قلوبهم وقيل تحبونهم وذلك بأن تفشوا إليهم أسراركم ولا يحبونكم أي لا يفعلون مثل ذلك معكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني وهم لا يؤمنون وإنما ذكر الكتاب بلفظ الواحد والمراد به الجمع لأنه ذهب به إلى الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس والمعنى أنكم تؤمنون بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا يعني أن الذين وصفهم في هذه الآية بهذه الصفات إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم وهذه صفة المنافقين وقيل هم اليهود وَإِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم إلى بعض

[سورة آل عمران (3): آية 121]

عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الأنامل جمع أنملة وهي طرف الأصبع والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا العداوة وشدة الغيظ، على المؤمنين لما يرون من ائتلافهم واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن هناك عض كما يقال عض يده من الغيظ والغضب قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ هذا دعاء عليهم أن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به وذلك لما يرون من قوة الإسلام وعزة أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي والمعنى ابقوا إلى الممات بغيظكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني به الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه كنى عنها بذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر فأخبرهم أنه عليم بما يسرونه من عض الأنامل غيظا إذا خلوا وأنه عليم بما هو أخفى منه وهو ما يسرونه في قلوبهم. قوله عز وجل: إِنْ تَمْسَسْكُمْ أي تصبكم أيها المؤمنون وأصل المس باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى شيء ماسا له على سبيل التشبيه كما يقال مسه نصب وتعب أي أصابه حَسَنَةٌ المراد بالحسنة هنا منافع الدنيا مثل ظهوركم على عدوكم وإصابتكم غنيمة منهم وتتابع الناس في الدخول في دينكم وخصب في معايشكم تَسُؤْهُمْ أي تحزنهم وتغمهم والسوء ضد الحسنى وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي مساءة من إخفاق سرية لكم أو إصابة عدو منكم أو اختلاف يقع بينكم أو غدر ونكبة ومكروه يصيبكم يَفْرَحُوا بِها أي بما أصابكم من ذلك المكروه وَإِنْ تَصْبِرُوا يعني على أذاهم وقيل إن تصبروا على طاعة الله وما ينالكم فيها من شدة وَتَتَّقُوا أي تخالفوا ربكم وقيل وتتقوا ما نهاكم عنه وتتوكلوا عليه لا يَضُرُّكُمْ أي لا ينقصكم كَيْدُهُمْ أي عداوتهم ومكرهم شَيْئاً أي لأنكم في عناية الله وحفظه إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ قرئ بالياء على الغيبة والمعنى أنه عالم بما يعملون من عداوتكم وأذاكم فيعاقبهم عليه وقرئ بالتاء على خطاب الحاضر والمعنى أنه عالم بما تعملون أيها المؤمنون من الصبر والتقوى فيجازيكم عليه مُحِيطٌ أي عالم بجميع ذلك حافظ لا يعزب عنه شيء منه. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 121] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قال جمهور المفسرين إن هذا كان في يوم أحد وهو قول عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن إسحاق، وقال الحسن ومجاهد ومقاتل: إنه يوم الأحزاب ونقل عن الحسن أيضا أنه يوم بدر قال ابن جرير الطبري الأول أصح لقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد قال مجاهد والكلبي والواقدي غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله بن أبيّ وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليه فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا الرأي وقال بعض أصحابه يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب لئلا يروا أنا جبنا عنهم وضعفنا وخفناهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني قد رأيت في منامي بقرا فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر وإن دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلهم في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا، فلم يزالوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حبهم للقاء

[سورة آل عمران (3): الآيات 122 إلى 125]

القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزله ولبس لأمته فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقال بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: يا رسول الله اصنع ما شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل وكان قد قام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة، وكان قد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه ثم خرج عليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة. وقيل كان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وأصحابه إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة. وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوا الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ولما خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى عبد الله بن أبي ابن سلول شق عليه ذلك وقال لأصحابه أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا أنتم فيتبعونكم فيصير الأمر إلى خلاف ما قاله محمد لأصحابه فلما التقى الجمعان وكان عسكر المسلمين ألفا وكان المشركون ثلاثة آلاف انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من أصحابه من المنافقين وبقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو سبعمائة من أصحابه فقواهم الله تعالى وثبتهم حتى هزموا المشركين. فلما رأى المؤمنون انهزام المشركين طمعوا في أن تكون هذه الواقعة كوقعة بدر فطلبوا المدبرين وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد الله أن يقطعهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مثله من مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر إنما كان ببركة طاعة الله وطاعة رسوله. ثم إن الله تعالى نزع الرعب من قلوب المشركين فكروا راجعين على المسلمين فانهزم المسلمون وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه منهم أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد وكسرت رباعية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشج وجهه يومئذ وكان من أمر غزو أحد ما كان فذلك قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أي واذكر إذ غدوت من أهلك يعني منزل عائشة ففيه منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها لقوله من أهلك فنص الله تعالى على أنها من أهله تبوئ المؤمنين أي تنزل المؤمنين مقاعد للقتال أي مواضع ومواطن للقتال. وقيل تتخذ عسكرا للقتال وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالكم عَلِيمٌ يعني بنياتكم وضمائركم. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 122 الى 125] إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا أي تجبنا وتضعفا عن القتال والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس كان جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد مع ألف رجل، وقيل في تسعمائة وخمسين رجلا وكان المشركون ثلاثة آلاف رجل فلما بلغوا الشوط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاثمائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعه أبو جابر السلمي وقال أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال عبد الله بن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم وهمّت الطائفتان بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: أضمروا أن يرجعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا فذكرهم الله عظيم نعمته عليهم فقال: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما وحافظهما ومتولي أمرهما بالتوفيق والعصمة. فإن قلت الهم العزم على فعل الشيء والآية تدل على أن الطائفتين قد عزمتا على الفشل وترك القتال

وذلك معصية فكيف مدحهما الله تعالى بقوله والله وليهما. قلت الهم قد يراد به العزم وقد يراد به حديث النفس وإذا كان كذلك فحمل الهم على حديث النفس هنا أولى والله تعالى لا يؤاخذ بحديث النفس ويعضده قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم الله لهم على الرشد وثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدحهم الله تعالى بقوله والله وليهما (ق) عن جابر قال: نزلت فينا: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله والله وليهما ففيه الاستبشار بما حصل لهم من الشرف العظيم، وإنزاله فيهم آياته ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى. وقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير وقيل هو تفويض الأمر إلى الله تعالى ثقة بحسن تدبيره فأمر الله عباده المؤمنين أن لا يتوكلوا إلّا عليه وأن لا يفوضوا أمرهم إلّا إليه. قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بدر اسم موضع بين مكة والمدينة معروف وقيل هو اسم لبئر هناك وكانت البئر لرجل يقال له بدر فسميت به. ذكر الله المؤمنين منته عليهم بالنصر يوم بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل وهو جمع قلة وأراد به قلة العدد فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وفي رواية وثلاثة عشر رجلا والمراد بذلتهم ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو وذلك أنهم خرجوا على مواضح وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد. وكان أكثرهم رجالة ولم يكن معهم إلّا فرس واحد وكان عدوهم من كفار قريش في حال الكثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس وكان معهم السلاح والشوكة فنصر الله المؤمنين مع قلتهم على عدوهم مع كثرتهم فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني في الثبات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. قوله عز وجل: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد بإنزال الملائكة هل حصل يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أنه كان يوم بدر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله بألف من الملائكة كما قال: إن تستغيثون ربكم فاستجاب لكم: «أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين» ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد. قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في معركة إلّا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا، وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ألن يكفيكم إلى قوله مسومين فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» واحتج لصحة هذا القول أيضا بأن الله تعالى قال قبل هذه الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وظاهر هذا يقتضي أن الله نصرهم حين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ولأن العدد والعدد كانت يوم بدر قليلة وكان الاحتياج إلى الإمداد أكثر. القول الثاني إن هذا الوعد بإنزال الملائكة كان يوم أحد وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل. قال عمير بن إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل، ولا بعد يعني جبريل وميكائيل» واحتج لصحة هذا القول بأن المدد كان يوم بدر بألف من الملائكة كما نص عليه في سورة

الإنفاق ولم يكن بثلاثة آلاف ولا بخمسة آلاف كما هنا وأيضا أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا أو ما يقرب منهم وكان المسلمون على الثلث من ذلك فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر فأنزل الله يوم بدر ألفا من الملائكة في مقابلة عدد الكفار فوقع النصر يومئذ للمسلمين والهزيمة للكفار، وكان عدد المسلمين يوم أحد ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف فناسب أن يكون المدد يومئذ للمسلمين ثلاثة آلاف من الملائكة ليكون ذلك مقابلا لعدد الكفار كما في يوم بدر. وأجيب عن الاحتجاج الأول لهذا القول بأن الله تعالى أمدهم يوم بدر بألف كما ذكر في سورة الأنفال ثم لما سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإمداد كرز لكفار قريش شق عليهم وعدوا بأن يمدوا بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف لتقوى قلوبهم بذلك. وأجيب عن الثاني وهو أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل الله ألفا وفي يوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف بأن هذا تقريب حسن ولله أن يزيد ما شاء في أي وقت شاء ولهذا قال عكرمة في قوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا قال يوم بدر قال ولم يصبروا ولم يتقوا يوم أحد فلم يمدوا ولو أمدوا لم يهزموا يومئذ وقيل لم يصبروا ولم يتقوا إلّا في يوم الأحزاب فأمدهم الله بالملائكة حتى حاصروا قريظة (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة وقال عبد الله بن أبي أوفى كنا محاصرين قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال: أوضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا» وقال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال بالصواب أن الله تعالى أخبر عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للمؤمنين: «ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة» فوعدهم بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بهم ولا على أنهم لم يمدوا بهم فقد يجوز أن الله أمدهم وقد يجوز أن لا يكون أمدهم ولا يثبت ذلك إلّا بنص تقوم به الحجة في ذلك. وقد ثبت بنص القرآن أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة كما في سورة الأنفال وأما يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها بأنهم أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لم ينهزموا ولم ينل منهم ما نيل منهم. فإن قلت فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في يوم أحد وأنه رأى ملكين عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وشماله قلت إنما كان ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد. وأما التفسير فقوله تعالى: إذ تقول للمؤمنين فعلى قول من قال: إن هذا كان يوم بدر. قال نظم الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين ومن قال هذا يوم أحد يقول نظم الآية أن الله ذكر قصة أحد ثم أتبعه بقوله: «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة» فكذلك هو قادر أن ينصركم في سائر المواطن ثم رجع إلى قصة أحد فقال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ومعنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر مع بلوغ المراد أن يمدكم ربكم. الإمداد إعانة الجيش فما كان على جهة القوة والإعانة يقال أمده إمدادا وما كان على جهة الزيادة يقال. فيه مده مدا، وقيل المد في الشر والإمداد في الخير بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين إنما وعدهم الله بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويثقوا بنصر الله ويعزموا على الثبات. بلى تصديق لوعد الله أي بلى نمدكم، وقيل بلى إيجاب لما بعد ألن يعني يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية أن تصبروا أي على لقاء عدوكم وتتقوا يعني معصية الله ومخالفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويأتوكم يعني المشركين من فورهم هذا قال ابن عباس: ابتداء الأمر يوجد فيه ثم يوصل بآخر فمن قال معنى من فورهم من وجههم أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر. ومن قال معناه من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر لأنهم رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم يوم بدر. يمددكم ربكم

[سورة آل عمران (3): الآيات 126 إلى 128]

بخمسة آلاف من الملائكة لم يرد خمسة آلاف سوى الثلاثة المتقدمة بل أراد معهم فمن قال إن هذا الإمداد كان يوم بدر قال: إن الله تعالى أمدهم بألف فلما سمعوا أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق على المسلمين ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم الآية على تقدير أن يجيء للمشركين المدد، فلما لم يمدوا لم يمد الله المسلمين بغير ألف وروى ابن الجوزي في تفسيره عن جبير بن مطعم عن علي بن أبي طالب قال: بينا أنا امتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلّا التي قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه ومن الناس من ضم العدد القليل إلى الكثير. فقال لأن الله تعالى ذكر الألف في سورة الأنفال وذكر هنا ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن جعلناه على غزوة أحد فيكون المجموع ثمانية آلاف لأنه ليس فيها ذكر الألف المفردة مُسَوِّمِينَ قرئ بفتح الواو وبكسرها فمن فتح الواو أراد أن الله سومهم ومعناه معلمين قد سوموا فيهم مسومون والسومة والسيما العلامة وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها قال عنترة: فتعرفوني أنني أنا ذلكم ... شاكي سلاح في الحوادث معلم ومن كسر الواو نسب الفعل إلى الملائكة والمعنى أنهم أعلموا أنفسهم بعلامات مخصوصة أو أعلموا خيلهم واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خيل بلق وعليهم عمائم صفر. وقال علي وابن عباس: كان عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة والكلبي: كانت عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم، وقال قتادة والضحاك: كانوا قد أعلموا بالعهن يعني بالصوف المصبوغ في نواصي خيلهم وأذنابها وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» ذكره البغوي بغير سند وقيل كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك وقيل كانوا قد سوموا أنفسهم بسيما القتال. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 126 الى 128] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني هذا الوعد والمدد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يعني بشارة بأنكم تنصرون فتستبشرون به وَلِتَطْمَئِنَّ أي ولتسكن قُلُوبُكُمْ بِهِ أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني لا تحيلوا النصر على الملائكة والجند وكثرة العدد، فإن النصر من عند الله لا من عند غيره والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم وفيه تنبيه على الإعراض عن الأسباب والإقبال على مسبب الأسباب الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني فاستعينوا به وتوكلوا عليه لأن العز وهو كمال القدرة والقوة والحكم وهو كمال العلم فلا تخفى عليه مصالح عباده لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا متعلق بقوله ولقد نصركم الله ببدر، والمعنى أن المقصود من نصركم ببدر ليقطع طرفا أي ليهلك طائفة من الذين كفروا وقيل معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر فقتل يوم بدر من قادتهم وساداتهم سبعون وأسر سبعون ومن حمل الآية على غزوة أحد قال: قد قتل منهم ستة عشر وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَوْ يَكْبِتَهُمْ أصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه والمعنى أنه يصرعهم على وجوههم والمراد منه القتل والهزيمة أو

[سورة آل عمران (3): الآيات 129 إلى 130]

الإهلاك أو اللعن والخزي فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي بالخيبة لم ينالوا شيئا من الذي أملوه من الظفر بكم. قوله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ اختلف في سبب نزول هذه الآية. فقيل: إنها نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلا من القراء بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة وهي بين مكة وعسفان وأرض هذيل وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد بعثهم ليعلموا الناس القرآن والعلم وأمر عليهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا وقنت شهرا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن (خ) عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد فأنزل الله تعالى عليه ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون (ق) عن أبي هريرة قال: «لما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف» زاد في رواية: «اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى أنزل الله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية سماهم في رواية يونس اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله قال ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فإنهم ظالمون وقيل إنها نزلت يوم أحد ثم اختلفوا في سببها فقيل: إن عتبة بن أبي وقاص شج وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكسر رباعيته. (ق) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وقيل أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه أن أكثرهم يسلمون وقيل إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وقف على عمه حمزة ورأى ما صنعوا به من المثلة أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية. وقال العلماء: وهذه الأشياء كلها محتملة فلا يبعد حمل الآية في النزول على كلها ومعنى الآية ليس لك من أمر مصالح عبادي شيء الّا ما أوحى إليك، فإن الله تعالى هو مالك أمرهم فإمّا أن يتوب عليهم ويهديهم فيسلموا أو يهلكهم ويعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل ليس لك مسألة هلاكهم والدعاء عليهم لأنه تعالى أعلم بمصالحهم فربما تاب على من يشاء منهم وقيل معناه ليس لك من أمر خلقي شيء إلّا ما وافق أمري إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وقيل إن قوله أو يتوب عليهم معطوف على قوله ليقطع طرفا وقوله ليس لك من الأمر شيء كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله. قال بعض العلماء: والحكمة في منعه صلّى الله عليه وسلّم من الدعاء عليهم ولعنهم أن الله تعالى علم من حال بعض الكفار أنه سيسلم فيتوب عليهم أو سيولد من بعضهم ولد يكون مسلما برا تقيا فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من الدعاء عليهم لأن دعوته صلّى الله عليه وسلّم مجابة. فلو دعا عليهم بالهلاك هلكوا جميعا لكن اقتضت حكمة الله وما سبق في علمه إبقاءهم ليتوب على بعضهم وسيخرج من بعضهم ذرية صالحة مؤمنة، ويهلك بعضهم بالقتل والموت وهو قوله أو يعذبهم فيحتمل أن يكون المراد بعذابهم في الدنيا وهو القتل والأسر وفي الآخرة وهو عذاب النار فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ هو كالتعليل لعذابهم والمعنى إنما يعذبهم لأنهم ظالمون ثم قال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 129 الى 130] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا تأكيد لما قبله من قوله ليس لك من الأمر شيء. والمعنى إنما

[سورة آل عمران (3): الآيات 131 إلى 134]

يكون لمن له ما في السموات وما في الأرض وليس ذلك إلّا الله تعالى وليس لأحد معه أمر يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بفضله ورحمته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بعدله يحكم فيهم بما يشاء لا منازع له في حكمه ولا معارض له في فعله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يستر ذنوب عباده ويغفرها لهم ويرحمهم بترك العقوبة عنهم عاجلا، وإنما يفعل ذلك على سبيل التفضل والإحسان إلى عباده لا على سبيل الوجوب عليه، لأنه تعالى لو أدخل جميع خلقه الجنة لكان ذلك برحمته ولو أدخل جميع خلقه النار كان ذلك بعدله لكن جانب المغفرة والرحمة غالب. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً أراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية عند حلول الدين من زيادة المال وتأخير الأجل كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان دين فإذا جاء الأجل ولم يكن للمديون ما يؤدي قال له صاحب الدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل فربما فعلوا ذلك مرارا فيصير الدين أضعافا مضاعفة فنهى الله عز وجل عن ذلك، وحرم أصل الربا ومضاعفته وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني في أكل الربا فلا تأكلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تسعدوا بثوابه في الآخرة لأن الفلاح يتوقف على التقوى فلو أكل ولم يتق لم يحصل الفلاح، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا أعقبه بقوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 131 الى 134] وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعني واتقوا أيها المؤمنون أن تستحلوا شيئا مما حرم الله. فإن من استحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع ويستحق النار بذلك قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار قال بعضهم: إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه يجتنبوا محارمه. وقال الواحدي: في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله تعالى لأنه قال أعدت للكافرين فجعلها معدة للكافرين دون المؤمنين وَأَطِيعُوا اللَّهَ يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه من أكل الربا وغيره وَالرَّسُولَ أي وأطيعوا الرسول أيضا فإن طاعته طاعة الله قال محمد بن إسحاق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا وما تعذبوا إذا أطعتم الله ورسوله فإن طاعة الله مع معصية رسوله ليست بطاعة. قوله عز وجل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني وبادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الأعمال الصالحة المأمور بفعلها قال ابن عباس: إلى الإسلام ووجهه أن الله تعالى ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة وذلك لا يحصل إلّا بسبب الإسلام لأنه يجب ما قبله وعن ابن عباس أيضا إلى التوبة لأن التوبة من الذنوب توجب المغفرة وقال علي بن أبي طالب: إلى داء الفرائض لأن اللفظ مطلق فيعم الكل وكذا وجه من قال إلى جميع الطاعات وروي عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى يعني تكبيرة الإحرام وقيل إلى الإخلاص في الأعمال لأن المقصود من جميع العبادات هو الإخلاص وقيل إلى الهجرة وقيل إلى الجهاد وَجَنَّةٍ أي وسارعوا إلى جنة وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب وقيل إشعارا بأنه لا بد من المسارعة إلى التوبة الموجبة للمغفرة وذلك بترك المنهيات والمسارعة إلى الأعمال الصالحة المؤدية إلى الجنة عَرْضُهَا أي عرض الجنة السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يعني كعرض السموات والأرض لأن نفس السموات والأرض ليس عرضا للجنة والمراد سعتها وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف بطولها، والمراد وصف الجنة

بالسعة والبسط فشبهت بأوسع شيء علمه الناس وذلك أنه لو جعلت السموات والأرض طبقا طبقا ثم وصل البعض بالبعض حتى يكون طبقا واحدا كان ذلك مثل عرض الجنة فأما طولها فلا يعلمه إلّا الله تعالى. وقيل المراد بالعرض السعة كما تقول العرب بلاد عريضة أي واسعة عظيمة قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة. وروي أن هرقل أرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار قيل معناه والله أعلم بذلك أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب والليل في ضد ذلك الجانب فكذلك الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل. وروى طارق بن شهاب أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيتم قولكم وجنة عرضها السموات والأرض. فأين النار؟ فقال عمر بن الخطاب أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار وإذا جاء النهار فأين يكون الليل فقالوا إنها لمثلها في التوراة ومعناه حيث يشاء الله تعالى. فإن قلت قال الله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ وأراد بالذي وعدنا به الجنة ومذهب أهل السنة أنها في السموات إنها فوق السموات وتحت العرش كما سئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء هي أم في الأرض؟ فقال: أي أرض وسماء تسع الجنة قيل له: فأين هي؟ قال فوق السموات تحت العرش وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفردوس فقال وسقفها عرش الرحمن وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع وقيل: إن باب الجنة في السماء وعرضها كعرض السموات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي هيئت للمتقين وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن. قوله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يعني في العسر واليسر لا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور ولا في حال محنة وبلاء. وسواء كان الواحد منهم في عرس أو في حبس فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفس. وكانت الحاجة إلى إخراج المال في ذلك الوقت أعظم الأحوال للحاجة إليه في مجاهدة الأعداء ومواساة الفقراء من المسلمين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل» أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلّا سبغت أو وفت على جلده حتى تخفي ثيابه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلّا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع» الجنة الدرع من الحديد (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك» (ق) عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزية الجنة كل خزنة باب أي قل هلم فقال أبو بكر: فقال يا رسول الله ذاك الذي لا توي عليه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني لأرجو أن تكون منهم» قوله أي فل يعني يا فلان وليس بترخيم والتوي الهلاك يعني ذاك الذي لا هلاك عليه. وقوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه والكظم حبس الشيء

[سورة آل عمران (3): آية 135]

عند امتلائه وكظم الغيظ هو أن يمتلئ غيظا فيرده في جوفه ولا يظهره بقول ولا فعل ويصبر عليه ويسكت عنه ومعنى الآية أنهم يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم عن سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الجور شاء» أخرجه الترمذي وأبو داود (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن خادما لها غاظها فقالت لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ يعني إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه فتكون الآية على العموم وقيل أراد بالناس المماليك لسوء أدب يقع منهم، فتكون على الخصوص وقيل يعفون عمن ظلمهم وأساء إليهم وهو قريب من القول الأول وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يحتمل أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويحتمل أن تكون للعهد فتكون إشارة إلى المذكورين في الآية والإحسان إلى الغير إنما يكون بإيصال النفع إليه وبدفع الضرر عنه وقيل الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة. وقيل المحسن هو الذي يعم بإحسانه كل أحد كالشمس والمطر والريح، وقيل الإحسان وقت الإمكان وليس عليك في كل وقت إحسان. وقيل الإحسان هذه الخصال المذكورة في هذه الآية فمن فعلها فهو محسن. ولما كانت هذه الخصال إحسانا إلى الغير ذكر الله ثوابها بقوله والله يحب المحسنين فإن محبة الله تعالى للعبد أعظم درجات الثواب. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 135] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن مسعود رضي الله عنه قال المؤمنون للنبي صلّى الله عليه وسلّم يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية وروى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية في رواية أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخى بين رجلين أحدهما أنصاري والآخر ثقفي، فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فاشترى لهم ذات يوم لحما فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله وذكرت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به إلى أبي بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا فقال الأنصاري: هلكت وذكر القصة فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال لهما: مثل ذلك فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما مثل مقالتهما فأنزل الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني فعلة فاحشة خارجة عما أذن الله فيه والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد، قال جابر: الفاحشة الزنا. وقوله تعالى: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ظلم النفس هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة وقيل الفاحشة مما يكون فعله كاملا في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان ذَكَرُوا اللَّهَ يعني ذكروا وعيد الله وعقابه وأن الله يسألهم عن ذلك يوم الفزع الأكبر وقيل ذكروا جلال الله الموجب للحياء منه. وقيل ذكروا لله باللسان عند الذنوب وهو قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعني لأجل

ذنوبهم فتابوا منها واقلعوا عنها نادمين على فعلها عازمين أن لا يعودوا إليها وهذه شروط صحة التوبة المقبولة وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وصف نفسه بسعة الرحمة وقرب المغفرة وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلّا إلى فضله وكرمه وإحسانه وعفوه ورحمته وفيه تنبيه على أن العبد لا يطلب المغفرة إلّا منه وأنه القادر على عقاب المذنب وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فثبت أنه لا يجوز طلب المغفرة إلّا منه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يعني ولم يقيموا على الذنوب ولم يثبتوا عليها ولكن تابوا منها وأنابوا واستغفروا قيل الإصرار هو ترك الاستغفار عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة» أخرجه أبو داود وقال: حديث حسن غريب وعنده عوض ولو عاد ولو فعل وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال ابن عباس: وهم يعلمون أنها معصية وأن لهم ربا يغفرها وقيل وهم يعلمون أن الإصرار ضار وقيل معناه وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب وقيل وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت وقيل معناه وهم يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم قال ثابت البناني بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة إلى آخرها. (فصل: في فضل الاستغفار) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفعني الله منه ما شاء أن ينفعني. وإذا حدثني أحد من الصحابة استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد مؤمن أو قال ما من رجل يذنب ذنبا فيقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلّا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ إلى آخر الآية» أخرجه الترمذي أبو داود والترمذي وقال هذا حديث قد رواه غير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه ورواه مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة فوقفاه ولم يرفعاه ولا يعرف لأسماء إلّا هذا الحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» أخرجه أبو داود (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم (ق) عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى قال: «إذا أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي قال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: إن عبدي أذنب ذنبا فعلم أن به ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. وفي رواية اعمل ما شئت قد غفرت لك» قال عبد الأعلى لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم وأتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن عنان السماء بفتح العين قيل هو السحاب وقيل هو ما عن لك منها أي ما ظهر لك منها وقراب الأرض بضم القاف وروي بكسرها والضم أشهر وهو ما يقارب ملأها عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف» أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم قال حديث حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره أو قال عسى أن يغفره الله إلّا من مات مشركا ومن قتل مؤمنا متعمدا» أخرجه أبو داود اهـ. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (3): آية 136]

[سورة آل عمران (3): آية 136] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) أُولئِكَ إشارة إلى من تقدم ذكره في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ معنى الآية أن المطلوب بالتوبة أمران أحدهما الأمن من العقاب وإليه الإشارة بقوله مغفرة من ربهم والثاني إيصال الثواب وإليه الإشارة بقوله وجنات تجري من تحتها الأنهار أي ذلك لهم ذخر لا يبخس وأجر لا يوكس خالِدِينَ فِيها أي في الجنات وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي ونعم ثواب المطيعين يعني الجنة. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 137 الى 138] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يعني قد انقضت من قبلكم سنة الله في الأمم الماضية بالهلاك والاستئصال لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها والبقاء فيها فانقرضوا ولم يبق منهم أحد وقيل في معنى السنة الطريقة المستقيمة والمثال المتبع. لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوه رضي الله عنهم بذلك. وقيل سنن أي شرائع وقيل سنن أي أمم والسنة الأمة ومعنى الآية قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لإهلاكهم فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أمر ندب لا على سبيل الوجوب بل المقصود تعرف أحوال الماضين بقوله فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فرغب أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها. وفيه أيضا زجر للكافر عن كفره لأنه إذا تأمل أحوال الكفار وإهلاكهم صار ذلك داعيا إلى الإيمان لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس كما قيل: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جرى لهم في غزوة أحد يقول فإني إنما أمهلت الكفار حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لهم في إهلاكهم ونصر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله عز وجل: هذا يعني القرآن وقيل هو اسم إشارة إلى ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده بَيانٌ لِلنَّاسِ يعني عامة وَهُدىً يعني من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يعني خاصة وقيل في الفرق بين البيان والهدى والموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة والبيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة والهدى هو طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين. فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى والثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خصص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم. [سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 140] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

قوله عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا نزلت يوم أحد حين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية وحث فيها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجهاد على ما أصابهم من الجراح والقتل. وكان قد قتل يوم أحد من الأنصار سبعون رجلا ومن المهاجرين خمسة رجال منهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومصعب بن عمير. ومعنى الآية ولا تهنوا أي ولا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا يعني على من قتل منكم لأنهم في الجنة وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني بالنصر والغلبة عليهم وأن العاقبة لكم وقال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب فأقبل خالد بن الوليد في خيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلوه علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك» فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وقيل وأنتم الأعلون لأن حالكم خير من حالهم لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار وأنتم تقاتلون على الحق وهم يقاتلون على الباطل. وقيل وأنتم الأعلون في العاقبة لأنكم تظفرون بهم وتستولون عليهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن كنتم مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق. وقوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قرئ بضم القاف وبفتحها وهما لغتان ومعناهما واحد وقيل إنه بالفتح مصدر وبالضم اسم وقيل إنه بالفتح اسم للجراحة وبالضم ألم للجراحة الآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة يقول: إن يمسسكم أيها المسلمون قرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يعني في يوم بدر وقيل إن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجراح والقتل فقد قتل منهم نيف وعشرون رجلا وكثرت الجراحات فيهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين ثم منهم إلى غيرهم والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلا وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسا وسبعين (خ) عن البراء بن عازب قال: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد الله بن جبير. فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم الله. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين رجلا وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثله لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تجيبوه؟ فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان. إن لنا عزى ولا عزى لكم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال البغوي وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وفي حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال الزجاج الدولة تكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى

[سورة آل عمران (3): الآيات 141 إلى 143]

وإن جندنا لهم الغالبون فكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة وقيل معناه وليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلّا أن السبب العلم وهو ظهور الصبر حذف هنا وقيل معناه ليعلم الله ذلك واقعا منهم لأن الله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده ولا يحتاج إلى سبب حتى يعلم والمعنى ليقع ما علمه عيانا ومشاهدة للناس والمجازاة إنما تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد وقيل معناه ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيما. وقيل معناه ليحكم الله بالامتياز بين المؤمن والمنافق فوضع العلم موضع الحكم لأن الحكم لا يحصل إلّا بعد العلم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يعني وليكرم قوما منكم بالشهادة ممن أراد أن يكرمهم بها وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر فيقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة واختلفوا في معنى الشهيد فقيل الشهيد الحي لقوله تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون فأرواحهم حية حضرت دار السلام وشهدتها وأرواح غيرهم لا تشهدها وقيل سمي شهيدا لأن الله تعالى شهد له بالجنة. وقيل سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين على الأمم لأن الشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة لأن منصب الشهادة منصب عظيم ودرجة عالية وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي وقيل هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم ويسرون الكفر، والمعنى والله لا يحب من لا يكون ثابتا على الإيمان صابرا على الجهاد. [سورة آل عمران (3): الآيات 141 الى 143] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي وليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم وأصل المحص في اللغة التنقية والإزالة وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يفنيهم ويهلكهم ومعنى الآية إن قتلكم الكافرون فهو شهادة وتطهير لكم وإن قتلتموهم أنتم فهو محقهم واستئصالهم. قوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أي بل حسبتم وظننتم والمراد به الإنكار والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وتنالوا كرامتي وثوابي وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ قال الإمام فخر الدين الرازي: ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقديره إن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وقال الواحدي النفي في الآية واقع على العلم والمعنى على الجهاد دون العلم وذلك لما فيه من الإيجاز في انتفاء جهاد لو كان لعلمه والتقدير: ولما يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم فجرى النفي على العلم للإيجاز على سبيل التوسع في الكلام إذ المعنى مفهوم من غير إخلال. وقال الزجاج: المعنى ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين أي ولما يعلم الله ذلك واقعا منكم لأنه يعلمه غيبا وإنما يجازيهم على عملهم وقال الطبري يقول ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ يعني في الحرب وعلى ما نالهم في ذات الله عز وجل من جراح وألم ومكروه وفي هذه الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد والمعنى أم حسبتم أيها المهزومون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا وبذلوا مهجهم لربهم عز وجل وصبروا على ألم الجراح والضرب وثبتوا لعدوهم من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم.

[سورة آل عمران (3): آية 144]

قوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ قال ابن عباس: لما أخبر الله عز وجل المؤمنين على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما فعل بشهدائهم يوم بدر من الكرامة رغبوا في ذلك فتمنّوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون بإخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن انهزموا إلّا من شاء الله منهم فأنزل الله هذه الآية وقيل إن قوما من المسلمين تمنّوا يوما كيوم بدر ليقاتلوا فيه ويستشهدوا فأراهم الله يوم أحد ومعنى قوله له تمنون الموت أي تطلبون أسباب الموت وهو القتال والجهاد من قبل أن تلقوه أي من قبل أن تلقوا يوم أحد فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يعني رأيتم ما كنتم تتمنّون والهاء في رأيتموه عائدة على الموت أي رأيتم أسبابه معاينين له شاهدين قتل من قتل من إخوانكم بين أيديكم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قيل ذكره تأكيدا. وقال الزجاج: معناه فقد رأيتموه وأنتم بصراء كما تقول: رأيت كذا وكذا وليس في عينك علة أي رأيته رؤية حقيقية وقيل: معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم فلم انهزمتم. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ قال أهل المغازي خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلا وقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من خلفنا فإن كانت لنا أو علينا لا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم فأنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وكانت قريش على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب وحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر في مشيته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلّا في هذا الموضع» فلما نظرت الرماة إلى المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله وحمل على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهزموهم ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة ليعلوها فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه وكان قد قتل يومئذ فأخذت منها قطعة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يومئذ صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع وقال: إني قد قتلت محمدا وصاح صارخا ألا إن محمدا قد قتل ويقال إن الصارخ إبليس اللعين فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنانته وقال: «ارم فداك أبي وأمي» وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وكان الرجل يمر معه جعبة النبل فيقول: «انثرها لأبي طلحة» وكان إذا رمى تشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعادت أحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف

الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت فقال: القوم يا رسول الله ألا تعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوه» حتى إذا دنا منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما دنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله وطعنه في عنقه وخدشه خدشه فسقط عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلني محمد. فاحتمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس بل لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي أنا أقتلك؟ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني بها فلم يلبث بعد ذلك إلّا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله» قالوا وفشا في الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل فقال: بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وجلس بعض الصحابة وألقوا ما بأيديهم وقال أناس من المنافقين إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول وقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك قال قد عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلي أن أسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الفرار فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ومعنى الآية فسيخلو محمد كما خلت الرسل من قبله فكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلو أنبيائهم فعليكم أنتم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعث الرسول تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين ظهراني قومه ومحمد اسم علم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه وهو الذي كثرت خصاله المحمودة والمستحق جميع المحامد لأنه الكامل في نفسه صلّى الله عليه وسلّم فأكرم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى فسماه محمدا وأحمد وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: ألم تر أن الله أرسل عبده ... ببرهانه والله أعلى وأمجد أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش من محمود وهذا محمد (ق) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي وسماه الله رؤوفا رحيما (م) عن أبي موسى الأشعري قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى ونبي التوبة ونبي الرحمة» قوله المقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده والرسول هو المرسل ويكون بمعنى الرسالة والمراد به هنا المرسل بدليل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يعني أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل وترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه وحاصل الكلام إن الله تعالى بيّن أن موت محمد صلّى الله عليه وسلّم أو قتله لا يوجب ضعفا في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله وأن أتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ يعني فيرتد عن دينه ويرجع إلى الكفر فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً يعني بارتداده لأن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين لأنه تعالى غني عن العالمين وإنما يضر المرتد والكافر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ

[سورة آل عمران (3): الآيات 145 إلى 146]

يعني الثابتين على دينهم الذين لم ينقلبوا عنه لأنهم شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام وثباتهم عليه فسماهم الله شاكرين لما فعلوا والمعنى وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته وروى ابن جبير عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في قوله: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه وكان علي يقول أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أخبار الله وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله تعالى. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 145 الى 146] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله وقضائه وقدره وعلمه وذلك أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلّا بإذن الله تعالى وأمره والمراد من الآية تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وأن الحذر لا يدفع المقدور وأن أحدا لا يموت قبل أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الخوف والجبن. وفي الآية أيضا ذكر حفظ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله تعالى من عدوه سالما مسلما لم يضره شيء كِتاباً مُؤَجَّلًا يعني مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. والمعنى أن الله تعالى كتب لكل نفس أجلا لا يقدر أحد على تغييره أو تقديمه أو تأخيره وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلق وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني من يرد بعمله وطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله والمعنى نؤته منها ما نشاء على ما قدرناه له نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها يعني من يرد بعمله الآخرة نؤته ثوابه فيها نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد. واعلم أن هذه الآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال ذلك لأن الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد فإن كان يريد بعمله الدنيا فليس له جزاء إلّا فيها وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضا فيها (ق) عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وفي رواية «بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها»، وفي رواية «ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة وما كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بن عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلّا ما كتب الله له». وقوله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ يعني المؤمنين المطيعين الذين لم يشغلهم شيء عن الجهاد ولم يريدوا بأعمالهم إلّا الله تعالى والدار الآخرة. قوله عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ أي وكم من نبي قاتَلَ مَعَهُ وقرئ قاتل معه فمن قرأ قتل بضم القاف فله أوجه: أحدها أن يكون القتل راجعا على النبي وحده فعلى هذا يكون الوقف على قتل لأنه كلام تام وفيه إضمار تقديره قتل ومعه ربيون كثير. ويكون معناه قتل حال ما كان معه ربيون كثير والمعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم وما استكانوا بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا مثلهم. الوجه الثاني أن القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد البعض ويكون قوله: «فما وهنوا» راجعا إلى الباقين والمعنى وكأيّن من نبي قتل وبعض من كان معه فما ضعف الباقون لقتل من قتل

[سورة آل عمران (3): الآيات 147 إلى 149]

من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا كذلك. الوجه الثالث أن يكون القتل نال الربيين لا النبي والمعنى وكأيّ من نبي قتل من كان معه وعلى دينه ربيون كثير ومن قرأ قاتل معه ربيون كثير فالمعنى وكأيّ من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قروح وجراحات فما وهنوا لما أصابهم بل استمروا على جهاد عدوهم لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه فكان ينبغي لكم أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد، وحجة هذه القراءة ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال وقوله رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قال ابن عباس جموع كثيرة وقيل الربيون الألوف وقيل الربية الواحدة عشرة آلاف وقيل ألف وقيل ربيون يعني فقهاء علماء وقيل الربيون هم الأتباع فَما وَهَنُوا أي فما جبنوا عن الجهاد في سبيل الله لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا يعني عن مجاهدة عدوهم بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب وَمَا اسْتَكانُوا يعني وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم وهذا تعريض بما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضعفهم عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان والمقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء وأتباعهم لتقتدي هذه الأمة بهم وترغيب الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يعني في الجهاد، والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طلب الآخرة ولم يظهر الجزع والعجز فإن الله تعالى يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وإيصال الثواب له وإدخاله الجنة مع أوليائه وأصفيائه ثم قال تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 147 الى 149] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) وَما كانَ قَوْلَهُمْ يعني قول الربيين إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فيدخل فيه جميع الصغائر والكبائر وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني ما أسرفنا فيه فتخطّينا إلى العظام من الذنوب لأن الإسراف الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه فيكون المعنى اغفر لنا ذنوبنا الصغائر منها والكبائر وَثَبِّتْ أَقْدامَنا لكي لا نزلّ عند لقاء العدو وذلك يكون بإزالة الخوف والرعب من قلوبهم وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لأن النصر على الأعداء لا يكون إلّا من عند الله. بين الله تعالى أنهم كانوا مستعدين عند لقاء العدو بالدعاء والتضرع وطلب الإعانة والنصر من الله تعالى والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة الحسنة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم يقول هلا فعلتم مثل ما فعلوا وقلتم مثل ما قالوا فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني النصر والغنيمة وقهر الأعداء، والثناء الجميل وغفران الذنوب والخطايا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ يعني الجنة وما فيها من النعيم المقيم وإنما خص ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على إجلاله وعظمته، لأنه غير زائل ولم يشب بتنغيص ولم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلته ولأنه سريع الزوال مع ما يشوبه من التنغيص وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني الذين يفعلون مثل ما فعل هؤلاء وهذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا عند لقاء العدو وفيه دقيقة لطيفة وهي أنهم لما اعترفوا بذنوبهم وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود والنصارى، وقيل المنافقين وذلك في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة يوم أحد ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وقيل معناه أن تطيعوهم فيما يأمرونكم به من ترك الجهاد يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يعني يرجعوكم إلى أمركم الأول وهو الكفر والشرك

[سورة آل عمران (3): الآيات 150 إلى 152]

بالله بعد الإيمان به لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يعني مغبونين في الدنيا والآخرة أما خسار الدنيا فهو طاعة الكفار والتذلل للأعداء وأما خسار الآخرة فهو دخول النار وحرمان دار القرار. [سورة آل عمران (3): الآيات 150 الى 152] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم وحافظكم فاستعينوا به وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ يعني أنه تعالى قادر على نصركم والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم وهم عاجزون عن نصر أنفسهم فضلا عن غيرهم فاطلبوا النصر من الله تعالى فهو خير الناصرين. قوله عز وجل: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وذلك أن أبا سفيان ومن معه ارتحلوا يوم أحد متوجهين إلى مكة، فلما بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلّا الشريد تركناهم ارجعوا إليهم فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، يعني الخوف الشديد حتى رجعوا عما هموا به فعلى هذا القول يكون الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفار مخصوصا بيوم أحد وقيل إنه عام وإن كان السبب خاصا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» فكأنه قال سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان وقد فعل الله ذلك بفضله وكرمه حتى صار دين الإسلام ظاهرا على جميع الأديان والملل كما قال الله تعالى ليظهره على الدين كله بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ يعني إنما كان إلقاء الرعب في قلوبهم بسبب إشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني حجة وبرهانا وسميت الحجة سلطانا لأن السلطان مشتق من السليط وهو ما يستصبح به وقيل السلطان القوة والقدرة وسميت الحجة سلطانا لقوتها على دفع الباطل وَمَأْواهُمُ النَّارُ لما بين الله تعالى حال الكفار في الدنيا وهو إلقاء الرعب والخوف في قلوبهم بين حالهم في الآخرة فقال تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي مسكنهم وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي المسكن الذي يستقرون به ويقيمون فيه وكلمة بئس تستعمل في جميع المذام والمعنى وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتساب ما أوجب لهم عذاب النار والإقامة فيها. قوله عز وجل: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أحد إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من الصحابة من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني بالنصر والظفر وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء وقيل إن الله وعد المؤمنين النصر بأحد فنصرهم فلما خالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلبوا الغنيمة هزموا إِذْ تَحُسُّونَهُمْ يعني إذ تقتلون الكفار قتلا ذريعا وقيل معنى تحسونهم تستأصلونهم بالقتل بِإِذْنِهِ يعني بعلم الله وأمره وقيل بقضاء الله وقدره حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ قال الفراء فيه تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم. وقيل معناه ولقد صدقكم الله وعده بالنصر إلى أن كان منكم الفشل والتنازع والمعصية وقيل فيه معنى الشرط وجوابه محذوف تقديره حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم منعكم الله النصر ومعنى فشلتم ضعفتم والفشل الضعف مع جبن ومعنى التنازع الاختلاف وكان اختلافهم وتنازعهم أن الرماة الذين كانوا

[سورة آل عمران (3): آية 153]

مع عبد الله بن جبير لما انهزم المشركون قال بعضهم لبعض أي قوم ما نصنع بمقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ثم أقبلوا على الغنيمة، وقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثبت عبد الله بن جبير أمير القوم في نفر يسير دون العشرة ممن كان معه فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وتحولت الريح دبورا بعد ما كانت صبا، وانقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا وما يشعرون بذلك من الدهش ونادى إبليس أن محمدا قد قتل فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين وقوله: وعصيتم يعني أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أمركم به من لزوم المركز مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من النصر والظفر والغنيمة يا معشر المسلمين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا قاله عبد الله بن مسعود ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يعني يا معشر المسلمين يعني عن المشركين بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ يعني ليمتحنكم وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه وقيل معناه ليختبركم وهو أعلم ليتميز المؤمن من المنافق ومن يريد الدنيا ممن يريد الآخرة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يعني ولقد عفا الله عنكم أيها المخالفون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يستأصلكم بعد المخالفة والمعصية وقيل: عفا عن عقوبتكم أيها المخالفون وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهذا من تمام نعمه على عباده المؤمنين لأنه نصرهم أولا ثم عفا عن المذنبين منهم ثانيا لأنه ذو الفضل والطول والإحسان. وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن وأن الله تعالى يعفو عنه بفضله وكرمه إن شاء لأنه سماهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي كبيرة وعفا عنهم بعد ذلك. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) إِذْ تُصْعِدُونَ قيل هو متعلق بما قبله والتقدير ولقد عفا عنكم إذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إذ تصعدون يعني هاربين في الجبل. وقيل هو ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والمعنى اذكروا إذ تصعدون قراءة الجمهور بضم التاء وكسر العين من الإصعاد وهو الذهاب في الأرض والإبعاد فيها وقرأ الحسن تصعدون بفتح التاء من الصعود وهو الارتقاء من أسفل إلى أعلى كالصعود على الجبل وعلى السلم ونحوه، وللمفسرين في معنى الآية قولان أحدهما أنه صعودهم في الجبل عند الهزيمة والثاني أنه الإبعاد في الأرض في حال الهزيمة ووقت الهرب وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض من شدة الهرب وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي في آخركم ومن ورائكم يقول إليّ عباد الله أنا رسول الله من كرّ أي رجع فله الجنة فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ يعني فجزاكم بفراركم عن نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وفشلكم عن عدوكم غما بغم فسمّى العقوبة التي عاقبهم بها ثوابا على سبيل المجاز لأن لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلّا في الخير وقد يجوز استعماله في الشر لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا فمتى حملنا الثواب على أصل اللغة كان الكلام صحيحا ومتى حملناه على الأغلب كان على سبيل المجاز فهو كقول الشاعر: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا فجعل العطاء مكان العقاب لأن الأداهم السود هي القيود الثقال والمحدرجة هي السياط والباء في قوله غما

[سورة آل عمران (3): آية 154]

بغم بمعنى مع أو بمعنى على لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقيل الباء على بابها والمعنى غما متصلا بغم واختلفوا في معنى الغمين فقيل الغم الأول هو ما فاتهم من الظفر والغنيمة والغم الثاني هو ما نالهم من القتل والهزيمة وقيل الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح والغم الثاني هو ما سمعوا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل فأنساهم غمهم. وقيل الغم الأول هو أنهم غموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمخالفة أمره فجزاهم الله بذلك الغم القتل والهزيمة. وقيل إن غمهم الأول بسبب إشراف خالد بن الوليد مع خيل المشركين عليهم والغم الثاني حين أشرف أبو سفيان عليهم. وذلك أن أبا سفيان وأصحابه وقفوا بباب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم غمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأغمهم ذلك. قوله تعالى: لِكَيْلا في لفظة لا قولان: أحدهما أنها باقية على أصلها ومعناها النفي هذا يكون الكلام متصلا بقوله ولقد عفا عنكم والمعنى ولقد عفا عنكم لكيلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ لأن عفوه يذهب كل هم وحزن وقيل معناه فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم ولا ما أصابكم وقد روي أنهم لما سمعوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قتل نسوا ما أصابهم وما فاتهم والقول الثاني أن لفظة لا صلة ومعنى الكلام لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم. قال ابن عباس: الذي فاتهم الغنيمة والذي أصابهم القتل والهزيمة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي هو عالم بجميع أعمالكم خيرها وشرها فيجازيكم عليها. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي أصابكم أَمَنَةً نُعاساً يعني أمنا والأمنة والأمن واحد وقيل الأمن يكون مع زوال الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف. وكان سبب الخوف يعد باقيا، والنعاس أخف من النوم والمعنى أعقبكم بما نالكم من الخوف والرعب أن أمّنكم أمنا تنامون معه لأن الخائف لا يكاد ينام فأمّنهم بعد خوفهم يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قال ابن عباس: أمّنهم يومئذ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام (خ) عن أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه. وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري وزاد والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق. وفي رواية أخرى له قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أراهم وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا. وقال الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله تعالى علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلناها هنا فقوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ يعني المؤمنين وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني المنافقين أراد الله يميز المؤمنين من المنافقين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع النعاس على المنافقين فبقوا في الخوف. وفي إلقاء النعاس على المؤمنين دون المنافقين آية عظيمة ومعجزة باهرة لأن النعاس كان سبب أمن المؤمنين وعدم النعاس عن المنافقين كان سبب خوفهم وهو قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني حملتهم أنفسهم على الهم لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة عندهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني يظنون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه وقيل إن

[سورة آل عمران (3): الآيات 155 إلى 156]

محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل وإن أمره يضمحل والمعنى يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية يَقُولُونَ يعني المنافقين هَلْ لَنا أي مالنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وذلك أنه لما شاور النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين في هذه الواقعة وأشار عليه أن لا يخرج من المدينة فلما خالفه النبي صلّى الله عليه وسلّم وخرج وقتل من قتل قيل لعبد الله بن أبيّ قد قتل بنو الخزرج قال هل لنا من الأمر شيء وهو استفهام على سبيل الإنكار أي مالنا أمر يطاع. وقيل المراد بالأمر النصر والظفر يعني ما لنا من هذا الذي يعدنا محمد به من النصر والظفر من شيء إنما هو للمشركين قُلْ يا محمد لهؤلاء المنافقين إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصر والظفر والقضاء والقدر كله لله وبيده يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف أحب يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يعني من الكفر والشك في وعد الله عز وجل وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين وقيل الذي أخفوه وهو قوله تعالى حكاية عنهم: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم تقتل رؤساؤنا. وقيل كانوا يقولون لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا. وعن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» قيل إن الذي قال هل لنا من الأمر من شيء هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق والذي قال لو كان لنا من الأمر شيء هو معتب بن قشير قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قضى عليهم القتل وقدر عليهم إِلى مَضاجِعِهِمْ يعني مصارعهم التي يصرعون بها وقت القتل ومعنى الآية أن الحذر لا ينفع مع القدر والتدبير لا يقاوم. التقدير فالذين قدر عليهم القتل وقضاه وحكم به عليهم لا بد وأن يقتلوا والمعنى لو جلستم في بيوتكم لخرج منها ولظهر الذين قضى الله عليهم بالقتل وقضاه إلى حيث يقتلون فيه وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي وليختبر ما في صدوركم ليعلّمه مشاهدة، كما علمه غيبا لأن المجازاة إنما تقع على ما علمه مشاهدة وقيل معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لكم وقيل معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تعظيما لشأن أوليائه المؤمنين وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال قتادة أي يطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو وإظهار سرائر المنافقين فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين خاصة. وقيل معناه وليبين ويظهر ما في قلوبكم يعني من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين من العداوة فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين خاصة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر لأنه عالم بجميع المعلومات. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 155 الى 156] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي انهزموا وهربوا منكم يا معشر المسلمين فهو خطاب لمن كان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين يوم أحد بأحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة عشر رجلا وقيل أربعة عشر من المهاجرين سبعة ومن الأنصار سبعة، فمن المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي طلب زلتهم كما يقال استعجله أي طلب عجلته وقيل حملهم على الزلة وهي الخطيئة وذلك بإلقاء الوسوسة في قلوبهم

[سورة آل عمران (3): الآيات 157 إلى 159]

لا أنه أمرهم بها بِبَعْضِ ما كَسَبُوا يعني بمعصيتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركهم المركز. وقيل استزلهم الشيطان بتذكير خطايا سبقت لهم فكرهوا أن يقتلوا قبل إخلاص التوبة منها وهذا اختيار الزجاج لأنه قال لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على الفرار من الزحف رغبة في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان خطايا سلفت لهم فكرهوا إلقاء الله إلا على حالة يرضاها وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ يعني ولقد تجاوز الله عن الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فلم يعاقبهم بذلك وغفر لهم وقيل إن عثمان عوتب في هزيمة يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله قد عفا عنه وقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لمن تاب وأناب حَلِيمٌ لا يعجل العقوبة ولا يستأصلهم بالقتل. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ يعني في النفاق والكفر وقيل لإخوانهم في النسب وكانوا مسلمين إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يعني إذا سافروا في الأرض لتجارة وغيرها أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز أي غزاة، في الكلام حذف دل المعنى على ذلك الحذف وهو إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا يعني مقيمين ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ يعني قولهم وظنهم حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني غما وتأسفا وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا رد لقول المنافقين لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا والمعنى أن الأمر بيد الله وأن المحيي والمميت هو الله تعالى فقد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد عن الغزو كما يشاء فكيف ينفع الجلوس في البيت وهل يحمي أحد من الموت وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أنه تعالى مطلع على ما تعملون من خير أو شر فيجازيكم به فاتقوه ولا تكونوا مثل المنافقين لأن مقصدهم تنفير المؤمنين عن الجهاد بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فإن الله تعالى هو المحيي المميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن أقام ببيته عند أهله فلا تقولوا أنتم أيها المؤمنون لمن يريد الخروج إلى الجهاد لا تخرج فتقتل فلان يموت في الجهاد فيستوجب الثواب فإن ذلك خير له من أن يموت في بيته بلا فائدة. وإليه الإشارة بقوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 159] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ يعني في العاقبة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يعني من الغنائم والمعنى ولئن تم عليكم ما تخافونه من القتل في سبيل الله أو الهلاك بالموت فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يعني لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب تحشرون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. وقد قسم بعض مقامات العبودية ثلاثة أقسام فمن عبد الله خوفا من ناره أمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو. وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله تعالى ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبد الله شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلّى له الحق سبحانه وتعالى في دار كرامته. وإليه الإشارة بقوله لإلى الله تحشرون. قوله عز وجل: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي فبرحمة من الله وما صلة لنت لهم أي سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بتعنيف على ما كان يوم أحد منهم ومعنى فبما رحمة من الله هو توفيق الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم للرفق والتلطف بهم وإن الله تعالى ألقى في قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم داعية الرحمة واللطف حتى فعل ذلك معهم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا يعني جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ يعني قاسي القلب سيئ الخلق قليل الاحتمال لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لنفروا عنك وتفرقوا

[سورة آل عمران (3): الآيات 160 إلى 161]

حتى لا يبقى منهم أحد عندك فَاعْفُ عَنْهُمْ أي تجاوز عن زلاتهم وما أتوا يوم أحد وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي واسأل الله المغفرة لهم حتى يشفعك فيهم وقيل فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحقوق الله وذلك من تمام الشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم. واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة لهم مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته وعلى كافة الخلق فيما أحبوا أو كرهوا. فقيل هو عام مخصوص والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه. وقيل أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم. وقال الحسن قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده من أمته، وقيل إنما أمر بمشاورتهم ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأيا وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أن يشاور فيه الأمة وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك وقيل أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شاورهم في أسارى بدر وهو من أمر الدين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبر قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح ومنها أنه إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه وقال بعضهم في مدح المشاورة: وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخي حزم لترشد في الأمر ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر ألم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ يعني على المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فاستعن بالله في أمورك كلها وثق به ولا تعتمد إلا عليه فإنه ولي الإعانة والعصمة والتسديد والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في جميع أموره وأن المشاورة لا تنافي التوكل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ يعني المتوكلين عليه في جميع أمورهم. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 160 الى 161] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعني إن يعنكم الله بنصره ويمنعكم من عدوكم كما فعل يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ يعني من الناس لأن الله تعالى هو المتولي نصركم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما فعل يوم أحد فلم ينصركم ووكلكم إلى أنفسكم لمخالفتكم أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لا على غيره لأن الأمر كله لله ولا راد لقضائه ولا دافع لحكمه فيجب أن يتوكل العبد في كل الأمور على الله تعالى لا على غيره. وقيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره ولا لعملك شاهدا سواه (م) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير

حساب قالوا ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام آخر فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. قوله عز وجل: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قال ابن عباس نزلت هذه الآية وما كان لنبي أن يغل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض القوم لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها. أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب وروي عن الضحاك قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلائع فغنم النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يقسم الطلائع فأنزل الله تعالى وما كان لنبي أن يغل وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل يقول ما كان لنبي أن يقسم إلى طائفة من المؤمنين ويترك طائفة ويجوز في القسم ولكن يقسم بالعدل ويأخذ فيه بأمر الله ويحكم فيه بما أنزل الله يقول ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه فإذا فعل ذلك النبي استنوا به وقال مقاتل والكلبي نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة. وقالوا نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا تقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم بل ظننتم أنا نغل فلا نقسم فأنزل الله هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعني فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية وقال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن إسحاق بن يسار هذا في شأن الوحي يقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة والغلول هو الخيانة. وأصله أخذ الشيء في خفية يقال غل فلان يغل قرئ بفتح الياء وضم الغين أي وما كان لنبي أن يخون لأن النبوة والخيانة لا يجتمعان لأن منصب النبوة أعظم المناصب وأشرفها وأعلاها لا تليق به الخيانة لأنها في نهاية الدناءة والخسة والجمع بين الضدين محال فثبت بذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخن أمته في شيء لا من الغنائم، ولا من الوحي. وقيل المراد به الأمة لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول والخيانة فدل ذلك على أن المراد بالغلول غيره وقيل اللام فيه منقولة معناه ما كان النبي ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء وقيل معناه ما كان لنبي الغلول أراد ما غل نبي قط فنفى عن الأنبياء: الغلول وقيل معناه وما كان يحل لنبي الغلول وإذا لم يحل له لم يفعله وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الغلول. في بعض الروايات فبين الله تعالى بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به ونفى عنه ذلك بقوله وما كان لنبي أن يغل وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين ولها معنيان أحدهما أن يكون من الغلول أيضا ومعناه وما كان لنبي أن يخان أي تخونه أمته والثاني أن يكون من الإغلال ومعناه وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بالشيء الذي غله بعينه يحمله على ظهره يوم القيامة ليزداد فضيحة بما يحمله يوم القيامة وقيل يمثل ذلك الشيء في النار ثم يقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع ذلك الشيء في النار فيكلف أن ينزل إليه ليخرجنه يفعل به ذلك ما شاء الله وقيل معناه أنه يأتي بإثم ما غله فيجازى به يوم القيامة وهو قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر والمعنى أن كل كاسب خيرا كان ذلك الكسب أو شرا فهو مجزى به يوم القيامة وهو في جزاء عمله وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني بل يعدل بينهم يوم القيامة في الجزاء فيجازى كل على عمله. (فصل في ذكر أحاديث وردت في الغلول ووعيد الغال) وقد تقدم أن أصل الغلول هو أخذ الشيء في خفية وأنه الخيانة إلا أنه قد صار في العرف مخصوصا

[سورة آل عمران (3): الآيات 162 إلى 165]

بالخيانة في الغنيمة وبهذا وردت الأحاديث (ق) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني وأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لفظ مسلم. الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة (ق) عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي يعني وادي القرى ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فقلنا هنيئا له شملته الشهادة يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبتها يوم خيبر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شراك من نار أو شراكان من نار وفي رواية نحوه وفيه ومعه عبد يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضبيب وفيه إذ جاءه سهم عائر إشراك سير النعل الذي يكون على ظهر القدم ومثله شسع النعل والسهم العائر هو السهم الذي لا يدرى من رماه (خ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي فذكروه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال أن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين. أخرجه أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من غل فاحرقوا متاعه واضربوه. أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه زاد في رواية ومنعوه سهمه أخرجه أبو داود. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 165] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يعني فترك الغلول فلم يغل كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يعني بغضب من الله والمعنى فغل والسخط الغضب الشديد المفضي للعقوبة وهو من الله إنزال العقوبة بمن سخط عليه وقيل في معنى الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المسلمين باتباعه والخروج معه يوم أحد اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من جماعة المنافقين فأخبرنا الله تعالى بحال من اتبعه بقوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وبحال من تخلف عنه بقوله: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يعني الغال أو المتخلف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يعني هم ذوو درجات عند الله قال ابن عباس: يعني من اتبع رضوان الله ومن باء

بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم ولمن باء بسخط من الله ليسوا سواء بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم. وقيل الضمير في قوله هم درجات عائد على قوله أفمن اتبع رضوان الله فقط لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات لأهل الثواب والدركات لأهل النار ولأن الله وصف من باء بسخط من الله إن مأواه جهنم وبئس المصير فدل على أن الضمير في قوله هم درجات عند الله عند راجع للأول وفيه تحريض على العمل بطاعته وتحذير عن العمل بمعاصيه. قوله عز وجل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني أحسن إليهم وتفضل عليهم والمنة النعمة العظيمة وذلك في الحقيقة لا يكون إلا من الله ومنه قوله تعالى لقد منّ الله على المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني من جنسهم عربيا مثلهم ولد ببلدهم ونشأ بينهم يعرفون نسبه وليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده وله فيهم نسب. إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى وقد ثبتوا على النصرانية فطهر الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن يكون له فيهم نسب وقيل أراد بالمؤمنين جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى من أنفسهم أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ومن جنسهم ليس بملك ولا أحد من غير بني آدم وقيل من أنفسهم يعني أنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ووجه المنّة والإنعام على المؤمنين ببعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من العذاب الأليم ويوصلهم إلى الثواب في جنات النعيم وكونه من أنفسهم ومن جنسهم لأنه إذا كان اللسان واحدا سهل الأخذ عنه فيما يجب عليهم، وكانوا واقفين على جميع أحواله وأفعاله يعرفون صدقه وأمانته فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا سدنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وإن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به فتى إلا رجح وهو الله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل. وقيل في وجه المنّة ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الخلق جبلوا على الجهل ونقصان العقل وقلة الفهم وعدم الدراية فمنّ الله تعالى على خلقه وأنعم عليهم وأحسن إليهم بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم أنقذهم به من الضلالة وبصرهم به من الجهالة وهداهم به إلى صراط مستقيم وإنما خص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما جاء به دون غيرهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعني يقرأ عليهم كتابه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي السماوي وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم من دنس الكفر ونجاسة المحرمات والخبائث وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني القرآن والسنّة التي سنها لهم على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني لفي جهالة وحيرة عن الهدى عميا لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فهداهم الله بنبيّه صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني ما أصابهم يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يعني ببدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقيل إن المسلمين هزموا المشركين يوم بدر وهزموهم في أول الأمر يوم أحد ولما عصوا الله ورسوله هزمهم المشركون فحصل انهزام المشركين مرتين وانهزام المسلمين مرة واحدة قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن المسلمون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا وهو استفهام إنكار قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني إنما وقعتم فيما وقعتم فيه بشؤم ذنوبكم وهو مخالفتكم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم اختار الإقامة في المدينة على الخروج إلى العدو واختاروا هم الخروج إليه وأيضا أمر الرماة بالإقامة في الموضع الذي عينه لهم فخالفوا وتركوا المركز لأجل الغنيمة فكان ذلك سبب القتل والهزيمة. وروى عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس فقالوا يا رسول الله

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 إلى 169]

عشائرنا وإخواننا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى أهل بدر لم يسنده البغوي وأسنده ابن جرير الطبري فذلك معنى قوله قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من نصركم مع الطاعة وترك نصركم مع المخالفة. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 169] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) وَما أَصابَكُمْ يعني من القتل والجراح والهزيمة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المؤمنين وجمع المشركين وذلك بأحد يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ يعني فبعلمه وقضائه وقدره وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل والهزيمة ولا تقع التسلية إلا إذا علموا أن ذلك كان واقعا بقضاء الله وقدره فحينئذ يرضون بما قضى الله عليهم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على مالهم ويظهر نفاق المنافقين بقلة صبرهم على ما نزل بهم فالمراد من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما من الآخر والمنافق هو الذي أظهر الإيمان بلسانه وأضمر خلافه واشتقاقه من النفق وهو السرب في الأرض النافذ، ومنه نافقا اليربوع لأن له حجرا في الأرض له بابان إذا طلب من أحدهما خرج من الآخر فكذلك المنافق صنع له طريقين أحدهما إظهار الإيمان بلسانه والآخر إضمار الكفر بقلبه من أيهما طلب خرج من الآخر. وقيل لأنه دخل في الإيمان من باب وخرج من باب آخر والنفاق اسم إسلامي لم تك العرب تعرفه قبل الإسلام وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا المقول له عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى أحد في ألف رجل حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال ما ندري علام نقتل أنفسنا فرجع بمن معه من المنافقين فتبعهم جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري أخو بني سلمة وهو يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم عند حضور عدوه فذلك قوله تعالى وقيل لهم يعني المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه تعالوا قاتلوا في سبيل الله أي لأجل دين الله وطاعته أو ادفعوا يعني عن أموالكم وأهليكم وقيل معناه تعالوا كثروا سواد المسلمين إن لم تقاتلوا ليكون ذلك دفعا وقمعا للعدو قالُوا يعني المنافقين لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو نعلم أن اليوم يجري فيه قتال لاتبعناكم ولم نرجع ولو علموا ما تبعوهم. وقيل معناه لو نحسن قتالا لاتبعناكم هُمْ لِلْكُفْرِ يعني المنافقين إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي الإيمان وإنما قال تعالى يومئذ لأنهم قبل ذلك اليوم لم يظهروا ما أظهروه من المعاندة والرجوع عن المسلمين وقولهم لو لم نعلم قتالا لاتبعناكم وإنما كانوا قبل ذلك يظهرون كلمة الإسلام ويخفون الكفر يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني يظهرون بألسنتهم الإيمان وليس هو في قلوبهم إنما في قلوبهم الكفر والنفاق وهذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين لأن صفة المؤمن المخلص موطأة القلب للسان على شيء واحد وهو التوحيد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ يعني من النفاق الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ نزلت في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وفي المراد بإخوانهم قولان: أحدهما أن المراد بإخوانهم الذين استشهدوا بأحد فيكون إخوانهم في النسب لا في الدين والقول الثاني إن المراد بإخوانهم المنافقون فعلى القول الأول يكون معنى

الآية الذين قالوا في إخوانهم أو عن إخوانهم الذين قتلوا بأحد لو أطاعونا ما قتلوا لأنهم بعد أن قتلوا لا يخاطبون وعلى القول الثاني يكون معنى الآية الذين قالوا وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه لإخوانهم يعني في النفاق وَقَعَدُوا يعني عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا يعني هؤلاء الذين خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو أطاعونا يعني في القعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الانصراف عنه ما قُتِلُوا يومئذ فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ يعني قل لهم يا محمد فَادْرَؤُا أي فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني أن الحذر لا ينفع من القدر وفي الآية دليل على أن المقتول يموت بأجله خلافا لمن يزعم أن القتل قطع على المقتول أجله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في شهداء أحد ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معقلة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم. قالوا من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ إلى آخر الآية أخرجه أبو داود (م) عن مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا. (ذكر ما يتعلق بهذا الحديث) قول مسروق سألنا عبد الله كذا جاء عبد الله غير منسوب وقد نسبه بعض الناس فقال عبد الله بن عمر قد ذكره أبو مسعود الدمشقي والحميدي في مسنده عن عبد الله بن مسعود وهو الصحيح وهذا الحديث مرفوع لقوله أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الحديث دليل عن أن الجنة مخلوقة الآن خلافا للمعتزلة لقوله صلّى الله عليه وسلّم تسرح من الجنة حيث شاءت وهو مذهب أهل السنة وفيه دليل على أن الأرواح باقية لا تفنى بفناء الجسد لأن المحسن ينعم ويجازى بالثواب وأن المسيء يعذب ويجازى بالعقاب قبل يوم القيامة وهو مذهب أهل السنة أيضا قوله أرواحهم في جوف طير خضر أي يجعل الله أرواح الشهداء في جوف طير خضر وهذا ليس ببعيد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام لطيفة. وقيل إن المنعم والمعذب من الأرواح والأجساد جزء من الجسد تبقى فيه الروح وهو الذي يتلذذ بالنعيم ويتألم بالعذاب فغير مستحيل أن يصور الله تعالى ذلك الجزء طائرا ويجعل في جوف طير فتسرح في الجنة وتأوي إلى تلك القناديل وقد تعلق بهذا الحديث من يقول بالتناسخ من المبتدعة ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة ويزعمون أن هذا هو الثواب والعقاب وهذا ضلال بيّن وقول سخيف وبدعة باطلة لما في هذا القول من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث ما يرد عليهم وهو قوله حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه يعني يحيي جميع جسده يوم يبعثه وهو يوم القيامة والله أعلم. عن جابر قال لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مهتم فقال ما لي أراك منكسرا قلت يا رسول الله استشهد أبي يوم أحد وترك عيالا ودينا فقال ألا أبشرك بما لقي الله به أباك قلت بلى قال ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحا وقال يا عبدي تمنّ علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل ثانية قال سبحانه إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فنزلت: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب

وقيل إن الآية نزلت في شهداء بئر معونة وهي بئر بين مكة وعسفان وأرض هذيل قال محمد بن إسحاق عن أشياخه من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهدى له هدية فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقبلها وقال إني لا أقبل هدية مشرك ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء نالهم جار فأبعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين. وكان يقال لهم القراء منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر. وذلك في سفر سنة أربع من الهجرة بعد أحد بأربعة أشهر فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل هذا الماء فقال حرام بن ملحان: أنا فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان: لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال حرام بن ملحان يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لا نخفر أبا براء فقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عصية ورعلا وذكوان فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم يعلمها بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ماذا ترى قال نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونخبره فقال الأنصاري لكن لا أرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذ عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمة فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا عمل أبي براء وقد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه أخفار عامر بن الطفيل إياه وما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه وجواره. وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة قالوا: وبلغ ربيعة بن أبي براء أن عامر بن الطفيل أخفر ذمة أبيه فحمل على عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه. قلت وذكر ابن الأثير الجزري في كتاب جامع الأصول له في قسم الأسماء في ترجمة عامر بن الطفيل أن عامر بن الطفيل قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن بضع وثمانين سنة ولم يسلم وعاد من عنده فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه ومات منه (ق) عن أنس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين وفي رواية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خاله أخا لأم سليم واسمه حرام في سبعين راكبا فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلّا كنتم مني قريبا فتقدم فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أمنوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلّا رجلا أعرج صعد الجبل قال همام وأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم إنهم قد

[سورة آل عمران (3): آية 170]

لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم. قال فكنا نقرأ أن بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله وفي رواية إن رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمدهم بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى إذا كان ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك رفع بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ولمسلم قال: جاء ناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألوه أن أبعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم وقيل إن أولياء الشهداء وأهليهم كانوا إذا أصابتهم نعمة وخير تحسروا على الشهداء وقالوا نحن في النعمة والرخاء وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم وتنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا تظنن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكل أحد من أمته والمعنى لا يظن ظان إن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا يعني كأموات غيرهم ممن لم يقتل في سبيل الله بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء وظاهر الآية يدل على كون من قتل في سبيل الله حيا فأما أن يكون المراد أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة أو يكون المراد إنهم أحياء في الحال وعلى تقدير أنهم أحياء في الحال يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجثمانية. فهذه ثلاثة أوجه في معنى احتمال الحياة فمن قال بالوجه الأول هو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة قال معنى الآية بل هم أحياء في الذكر: وأنهم يذكرون بخير أعمالهم وأنهم استشهدوا في سبيل الله وقيل بل هم أحياء في الدين وهذا القول ليس بصواب لأن الله تعالى أثبت لهم الحياة في الحال بقوله بل أحياء يعني في حال ما يقتلون فإنهم يحيون وهو الاحتمال الثاني. واختلفوا في معنى هذه الحياة هل هي للروح أو للجسم والروح معا فمن أثبت الحياة للروح دون الجسم يقال يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم أرواح الشهداء في حواصل طير خضر فخص الأرواح دون الأجساد وقال بعض المفسرين إنّ أرواح الشهداء تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. ومن أثبت الحياة الروح والجسم معا قال: يدل عليه سياق الآية وهو قوله عند ربهم يرزقون فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون كالأحياء وقيل إن الشهيد لا يبلى في قبره ولا تأكله الأرض كغيره. وروي أنه لما أراد معاوية أن يجري الماء على قبور الشهداء أمر أن ينادي من كان له قتيل فليخرجه وليحوله من هذا الموضع قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة إصبع رجل منهم فانبعث دما وذكر البغوي بغير سند عن عبيد الله بن عمير قال مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه» وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني في محل كرامته وفضله يُرْزَقُونَ يعني من ثمار الجنة وتحفها. [سورة آل عمران (3): آية 170] فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم وَيَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون والاستبشار هو الفرح والسرور الذي يحصل للإنسان عند البشارة بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ يعني من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا استشهدوا سألوا الله عز وجل أن يخبر إخوانهم بما نالوا من الخير والكرامة ليرغبوا في الجهاد فأخبرهم الله عز

[سورة آل عمران (3): الآيات 171 إلى 172]

وجل إني قد أنزلت على نبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بحالكم وما صرتم إليه من الكرامة وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر إخوانكم بذلك ففرحوا بذلك واستبشروا أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني في الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما فاتهم من نعيم الدنيا. [سورة آل عمران (3): الآيات 171 الى 172] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لمّا بيّن الله تعالى أن الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في خلفهم ذكر أنهم أيضا يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل فالاستبشار الأول كان لغيرهم والاستبشار الثاني لأنفسهم خاصة وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ يعني كما أنه تعالى لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين. (فصل في فضل الجهاد في سبيل الله) (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلّا جهاد في سبيل وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم اغزوا فأقتل لفظ (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (ق) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها. عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كل ميت يختم على عمله إلّا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقا من نفسه ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء. أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الترمذي مفرقا في موضعين (ق) عن أبي سعيد قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شره (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا وتصديقا فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات (ق) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما أحد يدخل الجنة فيحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلّا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة وفي رواية لما يرى من فضل الشهادة (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يغفر للشهيد كل ذنب إلى الدين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما يجد الشهيد من مس القتل إلّا كما يجد أحدكم من القرصة أخرجه الترمذي وللنسائي نحوه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته أخرجه أبو داود: قوله عز وجل: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية قال أكثر المفسرين أن أبا سفيان وأصحابه لمّا انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا فقالوا: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلّا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من ألم الجراح والقرح الذي أصابهم يوم أحد وناد مناد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا لا يخرجن معنا أحد إلّا من حضرنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان في سبعين رجلا من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، (ق) عن عائشة في قوله الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، الذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير قال: فمر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخزاعي بحمراء الأسد كانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان قد أعفاك فيهم. ثم خرج معبد من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم ولنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال له: ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قد يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم فقال والله إني أنهاك عن ذلك فو الله لقد حملني ما رأيت على إن قلت أبياتا قال وما قلت قال قلت: كادت تهدي من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل فقلت ويل ابن حرب من لقائكمو ... إذا تغطغطت البطحاء بالخيل إني نذير لأهل السبل ضاحية ... لكل ذي أربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وحش يقابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالفيل قالوا فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا نريد المدينة لأجل الميرة قال: فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم زبيبا بعكاظ إذا وفيتموها قالوا: نعم إذا وافيتموه فأخبروه إنا أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة بعد ثالثة وقال مجاهد وعكرمة نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك بيننا وبينك إن شاء الله فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقي الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم الصغرى وهذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد

[سورة آل عمران (3): الآيات 173 إلى 174]

ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة ولا أن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فألحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهيل بن عمرو ويضمنها لك قال وجاء سهيل فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي هذه القلائص وانطلق إلى محمد فأثبته قال: نعم، قال: فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال نعيم: أين تريدون؟ قالوا: واعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر الصغرى فقال نعيم بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلّا الشريد أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخروج فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى وكانوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون بذلك أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل. حتى بلغوا بدر الصغرى وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبا سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات ونفقات فباعوا فأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول أي أجابوا الله وأطاعوه في جميع أوامره وأطاعوا الرسول أيضا مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعني من بعد ما نالهم من ألم الجراح لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا يعني أحسنوا بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجابوه إلى الغزو واتقوا معصيته والتخلف عنه أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لهم ثواب جزيل وهو الجنة. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 173 الى 174] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها لأن المراد بالذين من تقدم ذكره وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بالناس وجوه أحدها: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي فيكون اللفظ عاما أريد به الخاص وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد لأن ذلك الواحد إذا فعل فعلا أو قال قولا ورضي به غيره حسن إضافة ذلك الفعل والقول إلى الجماعة وإن كان الفاعل واحدا فهو كقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً والقاتل واحد والوجه الثاني أن المراد بالناس الركب من عبد القيس قاله ابن عباس ومحمد بن إسحاق. الوجه الثالث أن المراد بالناس المنافقون وذلك أنهم لما رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتجهز لميعاد أبي سفيان نهوا أصحابه عن الخروج معه وقالوا لهم أن القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثر منكم فإن خرجتم إليهم لم يبق أحد منكم إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان وأصحابه من رؤساء المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني الجموع الكثيرة لأن العرب تسمى الجيش جمعا ويجمعونه جموعا فَاخْشَوْهُمْ أي فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم فَزادَهُمْ إِيماناً يعني فزاد المسلمين ذلك التخويف تصديقا ويقينا وقوة في دينهم وثبوتا على نصر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وفي هذه الآية دليل لمن يقول بزيادة الإيمان ونقصانه لأن الله تعالى نص على وقوع الزيادة في الإيمان وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا الله هو الذي يكفينا أمرهم فهو كقول امرئ القيس. وحسبك من غني شبع. وروي أي يكفيك الشبع والري ونعم الوكيل يعني ونعم الموكول إليه في الأمور كلها وقيل الوكيل هو الكافي يكفينا الله ونعم الكافي هو. وقيل الوكيل هو الكفيل ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله وقام به والوكيل في صفة الله تعالى هو الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم وأنه الذي يستقل بأمورهم كلها (خ) عن ابن عباس قال في قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ

[سورة آل عمران (3): الآيات 175 إلى 178]

جَمَعُوا لَكُمْ إلى قوله وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم. قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا أي فانصرفوا ورجعوا بعد خروجهم والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعافية لم يلقوا عدوا وَفَضْلٍ أي تجارة وربح وهو ما أصابوا في سوق بدر من الربح وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لم يصيبهم أذى ولا مكروه من قتل وجراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ يعني في طاعة الله وطاعة رسوله وقيل إنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم بمجرد خروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ يعني أنه تعالى تفضل عليهم بالتوفيق لما فعلوا وقيل تفضل عليهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 175 الى 178] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يعني إنما ذلكم المخوف والمثبط هو الشيطان يخوف بالوسوسة بأن ألقى ذلك في أفواههم ليرهبوا المؤمنين ويخوفوهم ويجبنوهم قوله أولياءه يعني الشيطان يخوفكم يا معشر المؤمنين بأوليائه. وقيل معناه أولياءه في صدوركم لتخافوهم وقيل معناه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين وأولياء الشيطان هم الكفار والمنافقون الذين يطيعونه ويؤثرون أمره وأولياء الله هم المؤمنون الذين لا يخافون الشيطان إذا خوفهم ولا يطيعونه إذا أمرهم فَلا تَخافُوهُمْ يعني فلا تخافوا أولياء الشيطان ولا تقعدوا عن قتلهم ولا تجبنوا عنهم وَخافُونِ أي فجاهدوا في سبيلي مع رسولي فإني وليكم وناصركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بوعدي إني متكفل لكم بالنصر والظفر. قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم قوم ارتدوا عن الإسلام والمعنى ولا يحزنك يا محمد من يسارع في الكفر ويجمع الجموع لمحاربتك فإن هذا المقصود لا يحصل له وقيل مسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم الكفار على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى يسارعون في نصرة الكفر فلا يحزنك فعلهم فإنك منصور عليهم إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني بمسارعتهم في الكفر إنما يضرون أنفسهم بذلك وقيل معناه لن يضروا أولياء الله شيئا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ يعني لا يجعل لهم نصيبا في ثواب الآخرة فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر. وفي الآية دليل على أن الخير والشرّ بإرادة الله تعالى وفيه رد على القدرية والمعتزلة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعني المنافقين آمنوا ثم كفروا والمعنى أنهم استبدلوا الكفر بالإيمان فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني باستبدالهم الكفر بالإيمان وإنما ضروا أنفسهم بذلك وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. قوله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قرئ تحسبن بالتاء والياء فمن قرأ بالتاء فمعناه ولا تحسبن يا محمد إملاءنا للكفار خير لأنفسهم ومن قرأ بالياء قال: معناه ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرا نزلت في مشركي مكة وقيل نزلت في يهود بني قريظة والنضير أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ الإملاء الإمهال والتأخير وأصله من الملوءة وهي المدة من الزمان والمعنى ولا يظنن الذين كفروا إن إمهالنا إياهم بطول العمر والإنساء في الأجل

[سورة آل عمران (3): آية 179]

خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ثم قال تعالى: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إثما يعني إنما نمهلهم ونؤخر في آجالهم ليزدادوا إثما وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله وروى ابن جرير الطبري بسنده عن الأسود قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلّا والموت خير لها. وقرأ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وقرأ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وقال ابن الأنباري قال جماعة من أهل العلم أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق سبق في علمه أنهم لا يؤمنون فقال إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بمعاندتهم الحق وخلافهم الرسول وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه ثم تلا هذه الآية وقال الزجاج هؤلاء قوم أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنهم لا يؤمنون أبدا وأن نفاقهم يزيدهم كفرا وإثما وهذه الآية حجة ظاهرة على القدرية حيث أخبر الله تعالى أنه يطيل أعمار قوم ويمهلهم ليزدادوا كفرا وإثما وغيا. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبي قالت قريش يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وإن من أطاعك وتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت على أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي» فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمدا أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا نبأتكم به فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبي يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيّا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهل أنتم منتهون فهل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فأنزل الله هذه الآية. وقيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت هذه الآية وقيل إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال ابن عباس وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين والمعنى ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حتى يميز الخبيث من الطيب وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق والتباس بعضهم ببعض حتى يميز الخبيث من الطيب يعني المنافق من المؤمن الخالص فيميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد فأظهر المنافقون النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إنما حصل التمييز يوم أحد بإلقاء الجميع في الخوف والقتل والهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديقه ولم يتزلزل ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره وقيل في معنى الآية حتى يميز المؤمن من الكافر بالجهاد والهجرة. وقيل في معنى الآية ما كان الله ليذر المؤمنين في أصلاب الرجال المشركين وأرحام النساء المشركات. والمعنى ما كان الله ليدع أولادكم الذين جرى لهم الحكم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يميز الخبيث من الطيب يعني يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين فيحكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الشرك والكفر والنفاق بالنار وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الخطاب في قوله ليطلعكم لكفار قريش الذين قالوا يا محمد أخبرنا عمن يؤمن بك ومن لا

[سورة آل عمران (3): آية 180]

يؤمن والمعنى وما كان الله ليبين لكم أيها الكفار المؤمن من الكافر فيقول فلان مؤمن وفلان كافر أو منافق لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وإن سنة الله جارية أنه لا يطلع على غيبة أحاد الناس فلا سبيل إلى معرفة المؤمن من الكافر والمنافق إلّا بالامتحان بالآفات والمصائب فيتميز المؤمن المخلص بثباته على إيمانه ويتزلزل المنافق عن المحن والبلايا. وقيل في معنى الآية وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب فيخبركم بالمؤمن من الكافر وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يعني ولكن الله يصطفى ويختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما يشاء من غيبه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني أنه لما قالت الدلائل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق إلّا الإيمان بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما قال ورسله على الجمع ولم يقل ورسوله على التوحيد لقوله ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ولأنه إذا أقر بجميع الرسل كان مقرا بأحدهم وهذه صفة المؤمنين لأنهم آمنوا بجميع الرسل وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يعني وأن تصدقوا اجتبيته برسالتي وأطلعته على ما أشاء من غيبي وأعلمته بالمنافق منكم والمؤمن المخلص وتتقوا ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني فلكم بأيمانكم واتقائكم ثواب جزيل وهو الجنة. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ يعني ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم بَلْ هُوَ يعني البخل شَرٌّ لَهُمْ والبخل هو إمساك المقتنيات عما لا يستحق حبسها عنه والبخيل هو الذي يكثر منه البخل والآية دالة على ذم البخل عن عبد الله بن عمر قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح. أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية فقال عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وابن عباس في رواية أبي صالح عنه والشعبي ومجاهد نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ووجه هذا القول أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن البخل عبارة عن منع الواجب وأن من منع التطوع لا يكون بخيلا ويدل عليه الوعيد الشديد في سياق الآية. وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به وهذا لا يكون إلّا في ترك الواجب لا في التطوع وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وابن جريج عن مجاهد أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته وهذا القول هو اختيار الزجاج ووجه هذا القول أن البخل عبارة عن منع الخير والنفع ويدخل فيه العلم كما يقال بخل فلان بعلمه وصحح الطبري القول الأول واختاره وقوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق فإن حملنا معنى الآية على منع الزكاة والبخل بها فقد قال ابن مسعود وابن عباس يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا فلم يود زكاته مثل له يوم القيام شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم أخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله» الآية أخرجه البخاري قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السوداوان فوق عيني الحية وقيل هما نقطتان يكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحني اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب. (ق) عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالا إلّا من

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 إلى 182]

قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقيل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس لفظ مسلم وفرقه البخاري، بمعناه في موضعين. وقيل في معنى الآية أنه يجعل في أعناقهم أطواق من النار وقيل يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم في الدنيا وإن حملنا تفسير البخل على البخل بالعلم وكتمانه فقد قال ابن عباس في قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي يحملون وزره وإثمه فيكون على طريق التمثيل كما يقال قلدتك هذا الأمر وجعلته في عنقك وقيل يجعل في رقابهم طوق من نار ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سئل علما يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار أخرجه الترمذي وفي رواية أبي داود من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة قيل في معنى الحديث إنهم لما سألوا عن العلم فكتموه ولم ينطقوا به بألسنتهم ولم يخرجوه من أفواههم عوضوا عن ذلك بلجام من نار في أفواههم عقوبة لهم والله أعلم. قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون وتبقى أملاكهم فيرثها سبحانه والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جميع المالكين ويبقى الملك لله تعالى وقيل في معنى الآية وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وعلم وغير ذلك ذلك فما لهؤلاء البخلاء يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرئ يعملون الياء على الغيبة على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد والمعنى والله بما يعملون يعني البخلاء من منعهم الحقوق خبير فيجازيهم عليه وقرئ بالتاء على خطاب الحاضرين قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قال الحسن وقتادة لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن القائل هذه المقالة هو حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدراسهم فوجد ناسا كثيرا قد اجتمعوا على فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلّا الفقير من الغني فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا فقير ونحن أغنياء فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله إن هذا عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تصديقا لأبي بكر وتكذيبا لفنحاص وردا عليهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وهذه المقالة وإن كانت قد صدرت من واحد من اليهود لكنهم يرضون بمقالته هذه فنسبت إلى جميعهم ولا يخلوا أن يكونوا قالوا هذه المقالة عن اعتقاد لذلك القول أو قالوها استهزاء وأيهما كان فهذه المقالة عظيمة القبح لا تصدر عن عاقل وإنما صدرت عن كافر متمرد في كفره وضلاله سَنَكْتُبُ ما قالُوا يعني قولهم إن الله فقير ونحن

[سورة آل عمران (3): الآيات 183 إلى 185]

أغنياء لأن ذلك كذب وافتراء والمعنى سنحفظ عليهم ما قالوا وقيل: سنثبت ذلك القول في صحائف أعمالهم التي تكتبها الحفظة عليهم حتى يوافوا بها يوم القيامة فهو وعيد وتهديد لهم وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ قيل معناه سنكتب ما قال هؤلاء اليهود ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي كلا الفريقين بما هو أهله وإنما نسب قتل الأنبياء إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما فعله أسلافهم وأوائلهم لأنهم رضوا بفعلهم فنسب إليهم. وقيل في معنى الآية سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم أيضا رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء والفائدة في ضم قتلهم الأنبياء إلى ما وصفوا الله تعالى بالفقر الإعلام بذلك أنهما أخوان في العظم وإن هذا القول منهم ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم وأنهم أصلاء في الكفر والجهل والضلال ولهم في ذلك سوابق، وأن من قتل الأنبياء لا يبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول العظيم الفحش والقبح وَنَقُولُ يعني لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص في الدنيا ذلِكَ أي ذلك العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله بالفقر وأقدمتم على قتل الأنبياء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إنما ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد إلّا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها ولأن أكثر الأعمال يكون باليد فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذب بغير ذنب بل هو سبحانه وتعالى عادل ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثبت المحسن. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 185] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قال الكلبي نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب من اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا وإن الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالُوا يعني قد سمع الله قول الذين إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعني أمرنا وأوصانا في كتبه أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ يعني فيكون ذلك دليلا على صدقه. وذكر الواحدي عن السدي أنه قال إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار. حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان. زاد غير الواحدي عنه قال: وكانت هذه العادة باقية فيهم إلى مبعث المسيح عليه السلام ثم ارتفعت وزالت وقيل إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة وهو من كذب اليهود وتحريفهم ويدل على ذلك أن المقصود في الدلالة على صدق النبي هو ظهور المعجزة الخارقة للعادة فأي معجزة أتى بها النبي قبلت منه وكانت دليلا على صدقه. وقد أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه فوجب على كافة الخلق اتباعه وتصديقه والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من أعمال البر من نسك وصدقة وذبح وكل عمل صالح، ويدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم الصوم جنة والصلاة قربان يعني أنها مما يتقرب بها إلى الله عز وجل. وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك وجاءت نار بيضاء من

السماء لا دخان لها ولها دوي حفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنمية وتحرقه فيكون ذلك دليلا وعلامه على القبول وإذا لم يقبل بقي على حاله ولم تنزل نار. وقال عطاء كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم نبيهم عليه السلام في البيت ويناجي ربه عز وجل وبنو إسرائيل خارجون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان ثم قال الله عز وجل مجيبا عن هذه الشبهة التي ذكرها هؤلاء اليهود وإقامة للحجة عليهم قُلْ يعني قل يا محمد لهؤلاء اليهود قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي يعني مثل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلات الواضحات الدالة على صدقهم وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني ما طلبوا من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ عني فلم قتلتم الأنبياء الذين أوتوا بنا طلبتم منهم مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء وأراد بذلك فعل أسلافهم وإنما خاطب بذلك اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في دعواكم ومعناه تكذيبهم إياك يا محمد مع علمهم بصدقك كقتل آبائهم الأنبياء مع إتيانهم بالقربان ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني هؤلاء اليهود فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعني مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل جاؤُ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات وَالزُّبُرِ أي الكتب واحدها زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور وأصله من الزبر وهو الزجر وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورا لأنه يزبر عن الباطل ويدعو إلى الحق وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح المضيء وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه وفضله وقيل أراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل. قوله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني أن كل نفس مخلوقة ذائقة الموت ولا بد لها منه. قيل لما نزل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يا رسول الله إنما نزلت في بني آدم فأين ذكر الموت للجن والأنعام والوحوش والطير؟ فنزلت هذه الآية وقيل لما خلق الله آدم عليه السلام اشتكت الأرض إلى ربها عز وجل مما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما أحد يموت إلّا ويدفن في التربة التي خلق منها. فإن قلت الحور والولدان نفوس مخلوقة في الجنة لا تذوق الموت فما حكم لفظ كل في قوله كل نفس ذائقة الموت؟ قلت لفظة كل لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى وأوتيت من كل شيء ولم تؤت ملك سليمان فتكون الآية من العام المخصوص ويحتمل أن يكون المراد بهم المكلفين بدليل سياق الآية وهو قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يعني توفون جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ يعني فمن نجا وأبعد من النار وأدخل الجنة فقد ظفر بالنجاة ونجا من الخوف وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني أن العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب. وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم والمتاع كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره وقيل المتاع كالفارس والقدر والقصعة ونحوها والغرور ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الغرور الباطل. ومعنى الآية أن منفعة الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها ثم تزول عن قريب. وقيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم. قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» واقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. زاد الترمذي: «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» واقرءوا إن شئتم: «وظل ممدود ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» واقرءوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (3): آية 186]

[سورة آل عمران (3): آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) لَتُبْلَوُنَّ اللام لام القسم تقديره والله لتبلون أي لتختبرن فتوقع عليكم المحن ليعلم المؤمن من غيره والاختبار طلب المعرفة ليعرف الجيد من الرديء وذلك في وصف الله محال لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء كلها قبل أن يخلقها فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر فِي أَمْوالِكُمْ يعني بالابتلاء في الأموال بالنقصان منها وقيل بأداء ما فرض فيها من الحقوق وَأَنْفُسِكُمْ يعني بالمصائب والأمراض والقتل وفقد الأقارب والعشائر خوطب بهذه الآية المسلمون ليوطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وما سيلقون من الشدائد والمصائب ليصبروا على ذلك حتى إذ لقوها لقوها وهم مستعدون بالصبر لها لا يرهقهم ما يرهق غيرهم ممن تصيبه الشدة بغتة فينكرها ويشمئز منها وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً قال عكرمة نزلت في أبي بكر الصديق وفنحاص بن عازوراء وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر إلى فنحاص سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه معه كتابا وقال لأبي بكر: لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف إلى فنحاص وأعطاه الكتاب فلما قرأه قال فنحاص قد احتاج ربك حتى نمده فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع فنزلت الآية وقال الزهري نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلّم وكعب بن الأشرف اليهودي وذلك أنه كان يهجو النبي صلّى الله عليه وسلّم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على قتالهم في شعره. (ق) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فالأقل قال فأتاه فقال له وذكر ما بينهم وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضا والله لتملنه قال إنا قد ابتعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا قال فما ترهنني أترهنني نساءكم؟ قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا قال له ترهنون أولادكم قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبر وعباد بن بشر قال فجاؤا فدعوه ليلا إليهم قالت امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلة أن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا: نجد منك ريح الطيب قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فتناول فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم فقتلوه. زاد في رواية ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه وزاد أصحاب السير والمغازي فاختلف عليهم أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا إلّا وأوقدت عليه نار قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا يتبع آثارنا فحملناه وجئنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج علينا فأخبرناه بقتل كعب بن الأشرف وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا فرجعنا إلى أهلنا وأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه وأنزل الله عز وجل في شأن الأشرف اليهودي لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب أَذىً كَثِيراً يعني بالأذى قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وما أشبه ذلك من افترائهم وكذبهم على الله ورسوله وما كان كعب بن الأشرف يهجو به النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين فهذا هو الأذى الكثير

[سورة آل عمران (3): الآيات 187 إلى 188]

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين يعني وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا فيما أمركم به ونهاكم عنه لأن الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من صواب التدبير الذي لا شك أن الرشد فيه ولا ينبغي لعاقل تركه وأصله من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك أن تفعله لا محالة ولا تتركه وقيل معناه فإن ذلك مما قد عزم عليكم فعله أي ألزمتم الأخذ به. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 187 الى 188] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ أي واذكر يا محمد وقت إذ أخذ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى، والمراد منهم العلماء خاصة وقيل المراد بالذين أوتوا الكتاب العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَكْتُمُونَهُ يعني ولا تخفون ذلك عن الناس فَنَبَذُوهُ يعني الكتاب وقيل الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك. واعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصا بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أيضا مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم لا يأكل ولا يشرب وقال أيضا طوبي لعالم ناطق ومستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فقبله ووعاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سئل علما يعلمه فكتمه ألجم «بلجام من نار» أخرجه الترمذي. ولأبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وقال أبو هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني، فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال: فحدثني أربعين حديثا. قوله عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرئ بالتاء على الخطاب أي لا تحسبن يا محمد الفارحين الذين يفرحون، وقرئ بالياء على الغيبة يعني ولا يحسبن الفارحون والمعنى لا يحسبن الذين يفرحون فرحهم منجيا لهم من العذاب نزلت هذه الآية في المنافقين (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه وحلفوا له وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية وقيل نزلت في اليهود (ق) عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ مما فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون. قال ابن عباس: مالكم. ولهذه الآية إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ

[سورة آل عمران (3): الآيات 189 إلى 190]

الآية وتلا ابن عباس: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا وقال ابن عباس سألهم رسول صلّى الله عليه وسلّم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه بِما أَتَوْا يعني يفرحون بما فعلوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أي ويحبون أن يحمدهم الناس على شيء لم يفعلوه قيل عنى بذلك قوما من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ونسبة الناس إياهم إلى العلم قال ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني فنحاص وأسبيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أي بقول الناس لهم علماء وليسوا بأهل علم. وقيل هم اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنهم كتبوا إلى يهود العراق والشام واليمن ومن يبلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة وأحبوا أن يحمدوا على ذلك. وقيل فرحوا بما أتوا من تبديلهم التوراة وأحبوا أن يحمدهم الناس على ذلك. وقيل أن يهود خبير أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وقالوا لأصحابه نحن على رأيكم نحن لكم ردء وليس ذلك في قلوبهم وأحبوا أن يحمدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون على ذلك فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي فلا تظنهم بمنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل والأسر وضرب الجزية والذلة والصغار وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود أو المنافقين خاصة فإن حكمها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح أو ينسب إلى العلم وليس هو كذلك. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 189 الى 190] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه تعالى مالك لما فيهما جميعا يتصرف فيه كيف يشاء وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء يقول الله عز وجل: إن من له جميع ما حوته السموات والأرض من شيء كيف يكون فقيرا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم. قوله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ قال ابن عباس إن أهل مكة سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية والمعنى تفكروا واعتبروا أيها الناس فيما خلقته وأنشأته من السموات والأرض لمعاشكم وأرزاقكم وفيما عقبت من ذلك بين الليل والنهار، واختلافهما في الطول والقصر، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم لكي تتصرفوا فيهما لمعاشكم تطلبون أرزاقكم في النهار وتسكنون في الليل لراحة أجسادكم، فاعتبروا وتفكروا يا أولي الألباب يعني يا ذوي العقول الصافية. يعني الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال. والاعتبار لا ينظرون إليهما نظر البهائم غافلين عما فيهما من عجائب مخلوقاته وغرائب مبتدعاته (ق) عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته قال: فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطرحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله في طولها فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران. ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي. قال عبد الله بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى إلى رأسي وأخذ بأذني ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء

[سورة آل عمران (3): الآيات 191 إلى 192]

المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح وفي رواية فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه وفي رواية قال بت في بيت خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ذكره. قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 191 الى 192] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وقتادة هذا في الصلاة. يعني الذين يصلون قياما فإن عجزوا فقعودا فإن عجزوا فعلى جنوبهم والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في حال من الأحوال بل يصلون في كل حال (خ) عن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» أخرجه الترمذي. وقال فيه سألته عن صلاة المريض وذكر نحوه قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعا وجب عليه أن يصلي على جنب ويومئ برأسه إيماء. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بل يصلي مستلقيا على ظهره فإن وجد خفة قعد وحجة الشافعي ظاهر الآية وهو قوله تعالى وعلى جنوبهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين فإن لم تستطع فعلى جنب فنص على الجنب دون غيره. وقال أكثر المفسرين المراد به المداومة على الذكر في غالب الأحوال لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الثلاث حالات وهي: القيام والقعود وكونه نائما على جنبه (م) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلّا كانت عليه من الله ترة» أخرجه أبو داود والترة النقص وقيل هي هنا التبعة. وقوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أصل الفكر إعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب في ذلك الشيء وهو قوة متطرفة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل. ولا يمكن التفكر إلّا فيما له صورة في القلب ولهذا قيل تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه أن يوصف بصورة. فلذلك أخبر عن عباده الصالحين بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ويعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها سبحانه وتعالى كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وقيل: إن الفكر مقلوب عن الفرك لأن الفكر مستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها. وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة رَبَّنا أي ويقولون ربنا وقيل معناه ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلين ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا يعني وهزلا بل خلقته دليلا على وحدانيتك وكمال قدرتك سُبْحانَكَ تنزيها لك عن أن تخلق شيئا عبثا لغير حكمة فَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني إنا قد صدقنا بوحدانيتك وإن لك جنة ونارا فقنا عذاب النار والمقصود من قوله سبحانك فقنا عذاب النار تعليم عباده كيفية الدعاء ويدل عليه

[سورة آل عمران (3): الآيات 193 إلى 195]

قوله فقنا عذاب النار رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وأذللته وقيل أهلكته وقيل فضحته وأبلغت في إيذائه والخزي ضرب من الاستخفاف أو انكسار يلحق الإنسان وهو الحياء المفرط. فإن قلت قد تمسكت المعتزلة بهذه الآية وقالوا قد أخبرنا الله أنه لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه فوجب أن كل من يدخل النار لا يكون مؤمنا لقوله إنك من تدخل النار فقد أخزيته والمؤمن لا يخزي. قلت قد ذكر العلماء في الجواب وجوها أحدها ما روي عن أنس في تفسير قوله تعالى إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال من يخلده وروي نحوه عن سعيد بن المسيب قال هي خاصة لمن لا يخرج منها وهذا الجواب إنما يصح على مذهب أهل السنة الذين يرون إخراج الموحدين من النار أما على مذهب المعتزلة فلا يصح هذا الجواب لأن مذهبهم أن الفاسق مخلد في النار فهو داخل في قوله تعالى فقد أخزيته، الوجه الثاني في الجواب أن المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ومعنى الآية على هذا فقد أخزيته بدخوله فيها وتعذيبه بها ويدل على صحة هذا المعنى ما روي عن عمرو بن دينار قال قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة فانتهيت إليه أنا وعطاء فسألته عن هذه الآية: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقال وما أخزاه حين أحرقه بالنار إن دون ذا لخزيا. وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير الطبري لأن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها وإن أخرج منها وذلك الخزي هو هتك المخزي وفضيحته. وقال ابن الأنباري حمل الآية على العموم أولى من نقلها إلى الخصوص إذ لا دليل عليه، الوجه الثالث في الجواب ما قاله أهل المعاني وهو أن الخزي يحتمل معاني منها الإهانة والإهلاك والإبعاد. وهذا للكفار ومنها الإخجال يقال خزي خزاية إذا استحى وإذا عمل عملا يستحيي منه ويخجل فيكون خزي المؤمن الذي يدخل النار الحياء من المؤمنين بدخوله النار إلى أن يخرج منها. وخزي الكافر الهلاك بالخلود في النار وحاصل هذا الجواب أن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك. واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا وهذا يسقط الاستدلال، الوجه الرابع في الجواب وهو الذي اختاره الفخر الرازي وصححه أن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقا وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكونون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر والله أعلم وقوله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ يعني المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها مِنْ أَنْصارٍ يعني ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 193 الى 195] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين المنادي هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ويدل على صحة هذا قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وقال محمد بن كعب القرظي المنادي هو القرآن قال إذ ليس كل أحد لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه هذا لقول أن كل أحد يسمع القرآن ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به. وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد والهدى وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها واللام في للإيمان بمعنى إلى يعني ينادي إلى الإيمان أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي فصدقنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كبائر ذنوبنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي صغائر ذنوبنا وقيل أن الغفر هو الستر

والتغطية وكذلك التفكير فهما بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب إليه وقيل معناه اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا في المستقبل وقيل يريد بالغفران ما يزول بالتوبة من الذنوب وبالتكفير ما يكفر بالطاعات من الذنوب وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ يعني في جملتهم وزمرتهم والأبرار هم الأنبياء والصالحون والمعنى توفنا على مثل أعمالهم حتى تكون في درجتهم يوم القيامة وقيل توفنا في جملة أتباعهم وأشياعهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يعني على ألسنة رسلك وقيل معناه وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك. فإن قلت كيف سألوا الله إنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد. قلت معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد. وقيل هو من باب اللجأ إلى الله تعالى والتذلل له وإظهار الخضوع والعبودية. كما أن الأنبياء عليهم السلام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفور لهم يقصدون بذلك التذلل لربهم سبحانه وتعالى والتضرع إليه واللجأ إليه الذي هو سيما العبودية. وقيل معناه ربنا واجعلنا ممن يستحق ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها. وقيل إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل هلاكهم وانصرنا عليهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا في ذلك اليوم فإن قلت قوله وآتنا ما وعدتنا على رسلك يدل على طلب الثواب ومتى حصل الثواب اندفع العقاب لا محالة فما معنى قوله ولا تخزنا وهو طلب دفع العقاب عنهم قلت المقصود من الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن فعل المعصية كأنهم قالوا وفقنا للطاعات وإذا وفقنا لها فاعصمنا عن فعل ما يبطلها ويوقعنا في الخزي وهو الهلاك ويحتمل أن يكون قوله ولا تخزنا يوم القيامة سببا لقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فإنه ربما يظن الإنسان أنه على عمل صالح فإذا كان يوم القيامة ظهر أنه على غير ما يظن فيحصل الخجل والحسرة والندامة في موقف القيامة فسألوا الله تعالى أن يزيل ذلك عنهم فقالوا وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ يعني أجاب دعاءهم وأعطاهم ما سألوه أَنِّي أي وقال لهم أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ يعني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى يعني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان أو أنثى عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله ما أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ- إلى- وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أخرجه الترمذي وغيره. وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني في الدين والنصرة والموالاة. وقيل كلكم من آدم وحواء وقيل بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فهو كما يقال: فلان يعني على خلقي وسيرتي وقيل إن الرجال والنساء في الطاعة على شكل واحد فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يعني المهاجرين الذين هجروا أوطانهم وأهليهم وأذاهم المشركون بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله وتركوا أوطانهم وعشائرهم لله ورسوله ومعنى فِي سَبِيلِي في طاعتي وديني وابتغاء مرضاتي وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة فهاجر طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد هجرته فلما استقر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا يعني وقاتلوا العدو واستشهدوا في جهاد الكفار لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني لأمحون عنهم ذنوبهم ولأغفرنها لهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني ذلك الذي أعطاهم من تكفير سيئاتهم وإدخالهم الجنة ثوابا من فضل الله وإحسانه إليهم وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه لأنه جواد كريم روى ابن جرير

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 إلى 198]

الطبري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره. فإن الله عز وجل يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال بعضهم في هذه الآية تعليم من الله تعالى لعباده كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرع وتكرير ربنا من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة. وقال جعفر الصادق من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا نجّاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية وقال الحسن حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم. [سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) قوله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى هذه الآية لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره من الأمة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يغتر قط والمعنى لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد يعني ضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وطلب الأرباح والمكاسب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك متاع قليل وبلغة فانية ونعمة زائلة ثُمَّ مَأْواهُمْ يعني مصيرهم في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس الفراش هي: قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فيما أمرهم به من العمل بطاعته واتباع مرضاته واجتناب ما نهاهم عنه من معاصيه لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا أي جزاء وثوابا والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني من فضل الله وكرمه وإحسانه وَما عِنْدَ اللَّهِ يعني من الخير والكرامة والنعيم الدائم الذي لا ينقطع خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يعني ذلك الفضل والنعمة التي أعدها الله للمطيعين الأبرار خير مما يتقلّب فيه هؤلاء الكفار من نعيم الدنيا ومتاعها فإنه قليل زائل (ق) عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة. لفظ البخاري المشربة الغرفة والعلية والمشارب العلالي. قوله عز وجل: [سورة آل عمران (3): الآيات 199 الى 200] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ قال ابن عباس نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة ومعناه بالعربية عطية وذلك إنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي. فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال

المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصدقوه. وقيل نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب وهذا القول أولى لأنه لما ذكر أحوال الكفار وأحوال أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى النار ذكر حال من آمن من أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى الجنة فقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بعض اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله يعني من يقر بوحدانية الله وما أنزل إليكم يعني ويؤمن بما أنزل إليكم أيها المؤمنون يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني من الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ يعني خاضعين لله متواضعين له غير مستكبرين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يغيرون كتبهم ولا يحرفونها ولا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأجل الرياسة والمأكل والرشى كما يفعله غيرهم من رؤساء اليهود أُولئِكَ إشارة إلى أن من هذه صفته من أهل الكتاب لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني لهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله ذلك الثواب لهم ذخر عند الله يوفيه إليهم يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إنه تعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجازي كل أحد على قدر عمله لأنه سريع الحساب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا يعني على دينكم الذي أنتم عليه ولا تدعوه لشدة ولا لغيرها وأصل الصبر حبس النفس عما لا يقتضيه شرع ولا عقل. والصبر لفظ عام تحته أنواع من المعاني قال بعض الحكماء: الصبر على ثلاثة أقسام ترك الشكوى وقبول القضاء وصدق الرضا. وقيل في معنى الآية اصبروا على طاعة الله وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن وقيل اصبروا على أمر الله وقيل اصبروا على البلاء وقيل اصبروا على الجهاد وقيل اصبروا على أحكام الكتاب والسنة وَصابِرُوا يعني الكفار والأعداء وجاهدوهم. وَرابِطُوا يعني وداوموا على جهاد المشركين واثبتوا عليه. وأصل المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم. وهؤلاء خيولهم، بحيث يكون كل من الخصمين مستعدا لقتال الآخر. ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركب مربوط (ق) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما عليها». (م) عن سلمان الخير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقيل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط فذلكم الرباط» أخرجه مسلم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال محمد بن كعب القرظي يقول الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما بيني وبينكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا إذا لقيتموني وقال أهل المعاني في معنى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي وصابروا على نعمائي ورابطوا على مجاهدة أعدائي واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي وقيل اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء وقيل اصبروا على الدنيا ومحنها رجاء السلامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا الندامة لعلكم تفلحون غدا في دار الكرامة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة النساء

سورة النساء وهي مائة وخمس وسبعون آية وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للكافة فهو كقوله يا بني آدم اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروا أمر ربكم أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه ثم وصف نفسه بكمال القدرة فقال تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني من أصل واحد وهو آدم أبو البشر عليه السلام وإنما أنث الوصف على لفظ النفس وإن كان المراد به الذكر فهو كما قال بعضهم: أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال فإنما قال ولدته أخرى لتأنيث وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو قصير. فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه فقال لها: من أنت؟ قالت: امرأة قال: لماذا خلقت قالت خلقت لتسكن إليّ فمال إليها وألفها لأنها خلقت منه واختلفوا في أي وقت خلقت حواء. فقال كعب الأحبار ووهب وابن إسحاق خلقت قبل دخوله الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها وَبَثَّ مِنْهُما يعني نشر وأظهر من آدم وحواء رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء لأن حال الرجال أتم وأكمل وهذا كالتنبيه عن أن اللائق بحال الرجال الظهور والاستشهار وبحال النساء الاختفاء والخمول وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ إنما كرر التقوى للتأكيد وأنه أهل أن يتقى والتساؤل بالله هو كقولك أسألك بالله واحلف عليك بالله واستشفع إليك بالله وَالْأَرْحامَ قرئ بفتح الميم ومعناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرئ بكسر الميم فهو كقولك سألتك بالله وبالرحم وناشدتك بالله وبالرحم لأن العرب كان من عادتهم أن يقولوا ذلك والرحم القرابة. وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأنهم خرجوا من رحم واحدة وقيل هو مشتق من الرحمة لأن القرابة يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض. وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها ويدل على ذلك أيضا الأحاديث الواردة في ذلك (ق) عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من سره أن يبسط عليه من رزقه وينسأ في أنزه فليصل رحمه قوله وينسأ في أثره أي يؤخر له في أجله. (ق) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم وعن الحسن قال من سألك بالله فأعطه ومن سألك بالرحم فأعطه وعن ابن عباس قال:

[سورة النساء (4): الآيات 2 إلى 3]

الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يعني حافظا والرقيب في صفة الله تعالى هو الذي لا يغفل عما خلق فيلحقه نقص ويدخل عليه خلل وقيل هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه فبيّن بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إنه يعلم السر وأخفى، وإذا كان كذلك فهو جدير بأن يخاف ويتقى. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 2 الى 3] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم كان في حجره فلما بلغ اليتيم طلب المال الذي له فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال: «أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع إلى اليتيم ماله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا. فإنه يحل داره يعني جنته فلما قبض الصبي أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ثبت الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف ثبت الأجر وبقي الوزر؟ قال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على أبيه. والخطاب في قوله تعالى وَآتُوا خطاب للأولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو الصبي الذي مات أبوه واليتيم في اللغة الانفراد ومن الدرة اليتيمة لانفرادها واسم اليتيم يقع على الصغير والكبير لغة لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن في العرف اختص اسم اليتيم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال. فإذا بلغ الصبي وصار يستغني بنفسه عن غيره زال عنه اسم اليتم وسئل ابن عباس اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتم؟ قال إذا أونس منه الرشد وإنما سماهم يتامى بعد البلوغ على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال عنهم بالبلوغ وقيل المراد باليتامى الصغار الذين لم يبلغوا والمعنى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ بعد البلوغ وتحقق الرشد وقيل معناه وآتوا اليتامى الصغار ما يحتجون إليه من نفقة وكسوة والقول الأول هو الصحيح إذا المراد باليتامى البالغون لأنه لا يجوز دفع المال إلى اليتيم إلا بعد البلوغ وتحقق الرشد وَلا تَتَبَدَّلُوا أي ولا تستبدلوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يعني الخبيث الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة ويجعل مكانها الهزيلة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم فذلك تبديلهم فنهوا عنه وقال عطاء هو الربح في مال اليتيم وهو صغير لا علم له بذلك. وقيل إنه ليس بإبدال حقيقة. وإنما هو أخذه مستهلكا وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما كان يأخذ الميراث الأكابر من الرجال وقيل هو أكل مال اليتيم عوضا عن أكل أموالهم فنهوا عن ذلك وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني مع أموالكم وقيل معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق واعلم أن الله تعالى نهى عن أكل مال اليتيم وأراد به جميع التصرفات المهلكة للمال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً يعني أن أكل مال اليتيم من غير حق إثم عظيم والحوب الإثم. قوله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يعني وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب (ق) عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ- إلى قوله- أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ- إلى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ

فبيّن الله لهم هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإن كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكلما يتركونها حين يرغبونها عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيورثها فعاب الله ذلك عليهم وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة في روايته عن ابن عباس كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء أو أكثر فإذا صار معدما من نساء مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ مال اليتامى وقيل كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا فربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أنزل هذه الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول فكلما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء في الضعف كاليتامى. وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي: ثم رخص الله تعالى في نكاح أربع فقال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني ما حل لكم من النساء واستدلت الظاهرية بهذه الآية على وجوب النكاح قالوا لأن قوله فانكحوا أمر والأمر للوجوب. وأجيب عنه بأن قوله تعالى فانكحوا إنما هو بيان لما يحل من العدد في النكاح وتمسك الشافعي في بيان أن النكاح ليس بواجب بقوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ إلى قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ الآية فحكم في هذه السورة بأن ترك النكاح خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بواجب ولا مندوب وقوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معناه اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهو غير منصرف لأنه اجتمع فيه أمران: العدل والوصف والواو بمعنى أو في هذا الفصل لأنه لما كانت أو بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة أو. وقيل إن الواو أفادت أنه يجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسما من هذه الأقسام بحسب حاله فإن قدر على نكاح اثنتين فاثنتان. وإن قدر على ثلاث فثلاث وإن قدر على أربع فأربع إلا أنه يضم عددا وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة وأن الزيادة على أربع من خصائص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة وأنها حرام ما روي عن الحارث بن قيس أو قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال اختر منهن أربعا. أخرجه أبو داود. عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يختار منهن أربعا. أخرجه الترمذي قال العلماء: فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين وهو قول أكثر العلماء لأنه خطاب لمن ولي وملك وذلك للأحرار دون العبيد. وقال مالك في إحدى الروايتين عنه وربيعة: يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة واستدل بهذه الآية وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار ويدل عليه آخر الآية وهو قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ ألّا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أو العبد لا يملك شيئا فثبت بذلك أن المراد من حكم الآية الأحرار دون العبيد. وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ يعني فإن خشيتم وقيل فإن علمتم أَلَّا تَعْدِلُوا يعني بين الأزواج الأربع فَواحِدَةً يعني فانكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني وما ملكتم من السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن ذلِكَ أَدْنى أي أقرب أَلَّا تَعُولُوا معناه أقرب من أن لا تعولوا فحذف لفظة من لدلالة الكلام عليه ومعنى أن لا تعولوا أي لا تميلوا ولا تجوروا وهو قول أكثر المفسرين لأن أصل العول الميل يقال: عال الميزان إذا مال وقيل معناه لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ومنه عول الفرائض إذا جاوزت سهامها وقيل معناه ذلك أدنى أن لا تضلوا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى معناه أن لا تكثر عيالكم

[سورة النساء (4): آية 4]

وقد أنكر على الشافعي من ليس له إحاطة بلغة العرب. فقال إنما يقال من كثرة العيال أعال الرجل يعيل إعالة إذا كثر عياله. قال وهذا من خطأ الشافعي لأنه انفرد به ولم يوافقه عليه أحد وإنما قال هذه المقالة من أنكر على الشافعي وخطأه من غير علم له بلغة العرب فقد روى الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله الفصحاء ألا تعولوا أي لا تكثر عيالكم. وروى الأزهري عن الكسائي قال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله قال ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الأزهري وهذا يقوي قول الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يتثبت فيما قال ولا ينبغي للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يحفظه من لغات العرب هذا آخر كلام الأزهري. وبسط الإمام فخر الدين الرازي في هذا الموضع من تفسيره ورد على أبي بكر الرازي ثم قال الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة. وحكى البغوي عن أبي حاتم قال كان الشافعي أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء وهو حجة للشافعي. [سورة النساء (4): آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ قال الكلبي وجماعة هذا خطاب للأولياء قال أبو صالح كان الرجل إذا تزوج أيمة أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك. وقيل إن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها لا قليلا ولا كثيرا، وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولا يعطيها من مهرها غير ذلك فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله. وقال الحضرمي كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما وهذا هو الشغار فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بتسمية المهر في العقد (ق) عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الشغار في العقد والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الرجل ابنته وليس بينهما صداق. وقيل الخطاب للأزواج وهذا أصح وهو قول الأكثرين لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين وهم الأزواج أمرهم الله تعالى بإتيان نسائهم الصداق والصداق المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال نِحْلَةً يعني فريضة مسماة وقيل عطية وهبة. وقيل نحلة يعني عن طيب نفس وأصل النحلة العطية على سبيل التبرع وهي أخص من الهبة وسمي الصداق نحلة من حيث إنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عرض مالي (ق) عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج». وقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ يعني النساء المتزوجات لَكُمْ يعني للأزواج عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ يعني من الصداق ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض لأنها لو وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها جاز نَفْساً نصب على التمييز والمعنى فإن طابت نفوسهن عن شيء من ذلك الصداق المبين فوهبن ذلك لكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرا فلذلك وحد النفس وقيل لفظه واحد ومعناه الجمع فَكُلُوهُ يعني ما وهبنه لكم هَنِيئاً مَرِيئاً يعني طيبا سائغا وقيل الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء المحمود العاقبة وفي الآية دليل على إباحة هبة المرأة صداقها وأنها تملكه ولا حق للولي فيه. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم فقيل هم النساء نهى الله الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم سواء كن أزواجا أو بنات أو أمهات وقيل هم الأولاد خاصة يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك فيفسده عليك وقيل امرأتك وابنك السفيه. قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما بين أيديهم أمسك مالك

[سورة النساء (4): آية 6]

وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم. وقال الكلبي: إذا علم الرجل إن امرأته سفيهة مفسدة وإن ولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده. وقال سعيد بن جبير هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه منه حتى يبلغ وإنما أضاف المال إلى الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها. وأصل السفه الخفة واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية والدينية والسفيه المستحق الحجر هو الذي يكون مبذرا في ماله ومفسدا في دينه فلا يجوز لوليه أن يدفع إليه ماله. وقيل إن السفه المذكور في هذه الآية ليس هو صفة ذم لهؤلاء وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم وضعفهم عن القيام بحفظ المال فقوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ يعني الجهال بموضع الحق أموالكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يعني قوام معايشكم يقول المال هو قوام الناس وقوام معايشهم كن أنت قيم أهلك أنفق عليهم ولا تؤت مالك امرأتك وولدك فيكونوا هم الذين يقومون عليك. ولما كان المال سببا للقيام بالمعاش سمي به إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة لأنه به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وفكاك الرقاب من النار وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أطعموهم وَاكْسُوهُمْ يعني لمن يجب عليكم رزقه وكسوته لما نهى الله عن إيتاء المال للسفيه أمر أن يجري رزقه وكسوته وإنما قال: وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأنه أراد اجعلوا لهم فيها رزقا والرزق من الله تعالى هو العطية من غير حد ولا قطع ومعنى الرزق من العباد هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني قولا جميلا لأن القول الجميل يؤثر في القلب ويزيل السفه وقيل معناه عدوهم عدة جميلة من البر والصلة. قال عطاء يقول: إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت قسمت لك حظا وقيل معناه الدعاء أي ادعوا لهم. قال ابن زيد إن لم يكن ممن تجب عليك نفقته فقل له عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل معناه قولوا لهم قولا تطيب به أنفسهم وهو أن يقول الولي لليتيم السفيه: مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك. وقال الزجاج معناه علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) وَابْتَلُوا الْيَتامى الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي مبلغ الرجال والنساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أبصرتم وعرفتم مِنْهُمْ رُشْداً يعني عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه. (فصل في أحكام تتعلق بالحجر وفيه مسائل) المسألة الأولى: الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئا يسيرا من المال، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وإجرائه وتصرفه في أموال داره، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد. المسألة الثانية: قال الإمام أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة. وقال الشافعي

هي غير صحيحة. واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشدا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب أن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد. المسألة الثالثة: في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء. واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة. حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية. ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني. ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: خذ من كل حالم دينارا أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل. فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان: أحدهما أنه يكون بلوغا كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغا في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم. وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل. المسألة الرابعة: في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحا في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء. فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحا لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسدا لدينه وإذا كان لما له مفسدا لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن. المسألة الخامسة: إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب. المسألة السادسة: إذا بلغ الصبي رشيدا زال عنه الحجر فلو عاد سفيها ينظر فإن كان مبذرا لماله حجر عليه وإن كان مفسدا في دينه فعلى وجهين: أحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة. والثاني

[سورة النساء (4): آية 7]

لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء. وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي: لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلا ولا كثيرا وَمَنْ كانَ فَقِيراً يعني محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض. واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أنه يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخغي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف. فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة. وقال الحسن يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئا فإن أخذ وجب عليه رده. وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئا وروي أن رجلا قال لابن عباس إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر الله تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعى عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم القبض وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً يعني محاسبا ومجازيا وشاهدا به قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأته ويقال لها أم كحة وثلاث بنات منها فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا من ماله. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير من الذكور وإنما كانوا يورثون الرجال يقولون لا يعطى الإرث إلّا من قاتل وحاز الغنيمة وحمى الحوزة فجاءت أم

[سورة النساء (4): آية 8]

كحة امرأة أوس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله مات أوس بن ثابت وترك ثلاثة بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته منه شيئا وهن في حجري ولا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلأ ولا ينكبن عدوا فأنزل الله هذه الآية وبين أن الإرث ليس مختصا بالرجال بل هو أمر يشترك فيه الرجال والنساء. فقال تعالى للرجال يعني الذكور من أولاد الميت وعصبته نصيب أي حظ مما ترك الوالدان والأقربون يعني من لميراث وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ يعني وللإناث من أولاد الميت حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ يعني من المال المخلف عن الميت نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني معلوما والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب فلما نزلت هذه الآية مجملة ولم يبين كم هو النصيب أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من المال شيئا فإن الله تعالى قد جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن فأنزل الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية فلما نزلت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا إلى أم كحة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني قسمة الميراث فعلى هذا القول يكون الخطاب للوارثين أُولُوا الْقُرْبى يعني القرابة الذين لا يرثون وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ إنما قدم اليتامى لشدة ضعفهم وحاجتهم فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي فارضخوا لهم من المال قبل القسمة. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية المواريث جعلت لأهلها ونسخت هذه الآية وهي رواية مجاهد عن ابن عباس وقول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة وقال قوم هي محكمة غير منسوخة. وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس وهو قول أبي موسى الأشعري والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري ثم اختلف العلماء بعد القول بأنها محكمة هل هذا الأمر أمر وجوب أو ندب على قولين: أحدهما أنه واجب فقيل إن كان لوارث كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر تطيب به نفسه وإن الوارث صغيرا وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال وهو لهؤلاء الضعفاء. قال ابن عباس إن كان الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كان الورثة صغارا اعتذر إليهم فيقول الولي أو الوصي إني لا أملك هذا المال وإنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم وإن يكبروا فسيعرفوا حقكم هذا هو القول المعروف وقال بعضهم: هذا حق واجب في مال الصغار والكبار فإن كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم بأنفسهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم. وروى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت وصنعت طعاما لأجل هذه الآية وقال لولا هذه الآية لكان هذا من مالي، وقال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك فقولوا لهم قولا معروفا وقيل كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع الذي يستحي من قسمته والقول الثاني إن هذا الأمر ندب واستحباب لا على سبيل الفرض والإيجاب وهذا القول هو الأصح الذي عليه العمل اليوم واحتجوا لهذا القول بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبينه الله تعالى كما بين سائر الحقوق فحيث لم يبين علمنا أن ذلك غير واجب وقيل في معنى الآية أن المراد بالقسمة الوصية فإذا حضر الوصية من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله الوصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا وقوله: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً هو أن لا يتبع العطية بالمن والأذى. قوله تعالى:

[سورة النساء (4): الآيات 9 إلى 10]

[سورة النساء (4): الآيات 9 الى 10] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً يعني أولادا صغارا خافُوا عَلَيْهِمْ يعني الفقر قيل هذا خطاب للذين يجلسون عند المريض وقد حضره الموت فيقول له انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا قدم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلا يزالون به حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يأمروه بالنظر لولده ولا يزيد على الثلث في وصيته ولا يجحف. والمعنى كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الصغار من ماله وحاصل هذا الكلام كما أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم. وكما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة يتكففون الناس مع ضعفهم وعجزهم. وقيل هو الرجل يحضره الموت ويريد أن يوصي بشيء فيقول له من حضره من الرجال اتق الله وامسك أموالك لولدك فيمنعونه من الوصية لأقاربه المحتاجين وقيل الآية يحتمل أن تكون خطابا لمن حضر أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته فقراء ضعافا ضائعين بعد موته. ثم إن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الثلث كان المراد منها أن لا يجعل الوصية مستغرقة للتركة وإن كانت قد نزلت بعد تقدير الثلث كان المراد منها أن يوصي بالثلث أو بأقل منه إذا خاف على ورثته كما روى عن كثير من الصحابة أنهم أوصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس في الوصية أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. وقد ورد في الصحيح الثلث والثلث كثير لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس يعني يسألونهم بأكفهم وقيل هو خطاب لأولياء اليتامى والمعنى وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية أن من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليه أو وصيه وليفعل به ما يحب أن يفعل بأولاده من بعده فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ يعني في الأمر الذي تقدم ذكره وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يعني عدلا وصوابا فالقول السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث ويترك الباقي لولده ورثته وأن لا يحيف في وصيته. والقول السديد من الأوصياء وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم ولا يؤذوهم بقول ولا فعل قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قال مقاتل وابن حبان نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال يتيم وكان اليتيم ابن أخيه فأكله فأنزل الله هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يعني حراما بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً يعني سيأكلون يوم القيامة فسمي الذين يأكلون نارا بما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة. قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة أسري به قال نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم قلت يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا. وقيل إنما ذكر أكل النار على سبيل التمثيل والتوسع في الكلام والمراد أن أكل ما اليتيم ظلما يفضي به إلى النار وإنما خص الأكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال لأن الضرر يحصل بكل ذلك لليتيم. فعبر عن جميع ذلك بالأكل لأنه معظم المقصود وإنما ذكر البطون للتأكيد فهو كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يعني بأكلهم أموال اليتامى ظلما والسعير النار الموقدة المسعرة. ولما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى وأموالهم بالكلية فشق ذلك على اليتامى فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وقد توهم بعضهم أن قوله وإن تخالطوهم ناسخ لهذه الآية وهذا غلط ممن توهمه لأن هذه الآية واردة

[سورة النساء (4): آية 11]

في المنع من أكل أموال اليتامى ظلما وهذا لا يصير منسوخا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو من أعظم القرب. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فروي عن جابر قال مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني وأبو بكر وهما يمشيان فوجداني أغمي عليّ فتوضأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صب وضوءه عليّ فأفقت فإذا النبي صلّى الله عليه وسلّم جالس فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضى في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث، وفي رواية فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض وفي رواية أخرى فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وفي رواية أخرى فلم يرد على شيئا حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل الله يفتيكم أخرجه البخاري ومسلم وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء نزلت في سعد بن الربيع النقيب استشهد يوم أحد وترك بنتين وامرأة وأخا (ق) عن جابر رضي الله عنه قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال قال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمهما فقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك أخرجه الترمذي. وقال السدي: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلماء لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة وأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة وقبل الشروع في تفسير هذه الآية الكريمة. نقدم فصولا تتضمن أحكام الفرائض وأصول قواعدها. (فصل في الحث على تعليم الفرائض) اعلم أن الفرائض من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا وهي ركن من أركان الشريعة وفرع من فروعها في الحقيقة اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها ويكفي في فضلها أن الله عز وجل تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة من محل قدسه وقد حث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على تعليمها فيما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض» أخرجه الترمذي وقال فيه اضطراب وأخرجه أحمد بن حنبل وزاد فيه فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان أحدا يخبرهما. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم» وهو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي أخرجه ابن ماجة والدارقطني. (فصل في بيان أحكام الفرائض) إذا مات الميت وله مال يبدأ بتجهيزه من ماله ثم تقضي ديونه إن كان عليه دين ثم تنفذ وصاياه وما فضل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته والوارثون من الرجال عشرة: الابن وابن الابن وإن سفل الأب والجد وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب

وابناهما وإن سفلوا والزوج والمعتق. والوارثات من النساء سبع: البنت وبنت الابن وإن سفلت. والأم والجدة وإن علت. والأخت من كل الجهات. والزوجة والمعتقة وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم: الأبوان والوالدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة ثم الورثة ثلاثة أصناف: صنف يرث بالفرض المجرد وهم الزوجان والبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم وصنف يرث بالتعصيب وهم: البنون والإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما: الأب والجد فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان له ابن ورث الأب بالفرض السدس وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض وأخذ الباقي بالتعصيب والعصبة اسم لمن يأخذ جميع المال إذا انفرد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض. (فصل) وأسباب الإرث ثلاثة: نسب ونكاح وولاء فالنسب القرابة يرث بعضهم بعضا والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح والولاء هو أن المعتق وعصباته يرثون المعتق والأسباب التي تمنع الميراث أربعة: اختلاف الدين فالكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر لما روي من أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. أخرجاه في الصحيحين. فأما الكفار فيرث بعضهم بعضا مع اختلاف مللهم وأديانهم لأن الكفر كله ملة واحدة وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضا حتى لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من المجوسي وإلى هذا ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لما روي عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لا توارث بين أهل ملتين أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» أخرجه أبو داود وحمله الآخرون على الإسلام والكفر لأن الكفر عندهم ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى والرق يمنع الإرث لأن الرقيق ملك ولا ملك له فلا يرث ولا يورث والقتل يمنع الإرث عمدا كان القتل أو خطأ لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القاتل لا يرث» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث لا يصح والذي عليه العمل عند أهل العلم أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدا أو خطأ. وقال بعضهم إذا كان القتل خطأ فإنه يرث وهو قول مالك وعمى الموت وهو أن يخفى موت المتوارثين وذلك بأن غرقا أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يرث أحدهما الآخر بل يكون إرث كل واحد منهما لما كانت حياته يقينا بعد موته من ورثته. (فصل: السهام المحدودة) والسهام المحدودة في الفرائض المذكورة في كتاب الله عز وجل ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فالنصف فرض خمسة: فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم والربع فرض الزوج من الولد وفرض الزوجة مع عدم الولد والثمن فرض الزوجة مع الولد والثلثان فرض البنتين فصاعدا أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب وفرض الأختين فصاعدا للأب والأم أو للأب والثلث فرض ثلاثة: فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات إلّا في مسألتين: إحداهما زوج وأبوان والأخرى زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث للجد خيرا من المقاسمة مع الإخوة والسدس فرض سبعة: فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد

ومع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض وكان السدس خير للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرا كان أو أنثى وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكملة الثلثين وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكلمة الثلثين (ق) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر (خ) عن ابن عباس قال كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع اهـ. (فصل) روي عن زيد بن ثابت قال: ولد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهن ابن ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم يرثون ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر فإن ترك ابنة وابن ابن ذكر كان للبنت النصف ولابن الابن ما بقي لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» ففي هذا الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب حجبان: حجب نقصان وحجب حرمان. أما الأول وهو حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. وأما الثاني وهو حجب الحرمان فهو أن الأم تسقط الجدات وأولاد الأم وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وأولاد الأب والأم وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت. وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعا بالجد كما يسقطون بالأب. وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة. وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة والأقرب من العصبات يسقط الأبعد منهم فأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم ثم العم لأب وأم ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على الترتيب فإن لم يكن أحد من عصابات النسب وعلى الميت، ولا فالميراث للمعتق فإن لم يكن حيا فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث: الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب فلو مات عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب يكون المال. بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت، وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف والباقي وهو النصف للأخت ولو مات عن بنتين وأخت كان للبنتين الثلثان والباقي للأخت ويدل على ذلك ما روي عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن أخت فقال: للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود: لقد ضللت وما أنا من المهتدين ثم قال اقضي فيها بقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم أخرجه البخاري. وأما تفسير فقوله تعالى يوصيكم الله أي يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم يعني في أمر من أولادكم إذا متم والوصية من الله إيجاب وإنما بدأ الله تعالى بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد

من تعلقه بغيره فلهذا قدم الله ذكر ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين يعني أن الولد الذكر له من الميراث ضعفا سهام الأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم فلو حصل مع الأولاد غيرهم من الورثة من أهل الفروض كالأبوين أخذوا فروضهم وما بقي بعد ذلك كان بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فَإِنْ كُنَّ يعني المتروكات من الأولاد نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني بنتين فصاعدا فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وأجمعت الأمة على أن للبنتين الثلثين إلّا ما روي عن ابن عباس أنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال: الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن الله تعالى قال: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين. وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة وأجيب عنه بوجوده فيها حجة لمذهب الجمهور أيضا: الوجه الأول أن الله تعالى قال: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فجعل للواحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين. الوجه الثاني في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان. الوجه الثالث أن لفظة فوق هاهنا صلة والتقدير فإن كن نساء اثنتين فهو كقوله: «فاضربوا فوق الأعناق» يعني فاضربوا الأعناق وإنما سمى الاثنتين نساء بلفظ الجمع، لأن العرب تطلق على الاثنين جماعة بدليل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. الوجه الرابع قال علماء الجمهور: وإنما أعطينا البنتين الثلثين بتأويل القرآن لأن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وجعل للأخت الواحدة النصف بقوله: «إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك» ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: «فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان» فلما جعل للأختين الثلثين علمنا أن للبنتين الثلثين قياسا على الأختين. الوجه الخامس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع وهذا نص واضح في المسألة. قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً يعني البنت واحدة فَلَهَا النِّصْفُ يعني فرضا لها وَلِأَبَوَيْهِ يعني أبوي الميت كناية عن غير مذكور وهما والداه لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ يعني أن للأب والأم مع وجود الولد أو ولد الابن لكل واحد منهما سدس الميراث. واعلم أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى فإذا مات الميت وترك أبوين وولدا ذكرا واحدا كان أو أكثر أو ترك بنات فإن للأم السدس بالفرض وللأب السدس مع الولد الذكر بالفرض ومع البنات له السدس بالتعصيب وهو الباقي من التركة وله مع البنت الواحدة السدس بالفرض والباقي بالتعصيب فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ يعني للميت وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ يعني أن الميت إذا مات عن أبوين وليس له وارث سواهما فإن الأم تأخذ الثلث بالفرض ويأخذ الأب باقي المال بالفرض والتعصيب. فيكون المال بينهما أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كان مع الأبوين أحد الزوجين فيفرض للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة فَإِنْ كانَ لَهُ يعني للميت إِخْوَةٌ يعني ذكورا أو إناثا فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ يعني لأم الميت سدس للتركة إذا كان معها أب وأجمع العلماء على أن الثلاثة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وأن الأخ الواحد والأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس. واختلفوا في الأخوين فالأكثرون من الصحابة يقولون الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وهذا قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت والجمهور. وقال ابن عباس: لا تحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلّا أن يكونوا ثلاثة. قال ابن عباس لعثمان: لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة فقال عثمان: يا بني إن قومك حجبوها بأخوين ولا أستطيع نقد أمر قد كان قبلي وإنما نشأ هذا الاختلاف لأنهم اختلفوا في أقل الجمع وفيه قولان: أحدهما أن أقل الجمع اثنان وهو قول أبي بكر الباقلاني. وحجة هذا القول أنك إذا جمعت واحد إلى واحدا فهما جماعة لأن أصل الجمع ضم شيء. وقال ابن الأنباري: التثنية عند العرب أول الجمع ومشهور في كلامهم إيقاع الجمع على التثنية فمن ذلك قوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ وهما داود وسليمان عليهما السلام ومنه قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما يريد

[سورة النساء (4): آية 12]

قلباكما. والقول الثاني أن أقل الجمع ثلاثة وهو قول الجمهور العلماء وهو الأصح. إنما حجب العلماء الأم بالأخوين لدليل اتفقوا عليه وهو أن لفظ الاخوة يطلق على الأخوين فما زاد وذلك جائز في اللغة كما تقدم ثم إن الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فإنهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب الباقي كرجل مات عن أبوين وأخوين فإن للأم السدس والباقي وهو خمسة أسداس للأب سدس بالفريضة والباقي بالتعصيب قال قتادة: وإنما حجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب شيئا معونة للأب لأنه يقوم بشأنهم وينفق عليهم دون الأم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ يعني أن هذه الأنصباء والسهام إنما تقسيم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه وذكر الوصية مقدم على الدين في اللفظ لا في الحكم لأن لفظه أو لا توجب الترتيب. وإنما هي لأحد الشيئين كأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر قال علي رضي الله عنه: إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين. وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدين قبل الوصية وهذا إجماع على أن الدين مقدم على الوصية والإرث مؤخر عنهما لأن الدين حق على الميت والوصية حق له وهما يتقدمان على حق الورثة. قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من الله ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس: إن الله عز وجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سببا لرفعته إليها، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضا بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعا أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن الله هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يعني كان عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما قدر من الفرائض وفرض من الأحكام، وقيل معناه عليما بخلقه قبل أن يخلقهم حكيما حيث فرض للصغار مع الكبار ولم يخص الكبار بالميراث كما كانت العرب تفعل وفي معنى لفظة كان ثلاثة أقوال: أحدها أن الله تعالى كان عليما بالأشياء قبل خلقها ولم يزل كذلك، الثاني حكى الزّجاج عن سيبويه أنه قال: إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة ومغفرة وفضلا قيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل الله على ما شاهدتم. الثالث قال الخليل الخبر عن الله عزّ وجلّ بمثل هذه الأشياء كالخبر بالحال والاستقبال لأن صفات الله تعالى لا يجوز عليها الزوال والتقلب. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ

يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ هذا ميراث الأزواج من الزوجات. وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج وَلَهُنَّ يعني للزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ لما جعل الله في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين جعل الله في الموجب السبي للرجل مثل حظ الأنثيين واعلم أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن وكذلك لو كن أربع زوجات فإنهن يشتركن في الربع أو الثمن واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولا فرق بين الولد وولد الابن وولد البنت في ذلك وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها. قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ تقدير الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد روى الشعبي قال: سئل أبو بكر الصديق عن الكلالة فقال: سأقول فيها قولا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال: إني لا أستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر وابن عباس وهذا القول هو الصحيح المختار ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهم فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه، وقيل إن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس. فمن عد الوالد والولد من القرابة إنما سموا كلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان أما نسبة الولادة فليست كذلك لأن فيها تنوع البعض عن البعض وتولد البعض من البعض فهو كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد. فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهم الإخوة والأخوات والأعمام والعمات وغيرهم فإنما محصل نسبهم اتصال إحاطة بالمنسوب إليه فثبت بذلك أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالد والولد والرواية الأخرى عن عمر وابن عباس أن الكلالة من لا ولد له. وبه قال طاوس واحتج لهذا القول بقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وبيانه عند عامة العلماء مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فصار شأن جابر بيانا لمراد الآية التي نزلت في آخر السورة لنزولها فيه واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ فمنهم من قال هو اسم للميت، وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه وقيل هو اسم للحي من الورثة وهو قول أبي بكر الصديق. وعليه جمهور العلماء الذين قالوا: إن الكلالة من دون الوالد والولد ويدل عليه حديث لجابر إنما يرثني كلالة أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد فإن كان المراد بالكلالة الميت الموروث فالمراد يرثه غير الوالد والولد. وإن كان المراد الوارثين فهم غير الوالد والولد وقال ابن زيد: الكلالة الذي لا ولد له ولا والد والحي والميت كلهم كلالة هذا يرث بالكلالة وهذا يورث بالكلالة. وقال أبو الخير: سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء ما أعضلت بهم الكلالة (ق) عن عمر قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهد انتهى إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وهذا طرف حديث ذكر في الخمر (ق) عن معدان بن أبي طلحة قال خطب عمر بن الخطاب: فقال إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ في الكلالة حتى طعن بإصبعيه في صدري وقال: يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. لفظ مسلم قوله: ألا يكفيك آية الصيف أراد أن الله عز وجل أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخر السورة وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء فلذلك أحاله عليها. وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أراد به الأخ والأخت للأم باتفاق العلماء وقرأ

سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. فأن قلت إن الله تعالى قال وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ثم قال تعالى وله أخ فذكر الرجل ولم يذكر المرأة فما السبب فيه. قلت هذا على عادة العرب فإنهم إذا ذكروا اسمين ثم أخبروا عنهما وكان في الحكم سواء ربما أضافوا أحدهما إلى الآخر وربما أضافوا إليهما فهو كقوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة، ثم قال تعالى وإنها لكبيرة وقال الفراء إذا جاء حرفان بمعنى واحد جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ وهذا إجماع العلماء أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء قال أبو بكر الصديق في خطبته: إلّا أن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية الثالثة التي ختم الله بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ تقدم تفسيره وبقي شيء من الأحكام يذكر هنا وذلك أن ظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه وفي معنى الآية ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به» وفي رواية له شيء يريد أن يوصى به أن يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلّا ووصيته مكتوبة عنده. قال نافع: سمعت عبد الله بن عمر يقول ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي مكتوبة أخرجاه في الصحيحين، ففي ظاهر الآية والحديث ما يدل على إطلاق الوصية لكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد بن أبي وقاص قال: الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء أخير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز ولا تجوز الوصية لوارث ويدل عليه ما روي عن عمرو بن خارجة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر» أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أخرجه أبو داود. وقوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ يعني غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية وهو أن يوصي بأكثر من الثلث وقيل هو أن يوصي بدين ليس عليه أو يقر بماله أو أكثر ماله لأجنبي ويترك ورثته عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها أو دين إلى قوله وذلك هو الفوز العظيم أخرجه أبو داود والترمذي. وقال قتادة: كره الله تعالى الضّرار في الحياة وعند الموت فنهى عنه وقدم فيه وقيل: إن الإضرار في الوصية من الكبائر لأن مخالفة أمر الله عز وجل كبيرة وقد نهى الله عن الإضرار في الوصية فدل على أن ذلك من الكبائر، واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر عند الموت في قدر ما يخلف من المال ومن يخلف من الورثة ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا، وفي الورثة كثرة فالأولى به أن لا يوصي بشيء لقوله صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب الورثة وحاجتهم بعده في القلة والكثرة. وقوله تعالى: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي فريضة من الله وقيل عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني أنه عالم بمصالح عباده ومضارهم وبما يفرض عليهم من الأحكام وقيل عليم بمن يجوز في وصيته وبمن لا يجور حَلِيمٌ يعني أنه تعالى ذو حلم وذو أناة في ترك العقوبة عمن جار في وصيته وقال أبو سليمان الخطابي: الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل والحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. قوله عز وجل:

[سورة النساء (4): الآيات 13 إلى 15]

[سورة النساء (4): الآيات 13 الى 15] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني الأحكام التي تقدم ذكرها في هذه السورة من مال اليتامى والوصايا والأنكحة والمواريث وإنما سماها حدودا لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين فلا يجوز لهم أن يتجاوزوها وقال ابن عباس يريد ما حد الله من فرائضه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في شأن المواريث ورضي بما قسم الله له وحكم عليه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في شأن المواريث ولم يرض بقسمة الله ورسوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يعني ويتجاوز ما أمر الله تعالى به يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ فإن قلت كيف قطع للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم إن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار. قلت قال الضحاك المعصية هنا الشرك وروى عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية من لم يرض بقسمة الله ويتعد ما قال الله يدخله نارا وقال الكلبي: يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدود الله استحلالا إذا ثبت ذلك فمن رد حكم الله ولم يرض بقسمته كفر بذلك وإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل وفاته إذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلدا في النار بكفره فلا دليل في الآية للمعتزلة والله أعلم. قوله تعالى: وَاللَّاتِي هو جمع التي وهي كلمة يخبر بها عن المؤنثة خاصة يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعني يفعلن الفاحشة يقال أتيت أمرا قبيحا إذا فعلته والفاحشة في اللغة الفعلة القبيحة، وقيل الفاحشة عبارة عن كل فعل أو قول يعظم قبحه في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه وذلك مخصوص بشهوة الفرج الحرام ولذلك أجمعوا على أن الفاحشة هاهنا هي الزنا وإنما سمي الزنى فاحشة لزيادة قبحه مِنْ نِسائِكُمْ قيل هن الزوجات وقيل المراد بهن جنس النساء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعني من المسلمين وهذا خطاب للأزواج أي اطلبوا أربعة من الشهود ليشهدوا عليهن وقيل هو خطاب للحكام أي استمعوا شهادة أربع عليهن. ويشترط في هذه الشهادة العدالة والذكورة قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الله الشهود أربعة سترا يستركم به دون فواحشكم فَإِنْ شَهِدُوا يعني الشهود بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فاحبسوهن في البيوت والحكمة في حبسهن أن المرأة إنما تقع في الزنى عند الخروج والبروز للرجال فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنى حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يعني تتوفاهن ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ثم نسخ الحبس بالحدود وجعل الله لهن سبيلا (م) عن عبادة بن الصامت قال: «كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فبقي كذلك فلما سري عنه قال: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». (فصل) اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة ثم اختلفوا في ناسخها فذهب بعضهم إلى أن ناسخها هو حديث عبادة بن الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة وذهب بعضهم إلى أن الآية الحد التي في

[سورة النساء (4): آية 16]

سورة النور وقيل إن هذه الآية منسوخة الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة بالحديث والحديث منسوخ بآية الجلد وقال أبو سلمان الخطابي: لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في الحديث وذلك لأن قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يدل على إمساكهن في البيوت ممدودا إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وأن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية المجملة لا ناسخا لها. وأجمع العلماء على جلد البكر الزاني مائة ورجم المحصن وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف البلوغ والعقل والحرية والإصابة في نكاح صحيح وهو الثيب واختلفوا في جلد الثيب ورجمه فذهب طائفة إلى أنه يجب الجمع بينهما وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والحسن وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال جماهير العلماء الواجب على المحصن الزاني الرجم وحده لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما. وأما تغريب البكر والزاني ونفيه سنة فمذهب الشافعي وجماهير العلماء وجوب ذلك وقال أبو حنيفة وحماد لا يقضى بالنفي أحد إلّا أن يراه الحاكم تعزيرا، وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء ويروى مثله عن علي قال لأن المرأة عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة وحجة الشافعي وجماهير العلماء ظاهر حديث عبادة بن الصامت وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة» وروى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب وإن كان الزاني عبدا فعليه جلد خمسين وفي تغريبه قولين. فإن قلنا إنه يغرب ففيه قولان أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو أنه يغرب ففيه قولان: أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو غير بالغ فلا جلد عليه. [سورة النساء (4): آية 16] وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) قوله عز وجل: وَالَّذانِ هو تثنية الذي يَأْتِيانِها يعني يأتيان الفاحشة مِنْكُمْ يعني من رجالكم ونسائكم وقيل هما البكران اللذان لم يحصنا وهما غير المعنيين بالآية الأولى وقيل المراد بمن ذكر في الأولى النساء وهذه للرجال لأن الله تعالى حكم في الآية الأولى بالحبس في البيت على النساء وهو اللائق بحالهن لأن المرأة إنما تفعل الفاحشة عند الخروج فإذا حبست في البيت انقطعت مادة المعصية، وأما الرجل فلا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فجعلت عقوبة الرجل الزاني الأذية بالقول والفعل فَآذُوهُما يعني عيروهما بالقول باللسان وهو أن يقال له أما خفت الله أما استحيت من الله حين زنيت وقال ابن عباس: سبوهما واشتموهما وفي رواية عنه قال: هو باللسان واليد يؤذي بالتعيير ويضرب بالنعال فَإِنْ تابا يعني من الفاحشة وَأَصْلَحا يعني العمل فيما يأتي فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اتركوهما ولا تؤذوهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً يعني أنه تعالى يعود على عبده بفضله ومغفرته ورحمته إذا تاب إليه وهذا الحكم كان في ابتداء الإسلام كان حد الزاني الأذى بالتوبيخ والتعيير بالقول باللسان فلما نزلت الحدود وثبتت الأحكام نسخ ذلك الأذى بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الآية فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا وكان قد أحصن وسواء في هذا الحكم المسلم واليهودي لأنه ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا وقال أبو حنيفة: لا رجم على اليهودي لأن المشرك ليس بمحصن وأجيب عنه بأن المراد بهذا الإحصان إحصان العفاف لا إحصان الفرج. قوله تعالى:

[سورة النساء (4): آية 17]

[سورة النساء (4): آية 17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يعني التوبة التي يقبلها الله تعالى فيكون على بمعنى عند وقيل على بمعنى من أي من الله وقال أهل المعاني إن الله تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وإذا وعد الله شيئا أنجز ميعاده وصدق فيه فمعنى قوله على الله أوجب على نفسه من إيجاب أحد عليه لأنه تعالى يفعل ما يريد لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ يعني الذنوب والمعاصي سميت سوءا لسوء عاقبتها إذا لم يتب منها بِجَهالَةٍ قال قتادة أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن كل شيء عصى الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيرهن وكل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن عباس: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء فكل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة وإنما سمي من عصى الله جاهلا لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب وإذا لم يستعمل ذلك سمي جاهلا بهذا الاعتبار وقيل معنى الجهالة أن يأتي الإنسان بالذنب مع العلم بأنه ذنب لكنه يجهل عقوبته وقيل معنى الجهالة هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يعني يتوبون بعد الإقلاع عن الذنب بزمان قريب لئلا يعد في زمرة المصرين وقيل القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته وقيل قبل موته وقيل قبل معاينة ملك الموت ومعاينة أهوال الموت وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أخرجه الترمذي. الغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردده في الحلق ولا يصل إليه ولا يقدر على بلعه وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم» فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني وقيل في معنى الآية إن القريب هو أن يتوب الإنسان قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني يقبل توبتهم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً قال ابن عباس: علم ما في قلوب عباده المؤمنين من التصديق واليقين فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة وقيل في معنى الآية علم أنه إنما أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 18 الى 19] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: يريد الشرك وقال أبو العالية وسعيد بن جبير: هم المنافقون وقال سفيان الثوري هم المسلمون ألا ترى أنه قال ولا الذين يموتوا وهم كفار حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يعني وقع في النزاع وعاين ملائكة الموت وهو حالة السوق حين تساق الروح للخروج من جسده قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه وهو قوله تعالى: حتى إذا أدركه الغرق. قال: آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من

المفسدين ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فإن قلت قد تعلقت الوعيدية بهذه الآية وقالوا أخبر الله تعالى إن عصاة المؤمنين إذا أهملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار لأن الله تعالى جمعهم في قوله أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما، وأيضا أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند معاينة الموت وأسبابه. قلت ليس الأمر على ما زعموا فقد روي عن ابن عباس في قوله وليست التوبة للذين يعملون السيئات يريد الشرك وقال سعيد بن جبير: نزلت الآية الأولى في المؤمنين يعني قوله: إنما التوبة على الله والوسطى في المنافقين يعني قوله وليست التوبة والأخرى في الكافرين يعني قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وإذا كانت الآية نازلة في المنافقين والكفار فلا وجه لحملها على المؤمنين وعلى تقدير أن تكون الآية نازلة في عصاة المؤمنين فقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات الآية، ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر وارجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة في حق المؤمنين. وقوله تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ معناه لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم وإنما لم تقبل توبتهم في الآخرة لرفع التكليف في الآخرة ومعاينة ما وعدوا به من العقاب أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي هيأنا لهم عَذاباً أَلِيماً قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً نزلت في أهل المدينة وذلك أنهم كانوا في الجاهلية في أول الإسلام إذا مات الرجل وخلف امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبة من ذوي عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء تزوجها بغير صداق إلّا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ هو صداقها وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها بذلك لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه كانت أحق بنفسها وكانوا على ذلك حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن، وقيل اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم ينفق عليها يضارها بذلك لتفتدي منه فأتت كبيشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله فيك فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً يعني ميراث نكاح النساء وقيل في معناه أن ترثوا أموالهن كرها يعني وهن كارهات وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي ولا تمنعوهن من الأزواج وأصل العضل المنع لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ يعني لتضجر فتفتدي ببعض مالها قيل هو خطاب للأزواج قال ابن عباس: هذا في الرجل تكون له امرأة وهو كاره لها ولصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي منه وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله عن ذلك وقيل كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها يضارها بذلك فنهوا عن ذلك وهو خطاب لأولياء الميت فنهاهم الله عن عضل المرأة ثم قال تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم واختلفوا في الفاحشة المبينة فقيل هي النشوز وسوء الخلق وإيذاء الزوج وأهله، وقيل الفاحشة هي الزنى يعني أن المرأة إذا نشزت أو زنت حلّ للزوج أن يسألها الخلع وقيل كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ منها زوجها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ الله ذلك بالحدود وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قيل هو راجع للكلام الذي قبله والمعنى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وعاشروهن بالمعروف هو الإجمال في القول والمبيت والنفقة وقيل هو أن تصنع لها كما تحب أن تصنع لك فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ يعني فإن كرهتم عشرتهن وصحبتهن وآثرتم فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً قال ابن عباس: ربما رزق منها ولدا صالحا فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا فتنقلب تلك الكراهة محبة

[سورة النساء (4): الآيات 20 إلى 22]

والنفرة رغبة، وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع والكراهية لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلبا للثواب وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى وقيل في معنى الآية إنكم إن كرهتموهن ورغبتم في فراقهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تخلص من هذا الزوج الكاره لها وتتزوج غيره خيرا منه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 20 الى 22] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة قال المفسرون: لما ذكر الله في الآية الأولى مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا بيّن في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنى ونهى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً يعني وكان ذلك الصداق مالا كثيرا، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنعنا وتلت الآية. فقال كل الناس أفقه منك يا عمر وفي رواية امرأة أصابت وأمير أخطأ ورجع عن كراهة المغالاة وقد تغالى الناس في صدقات النساء حتى بلغوا الألوف وقيل إن خير المهور أيسرها وأسهلها فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً يعني من القنطار الذي آتيتموهن لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقا فلا تأخذوا منه شيئا وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئا من صداقها وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بمعنى التوبيخ بُهْتاناً يعني ظلما وقيل باطلا وَإِثْماً مُبِيناً يعني أتأخذونه مباهتين آثمين فلا تفعلوا مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ كلمة تعجب والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل وكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئا بذله لزوجته عن طيب نفس وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حقه ثم ذكر السبب في ذلك فقال تعالى وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أصل الإفضاء في اللغة الوصول يقال أفضى إليه أي وصل إليه ثم للمفسرين في معنى الإفضاء في هذه الآية قولان: أحدهما أنه كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده أن الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع بنصف المهر وإن خلا بها والقول الثاني في معنى الإفضاء هو أن يخلو بها وإن لم يجامعها وقال الكلبي الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول هو اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة عنده تقرر المهر وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قيل هو قول العاقد عند العقد زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل هي كلمة النكاح المعقودة على الصداق وهي الكلمة التي تستحل بها فروج النساء ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فزوجهن بكلمة الله». قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ قال المفسرون كان أهل الجاهلية يتزوجون أزواج آبائهم فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية روي أنه لما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني اتخذتك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله

[سورة النساء (4): آية 23]

عز وجل وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يعني إلّا ما مضى في الجاهلية قبل نزول التحريم فإنه معفو عنه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إنما سماه فاحشة لأن زوجة الأب في منزلة الأم ونكاح الأمهات حرام فلما كان ذلك كذلك سماه الله فاحشة لأنه من أقبح المعاصي وَمَقْتاً يعني أنه يورث المقت من الله وهو أشد الغضب وغاية الخزي والخسارة وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس طريقا لأنه يؤدي إلى مقت الله والعرب تسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال: مر بي خالي ومعه لواء فقلت أين تذهب؟ قال: بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بيّن الله عزّ وجلّ في هذه الآية المحرمات من النساء بسبب الوصلة إما بسبب أو نسب (خ) عن ابن عباس قال حرم من النساء سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ حرمت عليكم أمهاتكم الآية فجملة المحرمات من النساء بنص الكتاب أربعة عشر صنفا، فأما المحرمات بالنسب فقوله حرمت عليكم أمهاتكم جمع أم وأصل أمهات أمات وإنما زيدت الهاء للتوكيد والأم هي الوالدة القريبة ويدخل في حكمها كل امرأة رجع النسب إليها من جهة الأب أو من جهة الأم بدرجة أو بدرجات وهي جميع الجدات وإن علون فيحرم الأم وجميع الجدات وَبَناتُكُمْ والبنت عبارة عن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث كبنت البنت وإن سفلت وكذا بنت الابن وَأَخَواتُكُمْ جمع أخت وهي عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصلك فتدخل فيه الأخوات من الأب والأم والأخوات من الأب والأخوات من الأم وَعَمَّاتُكُمْ جمع عمة وهي كل امرأة شاركت أباك في أصله وهن جميع أخوات الأب وأخوات آبائه وإن علون وقد تكون العمة من جهة الأم أيضا وهي أخت أبي الأم وَخالاتُكُمْ جمع خالة وهي كل امرأة شاركت الأم في أصلها فيدخل فيه جميع أخوات الأم وأخوات أمهاتها، وقد تكون الخالة من جهة الأب أيضا وهي أخت أم الأب وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وهي عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة يرجع نسبها إلى الأخ أو الأخت فيدخل فيهن جميع بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن فهذه الأصناف السبعة محرمة بسبب النسب بنص الكتاب وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده أصل فالأصول هن الأمهات والجدات، والفصول هن البنات وبنات الأولاد وفصول أول أصوله هن الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وأول فصل من كل أصل بعده أصل هن العمات والخالات وإن علون. قال العلماء: كل امرأة حرم الله نكاحها بالنسب والرحم فحرمتها مؤبدة لا تحل يوجه من الوجوه. الصنف الثاني المحرمات بالسبب وهن سبع الأول والثاني المحرمات بالرضاع وذلك في قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ كل أنثى انتسبت باللبن إليها فهي أمك وبنتها أختك وإنما نص الله على ذكر الأم والأخت ليدل بذلك على جميع الأصول والفروع فنبه بذلك أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» أخرجاه في الصحيحين (ق) عن ابن عباس قال: قال

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في بنت حمزة إنها لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنها ابنة أخي من الرضاعة فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة، وإنما سمى الله تعالى المرضعات أمهات لأجل الحرمة فيحرم عليه نكاحها ويحل له النظر إليها والخلوة بها والسفر معها ولا يترتب عليه جميع أحكام الأمومة من كل وجه فلا يتوارثان ولا تجب على كل واحد منهما نفقة الآخر وغير ذلك من الأحكام، وإنما ثبتت حرمة الرضاع بشرطين: أحدهما أن يكون إرضاع الصبي في حال الصغر وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وقوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» أخرجه الترمذي عن ابن مسعود قال: لا رضاعة إلّا ما كان في الحولين أخرجه مالك في الموطأ بأطول من هذا وأخرجه أبو داود مختصرا قال: قال عبد الله بن مسعود لا رضاع إلّا ما شد اللحم. وقال أبو حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وحمله الجمهور على أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لأن مدة الحمل داخلة فيه وأقله ستة أشهر. الشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات. روي ذلك عن عائشة وبه قال عبد الله بن الزبير، وإليه ذهب الشافعي ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» أخرجه مسلم (م) عن أم الفضل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» وفي رواية: «أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا» (م) عن عائشة قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن قولها فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن يحتمل أنه لم يبلغها نسخ ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى فهو مما نسخ تلاوته وبقي حكمه، وذهب جمهور العلماء إلى أن قليل الإرضاع وكثيره يحرم وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى كمذهب الشافعي واحتج مذهب الجمهور بمطلق الآية لأنه عمل بعموم القرآن وظاهره ولم يذكر عددا وأجاب الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة بأن السنة مبينة للقرآن مفسرة له. وقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ يعني إذا تزوج الرجل بامرأة حرمت عليه أمها الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما في النسب والرضاع أيضا ومذهب أكثر الصحابة وجميع التابعين وكل العلماء أن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها بنفس العقد سواء دخل بها أو لم يدخل بها وذهب جمع من الصحابة إلى أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بابنتها وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس والعمل اليوم على القول الأول هو مذهب الجمهور ويدل على ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها. وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح امرأة دخل بها أو لم يدخل أخرجه الترمذي وقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من رجل آخر سميت ربيبة لتربيتها في حجر الرجل، وقوله دخلتم بهن كناية عن الجماع لا نفس العقد فيحرم على الرجل بنات امرأته وبنات أولادها وإن سفلن من النسب والرضاع بعد الدخول بالزوجة. فلو فارق زوجته قبل الدخول بها أو ماتت قبل دخوله بها جاز أن يتزوج بنتها ولا يجوز له أن يتزوج أمها لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات، وعلق تحريم البنات بالدخول بالأم وقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني أزواج أبنائكم واحدتها حليلة والرجل حليل سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل لصاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه في إزار واحد وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل بفتح الحاء وجملته أنه يحرم على الرجل أزواج أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من النسب والرضاع وذلك بنفس

العقد الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ إنما قال من أصلابكم احترازا من التبني ليعلم أن زوجة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه لأنه كان في صدر الإسلام بمنزلة الابن فنسخ الله ذلك وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زوجة زيد بن حارثة وكان قد تبناه فقال المشركون تزوج زوجة ابنه فأنزل الله تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم وقال تعالى لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يعني لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد سواء كانت الأخوة بينهما أخوة نسب أو رضاع والجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه: أحدهما أن يجمع بينهما بعقد واحد فهذا العقد فاسد لا يصح فلو تزوّج إحدى الأختين ثم تزوّج الأخرى بعدها فهاهنا يحكم ببطلان نكاح الثانية فلو طلق الأولى طلاقا بائنا جاز له نكاح أختها، الوجه الثاني من صور الجمع بين الأختين هو أن يجمع بينهما بملك اليمين فلا يجوز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما حرمت عليه الثانية حتى يحرم الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة، الوجه الثالث من صور الجمع بين الأختين هو أن يتزوج إحداهما ويشتري الأخرى فيملكها بملك اليمين فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما لأن ظاهر هذه الآية يقتضي تحريم الجمع مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وذهب بعضهم إلى جوازه والقول الأول أصح، وأولى لما روى قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عنه فقال أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحد فعل ذلك إلّا جعلته نكالا قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب قال مالك أنه بلغه عن الزبير بن العوام مثل ذلك أخرجه مالك في الموطأ وقوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يعني لكن ما قد مضى فإنه معفو عنه بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقيل إن فائدة هذا الاستثناء أن أنكحة الكفار صحيحة فلو أسلم عن أختين قيل له اختر أيتهما شئت. ويدل على ذلك ما روي عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت أخرجه أبو داود. فروع تتعلق بحكم الآية. الأول: لا يجوز الجمع بين المرأة ولا بين المرأة وخالتها ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» أخرجه في الصحيحين قال بعض العلماء في حد ما يحرم الجمع كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما. الفرع الثاني: المحرمات بالنسب سبعة أصناف ذكرت في الآية نسقا والمحرمات بالسبب صنفان: صنف يحرم بالرضاع وهن الأمهات والأخوات على ما تقدم ذكره وصنف يحرم بالمصاهرة وهي أم المرأة وحليلة الابن وزوجة الأب وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ الآية والربائب على التفصيل المذكور والجمع بين الأختين. الفرع الثالث: التحريم الحاصل بسبب المصاهرة إنما حصل بنكاح صحيح فلو زنى بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها لو أراد أن يتزوج بهن وكذلك لا تحرم المزني بها على آباء الزاني ولا أبنائه إنما تتعلق الحرمة بنكاح صحيح أو بنكاح فاسد يجب لها به الصداق وتجب عليها العدة ويلحق به الولد. وهذا قول علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز. وذهب قوم إلى أن الزنى يتعلق به تحريم المصاهرة يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وبه قال جابر بن زيد والحسن وأهل العراق. ولو لمس امرأة أجنبية بشهوة أو قبّلها بشهوة هل يجعل ذلك كالدخول في إثبات تحريم المصاهرة وكذلك لو لمس امرأة بشهوة هل يجعل ذلك كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان: أصحهما أنه تثبت به حرمة

[سورة النساء (4): آية 24]

المصاهرة وهو قول أكثر أهل العلم والثاني لا تثبيت به كما لا تثبت بالنظرة بشهوة. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَالْمُحْصَناتُ يعني حرمت المحصنات مِنَ النِّساءِ وأصل الإحصان في اللغة المنع والحصان بالفتح المرأة العفيفة ويطلق الإحصان على المرأة ذات الزوج والحرة والعفيفة والمرأة المسلمة والمراد من الإحصان في قوله والمحصنات ذوات الأزواج من النساء فلا يحل لأحد نكاحهن قبل مفارقة أزواجهن وهذه هي السابعة من النساء التي حرمن بالسبب. قال أبو سعيد الخدري: نزلت هذه الآية في نساءكن هاجرن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهن أزواج فتزوجن ببعض المسلمين ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي الله المسلمين عن نكاحهن ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني السبايا اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب، فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء لأن السبي يرتفع به النكاح بينها وبين زوجها قال أبو سعيد الخدري: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن مسعود: أراد أنه إذا باع الجارية المزوجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا فيحل للمشتري وطؤها. وقال عطاء: أراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز له أن ينتزعها منه وقيل أراد بالمحصنات من النساء الحرائر ومعناه أن ما فوق الأربع منهن فإنه عليكم حرام إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري ولا حصر كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني حرمت عليكم أمهاتكم وكتب عليكم هذا كتابا وقيل معناه الزموا كتاب الله وقيل معناه كتابا من الله عليكم بمعنى كتب الله تحريم ما حرم عليكم من ذلك وتحليل ما حلل كتابا وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يعني وأحل الله لكم ما سوى ذلكم الذي ذكر من المحرمات. وظاهر هذه الآية يقتضي حل ما سوى المذكورين من الأصناف المحرمات، لكن قد دل الدليل من السنة بتحريم أصناف أخر سوى ما ذكر فمن ذلك أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن ذلك المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجا غيره ومن ذلك نكاح المعتدة فلا تحل للأزواج حتى تنقضي عدتها ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بأمة والقادر على طول الحرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ومن ذلك أن من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن بالتأبيد فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآية فعلى هذا يكون قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ورد بلفظ العموم لكن العموم دخله التخصيص فيكون عاما مخصوصا. وقوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ فيه إضمار تقديره وأحل لكم أن تبتغوا أي تطلبوا بأموالكم أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن. وفي الآية دليل على أن الصداق لا يتقدر بشيء فيجوز على القليل والكثير لإطلاق قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم مُحْصِنِينَ يعني متزوجين وقيل متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني غير زانين والسفاح الفجور وأصله من السفح وهو الصب وإنما سمي الزنى سفاحا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط. قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ اختلفوا في معناه فقال الحسن ومجاهد: أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بنكاح صحيح لأن أصل الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع ليس بدل الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا. وقال قوم المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بغير طلاق ويستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث وكان هذا في ابتداء الإسلام ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة فحرمها (م) عن سبرة بن معبد

الجهني أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أي أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة واختلفوا في ناسخها فقيل نسخت بالسنة وهو ما تقدم من حديث سبرة الجهني (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية» وهذا على مذهب من يقول إن السنة تنسخ القرآن ومذهب الشافعي أن السنّة لا تنسخ القرآن فعلى هذا يقول: إن ناسخ هذه الآية قوله تعالى في سورة المؤمنون: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ والمنكوحة في المتعة ليست بزوجة ولا ملك يمين واختلفت الروايات عن ابن عباس في المتعة فروي عنه أن الآية محكمة وكان يرخص في المتعة. قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي؟ قال متعة؟ قال الله تعالى فما به منهن قلت هل لها عدة قال نعم؟ حيضة قلت هل يتوارثان؟ قال لا وروى أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس بالمتعة قال: قاتلهم الله أنا ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكن قلت إنما تحل للمضطر كما تحل الميتة له وروي أنه رجع عنه. وقال بتحريمها وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن إنها صارت منسوخة بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وروى سالم بن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما بال أقوام ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة وقال هدم المتعة: النكاح والطلاق والعدة والميراث قال الشافعي: لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة. وقال أبو عبيد: المسلمون اليوم مجمعون على أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم نسخها الكتاب والسنّة هذا قول أهل العلم جميعا من أهل: الحجاز والشام والعراق من أصحاب الأثر والرأي وأنه لا رخصة فيها لمضطر ولا لغيره قال ابن الجوزي في تفسيره: وقد تكلف قوم من مفسري القرآن فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز المتعة ثم منع منها فحرمها فكان قوله منسوخا بقوله وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح. قال الزّجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموه على الشرائط التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج. وقال ابن جرير الطبري: أولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله فما نكحتموه منهن فجامعتموهن فآتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن فَرِيضَةً يعني لازمة وواجبة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ اختلفوا فيه فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة قال: أراد إنهما إذا عقد عقدا إلى أجل على مال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر، وإن لم يتراضيا فارقها وقد تقدم أن ذلك كان جائزا ثم نسخ وحرم ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح. قال المراد بقوله ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به يعني من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض. وقال الزّجاج معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً يعني بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من سائر أموركم حَكِيماً يعني فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم به وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل. (فصل في قدر الصداق وما يستحب منه) اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً والمستحب أن

[سورة النساء (4): آية 25]

لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ما علمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه (م) عن أبي سلمة قال: سألت عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم كم كان صداق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا قالت: نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم واختلف العلماء في أقل الصداق فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله بل كل ما جاز أن يكون مبيعا أو ثمنا جاز أن يكون صداقا وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقال قوم يتقدر الصداق بنصاب السرقة وهو قول مالك وأبي حنيفة. غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاث دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم والدليل على أن الصداق لا يتقدر ما روي عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله قد وهبت نفسي لك فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال فهل عندك من شيء؟ فقال لا والله يا رسول الله فقال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انظر ولو خاتما من حديد» فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن إزاري هذا. قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء» فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم موليا فأمر به فدعا له فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال تقرأهن عن ظهر قلب قال نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية فقد زوجتكها تعلمها من القرآن وفي رواية فقد أنكحناكها بما معك من القرآن. أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ الحميدي. ففي هذا الحديث دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق لأنه هل تجد شيئا فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ثم قال ولو خاتما من حديد ولا قيمة له إلا القليل التافه وفيه دليل على أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقا وهو قول الشافعي ومنعه أصحاب الرأي عن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل. أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عامر عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه أخرجه الترمذي وقال عمر بن الخطاب: ثلاث قبضات من زبيب مهر. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يعني فضلا وسعة وإنما سمي الغني طولا لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر والطول هنا كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ يعني الحرائر الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني جارية أخيك المؤمن فإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ المعنى من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة والفتيات الجواري المملوكات

جمع فتاة يقال للأمة فتاة والعبد فتى. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما أن لا يجد مهر حرة لأنه جرت العادة في الإماء بتخفيف مهورهن ونفقتهن وسبب ذلك اشتغالهن بخدمة ساداتهن. والشرط الثاني وهو خوف العنت على نفسه وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم. قال ابن عباس: هو الزنا وهذا قول جابر وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومسروق ومكحول وعمرو بن دينار وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد. وروي عن علي والحسن البصري وابن المسيب ومجاهد والزهري أنه يجوز للحر أن ينكح الأمة وإن كان موسرا وهو مذهب أبي حنيفة إلا أن يكون في نكاح حرة والسبب في منع الحر من نكاح الأمة إلا عند خوف العنة إن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، وإذا كانت الأم رقيقة كان الولد رقيقا وذلك نقص في حق الحر وفي حق ولده ولأن حق السيد أعظم من حق الزوج فربما احتاج الزوج إليها فلا يجد إليها سبيلا لأن للسيد حبسها لخدمته ولأن مهرها ملك السيد فلا تقدر على هبته من زوجها ولا أن تبرئه منه بخلاف الحرة فلهذا السبب منع الله من نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والاضطرار ويجوز للعبد نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة. وعند أبي حنيفة لا يجوز له إذا كانت تحته حرة كما يقول في الحر وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم حرا كان أو عبدا نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يفيد جواز نكاح الأمة المؤمنة دون الكتابية لأن فيها نوعين من النقص وهما: الرق والكفر بخلاف الأمة المؤمنة لأن فيها نقصا واحدا وهو الرق وهذا قول مجاهد والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز التزويج بالأمة الكتابية وبالاتفاق يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزّجاج أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم متعبدون بما ظهر والله يتولى السرائر والحقائق وقيل معناه لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني أنكم كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء عند الضرورة وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تفتخر بالأنساب والأحساب ويسمون ابن الأمة الهجين فأعلم الله تعالى أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء، فإنكم متساوون في النسب إلى آدم وقيل إن معناه إن دينكم واحد وهو الإيمان وأنتم مشتركون فيه فمتى وقع لأحدكم الضرورة جاز له أن يتزوج بالأمة عند خوف العنت. وقال ابن عباس: يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يعني اخطبوا الإماء إلى ساداتهن واتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطا في جواز نكاح الأمة وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن بِالْمَعْرُوفِ يعني من غير مطل ولا ضرار. وقيل معناه وآتوهن مهور أمثالهن وأجمعوا على أن المهر للسيد لأنه ملكه وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن مُحْصَناتٍ يعني عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ يعني غير زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن وهو الصاحب الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب بشهوة يقال خدن المرأة وخدينها يعني حبها الذي يزني بها في السر. قال الحسن: المسافحة هي التي كل من دعاها تبعته وذات الأخدان هي التي تختص بواحد ولا تزني مع غيره وكانت العرب في الجاهلية تحرم الأولى وتجوز الثانية فلما كان الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله تعالى أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على تحريمهما معا فَإِذا أُحْصِنَّ قرئ بفتح الألف والصاد ومعناه حفظن فروجهن، وقيل معناه أسلمن وقرأ حفص بضم الألف وكسر الصاد ومعناه زوجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني بزنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني فعلى الإماء اللاتي زنين نصف ما على الحرائر الأبكار إذا زنين من الجلد ويجلد العبد للزنا إذا زنا خمسين جلدة ولا فرق بين المملوك المتزوج وغير المتزوج فإنه يجلد خمسين ولا رجم عليه هذا قول أكثر العلماء ويروى عن ابن عباس وقال طاوس: أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى لأن الله تعالى قال فإذا أحصن والذي لم يتزوج ليس بمحصن وأجيب عنه بأن معنى الإحصان عند الأكثرين الإسلام، وإن كان المراد منه التزويج

[سورة النساء (4): الآيات 26 إلى 29]

فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنا فلا رجم عليه إنما حده الجلد، بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الآية وبيان أنه بالجلد لا بالرجم ثابت بالحديث وهو ما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» أخرجاه في الصحيحين قوله ولا يثرب عليها أي لا يعيرها والتثريب التأبين والتعيير والاستقصاء في اللوم قال الشيخ محيي الدين النواوي: وهذا البيع المأمور به في الحديث مستحب وليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل كيف يكره شيئا ويرتضيه لأخيه المسلم. فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها أو يزوجها أو غير ذلك والله أعلم. ذلِكَ أشار إلى نكاح الأمة لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الزنى والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنى وإنما سمي الزنى بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط: عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة وَأَنْ تَصْبِرُوا يعني عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ يعني كيلا يكون الولد عبدا رقيقا وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا كالتوليد لما تقدم يعني أنه تعالى غفر لكم ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 26 الى 29] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ اللام في قوله ليبين معناه أن يبين وقيل معناه يريد إنزال هذه الآيات من أجل أن يبين لكم ديتكم ويوضح لكم شرعكم ومصالح أموركم وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم وَيَهْدِيَكُمْ أي ويرشدكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي شرائع من قبلكم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل معناه يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة كما بينه لمن كان قبلكم، وقيل معناه ويهديكم إلى الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ يعني ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ويرجع بكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، وقيل لما بين لنا أمر الشرائع والمصالح وأرشدنا إلى طاعته فربما وقع منا تقصير وتفريط فيما أمر به وبينه فلا جرم أنه تعالى قال ويتوب عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم حَكِيمٌ يعني فيما دبر من أمورهم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى. وقيل معناه يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قيل هم اليهود والنصارى وقيل هم اليهود خاصة لأنهم يقولون إن نكاح بنت الأخت من الأب حلال. وقيل هم المجوس لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الإخوة فلما حرمهن الله قالوا إنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة والخالة والعمة عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية. وقيل هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم أَنْ تَمِيلُوا يعني عن الحق وقصد السبيل بالمعصية مَيْلًا عَظِيماً يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يعني ليسهل عليكم

[سورة النساء (4): الآيات 30 إلى 31]

أحكام الشرائع فهو عام في كل أحكام الشرع وجميع ما يسره لنا وسهله علينا إحسانا منه إلينا وتفضلا ولطفا علينا، ولم يثقل التكاليف علينا كما ثقلها على بني إسرائيل فهو كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة. وقوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً يعني في قلة الصبر عن النساء فلا صبر له عنهن وقيل إنه لضعفه يستميله هواه فهو ضعيف العزم عن قهر الهوى وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك. وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيها على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل، وقيل يدخل فيه أكل ماله نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه وقيل يدخل في أكل المال الباطل جميع العقود الفاسدة. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ هذا الاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل فكان إلا هاهنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض يعني بطيبة نفس كل واحد منكم. وقيل هو أن يخير كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلّا فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما روي عن ابن عمران أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حجة الوداع «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» قوله يتردى التردي هو الوقوع من موضع عال إلى أسفل قوله يتوجأ يقال وجأته بالسكين إذا ضربته بها وهو يتوجأ أي يضرب بها نفسه (ق) عن جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله تبارك وتعالى: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة. وفي رواية قال: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة وقيل في معنى قتل الإنسان نفسه أن لا يفعل شيئا يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه، وقيل معناه ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل معناه ولا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملا ربما أدى إلى قتلها إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً يعني أنه تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة الصعبة. [سورة النساء (4): الآيات 30 الى 31] وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني ما سبق ذكره من قتل النفس المحرمة لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وقيل: إنه يعود إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة وقيل إنه يعود إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هنا عُدْواناً وَظُلْماً يعني يتجاوز الحد فيضع الشيء في غير موضعه فلذلك قيده

بالعدوان والظلم لأنه قد يكون القتل بحق، وهو القصاص وكذلك قد يكون أخذ المال بحق فلهذا السبب قيده بالوعيد وما كان على وجه العدوان والظلم وهو قوله تعالى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي ندخله في الآخرة نارا يصلى فيها وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هينا لأنه تعالى قادرا على ما يريد. قوله عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ اجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانبا والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته وقبل ذكر التفسير نذكر الأحاديث الواردة في الكبائر فمن ذلك ما روي عن أبي بكرة قال كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» أخرجاه في الصحيحين (ق) عن أنس بن مالك قال: «ذكر لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل مال اليتيم والزنى والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (خ) عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال تزاني بحيلة جارك» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» وفي رواية أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال نعم: يسب الرجل أبا الرجل أو أمه: فيسب أباه أو أمه» وفي رواية من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه وذكر الحديث. وقال عبد الله بن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله وعند سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب وفي رواية إلى السبعين أقرب إلا أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وقال كل شيء عصي الله به فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا من كان راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر وقال علي بن أبي طالب: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة. وقال سفيان الثوري: الكبائر ما كان فيه المظالم فيما بينك وبين العباد والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى لأن الله تعالى كريم يغفر ويعفو واحتج لذلك بما روي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن الله قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وأدخلوا الجنة برحمتي» وقال مالك بن مغول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة، وقيل الكبائر ذنوب العمد والسيئات الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة وقال السّدي: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب والسيئات مقدماتها وتوابعها للتي يقع فيها الصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباه ذلك (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه لفظ مسلم، وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دونه فهو من السيئات فقد ثبت بما تقدم من الأدلة أن من الذنوب كبائر وصغائر إلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. وثبت بدلائل الكتاب والسنة وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه هي كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته إما في الدنيا بالحدود وإما في الآخرة بالعذاب عليه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني نسترها عليكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل لأن أصل

[سورة النساء (4): آية 32]

التكفير الستر والتغطية فصغار الذنوب تكفر بالحسنات ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن» زاد في رواية ما لم تغش الكبائر وزاد في رواية أخرى ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر أخرجه مسلم. وقوله تعالى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً يعني حسنا شريفا وهو الجنة والمعنى إذا اجتنبتم الكبائر وأتيتم الطاعات ندخلكم مدخلا تكرمون فيه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أصل التمني إرادة الشيء وتشهي حصول ذلك الأمر المرغوب فيه ومنه حديث النفس بما يكون وبما لا يكون وقيل التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن رؤية وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له وقيل التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون، عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال مجاهد: وأنزل إن المسلمين والمسلمات وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث مرسل وقيل لما جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين من الميراث قالت النساء نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل لما نزل قوله للذكر مثل حظ الأنثيين قالت للرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات في الآخرة فيكون لنا أجرنا على ضعف أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا في الميراث النصف من نصيبهم. فنزلت هذه الآية والتمني على قسمين: أحدهما أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره مع زوال تلك النعمة عن ذلك الغير فهذا القسم هو الحسد وهو مذموم لأن الله تعالى يفيض نعمه على من يشاء من عباده وهذا الحاسد يعترض على الله تعالى فيما فعل وربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعمة من ذلك الإنسان أيضا فهذا اعتراض على الله أيضا وهو مذموم. القسم الثاني أن يتمنى مثل مال غيره ولا يحب أن يزول ذلك المال عن الغير وهذا هو الغبطة وهذا ليس بمذموم. ومن الناس من منع منه أيضا قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين والدنيا. قال الحسن: لا تتمنى مال فلان ولا تدري لعل هلاكك في ذلك المال فيعلم العبد أن الله عزّ وجلّ أعلم بمصالح عباده فليرض بقضائه ولتكن أمنيته الزيادة من عمل الآخرة وليقل: اللهم اعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي. وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قال ابن عباس: يعني مما ترك الوالدان والأقربون من الميراث يقول للذكر مثل حظ الأنثيين وقيل هذا الاكتساب في الآخرة يعني أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء لأن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها يستوي في ذلك الرجال والنساء وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء وقيل للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن يعني من طاعة الأزواج وحفظ الفروج وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: يعني من رزقه وقيل من عبادته وهو سؤال التوفيق للعبادة وقيل لم يأمر الله عباده بالمسألة إلا ليعطيهم وفيه تنبيه على أن العبد لا يعين شيئا في الدعاء والطلب لكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاح دينه ودنياه وآخرته وقيل لما تمنى النساء أن يكن رجالا وأن يكون لهن مثل ما للرجال نهاهن الله عن ذلك وأمرهن أن يسألوه من فضله فإنه أعلم بمصالح عباده إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني أنه تعالى عليم بما يكون صلاحا للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب فإن الله تعالى عليم بما يصلحه فلا يتمنى غير الذي قدر له. قوله تعالى:

[سورة النساء (4): آية 33]

[سورة النساء (4): آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) وَلِكُلٍّ يعني من الرجال والنساء جَعَلْنا مَوالِيَ يعني ورثة من بني عم وإخوة سائر العصبات مِمَّا تَرَكَ يعني يرثون مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من ميراثهم فعلى هذا الوالدان والأقربون هم المورثون وقيل معناه ولكل جعلنا موالي أي ورثة مما ترك وتكون ما بمعنى يعني من تركهم الميت ثم فسر الموالي فقال الوالدان والأقربون هم الوارثون. والمعنى ولكل شخص جعلنا ورثة ممن تركهم وهم والداه وأقربوه والقول الأول أصح لأنه مروي عن ابن عباس وغيره وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وقرئ عقدت بغير ألف مع التخفيف والمعاقدة المحالفة والمعاهدة والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد بها القسم أو اليد أو هما جميعا وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيد صاحبه وتحالفوا على الوفاء بالعهد والتمسك بذلك العقد. وكان الرجل يحالف الرجل في الجاهلية ويعاقده فيقول دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك وحربي حربك، وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لكل واحد من الحليفين السدس في مال الآخر وكان الحكم ثابتا في الجاهلية وابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يعني أعطوهم حظهم من الميراث ثم نسخ الله هذا الحكم بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار لما قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون النسب والرحم، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان نسختها ثم قال والذين عاقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له وفي رواية أخرى عنه. قال والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما كالآخر فنسخ ذلك بسورة الأنفال فقال وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وقال سعيد بن المسيب: كانوا يتوارثون بالتبني بهذه الآية ثم نسخ ذلك وذهب قوم إلى أن الآية ليست بمنسوخة بل حكمها باق والمراد بقوله والذين عاقدت أيمانكم الحلفاء والمراد من قوله فآتوهم نصيبهم يعني من النصرة والنصيحة والموافاة والمصافاة ونحو ذلك فعلى هذا لا تكون منسوخة وقيل نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق، فقرأت والذين عاقدت أيمانكم فقالت: لا تقرأ والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبي الإسلام فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه أخرجه أبو داود على هذا فلا نسخ أيضا فمن قال إن حكم الآية باق قال: إنما كانت المعاقدة في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» أخرجه مسلم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً قال عطاء: يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء وقيل الشهيد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه فعلى هذا الشاهد بمعنى المخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين. قوله عز وجل:

[سورة النساء (4): آية 34]

[سورة النساء (4): آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، ويقال امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ارجعوا هذا جبريل أتاني فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص فقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي متسلطون على تأديب النساء والأخذ على أيديهن قال ابن عباس: أمروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله والقوام هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب فالرجل يقوم بأمر المرأة ويجتهد في حفظها ولما أثبت القيام للرجال على النساء بيّن السبب في ذلك فقال تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أن الله تعالى فضل الرجال على النساء بأمور منها زيادة العقل والدين والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات وبالإمامة لأن منهم الأنبياء والخلفاء والأئمة ومنها أن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد ومنها زيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب فكل هذا يدل على فضل الرجل على النساء ثم قال تعالى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني وبما أعطوا من مهور النساء والنفقة عليهن عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أخرجه الترمذي فَالصَّالِحاتُ يعني المحسنات العاملات بالخير قانِتاتٌ أي مطيعات لأزواجهن وقيل مطيعات لله حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لفروجهن في غيبة أزواجهن لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ويلحق به الولد الذي هو من غيره وقيل معناه حفظ سر زوجها وحفظ ماله وما يجب على المرأة من حفظ متاع البيت في غيبة زوجها عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله أي النساء خير قال التي تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره أخرجه النسائي ورواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» ثم تلا: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية. وقوله تعالى: بِما حَفِظَ اللَّهُ يعني بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج وأمرهم بأداء المهر والنفقة إليهن (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء» وقيل في معنى الآية بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب وقيل بما حفظ الله من حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بعدل فيهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وَاللَّاتِي تَخافُونَ أي تعلمون وقيل تظنون نُشُوزَهُنَّ أي شرورهن وأصل النشوز الارتفاع ونشوز المرأة هو بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته والتكبر عليه وقيل دلالات النشوز قد تكون بالقول والفعل. فالقول مثل إن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له خاطبها والفعل مثل إن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها فإذا خالفت هذه الأحوال بأن رفعت صوتها عليه أو لم تجبه إذا دعاها ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها دل ذلك على نشوزها على زوجها فَعِظُوهُنَّ يعني إذا ظهر منهن أمارات النشوز فعظوهن بالتخويف بالقول وهو أن يقول لها اتقي الله وخافية فإن لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع وهو قوله تعالى: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ يعني إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن في المضاجع. قال ابن عباس: هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر وَاضْرِبُوهُنَّ

يعني إن لم ينزعن بالهجران فاضربوهن يعني ضربا غير مبرح ولا شائن قيل هو أن يضربها بالسواك ونحوه. وقال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل عن عمرو بن الأحوص أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال: «ألا فاستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن تأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» أخرجه الترمذي بزيادة فيه قوله عوان جمع عانية أي أسيرة شبه المرأة ودخولها تحت حكم زوجها بالأسير والضرب المبرح الشديد الشاق. وقوله: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تطلبوا عليهن طريقة تحتجون بها عليهن إذا قمن بواجب حقكم عن حكيم بن معاوية عن أبيه. قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: «أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت» أخرجه أبو داود قوله ولا تقبح أي لا تقل قبحك الله (ق) عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها أو قال يضاجعها من آخر اليوم» عن إياس بن عبد الله بن أبي ذئاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضربوا النساء» فجاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «زبرت النساء على أزواجهن» فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساء كثيرون يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» أخرجه أبو داود. إياس بن عبد الله هذا قد اختلف في صحبته وقال البخاري لا يعرف له صحبة قوله زبرت يقال زبرت المرأة على زوجها نشزت واجترأت عليه وأطاف بالشيء أحاط به. ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج إلى ضربها لتأديب فلا يضربها ضربا شديدا وليكن ذلك مفرقا ولا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتق الوجه لأنه يجمع المحاسن ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد ولا يضرب بالسوط والعصا وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب واختلف العلماء فقال بعضهم حكم الآية مشروع على الترتيب فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن مجرى الآية يدل على الترتيب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها فإن أبت ضربها فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكم. وقال الآخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل وقيل له أن يعظها عند خوف النشوز وهل له أن يهجرها فيه احتمال ذلك وله عند ظهور النشوز أن يعظها وأن يهجرها أو يضربها عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته» أخرجه أبو داود (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلّا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها» وفي رواية: «إذا باتت مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وفي أخرى» حتى ترجع عن طلق بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجته فلتأته وإن كانت على التنور» أخرجه الترمذي وله عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا» وله عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» وقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يعني فإن رجعن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب فلا تبغوا عليهن سبيلا يعني فلا تطلبوا عليهن الضرب والهجران على سبيل التعنت والإيذاء، وقيل معناه أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ ولا تجنوا عليهن الذنوب وقيل معناه لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً العلي الكبير في صفة الله تعالى معناه الرفيع الذي يعلو عن وصف الواصفين ومعرفة العارفين العلي بالإطلاق الذي يستحق جميع صفات المدح

[سورة النساء (4): آية 35]

والتكبير هو المستغني عن غيره وذلك هو الله تعالى الموصوف بالجلال والعظمة والكبرياء وكبر الشأن الذي يصغر كل أحد لكبريائه وعظمته تعالى، والمعنى إن الله متعال من أن يكلف عباده ما لا يطيقونه. وقيل إن النساء وإن ضعفن عن دفع ظلم الرجال عنهن فإن الله علي كبير قادر على أن ينتصف لهن ممن ظلمهن من الرجال وقيل معناه أن الله مع علوه وكبريائه يقبل توبة العاصي إذا تاب ويغفر له فإذا تابت المرأة من نشوزها، فالأولى بكم أن تقبلوا توبتها وتتركوا معاتبتها واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَإِنْ خِفْتُمْ يعني وإن علمتم وتيقنتم وقيل معناه الظن أي ظننتم شِقاقَ بَيْنِهِما يعني بين الزوجين وأصل الشقاق المخالفة وكون كل واحد من المتخالفين في شق غير شق صاحبه أو يكون أصله من شق العصا وهو أن يقول كل واحد من الزوجين ما يشق على صاحبه سماعه، وذلك أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق ومخالفة واشتبه حالهما ولم يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة وكذلك الزوجة لا تؤدي الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا. قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها اختلفوا في المخاطبين بهذا ومن المأمور ببعثة الحكمين، فقيل المخاطب بذلك هو الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه وقيل المخاطب بذلك كل أحد من صالحي الأمة لأن قوله تعالى فابعثوا خطاب الجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون أمرا لآحاد الأمة سواء وجد الإمام أو لم يوجد. فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر فلكل واحد أن يقول به وقيل وهو خطاب للزوجين فإذا حصل بينهما شقاق بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني الحكمين وقيل الزوجين يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما يعني بالصلاح والألفة روى الشافعي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئام من الناس فقال: علام شأن هذين؟ قالوا: وقع بينهما شقاق قال علي فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي وقال الرجل أما الفرقة فلا قال علي كذبت والله حتى تقر بمثل ما أقرت به. قال الشافعي: والمستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلبا للإصلاح فإن كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن كل واحد منهما يخلو بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمعان فيفعلان ما هو الصواب من اتفاق أو طلاق أو خلع والحكمان وكيلان للزوجين وهل يجوز تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون رضاهما وإذنهما في ذلك مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدي حكم المرأة بشيء من مالها، فللشافعي في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يجوز إلا برضاهما وليس الحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ولا لحكم المرأة أن يختلع بشيء من مالها إلا بإذنها وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأن عليا توقف حين لم يرض الزوج وذلك حين قال أما الفرقة فلا فقال له علي كذبت حتى تقر بمثل ما أقرت به فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاها ومعنى قول علي للزوج كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تقر بمثل ما أقرت به من الرضا بحكم كتاب الله لها وعليها والقول الثاني إنه يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم الزوجة أن يختلع دون رضاها إذا رأيا الصلاح في ذلك كالحاكم يحكم بين الخصمين

[سورة النساء (4): آية 36]

وإن لم يكن على وفق مرادهما وبه قال مالك: ومن قال بهذا القول قال ليس المراد من قول علي للزوج حتى تقر أن رضاه شرط بل معناه أن المرأة لما رضيت بما في كتاب الله تعالى. فقال الرجل أما الفرقة فلا يعني ليست الفرقة في كتاب الله فقال له علي: كذبت حتى أنكرت أن تكون الفرقة في كتاب الله، بل هي في كتاب الله فإن قوله تعالى يوفق الله بينهما يشتمل على الفراق وعلى غيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الإثم والوزر ويكون تارة ذلك بالفراق وتارة بصلاح حاليهما في الوصلة. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً يعني أن الله تعالى يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) وَاعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوه وأطيعوه وعبادة الله تعالى عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله تعالى ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأعمال الجوارح وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً يعني وأخلصوا له في العبادة ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا لأن من عبد مع الله غيره أو أراد بعمله غير الله فقد أشرك به ولا يكون مخلصا (ق) عن معاذ بن جبل قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمار يقال له عفير أو اسمه يعفور فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا» قوله هل تدري ما حق الله على عباده معناه ما يستحقه مما أوجبه وجعله متحتما عليهم ثم فسر ذلك الحق بقوله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وقوله وما حق العباد على الله إنما قال حقهم على سبيل المقابلة لحقه عليهم لا لأنهم يستحقون عليه شيئا ويجوز أن يكون من قول الرجل لصاحبه حقك عليّ واجب أي متأكد قيامي به. وقوله أفلا أبشر الناس إلخ إنما قال لا تبشرهم فيتكلوا. لأنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ذلك أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا على هذه البشارة ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة. وقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا يعني برّا بهما واعطفا عليهما وإنما قرن بر الوالدين بعبادته وتوحيده لتأكد حقهما على الولد. واعلم أن الإحسان بالوالدين هو أن يقوم بخدمتها ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أبوك» وفي رواية قال: «أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك قوله ثم أباك فيه حذف تقديره ثم بر أباك» (م) عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة». قوله تعالى: وَبِذِي الْقُرْبى أي وأحسنوا إلى ذي القرابة وهو ذوو رحمه من قبل أبيه وأمه (ق) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» قوله ينسأ له في أثره يعني يؤخر له في أجله وعمره. وقوله تعالى: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ أي وأحسنوا إلى اليتامى وإنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز والصغر وعدم المشفق والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة» هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قال الساعي على الأرملة والمسكين

كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر» وقوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ أي وأحسنوا إلى الجار ذي القربى وهو الذي قرب جواره منك والجار الجنب هو الذي بعد جواره عنك وقيل الجار ذو القربى هو القريب والجار الجنب هو الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة: (ق) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وعن عائشة مثله (خ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما بابا منك» (م) عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» وفي رواية قال أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم: «قال إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل البيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه» ولمسلم «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» البوائق الغوائل والشرور (ق) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» معناه ولو أن تهدي إليها فرسن شاة وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». وقوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس هو الرفيق في السفر وقيل هي المرأة تكون معك إلى جنبك وقيل هو الذي يصحبك رجاء نفعك. عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقوله تعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر المجتاز بك الذي قد انقطع به وقال الأكثرون المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه وتحسن إليه (ق) عن أبي شريح خويلد بن عمرو العدوي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه» وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» زاد في رواية ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قال: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال يقيم عنده ولا شيء عنده يقريه به» قوله جائزته يومه وليلته الجائزة العطية أي يقري الضيف ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل وقيل هو أن يكرم الضيف فإذا سافر أعطاه ما يكفيه يوما وليلة حتى يصل إلى موضع آخر وقوله أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه إذا أقام عنده ولم يقره أثم بذلك. وقوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني المماليك فأحسنوا إليهم والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يؤذيهم بالكلام الخشن وأن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة سيئ الملكة» أخرجه الترمذي عن رافع بن مكيث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسن الملكة نماء وسوء الخلق شؤم» أخرجه أبو داود وله عن علي بن أبي طالب قال كان آخر كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» (ق) عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه سابّ رجلا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه». وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا المختال المتكبر العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الناس (فخورا) الفخور هو الذي يفتخر على الناس ويعدد مناقبه تكبرا وتطاولا على من دونه، وقيل هو الذي يفتخر على عباد الله بما أعطاه الله من نعمه ولا يشكره عليها وإنما ختم الله هذه الآية بهذين الوصفين المذمومين لأن المختال الفخور يأنف من أقاربه الفقراء ومن

[سورة النساء (4): آية 37]

جيرانه الضعفاء فلا يحسن إليهم ولا يلوي بنظره عليهم ولأن المختال هو المتكبر ومن كان متكبرا فلا يقوم بحقوق الناس (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» (خ) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة (ق)» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم الفدادون هم الفلاحون والحراثون وأصحاب الإبل والبقر المستكبرون منهما المتكبرون على الناس بهما» قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ نزلت في اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموها وعلى هذا يكون المراد بالبخل كتمان العلم وقال ابن عباس نزلت في كردم بن زيد ويحيى بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن عمر وكانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخاطبونهم يقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقيل يحتمل أن يكون المراد بالبخل كتمان العلم ومنع المال لأن البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات وفي الشرع البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه، وإذا كان ذلك أمكن حمله على منع المال ومنع العلم وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما عندهم من العلم وقيل هم الأغنياء الذين كتموا الغنى وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ يعني الجاحدين نعمة الله عليهم عَذاباً مُهِيناً يعني في الآخرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 38 الى 40] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ يعني للفخار والسمعة وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» نزلت هذه الآية في اليهود وقيل في المنافقين لأن الرياء ضرب من النفاق، وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ولا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً يعني من يكن الشيطان صاحبه وخليله فبئس الصاحب وبئس الخليل الشيطان، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان تقريعا لهم على طاعة الشيطان. والمعنى من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار ثم وبخهم الله تعالى وعيرهم على ترك الإيمان فقال تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ يعني وأي شيء

عليهم وأي وبال وتبعة تلحقهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي أي وبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً يعني لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة ففيه وعيد وتهديد لهم. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ نظم الكلام وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة يعني وزن ذرة. وقال ابن عباس: الذرة رأس نملة حمراء وقيل الذرة كل جزء من أجزاء الهباء الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء والمعنى أن الله تعالى لا يظلم أحدا شيئا من قليل ولا كثير فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها يعني الحسنة بعشر أمثالها وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة ضاعفها الله له إلى سبعمائة وإلى أجر عظيم. قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا وما فيها (م) عن أنس بن مالك في قوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة: «وأما الكافر فيعطى بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول تعالى: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلّم سلّم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار» وفي رواية فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلّون ويحجّون. فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ثم يقول

[سورة النساء (4): الآيات 41 إلى 42]

ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا لفظ مسلم وهو بعض حديث. وقال بعضهم هذه الآية واردة في الخصوم ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله إلا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه منه وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له آت هؤلاء حقوقهم فيقول أي رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته انظروا في أعماله الصالحات فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا وهو أعلم بذلك أعطينا كل ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي الجنة وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول الله تبارك وتعالى: «خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم اكتبوا له كتابا إلى النار» أخرجه البغوي بغير سند عن ابن مسعود موقوفا عليه. وأسنده ابن جرير الطبري عن ابن مسعود فمعنى الآية على هذا التأويل إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على خصمه بل يأخذها له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضاعفها له فذلك قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها أي يجعلها أضعافا كثيرة وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ يعني من عنده أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة والمعنى ويعطى من عنده أجرا عظيما يعني عوضا من حسنة وذلك العوض هو الجنة وقال أبو هريرة: إذا قال الله عزّ وجلّ أجرا عظيما فمن يقدر قدره قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعني فكيف يكون حال هؤلاء المشركين والمنافقين يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد. قال ابن عباس: يريد بنبيها والمعنى أنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يعني تشهد على هؤلاء الذين سمعوا القرآن وخوطبوا به بما عملوا (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ على القرآن» فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري قال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن قال فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان زاد مسلم شهيدا مادمت فيهم أو قال ما كنت فيهم شك أحد رواته. وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة يَوَدُّ أي يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني جحدوا وحدانية الله تعالى وَعَصَوُا الرَّسُولَ يعني فيما أمرهم به من توحيد الله عز وجل لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ يعني لو صاروا فيها وسويت عليهم وقيل إنهم ودوا أن لن يبعثوا لأنهم إنما كانوا في الأرض وهي مستوية عليهم. وقال الكلبي: يقول الله تعالى للبهائم والوحوش والطيور والسباع كوني ترابا فتسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو يكون ترابا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً قال ابن عباس: في رواية عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا كفروا به ولا نافقوه فعلى هذا القول يكون الكتمان ما كتموا في الدنيا من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وهو كلام متصل بما قبله وقيل هو كلام مستأنف قال سعيد بن جبير سأل رجل ابن عباس فقال إني أجد في القرآن أشياء تختلف على قال: هات ما يختلف عليك قال منها قوله تعالى

[سورة النساء (4): آية 43]

وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ومنها قوله تعالى وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقد كتموا فقال يغفر الله تعالى لأهل الإسلام ذنوبهم ويدخلهم الجنة فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين رجاء أن يغفر لهم، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض فلا يختلف عليك القرآن فإن كلّا من عند الله. وقال الحسن: إنها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وما كنا نعمل من سوء في موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى فاعترفوا بذنبهم وفي موطن لا يتساءلون وفي موطن يسألون الرجعة وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم فهو قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى جمع سكران حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ سبب نزول هذه الآية ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا ابن عوف طعاما فدعانا فأكلنا وسقانا خمرا قبل تحريم الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فخلطت فنزلت لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرجه أبو داود ولفظه أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فحضرت الصلاة فأمّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت الآية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن تحرم الخمر فقال الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية فعلى هذا ففي المراد بالصلاة قولان: أحدهما أنه نفس الصلاة ذات الركوع والسجود وهو قول الأكثرين المعنى لا تصلّوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. والقول الثاني إن المراد بالصلاة موضع الصلاة وهو المسجد وإطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل فيكون من باب حذف المضاف. والمعنى لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى وحذف المضاف جائز سائغ. ويدل عليه قوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات والمراد بالصلوات مواضعها فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد موضعها جائز. واعلم أن هذا النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر إنما كان قبل تحريم الخمر فكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة ثم نزل تحريم الخمر بعد ذلك ونسخت هذه الآية وقال الضحاك المراد بالسكر سكر النوم يعني لا تقربوا الصلاة عند غلبة النوم ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: وَلا جُنُباً يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب وأصل الجنابة البعد سمي الذي أصابته الجنابة جنبا لأنه يتجنب الصلاة والمسجد وقيل لمجانبته الناس حتى يغتسل إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ العابر هاهنا فاعل من العبور وهو قطع الطريق من هذا الجانب إلى الجانب الآخر واختلف العلماء في معنى قوله إلا عابري سبيل على قولين: أحدهما إن المراد بالعبور هو العبور في المسجد وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلّا في المسجد فرخص لهم العبور فيه فعلى هذا القول يكون المراد بالصلاة موضع الصلاة

والمعنى لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه أو للدخول فيه مثل أن يكون قد نام في المسجد فأجنب فيجب الخروج منه أو يكون الماء في المسجد فيدخل إليه أو يكون طريقه عليه فيمر فيه من غير إقامة وهذا قول ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخراساني والنخعي والزهري وإليه ذهب الشافعي وأحمد. القول الثاني أن المراد من قوله إلّا عابري سبيل المسافرون والمعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا الماء فتيمموا فمنع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا ماء معه فيتيمم ويصلّي إلى أن يجد الماء فيغتسل وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة فمن جعل عابري السبيل المسافرين منه الجنب من العبور في المسجد وهو مذهب أبي حنيفة. وصحح ابن جرير الطبري الواحدي القول الأول ويدل على صحته وجهان: أحدهما أن المسافر الجنب لا تصح صلاته بدون التيمم ولم يذكر التيمم هاهنا فيحتاج إلى إضمار شيئين: عدم الماء وذكر التيمم وعلى القول الأول لا يحتاج إلى إضمار شيء. الوجه الثاني أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا فلا يحل هذا على حكم معاد في الآية ويدل على أن جميع القراء استحسنوا الوقف على قوله: حَتَّى تَغْتَسِلُوا يعني إلى أن تغتسلوا وفيه دليل على أن حكم الجنابة باق على الجنب إلى غاية هي الاغتسال. (فصل في أحكام تتعلق بالآية) اختلف العلماء في العبور في المسجد فأباحه قوم على الإطلاق وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي ومنعه بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي. وقال قوم يتيمم للعبور في المسجد واختلف العلماء في المكث في المسجد أيضا للجنب فمنعه أكثر أهل العلم وقالوا لا يجوز للجنب المكث في المسجد بحال لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد. فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل لحائض ولا جنب أخرجه أبو داود وجوز أحمد المكث في المسجد بشرط الوضوء به. قال المزني من أصحاب الشافعي وأجاب أحمد عن حديث عائشة بأنه في رواته مجهول. وقال عبد الحق لا يثبت من قبل إسناده وأستدل أحمد لمذهبه بما روي عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة أخرجه سعيد بن منصور في مسنده واحتج لمذهب الجمهور بعموم الآية وبما روي عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته أن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض أخرجه ابن ماجة ويحرم على الجنب أيضا الطواف وقراءة القرآن كما يحرم عليه فعل الصلاة ويدل على ذلك أيضا ما روي عن علي بن أبي طالب قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال ولا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ولفظه كان يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا وقال حديث حسن صحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا» أخرجه الدارقطني ويجب الغسل بأحد شيئين: بإنزال المني وهو الماء الدافق أو بإيلاج الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الوجه يرى أنه احتلم ولا يجد بللا. قال لا غسل عليه قالت أم سلمة والمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال نعم؟ أخرجه أبو داود والترمذي (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» زاد في رواية وإن لم ينزل. وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض وأراد به المرض الذي يضر معه إمساس الماء مثل الجدري

وإحراق النار ونحو ذلك وإن كان على بعض مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه من استعمال الماء التلف أو زيادة الوجع فإنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه صحيحا وبعضها جريحا غسل الصحيح وتيمم للجريح في الوجه واليدين لما روي عن جابر قال: خرجنا في سفرنا فأصاب رجلا منا حجرا فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده أخرجه أبو داود والدارقطني ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين الغسل والتيمم قالوا إذا كان أكثر أعضائه أو بدنه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم والحديث حجة لمن أوجب الجمع بين الغسل والتيمم. قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ يعني أو كنتم مسافرين وأراد به السفر الطويل والقصير وعدم الماء فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه لما روي عن أبي ذر قال: «اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبا ذر ابد فيها فبدوت إلى الربذة فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو ذر فسكت فقال ثكلتك أمك يا أبا ذر لأمك الويل فدعا بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة فاغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلا. فقال الصعيد الطيب: وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير أخرجه أبو داود العس قدح من فخار يجعل فيه الماء للوضوء والاغتسال. أما إذا لم يكن الرجل مريضا ولا على سفر وعدم الماء في موضع لا يعدم فيه غالبا فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء وقدر عليه وبه قال الشافعي وقال مالك والأوزاعي لا إعادة عليه وقال أبو حنيفة يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. وقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكنوا به عن الحدث وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يعني مكانا منخفضا من الأرض يحجبه عن أعين الناس فسمي الحدث بهذا الاسم فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. وقوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرئ هنا وفي سورة المائدة لامستم النساء ولمستم بغير ألف واختلف العلماء في معنى الملامسة على قولين أحدهما أنه الجماع وهو قول علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ووجه هذا القول أن الله تعالى كنى باللمس عن الجماع لأن اللمس يوصل إليه. قال ابن عباس إن الله حيي كريم يكني عن الجماع بالملامسة، والقول الثاني إن المراد باللمس هنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو بغير جماع وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي ووجه هذا القول إن اللمس حقيقة في اللمس باليد فأما حمله على الجماع فمجاز والأصل حمل الكلام على الحقيقة لا على المجاز. وأما قراءة من قرأ أو لامستم فالملامسة مفاعلة والأصل حمل الكلام على الحقيقية لا على الإطلاق لأنه قد ورد في الحديث النهي عن بيع الملامسة قال أبو عبيدة في معناها هي أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع فالملامسة في الحديث بمعنى اللمس باليد وإذا كانت مستعملة في غير المجامعة لم يدل قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ على صريح الجماع بل حمل على الأصل الموضوع له وهو اللمس باليد. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما انتقض وضوءهما وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي لما روي الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه قال قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء أخرجه

مالك في الموطأ قال الشافعي: وبلغنا عن ابن المسعود مثله وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق إذا كان اللمس بشهوة انتقض الوضوء وإن لم يكن بشهوة فلا ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» قال عروة ومن هي إلّا لا أنت فضحكت أخرجه أبو داود وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت قال الترمذي إنه لا يصلح إسناده بحال وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث وقال حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث وقال هو شبه لا شيء وفيه ضعف من وجه آخر وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة إنما هو شيخ مجهول قال البيهقي يعرف بعروة المزني وإنما المحفوظ عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل وهو صائم» كذا رواه الثقات عن عائشة وقال أبو حنيفة لا ينتقض الوضوء باللمس إلّا أن يحدث الانتشار وقال قوم لا ينتقض بحال وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روي عن عائشة أنها قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح» أخرجاه في الصحيحين وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها على حائل. المسألة الثانية: اختلف قول الشافعي في لمس المحرم كالأم والبنت والأخت أو أجنبية صغيرة فأصح القولين عنه أنه لا ينتقض الوضوء به والثاني أنه ينتقض الوضوء به ومأخذ القولين عند أصحاب الشافعي التردد بين التعلق بعموم الآية في قوله: «أو لامستم النساء» أو النظر إلى المعنى في النقض باللمس وهو تحرك الشهوة فإن أخذنا بعموم الآية فينتقض الوضوء بلمس المحارم وإن أخذنا بالمعنى فلا ينتقض وفي الملموس قولان والملموس هو الذي لا فعل منه في المباشرة رجلا كان أو امرأة واللامس هو الفاعل اللمس وإن لم يقصد المباشرة فأحد القولين إنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوءهما معا والقول الثاني إنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» أخرجه مسلم فلو انتقض وضوءه صلّى الله عليه وسلّم لقطع الصلاة ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها فلا وضوء عليه. المسألة الثالثة في الحدث: وهو الخارج من السبيلين عينا كالبول والغائط أو أثرا كالريح ونحوها فإذا حصل شيء من ذلك فلا تصح صلاته ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من أهل حضر موت ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط أخرجاه في الصحيحين أما خروج النجاسة من غير السبيلين كالفصد والحجامة والرعاف والقيء ونحوها فذهب قوم إلى أنه لا وضوء من خروج هذه الأشياء يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس والحسن وابن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي لما روي عن أنس قال: «احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه» أخرجه الدارقطني وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض الوضوء ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاء فتوضأ قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال صدق أنا صببت له وضوءه» أخرجه الترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب.

المسألة الرابعة: من نواقض الوضوء زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم لما روي عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» أخرجه أبو داود وابن ماجة ويستثنى من ذلك النوم اليسير، قاعدا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض ويدل على ذلك ما روي عن أنس. قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينتظرون العشاء الأخيرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون أخرجه أبو داود وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة وعائشة وبه قال الحسن وإسحاق والمزني وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا وهو في الصلاة فلا وضوء عليه حتى يضطجع وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي لما روي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله» أخرجه أحمد بن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث. المسألة الخامسة: من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق غير أن الشافعي قال: ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف والرجل والمرأة في ذلك سواء ويدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مس ذكره فلا يصلّ حتى يتوضأ» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه وعن أم حبيبة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» أخرجه ابن ماجة وصححه أحمد وأبو زرعة وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أفضى بيده إلى ذكره وليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء» أخرجه أحمد بن حنبل وذهب قوم إلى أن مس الذكر لا يوجب الوضوء وهو قول علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه رجل كأنه بدوي فقال: «يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ قال هل هو إلّا مضغة أو قال بضعة منه؟» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي بأن قدومه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في أول الهجرة وهو يبني المسجد وأبو هريرة من آخرهم إسلاما. وقد روي انتقاض الوضوء بمس الذكر فصار حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق بن علي وأيضا فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث. وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة خصها الله تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» أخرجه مسلم وكان سبب بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله عز وجل آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته» أخرجاه في الصحيحين قولها بالبيداء البيداء: المفازة والقفر وكل صحراء فهي بيداء وجمعها بيد وذات

الجيش اسم لموضع وهو على بريد من المدينة وقولها فبعثنا البعير أي أثرناه قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هو معطوف على ما قبله والمعنى أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فطلبتم الماء لتطهروا به فلم تجدوه يعني فأعوزكم فلم تجدوه بثمن ولا بغير ثمن لأن المحدث مأمور بالتطهر بالماء فإذا أعوزه الماء عدل عنه إلى التيمم بعد طلب الماء. قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة طلب الماء فإن لم يجده تيمم وصلى ثم إذا دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الطلب للصلاة الثانية حجة الشافعي قوله تعالى فلم تجدوا ماء فعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم فإنه يجوز له التيمم مع وجدان ذلك الماء وقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أصل التيمم في اللغة القصد يقال تيممت فلانا إذا قصدته وهو في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة عند عدم الماء لتأدية الصلاة واختلفوا في الصعيد الطيب فقال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال ابن زيد الصعيد: المستوي من الأرض وكذلك قال الليث: الصعيد الأرض المستوية التي لا شيء فيها. وقال الفراء: الصعيد هو التراب وكذلك قال أبو عبيد في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والقعود بالصعدات» قال الصعدات الطرق مأخوذ من الصعيد وهو التراب وقيل الصعيد وجه الأرض البارز وهو اختيار الزجاج قال: الصعيد وجه الأرض ولا تبال أكان في الموضع تراب أو لا لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ونقل الربيع عن الشافعي في تفسير الصعيد قال: لا يقع اسم الصعيد إلّا على تراب ذي غبار فأما البطحاء الغليظة والرقيقة فلا يقع عليها اسم الصعيد فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار كالذي خالطه هو الصعيد قال ولا يتيمم بنورة ولا كحل ولا زرنيخ كل هذا حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك حجة وقد وافقه على ذلك الفراء وأبو عبيدة في أنه التراب وجميع الأقوال في الصعيد صحيحه في اللغة لكن المراد به هنا التراب وقد قال ابن عباس في قوله صعيدا هو التراب. واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم فذهب الشافعي إلى أنه يختص بما وقع عليه اسم التراب مما له غبار يعلق بالوجه واليدين لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» فخص التراب بالطهور ولأن الله تعالى وصف الصعيد بالطيب والطيب من الأرض هو الذي ينبت فيها بدليل قوله والبلد الطيب يخرج نباته فعلى هذا ما لا ينبت ليس بطيب ولنا أيضا قوله تعالى في سورة المائدة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وكلمة من للتبعيض هنا ولا يتأتى ذلك في الصخر الذي لا تراب عليه وأيضا فإنه يقال للغبار صعيد لأنه مأخوذ من الصعود وهو الارتفاع ولا يكون ذلك في الصخر وما أشبهه. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض كالرمل والجص والنورة والزرنيخ ونحو ذلك حتى لو ضرب يده على صخرة ملساء لا غبار عليها صح تيممه عندهم واحتج أبو حنيفة ومن وافقه بظاهر الآية قالوا لأن التيمم هو القصد والصعيد اسم لما تصاعد من الأرض فقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا أرضا فوجب أن يكون هذا القدر كافيا وأجيب عنه بما تقدم من الدليل في قوله منه وإن لفظة من تكون للتبعيض قالوا ولما روي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وأجيب عنه بأن هذا مجمل يفسره ما تقدم من حديث حذيفة في تخصيص التراب والمفسر يقضي على المجمل وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ومدر ونحو ذلك قالوا لأن اسم الصعيد يقع على ما تصاعد على الأرض وأجيب عنه بما تقدم من الأدلة. وقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ الوجه المسموح في التيمم هو المجدود في الوضوء واختلف العلماء فيما يجب مسحه من اليد فذهب أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وابنه سالم والحسن وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين وصورة ذلك أن يضرب كفيه على التراب ويمسح بهما وجهه ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور ثم يضرب ضربة أخرى ويفرق أصابعه فيمسح يديه

إلى المرفقين ويدل على ذلك ما روي عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه البيهقي ولم يضعفه وروي الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال مررت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد عليّ حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد على هذا حديث منقطع لأن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز لم يسمع هذا من ابن الصمة وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال دخلنا على أبي جهيم بن الحارث فقال أبو جهيم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار فوضع يده على الحائط فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام. ولأبي داود عن نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما أن قضى حاجته فكان من حديثه يومئذ أن قال مر رجل في سكة من سكك المدينة فلقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خرج من غائط أو بول فسلم عليه الرجل فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده على حائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ثم رد عليه السلام وقال: لم يمنعني إن أرد عليك أولا إلّا أني لم أكن على طهر وفي رواية فمسح ذراعيه إلى المرفقين فهذا أجود ما في هذا الباب. فإن البيهقي أشار إلى صحة إسناده وفيه دليل على الحكمين يعني مسح الوجه واليدين بضربتين وإيصال المسح إلى المرفقين وفيه دليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق بالوجه واليدين غبار التراب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حت الجدار بالعصى ولو كان مجرد الضرب كافيا لما كان حته. ذهب الزهري أنه يمسح اليد إلى المنكبين ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال تمسحوا وهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصعيد لصلاة الفجر بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم. كلها إلى المناكب والآباط ثم بطون أيديهم أخرجه أبو داود وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول علي وابن عباس وبه قال الشعبي وعطاء ومكحول وإليه ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد وداود الظاهري واحتجوا بما روي عن عمار بن ياسر قال: بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه، وباطنهما ووجهه وفي رواية أن تقول هكذا وضرب بيديه الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه أخرجاه في الصحيحين وجملته أن اليد اسم لهذه الجارحة وحدها عند بعض أهل اللغة من أطراف الأنامل إلى الكوع وهذا هو المقطوع في حد السرقة. وقال أبو إسحاق الزّجاج: حدها من أطراف الأنامل إلى الكتف فمن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم هو الكف. قال إن حد اليد هو المقطوع في حد السرقة ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المناكب والآباط نظر إلى أن مسمى اليد يطلق على جميعها ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المرفقين قال إن التيمم بدل عن الوضوء واليد المغسولة في الوضوء هي الممسوحة في التيمم فيحمل المطلق الذي في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم على المقيد الذي في قوله تعالى في آية الوضوء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم. (فصل وأركان التيمم خمسة) الأول تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين ويجوز بالرمل إذا كان عليه غبار. الثاني قصد الصعيد فلو تعرض لمهب الريح لم يكفه ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز وإن كان قادرا فوجهان. الثالث نقل التراب إلى الوجه واليدين. الرابع نية استباحة الصلاة فلو نوى رفع الحدث لم يصح وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل. الخامس مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب ولا يصح التيمم

[سورة النساء (4): آية 44]

لصلاة إلّا بعد دخول وقتها ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه إلى الوقت ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا ويشترط طلب الماء في السفر بأن يطلبه في رحله وعند رفقائه وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره حواليه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه عدل عنه لأن الله تعالى قال فلم تجدوا ماء فتيمموا ولا يقال لم يجد إلّا لمن طلب ولا يشترط طلب عند أبي حنيفة فإن رأى الماء ولا يقدر عليه لمانع من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء فهو كالعادم فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه والله أعلم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعني يتجاوز عن ذنوب عباده ويعفو ويصفح عنهم غَفُوراً ستورا على عباده يغفر الذنوب ويسترها وفيه تنبيه على أن الله تعالى رخص لعباده أمر العبادة ويسرها عليهم لأن من كانت عادته أن يغفر الذنوب ويعفو عنها كان أولى بأن يرخص للعاجزين أمر العبادة قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 44] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ نزلت في يهود المدينة وقال ابن عباس نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم اليهوديين كانا إذا تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه فأنزل الله تعالى ألم تر يعني ألم ينته علمك يا محمد إلى هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني أعطوا حظا من علم التوراة وذلك أنهم عرفوا نبوة موسى من التوراة وأنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم منها فلذلك أتى بمن التي هي للتبعيض وقيل إنهم علموا التوراة ولم يؤتوا العمل بها يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يؤثرون تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم ليأخذوا بذلك الرشا وتحصل لهم الرياسة وإنما ذكر بلفظ الشراء لأنه استبدال شيء بشيء وقيل فيه إضمار يعني يستبدلون الضلالة بالهدى وَيُرِيدُونَ يعني اليهود أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ يعني عن السبيل والمعنى أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يجتنبوا الإسلام. [سورة النساء (4): الآيات 45 الى 47] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ يعني أنه سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوب اليهود من العداوة والبغضاء لكم يا معشر المؤمنين فلا تنصحوهم فإنهم أعداؤكم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يعني متوليا أمركم والقائم به ومن كان الله تعالى وليه لم يضره أحد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يعني ينصركم عليهم فثقوا بولايته ونصره. وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل هو بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا وقيل هو متعلق بما قبله والتقدير وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا وقيل هو ابتداء الكلام وفيه حذف تقديره من الذين هادوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي يزيلونه ويغيرونه ويبدلونه

عَنْ مَواضِعِهِ يعني يغيرون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة وقال ابن عباس: كانت اليهود يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم به فيرى أنهم يأخذون بقوله فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه، وقيل المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وهو تحريف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى الباطل وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا يعني سمعنا قولك وعصينا أمرك وذلك أنهم كانوا إذا أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في الباطن: عصينا وقيل إنهم كانوا يظهرون ذلك القول عنادا واستخفافا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ هذه كلمة تحتمل المدح والذم فأما معناها في المدح اسمع غير مسمع مكروها. وأما معناها في الذم فإنهم كانوا يقولون اسمع منا ولا نسمع منك. وقيل إنهم كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم اسمع ثم يقولون في أنفسهم لا سمعت وقيل معناه غير مقبول منك ما تدعو إليه وقيل معناه غير مسمع جوابا يوافقك ولا كلاما ترتضيه وَراعِنا أي ويقولون راعنا يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه أرعنا سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت إلى قولنا ومثل هذا لا يخاطب به الأنبياء بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتفخيم لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أصله لويا لأنه من لويت الشيء إذا فتلته والمعنى أنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأظهره الله تعالى على خبث ضمائرهم وما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني ولو أنهم قالوا بدل سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا وَاسْمَعْ يعني بدل قولهم لا سمعت وَانْظُرْنا يعني بدل قولهم راعنا أي انظر إلينا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني عبد الله وَأَقْوَمَ يعني أعدل وأصوب وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني طردهم وأبعدهم من رحمته بِكُفْرِهِمْ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني فلا يؤمن من اليهود إلّا نفر قليل مثل عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل أراد بذلك القليل هو اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خطاب لليهود آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني التوراة وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف فقال يا معشر «اليهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» قالوا ما نعرف ذلك وأصروا على الكفر فأنزل الله هذه الآية وأمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد فقال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أصل الطمس إزالة الأثر بالمحو وذكروا في المراد بالطمس هاهنا وجهين: أحدهما أن يحمل على حقيقته والثاني أن يحمل على مجازه أما من حمله على الحقيقة فقال هو محو تخطيط صور الوجوه قال ابن عباس يجعلها كخف البعير وقيل نعيمها فيكون المراد بالوجه العين فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها يعني نجعلها على هيئة أدبارها وهي الاقفاء وقيل نديرها فنجعل الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام وإنما جعل الله هذا عقوبة لهم لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة، وعند هذا يحصل لهم الغم وتكثر الحسرات فعلى هذا يكون هذا الوعيد مختصا بيوم القيامة. وأما من حمل الطمس على المجاز فقال المراد به نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها يعني على ضلالتها وقيل المراد بالطمس طمس القلب والبصيرة فنردها على أدبارها يعني بتغيير أحوالهم فنلبسهم الصغار والذلة بعد العز وقيل المراد بالطمس محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاءوا وهو إجلاء بني النضير فإن قلت قد أوعدهم وهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يؤمنوا فلم يفعل بهم ذلك قلت هذا الإشكال إنما يرد على من فسر الطمس بتغيير الوجوه ومحو تخطيطها وحمله على الحقيقة والجواب عنه إن هذا مشروط بعدم الإيمان وقد آمن منهم ناس فرفع عن الباقين. وروي أن عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي إلى قفاي وكذلك روي عن كعب الأحبار أنه لما سمع هذه الآية في خلافة عمر بن الخطاب أسلم. وقال يا رب أسلمت مخافة أن يصيبني وعيد هذه الآية فكان هذا الوعيد مشروطا بأن لا يؤمن أحد منهم وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن

[سورة النساء (4): آية 48]

منهم جمع كثير في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأصحابه ففات الشرط لفوات المشروط وقيل إن الطمس باق في اليهود فيكون فيهم طمس ومسخ قبل يوم القيامة وقيل إنه تعالى جعل الوعيد بأحد شيئين إما بالطمس أو باللعنة وهو قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي نجعلهم قردة كما فعلنا بأوائلهم وفي المراد من لعنهم الطرد والإبعاد من الرحمة والكناية في نلعنهم تعود إلى المخاطبين في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهذا على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وجرين بهم بريح طيبة وقد يحتمل أن يكون معناه من قبل أن نطمس وجوها فنردها ونلعن أصحاب الوجوه فنجعل الكناية في قوله أو نلعنهم عن ذكر أصحاب الوجوه إذا كان في الكلام دلالة عليهم. وقوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا يعني لا بد وأن يقع بهم ذلك إن لم يؤمنوا فلا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يمتنع عليه شيء يريد أن يفعله وقيل معناه وكان مأمور الله مفعولا والأمر هنا في موضع المأمور سمي أمرا لأنه عن أمره كان. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قال ابن جرير الطبري معناه يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فعلى هذا يكون في الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع وقيل إن الآية نزلت في وحشي وأصحابه، وذلك لما قتل حمزة رضي الله عنه ورجع إلى مكة ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنا ندمنا على ما صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنا سمعناك بمكة تقول والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى آخر الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآيتين فبعث بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فلما قرءوهما كتبوا إليه إن هذا شرط شديد ونخاف أن لا نعمل عملا صالحا فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فبعث إليهم فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقبل منهم ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال ويحك غيب وجهك عني فلحق بالشام فكان به إلى أن مات وقيل لما نزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية قام رجل فقال: يا رسول الله والشرك؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية ومعنى الآية أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعني ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أصحاب الذنوب والآثام. ففي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإنه في خطر المشيئة إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بمنه وكرمه وإن شاء عذبه بالنار ثم أدخله الجنة برحمته وإحسانه لأن الله تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك فإن مات على الشرك فهو مخلد في النار لقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وفي الآية رد على المعتزلة والقدرية حيث قالوا: لا يجوز في الحكمة أن يغفر لصاحب كبيرة وعند أهل السنة أن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له ولا حجر عليه ويدل على ذلك أيضا ما روي عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين الرجل يعمل من الصالحات لم يدع من الخير شيئا إلّا عمله غير أنه مشرك قال عمر هو في النار فقال ابن عباس الرجل لم يدع شيئا من الشر إلّا عمله غير أنه لم يشرك بالله شيئا فقال عمر: الله أعلم قال ابن عباس: إني لأرجو له كما أنه لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. عن علي بن أبي طالب

[سورة النساء (4): الآيات 49 إلى 50]

قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك به دخل النار. وقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ يعني يجعل معه شريكا غيره فَقَدِ افْتَرى أي اختلق إِثْماً عَظِيماً يعني ذنبا عظيما غير مغفور إن مات عليه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا قالوا: ما نحن إلّا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى والتزكية هنا عبارة عن مدح الإنسان نفسه الصلاح والدين منه تزكية الشاهد حتى يصير عدلا قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى وهي صفة في الباطن فلا يعلم حقيقتها إلّا الله تعالى فلا تصلح التزكية إلّا من عند الله تعالى فلهذا قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ويدخل في هذا المعنى كل من ذكر نفسه بصلاح أو وصفها بزكاء العمل أو بزيادة الطاعة والتقوى أو بزيادة الزلفى عند الله تعالى فهذه الأشياء لا يعلمها إلّا الله تعالى فلهذا قال: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ومعنى يزكون أنفسهم يزعمون أنهم أزكياء لأنهم برءوا أنفسهم من الذنوب قال تعالى ردا عليهم: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فيجعله زاكيا وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا يعني أن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية من غير ظلم وقيل معناه إن الذين زكاهم الله لا ينقصون من ثواب طاعتهم شيئا والفتيل المفتول وسمي ما يكون في شق النواة فتيلا لكونه على هيئته وقيل الفتيل هو ما تفتله بين أصابعك من وسخ وغيره ويضرب به المثل في الشيء الحقير الذي لا قيمة له انْظُرْ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم انظر يا محمد إلى هؤلاء اليهود كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعني قولهم أنهم لا ذنوب لهم وتزكيتهم أنفسهم وَكَفى بِهِ أي بذلك الكذب إِثْماً مُبِيناً قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 51] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ نزلت في كعب بن الأشرف وسبعين راكبا من اليهود قدموا مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزل باقي اليهود على قريش في دورهم أهل مكة أنتم فقال لهم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا إلى هذين الصنمين ففعلوا ذلك فذلك قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب بن الأشرف لأهل مكة ليجيء منكم ثلاثون رجلا ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ثم قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى سبيلا نحن أم محمد؟ قال كعب اعرض علي دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد

[سورة النساء (4): الآيات 52 إلى 56]

فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد فأنزل الله تعالى ألم تر يعني يا محمد إلى الذين أوتوا تصيبا من الكتاب يعني كعب بن الأشرف وأصحابه اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني سجودهم للصنمين واختلف العلماء فيهما الجبت والطاغوت كل معبود دون الله تعالى، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش وقيل الجبت اسم للأصنام والطاغوت شياطين الأصنام ولكل صنم شيطان يعبر فيها ويكلم الناس فيغترون بذلك وقيل الجبت الكاهن والطاغوت الساحر عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «العيافة والطيرة والطرق من الجبت» أخرجه أبو داود وقال الطرق الزجر والعيافة الخط وقيل العيافة هي زجر الطير وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا خرج لأمر زجر طيرا فإذا أخذ ذات اليمين مضى في حاجته وإذا أخذ ذات الشمال رجع فنهوا عن ذلك والطرق هو ضرب الحجارة والحصا على طريق الكهانة فنهوا عنه والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه وقيل هو من التطير وهو زجر الطائر والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير وقيل الجبت كل ما حرم الله تعالى والطاغوت كل ما يطغى الإنسان وقيل الجبت هو حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف اليهوديان وكانا طاغية اليهود وَيَقُولُونَ يعني كعب بن الأشرف وأصحابه لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لكفار قريش هؤُلاءِ يعني أنتم يا هؤلاء أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا يعني طريقا. [سورة النساء (4): الآيات 52 الى 56] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني كعب بن الأشرف وأصحابه وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ يعني يطرده من رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يعني ينصره. قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ هذا استفهام انكار يعني ليس لهم من الملك شيء البتة وذلك أن اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأكذبهم الله تعالى وأبطل دعواهم فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً هذا جواب وجزاء لمضمر تقديره ولئن كان لهم نصيب وحظ من الملك فلا يؤتون الناس منه نقيرا وصفهم بالبخل في هذه الآية ووصفهم بالجهل في الآية المتقدمة ووصفهم بالحسد في الآية الآتية. وهذه الخصال كلها مذمومة فكيف يدعون الملك وهي حاصلة فيهم والنقير التي تكون على ظهر النواة ومنها تنبت النخلة ويضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له. قوله عز وجل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أصل الحسد تمني زوال النعمة عمن هو مستحق لها وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها وصف الله اليهود بشر خصلة وهي الحسد والمراد بالناس محمد صلّى الله عليه وسلّم وحده وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه صلّى الله عليه وسلّم اجتمع فيه من خصال الخير والبركة ما لا يجتمع مثله في جماعة ومن هذا القبيل يقال فلان أمة وحده يعني أن يقوم مقام أمة، وقيل المراد بالناس النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لأن لفظ الناس جمع وحمله على الجمع أولى والمراد بالفضل النبوة لأنها أعظم المناصب وأشرف المراتب، وقيل حسدوه على ما أحلّ الله له من النساء وكان له يومئذ تسع نسوة. فقالت اليهود لو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن الاهتمام بأمر النساء فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني أنه قد حصل في أولاد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم جماعة كثيرون جمعوا بين الملك والنبوة مثل داود وسليمان

[سورة النساء (4): الآيات 57 إلى 58]

عليهما السلام فلم يشغلهم الملك عن أمر النبوة والمعنى كيف يحسدون محمدا صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضله وقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وأنتم لا تحسدونهم. والمراد بالكتاب التوراة وبالحكمة النبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً يعني فلم يشغلهم عن النبوة فمن فسر الفضل بكثرة النساء فسر الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ إلّا تسع نسوة ولما لم يكن ذلك مستبعدا في حقهم ولا نقصا في نبوتهم فلا يكون مستبعدا في حق محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا نقصا في نبوته فَمِنْهُمْ يعني من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل الله إليه كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي أعرض عنه ولم يؤمن به وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً يعني وكفى في عذاب من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم سعيرا. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً هذا وعيد من الله عزّ وجلّ للذين أقاموا على كفرهم وتكذيبهم بما أنزل الله عز وجل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من اليهود وغيرهم من سائر الكفار والمعنى إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد من آياتي الدالة على توحيدي وصدق رسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم سوف نصليهم نارا أي ندخلهم نارا نشويهم فيها: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يعني احترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها يعني غير الجلود المحترقة قال ابن عباس: يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس. وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب فقال عمر للقارئ: أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ: عندي تفسيرها تبدل في كل ساعة مائة مرة فقال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكره البغوي بغير سند وقال الحسن تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة (ق) عن أبي هريرة يرفعه ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع (م) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضرس الكافر أو قال ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام». فإن قلت كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ قلت يعاد الجلد الأول في كل مرة وإنما قال جلودا غيرها لتبديل صفتها كما تقول صغت من خاتمي خاتما غيره، فالثاني هو الأول غير أن الصناعة بدلت الصفة وقيل إن العذاب للجملة الحساسة وهي النفس التي عصت فإن كان كذلك فغير مستحيل إن الله يخلق للكافر في كل ساعة من الجلود ما لا يحصى لتحترق ويصل ألمها وقيل المراد بالجلود السرابيل وهو قوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ والمعنى كلما نضجت سرابيلهم واحترقت بدلناهم سرابيل من قطران غيرها لأن الجلود لو احترقت لفنيت وفي فنائها راحتها وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون فيها ولا يخفف عنهم من عذابها ولأن الجلد أحد أجزاء الجسم فثبت أن التبديل إنما هو للسرابيل وقيل يبدل الجلد من نفس الكافر فيخرج من لحمه جلدا وقيل إن الله تعالى يلبس أهل النار جلودا لا تألم لتكون زيادة في عذابهم كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره. وقوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي إنما فعلنا بهم ذلك ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته وإنما أتى بلفظ الذوق مع ما ينالهم من عظم العذاب الذي نالوه إخبارا بأن إحساسهم به في كل حال فإحساس الذائق في تجديد وجدان الذوق من غير نقصان في الإحساس إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه أحد حَكِيماً يعني في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلّا ما هو الصواب. [سورة النساء (4): الآيات 57 الى 58] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ يعني سوف ندخلهم يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها

يعني باقين فيها أَبَداً يعني ذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع لَهُمْ فِيها يعني في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ يعني مطهرات من الحيض والنفاس وسائر أقذار الدنيا وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كنينا ذلك الظل لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم فيه حر ولا برد وذلك الظل هو ظل الجنة. فإن قلت إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ قلت إنما خاطبهم بما يعقلون ويعرفون وذلك لأن بلاد العرب في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة واللذة فهو كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قال البغوي نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة فلما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح فقيل له: إنه مع عثمان فطلب منه رسول الله المفتاح فأبى وقال لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وأن يجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله هذه الآية فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك فقال له عثمان: أكرهت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل الله عز وجل في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فأسلم فكان المفتاح معه إلى أن مات فدفعه إلى أخيه شيبة فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة. قلت وفيما ذكره البغوي رحمه الله من إسلام عثمان بن طلحة يوم الفتح ومنعه المفتاح وقوله لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح نظر والصحيح ما حكاه أبو عمر بن عبد البر وابن مندة وابن الأثير أن عثمان بن طلحة هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها يعني أنهم وجوه أهل مكة فأسلموا وسلم عثمان بن طلحة المفتاح للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فرده النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه وقال خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلّا ظالم ولم يذكروا سؤال العباس السدانة والله أعلم. وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان حتى أناخ عند البيت ثم قال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح الباب. وذكر الحديث وذكر ابن الجوزي في تفسير هذه الآية من رواية أبي صالح عن ابن عباس قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه إلي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هات المفتاح فأعاد العباس قوله وكف عثمان يده فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم هات المفتاح أن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول الله بأمانة الله فأخذ المفتاح الباب ونزل جبريل بهذه الآية فدعا عثمان ودفعه إليه ففي هذه الرواية أيضا ما يدل على تقدم إسلام عثمان بن طلحة على فتح مكة. لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر يدل على ذلك فعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله إن الله يأمركم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أن الله أمره أن يرد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة. وقيل الخطاب في قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لولاة أمور المسلمين من الأمراء والحكام وغيرهم ويدل على ذلك سياق الآية وهو قوله وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ومعنى الآية إن الله يأمركم يا ولاة الأمور أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من أمور رعيتكم وأن توفوهم حقوقهم وأن تعدلوا بينهم. وقيل إن الآية عامة في جميع الأمانات ولا يمتنع من خصوص السبت عموم الحكم فيدخل في ذلك جميع الأمانات التي حملها الإنسان ويقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول رعاية الأمانة في عبادة الله عز وجل وهو فعل المأمورات وترك المنهيات قال ابن مسعود الأمانة لازمة في كل شيء حتى في الوضوء والغسل من الجنابة والصلاة والزكاة والصوم وسائر أنواع العبادات. القسم الثاني هو رعاية الأمانة مع

[سورة النساء (4): آية 59]

نفسه وهو ما أنعم الله به عليه من سائر أعضائه فأمانة اللسان حفظه من الكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك وأمانة العين غضها عن المحارم وأمانة السمع أن لا يشغله بسماع شيء من اللهو والفحش والأكاذيب ونحوه ثم سائر الأعضاء على نحو ذلك. القسم الثالث هو رعاية أمانة العبد مع سائر عباد الله تعالى فيجب عليه رد الودائع والعواري إلى أربابها الذين ائتمنوه عليها ولا يخونهم فيها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب ويدخل في ذلك وفاء الكيل والميزان فلا يطفف فيهما ويدخل في ذلك أيضا عدل الأمراء والملوك في الرعية ونصح العلماء للعامة فكل هذه الأشياء من الأمانة التي أمر الله عز وجل بأدائها إلى أهلها وروى البغوي بسنده عن أنس قال قلما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». وقوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ يعني وإن الله يأمركم أن تحكموا بين الناس بالعدل فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له وأصل العدل هو المساواة في الأشياء فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمي عدلا قال بعض العلماء ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلسا إمام عادل وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يعني أنه تعالى سميع لما تقولون وبصير بما تفعلون فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (ق) عن ابن عباس قال لما نزل قوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول الله وأولي الأمر منكم» الآية قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سرية وقال السدي نزلت في خالد بن الوليد وذلك أنه بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سرية وفيها عمار بن ياسر فلما قربوا من القوم هربوا منهم وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ مال الرجل فقال عمار إني قد أمنته وقد أسلم فقال خالد أتجير علي وأنا الأمير فتنازعا وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فأنزل الله تعالى أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وأصل الطاعة الانقياد وهو امتثال الأمر فطاعة الله عز وجل امتثال أمره فيما أمر والانقياد لذلك الأمر وطاعة الله واجبة على كافة الخلق. وكذا طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم واجبة أيضا لقوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فأوجب طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الخلق واختلف العلماء في أولي الأمر الذين أوجب طاعتهم بقوله وأولي الأمر منكم. يعني وأطيعوا أولي الأمر منكم قال ابن عباس وجابرهم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون معالم الناس دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد وقال أبو هريرة الأمراء والولاة. وهي رواية عن ابن عباس أيضا قال علي بن أبي طالب حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع

[سورة النساء (4): آية 60]

الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني» (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلّا إن يؤمر بمعصية الله فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (خ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله» وقال ميمون بن مهران هم أمراء السرايا والبعوث وهي رواية عن ابن العباس أيضا ووجه هذا القول أن الآية نازلة فيهم. وقال عكرمة: أراد بأولي الأمر. أبا بكر وعمر لما روي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أخرجه الترمذي وقيل هم جميع الصحابة لما روي عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» أخرجه رزين في كتابه وروى البغوي بسنده عن الحسن قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلّا بالملح» قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب قول من قال هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله عز وجل طاعة وللمسلمين مصلحة وقال الزّجاج: وجملة أولي الأمر من يقوم بشأن المسلمين في أمر دينهم وجميع ما أدى إليه صلاحهم قال العلماء طاعة الإمام واجبة على الرعية ما دام على الطاعة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق. وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني اختلفتم في شيء من أمر دينكم والتنازع اختلاف الآراء وأصله من انتزاع الحجة وهو أن كل واحد من المتنازعين ينزع الحجة لنفسه فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي ردوا ذلك الأمر الذي تنازعتم فيه إلى كتاب الله عز وجل وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما دام حيا وبعد وفاته فردوه إلى سنته والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم واجب إن وجد ذلك الحكم في كتاب الله أخذ به فإن لم يوجد في كتاب الله ففي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن لم يوجد في السنة فسبيله الاجتهاد وقيل الرد إلى الله ورسوله أن يقول لما لا يعلم الله ورسوله أعلم إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني افعلوا ذلك الذي أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بالله وإن طاعته واجبة عليكم وتؤمنون بالميعاد الذي فيه جزاء الأعمال قال العلماء في الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب طاعة الله وطاعة الرسول ومتابعة السنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكون مؤمنا بالله وباليوم الآخر ذلِكَ خَيْرٌ يعني رد الحكم إلى الله ورسوله خير وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يعني وأحمد عاقبة وقيل معناه ذلك أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الله ورسوله أحسن تأويلا منكم له وأعظم أجرا. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قال ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي ننطلق إلى محمد وقال المنافق بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله الطاغوت فأبى اليهودي أن يخاصمه إلّا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فأتيا عمر فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصمي إليك فقال عمر للمنافق أكذلك قال؟ قال نعم فقال لهما عمر: رويدا حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت هذه الآية وقال جبريل إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق. وقال السدي كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير

[سورة النساء (4): الآيات 61 إلى 62]

في الجاهلية وكانت قريظة حلفاء الخزرج والنضير حلفاء الأوس وكان إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذت ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقا فلما جاء الإسلام وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك فقال بنو النضير كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلوا منا وديتنا مائة وسق وديتكم ستون وسقا فنحن نعطيكم ذلك فقالت الخزرج هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا على ذلك، فاليوم نحن إخوة في الدين فلا فضل لكم علينا فقال المنافقون منهم ننطلق إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين بل ننطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة الكاهن ليحكم بينهم فقال أطعموا اللقمة يعني الخطر فقالوا لك عشرة أوسق فقال لا بل مائة وسق ديتي فأبوا أن يعطوه إلّا عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله عز وجل آيتي القصاص وأنزل هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الزعم والزعم بضم الزاي وفتحها لغتان وأكثر ما يستعمل الزعم بمعنى القول الذي لا يتحقق. وقيل هو حكاية قول يكون مظنة للكذب ولذلك قيل زعم مطية الكذب والمراد به في هذه الآية الكذب لأن الآية نازلة في المنافقين وظاهر الآية يدل على أنها نازلة في الذين نافقوا من مؤمني أهل الكتاب ويدل عليه قوله آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يرون أن يتحاكموا إلى الطاغوت يعني كعب بن الأشرف في قول ابن عباس سماه الله طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل هو أبو بردة الكاهن في قول السدي وقد أمروا أن يكفروا به يعني بالطاغوت لأن الكفر بالطاغوت إيمان بالله عز وجل: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ يعني عن طريق الهدى والحق ضَلالًا بَعِيداً. [سورة النساء (4): الآيات 61 الى 62] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني للمنافقين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ يعني هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه وإلى الرسول ليحكم بينكم به رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً يعني يعرضون عنك وعن حكمك إعراضا وأي إعراض وإنما أعرض المنافقون عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم علموا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يحكم بينهم بالحق الصريح ولا يقبل الرشا. قوله عز وجل: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعني فكيف حال هؤلاء المنافقين وكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة يعجزون عنها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني تصيبهم عقوبة بسبب ما قدمت أيديهم وهو التحاكم إلى غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا وعيد لهم على سوء صنيعهم ورضاهم بحكم الطاغوت دون حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل المصيبة هي قتل عمر لذلك المنافق وقيل هي كل مصيبة تصيب في الدنيا والآخرة ثُمَّ جاؤُكَ يعني المنافقين حين تصيبهم المصائب يعتذرون إليك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً يعني في التحاكم إلى غيرك لا إساءة وَتَوْفِيقاً يعني بين الخصمين لا مخالفة لك في حكمك وقيل جاء أولياء المنافق الذي قتله عمر يطلبون ديته وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلّا أن يحسن إلى صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا فأهدر الله ذلك المنافق.

[سورة النساء (4): الآيات 63 إلى 65]

[سورة النساء (4): الآيات 63 الى 65] أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني عن عقوبتهم وقيل عن قبول عذرهم وَعِظْهُمْ يعني باللسان والمراد زجرهم بالوعظ عن النفاق والكفر والكذب وتخويفهم بعذاب الآخرة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يعني بليغا يؤثر في قلوبهم موقعه وهو التخويف بالله عز وجل وقيل هو أن يوعدهم بالقتل إن لم يتوبوا من النفاق. وقيل هو أن يقول إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأن هذا القول يبلغ في نفوسهم كل مبلغ وقيل معناه فأعرض عنهم في الملأ وقل لهم في أنفسهم إذا خلوت بهم قولا بليغا أي اغلظ لهم في القول خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا لهم بالنصيحة لأنها في السر أنجع. وقيل هذا الإعراض منسوخ بآية القتال وقد تكلم العلماء في حد البلاغة فقال بعضهم البلاغة إيصال المعنى إلى الفهم في أحسن صورة من اللفظ وقيل البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل البلاغة سرعة الإيجاز مع الإفهام وحسن التصرف من غير إدجار. وقيل أحسن الكلام ما قلت ألفاظه وكثرت معانيه وقيل خير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره وقيل لا يستحق الكلام اسم البلاغة إلّا إذا طابق لفظه معناه ومعناه لفظه ولم يكن لفظه إلى السمع أسبق من معناه إلى القلب. وقيل المراد بالقول البليغ في الآية أن يكون حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والإعذار والإنظار والوعد والوعيد بالثواب والعقاب، فإن الكلام إذا كان كذلك عظم وقعه في القلوب وأثر في النفوس. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ قال الزجاج لفظه من هنا صلة مؤكدة والمعنى وما أرسلنا رسولا إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ يعني بأمر الله والمعنى إنما وجبت طاعة الرسول بأمر الله لأن الله أذن في ذلك وأمر به وقيل معناه بعلم الله وقضائه أي طاعته تكون بإذن الله لأنه أذن فيه فتكون طاعة الرسول طاعة الله ومعصيته معصية الله والمعنى وما أرسلنا من رسول إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليهم وأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلوا إليهم ففيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضوا بحكم الطاغوت وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني الذين تحاكموا إلى الطاغوت ظلموا أنفسهم بالتحاكم إليه جاؤُكَ يعني جاءوك تائبين من النفاق والتحاكم إلى الطاغوت متنصلين مما ارتكبوا من المخالفة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ يعني من ذلك الذنب بالإخلاص وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد حكمك والتحاكم إلى غيرك وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ يعني من مخالفته والتحاكم إلى غيره وإنما قال واستغفر لهم الرسول ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفخيما له وتعظيما لاستغفاره وأنهم إذا جاءوه فقد جاءوا من خصه الله برسالته وجعله سفيرا بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فإن الله تعالى لا يرد شفاعته فلهذا السبب عدل إلى طريقة الالتفات من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً يعني لو أنهم تابوا من ذنوبهم ونفاقهم واستغفرت لهم لعلموا أن الله يتوب عليهم ويتجاوز عنهم ويرحمهم. قوله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ نزلت هذه الآية في الزبير بن العوام ورجل من الأنصار (ق) عن عروة بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

[سورة النساء (4): الآيات 66 إلى 68]

يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ زاد البخاري فاستوعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك قد أشار على الزبير رأيا أي أراد سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم قال الزبير والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك. قوله في شراج الحرة الشراج مسايل الماء التي تكون من الجبل وتنزل إلى السهل الواحدة شرجة بسكون الراء والحرة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السود وقوله فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني تغير وقوله فلما أحفظ أي أغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله حتى يرجع إلى الجدر هو بفتح الجيم يعني أصل الجدار وقوله فاستدعى له أي استوفى له حقه في صريح الحكم. وهو أن من كان أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الوادي وحقه تمام السقي فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أبى خصمه ذلك ولم يعترف بما أشار به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسامحة لأجله أمر الزبير باستيفاء حقه على التمام وحمل خصمه على مر الحق. فعلى هذا القول تكون الآية مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها قال البغوي: وروي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعا موسى إلى التوبة منه فقال فاقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت. وقال مجاهد والشعبي نزلت هذه الآية في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى الطاغوت. وعلى هذا القول تكون الآية متصلة بما قبلها فلا وربك معناه فوربك فعلى هذا تكون لا مزيدة لتأكيد معنى القسم. وقيل إن لا رد لكلام سبق كأنه قال ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم فقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم يعني فيما اختلفوا فيه من الأمور وأشكل عليهم حكمه وقيل فيما التبس عليهم يقال شاجره في الأمر إذا نازعه فيه وأصله التداخل والاختلاط وشجر الكلام إذا خل بعضه في بعض واختلط ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يعني ضيقا مما قضيت وقيل شكا فيما قضيت بل يرضوا بقضائك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يعني وينقادوا لأمرك انقيادا أو لا يعارضونك في شيء من أمرك وقيل معناه يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي فرضنا وأوجبنا عليهم الضمير في عليهم يعود على المنافقين وقيل يعود الضمير على الكافة فيدخل فيه المنافق وغيره أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ يعني كما كتبنا على بني إسرائيل القتل والخروج من مصر ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ معناه لم يفعله إلا القليل منهم نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أن رجلا من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا القتل والخروج ففعلنا فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا وهو من القليل الذي استثنى الله وقيل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم القليل الذين ذكرهم الله والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي» ومن قال إن الضمير في عليهم يعود إلى المنافقين قال معنى ما فعلوه إلا قليل منهم يعني رياء وسمعة والمعنى إن ما كتبنا عليهم إلا طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والرضا بحكمه ولو أنا كتبنا عليهم القتل والخروج من الدور والوطن ما كان فعله إلا نفر يسير منهم وقرئ «إلا قليلا منهم» بالنصب وتقديره إلا أن يكون قليلا منهم وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ يعني

[سورة النساء (4): الآيات 69 إلى 70]

ولو أنهم فعلوا ما كلفوا به من طاعة الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والرضا بحكمه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني في الدنيا والآخرة وإنما سمي ذلك التكليف وعظا لأن أوامر الله تعالى وتكاليفه مقرونة بالوعد والوعيد والثواب والعقاب وما كان كذلك يسمى وعظا وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً يعني تحقيقا وتصديقا لإيمانهم، والمعنى أن ذلك أقرب إلى إثبات إيمانهم وتصديقهم وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا وافرا جزيلا وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت قال هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً قال ابن عباس معناه ولأرشدناهم إلى دين مستقيم يعني دين الإسلام وقيل معناه ولهديناهم إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى المستقيم وهو الصراط الذي يمر عليه المؤمنون إلى الجنة لأن الله تعالى ذكر الأجر العظيم أولا ثم ذكر الصراط المستقيم بعده لأنه هو المؤدي إلى الجنة. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما غير لونك فقال يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك. ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف أن لا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين وإني أخاف إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية وقيل إن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: كيف يكون الحال وأنت يا رسول الله في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ يعني في أداء الفرائض واجتناب النواهي وَالرَّسُولَ أي ويطع الرسول في السنن التي سنها فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم يعني بالهداية والتوفيق في الدنيا وبدخول الجنة في الآخرة مِنَ النَّبِيِّينَ يعني أن المطيعين مع النبيين في الجنة لا تفوتهم رؤية الأنبياء في الجنة ومجالستهم لأنهم يكونون في درجتهم في الجنة لأن ذلك يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول وَالصِّدِّيقِينَ الصدّيق الكثير الصدق فعيل من الصدق والصديقون هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم حتى لحقوا بهم وقيل الصديق هو الذي صدق بكل الدين حتى لا يخالطه فيه شك والمراد بالصديقين في هذه الآية أفاضل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأبي بكر فإنه هو الذي سمي بالصديق من هذه الأمة وهو أفضل أتباع الرسل وَالشُّهَداءِ هم الذين استشهدوا في سبيل الله وقيل هم الذين استشهدوا يوم أحد وَالصَّالِحِينَ جمع صالح وهو الذي استوت سريرته وعلانيته في الخير. وقيل الصالح من اعتقاده صواب وعمله في سنة وطاعة وقيل المراد بالنبيين هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وبالصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة وَحَسُنَ أُولئِكَ يعني المشار إليهم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وفيه معنى التعجب كأنه قال وما أحسن أولئك رَفِيقاً يعني في الجنة والرفيق الصاحب سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته وإنما وحد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع وقيل معناه وحسن كل واحد من أولئك رفيقا (ق) عن أنس أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الساعة: فقال متى الساعة قال: «وما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال أنت مع من أحببت» قال أنس فما فرحنا بشيء أشد فرحا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم أنت مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم. وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف الثواب الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ يعني الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً يعني بجزاء من أطاعه وقيل معناه وكفى بالله عليما بعباده فهو يوفقهم لطاعته وفيه دليل على أنهم لم ينالوا

[سورة النساء (4): الآيات 71 إلى 74]

تلك الدرجة بطاعتهم بل إنما نالوها بفضل الله تعالى ورحمته ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة» لفظ البخاري ولمسلم نحوه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 71 الى 74] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر احتراز من مخوف والمعنى احذروا واحترزوا من عدوكم. ولا تمكنوه من أنفسكم وقيل المراد بالحذر هنا السلاح يعني خذوا سلاحكم وعدتكم لقتال عدوكم وإنما سمي السلاح حذرا لأن به يتقى ويحذر. وقيل معناه احذروا عدوكم ولقائل أن يقول إذا كان المقدور كائنا فما يمنع الحذر فالجواب عنه بأنه لما كان الكل بقضاء الله وقدره كان الأمر بأخذ الحذر من قضاء الله وقدره فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا سرايا متفرقين سرية بعد سرية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً يعني أو اخرجوا جميعا كلكم مع نبيكم صلّى الله عليه وسلّم إلى جهاد عدوكم وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ نزلت في المنافقين. وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام لا في حقيقة الإيمان والمعنى وإن منكم لمن ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد وهو عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وكان رأس المنافقين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قالَ يعني هذا المنافق قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ يعني بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ يعني مع المؤمنين شَهِيداً يعني حاضر الوقعة فيصيبني ما أصابهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ يعني هذا المنافق كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي معرفة ومودة في الدين والمعنى كأنه ليس من أهل دينكم وذلك أن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين في الظاهر يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة التي غنم فيها المؤمنون فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي فآخذ نصيبا وافرا من الغنيمة. قوله عز وجل: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا خطاب للمنافق أي فليخلص الإيمان وليقاتل في سبيل الله وقيل هو خطاب للمؤمنين المخلصين أي فليقاتل المؤمنون في سبيل الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعون يقال شريت بمعنى بعت لأنه استبدال عوض بعوض. والمعنى فليقاتل المؤمنون الكافرين الذين يبيعون حياتهم في الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله فيها لأهل الإيمان والطاعة وقيل معناه فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدنيا ويختارون الآخرة وثوابها على الدنيا الفانية وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أي فيستشهد أَوْ يَغْلِبْ يعني يظفر بعدوه من الكفار فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في كلا الحالتين الشهادة أو الظفر نؤتيه فيهما أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا وافرا (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة» لفظ مسلم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 75 الى 76] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون: هذا حض من الله على الجهاد في سبيله لاستنقاذ

[سورة النساء (4): الآيات 77 إلى 78]

المؤمنين المستضعفين من أيدي الكفار وفيه دليل على أن الجهاد واجب والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ قال ابن عباس يريد أن قوما من المؤمنين استضعفوا فحبسوا وعذبوا وقيل كان هؤلاء بمكة يلقون من المشركين أذى شديدا. وكان أهل مكة قد اجتهدوا أن يفتنوا قوما من المؤمنين عن دينهم بالأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم ولم يكن لهم بمكة قوة يمتنعون بها من المشركين فعلى هذا يكون معنى الآية: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين. وقال ابن عباس معناه وعن المستضعفين لأن المراد صرف الأذى عنهم (خ) عن ابن عباس في قوله: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ الآية. قال كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية ابن أبي مليكة قال تلا ابن عباس إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ قال كنت أنا وأمي ممن عذر الله أنا من الولدان وأمي من النساء فعلى هذه الرواية الثانية من حديث ابن عباس يكون معنى والمستضعفين إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فإنهم ممن عذر الله في ترك القتال والولدان جمع وليد وهو الصبي الصغير الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة الظَّالِمِ أَهْلُها يعني الظالم أهلها أنفسهم بالشرك لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وذلك أن المستضعفين لما منعهم المشركون من الهجرة من مكة إلى المدينة دعوا الله عز وجل فقالوا ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها بالشرك وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعني وليا يلي أمرنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يعني يبصرنا ويمنعنا من العدو فاستجاب الله دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتولى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة واستعمل عليهم عتاب بن أسيد وكان ابن ثمان عشرة سنة فكان ينصر المظلومين على الظالمين ويأخذ للضعيف من القوي. قوله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله وإعلاء كلمته وابتغاء مرضاته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ يعني في طاعة الشيطان فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي فقاتلوا أيها المؤمنون حزب الشيطان وجنوده وهم الكفار إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً الكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال ويعني بكيده ما كاد المؤمنين به من تخويفه أولياءه الكفار يوم بدر وكونه ضعيفا لأنه خذل أولياءه الكفار لما رأى الملائكة قد نزلت يوم بدر وكان النصر لأولياء الله وحزبه على أولياء الشيطان وإدخال كان في قوله ضعيفا لتأكيد ضعف كيد الشيطان. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 77 الى 78] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة قبل أن يهاجروا فكانوا يقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا فيقول لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» يعني قيل لهم كفوا أيديكم عن قتالهم وأدوا ما افترض عليكم من الصلاة والزكاة وفيه دليل

[سورة النساء (4): آية 79]

على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني يخافون مشركي مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أو بمعنى الواو يعني وأشد خشية وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يعني لم فرضت علينا الجهاد لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني هلّا تركتنا ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا والقائلون لهذا القول هم المنافقون لأن هذا القول لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله بعض المؤمنين وإنما قالوا ذلك خوفا وجنبا لا اعتقادا ثم إنهم تابوا من هذا القول قُلْ أي قل لهم يا محمد مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ يعني أن منفعتها والاستمتاع بالدنيا قليل لأنه فان زائل وَالْآخِرَةُ يعني وثواب الآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يعني اتقى الشرك ومعصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل (م) عن المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يعني بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع». قوله عز وجل: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم بهذه الآية وقيل نزلت في الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فرد الله عليهم بقوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يعني ينزل بكم الموت فبيّن تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت وإذا كان لا بد لهم من الموت كان القتل في القتال في سبيل الله وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش لأن الجهاد موت تحصل به سعادة الآخرة ثم بيّن تعالى أنه لا بد لهم من الموت وأنه لا ينجي منه شيء بقوله: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ البروج في كلام العرب الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة وقيل هي المطلية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نزلت في المنافقين واليهود وذلك أن المدينة كانت ذات خير وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما ظهر نفاق المنافقين وعناد اليهود أمسك الله عنهم بعض الإمساك فقال المنافقون واليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. فقال الله تعالى وإن تصبهم يعني المنافقين واليهود حسنة أي خصب في الثمار ورخص في السعر يقولوا هذه من عند الله يعني من قبل الله وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب في الثمار وغلاء في السعر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعني من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ومعنى من عندك أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا القول يكون هذا إخبارا عن المنافقين خاصة قُلْ أي قل لهم يا محمد كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني الحسنة والسيئة والخصب والجدب والغنيمة والهزيمة والظفر والقتل فأما الحسنة فإنعام من الله وأما السيئة فابتلاء منه فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ أي فما شأن هؤلاء القوم المنافقين واليهود الذين قالوا ما قالوا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يعني لا يفقهون معاني القرآن وأن الأشياء كلها من الله عز وجل خيرها وشرها. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 79] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني من خير ونعمة فَمِنَ اللَّهِ يعني من فضل الله عليك يتفضل به إحسانا منه إليك وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني من شدة ومكروه ومشقة وأذى فَمِنْ نَفْسِكَ يعني فمن قبل نفسك وبذنب اكتسبته نفسك استوجبت ذلك به وفي المخاطب بهذا الكلام قولان: أحدهما أنه عام وتقديره ما أصابك أيها الإنسان والثاني أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به من غيره من الأمة والنبي صلّى الله عليه وسلّم بريء لأن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد عصمه من حين البعثة فهو معصوم فيما يستقبل حتى يموت ويدل على أن المراد بهذا الخطاب غيره قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خاطبه وحده ثم جمع الكل بقوله إذا طلقتم النساء

[سورة النساء (4): الآيات 80 إلى 81]

فمعنى قوله فمن نفسك أي عقوبة لذنبك يا ابن آدم كذا قاله قتادة. وقال الكلبي: ما أصابك من خير فالله هداك له وأعانك فيه وما أصابك من أمر تكرهه فبذنبك عقوبة لذلك الذنب وقد تعلق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى الله السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان بقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولا متعلق لهم بها لأنه ليس المراد من الآية حسنة الكسب من الطاعات ولا السيئة المكتسبة من فعل المعاصي بل المراد من الحسنة والسيئة في هذه الآية ما يصيب الإنسان من النعم والمحن وذلك ليس من فعل العبد لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني وإنما يقال أصبتها. ويقال في النعم والمحن أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا فهو كقوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ولما ذكر الله حسنات الكسب وسيئاته وعد عليها بالثواب والعقاب فقال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فبطل بهذا قول القدرية وقال بعضهم لو كانت الآية على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك لأن العادة جرت بقول الإنسان أصابني خير أو مكروه وأصبت حسنة أو سيئة وقيل في معنى الآية ما أصابك من حسنة أي النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله، وما أصابك من سيئة أي من قتل وهزيمة يوم أحد فمن نفسك يعنى فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم إياك. فإن قلت كيف وجه الجمع بين قوله تعالى قل كل من عند الله وبين قوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية. قلت أما إضافة الأشياء كلها إلى الله تعالى في قوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فعلى الحقيقة لأن الله تعالى وهو خالقها وموجدها وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد فعلى المجاز تقديره وما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك عقوبة لك وقيل السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب فهو كقوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب ولا يشك عاقل أن المرض هو الله تعالى وقيل هذه متصلة بما قبلها وفيه إضمار وتقديم وتأخير تقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ويقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله وقال ابن الأنباري في معنى الآية ما أصابك الله به من حسنة وما أصابك به من سيئة فالفعلان راجعان إلى الله تعالى. قوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يعني وأرسلناك يا محمد إلى كافة الناس رسولا لتبلغهم رسالتي وما أرسلتك به ولست رسولا إلى العرب خاصة كما قال بعض اليهود بل أنا رسول إلى الخلق كافة العرب وغيرهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يعني على إرسالك للناس كافة فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك، وقيل معناه وكفى بالله شهيدا على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس وقيل معناه وكفى بالله شهيدا على أن الحسنة والسيئة من الله قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 80 الى 81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ سبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله» فقال بعض المنافقين ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا فأنزل الله هذه من يطع الرسول يعني فيما أمر به ونهى عنه فقد أطاع الله يعني أن طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم طاعة الله تعالى لأنه هو أمر بها. وقال الحسن جعل الله طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم طاعته وقامت به الحجة على المسلمين. وقال الشافعي: إن كل فريضة فرضها الله في كتابه كالحج والصلاة والزكاة لولا بيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها ما كنا نعرف كيف نأتيها ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذه المنزلة الشريفة كانت طاعته على الحقيقة طاعة الله وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن طاعته فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني حافظا تحفظ أعمالهم

[سورة النساء (4): الآيات 82 إلى 83]

عليهم بل كل أمرهم إلى الله قال المفسرون وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ ذلك بآية القتال قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ نزلت في المنافقين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون باللسان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمنا بك وصدقناك فمرنا فأمرك طاعة أي أمرنا وشأننا طاعة فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من عندك بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ التبييت كل أمر يفعل بالليل يقال هذا أمر مبيت إذا دبر بليل وقضي بليل فقد بيت والمعنى أنهم قالوا وقدروا أمرا بالليل غير الذي أعطوك بالنهار من الطاعة وقيل معنى بيت غير وبدل طائفة منهم غير الذي تقول يعني غير الذي عهدت إليهم فعلى هذا يكون التبييت بمعنى التبديل وإنما خص طائفة من المنافقين بالتبييت في قوله منهم. وكلمة من للتبعيض لأنه تعالى علم أن منهم من يبقى على كفره ونفاقه ومنهم من يرجع عنه ويتوب فخص من يصر على النفاق والذكر وقيل إن طائفة منهم اجتمعوا في الليل وبيتوا ذلك القول فخصهم بالذكر وَاللَّهُ يَكْتُبُ أي يثبت ويحفظ عليهم ما يُبَيِّتُونَ يعني ما يزورون ويغيرون ويقدرون وقال ابن عباس يكتب ما يسرون من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم يا محمد ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم وخلهم في ضلالتهم فأنا منتقم منهم وقيل لا تغتر بإسلامهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إلى الله في شأنهم فإن الله يكفيك أمرهم وينتقم لك منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني ناصرا لك عليهم قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 82 الى 83] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أصل التدبر النظر في عواقب الأمور والتفكر في أدبارها ثم استعمل في كل تفكر وتأمل. يقال تدبرت الشيء أي نظرت في عاقبته ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه وتفكر في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات. قال ابن عباس: أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه فيرون تصديق بعضه لبعض وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي وأن أحدا من الخلق لا يقدر عليه قال العلماء إن الله تعالى احتج بالقرآن والتدبر فيه على صحة نبوة محمد لله والحجة في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها فصاحته التي عجز الخلائق عن الإتيان بمثلها في أسلوبه. الثاني إخباره عن الغيوب وهو ما يطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم على أحوال المنافقين وما يخفونه من مكرهم وكيدهم فيفضحهم بذلك وغير ذلك من الاخبار عن أحوال الأولين وأخبارهم وما يأتي في المستقبل من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى. الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد بقوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً قال ابن عباس يعني تفاوتا وتناقضا وفي رواية عنه لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب واختلاف وقيل معناه لوجدوا في إخباره عن الغيب بما يكون وبما قد كان اختلافا كثيرا لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. وإذا كان كذلك ثبت أنه من عند الله وأنه ليس فيه اختلاف ولا تناقض وقيل لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا من حيث البلاغة والفصاحة والمعنى لو كان من عند مخلوق لكان على قياس الكلام المخلوق بعضه فصيح بليغ حسن وبعضه مردود ركيك فاسد فلما كان القرآن جميعه على منهاج واحد في الفصاحة والبلاغة ثبت أنه من عند الله والمعنى أفلا يتفكرون في القرآن فيعرفوا بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر به عن الغيوب أنه كلام الله عزّ وجلّ وأن ما يكون من عند غير الله لا يخلو عن تناقض واختلاف فلما كان القرآن ليس فيه تناقض واختلاف علم أنه من عند قادر على ما لا يقدر غيره عالم بما لا يعلمه سواه. قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث البعوث والسرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه ويتحدثون به قبل أن يحدث به

[سورة النساء (4): الآيات 84 إلى 85]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَإِذا جاءَهُمْ يعني المنافقين أمر من الأمن يعني جاءهم خبر بفتح وغنيمة أو الخوف يعني القتل والهزيمة أذاعوا به أي أفشوا ذلك الخبر وأشاعوه بين الناس يقال أذاع السر وأذاع به إذا أشاعه وأظهره قال الشاعر: أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب وَلَوْ رَدُّوهُ يعني الأمر الذي تحدثوا به إِلَى الرَّسُولِ يعني أنهم لم يتحدثوا به حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتحدث به ويظهره وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ يعني ذوي العقول والرأي والبصيرة بالأمور منهم وهم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقيل هم أمراء السرايا والبعوث وإنما قال منهم على حسب الظاهر ولأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان فلذا قال وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بذكائهم وفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب وما ينبغي لها ومكايدها وهم العلماء الذين علموا ما ينبغي أن يكتم من الأمور وما ينبغي أن يذاع منها والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر واستنباطه استخراجه فاستعير لما يخرجه الرجل بفضل ذكائه وصفاء ذهنه وفطنته من المعاني والتدبير فيما يعضل ويهم. ويقال استنبط الفقيه المسألة إذا استخرجها باجتهاده وفهمه وفي الآية دليل على جواز القياس وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما ومعنى الآية ولو أن هؤلاء المنافقين والمذيعين ردوا الأمر من الأمن والخوف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلموا حقيقة ذلك منهم وإنهم أولي بالبحث عنه فإنهم أعلم بما ينبغي أن يشاع أو يكتم. قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني ولولا فضل الله عليكم ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن ورحمته بالتوفيق والهداية لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ يعني لبقيتم على الكفر والضلالة إِلَّا قَلِيلًا اختلف العلماء في هذا الاستثناء وإلى ماذا يرجع فقيل هو راجع إلى الإذاعة وهو قول ابن عباس والتقدير وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا فأخرج بعض المنافقين والمؤمنين عن هذه الإذاعة لأنهم لم يذيعوا ما علموا من أمر السرايا. وهذا القول اختيار الفراء وابن جرير الطبري وقيل هو راجع إلى المستنبطين وهو قول الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة وتقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير وقيل إنه راجع إلى اتباع الشيطان وهو قول الضحاك. واختاره الزجاج ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد وتقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم وهم قوم آمنوا واهتدوا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن مثل زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وقس بن ساعدة الأيادي. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 84 الى 85] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ نزلت في مواعدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أحد وذلك في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية فقاتل في سبيل الله يعني لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين لا تكلف إلا نفسك يعني لا تكلف فرض غيرك بل جاهد في سبيل الله ولو وحدك فإن الله ناصرك لا الجنود وقد وعدك النصر عليهم وهو لا يخلف الميعاد فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعين راكبا إلى بدر الصغرى فكفاهم الله القتال ورجعوا سالمين وعاتب الله من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية على ترك الجهاد

[سورة النساء (4): الآيات 86 إلى 87]

والخروج معه. وفي الآية دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال ومكايده لأن الله تعالى أمره بالقتال وحده ولو لم يكن أشجع الناس لما أمره بذلك، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في قتال أهل الردة من بني حنيفة الذين منعوا الزكاة فعزم على الخروج إلى قتالهم ولو وحده وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ يعني حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وليس عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم عَسَى اللَّهُ أي لعل الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني لعل الله أن يمنع بأس الكفار وشدتهم وقد فعل وذلك أن أبا سفيان بدا له عن القتال فلم يخرج إلى الموعد وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي أعظم صولة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا يعني وأشد عذابا وعقوبة من غيره قوله عزّ وجلّ: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الإنسان بنفسه شفيعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة إلى المشفوع إليه فعلى هذا قيل إن المراد بالشفاعة المذكورة في الآية هي شفاعة الإنسان لغيره ليجلب له بشفاعته نفعا أو يخلصه من بلاء نزل به. وقيل هي الإصلاح بين الناس وقيل معنى الآية من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها أي حظ وافر من أجر شفاعته وهو ثواب الله وكرامته وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً قيل هي النميمة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس وقيل أراد بالشفاعة السيئة دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ أي ضعف وقيل نصيب مِنْها أي من وزرها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً قال ابن عباس يعني مقتدرا أو مجازيا وأقات على الشيء قدر عليه قال الشاعر: وذي ضغن كففت الشر عنه ... وكنت على إساءته مقيتا يعني قادرا على الإساءة إليه وقيل معناه شاهدا أو حفيظا على الأشياء (ق) عن أبي موسى قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا فجاء رجل يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» وفي رواية كان إذا جاءه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال: «اشفعوا تؤجروا» وذكره. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 86 الى 87] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها التحية تفعلة من حيا وأصلها من الحياة ثم جعل السلام تحية لكونه خارجا عن حصول الحياة وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة والتحية أن يقال حياك الله أي جعل لك حياة وذلك أخبار ثم يجعل دعاء وهذه اللفظة كانت العرب تقولها فلما جاء الإسلام بدل ذلك بالسلام وهو المراد به في الآية يعني إذا سلم عليكم المسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم عليكم به وإنما اختير لفظ السلام على لفظة حياك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل لأن معنى السلام السلامة من الآفات فإذا دعا الإنسان بطول الحياة بغير سلامة كانت حياته مذمومة منغصة. وإذا كان في حياته سليما كان أتم وأكمل فلهذا السبب اختير لفظ السلام أَوْ رُدُّوها يعني أو ردوا عليه كما سلم عليكم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يعني محاسبا ومجازيا والمعنى أنه تعالى على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه مجاز. (فصل في فضل السلام والحث عليه) (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» قوله أي الإسلام خير معناه أي خصال الإسلام خير (م) عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» عن عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا

الطعام وصلّوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح عن أبي أمامة قال: أمرنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن نفشي السلام، أخرجه ابن ماجة. (فصل في أحكام تتعلق بالسلام وفيه مسائل) المسألة الأولى في كيفية السلام: (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا عليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال العلماء يستحب لمن يبتدئ بالسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحد ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم عن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون» أخرجه الترمذي: وأبو داود وقال الترمذي حديث حسن وقيل إذا قال المسلم السلام عليكم فيقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله فيزيده ورحمة الله وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله فيقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه وروي أن رجلا سلم على ابن عباس فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا فقال ابن عباس أن السلام انتهى إلى البركة ويستحب للمسلم أن يرفع صوته بالسلام ليسمع المسلم عليه فيجيبه ويشترط أن يكون الرد على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جوابا وكان آثما بترك الرد. المسألة الثانية في حكم السلام: الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب وهو سنة على الكفاية فإن كانوا جماعة فسلم واحد منهم كفى عن جميعهم ولو سلم كلهم كان أفضل وأكمل قال القاضي حسين: من أصحاب الشافعي ليس لنا سنة على الكفاية إلّا هذا وفيه نظر لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضا كالسلام. ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفشوا السلام» والأمر للوجوب أو يكون ذلك سنة متأكدة لأن السلام من شعار أهل الإسلام فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه أما الرد على المسلم فقد أجمع العلماء على وجوبه ويدل عليه قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها والأمر للوجوب لأن في ترك الرد إهانة للمسلم فيجب ترك الإهانة فإن كان المسلم عليه واحدا وجب عليه الرد وإذا كانوا جماعة كان رد السلام في حقهم فرض كفاية فلو رد واحد منهم سقط فرض الرد عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم» أخرجه أبو داود. المسألة الثالثة في آداب السلام: السنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وفي رواية للبخاري قال: «يسلّم الصغير على الكبير، والمار على القاعد والقليل على الكثير» وإذا تلاقى رجلان فالمبتدئ بالسلام هو الأفضل لما روي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولى الناس بالله عز وجل من بدأهم بالسلام» أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه قال قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال: «أولاهما بالله» قال الترمذي حديث حسن ويستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم لما روي عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله أخرجاه في الصحيحين وفي رواية لأبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مر

[سورة النساء (4): آية 88]

على غلمان يلعبون فسلم عليهم وأما السلام على النساء فإن كن جمعا جالسات في مسجد أو موضع فيستحب أن يسلّم عليهن إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مر علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسوة فسلّم علينا أخرجه أبو داود وفي رواية الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده للتسليم قال الترمذي حديث حسن وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية فإن كانت جميلة فلا يسلم عليها ولو سلم فلا ترد هي عليه لأنه لم يستحق الرد وإن كانت عجوزا لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة سلم عليها وترد هي عليه وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام فيسلم بعضهن على بعض. المسألة الرابعة في الأحوال التي يكره السلام فيها: فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك لا يسلم عليه فلو سلم فلا يستحق المسلّم جوابا لما روي عن ابن عمر: «أن رجلا مر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبول فسلم عليه فلم يرد عليه» أخرجه مسلم قال الترمذي إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول ويكره التسليم على من في الحمام وقيل إن كانوا متزرين بالمآزر سلم عليهم وإلّا فلا، ويكره التسليم على النائم والناعس والمصلي والمؤذن والتالي في حال الصلاة والأذان والتلاوة ويكره الابتداء بالسلام في حال الخطبة لأن الجالسين مأمورون بالإنصات للخطبة ويكره أن يبدأ المبتدع بالتسليم عليه وكذلك المعلن بفسق وكذلك الظلمة ونحوهم فلا يسلم على هؤلاء. المسألة الخامسة في حكم السلام على أهل الذمة: اليهود والنصارى: اختلف العلماء فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. وقال بعضهم إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» أخرجه مسلم وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه ويقول عليك بغير واو العطف، لما روي عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فقال السلام عليكم فرد عليه القول فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تدرون ما قال؟ قالوا الله ورسوله أعلم سلم يا نبي الله قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه على فردوه فقال: قلت السلام عليكم قال: نعم يا نبي الله فقال صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت» أخرجه الترمذي فلو أتى بواو العطف وميم الجمع فقال عليكم جاز لأنا نجاب عليهم في الدعاء ولا يجابون علينا ويدل على ذلك ما روي عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر عليه ناس من اليهود، فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال: «وعليكم» فقالت عائشة وغضبت ألم تسمع ما قالوا؟ قال بلى قد سمعت فرددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجيبون علينا أخرجه مسلم وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى يسلم عليهم ويقصد بتسليمه المسلمين لما روي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم أخرجه الترمذي. قوله عز وجل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ هذه لام القسم تقديره والله الذي لا إله إلّا هو ليجمعنكم الله في الموت وفي القبور إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني إلى يوم الحشر والبعث سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم بعد الموت وقيل لقيامهم للحساب نزلت هذه الآية في منكري البعث لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك في ذلك اليوم أنه كائن وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً يعني لا أحد أصدق من الله فإنه لا يخلف الميعاد ولا يجوز عليه الكذب والمعنى أن القيامة كائنة لا شك فيها ولا ريب. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقيل نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من

[سورة النساء (4): الآيات 89 إلى 90]

المنافقين فلما رجعوا قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقتلهم يا رسول الله فإنهم منافقون وقال بعضهم أعف عنهم فإنهم قد تكلموا بكلمة الإسلام (ق) عن زيد بن ثابت قال لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فئتين قالت فرقة نقتلهم وقالت فرقة لا نقتلهم فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنها طيبة تنفي الرجال كما ينفي الكير خبث الحديد وقيل نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول هم مؤمنون وقيل نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين فلما بعدوا عن المدينة كتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ثم إنهم خرجوا في تجارة إلى الشأم فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم تخرج إليهم ونقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا في ديننا وقالت طائفة منهم كيف تقتلون قوما على دينكم وإن لم يذروا ديارهم. وكان هذا بعين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ساكت لا ينهي أحد الفريقين فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين وقيل نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق لما تكلم في حديث الإفك. ومعنى الآية فما لكم يا معشر المؤمنين في المنافقين فئتين أي صرتم في أمرهم فرقتين فرقة تذب عنهم وفرقة تباينهم وتعاديهم فنهى الله الفرقة الذين يذبون عنهم وأمر المؤمنين جميعا أن يكونوا على منهاج واحد في التباين لهم والتبري منهم ثم أخبر عن كفرهم بقوله وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ يعني نكسهم في كفرهم وارتدادهم وردهم إلى أحكام الكفار بِما كَسَبُوا أي بسبب ما اكتسبوا من أعمالهم الخبيثة وقيل بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ هذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين والمعنى أتبتغون أيها المؤمنون هداية هؤلاء المنافقين الذين أصلهم الله عن الهدى وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى الحق والهدى. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 89 الى 90] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) وَدُّوا يعني تمنى أولئك الذين رجعوا عن الإيمان إلى الارتداد والكفر لَوْ تَكْفُرُونَ يعني تكفرون أنتم يا معشر المؤمنين كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً في الكفر فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ يعني من الكفار منع المؤمنين من موالاتهم حَتَّى يُهاجِرُوا يعني يسلموا أو يهاجروا فِي سَبِيلِ اللَّهِ معكم وهي هجرة أخرى والهجرة على ثلاثة أوجه: الأولى هجرة المؤمنين في أول الإسلام من مكة إلى المدينة. الثانية هجرة المؤمنين وهي الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبيل الله مخلصين صابرين محتبسين كما حكي الله عنهم وفي هذه الآية منع المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا والهجرة الثالثة هجرة المؤمنين ما نهي الله عنه بقوله فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإسلام والهجرة واختاروا الإقامة على الكفر فَخُذُوهُمْ الخطاب للمؤمنين أي خذوهم أيها المؤمنون وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني إن وجدتموهم في الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا يعني في هذه الحالة وَلا نَصِيراً يعني ينصركم على أعدائكم لأنهم أعداء ثم استثنى الله عز وجل طائفة منهم فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ هذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة الكفار

[سورة النساء (4): آية 91]

والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى يصلون ينتسبون إليهم أو ينتمون إليهم أو يدخلون معهم بالحلف والجوار. وقال ابن عباس يريد يلجئون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال. وفي رواية عن ابن عباس قال: أراد بالقوم الذي بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن مناة كانوا في الصلح والهدنة. وقيل هم خزاعة والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل أن يكون عطفا على الذين وتقديره إلّا الذين يتصلون بالمعاهدين أو يتصلون بالذين حصرت صدورهم فلا تقتلوهم وقيل يحتمل أن يكون عطفا على صفة قوم تقديره إلّا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا تقتلوهم ومعنى حصرت أي ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم وهم بنو مدلج وكانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من آمن منهم وقيل معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم فقد ضاقت صدورهم لذلك عن قتالكم والقتال معكم وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى الله عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد المسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم وذلك أن الله تعالى أوجب قتال الكفار إلّا من كان معاهدا أو لجأ إلى معاهد أو ترك القتال لأنه لا يجوز قتل هؤلاء وعلى هذا القول فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فقتاله جائز وقال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الآية منسوخة بآية السيف وذلك لأن الله تعالى لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلّا الإسلام أو القتل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ يذكر الله تعالى منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين وذلك لما ألقى الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن قتالكم ومعنى التسليط هنا تقوية قلوبهم على قتال المسلمين ولكن قذف الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن المسلمين فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يعني فإن اعتزلوكم عن قتالكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ: ويقال فلم يقاتلوكم يوم فتح مكة مع قومهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني الانقياد والصلح فانقادوا واستسلموا فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا يعني بالقتل والقتال قال بعض المفسرين هذا منسوخ بآية القتال وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنا إذا حملناها على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ قال ابن عباس: هم أسد وغطفان كانوا من حاضري المدينة فتكلموا بكلمة الإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا آمنت يقول آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء وإذا لقوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا لهم إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين وفي رواية أخرى عن ابن عباس إنها نزلت في بني عبد الدار وكانوا بهذه الصفة يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ يعني يريدون بإظهار الإيمان أن يأمنوكم فلا تتعرضوا لهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ يعني بإظهار الكفر لهم فلا يتعرضوا لهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ يعني كلما دعوا إلى الشرك أُرْكِسُوا فِيها رجعوا إلى الشرك وقادوا إليه منكوسين على رؤوسهم فيه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ يعني فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي ولم

[سورة النساء (4): آية 92]

يلقوا الصلح ولم يكفوا عن قتالكم فَخُذُوهُمْ يعني أسرى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني حيث أدركتموهم وَأُولئِكُمْ يعني أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة ظاهرة بالقتل والقتال وقيل الحجة الواضحة هي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم بالكفر والعداوة. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها والأطم الحصن فجزعت أمه لذلك جزعا شديدا، وقالت لابنها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخوا عياش بن أبي ربيعة لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتيان به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة فأتوا عياشا وهو في الأطم فقالوا: أنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بعدك وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب حتى ترجع إليها ولك عهد تالله علينا أن لا نكرهك على شيء يحول بينك وبين دينك. فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوه بنسعة وجلده كل واحد منهم مائة جلدة ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ثم تركوه موثقا في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال: يا عياش أهذا الذي كنت عليه لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال والله لألقاك خاليا إلّا قتلتك ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر وأسلم الحارث بن زيد من بعده وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال لهم ناس: ويحك يا عياش أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال يا رسول الله إنه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة وما كان له سبب جواز قتله وقيل معناه ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه وعهد إليه ففيه تحريم قتل المؤمن من كل وجه وقوله تعالى إلّا خطأ استثناء منقطع معناه لكن إن وقع خطأ فتحرير رقبة. وقيل معناه ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلّا أن يخطئ المؤمن فكفارة خطئه ما ذكر من بعد والخطأ فعل الشيء من غير قصد وتعمد وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي وعليه دية كاملة مسلمة إلى أهل القتيل الذين يرثونه إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يعني إلّا أن يتصدق أهل القتيل على القاتل بالدية ويعفو عنه فَإِنْ كانَ يعني المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أراد أنه إذا كان رجل مسلم في دار الحرب وهو منفرد مع قوم كفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه الكفارة وقيل المراد منه إنه إذا كان المقتول مسلما في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وأهله الذين يرثونه في دار الحرب وهم حرب للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين فكان فيه الكفارة تحرير رقبة مؤمنة دون الدية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني أنه إذا كان المقتول كافرا معاهدا أو ذميا فتجب فيه الدية والكفارة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة فصيام شهرين متتابعين أي فعليه صيام شهرين متتابعين بدلا عن الرقبة تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ

يعني جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بمن قتل خطأ حَكِيماً يعني فيما حكم به عليه من الدية والكفارة. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى: في بيان صفة القتل: قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ، أما العمد المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبا فقتل به ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية حالة مغلظة في مال القاتل. وأما شبه العمد فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبا مثل أن ضربه بعصا خفيفة أو رماه بحجر صغير فمات فلا قصاص عليه وتجب عليه دية مغلظة على عائلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. وأما الخطأ المحض فهو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص عليه وتجب فيه دية مخففة على عاقلته مؤجلا إلى ثلاث سنين ومن صور قتل الخطأ أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلما أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركا بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد. المسألة الثانية: في حكم الديات: فدية الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول وفي قول بدل مقدر وهو ألف دينار أو اثنا ألف درهم ويدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال كانت الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم قال وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم فكانت كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال إن الإبل قد غلت فقرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة قال: وترك دية أهل الكتاب فلم يرفعها فيما رفع من الدية أخرجه أبو داود فذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل وألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري وبه قال والشافعي وذهب قوم إلى أنها من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ودية المرأة نصف دية الذكر الحر ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيا وإن كان مجوسيا فخمس الثلث ثمانمائة درهم وهو قول سعيد بن المسيب. وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم روي ذلك عن ابن مسعود وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأحمد والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: دية المعاهد نصف دية الحر أخرجه أبو داود وعنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى أخرجه النسائي فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف ثم رفعت زمن عمر دية المسلم، ولم ترفع دية الذمي فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون في بطونها أولادها. وهذا قول عمر وزيد بن ثابت وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي وثلاثون حقه ثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد العقل. أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح فقال: «ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة» وفي رواية أخرى ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها أخرجه

[سورة النساء (4): آية 93]

النسائي وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس عشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهذا قول الزهري وربيعة وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي. وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة وبه قال مالك والشافعي وأبدل قوم أبناء اللبون ببنات المخاض يرون ذلك عن ابن مسعود وبه قال أحمد وأصحاب الرأي والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم العصيات من الذكور ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوجبها على العاقلة ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل والله أعلم. المسألة الثالثة: في حكم الكفارة: الكفارة إعتاق رقبة مؤمنة وتجب في مال القاتل سواء كان المقتول مسلما أو معاهدا رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فالقاتل إن كان واجدا للرقبة أو قادرا على تحصيلها بوجود الثمن فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق. ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم فمن عجز عن الرقبة أو عن تحصيل ثمنها فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يوما متعمدا في خلال الشهرين أو نسي النية أو نوى صوما آخر وجب عليه استئناف الشهرين وإن أفطر يوما بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التابع؟ اختلف العلماء فيه فمنهم من قال ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي لأنه أفطر مختارا. ومنهم من قال لا ينقطع التتابع وعليه أن يبني وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين فطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع فإذا طهرت بنت لأنه أمر كتبه الله على النساء ولا يمكن الاحتراز عنه فإن عجز عن الصوم فهل ينتقل عنه إلى الإطعام فيطعم ستين مسكينا ففيه قولان: أحدهما أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار. والثاني لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلا فقال فصيام شهرين متتابعين توبة من الله فنص على الصوم وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى أخيه مقيس فيقتص منه وأنت لم تعلموه ادفعوا إليه ديته فبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة لله ولرسوله ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل فانصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال له: تقبل دية أخيك لتكون عليك سبة أقتل الفهري الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فقتله ثم ركب بعيرا من الإبل وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وقال في ذلك: قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب قارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأصنام أول راجع فنزلت فيه ومن يقتل مؤمنا متعمدا يعني قاصدا لقتله فجزاؤه جهنم خالِداً فِيها يعني بكفره وارتداده وهو الذي استثناه النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة عمن أمنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني

لأجل كفره وقتله المؤمن متعمدا وَلَعَنَهُ يعني وطرده عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً اختلف العلماء في حكم هذه الآية هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ أم لا فروي عن سعيد بن جبير قال قالت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا؟ فتلوت عليه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر: «ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلّا بالحق» إلى آخر الآية قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية، ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم وفي رواية قال اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلت إلى ابن عباس قال نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء وفي رواية أخرى. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله مهانا فقال المشركون وما يعني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً إلى آخر الآية زاد في رواية فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له أخرجاه في الصحيحين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس تكاثف الوعيد فيها وقال ابن مسعود إنها محكمة وما تزداد إلّا شدة وعن خارجة بن زيد قال سمعت زبيد بن ثابت يقول أنزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها بعد التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق بستة أشهر. أخرجه أبو داود والنسائي وزاد النسائي في رواية أشهر بثمانية أشهر. وقال زيد بن ثابت لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة آية الفرقان. وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها. فقال بعضهم نسختها التي في الفرقان وليس هذا القول بالقوي لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء والمتقدم لا ينسخ المتأخر وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية والنسخ لا يدخل الإخبار ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن، بحيث لا يكون بينهما تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان فيكون المعنى فجزاؤه جهنم إلّا من تاب وقال بعضهم ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال إن لم يقتل يقال له لا توبة لك وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له لك توبة وقيل إنه قد روي عن ابن عباس مثله وروي عنه أيضا أن توبته تقبل وهو قول أهل السنة ويدل عليه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثم اهتدى وقوله إن الله يغفر الذنوب جميعا وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك به شيئا دخل النار» أخرجه مسلم (ق) عن عبادة بن الصامت قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلّا بالحق وفي رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبة فبايعناه على ذلك. (فصل) وقد تعلقت المعتزلة والوعيدية بهذه الآية لصحة مذهبهم على أن الفاسق يخلد في النار وأجاب علماء بأن الآية نزلت في كافر قتل مسلما وهو مقيس بن صبابة فتكون الآية على هذا مخصوصة. وقيل هذا الوعيد لمن قتل

[سورة النساء (4): آية 94]

مسلما مستحلا لقتله ومن استحل قتل مسلم كان كافرا وهو مخلد في النار بسبب كفره وعن أبي مجلز في قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم. قال: هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل أخرجه أبو داود. وقيل إن الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه دوام الحالة التي هو عليها ويدل عليه قول العرب للأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها وإذا ذكر الخلود في حق الكفار قرنه بذكر التأبيد كقوله خالدين فيها أبدا فإذا قرن الخلود بهذه اللفظة علم أن المراد منه الدوام الذي لا ينقطع إذا ثبت هذا كان معنى الخلود المذكور في الآية أن الله تعالى يعذب قاتل المؤمن عمدا في النار إلى حيث يشاء الله ثم يخرجه منها بفضل رحمته كرمه. فإنه قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار وقيل إن قاتل المؤمن عمدا عدوانا إذا تاب قبلت توبته بدليل قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولأن الكفر أعظم من هذا القتل وتوبة الكافر من كفره مقبولة بدليل قوله: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة فلأن تقبل من القاتل أولى والله أعلم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الآية قال ابن عباس: نزلت في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا منه، وأقام ذلك الرجل المسلم فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فعرف أنهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلّا الله محمد صلّى الله عليه وسلّم السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وكان قد سبقهم الخبر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقتلتموه إرادة ما معه؟ ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أسامة بن زيد هذه الآية فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فقال كيف أنت بلا إله إلّا الله؟ يقولها ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلّا يومئذ ثم استغفر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أعتق رقبة وروى أبو ظبيان عن أسامة قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا؟ وفي رواية عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه غنم فسلم عليهم، فقالوا إنما سلم عليكم ليتعوذ منكم فقاموا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني إذا سافرتم إلى الجهاد فتبينوا من البيان يقال تبينت الأمر إذا تأملته قبل الإقدام عليه وقرئ فتثبتوا من التثبت وهو خلاف العجلة والمعنى فقفوا وتثبتوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وتعرفوا حقيقة الأمر الذي تقدمون عليه وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ يعني التحية يعني لا تقوموا لمن حياكم بهذه التحية أنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا عنه وأقبلوا منه ما أظهره لكم وقرئ السلم بفتح السين من غير ألف ومعناه الاستسلام والانقياد أي استسلم وانقاد لكم وقال لا إله إلّا الله محمد رسول الله وقيل السلام والسلم بمعنى واحد أي لا تقولوا لمن سلم عليكم لَسْتَ مُؤْمِناً يعني لست من أهل الإيمان فتقتلوه بذلك قال العلماء: إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية أو حي من العرب شعار الإسلام يجب أن يكفوا عنهم ولا يغيروا عليهم لما روي عن عصام المزني قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث جيشا أو سرية يقول لهم إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحد

[سورة النساء (4): آية 95]

أخرجه أبو داود والترمذي: وقال أكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن لا يحكم بإيمانه لأنه يدعي أن الذي هو عليه إيمان ولو قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله فعند بعض العلماء لا يحكم حتى يتبرأ من دينه الذي كان عليه ويعترف أنه دين باطل وذلك لأن بعض اليهود يزعم أن محمدا رسول إلى العرب خاصة لا أنه رسول إلى كافة الخلق فإذا اعترف أنه رسول إلى كافة الخلق وأن كان عليه من التهود أو التنصر باطل صح إسلامه وحكم بصحته وقوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني تطلبون الغنيمة التي هي من حطام الدنيا سريعة النفاد والذهاب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي غنائم كثيرة من رزقه يغنمكوها يغنيكم بها عن قتل من يظهر الإسلام ويتعوذ به. وقيل معناه فعند الله ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلتم له لست مؤمنا فقتلتموه كنتم أنتم من قبل يعني من قبل أن يعز الله دينه كنتم تستخفون أنتم بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه بدينه من قومه حذرا على نفسه منهم، وقيل معناه كذلك كنتم تأمنون في قومكم بهذه الكلمة فلا تحقروا من قالها ولا تقتلوه وقيل معناه كذلك كنتم من قبل مشركين فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلّا الله وقيل معناه من عليكم بإعلان الإسلام بعد الاختفاء، وقيل من عليكم بالتوبة فَتَبَيَّنُوا أي ولا تعجلوا بقتل مؤمن وهو تأكيد للأمر بالتبين إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني فلا تتهاونوا في القتل وكونوا متحرزين من ذلك محتاطين فيه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 95] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ الآية (خ) عن زيد بن ثابت قال: «أملى عليّ النبي صلّى الله عليه وسلّم»: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ فقال: والله يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل غير أولى الضرر (ق) عن البراء بن عازب: لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيدا فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر» وفي رواية أخرى: «لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ادعوا فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله وخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله هذه الرواية الثانية أخرجها ابن الأثير في كتابه جامع الأصول، وأضافها إلى البخاري ومسلم ولم أجدها في كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. وفي هذه الآية فضل الجهاد في سبيل الله والحث عليه فقوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني لا يعدل المختلفون عن الجهاد في سبيل الله من المؤمنين المجاهدين في سبيل الله غير أولى الضرر يعني أولى الزمانة والضعف في البدن والبصر فإنهم يساوون المجاهدين لأن العذر أقعدهم عن الجهاد (م) عن جابر قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزاة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم حبسهم المرض» (خ) عن أنس قال: «رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا

[سورة النساء (4): آية 96]

شعبا ولا واديا إلّا وهم معنا حبسهم العذر» (خ) عن ابن عباس قال لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إليها. وقوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً يعني فضيلة في الآخرة قال ابن عباس: أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر فضل الله المجاهدين على أولي الضرر درجة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد فنزلوا عن المجاهدين درجة وَكُلًّا يعني كلّا من المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة بإيمانهم وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ يعني في سبيل الله عَلَى الْقاعِدِينَ يعني الذين لا عذر لهم ولا ضرر أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا جزيلا. ثم فسر ذلك الأجر العظيم فقال تعالى: [سورة النساء (4): آية 96] دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) دَرَجاتٍ مِنْهُ قال قتادة: كان يقال للإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة الجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة، وقال ابن زيد الدرجات هي سبع وهي التي ذكرها الله في سورة براءة حين قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ وقال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة (م) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وجبت له الجنة فتعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله» (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها فقالوا أولا نبشر الناس بقولك؟ فقال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» فإن قلت قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة وذكر في هذه الآية درجات فما وجه الحكمة في ذلك؟ قلت أما الدرجة الأولى فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر. وأما الثانية فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر فضلوا عليهم بدرجات كثيرة وقيل يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات درجات الجنة ومنازلها كما في الحديث والله أعلم. قوله تعالى: وَمَغْفِرَةً يعني لذنوبهم يسترها ويصفح عنها وَرَحْمَةً يعني رأفة بهم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً يعني لذنوب عباده المؤمنين رحيما يعني بهم يتفضل عليهم برحمته ومغفرته عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: قال: «أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وإن قبضته غفرت له ورحمته» أخرجه النسائي. (فصل) اعلم أن الجهاد ينقسم إلى: فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين وبلادهم فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له ولا ضرر به من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم دفعا عن أنفسهم وعن أهليهم وجيرانهم وسواء في ذلك الحر والعبد والغني والفقير فيجب على الكافة وهو في حق من بعد عنهم من المسلمين فرض كفاية فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم العدو فتجب مساعدتهم على من

[سورة النساء (4): الآيات 97 إلى 98]

قرب منهم من المسلمين أو بعد عنهم، وإن وقعت الكفاية بالمنزول بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختبار ولا يدخل في هذا الفرض يعني فرض الكفاية الفقراء والعبيد، وإذا كان الكفار قادرين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة من غزاة يغزوهم فيها إما بنفسه أو سراياه حتى لا يبطل الجهاد والاختبار. والمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره لا يقعد عنه ولكن لا يفرض عليه لأن الله تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب بقوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ولو كان فرضا على الكافة لاستحق القاعدون عن الجهاد العقاب لا الثواب والله أعلم. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 97 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية نزلت في أناس تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار فأنزل الله تعالى هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت وأعوانه وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار. وقيل أراد به ملك الموت وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع وفي التوفي هنا قولان: أحدهما أنه قبض أرواحهم. الثاني حشرهم إلى النار فعلى القول الثاني يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار «ظالمي أنفسهم» يعني بالشرك وقيل بالمقام في دار الشرك وذلك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام من أحد بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يهاجر إليه ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» أخرجاه في الصحيحين وقيل ظالمي أنفسهم بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ سؤال توبيخ وتقريع يعني قالت الملائكة: لهؤلاء الذين قتلوا في أي الفريقين كنتم أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين فاعتذروا بالضعف عن مقاومة المشركين وهو قوله تعالى إخبارا عنهم: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ يعني عاجزين فِي الْأَرْضِ يعني في أرض مكة قالُوا يعني قال لهم الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها يعني إلى المدينة وتخرجوا من بين أظهر المشركين فأكذبهم الله في قولهم كنا مستضعفين وأعلمنا بكذبهم فَأُولئِكَ يعني من هذه صفتهم مَأْواهُمْ يعني منزلهم جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً يعني بئس المصير مصيرهم إلى جهنم ثم استثنى أهل الهذر ومن علم ضعفه منهم فقال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً يعني لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ولا قوة لهم على الخروج من مكة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا يعني ولا يعرفون طريقا يسلكونه من مكة إلى المدينة. [سورة النساء (4): الآيات 99 الى 100] فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) فَأُولئِكَ يعني المستضعفين وأهل الأعذار عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ يعني يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه وعسى من الله واجب لأنه إطماع وترج والله تعالى إذا أطمع عبدا وصله وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً قال ابن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر الله يعني من المستضعفين وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة

[سورة النساء (4): آية 101]

(ق) عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. قوله عز وجل: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً قال الزجاج معنى مراغما مهاجرا يعني يجد في الأرض مهاجرا يعني أن المهاجر لقومه والمراغم لها بمنزلة واحدة. وإن اختلف اللفظان وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه إذا التصق بالتراب وذلك لأن الأنف عضو شريف والتراب ذليل حقير فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن حصول الذل له ويقال راغمت فلانا بمعنى هجرته وعاديته ولم أبال به رغم أنفه ويقوي ذلك قول بعض أهل اللغة هو الخروج من بلاد العدو برغم أنفه. وقيل معناه أن الرجل إذا خرج عن قومه خرج مراغما لهم أي مغاضبا لهم ومقاطعا وقال الفراء المراغم المضطرب والمذهب في الأرض وأنشد الزجاج في المعنى: إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب فعلى هذا يكون معنى الآية يجد مذهبا يذهب إليه إذا رأى ما يكرهه هذا قول أهل اللغة في معنى المراغمة. وقال ابن عباس: يجد متحولا يتحول إليه من أرض إلى أرض، وقال مجاهد يجد متزحزحا عما يكره وقيل يجد منقلبا ينقلب إليه وقيل المراغمة والمهاجرة واحدة يقال: راغمت قومي أي هاجرتهم وسميت المهاجرة مراغمة لأنه يهاجر قومه برغمهم. وقوله وسعة يعني في الرزق. وقيل يجد سعة من الضلالة إلى الهدى وقيل يجد سعة في الأرض التي يهاجر إليها قال ابن عباس: لما نزلت الآية التي قبل هذه سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به النعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا وضحك المشركون، وقالوا ما أدرك ما طلب فأنزل الله عز وجل: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ يعني قبل بلوغه إلى مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ يعني فقد وجب أجر هجرته على الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم لا وجوب استحقاق وتحتم قال بعض العلماء ويدخل في حكم الآية من قصد فعل طاعة من الطاعات ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة كاملا وقال بعضهم إنما يكتب له أجر ذلك القدر الذي عمل وأتى به، أما تمام الأجر فلا والقول الأول أصح لأن الآية إنما نزلت في معرض الترغيب في الهجرة وأن من قصدها ولم يبلغها بل مات دونها فقد حصل له ثواب الهجرة كاملا فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملا وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يعني ويغفر الله له ما كان منه من القعود قبل الهجرة إلى أن خرج مهاجرا. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني إذا سافرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله. وفسر ابن الجوزي القصر بالنقص ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة وقيل معنى قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض ركعاتها أو بعض أركانها ترخيصا ولهذا السبب ذكروا في تفسير

قصر الصلاة المذكورة في الآية قولين: أحدهما أنه في عدد الركعات وهو رد الصلاة الرباعية إلى ركعتين والقول الثاني أن المراد بالقصر إدخال التخفيف في أدائها وهو أن يكتفي بالإيماء والإشارة عن الركوع والسجود. والقول الأول أصح ويدل عليه لفظة من في قوله أن تقصروا من الصلاة ولفظة من هنا للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذا أن تفسير القصر بإسقاط بعض ركعات الصلاة أولى إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ يعني يغتالكم ويقتلكم في الصلاة الَّذِينَ كَفَرُوا ذهب داود الظاهري إلى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واستدل على صحة مذهبه بقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط فعلى هذا لا يجوز القصر عند الأمن ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر واحد، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن القصر في حال الأمن في السفر جائز ويدل عليه ما روي عن يعلى بن أمية. قال: قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أخرجه مسلم وعن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال الله تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال ابن عمر يا ابن أخي: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتانا ونحن في ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر». أخرجه النسائي وعن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين أخرجه الترمذي والنسائي وأجاب الجمهور عن قوله تعالى إن خفتم أن كلمة إن تفيد حصول الشرط ولا يلزم عند عدم الشرط عدم المشروط فقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ يقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل رخصة القصر. وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن فإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن. فإن قلت إذا كان هذا الحكم ثابتا في حال الأمن والخوف فما فائدة تقييده بحال الخوف؟ قلت إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلّى الله عليه وسلّم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله عز وجل هذا الشرط من حيث إنه الأغلب في الوقوع. وقوله تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة فلعلمي بهذا رخصت لكم في قصر الصلاة لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلا وإنما قال عدوا ولم يقل أعداء لأنه يستوي فيه الواحد والجمع. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى: في حكم القصر قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة وإنما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر، ولكن القصر أفضل يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو رواية عن مالك أيضا. ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصر وأتم وعن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ قال أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ أخرجه النسائي وظاهر القرآن يدل على ذلك لأن الله تعالى قال فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ولفظة ولا جناح إنما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون

[سورة النساء (4): آية 102]

حتما، وأجيب عن حديث عائشة فرض الله الصلاة ركعتين بأن معناه فرضت ركعتين أولا وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها وثبت جواز الإتمام بدليل آخر فوجب المصير إليه ليمكن الجمع بين الأحاديث ودلائل الشرع. المسألة الثانية: اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين ركعتين هل هي مقصورة أم غير مقصورة فذهب قوم إلى أنها غير مقصورة وإنما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدي وأبو حنيفة فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية هو تخفيف ركوعها وسجودها. وقد تقدم الجواب عنه وذهب قوم إلى أنها مقصورة وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. المسألة الثالثة: ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد أو سفر طاعة، ولا يجوز القصر في سفر المعصية، وقال أبو حنيفة والثوري يجوز ذلك. المسألة الرابعة: اختلف العلماء في مسافة القصر فقال داود وأهل الظاهر يجوز القصر في قصير السفر وطويله وروي ذلك عن أنس أيضا وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة. وأما عامة أهل العلم فإنهم لا يجوزون القصر في السفر القصير واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر. فقال الأوزاعي مسيرة يوم وكان ابن عمرو وابن عباس يقصران ويفطران في مسيرة أربعة برد هي ستة عشر فرسخا وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق وقول الحسن والزهري قريب من ذلك فإنهما قالا مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي فقال مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخا كل فرسخ ثلاثة أميال فتكون ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة لا قصر في أقل من ثلاثة أيام. (فصل) قيل قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا كلام متصل بما بعده منفصل عما قبله وتقديره وإن خفتم روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزل قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة الخوف فنزل: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية ومثل هذا في القرآن كثير يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية روي عن ابن عباس وجابر أن المشركين لما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم

فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم يعني صلاة العصر فإذا قاموا إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فعلمه صلاة الخوف وروي عن أبي عياش الزرقي في سبب نزول هذه الآية. قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلّينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة وفي رواية غفلة ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني وإذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال فأقمت لهم الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يعني إذا حان وقت الصلاة وأقمتها لأصحابك فاجعلهم فرقتين فلتقف فرقة منهم معك فتصلّي بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في هؤلاء الذين أمرهم الله بأخذ السلاح فقيل أراد بهم الذين قاموا معه إلى الصلاة فإنهم يأخذون أسلحتهم في الصلاة، فعلى هذا القول إنما يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة ولا يؤذى به من إلى جنبه كالسيف والخنجر وذلك لأنه أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فإن كان السلاح يشغل بحركته وثقله عن الصلاة كالترس الكبير أو يؤذي من إلى جنبه كالرمح فلا يأخذه. وقيل أراد بهم الطائفة الذين بقوا في وجه العدو فإنهم يأخذون أسلحتهم للحراسة وقيل يحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يعني إذا صلّى الذين معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا من ورائكم يعني فلينصرفوا إلى المكان الذي هو في وجه العدو وللحراسة وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا يعني ولتأت الطائفة التي كان في وجه العدو فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الركعة الثانية التي بقيت عليك ويتموا بقية صلاتهم وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ يعني أن الله تعالى جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي في دفع العدو فلذلك جعله مأخوذا مع السلاح. فإن قلت لم ذكر في أول الآية الأسلحة فقط وذكر هنا الحذر والأسلحة. قلت لأن العدو قلما ينتبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين في المحاربة والمقاتلة فإذا قاموا على الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين في الصلاة فحينئذ ينتهزون الفرصة في الإقدام على المسلمين فلا جرم أن الله تعالى أمرهم في هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني تمنى الكفار لَوْ تَغْفُلُونَ يعني لو وجدوكم غافلين عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ يعني حوائجكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً يعني فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وصفة صلاة الخوف وفيه مسائل) المسألة الأولى: قال أبو يوسف والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة صلاة الخوف كانت خاصة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز لغيره بعده فعلها، وقال المزني من أصحاب الشافعي كانت ثابتة ثم نسخت واحتجوا لصحة هذا القول بأن الله تعالى خاطب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وظاهر هذا يدل على أن إقامة الصلاة مشروطة بكون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم فدل على تخصيصه بها ولأن كلمة إذا تفيد الشرط وذهب جمهور العلماء والفقهاء إلى أن هذا الحكم لما ثبت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره من أمته لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» ولأن ذلك إجماع الصحابة على فعلها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى صلاة الخوف بأصحابه ليلة الهرير وكذلك أبو موسى صلّى بأصحابه بطبرستان وليس لهؤلاء مخالف من الصحابة وأجيب عن قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ بأن هذا وإن كان قد خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن سائر أمته داخلون في هذا الحكم فهو كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إلا أن يرد نص بتخصيصه صلّى الله عليه وسلّم بحكم دون أمته كقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ونظير قوله وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وإذا كان هو المخاطب بها وقد ثبت حكم أخذ الزكاة

لمن بعده من الأئمة كان كذلك قوله وإذا كنت فيهم وأجيب عن لفظة إذا: بأن مقتضاه الثبوت عند الثبوت وأما العدم عند العدم فغير مسلم. المسألة الثانية: قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى فمن أنواع صلاة الخوف ما إذا كان العدو في غير جهة القبلة. فرق الإمام أصحابه فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو فتحرس ويصلّي بالطائفة الأخرى ركعة فإذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم وذهبوا إلى وجاه العدو فيحرسون وتأتي الطائفة الثانية التي كانت تحرس فيصلّي بهم الركعة الثانية ويثبت جالسا في التشهد حتى يتموا لأنفسهم الصلاة ثم يسلم بهم ويدل على ذلك ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوان عمن صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وجاه العدو فصلّى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم أخرجاه في الصحيحين الذي صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم هو سهل بن أبي حثمة وقد أخرجاه من رواية أخرى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه وذكر نحوه وهذا هو مختار الشافعي لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو، وأما كونه أشد موافقة لظاهر القرآن فإن قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت قوله فليصلّوا معك ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية حصلت مع الإمام وكونها أحوط لأمر الصلاة من حيث إنه لا يكثر فيها العمل من المجيء والذهاب وكونها أحوط لأمر الحرب والحراسة من حيث إنه إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحراسة والكر والفر والهرب إن احتاجوا إليه وذهب قوم إلى أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة ثم تذهب إلى وجه العدو فتحرس وهم في صلاتهم ثم تأتي الطائفة الثانية فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويسلم الإمام ولا يسلمون هم بل يذهبون إلى وجه العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها ثم تذهب ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها يروى ذلك عن ابن مسعود وهو مذهب أبي حنيفة ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف قال فكبّر فصلّى خلفه طائفة منا وطائفة مواجهة للعدو فركع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا ولم يسلموا وأقبلوا على العدو فصفوا مكانهم وجاءت الطائفة الأخرى فصفوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى بهم ركعة وسجدتين ثم سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد تم ركعتين وأربع سجدات ثم قامت الطائفتان فصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين. أخرجه النسائي قال أبو بكر السني سمع الزهري من ابن عمر ولم يسمع هذا منه والذي أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال: صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك فصلّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة وفي رواية أخرى قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة. وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة وبهذه الرواية المخرجة في الصحيحين أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي أيضا ثم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معا وقيل متفرقين وهو الصحيح والفرق بين الروايتين أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهي في حكم من خلف الإمام. وأما الطائفة الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في حكم صلاته. المسألة الثالثة: فيما إذا كان العدو في ناحية القبلة وصورة هذا الصلاة ما روي عن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعدو بيننا وبين القبلة فكبّر النبي صلّى الله عليه وسلّم

[سورة النساء (4): آية 103]

وكبّرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلّى الله عليه وسلّم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم وسلّمنا جميعا قال جابر كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم أخرجه مسلم بتمامه وأخرجه البخاري طرفا منه أنه صلّى صلاة الخوف مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع. وبهذا الحديث أخذ الشافعي ومن وافقه فيما إذا كان العدو في جهة القبلة. المسألة الرابعة: إذا اشتد الحرب والتحم القتال صلّوا رجالا وركبانا يؤمنون بالركوع والسجود إلى أي جهة كانت هذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أنهم لا يصلّون في هذه الحالة فإذا أمنوا قضوا ما فاتهم من الصلاة ولصلاة الخوف صور أخر مذكورة في كتب الفقه وليس هذا موضعها والله أعلم. وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي ولا إثم ولا حرج عليكم إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ قال ابن عباس: رخص الله لهم في وضع السلاح في حال المطر وحال المرض لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين وَخُذُوا حِذْرَكُمْ يعني راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه أمرهم الله بالتحفظ والتحرز والاحتياط لئلا يتجرأ العدو عليهم قال ابن عباس: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه غزا بني محارب وبني أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا فوضع الناس السلاح فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجة حتى قطع الوادي والسماء ترش بالمطر فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أصحابه فجلس تحت شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحابي فقال: قتلني الله إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل السيف من غمده وقال يا محمد من يمنعك مني الآن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله عز وجل» ثم قال اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فأهوى غورث بالسيف ليضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به فأكب لوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ السيف ثم قال يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال لا أحد فقال أتشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه فقال غورث لأنت خير مني فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أجل أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا له: ويلك يا غورث ما منعك منه فقال والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به فو الله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله لهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: وسكن الوادي فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى قال ابن عباس: كان عبد الرحمن بن عوف جريحا فنزلت فيه أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم يعني من عدوكم إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يعني يهانون به. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني فإذا فرغتم من صلاة الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأثنوا على الله في جميع أحوالكم قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فإن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر الله عز وجل والتضرع إليه (ق) عن عائشة قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله في كل أحيانه

[سورة النساء (4): آية 104]

وقيل المراد بالذكر الصلاة يعني فصلّوا لله قياما يعني في حال الصحة وقعودا في حال المرض وعلى جنوبكم يعني في حال الزمانة والجراح فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يعني فإذا أمنتم وسكنت قلوبكم. وأصل الطمأنينة سكون القلب فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني فأتموها أربعا فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة ترك السفر والمعنى فإذا صرتم مقيمين في أوطانكم فأقيموا الصلاة تامة أربعا من غير قصر. وقيل معناه فأقيموا الصلاة بإتمام ركوعها وسجودها فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة سكون القلب عن الاضطراب والأمن بعد الخوف إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فرضا موقتا والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مكتوبة موقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن وقيل معناه فرضا واجبا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في آثارهم فشكوا من ألم الجراحات فقال الله تعالى ولا تهنوا يعني ولا تضعفوا، ولا تتوانوا في ابتغاء القوم يعني في طلب أبي سفيان وأصحابه ثم أورد عليهم الحجة في ذلك وألزمهم بها فقال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ يعني أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم وليس ما تكابدون من الوجع وألم الجراح مختصا لكم بل هم كذلك فإذا لم يكن الألم مانعا لهم عن قتالكم فكيف يكون مانعا لكم عن قتالهم وكيف لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم لأنكم مقرون بالحشر والنشر والثواب والعقاب والمشركون لا يقرون بذلك كله فأنتم أيها المؤمنون أولى بالجهاد منهم وهو قوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ يعني وتأملون من الله من الثواب في الآخرة ما لا يرجعون وقيل ترجون النصر والظفر في الدنيا وإظهار دينكم على الأديان كلها وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً يعني أنه تعالى لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما أخذها وما له بها من علم فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي: دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود. قال البغوي: وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل الله هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة الله فأنزل هذه الآية: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ يعني بما علمك الله وأوحى إليك وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي

[سورة النساء (4): الآيات 107 إلى 110]

من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مصيبا، لأن الله تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظنا ولا يكون علما قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه وَلا تَكُنْ يعني يا محمد لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعا عنه ومعينا له وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم رَحِيماً يعني بعباده المؤمنين. (فصل) وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذنب لما أمر بالاستغفار والجواب عما تمسكوا به من وجوه: أحدها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل المنهي عنه في قوله ولا تكن للخائنين خصما ولم يخاصم عن طعمة لما سأله قومه أن يذب عنه أن يلحق السرقة باليهودي فتوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك وانتظر ما يأتيه من الوحي السماوي والأمر الإلهي فنزلت هذه الآية وأعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن طعمة كذاب وأن اليهودي بريء من السرقة. وإنما مال صلّى الله عليه وسلّم إلى نصرة طعمة وهمّ بذلك بسبب أنه في الظاهر من المسلمين فأمره الله بالاستغفار لهذا القدر. الوجه الثاني أن قوم طعمة لما شهدوا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببراءة طعمة من السرقة ولم يظهر في الحال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يوجب القدح في شهادتهم همّ بأن يقضي على اليهودي بالسرقة فلما أطلعه الله على كذب قوم طعمة عرف أنه لو وقع ذلك الأمر لكان خطأ في نفس الأمر فأمره الله بالاستغفار منه وإن كان معذورا. الوجه الثالث يحتمل أن الله تعالى أمره بالاستغفار لقوم طعمة لذبهم عن طعمة فإن استغفاره صلّى الله عليه وسلّم يحتمل أن يكون لذنب قد سبق قبل النبوة وأن يكون لذنوب أمته. الوجه الرابع أن درجة النبي صلّى الله عليه وسلّم أعلى الدرجات ومنصبه أشرف المناصب فلعلو درجته وشرف منصبه وكمال معرفته بالله عز وجل فما يقع منه على وجه التأويل أو السهو أو أمر من أمور الدنيا فإنه ذنب بالنسبة إلى منصبه صلّى الله عليه وسلّم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وذلك بالنسبة إلى منازلهم ودرجاتهم والله أعلم. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 107 الى 110] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني ولا تجادل يا محمد عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة وهم طعمة ومن عاونه وذب عنه من قومهم وإنما سماهم خائنين لأن من أقدم على ذنب فقد خان نفسه لأنه أوقعها في العذاب وحرمها من الثواب ولهذا قيل لمن ظلم غيره إنما ظلم نفسه وقيل المراد بهذا الجمع كل من خان خيانة أي فلا تخاصم الخائن ولا تجادل عنه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً يعني خوانا بسرقة الدرع أثيما برميه اليهودي وهو بريء وإنما قال تعالى خوانا أثيما على المبالغة لأنه تعالى علم من طعمة الإفراط في الخيانة وركوب المآثم. ويدل على ذلك أنه لما نزل فيه القرآن لحق مكة مرتدا عن دينه ثم عدا على الحجاج بن علاط فنقب عليه بيته فسقط عليه حجر من الحائط فلما أصبحوا أخرجوه من مكة فلقي ركبا فعرض لهم. وقال ابن السبيل ومنقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فركبوا في طلبه فأدركوه فرموه بالحجارة حتى مات، ومن كانت هذه حاله كان كثير الخيانة والإثم فلذلك وصفه الله تعالى بالمبالغة في الخيانة والإثم قال بعضهم إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. ويروى عن عمر أنه أمر بقطع يد

[سورة النساء (4): الآيات 111 إلى 113]

سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه يا أمير المؤمنين فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. قوله عز وجل: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ يعني يستترون حياء من الناس يريد بذلك بني ظفر بن الحارث وهم قوم طعمة بن أبيرق وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ يعني ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه وأصل الاستخفاء الاستتار وإنما فسر الاستخفاء بالاستحياء على المعنى لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار منهم وَهُوَ مَعَهُمْ يعني والله معهم بالعلم والقدرة ولا يخفى عليه شيء من حالهم لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية. وكفى بذلك زجرا للإنسان عن ارتكاب الذنوب إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ يعني يضمرون ويقدرون ويزورون في أذهانهم. وأصل التبييت تدبير الفعل بالليل وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم: نرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه يسمع قول طعمة ويقبل يمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض الله تعالى بذلك منهم فأطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على سرهم وما هموا به وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم محيط بهم لا تخفى عليه خافية ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه يعني يا هؤلاء الذين هو خطاب لقوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه جادَلْتُمْ عَنْهُمْ يعني خاصمتم عنهم بسبب أنهم كانوا يرونهم في الظاهر مسلمين وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه والمعنى هبوا إنكم خاصمتم وجادلتم عن طعمة وقومه في الحياة الدنيا وقيل هو خطاب لقوم طعمة وفي قراءة ابن مسعود: جادلتم عنه والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة في الحياة الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني إذا أخذه بعذابه فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يعني محافظا ومحاميا عنهم من بأس الله إذا نزل بهم. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ نزلت هذه الآية في ترغيب طعمة في التوبة وعرضها عليه. وقيل نزلت في قومه الذين جادلوا عنه وقيل هي عامة في كل مسيء ومذنب لأن خصوص السبب لا يمنع من إطلاق الحكم ومعنى الآية ومن يعمل سوءا يسيء به غيره كما فعل طعمة بالسرقة من قتادة وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضرر إلى الغير أو يظلم نفسه يعني فيما يختص به من الحلف الكاذب ونحو ذلك. وقيل معناه ومن يعمل سوءا أي قبيحا أو يظلم نفسه يرميه البريء وقيل السوء كل ما يأثم به الإنسان والظلم هو الشرك فما دونه ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يعني من ذنوبه يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ففي هذه الآية دليل على حكمين: أحدهما أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر لأن قوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه عم الكل. والحكم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف. وقال بعضهم إنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار على الذنوب. [سورة النساء (4): الآيات 111 الى 113] وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً يعني ومن يعمل ذنبا يأثم به فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ يعني إنما يعود وبال كسبه عليه والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة فكأنه تعالى يقول يا أيها الإنسان إن الذنب الذي ارتكبته إنما عادت مضرته عليك فإني منزه عن الضر والنفع فأكثر من الاستغفار ولا تيأس من قبول التوبة فإني لغفار لمن تاب وهذه الآية نزلت في طعمة أيضا وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بسارق الدرع حَكِيماً يعني إذا حكم عليه بالقطع

[سورة النساء (4): آية 114]

وقيل معناه عليها بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة حكيما تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً قيل إن الخطيئة هي الصغيرة منم الذنوب والإثم هو الكبيرة وقيل الخطيئة هي الذنب المختص بفاعله والإثم الذنب المتعدي إلى الغير وقيل إن الخطيئة هي سرقة الدرع والإثم هو يمينه الكاذبة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً يعني ثم يقذف بما جناه بريئا منه وهو نسبة السرقة إلى اليهود ولم يسرق. فإن قلت الخطيئة والإثم اثنان فكيف وحد الضمير في قوله ثم يرم به. قلت معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئا وقيل معناه ثم يرم بهما فاكتفى بأحدهما عن الآخر وقيل إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده لأنه أقرب مذكور وقيل إن الضمير يعود إلى الكسب ومعناه ثم يرم بما سكب بريئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً البهتان من البهت وهو الكذب الذي يتحير في عظمه وَإِثْماً مُبِيناً يعني ذنبا بينا لأنه بكسب الإثم آثم وبرميه البريء باهت فقد جمع بين الأمرين. قوله عز وجل: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق وقومه حيث لبسوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر صاحبهم. فقوله تعالى فلولا فضل الله عليك يعني يا محمد بالنبوة ورحمته يعني بالعصمة وما أوحى إليك من الاطلاع على أسرارهم فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من بني ظفر وهم قوم طعمة أَنْ يُضِلُّوكَ يعني عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وقيل معناه يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدفع عن طعمة وذلك لأن قوم طعمة عرفوا أنه سارق ثم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع عنه وينزهه عن السرقة ويرمي بها اليهودي وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني أن وبال ذلك يرجع عليهم بسبب تعاونهم على الإثم وبشهادتهم له أنه بريء فهم لما قدموا على ذلك رجع وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ يعني أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وما خطر ببالك أن الأمر على خلاف ذلك وقيل معناه وما يضرونك من شيء في المستقبل فوعده الله إدامة العصمة وإنه لا يضره أحد وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ يعني القضاء بما يعني وأوجب بهما بناء الحكم على الظاهر فكيف يضرونك بإلقائك في الشبهات وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ يعني من أحكام الشرع وأمور الدين وقيل علمك من علم الغيب ما لم تكن تعلم وقيل معناه وعلمك من خفيات الأمور وأطلعك على ضمائر القلوب وعلمك من أحوال المنافقين وكيدهم ما لم تكن تعلم وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً يعني ولم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيما فاشكره على ما أولاك من إحسانه ومن عليك بنبوته وعلمك ما أنزل عليك من كتابه وحكمته وعصمك ممن حاول إضلالك فإن الله هو الذي تولاك بفضله وشملك بإحسانه وكفاك غائلة من أرادك بسوء ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم على ما حباه من ألطافه وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يعني من نجوى قوم طعمة وقيل هي عامة في جميع ما يتناجى الناس به والنجوى هي الإسرار في التدبير وقيل النجوى ما تفرد بتدبيره قوم سرا كان ذلك أو جهرا وناجيته ساررته وأصله أن يخلو في نجوة من الأرض وقيل أصله من النجي والمعنى لا خير في كثير مما يدبرونه ويتناجون فيه إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يعني إلّا في نجوى من أمر بصدقة وقيل معناه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلّا فيما كان من أعمال الخير وقيل هو استثناء منقطع تقديره لكن من أمر بصدقة وحث عليها أَوْ مَعْرُوفٍ يعني أو أمر بطاعة الله وما يجيزه الشرع وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني الإصلاح يبن المتباينين والمتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع على ما أذن الله

[سورة النساء (4): الآيات 115 إلى 116]

فيه وأمر به. عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وإن فساد ذات البين هي الحالقة» أخرجه الترمذي وأبو داود وقال الترمذي ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (خ) عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» (ق) عن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيرا أو ينمى خيرا» زاد مسلم في رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلّا فيما في ثلاث: يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني هذه الأشياء التي ذكرت ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ يعني طلب رضاه لأن الإنسان إذا فعل ذلك خالصا لوجه الله نفعه وإن فعله رياء وسمعة لم ينفعه ذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» الحديث فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله أَجْراً عَظِيماً لاحد له لأن الله سماه عظيما وإذا كان كذلك فلا يعلم قدره إلّا الله قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 115 الى 116] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ نزلت في طعمة أيضا وذلك أنه لما سرق وظهرت عليه السرقة خاف على نفسه القطع والفضيحة فهرب إلى مكة كافرا مرتدا عن الدين فأنزل الله عز وجل فيه: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يعني يخالفه في التوحيد والإيمان وأصله من المشاقة وهي كون كل واحد منهما في شق غير شق الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي وضح له التوحيد والحدود وظهر له صحة الإسلام وذلك لأن طعمة كان قد تبين له بما أنزل فيه وأظهر من سرقته ما يدل على صحة دين الإسلام فعادى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأظهر الشقاق ورجع عن الإسلام وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يعني ويتبع غير طريق المؤمنين وما هم عليه من الإيمان وتبيع عبادة الأوثان نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا ونتركه وما اختار لنفسه وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يعني ونلزمه جهنم وأصله من الصلي وهو لزوم النار وقت الاستدفاء وَساءَتْ مَصِيراً يعني وبئس المرجع إلى النار. روي أن الشافعي سئل عن آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية وهي قوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن اتباع غير سبيل المؤمنين وهي مفارقة الجماعة حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين ولزوم وجماعتهم واجبا وذلك لأن الله تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ نزلت في طعمة بن أبيرق أيضا لكونه مات مشركا وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إني شيخ منهمك في الذنوب غير أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ منه دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على الله عز وجل وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت أن المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ يعني ما دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن يشاء من أهل التوحيد قال العلماء لما أخبر الله أنه يغفر الشرك

[سورة النساء (4): الآيات 117 إلى 119]

بالإيمان والتوبة علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبه من أهل التوحيد فإذا مات صاحب الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو على خطر المشيئة إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه فإن قلت لم كررت هذه الآية بلفظ واحد في موضعين من هذه السورة وما فائدة ذلك. فلت فائدة ذلك التأكيد أو لأن الآية المتقدمة نزلت في سبب. ونزلت هذه الآية في سبب آخر وهو أن الآية المتقدمة نزلت في سبب سرقة طعمة بن أبيرق ونزلت هذه الآية في سبب ارتداده وموته على الشرك. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 117 الى 119] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً نزلت في أهل مكة يعني ما يعبدون من دون الله إلّا إناثا لأن كل من عبد شيئا فقد دعاه لحاجته وفي قوله إناثا أقوال أحدها إنهم كانوا يسمون أصنامهم بأسماء الإناث فيقولون اللات والعزى ومناة قال الحسن كانوا يقولون لصنم كل قبيلة أنثى بني فلان والقول الثاني إناثا يعني أمواتا. قال الحسن: كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة هو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر من المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني وهذه الدراهم تنفعني. ولأن الأنثى أنزل درجة من الذكر والميت أنزل درجة من الحي كما أن الموت أنزل من الحيوان وقد يطلق اسم الأنثى على الجمادات والقول الثالث إن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقول هن بنات الله وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدوا إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قال ابن عباس: لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم فلذلك قال الله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وقيل هو إبليس لأنه أغواهم وأغراهم على عبادتها وأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده الله وطرده عن رحمته وَقالَ يعني إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني حظا مقدرا معلوما فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضة وأصل الفرض القطع وهذا النصيب هم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن طريق الحق والمراد به التزيين والوسوسة وإلّا فليس إليه من الإضلال شيء. قال بعضهم لو كانت الضلالة إلى إبليس لأضل جميع الخلق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيرها وقال الكلبي أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنيهم إدراك الجنة مع عمل المعاصي وقيل أزين لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل أمنيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ يعني يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة. وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا مرعى وسول لهم إبليس إن هذا قربة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال ابن عباس يعني دين وتغيير دين الله هو تحليل الحرام وتحريم الحلال وقيل تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التي فطر الخلق عليها ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وقيل يحتمل أن يحمل هذا التغيير على تغيير أحوال تتعلق بظاهر الخلق مثل الوشم ووصل الشعر ويدل عليه صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» أخرجاه من رواية ابن مسعود ولهما عن أسماء قالت: «لعن النبي صلّى الله عليه وسلّم الواصلة والمستوصلة» وقيل تغيير خلق الله هو الاختصاء وقطع الآذان حتى إن بعض

[سورة النساء (4): الآيات 120 إلى 123]

العلماء حرمه. وكره أنس إخصاء الغنم وجوز بعض العلماء لأن فيه غرضا ظاهرا (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال لولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا. التبتل: هو ترك النكاح والانقطاع للعبادة عن نافع قال كان ابن عمر يكره الاختصاء ويقول إن فيه نماء الخلق أخرجه مالك في الموطأ ومعناه في ترك الاختصاء نماء الخلق يعني زيادتهم. وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك. وقيل تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق البهائم والأنعام للركوب والأكل فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والنجوم والنار والأحجار لمنفعة الناس فعبدوها من دون الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني يتخذه ربا يطيعه فيما يأمره به وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم وهي غاية الخسران، بقي في الآية سؤالان: الأول قال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلّا قليلا وقال: لأغوينهم أجمعين إلّا عبادك منهم المخلصين. وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم أكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال: وهم الأقل إذا تعد عشيرة ... والأكثرون إذا يعد السؤدد وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلا ولهذه أهلا قال: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا يعني الذين هم أهل النار. السؤال الثاني: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم، وقال في الأعراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقال في بني إسرائيل لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ. الوجه الثاني: قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب. الوجه الثالث: قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون وقوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 120 الى 123] يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ يعني الشيطان يعد حزبه وأولياءه ويمينهم فوعده وتمنيته إياهم ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل ما أراد من الدنيا ومن نعيمها ولذاتها وكل ذلك غرور فيجب على العاقل أن لا يلتفت إلى شيء منها فربما لم يطل عمره ولم يحصل له ما أراد منها ولئن طال عمره وحصل مقصوده فالموت وراءه ينغص عليه ما هو فيه وقيل يعدهم ويمنيهم بأن لا جنة ولا نار ولا بعث فاجتهدوا في تحصيل اللذات الدنيوية وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً يعني باطلا وضلالا أُولئِكَ يعني الذين اتخذوا الشيطان وليا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني مرجعهم ومستقرهم جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها يعني عن جهنم مَحِيصاً يعني مفرا ومعدلا يعني لا يعدلون عنها إلى غيرها ولا بد لهم من ورودها والخلد فيها ولما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني من تحت المساكن والغرف خالِدِينَ فِيها

يعني في الجنات أَبَداً بلا انتهاء ولا غاية والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له ولا يتجزأ كما يتجزأ غيره من الأزمنة لأنه لا يقال أبد كذا كما يقال زمن كذا وفي قوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً دليل على أن الخلود لا يفيد التأبيد والدوام لأنه لو أفاد ذلك لزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلم من ذلك أن الخلود عبارة عن طول الزمان لا على الدوام فلما أتبع الخلود بالأبد علم أنه يراد به الدوام الذي لا ينقطع. وقوله عز وجل: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا يعني وعد الله ذلك الذي ذكر وعدا حقا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا يعني ليس أحد أصدق من الله وهو توكيد بليغ لقوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الأمنية أفعولة من التمنية والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها والأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشيء إذا وقع في نفسه وأراده في المخاطب بقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قولان: أحدهما أنه خطاب للمسلمين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى بالله منكم. والقول الثاني أنه خطاب لمشركي مكة في قولهم لا نبعث ولا نحاسب وخطاب لأهل الكتاب في قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. والمعنى ليس الأمر بالأماني إنما الأمر بالعمل الصالح مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال الضحاك يقول: ليس لكم ما تمنيتم وليس لأهل الكتاب ما تمنوا ولكن من عمل سوءا يعني شركا فمات عليه يجز به النار. وقال الحسن هذا في حق الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير ولا يجزى المؤمن بسيئ عمله يوم القيامة ولكن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وهذا هو الكافر، فأما المؤمن فله ولي ونصير. وقال آخرون هذه الآية في حق كل من عمل سوءا من مسلم ونصراني وكافر. قال ابن عباس هي عامة في حق كل من عمل سوءا يجز به إلا أن يتوب قبل أن يموت فيتوب الله عليه. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا من لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء؟ قال منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر حسناته وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره. وأما من كان جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتى كل ذي فضل فضله ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها» أخرجه مسلم وعن أبي بكر الصديق قال كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ قلت بلى يا رسول الله قال فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقساما في ظهري فتمطيت لها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شأنك يا أبا بكر؟ قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بأعمالنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس عليكم ذنوب. وأما الآخرون فيجتمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح وقوله: «ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا» قال ابن عباس: يريد وليا يمنعه ولا نصيرا ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق الكفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون الله يوم القيامة ولا ناصر. فالمؤمنون لا ولي لهم غير الله وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله فليس يمنع أحد أحدا عن الله وقوله تعالى:

[سورة النساء (4): آية 124]

[سورة النساء (4): آية 124] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ قال مسروق لما نزلت من يعمل سوءا يجز به قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية قال المفسرون بيّن الله تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم ولفظة من في قوله من الصالحات للتبعيض، لأن أحدا لا يقدر أن يستوعب جميع الصالحات بالعمل فإذا عمل بعضها استحق الثواب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة قال ابن عباس يريد لا ينقصون قدر نقرة النواة وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 125] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لما بيّن الله تعالى أن الجنة لمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن شرح الإيمان وبين فضله فقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً يعني ومن أحكم دينا والدين هو المشتمل على كمال العبودية والخضوع والانقياد لله عز وجل وهو الذي كان عليه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم. واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين: أحدهما الاعتقاد وإليه الإشارة بقوله: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعني انقاد لله وخضع له في سره وعلانيته وقيل معناه أخلص طاعته لله وقيل فوض أمره إلى الله. الأمر الثاني من مباني الإسلام العمل وإليه الإشارة بقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ يعني في عمله لله فيدخل فيه فعل الحسنات والمفروضات والطاعات وترك السيئات وقال ابن عباس في تفسير قوله: «وهو محسن» يريد وهو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئا قال العلماء وإنما صار دين الإسلام أحسن الأديان لأن فيه طاعة الله ورضاه وهما أحسن الأعمال. وإنما خص الوجه بالذكر في قوله: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد الوجه لله وخضع له فقد انقاد لله جميع الأعضاء لأنها تابعة له وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دين إبراهيم عليه السلام حَنِيفاً يعني مسلما مخلصا والحنيف المائل ومعناه المائل عن الأديان كلها إلى الإسلام لأن كل ما سواه من الأديان باطل وحنيفا يجوز أن يكون حالا لإبراهيم ويجوز أن يكون حالا للمتبع كما تقول رأيته راكبا. قال ابن عباس ومن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة والطواف ومناسك الحج والختان هو نحو ذلك. فإن قلت ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام وعلى هذا لم يكن لمحمد صلّى الله عليه وسلّم شرع يستقل به وليس الأمر كذلك فما الجواب؟ قلت إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وملته مع زيادات كثيرة حسنة خص الله بها محمدا صلّى الله عليه وسلّم فمن اتبع ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد اتبع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشرع إبراهيم داخل في شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما قال تعالى: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو إلى توحيد الله وعبادته ولهذا خصه بالذكر لأنه كان مقبولا عند جميع الأمم فإن العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وكذا اليهود والنصارى. فإذا ثبت هذا وأن شرعه كان مقبولا عند الأمم وأن شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وملته هو شرع إبراهيم وملته لزم الخلق الدخول في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم وقبول شرعه وملته. وقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يعني صفيا والخلة صفاء المودة وقيل الخلة الافتقار والانقطاع فخليل الله المنقطع إليه وسمي إبراهيم خليلا لأنه انقطع إلى الله في كل حال. وقيل الخلة الاختصاص والاصطفاء وسمي إبراهيم خليلا لأنه والى في الله وعادى في الله وقيل لأنه تخلّق بأخلاق حسنة وخلال كريمة وقيل الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل وسمي إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل وأنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة:

[سورة النساء (4): الآيات 126 إلى 127]

قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا وقيل الخليل من الخلة بفتح الخاء وهي الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيها وسمي إبراهيم خليلا لأنه جعل فقره وفاقته وحاجته إلى الله تعالى. وخلة الله للعبد هي تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وستر خلله ونصره والثناء عليه فقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام وجعله إماما للناس يقتدى به. واختلفوا في السبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلا فقال ابن عباس كان إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس شدة قحط فقصد الناس باب إبراهيم يطلبون منه الطعام، وكانت الميرة تأتيه من صديق له بمصر فبعث إبراهيم غلمانه إلى خليله الذي بمصر فقال خليله لغلمان إبراهيم لو كان إبراهيم يريد إنماء الطعام لنفسه احتملنا ذلك له وقد دخل علينا مثل ما دخل على الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بالميرة فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة فملؤوا من ذلك الرمل الغرائر التي معهم ثم أتوا إلى إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم فأعلموه وسارة نائمة فاهتم لذلك ولمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فجاؤوا بشيء قالوا نعم فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق يكون حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من أين لكم هذا؟ فقالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلي الله قال فيومئذ اتخذه الله خليلا وقيل لما أراه الله ملكوت السموات والأرض وحاج قومه في الله ودعاهم إلى توحيده ومنعهم من عبادة النجوم والشمس والقمر والأوثان وبذل نفسه للإلقاء في النيران وبذل ولده للقربان وماله للضيفان اتخذه الله خليلا وجعله إماما للناس يقتدى به وجعل النبوة فيه وفي ذريته وقيل إن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وعادى قومه في الله عز وجل اتخذه الله خليلا وقيل لما دخل عليه الملائكة فظنهم ضيفا فقرب إليهم عجلا مشويا وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فمن يومئذ سمي إبراهيم خليل الله (م) عن أنس قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا خير البرية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك إبراهيم خليل الله». (فصل) وقد اتخذ الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» وعن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» أخرجه مسلم فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة فمحمد صلّى الله عليه وسلّم خليل الله وحبيبه فقد جاء في حديث عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» أخرجه الترمذي بأطول منه. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 126 الى 127] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال أهل المعاني: لما دعا الله الخلق إلى طاعته وعبادته والانقياد لأمره بيّن سعة ملكه ليرغب الخلق إليه بالطاعة له. وإنما قال ما في السموات وما في الأرض ولم يقل من لأنه

[سورة النساء (4): آية 128]

ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظة ما وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً يعني عالما علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه نوع إلا علمه وقيل يجوز أن يكون معناه محيطا بالقدرة عليه. قوله عز وجل: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ الآية. قال ابن عباس: نزلت في بنات أم كحة وقد تقدمت قصتهن في أول السورة وقالت عائشة هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنّة صداقها وإذا كانت غير مرغوب فيها لقلة الجمال والمال تركها، وفي رواية قالت هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها فلا يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه ويشركه في ماله فيحبسها حتى تموت فنهاهم الله عن ذلك وأنزل هذه الآية فقال ويستفتونك يعني ويستخبرونك يا محمد في شأن النساء وحالهن والاستفتاء طلب الفتوى وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه قال المفسرون والذي استفتوه فيه هو ميراث النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد فلما نزلت آية الميراث قالوا: يا رسول الله كيف ترث المرأة والصغير؟ فأجابهم بهذه الآية: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ يعني قل يا محمد الله يفتيكم في شأن النساء وحالهن وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني يفتيك فيما يتلى عليكم والمعنى أن الله يفتيكم في النساء بما أنزل في كتابه عليكم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليكم وأنها في اللوح المحفوظ وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من أعظم الأمور عند الله تعالى التي تجب مراعاتها وأن المخل بها ظالم فِي يَتامَى النِّساءِ قيل معناه في النساء اليتامى وقيل في اليتامى أولاد النساء، لأن الآية نزلت في يتامى أم كحة اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ يعني ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول إن الآية نازلة في ميراث اليتامى والصغار وعلى القول الآخر معناه ما كتب لهن من الصداق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني وترغبون في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن وقيل معناه وترغبون عن نكاحهن لقبحهن ودمامتهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن (ق) عن عائشة قالت هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل: يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ يعني ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار أن تعطوهم حقوقهم لأن العرب في الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار أيضا فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم حقهم من الميراث وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ يعني بالعدل في مهورهن ومواريثهن وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يعني فيجازيكم عليه. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً (ق) عن عائشة في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فنقول له امسكني لا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة عليّ والقسمة لي قالت فذلك قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أن يصالح بينهما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وقيل نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة ويقال

[سورة النساء (4): الآيات 129 إلى 130]

اسمها خولة وفي زوجها سعد بن الربيع ويقال له رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما كبرت تزوج عليها امرأة أخرى شابة وآثرها عليها وجفا الأولى فأتت ابنة محمد بن مسلمة تشكو زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية. وقيل كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك فأنزل الله هذه الآية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ يعني علمت وقيل ظنت وقيل بل المراد نفس الخوف لأن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوعه من بعلها يعني من زوجها. والبعل هو السيد وسمي الزوج بعلا لأنه سيد المرأة. نشوزا يعني بغضا وقيل هو ترك مضاجعتها وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض والنشوز قد يكون من الزوجين وهو أن يكره كل واحد منهما صاحبه فنشوز الزوج هو أن يعرض عن المرأة. وهو قوله تعالى: أَوْ إِعْراضاً يعني بوجهه عنها أو يعبس في وجهها أو يترك مضاجعتها أو يسيء عشرتها أو يشتغل بغيرها وقيل المراد من النشوز إظهار الخشونة في القول والفعل والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والإيذاء بل يعرض عنها بوجهه أو يشتغل بغيرها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا من المصالحة، وقرئ أن يصلحا بضم الياء وكسر اللام من الإصلاح بَيْنَهُما صُلْحاً يعني في القسمة والنفقة وهو أن يقول الزوج للمرأة: إنك قد كبرت ودخلت في السن، وأنا أريد أن أتزوج امرأة جميلة شابة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارا فإن رضيت فأقيمي وإن كرهت ذلك فارقتك وخليت سبيلك فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان وإن أمسكها ووفاها حقها مع الكراهة لها كان هو المحسن قال ابن عباس: فإن صالحته على بعض حقها من القسمة والنفقة جاز وإن أنكرت ذلك بعد الصلح كان ذلك لها ولها حقها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت- فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أن يصالحا بينهما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ- فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ الشح أقبح البخل، وحقيقته الحرص على منع الخير، وإنما قال: وأحضرت الأنفس الشح لأنه كالأمر اللازم للنفوس لأنها مطبوعة عليه، ومعنى الآية أن كل واحد من الزوجين يشح بنصيبه من الآخر فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا هذا خطاب للأزواج يعني وإن تحسنوا أيها الأزواج الصحبة والعشرة وتتقوا الله في حق المرأة فإنها أمانة عندكم وقيل معناه وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها والجور عليها. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني فيجازيكم بأعمالكم قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 129 الى 130] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعني ولن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب لأن ذلك مما لا تقدرون عليه وليس من كسبكم وَلَوْ حَرَصْتُمْ يعني على العدل والتسوية بينهن وقيل معناه ولو حرصتم على ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ يعني إلى التي تحبونها في القسم والنفقة والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل

[سورة النساء (4): الآيات 131 إلى 133]

في القول والفعل عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» أخرجه الترمذي وعند أبي داود «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» وعن عائشة قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم فيعدل فيقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يعني فتدعوا الأخرى التي لا تميلون إليها كالمعلقة لا أيما ولا ذات بعل كالشيء المعلق لا هو في السماء ولا على الأرض. وقيل معناه فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج ولا هي ذات بعل فيحسن إليها وَإِنْ تُصْلِحُوا يعني بالعدل في القسم وَتَتَّقُوا يعني الجور في القسم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يعني لما حصل من الميل إلى بعضهن دون بعض رَحِيماً يعني بكم حيث لم يكلفكم ما لا تقدرون عليه وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني إن لم يصطلحا وأرادا الفرقة يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني من فضله ورزقه والمعنى يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر. وقيل معناه يعوض الزوج بما يحب والمرأة بما تحب ويوسع عليهما وفي هذا تسلية لكل واحد من الزوجين بعد الطلاق وَكانَ اللَّهُ واسِعاً يعني واسع الفضل والرحمة وقيل واسع القدرة والعلم والرزق وقيل هو الغني الذي وسع جميع مخلوقاته غناه حَكِيماً يعني فيما أمر به ونهى عنه. (فصل فيما يتعلق بحكم الآية) وجملته أن الرجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله عز وجل في ذلك وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرك في البيتوتة أما في الجماع فلا لأن ذلك يدور على النشاط وميل القلب وليس ذلك إليه ولو كان في نكاحه حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة. وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال إن كانت الجديدة بكرا وإن كانت ثيبا خصها بثلاث ليال ثم إنه يستأنف القسم ويسوي بينهن ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا وقسم» قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجاه في الصحيحين. وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض نسائه بشرط أن يقرع بينهن ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه». أخرجه البخاري مع زيادة فيه. وإذا أراد الرجل سفر نقلة وجب عليه أخذ نسائه معه. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 131 الى 133] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا قال أهل المعاني لما ذكر الله تعالى أنه يغني من سعته وفضله أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه لأن من ملك السموات والأرض لا تفنى خزائنه وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب القديمة وَإِيَّاكُمْ يعني ووصيناكم يا أهل القرآن في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي بأن تتقوا الله وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه ولا تخالفوا أمره والمعنى أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة أوصى الله بها جميع الأمم السالفة في كتبهم وَإِنْ تَكْفُرُوا يعني وإن تجحدوا ما أوصاكم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني فإن لله ملائكة في

[سورة النساء (4): الآيات 134 إلى 136]

السموات والأرض هم أطوع له منكم. وقيل معناه أن الله تعالى خالق السموات والأرض وما فيه ومالكهن، والمنعم عليهم بأصناف النعم ومن كان كذلك فحق لكل أحد أن يتقيه ويرجوه وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا يعني عن جميع خلقه غير محتاج إليهم ولا إلى طاعتهم حَمِيداً يعني محمودا على نعمه عليهم وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قال ابن عباس يعني شهيدا على أن له فيهن عبيدا وقيل معناه وكفى بالله دافعا ومجيرا. فإن قلت ما الفائدة في تكرير قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قلت الفائدة في ذلك أن لكل آية معنى تخص به، أما الآية الأولى فمعناها فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بتقوى الله فاقبلوا وصيته وقيل لما قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ بيّن أن له ما في السموات وما في الأرض وأنه قادر على إغناء جميع الخلائق وهو المستغني عنهم. وأما الآية الثانية فإنه تعالى قال: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ والمراد أنه تعالى منزه عن طاعات الطائعين وعن ذنوب المذنبين وأنه لا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي. وقيل لما بين أن له ما في السموات وما في الأرض وقال بعد ذلك: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً فالمراد منه أنه تعالى هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون فهو يعطيكم لأن له ما في السموات وما في الأرض. وأما الثالثة فقال تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي فتوكلوا عليه ولا تتوكلوا على غيره فإنه المالك لما في السموات والأرض. وقيل تكريرها تعديدها لما هو موجب تقواه لتتقوه وتطيعوه ولا تعصوه لأن التقوى والخشية أصل كل خير. قوله عز وجل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين وَيَأْتِ بِآخَرِينَ بغيركم هم خير منكم وأطوع له ففيه تهديد للكفار والمعنى أنه يهلككم أيها الكفار كما أهلك من كان قبلكم، إذ كفروا به وكذبوا به وكذبوا رسله وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً يعني وكان الله على ذلك الإهلاك وإعادة غيركم قادرا بليغا في القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع الأشياء. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 134 الى 136] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني من كان يريد بعمله عرضا من الدنيا نزلت في مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقرون بالله تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة فكانوا يقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها وقيل نزلت في المنافقين لأنهم كانوا لا يصدقون بيوم القيامة، وإنما كانوا يطلبون بجهادهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاجل الدنيا وهو ما ينالونه من الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني الذين يطلبون بأعمالهم وجهادهم ثواب الدنيا وما ينالونه من الغنيمة مخطئون في قصدهم لأن الله عنده ثواب الدنيا وثواب الآخرة فلو كانوا عقلاء لطلبوا ثواب الآخرة حتى يحصل لهم ذلك ويحصل لهم ثواب الدنيا على سبيل التبعية والمعنى أن من أراد بعمله الدنيا آتاه الله منها ما أراد وصرف عنه من شرها ما أراد وليس له ثواب في الآخرة يجزى به، ومن أراد بعمله وجه الله وثواب الآخرة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة يؤتيه من الدنيا ما قدر له ويجزيه في الآخرة خير الجزاء وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً يعني لأقوالهم وما يسرونه من طلب ثواب الدنيا بَصِيراً يعني بنياتهم وما في نفوسهم وقيل بصيرا بمن يطلب الدنيا بعمله وبمن يطلب الآخرة بعمله. قوله عز وجل:

[سورة النساء (4): الآيات 137 إلى 138]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ قال السدي إن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأنزل الله هذه الآية وأمر بالقيام بالقسط مع الغني والفقير وقيل إن هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق فهي خطاب لقومه الذين جادلوا عنه وشهدوا به بالباطل، فأمرهم الله تعالى أن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل حال ولو على أنفسهم وأقاربهم فقال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ القوام مبالغة في القيام بالعدل في جميع الشهادات واجتناب الجور فيها قال ابن عباس كونوا قوامين بالعدل في جميع الشهادات على من كانت شهداء لله يعني أقيموا شهادتكم لوجه الله كما أمركم فيها فيقول الحق في شهادته وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر الله العبد أن يشهد على نفسه بالحق وهو أن يقر على نفسه وذلك الإقرار يسمى شهادة في كونه موجبا للحق عليه أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يعني ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقربين من ذوي رحمه أو أقاربه والمعنى قولوا الحق ولو على أنفسكم أو على الوالدين أو الأقارب فأقيموا الشهادة عليهم لله تعالى ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ يعني المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما يعني منكم والمعنى كلوا أمرهم إلى الله تعالى فهو أعلم بهم وبحالهم وإنما قال بهما على التثنية لأن رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ يعني فالله أولى بالغني والفقير فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا يعني فلا تتبعوا الهوى واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق في أداء الشهادة وقيل معناه اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، لأن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى وَإِنْ تَلْوُوا قرئ بواوين ومعناه أن يلوي الشاهد لسانه إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها أَوْ تُعْرِضُوا يعني أو يعرض الشاهد عن الشهادة فيكتمها ولا يقيمها يقال لويته حقه إذا دفعته عنه ومطلته به، وقيل معناه وإن تلووا عن القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا عنها فتتركوها وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة من قولهم لويت الشيء إذا قبلته وقيل هو خطاب مع الحكام يقول وإن تلووا يعني تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر أو تعرضوا عنه بالكلية وقرئ تلوا بواو واحدة من الولاية فهو خطاب للحكام أيضا ومعناه فلا تلوا أمور المسلمين وتضيعوهم أو تعرضوا عنهم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني أنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيجازيكم بأعمالكم. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن عباس نزلت في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل آمنوا بالله وبرسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله» فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بمحمد والقرآن وبموسى والتوراة آمنوا بالله ورسوله اسم جنس يعني آمنوا بجميع رسله وقيل هو خطاب لأهل الكتاب جميعا والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وقيل هو خطاب للمنافقين والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بقلوبكم حتى ينفعكم الإيمان لأن الإيمان باللسان لا ينفع من غير مواطأة القلب وقيل هو خطاب للمؤمنين والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحال آمنوا في المستقبل ودوموا واثبتوا على الإيمان والكتاب وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يعني وآمنوا بالقرآن وبجميع الكتب الذي أنزلها على أنبيائه قبل القرآن فيكون الكتاب اسم جنس لجميع الكتب وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً قوله عز وجل: [سورة النساء (4): الآيات 137 الى 138] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)

[سورة النساء (4): الآيات 139 إلى 141]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال ابن عباس نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم بعد ذلك كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وقيل إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعده ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان ثم آمنوا يعني بألسنتهم وهو إظهارهم الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين ثم ازدادوا كفرا يعني بموتهم على الكفر. وقيل بذنوب أحدثوها في الكفر وقيل هم قوم آمنوا ثم ارتدوا إلى الكفر ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا يعني بموتهم عليه. وذلك لأن من تكرر منه الإيمان بعد الكفر والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمنا بالله إيمانا صحيحا وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان ومثل هذا المتلاعب بالدين هل تقبل توبته أم لا؟ حكي عن علي بن أبي طالب أنه قال لا تقبل توبته بل يقتل وذهب أكثر أهل العلم إلى أن توبته مقبولة. وقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني ما أقاموا على الكفر وماتوا عليه وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه يغفر الكفر إذا تاب منه بقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يعني عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف يعني من كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا يعني طريق هدى وقيل لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني أخبرهم يا محمد وإنما وضع بشر مكان أخبر تهكما بهم وقيل البشارة كل خبر تتغير به بشرة الوجه سارا كان ذلك الخبر أو غير سار وقيل معناه اجعل موضع بشارتك لهم العذاب لأن العرب يقول تحيتك الضرب أي هذا بدل من تحيتك قال الشاعر: وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع [سورة النساء (4): الآيات 139 الى 141] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) ثم وصف الله تعالى المنافقين فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصارا وبطانة من دون المؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يتم أمره فيوالون اليهود فقال الله تعالى ردا على المنافقين: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني يطلبون من اليهود العزة والمعونة والظهور على محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني فإن القوة والقدرة والغلبة لله جميعا وهو الذي يعز أولياءه وأهل طاعته كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين فِي الْكِتابِ يعني القرآن أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها قال المفسرون الذي أنزل عليهم في النهي عن مجالستهم هو قوله تعالى في سورة الأنعام: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وهذا أنزله بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزءون به في مجالسهم ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى الله المؤمنين عن القعود معهم بقوله: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني يأخذوا في حديث آخر غير الاستهزاء بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس دخل في هذه الآية كل محدث في

[سورة النساء (4): الآيات 142 إلى 144]

الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني أنكم يا أيها الجالسون مع المستهزئين بآيات الله إذا رضيتم بذلك فأنتم وهم في الكفر سواء. قال العلماء وهذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به وإن لم يباشره فإن جلس إليهم، ولم يرض بفعلهم بل كان ساخط له وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعته أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة وقيل لا يجوز بحال والأول أصح إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أي إنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات الله وكذلك يجمعهم في عذاب جهنم يوم القيامة قوله عز وجل: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ نزلت في المنافقين والمعنى ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي ظفر على عدوكم، وغنيمة تنالونها منهم قالُوا يعني المنافقين لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يعني في الوقعة والفتح فأعطونا من الغنيمة وقيل معناه ألم نكن على دينكم وفي الجهاد كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي دولة وظهور على المسلمين قالُوا يعني المنافقين للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة يقال استحوذ فلان على فلان أي غلب عليه والمعنى أم نغلبكم ونتمكن منكم ومن قتالكم وأسركم ثم لم نفعل ذلك وقيل معناه ألم نغلبكم على رأيكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني في صلاتهم والدخول في دينهم وقيل معناه ألم ندفع المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم فهاتوا نصيبا مما أصبتم منهم ومراد المنافقين إظهار المنة على الكفار. فإن قلت لم سمي ظفر المؤمنين فتحا وسمي ظفر الكافرين نصيبا. قلت تعظيما لشأن المؤمنين وتخسيسا لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى ينزل النصر على المسلمين وأما ظفر الكفار فما هو إلا حظ دنيء ونصيب خسيس لا يبقى منه إلا ما نالوه ولهم في الآخرة العقوبة الشديدة على ذلك النصيب الذي نالوه من المسلمين فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني الفريقين فريق المؤمنين وفريق المنافقين والمعنى إنما وضع السيف عن المنافقين في الدنيا لا لأجل كرامتهم بل أخر عذابهم إلى يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن المراد به يوم القيامة بدليل أنه عطف على قوله فالله يحكم بينكم يوم القيامة روي أن رجلا سأل علي بن أبي طالب عن هذه الآية: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يقتلوننا فقال ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا. والقول الثاني إن هذا في الدنيا والمعنى أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل معناه إن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية حتى يستبيحوا بيضتهم فلا يبقى أحد من المؤمنين وقيل معناه إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه منها أن الكافر لا يرث المسلم ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه بدليل هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدليل هذه الآية. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 142 الى 144] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ يعني يعاملون الله وهو يجازيهم على خداعهم وقيل معناه

[سورة النساء (4): الآيات 145 إلى 148]

يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يظهرون له الإسلام ويبطنون له الكفر وهو خادعهم يعني والله مجازيهم بالعقاب وقيل إنهم يعطون نورا يوم القيامة كما يعطى المؤمنون فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ يعني المنافقين قامُوا كُسالى يعني متثاقلين وسبب هذا الكسل أنهم يتعبون بها لأنهم لا يريدون بفعلها ثوابا ولا يريدون بها وجه الله عز وجل ولا يخافون على تركها عقابا لأن الداعي إلى فعلها خوف الناس فلذلك وقع فعلها على وجه الكسل والفتور يُراؤُنَ النَّاسَ يعني أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين ولا يرون أنها واجبة عليهم قال قتادة والله لولا الناس ما صلّى منافق وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس إنما قال ذلك لأنهم يفعلونه رياء وسمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيرا وقيل لأن الله لم يقبله ولو قبله لكان كثيرا وقبل المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلا لأنهم متى لم يكن معهم أحد من المؤمنين فلا يصلّون وإذا كانوا مع المؤمنين يتكلفون فعلها مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ يعني متحيرين مترددين بين الكفر والإيمان لأنهم ليسوا مع المؤمنين المخلصين ولا مع المشركين المصرحين بالشرك وهو قوله تعالى: لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يعني ليسوا من المؤمنين حتى يجب لهم ما يجب للمؤمنين وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني طريقا إلى الهدى (ق) عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» قوله كمثل الشاة العائرة بالعين المهملة ومعناه المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع ومعنى تعير تتردد وتذهب يمينا وشمالا مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب وهذا مثل المنافق مرة على المؤمنين ومرة مع الكافرين أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لما ذم الله عز وجل المنافقين بقوله مذبذبين بين ذلك نهى الله المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين يقول لا تولوا الكفار من دون أهل ملتكم ودينكم فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين والسبب في هذا النهي أن الأنصار بالمدينة كان لهم من يهود بني النضير وقريظة حلف ومودة ورضاع فقالوا يا رسول الله من نتولى؟ فقال: المهاجرين أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني أتريدون أيها المتخذون الكفار أولياء أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين فتستوجبوا بذلك النار ثم بيّن مقر النار من المنافقين فقال تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 145 الى 148] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يعني في الطبق الذي في قعر جهنم والنار سبع دركات بعضها فوق بعض سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة. وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم وقيل هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار. فإن قلت لم كان المنافق أشد عذابا من الكافر؟ قلت إن المنافق مثل الكافر في الكفر وزيادة وهو أنه ضم إلى كفره نوعا آخر من الكفر أخبث منه وهو الاستهزاء بالإسلام والمسلمين وإفشاء أسرار المسلمين ونقلها إلى الكفار. فلهذا السبب جعل الله عذاب المنافقين أشد عذابا من الكفار والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وقيل هو الذي يصف الإسلام بلسانه ولا يعمل بشرائعه ولا يتقيد بقيوده ولا يدخل تحت أحكامه وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقا فللتغليظ ومنه

قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» فإن هذه الخصال صفات المنافقين فمن فعلها فقد تشبه بالمنافقين. وقوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يعني ولن تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم ثم استثنى الله عز وجل من تاب من المنافقين فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يعني من النفاق وَأَصْلَحُوا يعني أصلحوا الأعمال فعملوا بما أمر الله به وأدوا فرائضه وانتهوا عما نهاهم عنه وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ يعني وتمسكوا بعهد الله ووثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ يعني وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي عملوها لله وأرادوه بها ولم يريدوا رياء ولا سمعة فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان فلذلك قال تعالى: فَأُولئِكَ يعني التائبين من النفاق مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يعني في الجنة وقيل مع بمعنى من أي المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً يعني في الآخرة. قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هذا استفهام تقرير معناه أنه تعالى لا يعذب الشاكر المؤمن فإن تعذيبه لا يزيد في ملكه وتركه عقوبته لا ينقص من سلطانه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى شيء من ذلك فإن عاقب أحدا فإنما يعاقبه لأمر أوجبه العدل والحكمة فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أنقذتم أنفسكم من عذابه قال أهل المعاني فيه تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات ولأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان ولأن الواو لا توجب الترتيب وقيل هو على أصله والمعنى أن العاقل ينظر بعين بصيرته أولا إلى ما عليه من النعمة العظيمة في إيجاده وخلقه فيشكر على ذلك شكرا عظيما مبهما ثم إذا تمم النظر ثانيا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم عليه فآمن به ثم شكره شكرا مفصلا فكان ذلك الشكر المبهم مقدما على الإيمان فلذلك قدم الشكر على الإيمان في الذكر وَكانَ اللَّهُ شاكِراً يعني مثيبا عباده المؤمنين موفيا أجورهم والشكر من الله الرضا بالقليل من أعمال عباده وإضعاف الثواب عليه وقيل لما أمر الله عباده بالشكر سمى الجزاء شكرا على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في صفة الله تعالى كونه مثيبا على الشكر عَلِيماً يعني بحق شكركم، وإيمانكم فيجازيكم على ذلك. قوله عز وجل: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قال أهل المعاني يعني أنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر به أيضا من القول يعني من القول القبيح إلا من ظلم قيل هو استثناء متصل والمعنى إلا جهر من ظلم وقيل هو استثناء منقطع ومعناه لكن المظلوم يجوز أن يجهر بظلم الظالم قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة المكتومة لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الشخص في الريبة لكن من ظلم فيجوز له إظهار ظلمه فيقول سرق مني أو غصب ونحو ذلك. وإن شتم جاز له أن يشتم بمثله ولا يزيد شيئا على ذلك ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستبان ما قالا فعلى الأول «وفي رواية» فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم» أخرجه مسلم قال ابن عباس: لا يحب الله أن يدعو أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له وقال الحسن البصري هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل: اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء وقيل نزلت الآية في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ما صنع به قال مجاهد: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج من عنده فيقول أساء ضيافتي وقال مقاتل نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلا نال منه والنبي صلّى الله عليه وسلّم حاضر فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت قال إن ملكا كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت ونزلت هذه الآية: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً يعني لدعاء المظلوم عَلِيماً بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق. قوله تعالى:

[سورة النساء (4): الآيات 149 إلى 151]

[سورة النساء (4): الآيات 149 الى 151] إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة والضيافة والصلة. وقيل معناه إن تبدوا خيرا بدلا من السوء أَوْ تُخْفُوهُ يعني تخفوا الخير فلم تظهروه وقيل معناه إن تبدوا حسنة فتعملوا بها تكتب لكم عشرا وإن هم بها ولم يعملها كتبت له واحدة وقيل إن جميع مقاصد الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين: أحدهما صدق النية مع الحق. والثاني التخلق مع الخلق فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضا وهما إيصال نفع إليهم في السر والعلانية وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أو رفع ضر عنهم وإليه الإشارة بقوله تعالى: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فيدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضر، وقيل المراد بالخير المال والمعنى إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهرا أو تخفوها فتعطوها سرا أو تعفوا عن مظلمة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام فاعفوا أنتم عمن ظلمكم واقتدوا بسنّة الله عز وجل يعف عنكم يوم القيامة لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم وقيل معناه إن الله كان عفوا لمن عفا قديرا على إيصال الثواب إليه. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ نزلت في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وقيل نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أن اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ يعني ويريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان برسله ولا يصح الإيمان مع التكذيب ببعض رسله وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يعني بين الإيمان بالبعض دون البعض يتخذون مذهبا يذهبون إليه ودينا يدينون به أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا يعني يقينا وإنما قال ذلك توكيدا لكفرهم لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم لأن الدليل الذي يدل على نبوة البعض وهو المعجزة لزم منه أنه حيث وجدت المعجزة حصلت النبوة وقد وجدت المعجزة لجميع الأنبياء فلزم الإيمان بجميعهم وَأَعْتَدْنا يعني وهيأنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يعني يهانون فيه. [سورة النساء (4): الآيات 152 الى 155] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني والذين صدقوا بوحدانية الله ونبوة جميع أنبيائه وأن جميع ما جاءوا به من عند الله حق وصدق وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني من الرسل بل آمنوا بجميعهم وهم المؤمنون أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يعني أنه تعالى لما وعدهم بالثواب أخبرهم أنه يتجاوز عن سيئاتهم ويغفرها لهم ويرحمهم فهو كالترغيب لليهود والنصارى في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم إذا آمنوا غفر لهم ما كان منهم في حال الكفر. قوله تعالى:

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ يعني يسألك يا محمد أهل الكتاب، وهم اليهود وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة واحدة من السماء كما أتى موسى بالتوراة وقيل: سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا مختصا بهم وقيل سألوه أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان ليشهدا لك بأنك رسول الله وكان هذا السؤال من اليهود سؤال تعنت واقتراح لا سؤال استرشاد وانقياد والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد، ولأن معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت قد تقدمت وظهرت فكان طلب الزيادة من باب التعنت. وقوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني أعظم من الذي سألوك يا محمد ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوبيخ وتقريع لليهود حيث سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سؤال تعنت والمعنى لا تعظمن عليك يا محمد مسألتهم ذلك فإنهم من فرط جهلهم واجترائهم على الله لو أتيتهم بكتاب من السماء لما آمنوا بك وإنما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن وجد هذا السؤال من آبائهم الذين كانوا في أيام موسى عليه السلام لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت فَقالُوا يعني أسلاف هؤلاء اليهود أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً يعني عيانا. والمعنى أرناه نره جهرة وذلك أن سبعين من بني إسرائيل خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى الجبل فقالوا ذلك وقد تقدمت القصة في سورة البقرة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ يعني بسبب ظلمهم وسؤالهم الرؤية ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ يعني إلها وهم الذين خلفهم موسى مع أخيه هارون حين خرج إلى ميقات ربه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الدلالات الواضحات الدالة على صدق موسى وهي: العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات الباهرة فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يعني عن ذلك الذنب العظيم فلم نستأصل عبدة العجل. والمقصود من هذا تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى أن هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء إنما يطلبونه عنادا ولجاجا فاني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وعبدوا العجل وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد. وفي قوله فعفونا عن ذلك استدعاء إلى التوبة. والمعنى أن أولئك الذين أجرموا لما تابوا عفونا عنهم فتوبوا أنتم نعف عنكم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة واضحة تدل على صدقه وهي المعجزات الباهرات التي أعطاها الله عز وجل لموسى عليه السلام قوله عز وجل: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ يعني ورفعنا فوقهم الجبل المسمى بالطور بسبب أخذ ميثاقهم وذلك أن بني إسرائيل امتنعوا من قبول التوراة والعمل بما فيها فرفع الله فوقهم الطور حتى أظلهم ليخافوا فلا ينقضوا العهد والميثاق وَقُلْنا لَهُمُ يعني والطور يظلهم ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ يعني وقلنا لهم لا تجاوزوا في يوم السبت إلى ما لا يحل لكم فيه. وذلك أنهم نهوا أن يصطادوا السمك في يوم السبت فاعتدوا واصطادوا فيه، وقيل المراد به النهي عن العمل والكسب في يوم السبت وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني وأخذنا منهم عهدا مؤكدا شديدا بأن يعملوا بما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم الله عنه ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق وهو قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد والمعنى فبسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ يعني وبجحودهم بآيات الله الدالة على صدق أنبيائه وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ يعني بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم بِغَيْرِ حَقٍّ يعني بغير استحقاق لذلك القتل وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني وبقولهم على قلوبنا أغطية وغشاوة فهي لا تفقه ما تقول جمع أغلف وقيل جمع غلاف يعني قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه فرد الله عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يعني بل ختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني إيمانهم بموسى والتوراة وكفرهم بما سواه من الأنبياء والكتب وقيل لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا وقيل المراد بالقليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه والذين آمنوا من اليهود. قوله تعالى:

[سورة النساء (4): الآيات 156 إلى 158]

[سورة النساء (4): الآيات 156 الى 158] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني حين رموها بالزنا وذلك أنهم أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب ومنكر قدرة الله كافر. فالمراد بقوله وبكفرهم هو إنكارهم قدرة الله تعالى والمراد بقولهم على مريم بهتانا عظيما هو رميهم إياها بالزنا وإنما سماه بهتانا عظيما لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك فلهذا السبب وصف الله قول اليهود على مريم بالبهتان العظيم. قوله عز وجل: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ادعت اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصدقتهم النصارى على ذلك فكذبهم الله عز وجل جميعا وردّ عليهم بقوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وفي قول رسول الله قولان: أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول الله على زعمه. والقول الثاني أن من قول الله لا على وجه الحكاية عنهم وذلك أن الله تعالى أبدل ذكرهم في عيسى عليه السلام القول القبيح بالقول الحسن رفعا لدرجته عما كانوا يذكرونه من القول القبيح. وقوله تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يعني ألقى شبه عيسى على غيره حتى قتل وصلب. واختلف العلماء في صفة التشبيه الذي شبه على اليهود في أمر عيسى عليه السلام. فروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه أنه قال أتى اليهود عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صورهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم أنا فخرج إليهم فقال: أنا عيسى وقد صوره الله تعالى على صورة عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك. ورفع الله عز وجل عيسى عليه السلام من يومه ذلك. وفي رواية أخرى عن وهب أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين. فقالوا هذا من أصحاب عيسى فجحد وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه ثم أخذوا آخر فجحد كذلك فلما أصبح أتى بعض الحواريين إلى اليهود وكان منافقا فقال ما تجعلون لي إن أنا دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فدلهم عليه فألقى الله شبه عيسى على ذلك المنافق الذي دل عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقال قتادة إن أعداء الله اليهود زعموا أنهم قتلوا عيسى وصلبوه وذكر لنا أن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي وله الجنة فانه مقتول فقال رجل منهم حبسوا عيسى في بيت وجعلوا عليه رقيبا يحفظه فألقى الله شبه عيسى على ذلك للرقيب فأخذ فقتل وصلب فرفع الله عز وجل عيسى في ذلك الوقت. قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب ما ذكرنا عن وهب بن منبه من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان مع عيسى في البيت حين أحيط بي وبهم من غير مسألة عيسى إياهم ذلك ولكن ليخزي الله بذلك اليهود وينقذ به نبيه عيسى عليه السلام من كل مكروه أرادوه به من قتل وغيره وليبتلي الله من أراد ابتلاءه من عباده ويحتمل أن يكون ألقى شبهه على بعض أصحابه بعد ما تفرق عنه أصحابه ورفع الله عيسى عليه السلام. وبقي ذلك فأخذ وقتل وصلب وظن أصحابه واليهود أن الذي قتلوه وصلبوه هو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفي أمر عيسى عليهم وكانت حقيقة ذلك الأمر عند الله فلذلك قال تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني في قتل عيسى وهم اليهود لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني من قتله وذلك أن اليهود قتلوا ذلك الشخص المشبه بعيسى وكان قد ألقي الشبه على وجه ذلك الشخص دون جسده فلما

[سورة النساء (4): الآيات 159 إلى 160]

قتلوه نظروا إلى جسده فوجدوه غير جسد عيسى فقالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فهذا هو اختلافهم فيه وقيل: إن اليهود لما حبسوا عيسى وأصحابه في البيت دخل عليه رجل منهم ليخرجه إليهم. فألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل فأخذ وقتل ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء وفقدوا صاحبهم فقالوا: إن كنا قتلنا المسيح فأين صاحبنا؟ وإن كنا قتلنا صاحبنا فأين المسيح عيسى؟ فهذا هو اختلافهم فيه وقيل إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فبعضهم يقول إن القتل وقع على ناسوت عيسى دون لاهوته وبعضهم يقول وقع القتل عليهما جميعا وبعضهم يقول رأيناه قتل وبعضهم يقول رأيناه رفع إلى السماء فهذا هو اختلافهم فيه قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني أنهم قتلوا من قتلوا على شك منهم فيه ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ يعني لكن يتبعون الظن في قتله ظنا منهم أنه عيسى لا عن علم وحقيقة وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قال ابن عباس: يعني لم يقتلوا ظنهم يقينا فعلى هذا القول تكون الهاء في قتلوه عائدة على الظن. والمعنى مما قتلوا ذلك الظن يقينا ولم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبه في قتله فهو كقول العرب قتله علما وقتله يقينا يعني علمه علما تاما. وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستيلاء وغلبة وكمعنى الآية على هذا لم يكن علمهم بقتل عيسى علما تاما كاملا إنما كان ظنا منهم إنهم قتلوه ولم يكن لذلك حقيقة. وقيل إن الهاء في قتلوه عائدة على عيسى والمعنى ما قتلوا المسيح يقينا كما ادعوا أنهم قتلوه وقيل إن قوله يقينا يرجع إلى ما بعده تقديره وما قتلوه بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يقينا والمعنى أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ولكن الله عز وجل رفعه إليه وطهره من الذين كفروا وخلصه ممن أراده بسوء وقد تقدم كيف كان رفعه في سورة آل عمران بما فيه كفاية. وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في اقتداره على من يشاء من عباده حَكِيماً يعني في إنجاء عيسى عليه السلام وتخليصه من اليهود. وقيل عزيزا يعني منيعا منتقما من اليهود فسلط عليهم ينطيونس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة حكيما حكم باللعنة والغضب على اليهود حيث ادعوا هذه الدعوى الكاذبة. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 159 الى 160] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني وما من أحد من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ يعني بعيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقال عكرمة في قوله إلّا ليؤمنن به يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه وقول الأكثرين الأولى لأنه تقدم ذكر عيسى عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع؟ فقال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الضمير يرجع إلى الكتابي والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه قال ابن عباس: معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال: يتكلم به في الهواء فقيل له أرأيت إن ضربت عنقه قال يتلجلج به لسانه وقال شهر بن حوشب إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول آمنت إنه عبد الله ورسوله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبد الله فأهل الكتابين يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى عليه السلام وهو رواية عن ابن عباس أيضا والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلّا آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قال عطاء إذا

نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلّا آمن بعيسى وأنه عبد الله وكلمته ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» زاد في رواية: «حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم يقول أبو هريرة: «اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته» الآية وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلن فيكم ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة ويحكم بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل يكون حاكما من حكام هذه الأمة وإماما من أئمتهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيكسر الصليب يعني يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه. وكذلك قتله الخنزير وقوله ويضع الجزية يعني لا يقبلها ممن بدلها من اليهود والنصارى. ولا يقبل من أحد إلّا الإسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال هذا خلاف منا هو حكم الشرع اليوم فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه ولم يجز قتله ولا إجباره على الإسلام والجواب أن هذا الحكم ليس مستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بنسخه وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم. قال الزجاج هذا القول بعيد يعني قول من قال إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان قال لعموم قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال والذين يبقون يومئذ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم وأجاب أصحاب هذا القول يعني الذين يقولون إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان بأن هذا على العموم. ولكن المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به ويكون معنى الآية وما من أحد، من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلّا آمن بعيسى عند نزوله من السماء وصحح الطبري هذا القول وقال عكرمة في معنى الآية وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل موت الكتابي فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك عند الحشرجة حتى لا ينفعه إيمانه. وقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني يكون عيسى عليه السلام شاهدا على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم اتخذوه ربا وأشركوا به ويشهد على تصديق من صدقه منهم وآمن به قال قتادة معناه إنه يكون شهيدا يوم القيامة إنه قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية. قوله عز وجل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني فبسبب ظلم منهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني ما حرمنا عليهم الطيبات التي كانت حلالا لهم إلّا بظلم عظيم ارتكبوه وذلك الظلم هو ما ذكره من نقضهم الميثاق وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة مثل قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وكقولهم أرنا الله جهرة وكعبادتهم العجل فبسبب هذه الأمور حرم الله عليهم طيبات كانت حلالا لهم وهي ما ذكره في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية وقال الطبري: في معنى الآية فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم به وكفروا بآيات الله، وقالوا أنبيائهم وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما وصفهم الله به في كتابه طيبات من المآكل وغيرها التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه. وروي عن قتادة قال عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوة وحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم. ونقل الواحدي وابن الجوزي عن مقاتل قال كان الله حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس ظلما بالباطل وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فحرم الله عليهم عقوبة

[سورة النساء (4): الآيات 161 إلى 162]

لهم ما ذكر في قوله: «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الآية قال الواحدي فأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف ومتى كان وعلى لسان من حرم عليهم فلم أجد فيه شيئا انتهى إليه فتركه ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال وبيانه إن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه وقد ذكر المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية ما تقدم ذكره وكلها ذنوب في المستقبل. فإن قلت علم الله وقوع هذه الذنوب منهم قبل وقوعها لحرم عليهم ما حرم من الطيبات التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم على ما سيقع منهم قلت جوابه ما تقدم وهو أن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه ولهذا لم يذكر الإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية ما ذكره المفسرون بل ذكر تفسيرا إجماليا فقال أعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [سورة النساء (4): الآيات 161 الى 162] وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص على طلب المال فتارة يحصلونه بطريق الربا مع أنهم قد نهوا عنه وتارة يحصلونه بطريق الرشا وهو المراد بقوله وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ فهذه الأربعة هي الذنوب التي شدد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة، أما التشديد في الدنيا فهو ما تقدم من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد بقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً قال المفسرون: إنما قال منهم لأن الله علم أن قوما منهم سيؤمنون فيأمنون من العذاب. قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني من اليهود وهذا استثناء استثنى الله عز وجل من آمن من أهل الكتاب ممن تقدم وصفهم وصفتهم في الآيات التي تقدمت فبين فيما تقدم حال كفار اليهود والجهال منهم وبين في هذه الآية حال من هداه لدينه منهم وأرشده للعمل بما علم فقال لكن الراسخون في العلم ولكن هنا بمعنى الاستدراك والاستثناء والراسخون في العلم الثابتون في العلم البالغون فيه أولو البصائر الثاقبة والعقول الصافية وهم عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب لأنهم رسخوا في العلم وعرفوا حقيقته فأوصلهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْمُؤْمِنُونَ يعني بالله ورسله يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن الذي أنزل إليك وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني ويؤمنون بسائر الكتاب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله يا محمد وفي المراد بالمؤمنين هاهنا قولان: أحدهما إنهم أهل الكتاب فيكون المعنى لكن الراسخون في العلم منهم وهم المؤمنون. والقول الثاني أنهم المهاجرون والأنصار من هذه الأمة فيكون قوله والمؤمنون ابتداء كلام مستأنف يؤمنون بما أنزل إليك ويعني أنهم يصدقون بالقرآن الذي أنزل إليك يا محمد وما أنزل من قبلك وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ اختلف العلماء في وجه نصبه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفان إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم فقيل له أفلا تغيره؟ فقال دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه من خطأ من كاتب ولا غيره وأجيب عما روي عن عثمان بن عفان وعن عائشة وأبان بن عثمان بأن هذا بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. قال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصلح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ وقال الزمخشري في الكشاف ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من

[سورة النساء (4): آية 163]

لم ينظر في الكتاب يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتتان وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد وربما غبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة في الإسلام وذب الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفؤه من يلحن بهم ثم اختلف العلماء في المقيمين الصلاة أهم الراسخون في العلم أم غيرهم؟ على قولين: أحدهما إنهم هم وإنما نصب على المدح والمعنى أذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة قالوا والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته وإذا تطاولت بمدح أو ذم فربما خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب واستشهدوا على معنى الآية: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر وهذا على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا المعنى تقول جاءني قومك المطعمين وهم المعينون. والقول الثاني أن المقيمين الصلاة غير الراسخين في العلم وموضع والمقيمين الصلاة خفض بالعطف على قوله تعالى بما أنزل إليك فعلى هذا القول يكون معنى الآية: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع أحد منهم عن إقامة الصلاة وقيل المراد بهم الملائكة لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وصحح الزجاج القول الأول واختاره وصحح الطبري القول الثاني واختاره. وقوله تعالى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ عطف على والمؤمنون لأنه من صفتهم وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب وبالعقاب أُولئِكَ يعني من هذه الأوصاف صفته سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يعني سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله وإتباع أمره ثوابا عظيما وهو الجنة. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ قال ابن عباس قال سكين وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله هذه الآيات وقيل هو جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء جملة واحدة فأجاب الله عز وجل عن سؤالهم بهذه الآية فقال: إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والمعنى إنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح وبجميع الأنبياء المذكورين في هذه الآية وهم اثنا عشر نبيا والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتابا جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحا في نبوته فكذلك لم يكن إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم قادحا في نبوته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم. قال المفسرون وإنما بدأ الله عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك وأنزل الله عز وجل عليه عشر صحائف وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام وكان أطول الأنبياء عمرا عاش ألف سنة لم تنقص قوته ولم يشب ولم تنقص له سن وصبر على أذى قومه طول عمره ثم ذكر الله الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر لشرفهم وفضلهم فقال وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب وكانوا

[سورة النساء (4): الآيات 164 إلى 165]

اثني عشر وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعني وآتينا داود كتابا مزبورا يعني مكتوبا. وقيل: الزبور بالفتح اسم الكتاب الذي أنزل على داود وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتمجيد وثناء على الله عز وجل ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطير على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها فلما قارف الذنب زال عنه ذلك وقيل له ذلك أنس الطاعة وهذا ذل المعصية (ق) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» قال الحميدي زاد البرقاني قلت والله يا رسول الله لو علمت إنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيرا، التحبير تحسين الصوت بالقراءة قال بعض العلماء إنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنه لم ينزل على أحد منهم كتابا جملة واحدة فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام. قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 164 الى 165] وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ لما نزلت هذه الآية المتقدمة قالت اليهود ما لموسى لم يذكر؟ فأنزل الله هذه الآية وفيها ذكر موسى عليه السلام والمعنى وأوحينا إلى رسل قد قصصناهم عليك من قبل يعني سميناهم في القرآن وعرفناك أخبارهم وإلى من بعثوا وما ورد عليهم من قومهم وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم قال أهل المعاني الذين نوه الله بذكرهم من الأنبياء يدل على تفضيلهم على من لم يذكر ولم يسم. وقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة لأن تأكيد كلم بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال أراد الحائط يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول إن الله خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام وقال الفراء العرب تسمى كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلّا حقق بالمصدر لم يكن إلّا حقيقة الكلام فدل قوله تعالى تكليما على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة. وروى الطبري بسنده من عدة طرق عن كعب الأحبار قال لما كلم الله موسى عليه السلام بالألسنة كلها قبل كلامه يعني كلام موسى بلسانه فجعل موسى يقول يا رب لا أفهم حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة فقال: يا رب هكذا كلامك قال لو سمعت كلامي يعني على وجهه لم تك شيئا قال موسى: يا رب هل في خلقك شيء يشبه كلامك قال لا وأقرب خلقي شبها بكلامي أشد ما سمع الناس من الصواعق قال بعض العلماء كما إن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه متفرقا من الأنبياء. قوله عز وجل: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده» ومن أولئك النبيين أرسلت رسلا إلى خلقي مبشرين من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي بالثواب الجزيل في الجنة ومنذرين من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي بالعذاب الأليم في النار. وقيل هو جواب عن سؤال اليهود إنزال الكتاب جملة واحدة والمعنى أن المقصود من بعثة الرسول هو إرشاد الخلق إلى معرفة الله وتوحيده والإيمان به والاشتغال بعبادته وإنذار من خالف ذلك وهذا المقصود يحصل بإنزال الكتاب جملة واحدة وبإنزاله

[سورة النساء (4): الآيات 166 إلى 170]

نجوما متفرقة بل إنزاله متفرقا أولى. وذلك أن النفوس قبل بعثة الرسل وإنزال الكتب عليهم لم تكن تعرف شيئا من العبادات ولم تألفها فإذا نزل الكتاب جملة واحدة وفيه جميع التكاليف ربما حصل في بعض نفوس العباد نفور من تلك التكاليف وتثقل عليهم كما أخبر الله عن قوم موسى بقوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ فلم يقبلوا أحكام التوراة إلّا بعد شدة فلهذا السبب كان إنزال القرآن نجوما متفرقة أولى. وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني بعد إرسال الرسل وإنزال الكتاب والمعنى لئلا يحتج الناس على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا وما أنزلت علينا كتابا ففيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة وفيه دليل على أن الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى لا تثبت إلّا بالسمع لأن قوله: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» يدل على أن قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجة في ترك الطاعات والعبادات. فإن قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل والخلق محجوبون بما نصب من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى معرفته ووحدانيته كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد قلت الرسل منبهون من رقاد الغفلة والجهالة وباعثون الخلق إلى النظر في تلك الدلائل التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى ومبينون لها وهم وسائط بين الله تعالى وخلقه ومبينون أحكام الله تعالى التي افترضها على عباده ومبلغون رسالته إليهم (ق) عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة» لفظ البخاري وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله حَكِيماً يعني في إرساله الرسل قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 166 الى 170] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ قال ابن عباس دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم لتعلمن أني رسول الله» فقالوا ما نعلم ذلك فأنزل الله هذه الآية وفي رواية ابن عباس أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل الله عز وجل لكن الله يشهد بما أنزل إليك يعني إن جحدك هؤلاء اليهود يا محمد وكفروا بما أوحينا إليك وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فقد كذبوا فيما ادعوا فإن الله يشهد لك بالنبوة ويشهد بما أنزل إليك من كتابه ووحيه. والمعنى أن اليهود وإن شهدوا أن القرآن لم ينزل عليك يا محمد لكن الله يشهد بأنه أنزل

[سورة النساء (4): آية 171]

عليك وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، والإيمان بمثله فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة يكون المدعي صادقا لا جرم قال الله تعالى لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يعني أنه تعالى لما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة وقيل معناه أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك وأنك مبلغه إلى عباده وقيل معناه أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ يعني يشهدون بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشيء. وقد ثبت أن الله يشهد بأنه أنزله بعلمه فلذلك الملائكة يشهدون بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يعني وحسبك يا محمد أن الله يشهد لك وكفى بالله شهيدا وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن شهادة أهل الكتاب له فإن الله يشهد له وملائكته كذلك. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني منعوا غيرهم عن الإيمان به بكتمان صفته وإلقاء الشبهات في قلوب الناس وهو قولهم لو كان محمد رسولا لأتى بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بالتوراة قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً يعني عن طريق الهدى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا يعني كفروا بالله وظلموا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بكتمان صفته وظلموا غيرهم بإلقاء الشبهة في قلوبهم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني لمن علم منهم أنهم يموتون على الكفر وقيل معناه لم يكن الله ليستر عليهم قبائح أفعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم عليها بالقتل والسبي والجلاء في الآخرة بالنار وهو قوله تعالى: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني ينجون فيه من النار وقيل ولا ليهديهم طريقا إلى الإسلام لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني لكنه تعالى يهديهم إلى طريق يؤدي إلى جهنم وهي اليهودية لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك خالِدِينَ فِيها يعني في جهنم أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني هينا. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبادة الأصنام وغيرهم وقيل هو خطاب لمشركي العرب قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْحَقِّ يعني بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وقيل جاء بالقرآن الذي هو الحق مِنْ رَبِّكُمْ يعني من عند ربكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يعني فآمنوا بما جاءكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم يكن الإيمان بذلك خيرا لكم يعني من الكفر الذي أنتم عليه وَإِنْ تَكْفُرُوا يعني وإن تجحدوا رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتكذبوا بما جاءكم من الحق من ربكم فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني فإن الله هو الغني عن إيمانكم لأن له ما في السموات والأرض ملكا وعبيدا ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء وأنه قادر على من يشاء وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بما يكون منكم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجزي كل عامل بعمله حَكِيماً يعني في تكليفهم مع علمه بما يكون منكم. قوله عز وجل: [سورة النساء (4): آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في النصارى وذلك أن الله تعالى لما أجاب عن شبه اليهود فيما تقدم من الآية اتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النصارى وأصناف النصارى أربعة: اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية، فأما اليعقوبية والملكانية فقالوا في عيسى أنه الله وقالت النسطورية إنه ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة وقيل:

إنهم يقولون إن عيسى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وبأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات وأقنوم الابن عيسى. وبأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه فتقديره عندهم الإله ثلاثة، وقيل إنهم يقولون في عيسى ناسوتية وألوهية فناسوتيته من قبل الأم وألوهيته من قبل الأب تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا يقال إن الذي أظهر هذا للنصارى رجل من اليهود يقال له بولص تنصر ودس هذا في دين النصارى ليضلهم بذلك. وستأتي قصته في سورة التوبة إن شاء الله تعالى وقيل يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا. فإنهم غلوا في أمر عيسى عليه السلام. فأما اليهود فإنهم بالغوا في التقصير في أمره حتى حطوه عن منزلته حيث جعلوه مولودا لغير رشدة وغلت النصارى في رفع عيسى عن منزلته ومقداره حيث جعلوه إلها فقال الله تعالى ردا عليهم جميعا يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام والمعنى لا تفرطوا في أمر عيسى ولا تحطوه عن منزلته ولا ترفعوه فوق قدره ومنزلته وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني لا تقولوا إن له شريكا وولدا وقيل معناه لا تصفوه بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان ونزهوا الله تعالى عن ذلك، ولما منعهم الله من الغلو في دينهم أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ يقول إنما المسيح هو عيسى ابن مريم ليس له نسب غير هذا وأنه رسول الله فمن زعم غير هذا فقد كفر وأشرك وَكَلِمَتُهُ هي قوله تعالى: كن فكان بشرا من غير أب ولا واسطة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ يعني أوصلها إلى مريم وَرُوحٌ مِنْهُ يعني أنه كسائر الأرواح التي خلقها الله تعالى وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال بيت الله وناقة الله. وهذه نعمة من الله يعني أنه تفضل بها وقيل الروح هو الذي نفخ فيه جبريل في جيب درع مريم فحملت بإذن الله. وإنما أضافه إلى نفسه بقوله منه لأنه وجد بأمر الله قال بعض المفسرين إن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام فلما أراد الله أن يخلقه أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه السلام وقيل إن الروح والريح متقاربان في كلام العرب، فالروح عبارة عن نفخ جبريل عليه السلام وقوله منه يعني إن ذلك النفخ كان يأمره وإذنه وقيل أدخل النكرة في قوله وروح على سبيل التعظيم والمعنى روح وأي روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة وقوله منه إضافته تلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتكريم (ق) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من شهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل». وقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وأنه لا ولد له وصدقوا رسله فيما جاءكم به من عند الله وصدقوا بأن عيسى عليه السلام من رسل الله فآمنوا به ولا تجعلوه إله وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس وقيل إنهم يقولون إن الله بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتا متعددة ثلاثة وهذا هو محض الكفر. فلهذا قال الله تعالى ولا تقولوا ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ يعني يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث ثم نزه الله تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثم نزه نفسه عن الولد فقال سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يعني لا ينبغي أن يكون له ولد لأن الولد جزء من الأب وتعالى الله عن التجزئة، وعن صفات الحدوث لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه وعيسى ومريم من جملة من فيهما فهما عبيده وملكه فإذا كانا عبدين له فكيف يعقل مع هذا أن له ولدا أو زوجة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا؟ وهذا بيان لتنزيهه مما نسب إليه من الولد والمعنى أن جميع ما في السموات والأرض خلقه

[سورة النساء (4): الآيات 172 إلى 175]

وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزء منه؟ لأن التجزئة إنما تصح في الأجسام والله تعالى منزه عن صفات الأعراض والأجسام وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني أنه تعالى كاف في تدبير جميع خلقه فلا حاجة له إلى غيره، وكل الخلق محتاجون إليه وفقراء إليه وهو غني عنهم. [سورة النساء (4): الآيات 172 الى 175] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وقوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت لن يستنكف المسيح يعني لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الاستكبار مع الأنفة يقال نكفت من كذا واستنكفت منه أي أنفت منه وأصله من نكفت الشيء نحيته ونكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك من خدك والمعنى لن ينقبض ولن يمتنع ولن يأنف المسيح أن يكون عبد الله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يعني ولن يستنكف الملائكة المقربون وهم حملة العرش والكروبيون وأفاضل الملائكة مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أن يكونوا عبيد الله لأنهم في ملكه ومن جملة خلقه وقيل لما ادّعت النصارى في عيسى أنه ابن الله وذلك لما رأوا منه خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات التي وقعت للنصارى بأن عيسى من شرف قدره وكرامته لن يستنكف أن يكون عبدا لله. وكذلك الملائكة المقربون فإنهم مع كرامتهم وعلو منزلتهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله وقد يستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ووجه الدليل أن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلّا من الأدنى إلى الأعلى ولا حجة لهم فيه والجواب عنه أن الله تعالى لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر بل قاله ردا على من يقول إن الملائكة بنات الله أو أنهم آلهة كما رد على النصارى قولهم إن المسيح ابن الله وقاله أيضا ردا على النصارى فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة يعني كما أن المسيح عبد الله فكذلك الملائكة عبيد الله. وقوله تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ يعني ومن يتعظم عن عبادة الله ويأنف من التذلل لله والخضوع والطاعات من جميع خلقه سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً يعني فسيبعثهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني يوفيهم جزاء أعمالهم الصالحة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني ويزيدهم على ما أعطاهم من الثواب على أعمالهم الصالحة من التضعيف على ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا يعني الذين أنفوا وتكبروا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من سوى الله لأنفسهم وَلِيًّا يعني ينجيهم من عذابه وَلا نَصِيراً يعني ولا ناصرا ينصرهم منه، ويدفع عنهم عقوبته بقي في الآية سؤال وهو أن التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على ذكر فريقين: وهو قوله: «فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيوفيهم أجورهم وأما الذين استنكفوا واستكبروا» والمفصل اشتمل على ذكر فريق واحد وهو قوله: «ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر» والجواب أنه لا إشكال فيه فهو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين: أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر

[سورة النساء (4): آية 176]

الثاني، والوجه الثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذبهم بالحسرة والغم إذا رأوا أجور المطيعين العاملين لله تعالى. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للكافة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهانا لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقه ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يعني القرآن وإنما سماه نورا لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نورا لهذا المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ يعني صدقوا بوحدانية الله وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب وَاعْتَصَمُوا بِهِ يعني بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان، وقيل في معنى واعتصموا به أي وتمسكوا بالنور وهو القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني فسيدخلهم في رحمته التي ينجيهم بها من أليم عذابه قال ابن عباس الرحمة الجنة وَفَضْلٍ يعني ما يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به عليهم ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام. قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري (ق) عن جابر بن عبد الله قال مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وفي رواية فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث قال شعبة فقلت لمحمد بن المنكدر يستفتونك: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قال هكذا نزلت وفي رواية للترمذي وكان لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ولأبي داود قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن قلت بالشطر؟ قال أحسن ثم خرج وتركني فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين قال فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية وروى عن ابن سيرين قال نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والنبي صلّى الله عليه وسلّم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلّى الله عليه وسلّم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة والله لأنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها ما لم أحدثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله. وأما التفسير فقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ يعني يسألونك ويستخبرونك عن معنى الكلالة يا محمد قل: الله يفتيكم في الكلالة يعني أن الله هو يخبركم عما سألتم عنه من أمر الكلالة. وقد تقدم في أول السورة الكلام على معنى الكلالة من حيث الاشتقاق وغيره وأن اسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهم من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد.

قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني مات سمي الموت هلاكا لأنه إعدام في الحقيقة لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يعني ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ودل على المحذوف أن السؤال في الفتيا إنما كان في الكلالة وقد تقدم أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد وَلَهُ أُخْتٌ يعني ولذلك الهالك أخت وأراد بالأخت من أبيه وأمه أو من أبيه فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يعني فلأخت الميت نصف تركته وهو فرضها إذا انفردت وباقي المال لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة. وهذا مذهب زيد بن ثابت وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة وأهل العراق يرد الباقي عليها فإذا كان للميت بنت أخذت النصف بالفرض وتأخذ الأخت النصف الباقي بالتعصيب لا بالفرض لأن الأخوات مع البنات عصبة. وقوله تعالى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يعني أن الأخت إذا ماتت وتركت أخا من الأب والأم أو من الأب فإنه يستغرق جميع ميراث الأخت إذا انفرد ولم يكن للأخت ولد وهذا أصل في جميع العصبات واستغراقهم جميع المال، فأما الأخ من الأم فإنه صاحب فرض لا يستغرق جميع المال وقد تقدم بيانه فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أراد بنتين فصاعدا وهو أن من مات وترك أختين أو أخوات فلهن الثلثان مما ترك الميت وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني وإن كان المتروكون من الإخوة رجالا ونساء فللذكر منهم نصيب اثنتين من الإخوة الإناث يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا يعني يبين الله لكم هذه الفرائض والأحكام لئلا تضلوا. وقيل معناه كراهية أن تضلوا وقيل بيّن الله الضلالة لتجتنبوها وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني من مصالح عباده التي حكم بها من قسمة المواريث وبيان الأحكام وغير ذلك لأن علمه محيط بكل شيء (ق) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال إن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وإن آخر آية نزلت آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال أخر آية نزلت يستفتونك وروي عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وأن آخر آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال آخر آية نزلت آية الربا وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي عنه أن آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاش بعد نزول سورة النصر سنة ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر هكذا ذكره البغوي وفيه نظر لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه في الحجة التي أمره عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبي صلّى الله عليه وسلّم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وكانت حجة أبي بكر هذه سنة تسع قبل حجة الوداع بسنة قال البغوي: ثم نزلت في طريق حجة الوداع يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فسميت آية الصيف ثم نزلت وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ثم نزلت آية الربا ثم نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ عاش النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما. وهذا آخر تفسير سورة النساء والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الأول من تفسير الخازن ويليه الجزء الثاني وأوله: تفسير سورة المائدة.

سورة المائدة

الجزء الثاني سورة المائدة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته وقال «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها». فإن قلت لما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة من بين سور القرآن بقوله فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وكل سور القرآن يجب أن يحل حلالها ويحرم حرامها، قلت هو كذلك وإنما خص هذه السورة لزيادة الاعتناء بها فهو كقوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فأكد اجتناب الظلم في هذه الأربعة أشهر وإن كان لا يجوز الظلم في شيء من جميع أشهر السنة وإنما أفرد هذه الأربعة الأشهر بالذكر لزيادة الاعتناء بها، وقيل إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة لأن فيها ثمانية عشر حكما لم تنزل في غيرها من سور القرآن. قال البغوي روي عن ميسرة قال: إن الله تعالى أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها وهي قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وتمام بيان الطهر في قوله: «إذا قمتم إلى الصلاة- والسارق والسارقة- ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم- ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام» وقوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المائدة (5): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني العهود قال الجماعة: واختلفوا في المراد بهذه العقود التي أمر الله تعالى بوفائها فقال ابن جريج: هذا خطاب لأهل الكتاب. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، أوفوا بالعقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به. وقيل: هو خطاب للمؤمنين أمرهم بالوفاء بالعقود. قال ابن عباس: هي عهود الإيمان وما أخذه على عباده في القرآن فيما أحل وحرم. وقيل هي العقود التي كانت في الجاهلية كان يعاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة على من حاول ظلمه أو بغاه بسوء وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. قال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام». وقيل: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم وما يعقده الإنسان على نفسه. والعقود خمسة: عقد اليمين، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الشركة. زاد بعضهم: وعقد الحلف.

[سورة المائدة (5): آية 2]

قال الطبري: وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس أن معناه أوفوا يا أيها المؤمنون بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها فيما أحلّ وحرم عليكم وألزمكم فرضه وبيّن لكم حدوده وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب، لأن الله تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم فقال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهو خطاب للمؤمنين خاصة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش وإنما سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز. قال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة. والأنعام: جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يدخل فيها ذوات الحافر في قول جميع أهل اللغة. واختلفوا في معنى الآية فقال الحسن وقتادة: بهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم والمعز. وعلى هذا القول إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد. وقال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش. وعلى هذا إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام ليعرف جنس الأنعام وما أحل منها لأنه لو أفردها فقال البهيمة لدخل فيه ما يحل ويحرم من البهائم فلهذا قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ. وقال ابن عباس: هي الأجنّة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت. ذهب أكثر العلماء إلى تحليلها وهو مذهب الشافعي ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أخرجه الترمذي وابن ماجة. وفي رواية أبي داود قال: «قلنا يا رسول الله ننحر النّاقة ونذبح البقرة والشاة ونجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» وروى الطبري عن ابن عمر في قوله: أحلّت لكم بهيمة الأنعام، قال: ما في بطنها. قال عطية العوفي: قلت إن خرج ميتا آكله؟ قال: نعم هو بمنزلة رئتها وكبدها. وعن ابن عباس قال: الجنين من بهيمة الأنعام وعنه أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنب الجنين. وقال: هذا من بهيمة الأنعام. وشرط بعضهم الإشعار وتمام الخلق. وقال ابن عمر: ذكاة ما في بطنها ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة: لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم. وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني في القرآن تحريمه وأراد به قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية فهذا من المتلو علينا وهو ما استثنى الله عز وجل من بهيمة الأنعام غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني أحللت لكم الأنعام كلها والوحشية أيضا من الظباء والبقر والحمر غير محلّي صيدها وأنتم محرمون في حال الإحرام فلا يجوز للمحرم أن يقتل صيدا في حال إحرامه إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ يعني أن الله يقضي في خلقه ما يشاء، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده. [سورة المائدة (5): آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ نزلت في الحطم واسمه شريح بن هند بن ضبعة البكري أتى المدينة وحده وخلف خيله خارج المدينة ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إلا ما، تدعو الناس

فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم فخرج من عنده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما خرج شريح. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم، فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول: لقد لفّها بالليل سواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين ممسوح القدم فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجّا مع حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدي، فقال المسلمون: يا رسول الله هذا الحطم قد خرج حاجا فخلّ بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي. فقالوا: يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ. قال ابن عباس: هي المناسك كان المشركون يحجون ويهدون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك. وقيل: الشعائر، الهدايا المشعرة وإشعارها أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة أنها هدي وهو سنة في الإبل والبقر عون الغنم، ويدل عليه ما روي عن عائشة: «فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت فما حرم عليه شيء كان له حلالا» أخرجاه في الصحيحين (م). عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهلّ بالحج. وعند أبي حنيفة لا يجوز إشعار الهدي بل قال يكره ذلك. وقال ابن عباس «1» في معنى الآية: لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم. وقيل: شعائر الله شرائع الله ومعالم دينه، والمعنى: لا تحلوا شيئا من فرائضه التي افترض عليكم واجتنبوا نواهيه التي نهى عنها وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي ولا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه والشهر الحرام: هو الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال في الجاهلية فيه، فلما جاء الإسلام، لم ينقض هذا الحكم، بل أكده. والمراد بالشهر الحرام هنا، ذو القعدة. وقيل: رجب. ذكرهما ابن جرير. وقيل: المراد بإحلال الشهر الحرام النسيء. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ، فيقول: إني قد أحللت كذا وحرمت كذا يعني به الأشهر فنهى الله عن ذلك وسيأتي تفسير النسيء في سورة براءة: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ الهدي ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى، والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد في عنق البعير وغيره والمعنى: ولا الهدي ذوات القلائد. قال الشاعر: حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق هدي مقلدات فعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية لأنها من أشراف البدن المهداة والمعنى: ولا تستحلوا الهدي خصوصا المقلدات منها. وقيل: أراد أصحاب القلائد وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا

_ (1) قوله وقال ابن عباس إلخ كأن هذا قول ثان له رضي الله عنه إذ تقدم له غير هذا اهـ.

أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم من لحاء شجر الحرم فكانوا يأمنون بذلك فلا يتعرض لهم أحد، فنهى الله المؤمنين عن ذلك الفعل ونهاهم عن استحلال نزع شيء من شجر الحرم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعني ولا تستحلوا القاصدين إلى البيت الحرام وهو الكعبة شرّفها الله وعظمها يَبْتَغُونَ يعني يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الرزق والأرباح في التجارة وَرِضْواناً يعني ويطلبون رضا الله عنهم بزعمهم لأن الكافر لا حظ له في الرضوان لكن يظن أن فعله ذلك طلب الرضوان فيجوز أن يوصف به بناء على ظنه. وقيل إن المشركين كانوا يقصدون بحججهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا يغالونه فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب ذلك القصد نوع من الحرمة وهو الأمن على أنفسهم. وقيل: كان المشركون يلتمسون في حجهم ما يصلح لهم دنياهم ومعاشهم. وقيل: ابتغاء الفضل هو للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وذلك أنهم يحجون جميعا. ((فصل)) اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال قوم: هذه الآية منسوخة إلى هاهنا لأن قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام يقتضي حرمة القتل في الشهر الحرام وفي الحرم وذلك منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يقتضي حرمة منع المشركين عن البيت الحرام وذلك منسوخ بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن بالهدي والقلائد كافر وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر المفسرين. قال الشعبي: لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية. وقيل: المنسوخ منها قوله ولا آمين البيت الحرام نسختها آية براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وقال ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم. قال الواحدي: وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة وأن هذه الآية محكمة قالوا ما ندبنا إلى أن نخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره وفصل الشهر الحرام عن غيره بالذكر تعظيما وتفضيلا وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين وصرفه عن بلوغ محله وحرم علينا القلائد التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وهذا غير مقبول، والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء، على أن الله عزّ وجلّ قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء الشجر لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن قد تقدم له عهد ذمة أو أمان. وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين لقوله تعالى عمرة من المشركين لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا والله أعلم. وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ يعني من إحرامكم فَاصْطادُوا هذا أمر إباحة، لأن الله حرم الصيد على المحرم حالة إحرامه بقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإذا حلّ من إحرامه بقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإنما قلنا إنه أمر إباحة لأنه ليس واجبا على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد ومثله قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ معناه أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ.

[سورة المائدة (5): آية 3]

قال ابن عباس: لا يحملنكم. وقيل: معناه لا يكسبنكم ولا يدعوكم شَنَآنُ قَوْمٍ يعني بغض قوم وعداوتهم أَنْ صَدُّوكُمْ يعني لأن صدوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والمعنى: لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية، فكان الصدّ قد تقدم أَنْ تَعْتَدُوا عليهم يعني: بالقتل وأخذ المال وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني ليعن بعضكم بعضا على ما يكسب البر والتقوى قال ابن عباس: البر متابعة السنة وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني ولا يعن بعضكم بعضا على الإثم وهو الكفر والعدوان هو الظلم. وقيل: الإثم المعاصي، والعدوان البدعة (م) عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر «حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا الله أن تعتدوا ما أمركم به أو تجاوزوا إلى ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره ففيه وعيد وتهديد عظيم. [سورة المائدة (5): آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) قوله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ بيّن الله تعالى في أول السورة ما أحل لنا من بهيمة الأنعام بقوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم إنه تعالى استثنى من ذلك بقوله: إلا ما يتلى عليكم. فذكر ذلك المستثنى بقوله حرمت عليكم الميتة فكل ما فارقته الروح مما يذبح بغير ذكاة فهو ميتة. وسبب تحريم الميتة، أن الدم لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس ذلك الدم وبقي في العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم والدم هو المسفوح الجاري، وكانت العرب في الجاهلية تجعل الدم في المصارين وتشويه وتأكله، فحرم الله ذلك كله. ولحم الخنزير، أراد به جميع أجزائه وأعضائه. وإنما خص اللحم بالذكر، لأنه المقصود بالأكل وقد تقدم في سورة البقرة أحكام هذه الثلاثة أشياء وما استثنى الشارع من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال وذكرنا الدليل على إباحة ذلك واختلاف العلماء في ذلك. وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ما ذكر على ذبحه غير اسم الله وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح فحرم الله بهذه الآية وبقوله: ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه وَالْمُنْخَنِقَةُ. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها فحرم الله ذلك. والمنخنقة: جنس الميتة لأنها لما ماتت لم يسل دمها. والفرق بينهما، أن الميتة تموت بلا سبب أحد، والمنخنقة تموت بسبب الخنق. وَالْمَوْقُوذَةُ: يعني المقتولة بالخشب. وكانت العرب في الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى تموت ويأكلونها فحرّم الله ذلك وَالْمُتَرَدِّيَةُ يعني التي تتردى من مكان عال فتموت أو في بئر فتموت. والتردي: هو السقوط من سطح أو من جبل ونحوه وهذه المتردية تلحق بالميتة فيحرم أكلها ويدخل في هذا الحكم إذا رمى بسهمه صيدا فتردى ذلك الصيد من جبل أو من مكان عال فمات فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم وَالنَّطِيحَةُ يعني التي تنطحها شاة أخرى حتى تموت وكانت العرب في الجاهلية تأكل ذلك، فحرمها الله تعالى لأنها في حكم الميتة. فأما الهاء في الكلمات التي تقدمت أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإنما دخلت عليها، لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة. كأنه قال: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة

والمتردية. وخصت الشاة، لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام إنما يخرج على الأعم الأغلب ثم يلحق به غيره. فإن قلت: لم أثبتت الهاء في النطيحة مع أنها في الأصل منطوحة فعدلوا بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة تقول: كف خضيب وعين كحيل يعني كف مخضوبة وعين مكحولة. قلت: إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول: رأيت قبيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة. فعلى هذا، إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لموصوف غير مذكور وهو الشاة. وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ومررت بقبيلة بني فلان. وقوله تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه، فحرمه الله تعالى. والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوه وفي الآية محذوف تقديره وما أكل السبع منه لأن ما أكله السبع فقد فقد فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء المذكورة والظاهر أن هذا الاستثناء يرجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية من قوله تعالى: والمنخنقة، إلى، وما أكل السبع. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة. قال ابن عباس: يقول الله تعالى ما أدركتم من هذا كله وفيه روح فاذبحوه فهو حلال. وقال الكلبي: هذا الاستثناء مما أكل السبع خاصة. والقول هو الأول وأما كيفية إدراكها، فقال أكثر أهل العلم من المفسرين: إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز. قال ابن عباس: إذا طرفت بعينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فهو حلال. وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبع إذا جرح فأخرج الحشوة أو قطع لجوف قطعا تيأس معه الحياة فلا ذكاة لأن ذلك وإن كان به حركة ورمق إلا أنه قد صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح وهو مذهب مالك واختاره الزجاج وابن الأنباري، لأن معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك وإلا فهو كالميتة. وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء، فالمراد من التذكية، تمام قطع الأوداج وانهار الدم ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر «وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة» أخرجاه في الصحيحين. وأقل الذبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وأكمله قطع الودجين مع ذلك والحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفس والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعان عند الذبح وأما آلة الذبح فكل ما أنهرا الدم وفرى الأوداج من حديد وغيره إلا السن والظفر لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعني وحرم ما ذبح على النصب. والنصب يحتمل أن يكون جمعا واحده نصاب وأن يكون واحدا وجمعه أنصاب وهو الشيء المنصوب. قيل: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هذه الحجارة بأصنام إنما الأصنام الصور المنقوشة. وقال ابن عباس: هي الأصنام المنصوبة. والمعنى: وما ذبح على اسم النصب أو لأجل النصب

فهو حرام وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ يعني وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح وكانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها أمرني ربي وعلى واحد نهاني وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وعلى واحد غفل أي ليس عليه شيء. وكانت العرب في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظام جاءوا إلى هبل وكانت أعظم صنم لقريش، بمكة وجاءوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر وإن خرج نهاني ربي ولم يفعلوه وإن أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسطا فيهم وإن خرج من غيركم كان حلفا فيهم وإن خرج ملصق كان على حاله وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه قدح العقل تحمله وإن خرج الغفل أجابوا ثانيا حتى يخرج المكتوب عليه فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. وقيل: الأزلام كعاب فارس والروم التي كانوا يقامرون بها. وقيل: كانت الأزلام للعرب. والكعاب للعجم وهي: النرد وكلها حرام لا يجوز اللعب بشيء منها. عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العيافة والطيرة والطرق من الجبت» أخرجه أبو داود وقال: الطرق الزجر والعيافة الخط. وقيل: العيافة زجر الطير والطرق الضرب بالحصى والجبت كل ما عبد من دون الله عز وجل. وقيل: الجبت الكاهن. وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطيّر طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة وقوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية لأن المعنى حرم عليكم تناول كذا وكذا فإنه فسق والفسق ما يخرج من الحلال إلى الحرام وقيل إن الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام والأول أصح الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفارا، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم، فلما قوي الإسلام، أيسوا من ذلك وذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام حجة الوداع فعند ذلك يئس الكفار من بطلان دين الإسلام. وقيل: إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة. وقيل: لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئس الذين كفروا من دينكم فهو كما تقول: اليوم قد كبرت. تريد: الآن قد كبرت. وتقول: فلان كان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولم ترد يوما بعينه. يعني: وهو الآن يجفونا ولم تقصد به اليوم قال الشاعر: فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسرّ أراد فزمان علينا وزمان لنا ولم يقصد اليوم واحد معين فَلا تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوا الكفار أيها المؤمنون الذين آمنوا أن يظهروا على دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم وَاخْشَوْنِ أي وخافوا مخالفة أمري وأخلصوا الخشية لي. قوله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت هذه الآية في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة (ق). عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال: فأي آية؟ قال: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم الجمعة أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. وعن ابن عباس

أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وعنده يهودي فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا فقال ابن عباس: «فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس. ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده. وروي أنه لما نزلت هذه الآية، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال: صدقت» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل: لاثنتي عشر ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة. وأما تفسير الآية فقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني بالفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض هذا معنى قول ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة: معنى أكملت لكم دينكم، أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقيل: معناه أني أظهرت دينكم على الأديان وأمنتكم من عدوكم بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه. وقيل: إكمال الدين لهذه الأمة أنه لا يزول ولا ينسخ وإن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة. وقيل: إكمال الدين لهذه الأمة أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة. وقال ابن الأنباري: اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر فيكون الوقت الأول تاما في وقته، وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة. ومعلوم أن العشرين أكمل منها والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القفال واختاره أن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبدا كاملا كانت الشرائع النازلة من عند الله كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت البعثة بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد لا يصالح فيه لا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيل بعد التحتم. وأما في آخر زمان البعثة، فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدا كان كاملا إلا أن الأول كمال إلى يوم مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة، فلأجل هذا المعنى قال: اليوم أكملت لكم دينكم. ثم قال تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة، لأنه لا نعمة أتم من الإسلام. وقال ابن عباس: حكم لها بدخول الجنة. وقيل: معناه أنه تعالى أنجز لهم ما وعدهم في قوله ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام النعمة أن دخلوا مكة آمنين وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني واخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان وقيل: معناه ورضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم وإنما قال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يوم نزلت هذه الآية وإن كان الله تعالى لم يزل راضيا بدين الإسلام فيما مضى قبل نزول هذه الآية لأنه لم يزل يصرف نبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من حال إلى حال وينقلهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى أكمل لهم شرائع الدين ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم أنزل عليهم هذه الآية: ورضيت لكم الإسلام دينا، يعني بالصفة التي هو اليوم بها وهي نهاية الكمال وأنتم الآن عليه فالزموه ولا

[سورة المائدة (5): آية 4]

تفارقوه. روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل: «هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه» وروى الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يمثل لكل أهل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخبر حتى يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزى. وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى ومتصلة بها، والمعنى: أن المحرمات وإن كانت محرمة، إلا أنها قد تحل في حالة الاضطرار إليها. ومن قوله تعالى: ذلكم فسق، إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره من معنى التحريم، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو المرضي عند الله. ومعنى الآية: فمن اضطر أي أجهد وأصيب بالضر الذي لا يمكنه معه الامتناع من أكل الميتة. وهو قوله تعالى: في مخمصة، يعني في مجاعة. والمخمصة: خلو البطن من الغذاء عند الجوع. غير متجانف لإثم: يعني غير مائل إلى إثم أو منحرف إليه. والمعنى: فمن اضطر إلى أكل الميتة أو إلى غيرها في المجاعة فليأكل غير متجانف لإثم وهو أن يأكل فوق الشبع. وقول فقهاء العراق. وقيل: معناه غير متعرض لمعصية في مقصد وهو قول فقهاء الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يعني لمن أكل من الميتة في حال الجوع والاضطرار. [سورة المائدة (5): آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ روى الطبري بسنده عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له فلم يدخل فقال: قد أذنّا لك يا رسول الله قال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب». قال أبو رافع فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. وروي عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم وسعد بن أبي خيثمة وعويمر بن ساعدة على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماذا أحل لنا فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال ابن الجوزي: وأخرج حديث أبي رافع الحاكم في صحيحه قال البغوي: فلما نزلت هذه الآية أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية». ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم» وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير قالا: يا رسول الله إنّا قوم نصيد بالكلاب وبالبزاة فماذا يحل لنا فنزلت هذه الآية. قال البغوي: وهذا القول أصح في سبب نزولها. وأما التفسير فقوله تعالى يسألونك يعني يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل كأنهم لما تلا عليهم من خبائث المآكل ما تلا سألوا عما أحل لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني قل لهم يا محمد أحل لكم الطيبات يعني: ما ذبح عن اسم الله عز

وجل. وقيل: الطيبات كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة. واعلم: أن العبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل المروءة والأخلاق الجميلة من العرب، فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فإن الخبيث غير مستطاب، فصارت هذه الآية الكريمة نصا فيما يحل ويحرم من الأطعمة. وقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ يعني وأحل صيد ما علمتم من الجوارح فحذف ذكر الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ولأنهم سألوا عن الصيد وقيل: إن قوله وما علمتم من الجوارح ابتداء كلام خبره فكلوا مما أمسكن عليكم وعلى هذا القول يصح معنى الكلام من غير إضمار. والجوارح: جمع جارحة وهي الكواسب من: السباع والطير كالفهد والنمر والكلب والبازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق من الطير مما يقبل التعليم سميت جوارح من الجرح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه وقيل: سميت جوارح لأنها تكسب. والجوارح: الكواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ يعني اكتسبوا وقوله ويعلم ما جرحتم بالنهار أي اكتسبتم مكلبين يعني معلمين. والمكلب: هو الذي يغري الكلاب على الصيد. وقيل: هو مؤدّب الجوارح ومعلمها وإنما اشتق له هذا الاسم من الكلب، لأنه أكثر احتياجا إلى التعليم من غيره من الجوارح. (تعلمونهن) يعني تعلمون الجوارح الاصطياد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ يعني من العلم الذي علمكم الله، ففي الآية دليل على أنه لا يجوز صيد جارحة ما لم تكن معلمة. وصفة التعليم هو أن الرجل يعلم جارحة الصيد وذلك أن يوجد فيها أمور منها: أنه إذا أشليت «1» على الصيد استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل منها شيئا ومنها أن لا ينفر منه إذا أراده وأن يجيبه إذا دعاه فهذا هو تعليم جميع الجوارح فإذا وجد ذلك منها مرارا كانت معلمة وأقلها ثلاث مرات فإنه يحل قتلها إذا جرحت بإرسال صاحبها (ق). عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليه فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره». وفي رواية: فإنك لا تدري أيها قتل وسألته عن الصيد المعراض، فقال: إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل فإن وقع في المال فلا تأكل. واختلف العلماء فيما إذا أخذت الكلاب الصيد وأكلت منه شيئا فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاوس الشعبي وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ورخص بعضهم في أكله يروي ذلك عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وبه قال مالك لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» أخرجه أبو داود. وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذت صيدا أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فإنه لا يحل إلا أن يدركه حيا فيذبحه فيحل (ق).

_ (1) قوله إذا أشليت قال في الصحاح وقول الناس أشليت الكلب على الصيد خطأ وقال أبو زيد أشليت الكلب دعوته وقال ابن السكيت يقال أو سدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغربته به ولا يقال أشليته إنما الإشلاء الدعاء اهـ.

[سورة المائدة (5): آية 5]

عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله أنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ دخلت من في قوله مما للتبعيض لأنه إنما أحل أكل بعض الصيد وهو اللحم دون الفرث والدم. وقيل: من زائدة فهو كقوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. قال ابن عباس: يعني إذا أرسلت جارحك فقل بسم الله وإن نسيت فلا حرج. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعدي: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل» فعلى هذا يكون الضمير في عليه عائد إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا الله عليه عند إرساله. وقيل: الضمير عائد إلى ما أمسكن عليكم. والمعنى: سموا الله عليه إذا أدركتم ذكاته. وقيل: يحتمل أن يكون الضمير عائد إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله عليه عند الأكل فعلى هذا تكون للتسمية شرطا عند إرسال الجوارح وعند إرسال الذبيحة وعند الأكل وسيأتي بيان هذه المسألة «1» في سورة الأنعام عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني واحذروا مخالفة الله يعني فيما أحل لكم وحرم عليكم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة ففيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهاه عنه. [سورة المائدة (5): آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) قوله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد كأنه قال: اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ويحتمل أن يراد باليوم، اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: اليوم يئس الذي كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم، أنه تعالى قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة، فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات. وقيل: ليس المراد باليوم يوما معينا وقد تقدم الكلام في ذلك اليوم وفي معنى الطيبات في الآية المتقدمة. وقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني وذبائح أهل الكتاب حل لكم وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم متنصروا العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحته. روي عن علي بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. ومذهب الشافعي: أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، فإنه لا تحل ذبيحته. سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس به. ثم قرأ: ومن يتولهم منكم، فإنه منهم وهذا

_ (1) قوله وسيأتي بيان هذه المسألة إلخ لم يتعرض لما ذكره هنا عند الآية الآتية في سورة الأنعام اهـ مصححه.

قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى مثل هذا مذهب الشافعي. وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له، وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح فحمل هذه الآية عليه أولى ولأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره، وإنما تختلف الذكاة، فلما خص أهل الكتاب بالذكر دل على أن المراد بطعامهم وذبائحهم واختلف العلماء فيما لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله فقال ابن عمر: لا يحل ذلك وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل. سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح فقال: يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني وذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فكل فقد أحله الله لك وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله فيكون هذا ناسخا لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وليس الأمر كذلك ولا نسخ لأن الأصل أنهم يذكرون الله عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا فإن تيقنا أنهم ذبحوا على غير اسم الله لم تأكل ولا وجه للنسخ. وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني أن ذبائحنا لهم حلال وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا. وقال الزجاج: معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن تطعمهم من ذبائحنا. وقيل: إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة من الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين ثم قال تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ قال مجاهد: هن الحرائر فعلى هذا القول لا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين: خوف العنت، وعدم طول الحرة. وقال ابن عباس: المحصنات: العفائف. فعلى هذا القول لا يحل نكاح الزانية لأنها لم تدخل في هذا التحليل وأباح العلماء نكاحها إذا تابت وحسنت توبتها. روى طارق بن شهاب أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت: إني أخشى أن أفضحك إني قد بغيت فأتى عمر فذكر ذلك له منها فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى. قال: فزوجها. وقيل: إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين. وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني وأحل لكم المحصنات من أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال ابن عباس: يعني الحرائر من أهل الكتاب. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك: يريد العفائف من أهل الكتاب فعلى قول ابن عباس: لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية وهو مذهب الشافعي قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان، الكفر، والرق. وعلى قول الحسن ومن وافقه، يجوز التزويج بالأمة الكتابية وهو مذهب أبي حنيفة لعموم هذه الآية. واختلف العلماء في حكم هذه المسألة فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى. روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ويحتج

[سورة المائدة (5): آية 6]

بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وكان يقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى وأجاب الجمهور عن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بأنه عام خص بهذه الآية فأباح الله تعالى المحصنات من أهل الكتاب وحرم من سواهن من أهل الشرك وقال سعيد بن المسيب والحسن: يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب لعموم قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب. قال ابن عباس: من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا. وقرأ: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب. وقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني متعففين بالتزوج غير زانين وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يعني ولا منفردين ببغي واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا واتخاذ الصديق وهو الخدن وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج بعقد صحيح وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يعني ومن يجحد ما أمر الله به من توحيده ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يعني فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة. وقيل في معنى الآية، ومن يكفر بشرائع الإيمان وتكاليفه فقد خاب وخسر وقال قتادة ذكر لنا إن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم؟ يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا، فأنزل الله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. وقيل: لما أباح الله تعالى نكاح الكتابيات، قلن فيما بينهن لولا أن الله قد رضي أعمالنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا، فأنزل الله هذه الآية والمعنى أن تزوج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر. وقيل: إن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة بإباحة ذبائحهم ونكاح نسائهم إلا أن ذلك غير حاصل لهم في الآخرة، لأن كل من كفر بالله وجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. وقيل: إن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله أو جحد بشيء مما أنزل الله فقد كفر بالله وحبط عمله المتقدم وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إذا مات على ذلك وهذا الشرط لا بد منه لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت قبلت توبته وصح إيمانه. [سورة المائدة (5): آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثله قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ومثله من الكلام إذا اتجرت فأتجر في البر أي إذا أردت التجارة. وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية ومذهب داود الظاهري وذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه يجزئ عدة صلوات بوضوء واحد وأجيب عن ظاهر الآية بأن المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر فحذف ذلك لدلالة المعنى عليه وهذا أحد اختصارات القرآن وهو

كثير جدا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» أخرجاه في الصحيحين وقيل في معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقيل: هو أمر ندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارة وإن كان على طهر ويدل عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» أخرجه الترمذي. وقيل: هذا إعلام من الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ويدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» أخرجه مسلم. والقول الأول هو المختار في معنى الآية وفروض الوضوء المذكور في هذه الآية أربعة: الأول غسل الوجه وهو قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وحجته أن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويا ولما روي في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منويا وإنما قلنا: إن الوضوء مأمور به وأنه من أعمال الدين لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. والإخلاص، عبارة عن النية الخالصة ومتى كانت النية الخالصة، معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبرا. واستدل أبو حنيفة لعدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية قال: إن النية ليست شرطا لصحة الوضوء، لأن الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وأجيب عنه: بأنا إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وأما حد الوجه، فمن منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا لأنه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين والشارب والعنفقة وإن كانت كثة. وأما اللحية فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل ما تحتها ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان: أحدهما وبه قال أبو حنيفة، لا يجب لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في المسح فكذلك حكم الشعر النازل عن حد الوجه لا يجب غسله. والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الوجه مأخوذ من المواجهة فتدخل جميع اللحية في حكم الوجه. الفرض الثاني قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ يعني: واغسلوا أيديكم إلى المرافق والمرافق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل ونقل عن مالك والشافعي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري، أنه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك: وقد سئل عن قول الله عز وجل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فقال: الذي آمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ولأن الحد لا يدخل في المحدود فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء وحجة الجمهور أن كلمة إلى هنا بمعنى مع ومنه قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم ويعضده من السنة ما صح من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده السرى حتى أشرع في العضد ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ. والجواب عن الحجة المتقدمة إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية لأن المرفق من جنس اليد وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ لأن النهار من غير جنس الليل فلا يدخل فيه. الفرض الثالث: قوله تعالى:

وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف العلماء في القدر الذي يجب مسحه من الرأس فقال مالك يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربعه. وفي رواية أخرى عنه: يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه وقال الشافعي الواجب مسح ما ينطلق عليه اسم المسح والمراد إلصاق المسح بالرأس وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين متفق عليه وقدر الناصية بربع الرأس. الفرض الرابع: قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اختلف العلماء في هذا الحكم. وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل؟ فروى عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. ويروى ذلك عن قتادة أيضا. ويروى عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وعن عكرمة قال: ليس في الرجلين إنما نزل فيهما المسح. وعن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح عن الرجلين. ألا ترى إن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل. ومذهب الإمامية من الشيعة: أن الواجب في الرجلين المسح. وقال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم: إن فرض الرجلين هو الغسل. وقال داود الظاهري: يجب الجمع بينهما. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين الغسل والمسح. وسبب هذا الاختلاف، اختلاف القراء في هذا الحرف. فقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم: وأرجلكم بفتح اللام عطفا على الغسل فيكون من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم. وقال أصحاب هذه القراءة: إنما أمر الله عباده بغسل الأرجل دون مسحها ويدل عليه أيضا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين فمن بعدهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأرجلكم بكسر اللام عطفا على المسح. أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ولا يقدح فيه قول من خالف. وأما قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها فقال أبو حاتم وابن الأنباري وأبو علي الكسر عطف على الممسوح، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل. وقال أبو زيد: المسح خفيف الغسل لقول العرب تمسحت للصلاة بمعنى توضأت لها وهات ما أتمسح به للصلاة بمعنى أتوضأ. قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحا بهذا الاعتبار فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحا إلا أن مسح الرأس أخف. والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل ذكر التحديد وهو قوله تعالى: إلى الكعبين لأن التحديد إنما جاء في المغسول ولم يجئ في الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل. وقال جماعة من العلماء: إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر والمراد فيها الغسل لأنه قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا والمعنى: وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد به وكذلك قول الآخرين. علفتها تبنا وماء باردا. يعني وسقيتها ماء باردا. وكذلك المعنى في الآية وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم فلما لم يذكر الغسل وعطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر اكتفى بقيام الدليل على أن الأرجل مغسولة من مفهوم الآية والأحاديث الصحيحة الواردة بغسل الرجلين في الوضوء. وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم واستدل بقولهم: جحر ضب خرب. وقال الخرب نعت للجحر لا للضب وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس

يجيد لأن الكسر على المجاورة إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس لأن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف. أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وقوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ فيه دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين كما في وجوب غسل الرجلين كما في قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ والمعنى: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين وقد تقدم اختلاف العلماء في ذلك عند قوله إلى المرافق، والكعبان: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم هذا قول جمهور العلماء من أهل الفقه واللغة وشذت الشيعة، ومن قال بمسح الرجلين. فقال: الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ويدل على بطلان هذا القول أن الكعب لو كان على ما ذكره لكان في كل رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب كما في قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فلما قال إلى الكعبين علم أن لكل رجل كعبين فبطل ما قالوه وثبت قول الجمهور. ((فصل)) قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة: وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء فصارت فرضا خامسا. وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله في هذه الآية فيغسل أولا وجهه ثم يده ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، فصار الترتيب فرضا سادسا. وذهب أبو حنيفة، إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب احتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه ثم بغسل اليدين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين فوجب أن يقع الفعل مرتبا كما أمر الله تعالى ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع «ابدأ بما بدأ الله به» وهذا الحديث، وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء ما وردت إلا مرتبة كما ورد في نص الآية ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسا أو غير مرتب، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما مر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب واحتج. أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضا. وذلك أن الواو لا توجب الترتيب، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص وذلك غير جائز وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر وبيان الكتاب إنما يؤخذ من السنة. ((فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله)) (ق) عن حمران مولى عثمان بن عفان «أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (ق). عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري «قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء فأفرغ منه على يديه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم» زاد في رواية بعد قوله: «فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه».

عن عبد خير قال: أتانا علي كرم الله وجهه وقد صلى فدعا بطهور فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى ما يريد إلا ليعلمنا فأتى بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يده ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا فمضمض ونثر من كف يأخذ منه ثم غسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمين ثلاثا وغسل الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم قال: «من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا» أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو قال ظلم وأساء» أخرجه أبو داود. وعن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» أخرجه الترمذي وصححه (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: «ويل للأعقاب من النار» (م) عن جابر قال: أخبرني عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك قال فرجع فتوضأ ثم صلى» أخرجه مسلم عن خالد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» أخرجه أبو داود (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا» عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة» أخرجه البخاري عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين أخرجه أبو داود والترمذي. وقال وقد روي عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا» (م). عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة» فقلت ما أجود هذا فإذا قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفا قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (م). عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب» (ق) عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وفي رواية قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله». وفي رواية لمسلم قال: سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات» أخرجه الترمذي.

[سورة المائدة (5): الآيات 7 إلى 9]

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» أخرجه أبو داود وابن ماجة. وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي اغتسلوا أمر الله بالاغتسال من الجنابة وذلك يجب على الرجل والمرأة بأحد شيئين: إما بخروج المني على أي صفة كان من احتلام أو غيره أو بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال فإذا حصل وجب الغسل (ق). عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ثم يفيض الماء على سائر جسده» أو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فقد تقدم تفسيره وأحكامه في تفسير سورة النساء وفي قوله تعالى منه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب. وقوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يعني من ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يعني من الأحداث والذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير للذنوب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون نعمة الله عليكم بأن طهركم من الأحداث والذنوب وما جعل عليكم في الدين من حرج. [سورة المائدة (5): الآيات 7 الى 9] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني: ما أنعم به عليكم من النعم كلها، لأن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها والانقياد لأمره وهو الله تعالى: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني: واذكروا عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا وقيل الميثاق هو الذي أخذه عليهم في يوم ألست بربكم قالوا بلى: وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني إن الله تعالى عالم بما في قلوب عباده من خير وشر. وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ قال ابن عباس يريد أنهم يقومون لله بحقه ومعنى ذلك: هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ يعني وتشهدون بالعدل يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعداءك أقم شهادتك لهم وعليهم بالصدق والعدل. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ولا يحملنكم بغض قوم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا على ترك العدل فيهم لعدوانهم اعْدِلُوا أمر الله بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل أقرب للتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني: أن الله تعالى خبير بجميع أعمالكم مطلع عليها وخبير بمن عدل ومن لم يعدل. قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني عملوا بما واثقهم الله به وأوفوا بالعهود التي عاهدهم عليها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هذا بيان للوعد كأنه لما تقدم ذكر الوعد فقيل: أي شيء هذا الوعد؟ فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.

[سورة المائدة (5): الآيات 10 إلى 11]

[سورة المائدة (5): الآيات 10 الى 11] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: والذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا عهوده ومواثيقه وكذبوا بما جاءت به الرسل من عنده أُولئِكَ يعني من هذه صفته أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال: فلان صاحب فلان يعني الملازم له. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني: اذكروا نعمة الله عليكم بالدفع عنكم مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم ثم وصف تلك النعمة التي ذكرهم بها وأمرهم بالشكر عليها فقال تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يعني بالقتل والبطش بكم فصرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم. اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وفي صفة هذه النعمة التي أمر الله تعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بذكرها والشكر عليها، فقال قتادة: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة حين أراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل صلاة الخوف. وقال الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل فقال رجل من المشركين: هل لكم أن أقتل محمدا؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. قالوا: وددنا أنك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر إليه مرة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثم قال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف ومضى فأنزل الله هذه الآية. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر فاقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم: أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء يسقط من بين مناقيرها علق الدم فقال أحد النفر الثلاثة: قتل أصحابنا. ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا من المشركين فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه فقال: الله أكبر الجنة ورب العالمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات. وقيل أراد أن يستقرض منهم دية رجلين فقالوا نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعض اليهود ببعض وقالوا: إنكم لم تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر منكم على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيربحنا منه فقال عمرو بن جحاش: أنا. فعمد إلى رحى عظيمة ليطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة. قال: وخرج معه علي بن أبي طالب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لا تبرح مكانك حتى يخرج إليك أصحابي فمن خرج إليك منهم وسألك عني فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم اتبعوه إلى المدينة وأنزل الله عز وجل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ يعني اليهود أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقال بسط يده إليه إذا بطش به وهو إذا مدها إلى المبطوش به ليقتله فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى منعهم مما أرادوه بكم

[سورة المائدة (5): آية 12]

وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني فيما أمركم به ونهاكم عنه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكل عليه لأنه هو الكافي عباده جميع أمورهم فإذا فعلوا ذلك وتوكلوا عليه حفظهم ورعاهم ممن أرادهم بسوء كما كفّ أيدي اليهود عنهم لما أرادوا أن يفتكوا بهم وهذه القصة أولى بالصواب لأنه عقب الآية بذم اليهود وذكر قبيح أفعالهم وخيانتهم وذلك قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لما ذكر الله في الآية المتقدمة بعض غدرات اليهود وما أرادوه من كيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتبعه بذكر أسلافهم وما نقضوه من المواثيق والعهود ومعنى الآية أن الله أخذ ميثاقهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يعملوا بما في التوراة من الأحكام والتكاليف وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً اختلف العلماء في معنى النقيب فقال ابن عباس: النقيب الضمين. وقال قتادة: هو الشهيد على قومه. وقيل: هو الأمين الكفيل. وقيل: هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم. ((ذكر القصة في ذلك)) قال أصحاب الأخبار والسير: إن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فأمر الله موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض وقال: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء وهي مدينة الجبارين فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له، عوج بن عنق، وعنق: أمه، وهي إحدى بنات آدم عليه السلام. وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع هكذا نقله البغوي وفيه نظر لأن آدم عليه السلام كان طوله على ما ورد في الأحاديث الصحيحة ستين ذراعا. قال: وكان عوج يحتجر بالسحاب ويشرب من مائه ويتناول الحوت من قعر البحر ويشويه في عين الشمس، ويروى أن الماء لما طبق على الأرض من جبل وغيره ما بلغ ركبتي عوج وقال لنوح عليه السلام: احملني معك في السفينة فقال نوح عليه السلام: اخرج عني يا عدو الله فإني لم أؤمر بك وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام وذلك أنه اقتلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى، وكان فرسخا في فرسخ وحملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فنقب الصخرة وقورها بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته وأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله قال، فلما لقي عوج النقباء أخذهم وجعلهم في حجزته وكان على رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته وقال لها: انظري إلى هؤلاء الذين يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا منك وقيل إنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم وكان مما رأوا أن العنقود العنب لا يحمله إلا خمسة أنفس منهم بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبسها خمسة أنفس فرجع النقباء وقال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إذا خبرتم بني إسرائيل خبر القوم رجعوا عن نبي الله موسى ولا يقاتلونهم معه اكتموا عن بني إسرائيل خبر القوم وأخبروا موسى

[سورة المائدة (5): الآيات 13 إلى 14]

وهارون بما رأيتم فيريان رأيهما وأخذ بعض النقباء على بعض الميثاق بذلك فلما رجعوا إلى بني إسرائيل نكثوا العهد والميثاق وأخبر كل رجل سبطه بما رأى إلا رجلان منهم وهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهم أوفيا بالعهود ولم ينكثا الميثاق فذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ فيه حذف تقديره وقال للنقباء: إني معكم يعني بالنصر والمعونة. وقيل: هو خطاب لعامة بني إسرائيل: والقول الأول أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فكان عوده إلى النقباء أولى ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطبا لبني إسرائيل: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ هذه جملة شرطية والشرط مركب من خمسة أمور، وهي قوله: لئن أقمتم الصلاة وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وجزاء الشرط قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وذلك إشارة إلى إزالة العذاب. وقوله تعالى: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إشارة إلى إيصال الثواب ومعنى الآية لئن أقمتم الصلاة المكتوبة وآتيتم الزكاة المفروضة وآمنتم برسلي يعني جميع رسلي وإنما أخر ذكر الإيمان بالرسل لأن اليهود كانوا مقربين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان ببعض الرسل فقال الله لهم إنه لا يتم لكم ذلك ولا يحصل المقصود إلا بالإيمان بجميع الرسل. وقوله تعالى: وعزرتموهم، يعني ونصرتموهم. وأصل التعزير في اللغة: الردع. فمعنى وعزرتموهم: ونصرتموهم بأن تردوا أعداءهم عنهم. وقيل: معناه وقرتموهم وعظتموهم. والقول هو الأول. وأقرضتم الله قرضا حسنا: يعني به الصدقات المندوبة لأن الزكاة تقدم ذكرها فلا فائدة في تفسير هذا الفرض بالزكاة. فإن قلت: كيف؟ قال: وأقرضتم الله قرضا حسنا ولم يقل إقراضا حسنا لأن مصدر أقرضتم الإقراض قلت: إن قوله قرضا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه وذلك أن أقرض بمعنى قرض فكان معنى الكلام وأقرضتم الله فقرضتم قرضا حسنا ونظير ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً إذ كان معناه فنبتم نباتا وقوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني إذا فعلتم سائر ما أمرتكم به لأمحونّ عنكم سيئاتكم وأغفرها لكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يعني بعد أخذ العهد والميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يعني فقد أخطأ الطريق المستقيم وهو طريق الدين الذي شرعه والهدى الذي أمر باتباعه قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 13 الى 14] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقضهم الميثاق وذلك أن بني إسرائيل نقضوا ميثاق الله وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاءوا من بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه لَعَنَّاهُمْ يعني جازيناهم على ذلك بأن أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا وأصل اللعنة الإبعاد عن الرحمة وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يعني غليظة يابسة لا تلين لأن القسوة خلاف اللين والرقة وقيل معناه إن قلوبهم ليست خالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يعني يغيرون حدود التوراة وأحكامها وقيل هو تبديلهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته من التوراة وقيل هو تحريفهم معاني الألفاظ بسوء التأويل وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان يعني على معصية منهم وكانت خيانتهم نقض العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب محمد صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من خيانتهم التي ظهرت إِلَّا قَلِيلًا

[سورة المائدة (5): الآيات 15 إلى 17]

مِنْهُمْ يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفو عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الآية فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك. وقيل: معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن والله يحب المحسنين قوله عز وجل: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن الله تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فَأَغْرَيْنا يعني فألقينا وأوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. قال قتادة: لما تركوا العمل بكتاب الله وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده، ألقى الله العداوة والبغضاء بينهم. وقيل: العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان: أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة. والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني أن الله تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم. قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 17] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمد صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم يظهر كثيرا مما أخفوا وكتموا من أحكام التوراة والإنجيل وذلك أنهم أخفوا آية الرجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك وأظهره وهذا معجزة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابهم ولم يعلم ما فيه فكان إظهاره ذلك معجزة له وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني مما يكتمونه فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به لأنه لا حاجة إلى إظهاره والفائدة في ذلك أنهم يعلمون كون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بما يخفونه وهو معجزة له أيضا فيكون ذلك داعيا لهم إلى الإيمان به قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم إنما سماه الله نورا لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور في الظلام وقيل: النور هو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني يهدي الله بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي اتبع ما رضيه الله وهو دين الإسلام لأنه مدحه وأثنى عليه سُبُلَ

[سورة المائدة (5): الآيات 18 إلى 20]

السَّلامِ قال ابن عباس: يريد دين الله وهو الإسلام فسبله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وأمر عباده باتباعه. وقيل: سبل السلامة طرق السلام. وقيل: سبل السلام دار السلام فيكون من باب حذف المضاف وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بِإِذْنِهِ يعني بتوفيقه وهدايته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني دين الإسلام قوله عز وجل لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. قال ابن عباس: هؤلاء نصارى نجران، فإنهم قالوا هذه المقالة وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم يقولون بالحلول وأن الله قد حل في بدن عيسى فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم حكم الله عليهم بالكفر ثم ذكر الله ما يدل على فساد مذهبهم فقال تعالى: قُلْ يعني يا محمد لهؤلاء النصارى الذين يقولون هذه المقالة فَمَنْ يَمْلِكُ يعني يقدر أن يدفع مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني من أمر الله شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ يعني يعدم المسيح وأمه وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ووجه الاحتجاج على النصارى بهذا أن المسيح لو كان إنما كما يقولون لقدر على دفع أمر الله إذا أراد إهلاكه وإهلاك أمه وغيرها وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إنما قال وما بينهما ولم يقل وما بينهن لأنه أراد ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء فإنها ملكه وأهلها عبيده وعيسى وأمه من جملة عبيده يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني من غير اعتراض عليه فيما يخلق لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق سائر الخلق من أب وأم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أن الله تعالى لا يعجزه شيء أراده فلا اعتراض لأحد من خلقه عليه قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 18 الى 20] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وابن أصار وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى، نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية. وسبب هذه المقالة ما حكاه السدي قال: أما اليهود فإنهم قالوا إن الله أوحى إلى إسرائيل إني أدخل من ولدك النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أن اخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فيخرجون فذلك قوله تعالى: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. وأما النصارى، فإن فرقا منهم يقولون المسيح ابن الله وكذبوا فيما قالوا على الله تعالى فأما وجه قول اليهود فإنهم يعنون أنه من عطفه عليهم كالأب الشفيق على الولد وأما وجه قول النصارى، فإنهم لما قالوا في المسيح أنه ابن الله وادعوا أنه منهم فكأنهم قالوا: نحن أبناء الله لهذا السبب. وقيل: إن اليهود إنما قالوا هذه المقالة من باب حذف المضاف والمعنى نحن أبناء رسول الله وأما النصارى فإنهم تأولوا قول المسيح أذهب إلى أبي وأبيكم. وقوله: إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء لنقدسن اسمك فذهبوا إلى ظاهر هذه المقالة ولم يعلموا ما أراد المسيح عليه السلام إن صحت هذه المقالة عنه فإن تأويلها أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده وجملة الكلام في ذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على من سواهم بسبب أسلافهم الأفاضل حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فأبطل الله عز وجل

دعواهم وكذبهم فيما قالوا بقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. معناه: إذا كان الأمر كما تزعمون فلم يعذبكم الله وأنتم قد أقررتم على أنفسكم أنه يعذبكم أربعين يوما وهل رأيتم والدا يعذب ولده بالنار وهل تطيب نفس محب أن يعذب حبيبه في النار بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يعني بل أنتم يا معشر اليهود والنصارى كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان. قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن تاب من اليهود والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني من مات على اليهودية والنصرانية. وقيل: معناه يهدي من يشاء فيغفر له ويميت من يشاء على كفره فيعذبه وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. يعني: أنه تعالى يملك ذلك لا شريك له في ذلك فيعارضه وهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني وإلى الله مرجع العباد في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم. قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود اتقوا الله فو لله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا: ما قلنا ذلك لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله هذه الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يبين لكم يعني أحكام الدين والشرائع على فترة من الرسل قال ابن عباس: يعني على انقطاع من الرسل. واختلف العلماء في قدر مدة الفترة فروي عن سلمان قال: فترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة أخرجه البخاري. وقال قتادة: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك وعنه أنها خمسمائة سنة وستون سنة. وقال ابن السائب: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك: إنها أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس: على فترة من الرسل قال: على انقطاع منهم. قال: وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وستون سنة وهي الفترة وكان بين عيسى ومحمد أربعة من الرسل فذلك قوله إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قال: والرابع لا أدري من هو فكانت تلك السنون مائة وأربعا وثلاثين سنة نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: نبيّ ضيعه قومه. قال الإمام فخر الدين الرازي: والفائدة في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عند فترة الرسل، هي أن التحريف والتغيير كان قد تطرف إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق فصار ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث الله في هذا الوقت محمدا صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر فذلك قوله عز وجل: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير في هذا الوقت فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعني فقد أرسلت إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه قادر على بعثة الرسل في وقت الحاجة إليهم. قوله عز وجل: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس: اذكروا عافية الله. وقيل: معناه اذكروا أيادي الله عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري: هذا تعريف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلّى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات الله عز وجل إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة الله عليكم إذ فضلكم بأن جعل فيكم أنبياء. قال

[سورة المائدة (5): الآيات 21 إلى 22]

الكلبي: هم السبعون الذي اختارهم موسى من قومه وانطلق بهم إلى الجبل وأيضا كان أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهؤلاء لا شك أنهم من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب وهم الأسباط أنبياء على قول الأكثرين وموسى وهارون عليهما السلام وأيضا فإن الله تعالى أعلم موسى أنه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء فإنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فكان هذا شرفا عظيما لهم ونعمة ظاهرة عليهم وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدا في أيدي القبط. قال ابن عباس: يعني جعلكم أصحاب خدم وحشم. قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا ذكره البغوي بغير سند وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم، قال: لك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: أنت من الأغنياء، قال فإن لي خادما قال فأنت من الملوك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية ومن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني من عالمي زمانكم يذكرهم ما أنعم الله به عليهم من فلق البحر لهم وإهلاك عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم وإخراج الماء من الحجر لهم وتظليل الغمام فوقهم إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم. [سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 22] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ لما ذكر موسى قومه ما أنعم الله عليهم أمرهم بالخروج إلى جهاد عدوهم فقال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة المباركة. قال الكلبي: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له انظر فما أدرك بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك والأرض هي الطور وما حوله. وقيل: هي أريحاء وفلسطين وبعض الأردن. وقيل: هي دمشق. وقيل: هي الشام، كلها. قال كعب الأحبار: ووجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها أكثر عباده التي كتب الله لكم يعني كتب الله في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقيل: فرض الله عليكم دخولها وأمركم بسكناها. وقيل: وهبها لكم. فإن قلت: كيف؟ قال الله تعالى: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم. وقال فإنها محرمة عليهم وكيف الجمع بينهما؟ قلت فيه وجوه أحدها أنها كانت هبة من الله ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. الوجه الثاني: أن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم فإن يوشع بن نون وكالب بن يوفنا دخلاها وكانا ممن خوطب بهذا الخطاب. الوجه الثالث: إن هذا الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. الوجه الرابع: أنه قال: إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون دخلوها وكانت مساكن لهم كما وعدهم الله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يعني ولا ترجعوا القهقرى مرتدّين على أعقابكم إلى ورائكم ولكن امضوا لأمر الله الذي أمركم به وإن فعلتم خلاف ما أمركم الله به فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يعني فترجعوا خائبين لأنكم رددتم أمر الله قوله عز وجل: قالُوا يعني قوم موسى يا مُوسى إِنَّ فِيها يعني في الأرض المقدسة قَوْماً جَبَّارِينَ يعني قوما عاتين لا طاقة لنا بهم ولا قوة لنا بقتالهم وسموا أولئك القوم جبارين لشدة بطشهم وعظم خلقهم وكانوا ذوي أجسام عظيمة وأشكال هائلة وهم العمالقة بقية قوم عاد وأصل الجبار في صفة الإنسان فعال من جبره على الأمر يعني أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وقيل إنه مأخوذ من قولهم

[سورة المائدة (5): الآيات 23 إلى 26]

نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها يعني أرض الجبارين التي أمرهم الله بدخولها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها حتى يخرج الجبارون من الأرض المقدسة وإنما قالوا ذلك استبعادا لخروج الجبارين من أرضهم فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ يعني إليها قال العلماء بالأخبار إن النقباء لما خرجوا يتجسسون الأخبار لموسى عليه السلام ورجعوا إليه وأخبروه خبر القوم وما عاينوه منهم. قال لهم موسى: لا تخبروا بني إسرائيل بهذا فيجبنوا ويضعفوا عن قتالهم. وقيل: إن النقباء الاثني عشر لما خرجوا من أرض الجبارين قال بعضهم لبعض: لا تخبروا بني إسرائيل بما رأيتم فلما رجعوا وأخبروا موسى أمرهم أن لا تخبروا بني إسرائيل بذلك فخالفوا أمره ونقضوا العهد وأخبر كل رجل النقباء سبطه بما رأى إلا يوشع بن نون وكالب فإنهما كتما ووفيا بالعهد فلما علم بنو إسرائيل بذلك وفشا ذلك فيهم رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم. وجعل الرجل من بني إسرائيل يقول لصاحبه: تعالوا نجعل لنا رأسا وننصرف إلى مصر فلما قال بنو إسرائيل ذلك هموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبرنا الله عنهما بقوله: [سورة المائدة (5): الآيات 23 الى 26] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ يعني يخافون الله ويراقبونه أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا يعني بالهداية والوفاء ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ يعني قال الرجلان، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لبني إسرائيل، ادخلوا على الجبارين باب مدينتهم فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لأن الله وعدكم بالنصر وأن الله ينجز لكم وعده وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني يقول الرجلان لقوم موسى ثقوا بالله فإنه معكم وناصركم إن كنتم مصدقين بأن الله ناصركم لا يهولنكم عظم أجسامهم فإنا قد رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلما قالا ذلك، أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما، وقالوا: ما أخبرنا الله عنهم بقوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً يعني: قال قوم موسى لموسى إنا لن ندخل مدينة الجبارين أبدا يعني مدة حياتنا ما دامُوا فِيها يعني مقيمين فيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ إنما قالوا هذه المقالة لأن مذهب اليهود التجسيم فكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. قال بعض العلماء: إن كانوا قالوا هذا على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن كانوا قالوه على وجه الخلاف لأمر الله وأمر نبيه فهو فسق، وقال بعضهم: إنما قالوه على وجه المجاز. والمعنى: اذهب أنت وربك معين لك لكن قوله: فقاتلا يفسد هذا التأويل. وقال بعضهم: إنما أرادوا بقولهم وربك أخاه هارون لأنه كان أكبر من موسى والأصح أنهم إنما قالوا ذلك جهلا منهم بالله تعالى وصفاته ومنه قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (خ). عن ابن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال يا رسول الله ألا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن امض ونحن معك فكأنه سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: لكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق

وجهه وسرّ. قوله تعالى: قالَ يعني موسى عليه السلام رَبِّ أي يا رب إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه وقيل معناه لا أملك إلا نفسي ونفس أخي لأنه كان يطيعه وإذا كان كذلك فقد ملكه وإنما قال موسى لا أملك إلا نفسي وأخي وإن كان معه في طاعته يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لاختصاص هارون به ولمزيد الاعتناء بأخيه ويحتمل أن يكون معناه وأخي في الدين ومن كان على دينه وطاعته فهو أخوه في الدين فعلى هذا الاحتمال يدخل الرجلان في قوله وأخي ثم قال: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي افصل وقيل احكم بيننا وبين القوم الفاسقين يعني الخارجين عن طاعتك وإنما قال موسى ذلك لأنه لما رأى بني إسرائيل وما فعلوه من مخالفة أمر الله وهمهم بيوشع وكالب غضب لذلك ودعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاء موسى عليه السلام (قال) الله عز وجل: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يعني فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم ومعناه أن تلك البلدة محرمة عليهم أبدا ولم يرد تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع فأوحى الله تعالى إلى موسى «بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي كانوا يتجسسون فيها سنة ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها» فذلك قوله تعالى فإنها يعني الأرض المقدسة محرمة عليهم. قال أكثر أهل العلم: هذا تحريم منع لا تحريم تعبّد. وقيل: يحتمل أن يكون تحريم تعبد فيجوز أن يكون الله تعالى أمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم (أربعين سنة) فمن قال إن الكلام ثم عند قوله فإنها محرمة عليهم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض فأما الحرمة فإنها مؤبدة حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم. وقيل: معناه أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم يدخلونها وتفتح لم. وقوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يعني يتحيرون فيها. يقال: تاه يتيه إذا تحير. واختلفوا في مقدار الأرض التي تاهوا فيها، فقيل: مقدار ستة فراسخ. وقيل: ستة فراسخ في اثني عشر فرسخا. وقيل: تسع فراسخ في ثلاثين فرسخا. وكان القوم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع فإذا أمسوا إذا هم في الموضع الذي رحلوا منه وكان ذلك التيه عقوبة لبني إسرائيل ما خلا موسى وهارون ويوشع وكالب فإن الله تعالى سهله عليهم وأعانهم عليه كما سهل على إبراهيم النار وجعلها بردا وسلاما. فإن قلت: كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة بحيث لم يخرج منه أحد؟. قلت: هذا من باب خوارق العادات. وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة، فإن الله على كل شيء قدير. وقيل: إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد زال هذا الإشكال لاحتمال أن الله ما حرم عليهم الخورج من تلك الأرض بل أمر بالمكث أربعين سنة في المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم ومخالفتهم أمر الله ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى موسى عليه السلام حالهم فأنزل الله عليهم المن والسلوى وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم فينشأ الناشئ منهم فتكون معه على مقداره وهيئته وسأل موسى ربه أن يسقيهم فأتى بحجر أبيض من جبل الطور فكان إذا نزل ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط منهم عين وأرسل الله عليهم الغمام يظلّهم في التيه ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ولم يدخل أريحاء ممن قال: إنا لن ندخلها أبدا واختلفوا في أن موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه فقيل: إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعا. ((قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام)) فأما هارون فإنه كان أكبر من موسى بسنة. قال السدي: أوحى الله عز وجل إلى موسى إني متوفى هارون

فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فإذا بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فراش وفيه رائحة طيبة فلما رأى هارون ذلك البيت أعجبه، وقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير. قال: نم. قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ. قال: لا تخف إني أكفيك ربّ هذا البيت فنم. قال: يا موسى فنم أنت معي فإن جاء رب هذا البيت غضب عليّ وعليك جميعا. فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد مسه قال: يا موسى خدعتني فلما قبض هارون رفع البيت والسرير إلى السماء وهارون عليه وذهبت الشجرة فرجع موسى إلى بني إسرائيل وليس هارون معه فقال بنو إسرائيل حسد موسى هارون فقتله لحبنا إياه. قال موسى: ويحكم إن هارون كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام موسى فصلى ركعتين ثم دعا الله عز وجل فنزل السرير وعليه هارون فنظروا إليه وهو بين السماء والأرض فصدقوه ثم رفع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صعد موسى عليه السلام وهارون إلى الجبل فمات هارون وبقي موسى فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته فصدقت بنو إسرائيل أنه مات وبرأ الله موسى مما قالوه ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه ولم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم أبكم. وأما وفاة موسى عليه السلام فقال ابن إسحاق كان صفي الله موسى عليه السلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان موسى يغدو ويروح إليه ويقول له يا نبي الله ما أحدث الله إليك فيقول له يوشع يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى كنت أنت تبتدئ به وتذكره لي ولا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده من شعره سنة. قال: أي رب ثم مه قال: ثم الموت قال: فالآن فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» وفي رواية لمسلم قال: جاء ملك الموت إلى موسى فقال: أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها» ثم ذكر معنى ما تقدم قال الشيخ محيي الدين النووي. قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره قالوا كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت. وأجاب عنه العلماء بأجوبة أحدها أنه لا يمتنع أن يكون الله قد أذن لموسى في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحانا للمطلوم والله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد. الثاني: أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لأنه قصدها بالفقء وتؤيده رواية صكه وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض. قالوا: وليس في الحديث تصريح بأنه قصد فقء عينه. فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاء ثانيا بأنه ملك الموت. فالجواب، أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم له بخلاف المرة الأولى وأما سؤال موسى الإدناء من الأرض المقدسة فلشرفها وفضلها وفضل من بها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم وفيه دليل على استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين قال بعض العلماء وإنما سأل موسى الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهورا عندهم فيفتتن به الناس والله أعلم. قال وهب بن منبه: خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة وهم يحفرون قبرا لم ير شيئا أحسن

منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد كريم على ربه. فقال: إن هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط. فقالت الملائكة: يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال: وددت. قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك فنزل واضطجع وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب. وقيل: إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقيض روحه وكان عمر موسى عليه السلام مائة سنة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام انقضت الأربعون سنة وبعث الله يوشع إلى بني إسرائيل فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبارين فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء وهي مدينة الجبارين ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان من السابع نفخوا في القرون وضجوا في الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوها وقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل من الجبابرة يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال والفتح يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس أن تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهم اردد علي الشمس وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله وسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقف حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فرد الله عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت كلها لبني إسرائيل وفرق عماله نواحيها وجميع الغنائم فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها فقال: إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل ففعلوا فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول فجاؤوا برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر قد غلّه رجل منهم فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان. وفي الحديث الصحيح ما يدل على صحة هذا أو هو ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها» زاد في رواية: «فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» أخرجه البخاري ومسلم. شرح غريب هذا الحديث. قوله لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، البضع بضم الباء كناية عن فرج المرأة ولم يبن بها أي لم يدخل عليها، ولخلفات النوق الحوامل قوله للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا قال الشيخ محيي الدين قال القاضي عياض: اختلف الناس في حبس الشمس المذكور هنا فقيل: ردت إلى ورائها وقيل: وقفت ولم ترد وقيل: بطء حركتها وكل ذلك من معجزات النبوة قال ويقال إن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون قال القاضي. وقد روي أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها الله عليه حتى صلى العصر ذكر، ذلك الطحاوي وقال: رواته ثقات. والثانية: صبيحة ليلة الإسراء حين انتظر العير لما أخبر بوصولها مع شروق الشمس ذكره يونس بن بكير في زياداته عن سيرة بن إسحاق. وقال وهب: ثم مات يوشع بن نون ودفن في جبل أفراثيم وكان عمره مائة سنة وستا وعشرين سنة وكان تدبيره أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعا وعشرين سنة. وقيل: إن الذي فتح أريحاء هو موسى عليه السلام وكان

[سورة المائدة (5): آية 27]

يوشع بن نون على مقدمته فسار إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع وقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبضه الله إليه ولا يعلم أحد قبره وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن موسى عليه السلام هو الذي قتل عوج بن عنق وهذا القول هو اختيار الطبري. ونقل عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي الآية. فقال الله عز وجل: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى فمكثوا في التيه فلما خرجوا منه رفع المن والسلوى والبقول والتقى موسى وعوج فنزا موسى في السماء عشر أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع وكان طوله عشرة فأصاب كعب عوج فقتله. قال الطبري: ولو كان قتل موسى إياه قبل مصيره في التيه لم يجزع بنو إسرائيل لأنه كان من أعظم الجبارين. وروي عن نون قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع. وقال: وإن أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أن بلعم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى لأنه كان يعلم الاسم الأعظم فدعا عليه وسترد قصته في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني: لا تحزن عليهم لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة. وقيل: لما ندم موسى على ما دعاه على قومه أوحى الله إليه فلا تأس على القوم الفاسقين. قال الزجاج: وجائز أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي: لا تحزن يا محمد على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل. [سورة المائدة (5): آية 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) قوله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ يعني اذكر لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل في قول جمهور المفسرين ونقل عن الحسن والضحاك أن ابني آدم اللذين قربا القربان ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل ويدل عليه قوله تعالى في آخر القصة مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ الآية والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسرين، لأن الله تعالى قال في آخر الآية: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لأن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلّم من فعل الغراب بالحق أن أخبرهم خبرا ملتبسا بالحق والصدق لأنه من عند الله وموافقا لما في الكتب المتقدمة وهم يعلمون صحته ومقصود هذا الخبر هو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو غير ذلك مما يتقرب به. (ذكر قصة القربان وسببه وقتل قابيل هابيل) ذكر أهل العلم بالأخبار والسير أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية فكان جميع ما ولدته أربعين ولدا في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث ثم بارك الله في نسل آدم. قال ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا واختلفوا في مولد قابيل وهابيل فقال بعضهم غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولم تر دما وقت الولادة فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم وكان إذا كبر أولاده زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه

[سورة المائدة (5): الآيات 28 إلى 30]

لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم فكبر قابيل وأخوه هابيل وكان بينهما سنتان، فلما بلغوا، أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل ويزوج هابيل إقليما. وكانت إقليما أحسن من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها ونحن أولاد من الجنة وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم: إنها لا تحل لك. فأبى أن يقبل ذلك. وقال: إن الله لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم. قربا لله قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع. فخرجا من عند آدم ليقربا القربان وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام رديء وأضمر في نفسه: لا أبالي أيتقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أحد غيري وكان هابيل صاحب غنم فعدل إلى أحسن كبش في غنمه فقربه وأضمر في نفسه رضا الله فوضعا قربانهما على جبل ثم دعا آدم فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله تعالى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعني هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعني قابيل فغضب قابيل إذ لم يتقبل قربانه فأضمر لأخيه الحسد إلى أن آتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب عنهم فأتى قابيل وهابيل وهو في غنمه قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ قال هابيل ولم تقتلني؟ قال قابيل: لأن الله تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبي إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ يعني أن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال فلذلك كان أحد القربانين مقبولا دون الآخر ولأن التقوى من أعمال القلوب وكان قد أضمر في قلبه الحسد لأخيه على تقبل قربانه وتوعّده بالقتل فقال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى وإنما يتقبل الله من المتقين فأجابه بجواب مختصر. وقيل: يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى بين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يتقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا وإنما يتقبل الله من المتقين ثم قال تعالى إخبارا عن هابيل. [سورة المائدة (5): الآيات 28 الى 30] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ يعني لئن مددت إلي يدك لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ يعني ما أنا بمنتصر لنفسي بل أستسلم لأمر الله. وقيل: معناه ما كنت بمبتدئك بالقتل وذلك أن الله كان قد حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما. وقال مجاهد: كان قد كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه. وقيل: إن المقتول كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفا من الله فذلك قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ والمعنى إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن أبسطها لقتلك أن يعاقبني على ذلك. قوله عز وجل إخبارا عن هابيل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعني ترجع بإثم قتلي إلى إثم معاصيك التي عملتها من قبل. فإن قلت: كيف؟ قال هابيل إني أريد وإرادة القتل والمعصية من الغير لا تجوز. قلت: أجاب ابن الأنباري عن هذا بأن قال: إن قابيل لما قال لأخيه هابيل لأقتلنك وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه وقال لئن بسطت إليّ يدك الآية فلم يرجع فلما رآه هابيل قد صمم على القتل وأخذ له الحجارة ليرميه بها قال له هابيل عند ذلك إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فحينئذ يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني فكان هذا عدلا من هابيل وإليه أشار الزجاج فقال: معناه إن قتلتني فما أنا مريد ذلك فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلا له والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك وعلى هذا التأويل.

[سورة المائدة (5): آية 31]

قال بعضهم: معناه إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف وما باء بإثم باء بعقاب ذلك الإثم ذكره الواحدي وقال الزمخشري: ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام للقتل طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا وإن لم يكن مريدا حقيقة فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ يعني الملازمين لها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يعني جهنم جزاء من قتل أخاه ظلما. قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ يعني زينت له وسهلت عليه القتل وذلك أن الإنسان إذا تصور أن قتل النفس من أكبر الكبائر صار ذلك صارفا له عن القتل فلا يقدم عليه فإذا سهلت عليه نفسه هذا الفعل فعله بغير كلفة فهذا هو المراد من قوله تعالى: «فطوعت له نفسه قتل أخيه» فَقَتَلَهُ. قال ابن جريج: لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر وقيل بل اغتاله وهو نائم فقتله. واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس: على جبل ثور. وقيل: على عقبة حراء. وقيل: بالبصرة عند مسجدها الأعظم وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة. وقوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته أما دنياه فإسخاط والديه وبقي بلا أخ وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار (ق) عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل». [سورة المائدة (5): آية 31] فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قال أصحاب الأخبار لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما. وقال ابن عباس: سنة حتى أروح وأنتن فأراه الله أن يرى قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة ثم ألقاه فيها وواراه بالتراب وقابيل ينظر فذلك قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ يعني يحفرها وينثر ترابها ليريه كيف يواري سوأة أخيه يعني ليري الله أو يري الغراب قابيل كيف يواري ويستر جيفة أخيه فلما رأى ذلك قابيل من فعل الغراب قالَ يا وَيْلَتى أي لزمه الويل وحضره وهي كلمة تحسر وتلهف وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة وذلك أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما علم ذلك من فعل الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه وعلم أنه إنما ندم على قتل أخيه بسبب جهله وعدم معرفته فعند ذلك تلهف وتحسر على ما فعله فقال: يا ويلتا. وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ يعني مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ يعني على حمله على ظهره مدة سنة لا على قتله. وقيل: إنه ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه أبواه وإخوته فندم لأجل ذلك لا لأجل أنه جنى جناية واقترف ذنبا عظيما بقتله فلم يكن ندمه ندم توبة وخوف وإشفاق من فعله فلأجل ذلك لم ينفعه الندم، قال المطلب بن عبد الله بن حطب: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام وشربت دم المقتول كما تشرب الماء فناداه تعالى أين أخوك هابيل؟ فقال ما أدري ما كنت عليه رقيبا: فقال الله تعالى إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال فأين دمه

إن كنت قتلته! فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا ويروى عن ابن عباس قال لما قتل قابيل هابيل كان آدم بمكة فاشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرت الأرض فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل، وقيل: لما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا. فقال: بل قتلته ولذلك اسود جلدك. وقيل: إن آدم مكث بعد قتل هابيل مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر فقال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبّر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح ويروى عن ابن عباس أنه قال: من قال إن آدم قال شعرا فقد كذب وأن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي سواء ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم مرثيته قال لشيث: يا بني أنت وصيي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرثي الناس عليه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط العربية وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرا وزاد فيه أبياتها منها: وما لي لا أجود بسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضريح أرى طول الحياة عليّ غما ... فهل أنا من حياتي مستريح قال الزمخشري: ويروي أنه رثاه بشعر وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. قال الإمام فخر الدين الرازي: ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة؟. قال أصحاب الأخبار: فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئا وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبدها فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أول من عبد النار وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنه فقال ابن الأعمى لأبيه هذا أبوك قابيل فرماه بحجارة فقتله فقال ابن الأعمى لأبيه قتلت أباك قابيل فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي فلما مات قابيل علقت إحدى رجليه بفخذه وعلق بها فهو معلق بها إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث دارت وعليه حظيرة من نار في الصيف وحظيرة من ثلج في الشتاء فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة قالوا: واتخذ أولاد قابيل آلات للهو من الطبول والزمور والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى جميعا بالطوفان في زمن نوح عليه السلام فلم يبق من ذرية قابيل أحد وأبقى الله ذرية شيث ونسله إلى يوم القيامة.

[سورة المائدة (5): آية 32]

[سورة المائدة (5): آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يعني بسبب ذلك القتل الذي حصل وقيل الأجل في اللغة الجناية يقال أجل عليهم شرا أي جنى عليهم شرا كَتَبْنا أي فرضنا وأوجبنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ. فإن قلت: من أجل ذلك معناه من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل. وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل. قلت: قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك أي من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره. ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله تمام الكلام الأول فعلى هذا يزول الإشكال. لكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله من أجل ذلك ابتداء كلام وليس يوقف عليه. فعلى هذا قال بعضهم: إن قوله من أجل ذلك ليس هو إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ما ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسب هذا القتل الحرام منها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ وفيه إشارة إلى أنه حصلت له خسارة في الدين والدنيا والآخرة. ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وفيه إشارة إلى أنه حظر في أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دافع لذلك البتة فقوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد المحرم شرعنا القصاص على القاتل. فإن قلت: فعلى هذا تكون شريعة القصاص حكما ثابتا في جميع الأمم، فما الفائدة بتخصيصه ببني إسرائيل. قلت: إن وجوب القصاص وإن كان عامّا في جميع الأديان والملل إلا أن التشديد المذكور هاهنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان والملل لأنه تعالى حكم في هذه الآية بأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ولا يشك أن المقصود منه المبالغة في عقاب قاتل النفس عدوانا وأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على قساوة قلوبهم وبعدهم عن الله عز وجل ولما كان الفرض من ذكر هذه القصة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما أقدم عليه اليهود بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة مناسب للكلام وتوكيد للمقصود والله أعلم بمراده. قوله عز وجل: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً يعني من قتل نفسا ظلما بِغَيْرِ نَفْسٍ يعني بغير قتل نفس لا على وجه الاقتصاص فيقاد من قاتل النفس على وجه العدوان المحرم أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ هو عطف على بغير نفس يعني وبغير فساد في الأرض فيستحق به القتل لأن القتل على أسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد من قوله: قتل نفسا بغير نفس. ومنها الشرك والكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق ونحو ذلك وهو المراد من قوله أو فساد في الأرض فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قال مجاهد: من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها بقتل الناس جميعا ومن سلم من قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعا. وقال ابن عباس: من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا. ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا. وقيل: معناه أن من قتل نفسا محرمة يجب عليه من القصاص مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا ومن أحياها يعني من غرق أو حرق أو وقوع في هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا يعني أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعا وقيل: معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما استحل قتل الناس جميعا لأنهم لا يسلمون منه ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميع الناس فقد سلموا منه قال أهل المعاني قوله ومن أحياها على المجاز لأن المحيي هو الله تعالى في الحقيقة فيكون المعنى ومن ناجاها من الهلاك فكأنما نجى جميع الناس منه. سئل الحسن عن هذه الآية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.

[سورة المائدة (5): آية 33]

وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: ولقد جاءت بني إسرائيل رسلنا ببيان الأحكام والشرائع والدلالات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ يعني بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يعني بالقتل لا ينتهون عنه وقيل معناه لمجازون حد الحق وإنما قال تعالى وإن كثيرا منهم، لأنه تعالى علم أن منهم من يؤمن بالله ورسوله وهم قليل من كثير. قوله عز وجل: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا قول الضحاك أيضا. وقال الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال ولم يكن هلال شاهدا فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم بهذه الآية. وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في قوم من عرينة وعكل أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل (ق). عن أنس بن مالك أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. زاد في رواية قال قتادة: فحدثني ابن سيرين إن ذلك قبل إن تزول الحدود. وفي رواية للبخاري أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في الحرة يعضون الحجارة. زاد في رواية: قال أبو قلابة وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا، وفي رواية أبي داود إن قوما من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله زاد في رواية له وأنزل الله عز وجل: [سورة المائدة (5): آية 33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا الآية. شرح غريب هذا الحديث وحكمه قوله إنا كنا أهل ضرع يعني، أهل ماشية وبادية نعيش باللبن ولسنا من

أهل المدن. والريف هو الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف. قوله: استوخموا المدينة يعني أنها لم توافق مزاجهم وكذا قوله: اجتووا المدينة وهو معناه والذود من الإبل ما بين الثلاثة إلى العشرة والحرة هي أرض ذات حجارة سود وهي هنا اسم لأرض بظاهر المدينة معروفة. وقوله: فسمر أعينهم، معناه أنه حمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب بصرها. وقوله: وينهى عن المثلة، أن تقطع أطراف الحيوان وتشوه خلقته ومثلة القتيل أن يقطع أنفه وأذنيه ومذاكيره ونحو ذلك. واختلف العلماء في حكم هذا الحديث فقيل: هو منسوخ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وقيل: حكمه ثابت غير السمل والمثلة. وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم. وقيل: كان ذلك قبل أن تنزل الحدود، فلما نزلت الحدود وجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها. وقيل: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما من الله تعالى إياه عقوبتهم وما يجب عليهم فقال تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ واعلم أن المحاربة لله غير ممكنة وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما أن المحاربين لله هم المخالفون أمره الخارجون عن طاعته لأن كل من خالف أمر إنسان فهو حرب له فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله ويعصون أمرهما. والقول الثاني: معناه يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله فهو من باب حذف المضاف وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق. واختلفوا في حكم هؤلاء المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح والمكابرون في البلد وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد ثم ذكر الله تعالى عقوبة هؤلاء المحاربين وما يستحقونه فقال تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ وللعلماء في لفظة أو المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية عنه وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد، وهو أن الإمام مخير في أمر المحاربين فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى من الأرض كما هو ظاهر الآية. والقول الثاني: أن لفظة أو للبيان وليست للتخيير وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أكثر العلماء لأن الأحكام تختلف فترتبت هذه العقوبات على ترتيب الجرائم. وهذا كما روي عن ابن عباس في قطاع الطريق قال: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا لم يأخذوا المال قتلوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض، وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. واختلفوا في كيفية الصلب فقيل: يصلب حيا ثم يطعن في بطنه برمح حتى يموت. قال الشافعي: يقتل أولا ويصلى عليه ثم يصلب. وإنما يجمع بين القتل والصلب إذا قتل وأخذ المال ويصلب على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زاجرا لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية. واختلفوا في تفسير النفي من الأرض المذكور في الآية، فقيل: إن الإمام يطلبهم ففي كل بلد وجدوا نفوا عنه وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز. وقيل: يطلبون حتى تقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة: النفي هو الحبس لأنه نفي من الأرض لأن المحبوس لا يرى أحدا من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وطيباتها فهو منفي من الأرض في الحقيقة إلا من تلك البقعة الضيقة التي هو فيها. قال مكحول: إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم ثم قال تعالى: ذلِكَ يعني الذي ذكر في هذه الآية من الحدود لَهُمْ يعني للمحاربين خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أي عذاب وهو ان وفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا الوعيد في

[سورة المائدة (5): آية 34]

حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة هذا مذهب أهل السنة. [سورة المائدة (5): آية 34] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم لله ورسوله ومن السعي في الأرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم. يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لمن تاب من الشرك رَحِيمٌ يعني به إذا رجع عما يسخط الله عز وجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالإجماع، وأما المسلم المحارب، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه. فقال السدي: هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محاربا فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال: هذا فلان المرادي وأنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير. وقال الشافعي: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي: ويحتمل أن يسقط كل حد لله عز وجل بالتوبة. [سورة المائدة (5): الآيات 35 الى 38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا الله بترك المنهيات وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بما يرضي وإنما قلنا ذلك، لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله: اتقوا الله. والثاني: التقرب إلى الله تعالى بالطاعات وإليه الإشارة بقوله: وابتغوا إليه الوسيلة والوسيلة فعيلة من وسل إليه إذا تقرب ومنه قول الشاعر: إن الرجال لهم إليك وسيلة

أي قربة. وقيل: معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى الله عز وجل وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي وجاهدوا العدو في طاعته وابتغاء مرضاته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ يعني: أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها ثم فدى نفسه من العذاب يوم القيامة لم يقبل منه ذلك الفداء وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ المقصود من هذا أن العذاب لازم للكفار وأنه لا سبيل لهم إلا الخلاص منه بوجه من الوجوه (ق). عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك» هذا لفظ مسلم. وفي رواية البخاري قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فيه وجهان: أحدهما أنهم يقصدون الخروج من النار ويطلبونه ولكن لا يستطيعون ذلك قيل إذا حملهم لهب النار إلى فوق طلبوا الخروج منها فلا يقدرون عليه. والوجه الثاني: أنهم يتمنون الخروج من النار بقلوبهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ يعني ولهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدا. قوله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقدمنا قصته في سورة النساء وإنما سمي السارق سارق لأنه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء ومنه استرق السمع مستخفيا والسارق هنا مرفوع بالابتداء لأنه لم يقصد واحد بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده والمراد باليد المذكورة هنا اليمين. قاله الحسن والشعبي والسدي وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما. وإنما قال: أيديهما ولم يقل يديهما، لأنه أراد يمينا من هذا ويمينا من هذه فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع والمراد باليد هنا الجارحة وحدها عند جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها في حد السرقة من الكوع. وقوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا يعني ذلك القطع جزاء على فعلهم نَكالًا مِنَ اللَّهِ يعني عقوبة من الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه ممن عصاه حَكِيمٌ يعني فيما أوجبه من قطع يد السارق. (فصل في بيان حكم الآية: وفيه مسائل) المسألة الأولى: اقتضت هذه وجوب القطع على كل سارق وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة (ق). عن عائشة، أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وعن عائشة قالت: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك تبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها» أخرجه النسائي (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» قال الأعمش: يرون أنه بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم، أما السارق الذي يجب عليه القطع، فهو البالغ، العاقل، العالم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرقة حرام، فلا قطع عليه.

المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة. المجن: الترس، وروي عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي. وقال: الرواية الأولى، أصح. وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروى ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضا عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يتناول القليل والكثير وسواء سرقه من حرز أو غير حرز. المسألة الثالثة: الحرز، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وزاد فيه: ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة. قوله: غير متخذ خبنة، الخبنة: بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه. وقيل: وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله. والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة. وروى مالك في الموطأ، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن. هكذا رواه مالك منقطعا. وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص قوله: ولا في حريسة الجبل. من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها. يقال: حرس يحرس حرسا إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة. ومعنى الحديث: أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز. وقيل: حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس. قطع أخرجه الترمذي والنسائي. المسألة الرابعة: إذا سرق مالا له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أو الشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه.

[سورة المائدة (5): الآيات 39 إلى 41]

المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذّر ويحبس حتى تظهر توبته. يروى عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه «إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس» ويروى عن علي أنه قال: إني أستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي. [سورة المائدة (5): الآيات 39 الى 41] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ يعني من بعد ما ظلم نفسه بالسرقة وَأَصْلَحَ يعني وأصلح العمل في المستقبل فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يعني فإن الله يغفر له ويتجاوز عنه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لمن تاب رَحِيمٌ به. (فصل) وهذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله. فأما القطع، فلا يسقط عنه بالتوبة عند أكثر العلماء لأن الحد جزاء عن الجناية. ولا بد من التوبة بعد القطع وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل. عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلصّ قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت فقال: بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يعترف فأمر به فقطع. ثم جيء به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استغفر الله وتب إليه. فقال رجل: أستغفر الله وأتوب إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه. أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم. وقال الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه فلو كان المسروق باقيا عنده يجب عليه أن يرده إلى صاحبه وتقطع يده لأن القطع حق الله والغرم حق الآدمي فلا يمتنع أحدهما بالآخر والله أعلم. قوله عز وجل: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع الناس وقيل معناه، ألم تعلم أيها الإنسان فيكون الخطاب لكل فرد من الناس أن الله له ملك السموات والأرض، يعني أن الله مدبر أمره في السموات والأرض ومصرفه وخالق من فيها ومالكه لا يمتنع عليه شيء مما أراده فيهما لأن ذلك كله في ملكه وإليه أمره يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ. قال ابن عباس: يعذب من يشاء على الصغيرة ويغفر لمن يشاء على الكبيرة وقيل يعذب من يشاء على معصيته وكفره بالقتل والقطع وغير ذلك في الدنيا، ويغفر لمن يشاء بالتوبة عليه فينقذه من الهلكة والعذاب وإنما

قدم التعذيب على المغفرة، لأنه في مقابلة قطع السرقة على التوبة. وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك وجواب آخر وهو أنه تعالى أخبر أن له ملك السموات والأرض والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وأراد لا اعتراض لأحد عليه في ملكه يؤكد ذلك قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه وغفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خطاب تشريف وتكريم وتعظيم، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه وبيا أيها الرسول في موضعين: هذا أحدهما والآخر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وقوله لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يعني لا تهتم بموالاتهم الكفار ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يعني المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان بالقول وكتموا الكفر وهذه صفة المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا أي وطائفة من اليهود قال الزجاج وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن الكلام تم عند قوله ومن الذين هادوا ثم ابتدأ الكلام بقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويكون تقدير الكلام لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ من المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثم وصف الكل بكونهم سماعين للكذب. والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ فقال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي ومن الَّذِينَ هادُوا قوم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ والمعنى أنهم قائلون الكذب، أي يسمعون الكذب من رؤسائهم ويقبلونه منهم والسمع يستعمل والمراد منه القبول، كما تقول: لا تسمع من فلان أي، لا تقبل منه. وقيل: معناه سماعون لأجل أن يكذبوا عليك وذلك أنهم كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون من عنده ويقولون سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منه بل كذبوا عليه. وقوله تعالى: سَمَّاعُونَ يعني بني قريظة يعني أنهم جواسيس وعيون لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم أهل خيبر لَمْ يَأْتُوكَ يعني أهل خيبر لم يأتوك ولم يحضروا عندك يا محمد. ((ذكر القصة في ذلك)) قال علماء التفسير: إن رجلا وامرأة من أشراف يهود خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما الرجم عندهم في حكم التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا: إن هذا الرجل بيثرب يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم وليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح معه فليسألوه عن ذلك، فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم: اسألوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالحد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين. فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير وقالوا لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث وذلك أن فلان وفلانة قد زنيا وقد أحصنا فنحب أن تسألوه عن قضائه في ذلك فقال لهم بنو قريظة والنضير إذا والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم فيهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟ فقال هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم فنزل جبريل عليه السلام بآية الرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه لهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم؟ فقالوا هو أعلم يهودي

بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى عليه السلام في التوراة قال فأرسلوا إليه ففعلوا فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا؟ قال نعم، قال: أنت أعلم يهودي؟ قال كذلك يقولون فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود تجعلونه بيني وبينكم قالوا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صوريا: «ناشدتك بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على المحصن؟» فقال ابن صوريا: اللهم نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت وغير ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابكم يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليهما الرجم. فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فما كان أول ما ترخصتم به في أمر الله تعالى؟ فقال ابن صوريا: كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر في امرأة من قومه فأراد الملك رجمه فقام قومه دونه وقالوا والله لا ترجمه حتى ترجم فلانا لابن عم الملك، فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا ذلك مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك. فقال لهم ابن صوريا: إنه قد ناشدني بالتوراة ولولا خشيت أن ينزل علينا العذاب ما أخبرته. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما عند باب المسجد وقال: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأنزل الله هذه الآية (ق) عن ابن عمر قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما قال: فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة. وفي رواية أخرى لهما قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود ما تصنعون بهما قال نفحم وجوههما ونخزيهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فجاؤوا بها فقال الرجل ممن يرضون أعور اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليها فقال ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما فرأيته يحنى» زاد في رواية أخرى: «فرجما قريبا موضع الجنائز قرب المسجد» (م) عن البراء بن عازب قال: «مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم فأنزل الله: يا أيها الرسول» لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، إلى قوله، إن أوتيتم هذا فخذوه. يقول: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه فأنزل الله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في الكفار كلها. التحميم هو تسويد الوجه بالحمم وهو الفحم وقوله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قال العلماء: هذا السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم، وإنما هو لإلزامهم بما

[سورة المائدة (5): آية 42]

يعقدونه في كتابهم. ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيّروا شيئا منها أو أخبروه بذلك من أسلم من أهل الكتاب وهو عبد الله بن سلام كما في حديث بن عمر المتفق عليه ولذلك لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم حين كتموه. قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، يعني: يغيرون حدود الله التي أوجبها عليهم في التوراة وذلك أنهم بدلوا الرجم بالجلد والتحميم وقال الحسن إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه. وقال ابن جرير الطبري: يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يعني من بعد أن وضعه الله مواضعه وفرض فروضه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه فإن قلت: قد قال الله عز وجل هنا يحرفون الكلم من بعد مواضعه. وقال في موضع آخر: يحرفون الكلم عن مواضعه فهل من فرق بينهما؟ قلت نعم بينهما فرق وذلك أنّا إذا فسرنا يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويلات الباطلة فيكون معنى قوله يحرفون الكلم عن مواضعه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يحرفون تلك اللفظة من الكتاب. وأما قوله يحرفون الكلم من بعد مواضعه ففيه دلالة على أنهم جمعوا بين الأمرين يعني أنهم كانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يحرفون اللفظة من الكتاب في قوله: يحرفون الكلم عن مواضعه إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله من بعد مواضعه إشارة إلى إخراجه من الكتاب بالكلية وقوله تعالى: يَقُولُونَ يعني اليهود إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ يعني إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا منه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا يعني وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم فاحذروا أن تقبلوه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ يعني كفره وضلالته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني فلن تقدر على دفع أمر الله فيك أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس معناه أن يخلص نياتهم وقيل معناه لم يرد الله أن يهديهم وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وإنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني للمنافقين واليهود أما خزي المنافقين، فبالفضيحة وهتك ستارهم بإظهار نفاقهم وكفرهم وأما خزي اليهود فبأخذ الجزية والقتل والسبي والإجلاء من أرض الحجاز إلى غيرها وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني الخلود في النار للمنافقين واليهود. [سورة المائدة (5): آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) قوله عز وجل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ نزلت في حكام اليهود مثل كعب بن الأشرف ونظرائه كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن: كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي السحت وأصل السحت الاستئصال يقال: سحته إذا استأصلته وسميت الرشوة في الحكم سحتا، لأنها تستأصل دين المرتشي. والسحت كله حرام يحمل عليه شدة الشره وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة ومعلوم أن حالة الرشوة كذلك فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الراشي والمرتشي في الحكم». أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الحسن: إنما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا وقال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدى بها إليه فقبل فهو سحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.

[سورة المائدة (5): آية 43]

قوله عز وجل: فَإِنْ جاؤُكَ يعني اليهود فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً خيّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم فإن شاء ترك قال الحسن ومجاهد والسدي نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وقال قتادة: نزلت في رجلين من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر. قال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضير ديتين وللقرظي دية واحدة لأنه كان من بني النضير فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فأنزل الله هذه الآية يخير نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم. ((فصل)) اختلف علماء التفسير في حكم هذه الآية على قولين: أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا فإن شاء حكم بينهم وإن شاء عرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فلزمه الحكم بينهم وزال التخير هذا القول مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي. والقول الثاني: إنها محكمة وحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم فإن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه، قال أحمد: لأنه لا منافاة بين الآيتين. أما قوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ففيه التخيير بين الحكم والإعراض. وأما قوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ففيه كيفية الحكم إذا حكم بينهم قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهب الشافعي، إنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لأن إمضاء حكم الإسلام صغارا لهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهو التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين وأما إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم بينهم لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة والله أعلم. قوله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل والاحتياط إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يعني العادلين فيما ولوا وحكموا فيه (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا». هذا من أحاديث الصفات فمن العلماء من قال فيه وفي أمثاله: نؤمن بها ولا نتكلم في تأويلها ولا نعرف معناها لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله. هذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين. ومنهم من قال: إنها تؤول بتأويل يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين. فعلى هذا قال القاضي عياض: المراد بكونهم عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وقوله وكلتا يديه يمين مبني على أنه ليس المراد باليمين الجارحة تعالى الله عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه تعالى وقوله وما ولوا بفتح الواو وضم اللام المخففة هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في شرح مسلم. قال: ومعناه وما كانت له عليه ولاية وهذا الفضل لمن عدل فيما تقلده من الأحكام والله أعلم. [سورة المائدة (5): آية 43] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) قوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تحكيم اليهود إياه مع علمهم بما في التوراة تركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحته وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوته طلبا للرخصة لا جرم إن الله تعالى أظهر جهلهم وعنادهم لأنهم حكموا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في أمر

[سورة المائدة (5): آية 44]

الزانيين ثم أعرضوا عن حكمه في الآية لتقريع اليهود والمعنى وكيف يجعلونك حكما بينهم ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فِيها حُكْمُ اللَّهِ يعني الرجم الذي تحاكموا إليك من أجله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني ثم يعرضون عن حكمك الموافق لما في كتابهم وَما أُولئِكَ يعني اليهود بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بكتابهم كما يزعمون. وقيل: معناه وما أولئك بالمصدقين. [سورة المائدة (5): آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) قوله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك. وقيل: الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا: أي انقادوا لأمر الله تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما وتشريفا له صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم في التوراة. قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه. للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أما الربانيون فتقدم تفسيره في سورة آل عمران وأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء. وقيل: هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان. وقال الفراء: إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب. وقال أبو عبيد: إنما هو حبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التي يقتدى بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار. وقيل: الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه. وإنما سمي العالم حبرا لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: لا فرق. والربانيون، والأحبار بمعنى واحد وهم: العلماء والفقهاء. وقيل: الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن الله تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار. وقيل: الربانيون هم الولاة. والحكام والأحبار هم العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود. ومعنى الآية: يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار. وقوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ يعني بما استودعوا من كتاب الله. وقيل: هو أن يحفظوا كتاب الله فلا ينسوه وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه. وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معا وذلك بأن يحفظوا كتاب الله في صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا ينسوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا

[سورة المائدة (5): آية 45]

شرائعه فإذا فعلوا ذلك كانوا قائمين بحفظه وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ يعني: أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب الله تعالى ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند الله فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لا تخافوا أحدا من الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني في كتمان ذلك وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا يعني الرشوة في الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ بمعنى: أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فقال جماعة من المفسرين: الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في الكفار كلها أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ إلى قوله هم الفاسقون هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود. وقال مجاهد: في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله ردا لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق. وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضا واختار الزجاج لأنه قال: من زعم أنّ حكما من أحكام الله تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر. وقال طاوس: قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال: به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء. قال: هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب. وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانا عمدا وحكم بغيره وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل فلا يدخل في هذا الوعيد والله أعلم بمراده. [سورة المائدة (5): آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ يعني: وفرضنا على بني إسرائيل في التوراة أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاقا فيقتل به وذلك أن الله تعالى حكم في التوراة أن على الزاني المحصن الرجم وأخبر أن اليهود بدّلوه وغيروه وأخبر أيضا أن في التوراة أن النفس بالنفس وأن هؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة فكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة فغيروا حكم الله الذي أنزل في التوراة. قال ابن عباس: أخبر الله بحكمه في التوراة وهو أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن

[سورة المائدة (5): الآيات 46 إلى 48]

بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. قال: فما لهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين. ومعنى الآية: أن قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدمان ومذهب الشافعي: أنه لا يقتل مسلم بكافر لما صح من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل مسلم بكافر» الحديث أخرجاه في الصحيحين وقوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ يعني تفقأ بها وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ يعني يجدع به وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ يعني تقطع بها وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يعني تقلع بها وأما سائر الأطراف والأعضاء فيجري فيها القصاص كذلك، وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يعني فيما يمكن أن يقتص منه وهذا تعميم بعد التخصيص، لأن الله تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص هذه الأربعة بالذكر ثم قال تعالى: والجروح قصاص، على سبيل العموم فيما يمكن أن يقتص منه كاليد والرجل والذكر والأنثيين وغيرها وأما ما لا يمكن القصاص فيه كرضّ في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منها التلف فلا قصاص في ذلك وفيه الأرش والحكومة. واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا الحكم كان شرعا في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكره قال إنها ليست بحجة علينا وأصل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بعد البعثة هل هم متعبدون بشرع من تقدم من الأنبياء عليهم السلام؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وعن أحمد في أحد الروايتين عنه أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها واختار ابن الحاجب من المتأخرين هذا المذهب وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله فيما لم ينسخ من الأحكام الباقية قبل شريعته لكنه لم يعتبر فيه قيد الوحي وهو الحق وإلا لم يبق للنزاع معنى إذ لا ينكر أحد كون النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بعد البعثة بما أوحى إليه سواء كان من شريعة من قبله أم لا وذهبت الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي من المتأخرين واحتج الأولون لصحة مذهبهم بأن الإجماع منعقد على صحة الاستدلال بقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الآية مع أنه من شريعة من تقدم لأنه مذكور في التوراة. ومكتوب على بني إسرائيل: ولولا أنا متعبدون بشريعة من قبلنا لما صح هذا الاستدلال، وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني بالقصاص فلم يقتص من الجاني فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء له قولان: أحدهما أن الهاء في له كناية عن المجروح وولي المقتول وذلك أن المجروح أو ولي المقتول إذا تصدق بالقصاص كان ذلك كفارة لذنوبه وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن ويدل عليه ما روي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» أخرجه الترمذي. وعن أنس قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو أخرجه أبو داود والنسائي». والقول الثاني: أن الضمير في قوله له يعود إلى الجارح والقاتل يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي، فعلى الله تعالى. وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: يعني لأنفسهم حيث لم يحكموا بما أنزل الله عز وجل: [سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 48] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

قوله عز وجل: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ يعني وعقبنا على آثار النبيين الذين أسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ يعني أن عيسى عليه السلام كان مصدقا بأن التوراة منزلة من عند الله عزّ وجل وكان العمل بها واجبا قبل ورود النسخ عليها فإن عيسى عليه السلام نسخ بعض أحكام التوراة وخالفها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ يعني فيه هدى من الجهالة وضياء من عمى البصيرة وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ هذا ليس بتكرار للأول لأن في الأول الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة. وفي الثاني: الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ إنما قال: وهدى مرة أخرى لأن الإنجيل يتضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون سببا لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما كون الإنجيل موعظة، فلما فيه من المواعظ البليغة والزواجر والأمثال وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ. قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قال أهل المعاني: قوله وليحكم يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارا عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وكتبنا وقفينا يدل عليه وحذف القول كثير. والوجه الثاني: أن يكون قوله وليحكم ابتداء وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم وهو الإنجيل. فإن قلت فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن قلت: إن المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ذكره في الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود فإذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد حكموا بما في الإنجيل. وقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني: فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل. قوله عز وجل: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وأنزلنا إليك يا محمد القرآن بِالْحَقِّ يعني بالصدق الذي لا شك فيه أنه من عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يعني أن يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال ابن عباس يعني شاهدا على الكتب التي قبله ومنه قول حسان: إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب يريد أنه شاهد ومصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما كان القرآن مهيمنا على الكتب التي قبله لأنه الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير ولا يبدل. وإذا كان القرآن كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزلة حقا وصدقا. وقيل: المهيمن الأمين. وإنما كان القرآن أمينا على الكتب التي قبله فيما أخبر أهل الكتب عن كتبهم فإن قالوا ذلك في القرآن فقد صدقوا وإلا فلا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: إذا ترافع أهل الكتاب إليك يا محمد فاحكم بينهم بالقرآن الذي أنزل الله إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني: ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود في الحكم وقال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ يعني ولا تنحرف عن الحق

[سورة المائدة (5): الآيات 49 إلى 50]

الذي جاءك من عند الله متبعا أهواءهم، وقوله: ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبع أهواءهم قط. وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الخطاب في قوله منكم للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بدليل أن الله عز وجل قال قبل هذه إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ثم قال بعد ذلك وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ثم قال وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ثم جمع فقال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً والشرعة: الشريعة. يعني لكل أمة شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة والدين واحد وهو التوحيد. وأصل الشريعة من الشرع وهو البيان والإظهار فمعنى شرع بيّن وأوضح. وقيل: هو من الشروع في الشيء. والشريعة في كلام العرب، المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون ويسقون منها. وقيل: الشريعة الطريقة ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية المؤدية إلى الدين والمنهاج الطريق الواضح وقال بعضهم الشريعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما: الدين وقال آخرون: بينهما فرق لطيف وهو أن الشريعة هي التي أمر الله بها عباده. والمنهاج: الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة. قال ابن عباس: في قوله شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا. وقال قتادة: سبيلا وسنة فالسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله عز وجل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام وقال علي بن أبي طالب: الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ولكل قوم شريعة ومنهاج. قال العلماء: وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل منها قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم منها هذه الآية وهي قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين فهي دالة على أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله ولم يختلفوا فيه. وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينهم، فمحمولة على الفروع، وما يتعلق بظواهر العبادات فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما يشاء فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات والله أعلم بأسرار كتابه واحتج بهذه من قال إن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يدل على أن كل رسول جاء بشريعة خاصة فلا يلزم أمة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني جماعة متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ يعني ولكن أراد أن يختبركم فِي ما آتاكُمْ يعني من الشرائع المختلفة هل تعلمون بها أم لا؟ فيتبين بذلك المطيع من العاصي والموافق من المخالف اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يعني فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله تعالى إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني المطيع والعاصي والموافق والمخالف فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني: فيخبركم في الآخرة بما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين والدنيا. والمعنى: فيخبركم في الآخرة بما لا تشكون معه فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب. [سورة المائدة (5): الآيات 49 الى 50] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قال ابن عباس: إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا

[سورة المائدة (5): الآيات 51 إلى 52]

وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنّا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود ولم يخالفونا وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني احكم بينهم يا محمد بالحكم الذي أنزله الله في كتابه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني فيما أمروك به. قال العلماء: ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم، وإنما أنزلت في حكمين مختلفين. أما الآية الأولى: فنزلت في شأن رجم المحصن وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم قال بعض العلماء هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وقوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعني: واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوا إليك أن يصرفوك ويصدوك بمكرهم وكيدهم فيحملوك على ترك العلم ببعض ما أنزل الله إليك في كتابه واتباع أهوائهم فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك والرضا بالحكم بما أنزل الله عليك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني فاعلم يا محمد أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم وإنما خص بعض الذنوب لأن الله جازاهم في الدنيا على بعض ذنوبهم بالقتل والسبي والجلاء وأخر مجازاتهم على باقي ذنوبهم إلى الآخرة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ يعني اليهود لأنهم ردوا حكم الله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يعني أفحكم الجاهلية يطلب هؤلاء اليهود قال ابن عباس: يعني بحكم الجاهلية ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر الله به وقال مقاتل كانت بين بني النضير وقريظة دماء وهما حيان من اليهود وذلك قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا وأرش جراحتنا على النصف من جراحتهم فاقض بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضيري، ودم النضيري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة. فغضبت بنو النضير، وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك لنا عدو وإنك ما تألو في وضعنا وتصغيرنا. فأنزل الله: أفحكم الجاهلية يبغون. وقرئ بالتاء على الخطاب. والمعنى: قل لهم يا محمد أفحكم الجاهلية تبغون وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني: أي حكم أحسن من حكم الله إن كنتم موقنين أنّ لكم ربا وأنه عدل في أحكامه. [سورة المائدة (5): الآيات 51 الى 52] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين، لأن خصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم، فقال قوم: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين وذلك أنهما اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود فإن أخاف الدوائر ولا بد لي منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه فقال: إذن أقبل

فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي: لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدال علينا اليهود. وقال رجل آخر: أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا. فأنزل الله هذه الآية ينهاهم عن موالاة اليهود والنصارى. وقال عكرمة: نزل في أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه أشار إلى أنه الذبح وأنه يقتلكم فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فنهى الله المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وأعوانا على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم أنصارا وأعوانا وخلفاء من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم وإن الله ورسوله والمؤمنين منه براء بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني أن بعض اليهود أنصار لبعض على المؤمنين وأن النصارى كذلك يد واحدة على من خالفهم في دينهم وملتهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فينصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم لأنه لا يتولى مولى إلا وهو راض به وبدينه وإذا رضيه ورضى دينه صار منهم وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فتول اليهود والنصارى مع علمه بعداوتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، روي أن أبا موسى الأشعري قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا فقال: مالك وله قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا؟ يعني مسلما أما سمعت قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قلت: له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرّمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أبعدهم الله. قلت: إنه لا يتم أمر البصرة إلا به. فقال: مات النصراني والسلام يعني: هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره من المسلمين. قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني فترى يا محمد الذين في قلوبهم شك ونفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ يعني يسارعون في مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار فكانوا يغشونهم ويخالطونهم لأجل ذلك. نزلت في عبد الله بن أبي، المنافق وفي أصحابه من المنافقين يَقُولُونَ يعني المنافقين نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ الدائرة من دوائر الدهر كالدولة التي تدول والمعنى. يقول المنافقون: إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه، ويعنون بذلك المكروه الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة. قال ابن عباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال المفسرون: عسى من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله وهو بمنزلة الواعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار دينه على الأديان كلها وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى وقد فعل الله ذلك بمنّه وكرمه فأظهر دينه ونصر عبده. وقيل: أراد بالفتح فتح مكة. وقيل: فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ونحوهما من بلادهم أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني أنه تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز ويخرجهم من بلادهم بلا كلفة وتعب ولا يكون للناس فيه فعل البتة كما ألقى في قلوبهم الرعب فأخلوا ديارهم وخربوها بأيديهم ورحلوا إلى الشام. وقوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يعني فيصبح المنافقون الذين كانوا يوالون اليهود نادمين على ما حدثوا به أنفسهم أنّ أمر محمد لا يتم وقيل ندموا على دس الأخبار إلى اليهود.

[سورة المائدة (5): الآيات 53 إلى 54]

[سورة المائدة (5): الآيات 53 الى 54] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ويقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ وذلك أن المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى ويقولون إن المنافقين حلفوا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطل كل خير عملوه لأجل ما أظهروا من النفاق وموالاة اليهود فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يعني أنهم خسروا في الدنيا بافتضاحهم وخسروا في الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يعني من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه وهو دين الإسلام فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر بعد الإيمان فيختار: إما اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من أصناف الكفر فلن يضر الله شيئا وإنما ضرّ نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإسلام قال الحسن: علم الله تعالى أن قوما سيرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه. وذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج منها عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي في بيته فقتله فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بقتله ليلة قتل فسرّ المسلمون بذلك وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول. وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. «أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك» فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» وستأتي قصة قتله فيما بعد وبنو أسد وهم قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة اليربوعي وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب. وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي وبنو بكر بن وائل قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفرقة واحدة ارتدت في خلافة عمر بن الخطاب وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم واختلف العلماء في المعنى بقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب «1» كما تقدم تفصيله إلا أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من بني عبد القيس فإنهم ثبتوا على الإسلام ونصر الله بهم الدين ولما ارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة همّ أبو بكر بقتالهم وكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال

_ (1) قوله «ارتد عامة العرب» إلخ الذين تقدم ارتدادهم في زمن أبي بكر سبع فرق لا غير. اهـ.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله». فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا أو قال عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. وقال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: هم أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره، فقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة وقالت عائشة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأبّ النفاق ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وبعث أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جيش كثير إلى بني حنيفة باليمامة وهم قوم مسيلمة الكذاب فأهلك الله مسيلمة على يد وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة، فكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد بذلك وحشي أنه في حال الجاهلية قتل حمزة وهو خير الناس وفي حال إسلامه قتل مسيلمة الكذاب وهو شر الناس وقال قوم: المراد بقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال لما نزلت هذه الآية فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري أخرجه الحاكم في المستدرك وقيل هم أهل اليمن (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية». وقال السدي: نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوه على إظهار الدين. وقيل: هم أحياء من أهل اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من أهل كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في خلافة عمر، وعلى هذا التقدير، تكون هذه الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع الخبر على وفقه بحمد الله تعالى فتكون هذه الآية معجزة. وأما معنى المحبة، فيقال أحببت فلانا بمعنى جعلت قلبي معرضا بأن يحبه والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيرا. ومحبة الله تعالى العبد، إنعامه عليه وتوفيقه وهدايته إلى طاعته والعمل بما يرضى به عنه وأن يثيبه أحسن الثواب على طاعته وأن يثني عليه ويرضى عنه ومحبة العبد لله عزّ وجل أن يسارع إلى طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته وأن يتحبب بما يوجب له الزلفى لديه جعلنا الله ممن يحبهم ويحبونه بمنّه وكرمه. وقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ هذه من صفات الذين اصطفاهم الله تعالى ووصفهم بقوله: يحبهم ويحبونه، يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين ولم يرد ذل الهوان بل أراد لين جانبهم لإخوانهم المؤمنين وهم من رقتهم ورحمتهم ولين جانبهم أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم الكافرين. قال علي بن أبي طالب: أذلة على المؤمنين يعني أهل رقة على أهل دينهم أعزة على الكافرين أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال ابن عباس: تراهم كالولد لوالده والعبد لسيده وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته. وقال ابن الأنباري: أثنى الله على المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم ويعنفون الكافرين إذا لقوهم. وقيل: إن الذل بمعنى الشفقة والرحمة كأنه قال راحمين للمؤمنين مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع وإنما أتى بلفظة على حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم لا لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذلك التذلل لأجل أنهم ضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع ويدل على صحة هذا سياق الآية وهو

[سورة المائدة (5): الآيات 55 إلى 56]

قوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يعني أنهم أشداء أقوياء في أنفسهم وعلى أعدائهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنهم ينصرون دين الله وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يعني لا يخافون عدل عادل في نصرهم الدين وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبين الله تعالى في هذه الآية أن من كان قويا في الدين فإنه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم وهذه صفة المؤمنين المخلصين إيمانهم لله تعالى (ق). عن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ثم قال تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصفهم بمحبة الله ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم كل ذلك من فضل الله تعالى تفضل بهم عليهم ومن إحسانه إليهم وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى واسع الفضل عليم بمن يستحقه. [سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال: أوالي الله ورسوله والمؤمنين يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقرأ: عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن سلام: رضينا بالله ربّا وبرسوله نبيا وبالمؤمنين أولياء. وقيل: الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ صفة لكل مؤمن ويكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة والزكاة فوصف الله تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها وسجودها في مواقيتها ويؤتون الزكاة يعني ويؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم. أما قوله تعالى وهم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه: أحدها: أن المراد من الركوع هنا الخضوع والمعنى أن المؤمنين يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لأوامر الله ونواهيه. الوجه الثاني: أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإنما خص الركوع بالذكر تشريفا له. الوجه الثالث: قيل إن هذه الآية نزلت وهم ركوع. وقيل: نزلت في شخص معين وهو علي بن أبي طالب. قال السدي: مر بعلي سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، فعلى هذا قال العلماء: العمل القليل في الصلاة لا يفسدها والقول بالعموم أولى وإن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب وهو راكع. ويدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا من هم؟ فقال: المؤمنون، فقلت: إن ناسا يقولون هو علي، فقال: علي من الذين آمنوا.

[سورة المائدة (5): الآيات 57 إلى 59]

وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني ومن يتول القيام بطاعة الله ونصر رسوله والمؤمنين. قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني أنصار دين الله هُمُ الْغالِبُونَ لأن الله ناصرهم على عدوهم والحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه. [سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى: اتخذوا دينكم هزوا ولعبا هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولا وهم على ذلك يبطنون الكفر ويسرونه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود وَالْكُفَّارَ يعني عبدة الأصنام وإنما فصل بين أهل الكتاب والكفار وإن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبدة الأصنام أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب أَوْلِياءَ يعني لا تتخذوهم أولياء والمعنى أن أهل الكتاب والكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء وأنصارا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مؤمنين حقا لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء الله عز وجل. قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قال الكلبي: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي: نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقيل: إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت وما أسمج هذا الأمر؟ فأنزل الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ الآية وأنزل وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعني أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم. قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذي اتخذوا دينك هزوا ولعبا هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب والمعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل وهذا ليس مما ينكر أو ينقم منه وهذا كما قال بعضهم: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم. قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازوراء وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

[سورة المائدة (5): الآيات 60 إلى 63]

ويعقوب والأسباط- إلى قوله- ونحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: والله لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنهم قالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فأنزل الله هذه الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وهذا هو ديننا الحق وطريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يعني إنما كرهتم إيماننا ونقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة وأخذ الأموال بالباطل وإنما قال أكثركم لأن الله يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وبرسوله. قوله عز وجل: [سورة المائدة (5): الآيات 60 الى 63] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف دينا شرا من دينكم. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ونقمتم علينا من إيماننا بالله وبما أنزل علينا مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ يعني جزاء. فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب، فكيف جاءت في الإساءة؟. قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع. فإن قلت: هذا يقتضي أن الموصوفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك ومعلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه؟. قلت: جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم: هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك. وقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ معناه هل أنبئكم بمن لعنه الله أو هو من لعنه الله ومعنى لعنه الله: أبعده وطرده عن رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ يعني وانتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ يعني من اليهود من لعنه الله وغضب عليه ومنهم من جعلهم قردة وخنازير قال ابن عباس: إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير. وقيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود ومسخ الخنازير كان في الذين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام ولما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون اليهود وقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير وافتضحوا بذلك وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ يعني: وجعل منهم عبد الطاغوت، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له والطاغوت هو الشيطان. وقيل: هو العجل. وقيل: هو الكهان والأحبار. وجملته أن كل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده وهو الطاغوت أُولئِكَ يعني الملعونين والمغضوب عليهم والممسوخين شَرٌّ مَكاناً يعني من غيرهم ونسب الشر إلى المكان والمراد به أهله فهو من باب الكناية وقيل: أراد أن مكانهم سقر ولا مكان أشد شرا منه وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني وأخطأ عن قصد طريق الحق. قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا قال قتادة: نزلت في أناس من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة المائدة (5): آية 64]

فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وشأنهم وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ يعني: إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يعني من الكفر الذي في قلوبهم. قوله عز وجل: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وترى يا محمد كثيرا من اليهود وكلمة «من» يحتمل أن تكون للتبعيض. ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى: وترى كثيرا منهم يُسارِعُونَ. المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير. ومنه قوله تعالى: يسارعون في الخيرات وضدها العجلة، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها. والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان ما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإثم والعدوان وأكلهم السحت. قوله تعالى: لَوْلا يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعني الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي. وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية. قال ابن عباس: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. [سورة المائدة (5): آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) قوله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي. قال ابن عباس: إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة. فعند ذلك قال فنحاص: يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء. فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارا عنهم: وقالت اليهود يد الله مغلولة. يعني نعمته مقبوضة عنا. وقيل: معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: ينفق كيف يشاء. واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ والسبب أن اليد آلة لكل

الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازا فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد وقيل للبخيل مقبوض اليد. وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يعني: أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله. قال الزجاج: رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة. وقيل: هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم؟ فقال: غلت أيديهم أي في نار جهنم. فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا بسبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار. وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على الله تعالى عن قولهم علوا كبيرا وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم. وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين: أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال الله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين». والقول الثاني: قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه، أحدها: الجارحة وهي معلومة. وثانيهما: النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكره عليها. وثالثها: القدرة قال الله تعالى: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة. ورابعها: الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه قوله تعالى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي يملك ذلك، أما الجارحة فمنتفية في صفة الله عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علوا كبيرا فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني، التي فسرت اليد بها فحاصلة، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وهاهنا إشكالان: أحدهما: أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة الله واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال: بل يداه مبسوطتان. أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه. الإشكال الثاني: أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم الله غير محصورة ولا معدودة ومنه قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل: نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع. فالمراد بالتثنية، المبالغة في وصف النعمة. أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا: إن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره. ونقل الإمام فخر الدين

الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولا: أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه. وأجيب عن قولهم: إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضا قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه، كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس. بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال: إن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة، كما نقول: المجسمة تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض وهذا الحديث أيضا أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف. وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغيانا مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني: ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى. وقيل: ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فإن بعض اليهود جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والمارونية. فإن قلت: فهذا المعنى أيضا حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيبا على اليهود والنصارى حتى يذموا به. قلت: هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين. أما في الصدر الأول، فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم الله يبعث الله عليهم من يهلكهم. أفسدوا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا. وقالوا: يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبدا وقال مجاهد: معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأه الله تعالى وقال السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى الله عليه وسلم فرّقه الله تعالى وكلما أوقدوا نارا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم. وقيل: إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ يعني أن الله لا يحب من كانت هذه صفته. قال قتادة: لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه.

[سورة المائدة (5): الآيات 65 إلى 67]

[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 67] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه فيما جاء به وَاتَّقَوْا يعني اليهودية والنصرانية لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني: لمحونا عنهم ذنوبهم التي عملوها قبل الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعني مع المسلمين يوم القيامة وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني أقاموا أحكامهما بحدودهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن نعته وصفته موجودان فيهما. فإن قلت: كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نسخا وبدلا. قلت: إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته وهذا غير منسوخ لأنه موافق لما في القرآن. وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فيه قولان أحدهما أن المراد به كتب أنبيائهم القديمة مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء وزبور داود وفي هذا الكتب أيضا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. والقول الثاني: أن المراد بما أنزل من ربهم هو القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد وثبتوا على كفرهم ويهوديتهم أصابهم الله بالقحط والشدة حتى بلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ فأخبر الله أنهم لو تركوا اليهودية والكفر الذي هم عليه لانقلبت تلك الشدة بالخصب والسعة وهو قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال ابن عباس: معناه لأنزلت عليهم المطر وأخرجت لهم النبات والمراد من ذلك توسعة الرزق عليهم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي عادلة. والاقتصاد: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير. أصله من القصد، لأن من عرف مقصودا طلبه من غير اعوجاج عنه. والمراد بالأمة المقتصدة: من آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي وأصحابه الذين أسلموا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود ساءَ ما يَعْمَلُونَ يعني بئس ما يعملون من إقامتهم على كفرهم قال ابن عباس: عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية روي عن الحسن أن الله تعالى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه، فأنزل هذه الآية. وقيل: نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، سكت، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية. وقيل: نزلت هذه الآية في أمر الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في قصة الرجم والقصاص وما سأل عنه اليهود ومعنى الآية يا أيها الرسول بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرا به ولا تراقبن أحدا ولا نترك شيئا مما أنزل إليك من ربك وإن أخفيت شيئا من ذلك في وقت من الأوقات فلما بلغت رسالته وهو قوله تعالى وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقرئ رسالاته قال

ابن عباس: يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالتي يعني أنه صلى الله عليه وسلم لو ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ شيئا مما أنزل الله إليه وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئا مما أوحي إليه. روى مسروق عن عائشة قالت من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب؟ ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ يعني يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله والله يعصمك من الناس. قلت: المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاثا ولم يعاقبه وجلس. وفي رواية أخرى «قال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني؟. فقال: لا. فقال من يمنعك مني؟ قال: الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري في رواية له: أن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث (ق). عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قال: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام» وعن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت «والله يعصمك من الناس» فأخرج رسول الله من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. وقيل في الجواب عن هذا: إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قال ابن عباس: معناه لا يرشد من كذبك وأعرض عنك. وقال ابن جرير الطبري: معناه إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعني: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين الحق المرتضى عند الله ولستم على شيء مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى عليه السلام يا معشر اليهود ولا مما جاءكم به عيسى يا معشر النصارى فإنكم أحدثتم وغيّرتم. قال ابن عباس: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف وراتع بن حرملة. قالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق، فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم بلى: ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فأنا بريء من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن لك ولا نتبعك فأنزل الله:

[سورة المائدة (5): الآيات 68 إلى 71]

[سورة المائدة (5): الآيات 68 الى 71] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية وقد تقدم معنى إقامة التوراة والإنجيل وإنه يلزمهم العمل بما فيهما وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم تفسير ما أنزل إليكم من ربكم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وقوله تعالى فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني فلا تحزن يا محمد على هؤلاء اليهود الذي جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك فإنما يعود ضرر ذلك الكفر عليهم. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى لما بين الله عز وجل أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين في هذه الآية أن هذا الحكم عام في كل أهل الملل وأنه لا يحصل لأحد منهم فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا يرضاه الله ومن العمل الصالح الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتم الإيمان إلا به وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة. وقوله تعالى: وَالصَّابِئُونَ ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال: والصابئين، وكذا قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن كثير من السبعة. وقرأ الجمهور بالرفع. ومذهب الخليل وسيبويه أنه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والصابئون كذلك فحذف خبره والحكمة في عطف الصابئين على من قبلهم هي أن الصابئين أشد الفرق المذكورة في هذه الآية ضلالا فكأنه قال: كل هؤلاء الفرق إذا آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون، فإنهم إذا آمنوا كانوا أيضا كذلك، وإنما سموا صابئين، لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، بمعنى: خرجوا لأنهم صبئوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا ما جاءت به الرسل من عنده الله. فإن قلت: قد قال الله تعالى في أول الآية إن الذين آمنوا ثم قال في آخر الآية فمن آمن فما فائدة هذا التكرار. قلت: فائدته أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى إن الذين آمنوا أي بألسنتهم لا بقلوبهم. ثم قال: من آمن يعني من ثبت على إيمانه ورجع عن نفاقه منهم. وقيل: فيه فائدة أخرى وهي أن الإيمان يدخل تحته أقسام كثيرة وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر ففائدة التكرار التنبيه على أشرف أقسام الإيمان هذان القسمان وفي قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ حذف تقديره من آمن بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ منهم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما عند السامعين وَعَمِلَ صالِحاً يعني وضم إلى إيمانه العمل الصالح وهو الذي يراد به وجه الله تعالى فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني في الآخر. قوله عز وجل: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني أخذنا العهود عليهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها من التوحيد والعمل بما أمرناهم به والانتهاء عما نهيناهم عنه وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يعني لبيان الشرائع والأحكام كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يعني بما يخالف أهواءهم ويضاد شهواتهم من ميثاق التكليف والعمل بالشرائع فَرِيقاً كَذَّبُوا يعني من الرسل الذين جاءتهم وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ يعني من الرسل فكان

[سورة المائدة (5): الآيات 72 إلى 75]

فيمن كذبوا عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكان فيمن قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وإنما فعلوا ذلك نقضا للميثاق وجراءة على الله عز وجل ومخالفة لأمره. قوله تعالى: وَحَسِبُوا يعني وظنّ هؤلاء الذين كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني أن لا يعذبهم الله ولا يبتليهم بذلك الفعل الذي فعلوه وإنما حملهم على هذا الظن الفاسد أنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله. فلهذا السبب حسبوا أن لا يكون فعلهم ذلك فتنة يبتلون بها. وقيل: إنما قدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة فَعَمُوا وَصَمُّوا يعني أنهم عموا عن الحق فلم يبصروه وصموا عنه فلم يسمعوه وهذا العمى هو كناية عن عمى البصيرة لا البصر وكذلك الصمم هو كناية عن منع نفوذ الحق إلى قلوبهم وسبب ذلك شدة جهلهم وقوة كفرهم وإعراضهم عن قبول الحق قال بعض المفسرين سبب هذا العمى والصمم عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني أنهم لما تابوا من عبادتهم العجل تاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا يعني في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لأنهم كذبوا عيسى وقتلوا زكريا ويحيى وقيل إن العمى والصمم الأول كان بعد موسى ثم تاب الله عليهم يعني ببعثه عيسى عليه السلام ثم عموا وصموا يعني بسبب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ مِنْهُمْ من اليهود لأن بعضهم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يعني من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل. [سورة المائدة (5): الآيات 72 الى 75] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قوله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لما حكى الله عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل وغير ذلك شرع في الأخبار عن كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم لا يقولون إن مريم ولدت إلها ولأنهم يقولون إن الإله جل وعلا حل في ذات عيسى واتحد به فصار إلها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني وقد كان المسيح قال هذا لبني إسرائيل عند مبعثه إليهم وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى ذلك لأنه عليه السلام لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية والإقرار لله بالربوبية وإن دلائل الحدوث ظاهرة عليه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يعني أنه من يجعل له شريكا من خلقه فقد حرم الله عليه الجنة يعني إذا مات على شركه وَمَأْواهُ النَّارُ يعني أنه يصير إلى النار في الآخرة وَما لِلظَّالِمِينَ يعني وما للمشركين الذين ظلموا أنفسهم بالشرك مِنْ أَنْصارٍ يعني ما لهم من أنصار ينصرونهم ويمنعونهم من العذاب يوم القيامة. قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهذا قول المرقوسية والنساورية من النصارى. ولتفسير قول النصارى طريقان: أحدهما وهو قول أكثر المفسرين إنهم أرادوا بهذه المقالة أن الله ومريم وعيسى

[سورة المائدة (5): الآيات 76 إلى 79]

آلهة ثلاثة وأن الإلهية مشتركة بينهم وأن كل واحد منهم إله ويبين ذلك قوله تعالى للمسيح: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فقوله ثالث ثلاثة فيه إضمار تقديره إن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة. قال الواحدي: ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟». والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة قالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد واعلم أن هذا الكلام معلوم البطلان لبديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فسادا ولا أظهر بطلانا من مقالة النصارى وعلى هذا أخبر الله عنهم في قوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فهذا معنى مذهبهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم وإنما يمتنعون من هذه العبارة لأنهم إذا قالوا: إن كل واحد من الأقانيم إله فقد جعلوه ثالث ثلاثة. وقولهم بعد هذا: هو إله واحد فيه مناقضة لما قالوا أولا فهذا بيان فساد قول النصارى ثم رد الله عليهم فقال تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يعني أنه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك له ولا والد له ولا ولد له ولا صاحبة له إلا الله تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ يعني وإن لم ينته النصارى عن هذه المقالة الخبيثة لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول الخبيث وهذا الدين الذي ليس بمرضي عذاب وجيع في الآخرة وإنما قال تعالى منهم لعلمه السابق أن من النصارى من سيؤمن ويخلص ويترك هذا القول ويعلم أنه فاسد ثم ندب سائر النصارى إلى التوبة من هذه المقالة الخبيثة فقال تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ يعني من قولهم بالتثليث وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وهذا استفهام بمعنى الأمر أي: توبوا إلى الله واستغفروه من هذا الذنب العظيم فإنه تعالى يغفر الذنوب وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لمن استغفره وتاب إليه رَحِيمٌ به وبسائر خلقه. قوله عز وجل: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ يعني أن المسيح رسول من الله عز وجل ليس بإله كما أن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة وقد أتى عيسى عليه السلام بالمعجزات الدالة على صدقه كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعني أنها كثيرة الصدق وقيل: سميت مريم صديقة، لأنها صدقت بآيات ربها وكتبه. وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ في احتجاج على فساد قول النصارى بإلهية المسيح. يعني: أن المسيح وأمه مريم كانا بشرين يأكلان الطعام ويعيشان به كسائر بني آدم، فكيف يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ولا يعيش إلا به؟ وقيل: معناه أنه لو كان إلها كما يزعمون لدفع عن نفسه ألم الجوع وألم العطش ولم يوجد ذلك فكيف يكون إلها وقيل هذا كناية عن الحدث وذلك أن كل من أكل وشرب لا بد له من الغائط والبول ومن كانت هذه صفته فكيف يكون إلها؟ وبالجملة فإن فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه ثم قال تعالى: انْظُرْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي انظر يا محمد كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ يعني الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن استماع الحق وقبوله. [سورة المائدة (5): الآيات 76 الى 79] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)

قوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون من دون الله ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان وسعة الأرزاق فإن الضار والنافع هو الله تعالى لا من تعبدون من دونه ومن لم يقدر على النفع والضر لا يكون إلها وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني أنه تعالى سميع لأقوالكم وكفركم عليم بما في ضمائركم. قوله عز وجل: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. الغلوّ: مجاوزة الحد وذلك أن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط فمجاوزة الحد والتقصير مذمومان في الدين غَيْرَ الْحَقِّ يعني: لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا غير الحق وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ثم غلوا في الإصرار عليه وكلا الفريقين من اليهود والنصارى غلوا في عيسى عليه السلام، أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة، وأما غلوّ النصارى فمجاوزة الحد في حقه حتى جعلوه إلههم وكلا الغلوين مذموم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه، قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده والخطاب في قوله ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله أهواء قوم قد ضلوا من قبل فبين الله تعالى أنهم كانوا على ضلاله وَأَضَلُّوا كَثِيراً يعني من اتبعهم على ضلالتهم وأهوائهم وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني وأخطئوا عن قصد طريق الحق. قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ قال أكثر المفسرين: هم أصحاب السبت لما اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. قال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا قردة وستأتي قصتهم في سورة الأعراف وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني وعلى لسان عيسى ابن مريم وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا خنازير وستأتي قصتهم. وقال بعض العلماء: إن اليهود كانوا يفتخرون بآبائهم ويقولون نحن من أولاد الأنبياء عليهم السلام، فأخبر الله تعالى بأنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام. وقيل: إن داود وعيسى بشّرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكفر به ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر الاعتداء والمعصية فقال تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر. وقيل: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار عليه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام في لبئس لام القسم أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلون يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما

[سورة المائدة (5): الآيات 80 إلى 82]

عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلى قوله فاسقون ثم قال «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا» زاد في رواية أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا» قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب قوله أكيله وشريبه وقعيده هو المؤاكل والمشارب والمقاعد فعيل بمعنى فاعل وقوله: لتأطرنه، الأطر العطف يعني لتعطفنه ولتردنه إلى الحق الذي خالفه والقصر والقهر على الشيء. [سورة المائدة (5): الآيات 80 الى 82] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) قوله عز وجل: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: يوالون المشركين من أهل مكة وذلك حين خرجوا إليهم ليجيشوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: معناه ترى كثيرا من المنافقين يتولون اليهود لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يعني ولو كان هؤلاء الذين يتولون الكفار يؤمنون بالله ويصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث إلى كافة الخلق وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني ويؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليه من ربه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني ولكن أكثرهم خارجون عن طاعة الله وأمره وإنما قال كثيرا لأنه علم أن منهم من سيؤمن مثل عبد الله بن سلام وأصحابه. قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا اللام في قوله لتجدن لام القسم تقديره والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا ووصف الله شدة عداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين وذلك حسدا منهم للمؤمنين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ووصف لين عريكة النصارى وسهولة قبولهم الحق. قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال بأنواع المكر والكيد والحيل، ومذهب النصارى خلاف اليهود، فإن الإيذاء في مذهبهم حرام، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى. وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة ومن كان كذلك كان شديد العداوة لغيره. وأما النصارى، فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذتها وترك طلب الرياسة ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحدا ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق لهذا قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ يعني من النصارى

قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية نزلت فيمن آمن من النصارى مثل النجاشي وأصحابه. والقس والقسيس: اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون. وقال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم. وهذا مما وقع الوفاق بين اللغتين يعني العربية والرومية. وأما الرهبان، فهو جمع راهب. وقيل: الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع. فإن قلت: كيف مدحهم الله بذلك مع قوله وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها قلت: إنما مدحهم الله في مقابلة ذم اليهود ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحا على الإطلاق. وقيل: إنما مدح من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه فإن قلت: كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات فيدعون أن لله ولدا واليهود ينازعون في النبوات فيقرون ببعض النبيين وينكرون بعضهم والأول أقبح فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلت: إنما هو مدح في مقابلة ذم وليس بمدح على الإطلاق وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود ولين النصارى فلذلك ذم اليهود ومدح النصارى الذين آمنوا منهم. واختلف العلماء في من نزلت هذه الآية فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وأصحابه الذين أسلموا معه. (ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه) قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: إن قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم الله من شاء منهم ومنع الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا فخرج إليها أحد عشر رجلا وأربع نسوة سرا وهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى. ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم، فدخل إليه عمرو وقال له: أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها وزعم أنه نبي وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم وأن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم. فقال: حتى نسألهم فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا: يستأذن أولياء الله. فقال: ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله. فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أيها الملك ألا ترى أنا قد صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. قال: فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال: والله ما زال صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال: هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا: نعم. قال: اقرءوا، فقرأ جعفر سورة مريم وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما

عرفوا من الحق فأنزل الله فيهم ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ إلى آخر الآيتين فقال النجاشي لجعفر وأصحابه اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يعني أنكم آمنون فرجع عمرو وأصحابه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه وذلك في سنة ست من الهجرة وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحا كانت لها وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق مبلغه أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين دينار فلم تأخذها. وقالت: إن الملك أمرني أن لا أخذ منك شيئا. وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام. قالت: نعم. فقالت قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكره. قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر خيبر فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها السلام وأنزل الله عز وجل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يجدع أنفه. وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه أزهى في ستين رجلا من أصحابه وكتب إليه يا رسول الله إني أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرا وأسلمت لله رب العالمين وقد بعثت إليك ابني أزهى وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله. فركبوا في سفينة قي أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخير ووافى مع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة وثمانية من الشام فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يس إلى آخرها فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل الله هذه الآية فيهم وهي قول: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى يعني: وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا من أصحاب الصوامع. وقيل: نزلت في ثمانين رجلا أربعين من نصارى نجران من بني الحرث بن كعب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية روميين من أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق بما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى الله عليهم بقوله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق.

[سورة المائدة (5): الآيات 83 إلى 87]

[سورة المائدة (5): الآيات 83 الى 87] وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) قوله عز وجل: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ يعني: وإذا سمعوا القرآن الذي أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى يخرج منه ما فيه. وصفهم الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عن سماع القرآن. قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم. قال: فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يعني الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق يَقُولُونَ يعني القسيسين والرهبان الذين سمعوا القرآن من جعفر عند النجاشي رَبَّنا آمَنَّا يعني بالقرآن وشهدنا أنه حق وصدق فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ قال ابن عباس: لما رجع الوفد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لامهم قومهم على ترك دينهم. وقيل: إن اليهود عيروهم وقالوا تركتم دينكم فأجابوا بهذا الجواب. ومعنى الآية: ومالنا لا نؤمن بوحدانية الله وما جاءنا من الحق من عنده على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وَنَطْمَعُ يعني: ونرجو بذلك الإيمان أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا يعني بالتوحيد الذي قالوه وإنما علق الثواب وهو قوله تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب، لأن القول إذا اقترن بالمعرفة، فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب. وقال ابن عباس: بما قالوا يريد سألوا يعني قولهم فاكتبنا مع الشاهدين خالِدِينَ فِيها يعني في الجنات وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا لما ذكر الله عز وجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعدلهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ قال علماء التفسير: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الناس يوما ووصف القيامة فرقّ الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم: أبو بكر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، وتشاوروا واتفقوا على أنهم يترهبون ويلبسون المسوح ويجبون مذاكيرهم ويصومون الدهر ويقومون الليل ولا ينامون على الفرش ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ويسيحون في الأرض. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي سر زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا فقالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أؤمر بذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الديار والصوامع فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يعني الطيبات اللذيذات التي تشتهيها الأنفس وتميل إليها القلوب من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة فأعلم الله عز وجل بهذه الآية أن شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم غير ما عزموا عليه من ترك الطيبات وأنه لا ينبغي أن تجتنب

[سورة المائدة (5): آية 88]

الطيبات المباحات ومعنى: لا تحرموا، لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر. أما ترك لذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة لا مانع منها بل مأمور بها. وقوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا يعني: ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام. وقيل: معناه ولا تجبوا أنفسكم فسمى جب المذاكير اعتداء وقيل معناه ولا تعتدوا بالإسراف في الطيبات إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يعني المجاوزين الحلال إلى الحرام. [سورة المائدة (5): آية 88] وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وقوله تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً يعني: وكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم من المطاعم والمشارب. قال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه، والطيب ما غذى وأنمى، فأما الجامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي. وعن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليّ اللحم فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. وله عن أبي هريرة قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها قالت عائشة: ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجا أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ هذا تأكيد للوصية بما أمر الله تعالى به وزاد التأكيد بقوله الذي أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى أمر الله به وعما نهى عنه. وفي الآية دليل على أن الله عز وجل قد تكفل برزق كل أحد من عباده فإنه تعالى لو لم يتكفل بذلك لما قال وكلوا مما رزقكم الله وإذا تكفل برزق العبد وجب أن لا يبالغ في الطلب والحرص على الدنيا وأن يعول على ما وعده الله وتكفل به فإنه تعالى أكرم من أن يخلف الوعد. [سورة المائدة (5): آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال ابن عباس: «لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم- قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا قد حلفوا على ما اتفقوا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم» وقد تقدم تفسير اللغو في الأيمان في سورة البقرة وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يعني ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم وقصدتم به اليمين ومنه قول الفرزدق: ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم وفي الآية حذف تقديره ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذفه لأنه معلوم عند السامعين فَكَفَّارَتُهُ يعني فكفارة إيمانكم التي عقدتموها إذا حنثتم إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني من

أقصد ذلك لأن من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر عليهم فأمر الله بالعدل في أداء الكفارة. وقيل: أراد بالأوسط في القيمة فلا يكون غالبا من أعلى الموجود ولا خسيس الثمن من أردأ الموجود بل الوسط في القيمة وقيل أراد بالأوسط الأفضل قال ابن عباس: كل شيء في كتاب الله أوسط فهو أفضل فعلى هذا يكون المعنى من خير ما تطعمون أهليكم وأفضله أَوْ كِسْوَتُهُمْ هو معطوف على محل أوسط أي كما تطعمون المساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فكذلك فاكسوهم من أوسط الكسوة أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعني عتق رقبة والمراد جملة الشخص. ((فصل في حكم الآية وفيه مسائل)) المسألة الأولى: في بيان الكفارة وهي أربعة أنواع: النوع الأول: من الكفارة الإطعام فيجب إطعام عشرة مساكين واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد وكذلك سائر الكفارات وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي ويروى عن عمر وعلي وعائشة أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر وهو نصف صاع وبه قال أهل العراق. وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة فنصف صاع وإن أطعم من غيرها فصاع وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال أحمد بن حنبل: يطعم لكل مسكين مد من البر أو نصف صاع من غيرها مثل التمر والشعير: ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين فلو عشاهم وغداهم لم يجزه وقال أبو حنيفة: يجزيه ذلك ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك ولا إخراج الدقيق والخبز في الكفارة بل يجب إخراج الحب، وجوّزه أبو حنيفة ولا يجوز صرف الكل إلى مسكين واحد في عشرة أيام. النوع الثاني: من الكفارات الكسوة واختلف العلماء في قدرها فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء ونحو ذلك وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك: يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة فيكسو الرجل ثوبا والمرأة ثوبين درعا وخمارا. وقال أحمد: للرجال ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا وهو أدنى ما يجزى في الصلاة وقال ابن عمر: يجب قميص وإزار ورداء. وقال أبو موسى الأشعري: يجب ثوبان وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وقال إبراهيم النخعي: يجب ثوب جامع كالملحفة. النوع الثالث: من الكفارات العتق فيجب إعتاق رقبة مؤمنة وكذلك يجب في جميع الكفارات وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإن الله قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد ولا يجوز إعتاق المرتد في الكفارات بالإجماع ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه فكل هؤلاء لا يجزى في إعتاق الكفارة وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئا وجوزوا عتق القريب في الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل فلا يجزى مقطوع اليد أو الرجل ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل وعند أبي حنيفة كل عيب يفوت جنسا من المنفعة يمنع الجواز فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة. النوع الرابع: من الكفارات الصوم وهو قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الكفارة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ

[سورة المائدة (5): الآيات 90 إلى 91]

يعني فإذا عجز من لزمته كفارة اليمين عن الإطعام أو الكسوة أو العتق وجب عليه صيام ثلاثة أيام وهو قوله تعالى: فصيام ثلاثة أيام، يعني فعليه صيام ثلاثة أيام. قال الشافعي: إذا كان عنده قوته أو قوته عياله يومه وليلته وفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام. وقال أبو حنيفة: يجوز له الصيام إذا لم يكن عنده من المال ما تجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادما. وقال الحسن: إذا لم يجد درهمين صام. وقال سعيد بن جبير: ثلاثة دراهم. واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين: أحدهما: أنه يجب التتابع فيه قياسا على كفارة الظهار والقتل وهو قول ابن عباس ومجاهد وطاوس وعطاء وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي والقول الثاني: لا يجب التتابع في كفارة اليمين فإن شاء تابع وإن شاء فرق والتتابع أفضل وبه قال الحسن ومالك وهذا القول الثاني للشافعي. المسألة الثانية: كلمة أو للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق فإن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق فبأيها أخذ المكفر فقد أصاب وخرج عن العهدة. المسألة الثالثة: لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجزيه. وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز. المسألة الرابعة: اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث فذهب قوم إلى جوازه لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمينه فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» أخرجه الترمذي (ق) عن عبد الرحمن بن سمرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنها إن أتتك عن مسألة وكلت إليها وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك» وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة وعامة الفقهاء وبه قال الحسن وابن سيرين وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي. إلا أن الشافعي قال: إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني إنما يجوز الطعام أو الكسوة أو العتق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث وقوله ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعني: وحنثتم، لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين إنما تجب بالحنث بعد اليمين وفيه إشارة إلى تقديم الكفارة على اليمين لا يجوز، بل بعد اليمين وقبل الحنث كما تقدم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ يعني قللوا أيمانكم ففيه النهي عن كثرة الحلف ومنه قول الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمينه وصفه بأنه لا يحلف وقيل في معنى الآية: واحفظوا أيمانكم عن الحنث إذا حلفتم لئلا تحتاجوا إلى التكفير وهذا إذا لم يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن حلف على ذلك فالأفضل، بل الأولى أن يحنث نفسه ويكفر لما روي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني كما بيّن لكم كفارة أيمانكم إذا حنثتم كذلك يبين لكم جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني نعمه التي أنعم بها عليكم أن بيّن لكم آياته ومعالم شريعته. [سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 91] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وقوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكانت الخمر والميسر مما يستطاب عندهم بين الله تعالى في هذه الآية أن الخمر والميسر غير داخلين في جملة الطيبات المحللات، بل هما من جملة المحرمات والخمر كل ما خامر العقل وغطاه والميسر القمار وقد تقدم تفسيرهما في سورة البقرة والأنصاب هي الحجارة التي كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها والأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها وتقدم تفسير ذلك. والرجس في اللغة الشيء الخبيث المستقذر مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني من تزيينه وإغوائه ودعائه إياكم إليها وليس المراد أنها من عمل يديه فَاجْتَنِبُوهُ يعني كونوا جانبا منه والضمير في قوله فاجتنبوه عائد إلى الرجس لأنه اسم جامع للكل كأنه قال إن هذه الأربعة الأشياء كلها رجس فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكم لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بيّن لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال: اللهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا أخرجه الترمذي من طريقين. وقال رواية أبي ميسرة هذه أصح وأخرجه أبو داود والنسائي. وروى مصعب بن سعيد عن أبيه قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا وذلك قبل أن تحرم زاد حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص: المهاجرون خير منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى جمل فضرب به أنف سعد ففزره فأتى سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول فعل بي هذا فلان أخي وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وأما تفسير الآية فقوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار بالقداح وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها. وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى الله عن ذلك وتقدم ما فيه والله أعلم بما يصلح خلقه فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين وهي قوله تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة. فإن قلت: لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية؟

[سورة المائدة (5): الآيات 92 إلى 94]

قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر لتأكيد تحريم الخمر والميسر فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم أفردهما بالذكر في آخر الآية والله أعلم. قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا وهذا من أبلغ ما ينهى به لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطب كأنه قيل قد تدلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا ولم تنزجروا؟ وفي هذه الآية دليل على تحريم شرب الخمر لأن الله تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وعدّد أنواع الفساد الحاصلة بهما ووعد بالفلاح عند اجتنابهما وقال فهل أنتم منتهون ومعناه الأمر وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» أخرجاه في الصحيحين وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. الفرق بالتحريك إناء يسع ستة عشر رطلا، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له أربعين صباحا فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه الله من نهر الخبال» قالوا يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال: صديد أهل النار أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن وأخرجه النسائي وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» أخرجه أبو داود. [سورة المائدة (5): الآيات 92 الى 94] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) قوله عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يعني، فيما أمركم به ونهاكم عنه وَاحْذَرُوا أي واحذروا مخالفة الله ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمركم به ونهاكم عنه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني فإن أعرضتم عما أمركم به ونهاكم عنه فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وهذا وعيد وتهديد لمن أعرض عن أمر الله ونهيه كأنه قال فاعلموا أنكم بسبب توليكم وإعراضكم قد استحققتم العذاب والسخط. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال: فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية أخرجه الترمذي. وقال حديث: حسن صحيح. عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن ومعنى الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أي لا حرج ولا إثم عليهم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار في وقت الإباحة قبل التحريم قال ابن قتيبة يقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما قال الشاعر: فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

[سورة المائدة (5): آية 95]

النقاخ الماء والبرد النوم إِذا مَا اتَّقَوْا يعني إذا ما اتقوا الشرك وقيل اتقوا ما حرم الله عليهم وَآمَنُوا يعني بالله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي وازدادوا من عمل الصالحات ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا يعني اتقوا الخمر والميسر بعد التحريم فعلى هذا تكون الأولى إخبارا عن حال من مات وهو يشربها قبل التحريم أنه لا جناح عليه. والثانية: خطاب لمن بقي بعد التحريم أمروا باتقائها والإيمان بتحريمها ثُمَّ اتَّقَوْا يعني ما حرم عليهم في المستقبل وَأَحْسَنُوا يعني العمل. وقيل: المراد بالاتقاء الأول فعل التقوى وبالثاني المداومة عليها وبالثالث اتقاء الظلم مع ضم الإحسان إليه. وقيل: إن المقصود من التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الإيمان والتقوى وضم الإحسان إليهما ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني أنه تعالى يحب المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان وهذا ثناء ومدح لهم على الإيمان والتقوى والإحسان لأن هذه المقامات من أشرف الدرجات وأعلاها (م) عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي: أنت منهم ومعناه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له إن ابن مسعود منهم يعني من الذين آمنوا وعملوا الصالحات والتقوى والإحسان. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ نزلت هذه الآية عام الحديبية وكانوا محرمين، فابتلاهم الله بالصيد، فكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهمّوا بأخذها وصيدها فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ الآية اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليخبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني بصيد البر دون البحر. وقيل: أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال وإنما قال بشيء من الصيد ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي نزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعبا شاقا كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح وإنما هو ابتلاء سهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه لكن الله عز وجل بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصطادوا شيئا في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير. وقوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد وَرِماحُكُمْ يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها. وقال ابن عباس: في قوله تناله أيديكم ورماحكم هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاؤوا نالوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه لِيَعْلَمَ اللَّهُ أي: ليرى الله فإنه قد علمه فهو مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل والمعنى يعاملكم معاملة المختبر. وقيل: معناه ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هو من باب حذف المضاف والتقدير ليعلم أولياء الله مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ يعني: من يخاف الله ولم يره فلا يصطاد في حالة الإحرام شيئا بعد النهي فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعني فصاد في حالة الإحرام بعد النهي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الدنيا. قال ابن عباس: هو أن يوجع ظهره وبطنه جلدا وتسلب ثيابه وهذا قول أكثر المفسرين في معنى هذه الآية لأنه قد سمى الجلد عذابا وهو قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. [سورة المائدة (5): آية 95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جمع حرام. أي: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بالحج والعمرة وقيل المراد منه دخول الحرم. يقال: أحرم إذا عقد الإحرام، وأحرم: إذا دخل الحرم.

وقيل: هما مرادان بالآية فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم نزلت هذه الآية في أبي اليسر شد على حمار وحش فقتله وهو محرم ثم صار هذا الحكم عاما فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرما ولا في الحرم. والمراد بالصيد، كل حيوان متوحش مأكول اللحم وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: هو كل حيوان متوحش سواء كان مأكولا أو لم يكن فيجب عنده الضمان على من قتل سبعا أو نمرا أو نحو ذلك واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن (ق). عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» وفي رواية: «خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام» (ق). عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» ولمسلم «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» وذكر نحوه. وفي رواية النسائي قال: «خمس يقتلن المحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والغراب الأبقع، والكلب العقور». قال ابن عيينة: الكلب العقور كل سبع ضار يعقر. وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه، قال: لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم. وتحريم الأكل، يجمع الكل فاعتبره ورتب عليه الحكم. وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه كفارة. قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً قال مجاهد والحسن وابن زيد: هو الذي يتعمد قتل الصيد مع نسيان الإحرام فعليه الجزاء. أما إذا تعمد قتل الصيد ذكرا لإحرامه، فلا جزاء عليه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة. وقال ابن عباس والجمهور: يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام وهذا مذهب عامة الفقهاء، أما إذا قتل الصيد خطأ بأن قصد غيره بالرمي فأصابه، فهو كالعمد في وجوب الجزاء وهذا مذهب جمهور المفسرين والفقهاء قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ يعني ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب الجزاء وقال سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئا وهذا قول شاذ لا يؤخذ به فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعني فعليه جزاء من النعم مثل ما قتل والمثل والشبه واحد واختلفوا في هذه المماثلة أهي بالخلقة أم بالقيمة والذي عليه جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أن المماثلة في الخلقة معتبرة لأن ظاهر الآية يدل على ذلك وما لا مثل له فالقيمة، وقال أبو حنيفة: المثل الواجب في قتل الصيد هو القيمة لأن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة وهذا لا نزاع فيه فكان المراد بالمثل هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على معنى واحد وأجيب عنه بأن حقيقة المماثلة أمر معلوم فيجب رعايتها بأقصى الإمكان وإن لم تكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة وحجة الشافعي ومن وافقه في اعتبار المماثلة بالخلقة أن الصحابة حكموا في بلدان شتى وأزمان مختلفة بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وحكموا في حمار الوحش ببقرة وهو لا يساوي بقرة وكذا في الضبع بكبش فدل ذلك على أنهم إنما نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة فحكموا به ولم يعتبروا القيمة فيجب في الظبي شاة وفي الأرنب سخل وفي الضب سخلة وفي اليربوع جفرة ويجب في الحمامة وكل ما عبّ وهدر كالفواخت والقمري وذوات الأطواق شاة وما سواه من الطير ففيه القيمة في المكان الذي أصيب فيه. وروي عن عثمان وابن عباس أنهما حكما في حمام الحرم. وروي عن عمر أنه قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة.

وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني يحكم بالجزاء في قتل الصيد رجلان صالحان عدلان من أهل ملتكم ودينكم وينبغي أن يكونا فقيهين فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر الصديق، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر أبي بن كعب، فقال الأعرابي: إني أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر: وما أنكرت من ذلك؟ قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يعني أن الكفارة هدي يساق إلى الكعبة وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة. وإنما أريد الكعبة، كل الحرم لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيا لها إنما يقع في الحرم وهو المراد بالبلوغ فيذبح الهدي بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم هذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة له أن يتصدق به حيث شاء إذا وصل الهدي إلى الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة- أو- في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة إنها للترتيب وهما روايتان. عن ابن عباس قال الشافعي إذا قتل صيدا له مثل فهو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء قوم المثل دراهم والدراهم طعاما ثم يتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع يوما. وعن أحمد روايتان كالقولين وأصل هذه المسألة أنّ الصوم مقدر بطعام اليوم فعند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة لأن الله أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة التخيير إلى الحكمين لأن الله تعالى قال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ومن قال: إن كلمة أو للترتيب، قال: إن لم يجد الهدي اشترى طعاما وتصدق به فإن كان معسرا صام وقال مالك: إن لم يخرج المثل من النعم يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به أو يصوم. وقال أبو حنيفة: لا يجب المثل من النعم، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما واختلفوا في موضع التقويم فقال جمهور الفقهاء يقوم في المكان الذي قتل فيه الصيد. وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يصرف بها. وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ يعني جزاء ذنبه. والوبال في اللغة، الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره. يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وإنما سمى ذلك الله وبالا لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لأن فيه تنقيصا للمال وهو ثقيل على النفس وكذا الصوم أيضا ثقيل على النفس لأن فيه إنهاك البدن عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ يعني قبل التحريم وَمَنْ عادَ يعني إلى قتل الصيد مرة ثانية فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ يعني في الآخرة والانتقام المبالغة في العقوبة وهذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاء وهذا قول جمهور العلماء وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثانية فلا جزاء عليه لأنه وعد بالانتقام منه. قال ابن عباس: إذا قتل المحرم صيدا متعمدا سئل هل قتل شيئا من الصيد، فإن قال نعم، لم يحكم عليه. ويقال له: اذهب فينتقم الله منك وإن قال لم أقتل قبله شيئا، حكم عليه، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيدوج وهو واد بالطائف: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعني ممن عصاه. وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد الذي لا مثل له من النعم مثل البيض وطائر صغير دون الحمام

[سورة المائدة (5): آية 96]

ففيه القيمة فيقوّم ثم يشتري بقيمته طعاما ويتصدق به على محاويج الحرم أو يصوم عن كل مد يوما. [سورة المائدة (5): آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ المراد بالصيد ما صيد من البحر والمراد جميع المياه العذبة والمالحة. فأما طعامه، فاختلفوا فيه فقيل: هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل يروى ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمرو أبي أيوب وقتادة وقيل: صيد البحر طريه وطعامه مالحه. يروى ذلك عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي. ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين وجملة حيوان الماء على قسمين: سمك وغير سمك فأما السمك فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب فيحل أكله وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب وما عدا السمك فقسمان: قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام فإن أصاب جرادة فعليه صدقة. قال عمر: في الجرادة تمرة. وعنه وعن ابن عباس قبضة من طعام وكذلك طير الماء فهو من صيد البر أيضا وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح قال لأن التمساح يفترس ويأكل الناس. وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل فيؤكل نظيره من حيوان البحر مثل بقر الماء ونحوه ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء وخنزير الماء فلا يحل أكله. قوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ يعني ينتفع به المقيمون والمسافرون فيتزودون منه. قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ذكر الله عز وجل تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة أحدها في أول السورة وهو قوله: غير محلّي الصيد وأنتم حرم. والثاني قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ والثالث: هذه الآية وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم واختلف العلماء هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره فذهب قوم إلى أنه لا يحل ذلك بحال يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاوس وإليه ذهب الثوري واحتجوا على ذلك بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال: إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم. أخرجاه في الصحيحين وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه ولا صيد له ولا بإشارته ولا أعان عليه. وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أبي قتادة الأنصاري، قال: كنت جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلا فلم يؤذنوا بي وأحبوا لو أني أبصرته فالتفّت، فأبصرته، فقمت إلى

[سورة المائدة (5): الآيات 97 إلى 98]

الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح. قالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون. ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: هل معكم منه شيء؟ فقلت نعم. فناولته العضد فأكل منها وهو محرم. وزاد في رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنما هي طعمة أطعمكموها الله. وفي رواية: هو حلال فكلوه. وفي رواية قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا: لا؟ قال: كلوا ما بقي من لحمها. أخرجاه في الصحيحين وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث الصعب بن جثامة بأنه إنما رده النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني فلا تستحلّوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم ثم حذرهم بقوله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. [سورة المائدة (5): الآيات 97 الى 98] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) قوله عز وجل: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ جعل بمعنى صبر. وقيل: معناه بيّن وحكم. وقال مجاهد: سمي البيت كعبة لتربيعه. وقيل: لارتفاعه عن الأرض. وسمي البيت الحرام لأن الله حرمه وعظمه وشرفه وعظم حرمته وحرم أن يصطاد عنده وأن يختلى خلاه وأن يعضد شجره وأراد بالبيت الحرام، جميع الحرم لما صح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال «إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه». وقوله تعالى: قِياماً لِلنَّاسِ أصله قواما لأنه سبب لقوام مصالح الناس في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم. أما في أمر الدين فإنه به يقوم الحج وتتم المناسك، وأما في أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شيء ويأمنون فيه من النهب والغارة فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يهجه، وأما في أمر الآخرة فإن البيت جعل لقيام المناسك عنده وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابا لعلو الدرجات وتكفير الخطيئات وزيادة الكرامات والمثوبات فلما كانت الكعبة الشريفة سببا لحصول هذه الأشياء كانت سببا لقيام الناس وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يعني وجعل الشهر الحرام قياما للناس وأراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد يعني وكذلك جعل الأشهر الحرم يأمنون فيها من القتال وذلك أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض وكانوا إذا دخلت الأشهر الحرم أمسكوا عن القتال والغارة فيها فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم فكانت سببا لقيام مصالح الناس. وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعني وكذلك جعل الهدي والقلائد سببا لقيام مصالح الناس وذلك أنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوا أنفسهم من لحاء شجر الحرام فلا يتعرض لهم أحد ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: أنه تعالى علم في الأزل بمصالح العباد وما يحتاجون إليه فجعل الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد يأمنون بها لأنه يعلم مصالح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض لأنه تعالى علم جميع المعلومات الكليات والجزئيات وهو قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن انتهك محارمه واستحلها وَأَنَّ اللَّهَ

[سورة المائدة (5): الآيات 99 إلى 101]

غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني لمن تاب وآمن ولما ذكر الله أنواع رحمته بعباده ذكر بعدها أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف ثم ذكر بعده ما يدل على سعة رحمته وأنه غفور رحيم. [سورة المائدة (5): الآيات 99 الى 101] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يعني ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج، ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيامة بما أمر الله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت الحجة عليكم بذلك ولزمتكم الطاعة فلا عذر في التفريط وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ظاهرا وباطنا قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الرديء والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء. والمعنى: أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى لأن زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند الله يدوم. وقال ابن الجوزي: روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب» وقال مقاتل: نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني يا ذوي العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل: من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أمورا عظاما ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. ثم أكثر أن يقول سلوني فبرك عمر على ركبتيه فقال: «رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا» فسكت ثم قال: عرضت علي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر. قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها عن أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته زاد في رواية أخرى قال قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أخرجاه في الصحيحين (خ). عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل: تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية كلها وقيل نزلت هذه الآية في شأن الحج عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام؟ فسكت فقالوا يا رسول الله في كل عام؟ قال: لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (م).

[سورة المائدة (5): الآيات 102 إلى 103]

عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال: ذروني ما تركتكم ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». وروى مجاهد عن ابن عباس: لا تسألوا عن أشياء قال هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه يقول بعد ذلك ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا وقال عكرمة: إنهم كانوا يسألون عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرون ومعنى الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ جمع شيء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أي تظهر لكم وتبن لكم تَسُؤْكُمْ يعني إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فلا يقدر عليه فيسوءه ذلك ومن سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه النبي صلى الله عليه وسلم بغير أبيه فيفتضح ويسوءه ذلك وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ معناه: إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم وليس في ظاهره شرح ما تحتاجون إليه ومست حاجتكم إليه فإذا سألتم عنه فحينئذ يبدي لكم، ومثال هذا: أن الله عز وجل لما بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ولم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست ذات قرء ولا حامل فسألوا عنها فأنزل الله عز وجل جوابهم في قوله وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ الآية عَفَا اللَّهُ عَنْها يعني عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كره الله لكم السؤال عنها فلم يؤاخذكم بها ولم يعاقبكم عليها وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لمن تاب منكم حَلِيمٌ فلا يعجل بعقوبتكم. وقال عطاء: غفور يعني لما كان في الجاهلية. حليم: يعني عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم. وقال بعض العلماء: الأشياء التي يجوز السؤال عنها، هي ما يترتب عليها أمر الدين والدنيا من مصالح العباد وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال عنه (ق). عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته (ق). عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الأغلوطات» أخرجه أبو داود. والأغلوطات صعاب المسائل التي تزل فيها أقدام العلماء ويؤيد ذلك قول أبي هريرة: شرار الناس الذين يسألون عن شرار المسائل كي يغلطوا بها العلماء. عن سلمان قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال «الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا» وعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» هذان الحديثان أخرجهما في جامع الأصول ولم يعزهما إلى الكتب الستة ثم قال تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 102 الى 103] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها فأصبحوا بها كافرين، وقوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة، فكان هذا السؤال وبالا عليهم، وقوم عيسى، سألوا نزول المائدة عليهم ثم كذبوها. كأنه تعالى يقول: إن أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم كفروا به فلا تسألوا أنتم شيئا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك.

[سورة المائدة (5): آية 104]

قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ أي ما أنزل الله ولا حكم به ولا شرعه ولا أمر به مِنْ بَحِيرَةٍ البحيرة: من البحر وهو الشق. يقال: بحر ناقته إذا شق أذنها فهي فعلية بمعنى مفعولة وَلا سائِبَةٍ يعني المسيبة المخلاة وَلا وَصِيلَةٍ الوصيلة: الشاة وكانت العرب في الجاهلية إذا ولدت لهم ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها وَلا حامٍ الحام: هو الفحل من الإبل يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع به. قال ابن عباس: في بيان هذه الأوصاف، البحيرة: هي الناقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كانت أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على الناس منافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة فإذا ماتت حلت الرجال والنساء. وقيل كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم سيب مع أمها ويفعل بها ما يفعل بأمها. وقيل: السائبة البعير الذي يسيب لآلهتهم وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر، فقال: 7 ن شفاني الله أو شفى الله مريضي أو قدم غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها، فلا تحبس عن ماء ولا مرعى ولا يركبها أحد، فهي بمنزلة البحيرة والوصيلة من الغنم. كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكر ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كانت ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر فلم يذبحوه من أجل الأنثى والحامي هو الفحل إذا ركب ولد ولده. وقيل: هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن. قالوا: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فإذا مات أكله الرجال والنساء (ق) عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار. ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار (خ) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت جهنم تحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب. القصب بضم القاف وسكون الصاد المهملة الأمعاء كانت الجاهلية تفعل هذا في جاهليتهم فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أبطل ذلك بقوله ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام يعني ما بحر الله من بحيرة ولا سيب من سائبة ولا وصل من وصيلة ولا حمى من حام ولا أذن فيه ولا أمر به ولكنكم أنتم فعلتم ذلك من عند أنفسكم (خ) عن ابن مسعود أن أهل الإسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون. وقوله تعالى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعني بقولهم إن الله أمرنا بهم وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أراد بالأكثر الاتباع يعني أن الاتباع لا تعقل أن هذا كذب وافتراء من الرؤساء على الله عز وجل: [سورة المائدة (5): آية 104] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين بحروا البحائر وفعلوا هذه الأشياء أضافوها إلى الله كذبا تعالوا إلى ما أنزل الله يعني في كتابه وإلى الرسول يعني محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه كتابه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله ويبين لكم الشرائع والأحكام وإن الذي تفعلونه ليس بشيء قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعني قد اكتفينا بما أخذنا عنهم من الدين ونحن لهم تبع قال الله ردا عليهم أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ يعني إنما يصح الاقتداء بالعالم المهتدي الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فيصح اقتداؤهم بهم قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5): آية 105]

[سورة المائدة (5): آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال بعض العلماء: هذا أمر من الله تعالى ومعناه احفظوا أنفسكم من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي لأنك إذا قلت عليك زيدا معناه الزم زيدا وقيل معناه عليكم أنفسكم فأصلحوها واعملوا في خلاصها من عذاب الله عز وجل. وانظروا لها ما يقربها من الله عز وجل. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، يعني لا يضركم كفر من كفر إذا كنتم مهتدين وأطعتم الله عز وجل فيما أمركم به ونهاكم عنه. قال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم. وقيل: لما قبلت الجزية من أهل الكتاب قال بعض الكفار: كيف تقبل الجزية من بعض دون بعض؟ فنزلت هذه الآية. وقيل: إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم فقيل لهم: عليكم أنفسكم واجتهدوا في صلاحهم لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين. فإن قلت هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلت: لا يدل على ذلك والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عزّ وجل لا يكون مؤاخذا بذنوب أصحاب المعاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود زاد فيه: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب». وقال قوم في معنى الآية عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه أي وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه أي وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت قلوبكم وأهواؤكم وألبستم شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. وقيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنت الغائب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف نصنع بهذه الآية قال: أية آية قلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم».

[سورة المائدة (5): آية 106]

وفي رواية: «قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم، قال: لا بل أجر خمسين منكم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقيل في معنى الآية: إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه لا يضره من ضل. وقال ابن عباس: قوله «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» يقول إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به وعن صفوان بن محرز قال: دخل عليّ شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئا من أمره فقلت له: ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أوليائه «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» وقال الحسن: لم يكن مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقيل في معنى الآية: لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب. وقال ابن زيد: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت وكان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل وتفعل فقال الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم لأن الله تعالى يقول: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه. وقال عبد الله بن المبارك: هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال: عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات والذي يؤكد ذلك أن معنى قوله: عليكم أنفسكم أي احفظوا أنفسكم وهذا أمر بأن نحفظ أنفسنا ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله أعلم. وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني في الآخرة الطائع والعاصي والضال والمهتدي فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها. [سورة المائدة (5): آية 106] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري، وعدي بن بداء، خرجا من المدينة في تجارة إلى الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في متاعه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا إلى المدينة ومات بديل، ففتشا متاعه، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فغيباه، ثم إنهما قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوه فأصابوا الصحيفة وفيها تسمية ما كان معه فجاء أهل الميت إلى تميم وعدي فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا: لا. قالوا: فهل أتجر تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه قالا: لا. قالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا فقدنا إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار وحلفا فأنزل الله هذه الآية هذا قول المفسرين. وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا

حضر أحدكم الموت قال تميم برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم: ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه قال ابن عباس: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرج هذه الرواية الأخيرة البخاري في صحيحه فأما التفسير فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ يعني ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني إذا قارب وقت حضور الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك: شهدت وصية فلان بمعنى حضرت أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين. وقيل: معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة: هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح: من كان بأرض غربة لم يجد مسلما يشهد وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلما. عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود. وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من

[سورة المائدة (5): الآيات 107 إلى 108]

عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعمّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئا من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولا فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال. وقوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: إن أنتم سافرتم في الأرض فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما تَحْبِسُونَهُما يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني فيحلفان بالله. قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها إِنِ ارْتَبْتُمْ يعني إن شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما، فحلّفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يعني لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إنما أضاف الشهادة إليه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ يعني إن كتمنا الشهادة أو خنّا فيها ولما نزلت هذه الآية صلى صلى الله عليه وسلم العصر ودعا تميما وعديا وحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء من بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي. وقيل: لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم، فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا اشتريناه منه. فقالوا لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [سورة المائدة (5): الآيات 107 الى 108] فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) فَإِنْ عُثِرَ يعني فإن اطلع وظهر والعثور الهجوم على أمر لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يعني الوصيين ومعنى الآية فإن حصل العثور

[سورة المائدة (5): الآيات 109 إلى 110]

والوقوف على أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة فَآخَرانِ يعني من أولياء الميت وأقربائه يَقُومانِ مَقامَهُما يعني مقام الوصيين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ يعني من الذين استحق عليهم الإثم وهم الورثة والمعنى إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته الْأَوْلَيانِ يعني بأمر الميت وهم أهله وعشيرته فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني فيحلفان بالله لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما وَمَا اعْتَدَيْنا يعني في أيماننا وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان لو وهما من أهل الميت وحلفا بالله بعد العصر ودفع الإناء إليهما وإنما ردت اليمين على أولياء الميت لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهما الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيء من مال الميت وقال: إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ولما أسلم تميم الداري بعد هذه القصة كان يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأنا أتوب إلى الله وأستغفره. وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم أدنى، أي: أجدر وأحرى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني أن يأتي الوصيان وسائر للناس بالشهادة على وجهها فلا يخونوا فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرّموا فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذه الحكم وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني وخافوا الله أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة وَاسْمَعُوا يعني المواعظ والزواجر وقيل معناه واسمعوا سمع إجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني: والله لا يرشد من كان على معصية وهذا تهديد وتخويف ووعيد لمن خالف حكم الله تعالى أو خان أمانته أو حلف أيمانا كاذبة وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظما وإعرابا وحكما والله أعلم بأسرار كتابه. [سورة المائدة (5): الآيات 109 الى 110] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) قوله عز وجل: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجاج هي متصلة بما قبلها تقديرها: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل، وقيل: تقدير: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل. أي لا يهديهم إلى الجنة في ذلك اليوم وهو يوم القيامة وقيل إنها منقطعة عما قبلها وتقديره اذكر يا محمد يوم يجمع الله الرسل ذلك يوم القيامة فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ يعني فيقول الله تبارك وتعالى للرسل ماذا أجابكم أممكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي وفائدة هذا السؤال توبيخ أمم الأنبياء الذين كذبوهم قالُوا يعني الرسل لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس: معناه لا علم لنا كعلمك فيهم لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ. فعلى هذا القول، إنما نفوا العلم عن أنفسهم وإن كانوا علماء لأن علمهم صار كلا علم عند علم الله. وقال في رواية أخرى: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا وهذا القول قريب من الأول. وقيل: معناه

لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا. وقيل: معناه لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم لأنا كنا نعلم ما كان من أفعالهم وأقوالهم وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا ولا نعلم ما أحدثوا من بعدنا ومنه ما أخبر الله عن عيسى عليه السلام بقوله: «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» ومنه ما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» زاد في رواية «فأقول سحقا لمن بدل بعدي» أخرجاه في الصحيحين وقال جمع من المفسرين إن للقيامة أهوالا وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك ويذهلون عن الجواب ثم إذا ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم بالتبليغ. وهذا فيه ضعف ونظر لأن الله تعالى قال في حق الأنبياء: «لا يحزنهم الفزع الأكبر»، وذكر الإمام فخر الدين الرازي وجها آخر وهو أن الرسل عليهم السلام لما علموا أن الله تعالى عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى الله تعالى وعدله فقالوا لا علم لنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعني إنك تعلم ما غاب عنا من بواطن الأمور ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن. وقيل معناه إنك لا يخفى عليك ما عندنا من العلوم وأن الذي سألتنا عنه ليس بخاف عليك لأنك أنت علام الغيوب ومعناه العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها ليس تخفى عليه خافية وبناء فعال بتاء التكثير ودلت الآية على جواز إطلاق العلام على الله تعالى كما يجوز إطلاق الخلاق عليه. قوله عز وجل: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ قال بعضهم: إن إذ قال الله تعالى: يا عيسى صلة لماذا أجبتم ولما كان المراد بقوله للرسل ما أجبتم توبيخ الأمم ومن تمرد منهم على الله وكان أشد الأمم احتياجا وافتقارا إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام ووجه ذلك أن جميع الأمم إنما كان طعنهم في أنبيائهم بالتكذيب لهم وطعن هؤلاء النصارى تعدي إلى جلال الله تعالى حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الزوجة والولد. ذكر الله في هذه الآية أنواع نعمه على عيسى عليه السلام التي تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في ذكر هذه الحكاية تنبيه النصارى على قبح مقالتهم وفساد اعتقادهم وتوكيد الحجة عليهم. وقيل: فائدة ذلك إسماع الأمم يوم القيامة ما خص الله عيسى عليه السلام به من الكرامة. وقيل: موضع إذا رفع بالابتداء على القطع ومعناه اذكر إذ قال الله: يا عيسى وإنما خرج قوله: إذ قال الله على لفظ الماضي دون المستقبل لأنه ورد على سبيل حكاية الحال. وقيل: تقديره إذ يقول الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك لفظه واحد والمراد به الجمع لأن الله تعالى عدد نعمه عليه في هذه الآية والمراد من ذكرها شكرها وَعَلى والِدَتِكَ يعني بنعمته على مريم عليها السلام أنه تعالى: أنبتها نباتا حسنا وطهرها واصطفاها على نساء العالمين. ثم ذكر نعمه على عيسى عليه السلام فقال تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني بجبريل عليه السلام لأن القدس هو الله تعالى وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم كإضافة بيت الله وناقة الله. وقيل: أراد بروح القدس الروح المطهرة لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية فخصّ الله عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرفة تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني تكلمهم طفلا في حال الصغر وَكَهْلًا يعني وفي حالة الكهولة من غير أن يتفاوت كلامك في هذين الوقتين وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله. قال ابن عباس: أرسل الله عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني الكتابة وهي الخط والحكمة الفهم والاطلاع على أسرار العلوم وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وعلمتك التوراة التي أنزلتها على موسى والإنجيل الذي

[سورة المائدة (5): الآيات 111 إلى 112]

أنزلته عليك وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي يعني وإذ تجعل وتصور من الطين كصورة الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها ذكر هنا فيها سورة آل عمران فيه يعني بالضمير في قوله فيها يعود إلى الهيئة بجعلها مصدرا كما يقع اسم الخلق على المخلوق وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة إنما يكون في المهيأ وذي الهيئة ويجوز أن يعود الضمير إلى الطير لأنها مؤنثة قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ. وأما الضمير المذكور في آل عمران في قوله فيه فيعود إلى الكاف يعني في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وإنما كرر قوله بإذني تأكيدا لكون ذلك الخلق واقعا بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى عليه السلام وتخليقه لأن المخلوق لا يخلق شيئا إنما خالق الأشياء كلها هو الله تعالى لا خالق لها سواه وإنما كان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى عليه السلام أكرمه الله تعالى بها وكذا قوله تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي يعني وتشفي الأكمه وهو الأعمى المطموس البصر والأبرص معروف ظاهر وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى يعني من قبورهم أحياء بِإِذْنِي تفعل ذلك كله بدعائك والفاعل لهذه الأشياء كلها في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو المبرئ للأكمه والأبرص وهو محيي الموتى وهو على كل شيء قدير وإنما كانت هذه الأشياء معجزات لعيسى عليه السلام ووقعت بإذن الله تعالى وقدرته. وقوله تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني واذكر نعمتي عليك إذ كففت وصرفت عنك اليهود ومنعتك منهم حين أرادوا قتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي ذكرت في هذه الآية وذلك أن عيسى عليه السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة قصد اليهود قتله فخلصه الله منهم ورفعه إلى السماء فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ يعني فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود ولم يؤمنوا بهذه المعجزات إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني ما جاءهم به عيسى عليه السلام من المعجزات. [سورة المائدة (5): الآيات 111 الى 112] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قوله عز وجل: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يعني ألهمتهم وقذفت في قلوبهم فهو وحي إلهام كما أوحى إلى أم موسى وإلى النحل والحواريون هم أصحاب عيسى وخواصه أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي يعني عيسى عليه السلام قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ لما وفقهم الله للإيمان، قالوا: آمنا. وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام، لأن الإيمان من أعمال القلوب والإسلام هو الانقياد والخضوع في الظاهر والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال المفسرون: هذا على المجاز ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى لكنه كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام وإنما قصد بقوله هل تستطيع هل يسهل عليك وهل يخف أن تقوم معي فكذلك. معنى الآية: لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل ومعترفين بكمال قدرته وإنما قالوا ذلك ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي. ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا وقال بعضهم هو على ظاهره. وقال: غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم وكانوا بشرا فقالوا هذه المقالة فرد الله عليهم عند غلطهم بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني اتقوا الله إن كنتم مؤمنين يعني اتقوا الله أن تشكوا في قدرة الله عز وجل والقول الأول أصح وقيل في معنى الآية: هل يقبل ربك دعاءك ويعطيك بإجابة

[سورة المائدة (5): الآيات 113 إلى 115]

دعائك وسؤالك إنزال المائدة، فقد ورد في الآثار: من أطاع الله أطاعه كل شيء أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة الخوان الذي عليه الطعام ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليه طعام إنما يقال خوان أو طبق وأصلها من ماد يميد إذا تحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام قالَ يعني عيسى مجيبا للحواريين اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني اتقوا الله في هذا السؤال إن كنتم مؤمنين لأنه سؤال تعنت وقيل: أمرهم بالتقوى ليحصل لهم هذا السؤال ومعنى إن كنتم مؤمنين مصدقين فلا تشكوا في قدرة الله تعالى وقيل معناه اتقوا الله أن تسألوا شيئا لم يسأله أحد من الأمم قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآية بعد الإيمان. [سورة المائدة (5): الآيات 113 الى 115] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها يعني: قال الحواريون مجيبين لعيسى عليه السلام إنما نطلب نزول المائدة علينا لأن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا. وقيل: معناه نريد أن نأكل منها للتبرك بها لا أكل حاجة وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا يعني وتسكن قلوبنا ونستيقن قدرة الله تعالى لأنا، وإن علمنا قدرة الله بالدليل، فإذا شاهدنا نزول المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا يعني: ونزداد إيمانا ويقينا بأنك رسول الله وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني لله بالوحدانية ولك بالرسالة والنبوة. وقيل: معناه ونكون لك عليها من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم، فلما قالوا ذلك، أمرهم عيسى أن يصوموا ثلاثين يوما وقال لهم: إنكم إذا صمتم ذلك وأفطرتم فلا تسألون الله شيئا إلا أعطاكم، ففعلوا ذلك وسألوا نزول المائدة فعند ذلك قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ قيل: إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال اللهم رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا يعني عائدة من الله علينا وحجة وبرهانا والعيد يوم السرور وأصله من عاد يعود إذا رجع والمعنى نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا لعظمه ونصلي فيه نحن ومن يجيء من بعدنا فنزلت في يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا. وقال ابن عباس: معناه يأكل منها أول الناس كما يأكل آخرهم وَآيَةً مِنْكَ أي وتكون المائدة دلالة على قدرتك دلالة على قدرتك ووحدانيتك وحجة بصدق رسولك وَارْزُقْنا أي ارزقنا ذلك من عندك وقيل: ارزقنا الشكر على هذه النعمة وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعني وأنت خير من تفضل ورزق قالَ اللَّهُ عز وجل مجيبا لعيسى إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ يعني المائدة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ يعني بعد نزول المائدة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً يعني جنسا من العذاب لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني من عالمي زمانهم فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير. قال الزجاج: ويجوز أن يكون هذا العذاب معجلا في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة. قال عبد الله بن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. واختلف العلماء في نزول المائدة فقال الحسن ومجاهد: لم تنزل المائدة لأن الله لما أوعدهم على كفرهم بالعذاب بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا: لا نريدها فلم تنزل عليهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إن سألتم نزولها والصحيح الذي عليه جمهور العلماء والمفسرين أنها نزلت لأن الله تعالى قال: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وهذا وعد من الله بإنزالها ولا خلف في خبره ووعده ولما روي عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير

أخرجه الترمذي. وقال قد روي عن عمار من غير طريق موقوفا وهو أصح. وقال ابن عباس: إن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا الله ما شئتم يعطيكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا عملا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وقال سليمان الفارسي: لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى صوفا وبكى وقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضّة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شيء لم ينظروا مثله ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السلام ليقم أحسنكم عملا فليكشف عنها ويسمّ الله. فقال شمعون الصفار رأس الحواريين: أنت أولى بذلك منا. فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين، فإذا هو بسمكة مشوية ليس فيها شوك ولا عليها فلوس تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء اخترعه الله بقدرته العالية. كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله. فقالوا: يا روح الله كن أول من يأكل منها فقال عيسى: معاذ الله أن آكل منها يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال: كلوا من رزق الله لكم الشفاء ولغيركم البلاء، فأكلوا منها وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى وصدروا عنها وهم شباع، وإذا السمكة بحالها حين أنزلت ثم طارت المائدة صعودا وهم ينظرون إليها حتى توارت ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى. وندم من لم يأكل منها. وقيل: مكثت أربعين صباحا تنزل ضحى فإذا نزلت اجتمع إليها الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء يأكلون منها ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى يفيء الفيء، فإذا فاء الفيء، طارت وهم ينظرون إليها حتى تتوارى عنهم وكانت تنزل غبا يوما ويوما لا تنزل فأوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا: ترون المائدة حقا تنزل من السماء، فأوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه السلام عند ذلك «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرق يأكلون العذرة من الكناسات والحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعموا إلى عيسى عليه السلام وبكوا ولما أبصرت الخنزير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى عليه السلام يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وقال كعب: أنزلت المائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل شيء إلا اللحم وقال ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم. وقال الكلبي: كان عليها خبز بر وبقل. وقال وهب بن منبه: أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا فكان القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل. وقال الكلبي ومقاتل: أنزل الله سمكا وخمسة أرغفة فأكلوا منها ما شاء الله والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك من لم يشهد منهم وقالوا ويحكم إنما سحر أعينكم فمن أراد الله به خيرا ثبته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير وليس فيهم

[سورة المائدة (5): آية 116]

صبي ولا امرأة فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ. [سورة المائدة (5): آية 116] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) قوله عز وجل: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية اختلف المفسرون في وقت هذا القول فقال السدي: قال الله لعيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف إذ يكون للماضي وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وذلك يوم القيامة وبدليل قوله هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وذلك يوم القيامة وأجيب عن حرف إذ بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا يعني إذ فزعوا وقال الراجز ثم جزاك الله عني إذا جزى. جنات عدن في السموات العلى ولفظ الآية في قوله: أأنت قلت للناس لفظ استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه السلام من النصارى، لأن عيسى عليه السلام لم يقل هذه المقالة، فإن قلت إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علم الله بأنه لم يقله؟ قلت: وجه هذا السؤال تثبيت الحجة على قومه وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا؟ وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل فنفى عن نفسه هذه المقالة. وقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصارى فإن قلت إن النصارى لم يقولوا بإلهية مريم، فكيف قال: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قلت إن النصارى لما ادعت في عيسى أنه إله ورأوا أن مريم ولدته لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه السلام قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب وهو قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وقال مجيبا لله تعالى سبحانك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل ولست أستحق العبادة حتى ادعو الناس إليها ولما بيّن أنه ليس له أن يقول هذه المقالة وهذا المقام مقام التواضع والخشوع لعظمة الله تعالى شرع في بيان هل وقع ذلك منه أم لا؟ فقال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أسند العلم إلى الله تعالى وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة الله تعالى وتفويض الأمر إلى علمه ثم قال تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يعني تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقال ابن عباس تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل معناه تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل معناه تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة وقيل معناه تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد. وقال الزجاج: النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقال تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك. وقيل: معناه تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وإنما ذكر هذا الكلام على طريقة المشاكلة والمطابقة وهو من فصيح الكلام ثم قال: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعني أنك تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما تقدم من قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك.

[سورة المائدة (5): الآيات 117 إلى 118]

[سورة المائدة (5): الآيات 117 الى 118] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قوله تعالى إخبارا عن عيسى ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ يعني ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني قلت لهم اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني وحده ولا تشركوا به شيئا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ يعني وكنت أشهد ما يفعلون وأحصره ما دمت مقيما فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعني فلما رفعتني إلى السماء فالمراد به وفاة الرفع لا الموت كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ يعني الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم والرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني أنت شهدت مقالتي التي قلتها لهم وأنت الشهيد عليهم بعد ما رفعتني إليك لا تخفى عليك خافية فعلى هذا الشهيد هنا بمعنى الشاهد لما كان وما يكون أن يجوز أن يكون الشهيد هنا بمعنى العليم يعني أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن علمك شيء. قوله عز وجل إخبارا عن عيسى عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ يعني إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بأن تميتهم على كفرهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لا يقدرون على دفع ضر نزل بهم ولا جلب نفع لأنفسهم وأنت العادل فيهم لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يعني لمن تاب من كفره منهم بأن تهديه إلى الإيمان فإن ذلك بفضلك ورحمتك فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ يعني في الانتقام ممن تريد الانتقام منه لا يمتنع عليك ما تريده الْحَكِيمُ في أفعالك كلها وهذا التفسير إنما يصح على قول السدي لأنه قال كان سؤال الله عز وجل لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء قبل يوم القيامة. أما على قول جمهور المفسرين إن هذا السؤال إنما يقع يوم القيامة ففي قوله وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشكال وهو أنه يليق بعيسى عليه السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك والجواب عن هذا الإشكال من وجوه أحدها أنه ليس هذا على طريق طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال فإنك أنت الغفور الرحيم ولكنه على تسليم الأمر إلى الله وتفويضه إلى مراده فيهم لأنه العزيز في ملكه الحكيم في فعله ويجوز في حكمته وسعة مغفرته ورحمته أن يغفر للكفار، لكنه تعالى أخبر أنه لا يفعل ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الوجه الثاني: قيل معناه أن تعذبهم يعني إقامتهم على كفرهم إلى الموت وإن تغفر لهم يعني لمن آمن منهم وتاب ورجع عن كفره، الوجه الثالث: قال ابن الأنباري: لما قال الله لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. لم يقع لعيسى إلا أن النصارى حكت عنه الكذب لأنه لم يقل ذلك وقول الكذب ذنب فيجوز أن يسأل له المغفرة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الآية وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي فبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية والآية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أخرجه النسائي قوله عز وجل: [سورة المائدة (5): الآيات 119 الى 120] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ اتفق جمهور العلماء على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة

والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة لأنه يوم الإثابة والجزاء وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة والمراد بالصادقين النبيون والمؤمنون لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة. قال قتادة: متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام لأنه يقوم فيقول ما قص الله عنه ما قلت لهم إلا ما أمرتني به الآية فكان صادقا في الدنيا والآخرة فينفعه صدقه. وأما المتكلم الآخر فإبليس فإنه يقوم فيقول وقال الشيطان لما قضى الأمر الآية فصدق عدو الله فيما قال ولم ينفعه صدقه. وقال عطاء هو يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع إنما يكون في الدنيا وهذا القول موافق لمذهب السدي حيث يقول إن هذه المخاطبة جرت مع عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء، والوجه ما ذهب إليه الجمهور ثم ذكر الله تعالى ما لهم من الثواب على صدقهم فقال تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فهذا إشارة إلى ما يحصل من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يعني بطاعتهم لهم وَرَضُوا عَنْهُ يعني بما أعطاهم من ثوابه وجزيل كرامته ذلِكَ إشارة إلى ما ذكره من ثوابهم الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني أنهم فازوا بالجنة وبرضوانه عنهم ونجوا من النار لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ عظم الله عز وجل نفسه عما قال فيه النصارى يعني، أن الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يستحق الإلهية لا ما قالت النصارى من إلهة المسيح وأمه لأنهما جملة من في السموات والأرض فهما عبيده وفي ملكه. وقيل: هو جواب السؤال مضمر في الكلام كأنه لما وعد الصادقين بالثواب العظيم قيل من يعطيهم ذلك قال الذي له ملك السموات والأرض ومن فيهن وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الأنعام

سورة الأنعام (فصل في ذكر نزولها) روى مجاهد عن ابن عباس أن سورة الأنعام مما نزل بمكة وهذا قول الحسن وقتادة وجابر بن زيد. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكية نزلت جملة واحدة نزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنيات وهي قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثلاث آيات وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إلى آخر الآيتين وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين وهما قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ الآية وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الآية وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ الآية ولما نزلت سورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد قال النبي صلى الله عليه وسلم «سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخرّ ساجدا» قال البغوي وروي عنه مرفوعا من قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره وذكره بغير سند والله سبحانه وتعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قال كعب الأحبار: هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية وفي رواية عنه أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود قال ابن عباس: افتتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمه بالحمد فقال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي قوله: الحمد لله، تعليم لعباده كيف يحمدونه أي: قولوا الحمد لله. وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ من البيان من حيث إنه جمع الأمرين ولو قيل احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله الحمد لله أبلغ وقد تقدم معنى الحمد في تفسير سورة فاتحة الكتاب بما فيه مقنع الذي خلق السموات والأرض أي احمدوا الله خلق السموات والأرض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد لأن السماء بغير عمد ترونها وفيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلق وفيها أيضا العبر والمنافع وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ الجعل هنا بمعنى الخلق أي وخلق الظلمات والنور. قال السدي: يريد بالظلمات، ظلمات الليل والنهار، وبالنور، نور النهار. وقال الحسن: يعني بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان. وقيل: يعني بالظلمات

[سورة الأنعام (6): الآيات 2 إلى 3]

الجهل وبالنور العلم. وقيل: الجنة والنار. وقال قتادة: خلق الله السموات قبل الأرض وخلق الظلمات قبل النور وخلق الجنة قبل النار. روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه ضل» ذكره البغوي بغير سند ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني والذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يشركون وأصل العدل، مساواة الشيء بالشيء. والمعنى: أنهم يعدلون بالله غير الله ويجعلون له عديلا من خلقه فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السموات والأرض. وقال النضر بن شميل: الباء في قوله بربهم بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون وينحرفون من العدول عن الشيء وقيل دخول ثم في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون دليل على معنى لطيف وهو أنه تعالى دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجيب المؤمنين من ذلك ومثال ذلك: أن تقول لرجل أكرمتك وأحسنت إليك وأنت تنكرني وتجحد إحساني إليك فتقول ذلك منكرا عليه ومتعجبا من فعله قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 2 الى 3] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني أنه تعالى خلق آدم من طين وإنما خاطب ذريته بذلك لأنه أصلهم وهم من نسله وذلك لما أنكر المشركون البعث وقالوا من يحيي العظام وهي رميم أعلمهم بهذه الآية أنه خلقهم من طين وهو القادر على إعادة خلقهم وبعثهم بعد الموت. قال السدي: لما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بقبضة منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فراجع ولم يأخذ منها شيئا فقال: يا رب عاذت بك فبعث الله ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث الله ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره وأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذا اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم ثم قال الله لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب» أخرجه أبو داود والترمذي وأما قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فاختلف العلماء في معنى ذلك فقال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول، من وقت الولادة إلى وقت الموت. والأجل الثاني: من وقت الموت إلى البعث، وهو البرزخ. ويروى نحو ذلك عن ابن عباس قال: لكل أحد أجلان: أجل إلى الموت، وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان الرجل برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأجل الأول أجل الدنيا، والأجل الثاني أجل الآخرة. وقيل: الأجل هو الوقت المقدر فأجل كل إنسان مقدر معلوم عند الله لا يزيد ولا ينقص. والأجل الثاني: هو أجل القيامة وهو أيضا معلوم مقدر عند الله لا يعلمه إلا الله تعالى وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه ثم قضى أجلا يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند الانتباه وأجل مسمى عنده هو أجل الموت وقيل هما واحد ومعناه ثم قضى أجلا يعني قدّر مدة لأعماركم تنتهون إليها وهو أجل مسمى عنده يعني أن ذلك الأجل عنده لا يعلمه إلا هو والمراد بقوله عنده يعني في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يعني ثم أنتم تشكون في البعث.

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 إلى 7]

قوله عز وجل: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يعني وهو إله السموات وإله الأرض. وقيل: معناه وهو المعبود في السموات وفي الأرض. وقال محمد بن جرير الطبري: معناه وهو الله في السموات يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ في الأرض. وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وقيل: معناه وهو المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض لا شريك له فيهما. والمراد بالسر، ما يخفيه الإنسان في ضميره فهو من أعمال القلوب وبالجهر ما يظهره الإنسان فهو من أعمال الجوارح والمعنى: أن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ يعني من خير أو شر، بقي في الآية سؤال وهو أن الكسب إما أن يكون من أعمال القلوب وهو المسمى بالسر أو من أعمال الجوارح وهو المسمى بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء على نفسه وذلك غير جائز فما معنى ذلك وأجيب عنه بأنه يجب حمل قوله ويعلم ما تكسبون على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب والحاصل فيه أنه محمول على المكتسب فهو كما يقال: هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه ذكره الإمام فخر الدين. [سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 7] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَما تَأْتِيهِمْ يعني أهل مكة مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ يعني من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك وقيل المراد بالآيات آيات القرآن إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إلا كانوا لها تاركين وبها مكذبين فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني بآيات القرآن وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أتى به من المعجزات لَمَّا جاءَهُمْ يعني لما جاءهم الحق من عند ربهم كذبوا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني فسوف يأتيهم أخبار استهزائهم إذا عذبوا في الآخرة. قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا الخطاب لكفار مكة يعني ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن الأمة من الناس وأهل كل زمان قرن سموا بذلك لاقترانهم في الوجود في ذلك الزمان وقيل سمي قرنا لأنه زمان بزمان وأمة بأمة واختلفوا في مقدار القرن، فقيل: ثمانون سنة. وقيل: ستون سنة. وقيل: أربعون سنة. وقيل: مائة وعشرون، وقيل: مائة سنة. وهو الأصح لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني: إنك تعيش قرنا فعاش مائة سنة. فعلى هذا القول: المراد بالقرن أهله الذين وجدوا فيه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يعني أصحابي وتابعيهم وتابعي التابعين مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يعني أعطيناهم ما لم نعطكم يا أهل مكة وقيل أمددناهم في العمر والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق مثل إعطاء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً مفعال من الدر يعني وأرسلنا المطر متتابعا في أوقات الحاجة إليه والمراد بالسماء المطر سمي بذلك لنزوله منها وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ يعني: وفجرنا لهم العيون تجري من تحتهم والمراد منه كثرة البساتين فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني بسبب ذنوبهم وكفرهم وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يعني وخلفنا من بعد هلاك أولئك أهل قرن آخرين وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة

[سورة الأنعام (6): الآيات 8 إلى 11]

الرزق وكثرة الأتباع أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددا وعددا وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة. قوله عز وجل: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وإنك رسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ يعني من عندي يعني مكتوبا في قرطاس وهو الكاغد والصحيفة التي يكتب فيها فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يعني فعاينوه ومسوه بأيديهم وإنما ذكر اللمس، ولم يذكر المعاينة، لأنه أبلغ في إيقاع العلم بالشيء من الرؤية، لأن المرئيات قد يدخلها التخيلات كالبحر ونحوه بخلاف الملموس لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني لو أنزلنا عليهم كتابا كما سألوه لما آمنوا به ولقالوا هذا سحر مبين كما قالوا في انشقاق القمر وأنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي بهم. [سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 11] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) وَقالُوا يعني مشركي مكة لَوْلا يعني هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد مَلَكٌ يعني نراه عيانا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني لفرغ الأمر ولوجب العذاب وهذه سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ يعني أنهم لا يمهلون ولا يؤخرون طرفة عين بل يعجل لهم العذاب وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة رجل وذلك أن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر لصعق عند رؤيته ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الأنس كما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين وكذلك أتى الملائكة إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها صعق لذلك وغشي عليه. وقوله تعالى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقال لبست الأمر على القوم إذا أشبهته عليهم وجعلته مشكلا ولبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته ومعنى الآية وخالطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي وقيل في معنى الآية إنا لو جعلنا الملك في صورة البشر لظنوه بشرا فتعود المسألة بحالها أنا لا نرضى برسالة البشر ولو فعل الله عز وجل ذلك صار فعل الله مثل فعلهم في التلبيس وإنما كان تلبيسا لأنهم يظنون أنه ملك وليس بملك أو يظنون أنه بشر وليس هو بشرا وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلا للحقهم من اللبس مثل ما لحق بضعفائهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء. قوله عز وجل: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني كما استهزئ بك يا محمد وفي هذه الآية تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما كان من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به إذ جعل له أسوة في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله فَحاقَ أي فنزل وقيل: أحاط، وقيل: حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمعنى: فنزل العذاب بهم ووجب عليهم من النقمة والعذاب جزاء استهزائهم أو في هذه الآية تحذير للمشركين أن يفعلوا

[سورة الأنعام (6): الآيات 12 إلى 13]

بنبيهم كما فعل من كان قبلهم بأنبيائهم فينزل بهم مثل ما نزل بهم قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سيروا في الأرض معتبرين ومتفكرين وقيل هو سير الأقدام ثُمَّ انْظُرُوا فعلى القول الأول يكون النظر نظرة فكرة وعبرة وهو بالبصيرة بالبصر وعلى القول الثاني يكون المراد بالنظر نظر العين والمعنى ثم انظروا بأعينكم إلى آثار الأمم الخالية والقرون الماضية السالفة وهو قوله تعالى: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يعني كيف كان جزاء المكذبين وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية. [سورة الأنعام (6): الآيات 12 الى 13] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قوله عز وجل: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ هذا سؤال وجواب المعنى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين العادلين بربهم لمن ملك ما في السموات والأرض فإن أجابوك وإلا فأخبرهم أن ذلك لله الذي قهر كل شيء وملك كل شيء واستعبد كل شيء لا للأصنام التي تعبدونها أنتم فإنها موات لا تملك شيئا ولا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا وإنما أمره بالجواب عقب السؤال ليكون أبلغ في التأكيد وآكد في الحجة ولما بين الله تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم فقال تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يعني أنه تعالى أوجب وقضى على نفسه الرحمة وهذا استعطاف منه للمتولين عنه الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بعباده وأنه لا يعجل بالعقوبة بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» وفي البخاري: «أن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش» وفي رواية لهما أن الله لما خلق الخلق، وعند مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه فهو موضوع عنده، زاد البخاري على العرش ثم اتفقا «إن رحمتي تغلب غضبي» (ق) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» زاد البخاري في رواية له ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من العذاب. ولمسلم إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (م) عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» (ق) عن عمر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله وهي تقدر أن تطرحه فقال صلى الله عليه وسلم الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها. وقوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام في قوله ليجمعنكم لام القسم تقديره والله ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني في يوم القيامة وقيل معناه في قبوركم إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه آت الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالشرك بالله أو غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط الله وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئا وأصل الخسار الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني لما سبق عليهم القضاء

[سورة الأنعام (6): الآيات 14 إلى 17]

بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع عن الإيمان. قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني وله ما استقر وقيل ما سكن وما تحرك فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر وقيل إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر وقال ابن جرير كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار فيكون المراد منه جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر وهذا يفيد الحصر والمعنى أن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وأصواتهم الْعَلِيمُ بسرائرهم وأحوالهم. [سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 17] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) قوله عز وجل: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا قال مقاتل لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه أنزل الله هذه الآية فقال قل لهم يا محمد أغير الله اتخذ وليا يعني ربا ومعبودا وناصرا ومعينا وهو استفهام ومعناه الإنكار أي لا أتخذ غير الله وليا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالق السموات والأرض ومبدعهما ومبدئهما وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ يعني وهو يرزق ولا يرزق وصف الله عز وجل نفسه بالغني عن الخلق وباحتياج الخلق إليه لأن من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه وهو لا يطعم لاستغنائه سبحانه وتعالى عن الإطعام فهو غني عن الخلق ومن كان كذلك وجب أن يتخذ ربا وناصرا ووليا ومعبودا قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ يعني من هذه الأمة والإسلام بمعنى الاستسلام يعني أمرت أن استسلم لأمر الله وأنقاد إلى طاعته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني وقيل لي يا محمد لا تكونن من المشركين قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى عبادة غيري إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم ونهاني عن عبادة شيء سواه وإني أخاف إن عصيت ربي فعبدت شيئا سواه عذاب يوم عظيم وهو عذاب يوم القيامة مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يعني العذاب يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة فَقَدْ رَحِمَهُ يعني بأن أنجاه من العذاب ومن أنجاه من العذاب فقد رحمه وأناله الثواب لا محالة وإنما ذكر الرحمة من صرف العذاب لئلا يتوهم أنه صرف العذاب فقط بل تحصل الرحمة من صرف العذاب عنه وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ يعني أن صرف العذاب وحصول الرحمة هو النجاة والفلاح المبين. قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يعني بشدة وبلية والضر اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ يعني فلا يدفع ذلك الضر إلا الله عز وجل: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يعني بعافية ونعمة والخير اسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من دفع الضر وجلب الخير. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: لا تتخذ وليا سوى الله لأنه هو القادر على أن يمسك بضر وهو القادر على دفعه عنك وهو القادر على إيصال الخير إليك وأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فاتخذه وليا وناصرا ومعينا. وهذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام لكل أحد والمعنى وإن يمسسك الله بضر أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من دفع الضر وإيصال الخير.

[سورة الأنعام (6): الآيات 18 إلى 20]

عن ابن عباس قال: «كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقيل لي يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» أخرجه الترمذي زاد فيه رزين تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وفيه «وإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين» قال ابن الأثير وقد جاء نحو هذا أو مثله بطوله في مسند أحمد بن حنبل. [سورة الأنعام (6): الآيات 18 الى 20] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) قوله عز وجل: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني وهو الغالب لعباده القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته والقاهر والقهار معناه الذي يدبر خلقه بما يريد فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه فلا يستطيع أحد من خلقه رد تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى لأنه القادر والقاهر الذي لا يعجزه شيء أراده ومعنى فوق عباده هنا أن قهره قد استعلى على خلقه فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه ولا ينفك عنه فكل من قهر شيئا فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة. وقال ابن جرير الطبري: معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه فمعنى الكلام إذا والله الغالب عباده المذلل لهم العالي عليهم بتذليله إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه. وقيل: فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل: وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في أمره وتدبير عباده الْخَبِيرُ يعني بأعمالهم وما يصلحهم. قوله عز وجل: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر فأنزل الله عز وجل قل يعني يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك من قومك أي شيء أكبر شهادة يعني أعظم شهادة فإن هم أجابوك وإلا قُلْ أنت يا محمد اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال مجاهد أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل قريشا أي شيء أكبر شهادة ثم أمره أن يخبرهم فيقول الله شهيد بيني وبينكم يعني يشهد لي بالحق وعليكم بالباطل الذي تقولونه والحاصل أنهم طلبوا شاهدا مقبول القول يشهد له بالنبوة فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ثم بيّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني أن الله عز وجل يشهد لي بالنبوة لأنه أوحى إليّ هذا القرآن وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته فكان معجزا وإذا كان معجزا كان نزوله على شهادة من الله بأني رسوله وهو المراد بقوله لأنذركم به يعني أوحي إلى هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل: وَمَنْ بَلَغَ يعني وأنذر من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي صلى الله عليه وسلم نذير له قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما

رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل (خ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». ((شرح ما يتعلق بهذا الحديث)) فيه الأمر بإبلاغ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلى من بعده من قرآن وسنة وقوله وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج الحرج الضيق والإثم ومعنى الحديث أنه مهما قلتم عن بني إسرائيل فإنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع وليس هذا فيه إباحة الكذب والإخبار عن بني إسرائيل لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على بعض البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل لأنه أمر قد تعذر لبعد المسافة وطول المدة عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله أمرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع» أخرجه الترمذي وله عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» عن ابن عباس قال «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم» أخرجه أبو داود موقوفا. وقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها وإنما قال أخرى لأن الجمع يلحقه التأنيث كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ولم يقل الأول ولا الأولين قُلْ لا أَشْهَدُ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أشهد بما تشهدون به أن مع الله آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعني قل لهم إنما الله إله واحد ومعبود واحد لا شريك له وبذلك أشهد وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني وأنا بريء من كل شيء تعبدونه سوى الله وفي هذه الآية دليل على إثبات التوحيد لله عز وجل وإبطال كل معبود سواه لأن كلمة إنما تفيد الحصر ولفظة الواحد صريح في التوحيد ونفي الشريك فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك والتبرؤ من كل معبود سوى الله تعالى قال العلماء يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لقوله تعالى: وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. قوله عز وجل: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ المراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كفّار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر وأنكروا معرفته بين الله عز وجل أن شهادته له كافية على صحة نبوته وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه وأنهم كذبوا في قولهم إنهم لا يعرفونه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر بن الخطاب: إن الله عز وجل أنزل على نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني فقال عمر وكيف ذاك؟ قال أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ولا أدري ما يصنع النساء. وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني: أهلكوا أنفسهم وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الذين خسروا أنفسهم قولان: أحدهما: أنه صفة الذين الأولى ويكون المقصود من ذلك وعيد

[سورة الأنعام (6): الآيات 21 إلى 24]

المعاندين الذين يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم ويجحدون نبوته وهم كفار أهل الكتابين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني به. والقول الثاني: إنه كلام مبتدأ ولا تعلق له بالأول وهم كفار مكة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكروا في معنى الخسار وجهين: أحدهما: أنه الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب كفرهم وإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والوجه الثاني: أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار فذلك هو الخسران. [سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني ومن أشد عنادا وأخطأ فعلا وأعظم كفرا ممن اختلق على الله كذبا فزعم أن له شريكا من خلقه وإلها يعبد من دونه كما قال المشركون من عبدة الأصنام، أو ادعى أن له صاحبة وولدا كما قلت النصارى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني كذب بحجته وأعلام أدلته التي أعطاها رسله كما كذبت اليهود بمعجزات الأنبياء وقيل معناه أو كذب بآيات القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني أنه لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون على الله الباطل وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي اذكر يوم نحشر العابدين والمعبودين وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني أنها تشفع لكم عند ربكم. قوله عز وجل: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني قولهم وجوابهم وقال ابن عباس معذرتهم والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة قال الزجاج في قوله ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب ثم تصيبه فيه محنة فيبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ثم لما رأوا العذاب تبرؤوا منها. يقول الله تبارك وتعالى ثم لم تكن فتنتهم ومحبتهم للأصنام إلا أن تبرؤوا منها وهو قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى لأهل التوحيد فيقول بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني انظر يا محمد بعين البصيرة والتأمل إلى حال هؤلاء المشركين كيف كذبوا على أنفسهم يعني اعتذارهم بالباطل وتبرؤهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم وهو قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني زال عنهم وذهب ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني ما كانوا يكذبون وهو قولهم إن الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم. [سورة الأنعام (6): الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الآية. قال الكلبي: اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر

[سورة الأنعام (6): الآيات 27 إلى 30]

يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقا. فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وفي رواية للموت أهون علينا من هذا فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني إلى كلامك وقراءتك يا محمد وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً يعني أغطية جمع كنان أَنْ يَفْقَهُوهُ يعني لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يعني وجعلنا في آذانهم صمما وثقلا وفي هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى والإيمان فتقبله ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن به: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها يعني: كل معجزة من المعجزات الدالة على صدقك لا يؤمنوا بها يعني لا يصدقوا بها ولا يقروا أنها دالة على صدقك حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يعني أنهم إذا رأوا الآيات واستمعوا القرآن إنما جاءوا ليجادلوك ويخاصموك لا ليؤمنوا بها يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني أحاديث الأولين من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم. وما سطروا: يعني وما كتبوا والأساطير جمع أسطورة وأسطارة. وقيل: واحدها سطر وأسطار جمع وأساطير جمع الجمع فعلى هذا لو قال قائل: لم عابوا القرآن وجعلوه أساطير الأولين وقد سطر الأولون في كتبهم الحكم والعلوم النافعة وما لا يعاب قائله؟ أجيب عنه: بأنهم إنما نسبوا القرآن إلى أساطير الأولين بمعنى أنه ليس بوحي من الله تعالى وإنما هو أخبار مجردة كما تروى أخبار الأولين. وقيل في معنى أساطير الأولين: إنها الترهات وهي عند العرب طرق غامضة ومسالك وعرة مشكلة. يقول قائلهم: أخذنا في الترهات، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل الذي لا يعرض فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها. قوله عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يعني ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني ويتباعدون عنه بأنفسهمه نزلت في كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن الاجتماع به وينهون عن استماع القرآن وكانوا هم كذلك. وقال ابن عباس: نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى المشركين عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعه منهم وينأى هو بنفسه عن الإيمان به بمعنى يبعد حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا له خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمد. فقال: ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني محمدا لتقتلوه وأربي لكم ابنكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طالب إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال في ذلك أبياتا: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا وقوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني لا يرجع وبال كفرهم وفعلهم إلا عليهم وَما يَشْعُرُونَ يعني بذلك. [سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

[سورة الأنعام (6): الآيات 31 إلى 33]

قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يعني في النار فوضع على موضع في: كقوله «على ملك سليمان» أي في ملك سليمان وقيل معناه إذ عرضوا على النار وجواب لو محذوف. والمعنى: ولو ترى الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك يا محمد في تلك الحالة لرأيت أمرا عجيبا وموقفا فظيعا فَقالُوا يعني الكفار يا لَيْتَنا نُرَدُّ يعني إلى الدنيا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى حتى يؤمنوا ولا يكذبوا بآيات ربهم فرد الله عليهم ذلك فقال تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يعني ليس الأمر كما قالوا لو ردوا إلى الدنيا لأمنوا بل ظهر لهم ما كانوا يسرون في الدنيا من الكفر والمعاصي. وقيل: ظهر لهم ما كانوا يخفون من قولهم والله ربنا ما كنا مشركين أخفوا شركهم وكتموه فأظهره الله عليهم حين شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا من شركهم وقيل ظهر لهم ما أخفوا من الكفر فعلى هذا تكون الآية في المنافقين وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا خبر عن حال منكري البعث وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر الكفار عن أحوال القيامة وأهوالها وما أعد الله في الآخرة من الثواب للمؤمنين المطيعين وما أعد الله من العقاب للكفار والعاصين قالوا، يعني الكفار، إن هي أي ما هي إلا حياتنا الدنيا، أي، ليس لنا غير هذه الدنيا التي نحن فيها وما نحن بمبعوثين يعني بعد الموت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا خبر من الله عن هؤلاء الكفار الذي وقفوا على النار أنهم لو ردوا إلى الدنيا لقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. قوله عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ يعني على حكم ربهم وقضائه ومسألته وقال مقاتل عرضوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي يقول الله يوم القيامة أليس هذا البعث والنشر بعد الموت الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به وتقولون لا بعث ولا نشور حقا قالُوا بَلى وَرَبِّنا يعني أنهم اعترفوا بما كانوا ينكرونه فأجابوا وقالوا بلى والله إنه لحق. وقيل: تقول لهم خزنة النار بأمر الله أليس هذا بالحق يعني البعث حقا فأجابوا بقولهم بلى وربنا قال ابن عباس: للقيامة مواقف ففي موقف ينكرون ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين وفي موقف يعترفون بما كانوا ينكرونه في الدنيا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ أي يقول الله لهم ذلك أو الخزنة تقول لهم ذلك بأمر الله تعالى. وإنما خص لفظ الذوق، لأنهم في كل حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يعني هذا العذاب بسبب كفركم وجحودكم البعث بعد الموت. [سورة الأنعام (6): الآيات 31 الى 33] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ يعني خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بالمصير إلى الله تعالى وبالبعث بعد الموت وهذا الخسران هو فوت الثواب العظيم في دار النعيم المقيم وحصول العذاب الأليم، في دركات الجحيم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يعني جاءتهم القيامة فجأة وسميت القيامة ساعة: لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت ساعة لسرعة الحساب فيها لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة أو أقل من ذلك قالُوا يعني منكري البعث وهم كفار قريش ومن سلك

سبيلهم في الكفر والاعتقاد يا حَسْرَتَنا يعني: يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وذكرت على وجه النداء للمبالغة والمراد تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة عَلى ما فَرَّطْنا يعني قصرنا فِيها يعني في الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة والمعنى يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها في دار الدنيا. وقال محمد بن جرير الطبري: الهاء والألف في قوله فيها تعود إلى الصفقة ولكن اكتفى بدلالة قوله قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله عليها من ذكرها إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرى ومعنى الآية قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به رضوان الله وجنته بالكفر الذي يستوجبون به سخط الله وعقوبته وهم لا يشعرون بذلك حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة ورأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وروى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله يا حسرتنا، قال: يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا. وقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعني أثقالهم: عَلى ظُهُورِهِمْ والأوزار: الخطايا والذنوب. وأصل الوزر: الثقل والحمل. يقال: وزرته إذا حملته وإنما قيل للذنوب أوزار، لأنها تثقل ظهر من يحملها. قال قتادة والسدي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالما ركبتك في الدنيا فذلك قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يعني ركبانا. وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فذلك معنى قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ. وقال عمر بن هانئ: يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح كلما رأى هو صورته وقبحه زاده الله خوفا فيقول له بئس الجليس أنت فيقول أنا عملك طالما ركبتني فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الخلائق فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه تعالى فذلك قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ. وقال الزجاج: الثقل كما يذكر في الوزن فقد يذكر في الحال والصفة يقال ثقل علي كلام فلان بمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون من ألم عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل ذلك عليهم فعلى هذا القول يكون قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ مجازا عما يقاسونه من شدة العذاب. وقيل في معنى الآية: أوزارهم لا تزايلهم كما تقول شخصه نصب عيني أي ذكره ملازم لي أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ يعني بئس الشيء شيئا يحملونه. وقال ابن عباس: بئس الحمل حملوا. قوله عز وجل: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي باطل وغرور لا بقاء لها وهذا فيه رد على منكري البعث في قولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ فقال الله ردا عليهم وكذبا لهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وهل المراد بهذه الحياة حياة المؤمن أو الكافر قولان: أحدهما: إن المراد بها حياة الكافر لأن المؤمن لا يزداد بحياته في الدنيا إلا خيرا لأنه يحصل في أيام حياته من الأعمال الصالحة والطاعة ما يكون سببا لحصول السعادة في الآخرة وأما الكافر فإن كل حياته في الدنيا وبال عليه قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق. والقول الثاني: إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر لأن الإنسان يلتذ باللعب واللهو ثم عند انقضائه تحصل له الحسرة والندامة لأن الذي كان فيه من اللعب واللهو سريع الزوال لا بقاء له فبان بهذا التقرير أن المراد بهذه الحياة حياة المؤمن والكافر وأنه عام فيهما. وإنما شبه الحياة الدنيا باللعب واللهو لسرعة زوالها وقصر عمرها كالشيء الذي يلعب به.

[سورة الأنعام (6): الآيات 34 إلى 35]

وقيل: معناه إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا وقيل معناه وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لأنه لا يجدي شيئا ولاشتغالهم عما أمروا به ونسبوا إلى اللعب وقوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة واللام فيه لام القسم تقديره والله لدار الآخرة خَيْرٌ يعني من الدنيا وأفضل لأن الدنيا سريعة الزوال والانقطاع لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني الشرك. وقيل: يتقون اللعب واللهو أَفَلا تَعْقِلُونَ إن الآخرة خير من الدنيا فيعملون لها. قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ يعني قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقوله المشركون لك، قال السدي: التقى الأخنس بن شريق أبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به، فأنزل الله هذه الآية. عن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله فيهم فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أخرجه الترمذي من طريقين وقال في أحدهما وهذا أصح، ففي هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهه به قومه لأنهم كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس بكذاب وإنما حملهم على تكذيبه في الظاهر الحسد والظلم: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ يعني أنهم لا يكذبونك في السر، لأنهم قد عرفوا أنك صادق وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ يعني في العلانية وذلك أنهم جحدوا القرآن بعد معرفة الصدق الذي أنزل عليه لعنادهم وكفرهم كما قال الله تعالى في حق غيرهم، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. وقيل: ظاهر الآية يدل على أنهم لم يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وإنما جحدوا آيات الله وهي القرآن الدال على صدقه، فعلى هذا يكون المعنى: فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا آيات الله وهي القرآن الدال على صدقه فعلى هذا يكون المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا صحة نبوتك ورسالتك، قوله عز وجل: [سورة الأنعام (6): الآيات 34 الى 35] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعني ولقد كذبت الأمم الخالية رسلهم كما كذبك قومك: فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعني أن الرسل عليهم السلام صبروا على تكذيب قومهم إياهم وصبروا على أذاهم، فاصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك وأذاهم لك كما صبر من كان قبلك من الرسل وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإزالة حزنه على تكذيب قومه له وأذاهم إياه حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا يعني بإهلاك من كذبهم وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يعني ولا ناقض لما حكم الله به من إهلاك المكذبين ونصر المسلمين كما قال وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ وقال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ولا خلف فيما وعد الله به. وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ يعني ولقد أنزلت عليك في القرآن من أخبار المرسلين ما فيه تسلية لك وتسكين لقلبك. وقال الأخفش: من هنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص بعض الأنبياء وأخبارهم كما قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.

[سورة الأنعام (6): الآيات 36 إلى 38]

قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ذكر ابن الجوزي في سبب نزول هذه الآية: أن الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال: ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات فإن فعلت آمنا بك فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية: وإن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك والإيمان بك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص وكان إذا سألوه آية أحب أن يريهم الله ذلك طعما في إيمانهم فقال الله عز وجل: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ يعني تطلب وتتخذ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ يني سربا في الأرض والنفق سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ يعني: أو تتخذ مصعدا إلى السماء والسلم المصعد وهو مشتق من السلامة فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ يعني بالآية: التي سألوا عنها. ومعنى الآية وإن كان كبر وعظم عليك إعراض قومك عن الإيمان بك فإن قدرت أن تذهب في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية تدلهم على صدقك فافعل وإنما حسن حذف جواب الشرط لأنه معلوم عند السامع والمقصود من هذا أن يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعمه عن إيمانهم ولا يتأذى بسبب إعراضهم عنه وعن الإيمان به ويدل عليه قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه وأقبلوا على الكفر بمشيئة الله تعالى ونافذ قضائه فيهم وأنه لو شاء لجمعهم على الهدى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني بأن لو شاء الله لجمعهم على الهدى وأنه يؤمن بك بعضهم دون بعض وقيل معناه لا يشتد تحسرك على تكذيبهم، إياك ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلّظ له الخطاب تبعيدا له عن هذه الحالة. [سورة الأنعام (6): الآيات 36 الى 38] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) قوله عز وجل: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني المؤمنين الذين فتح الله أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويبغونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله الْمَوْتى يعني الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يعني يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فيجزيهم بأعمالهم وَقالُوا يعني رؤساء كفار قريش لَوْلا يعني هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني الملك ليشهد لمحمد بالنبوة وقيل الآية المعجزة الباهرة كمثل معجزات الأنبياء قُلْ يعني قل لهم يا محمد إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبوه وإنزال ما اقترحوه من الآيات والمعجزات الباهرات وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها وقيل معناه إنهم لا يعلمون أن الله قادر على إنزال الآيات وقيل إنهم لا يعلمون وجه المصلحة في إنزالها قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قال العلماء: جميع ما خلق الله عز وجل لا يخرج عن هاتين الحالتين إما أن يدب على الأرض، أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير، لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء. وإنما خص ما في الأرض بذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقا لأن الاحتجاج بالشاهد أظهر وأولى مما لا يشهد وإنما ذكر الجناح في قوله بجناحيه للتوكيد كقولك كتبت بيدي ونظرت بعيني إلا أمم أمثالكم. قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. يريدون أن كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم كما يقال الإنس والناس ويدل على أن كل جنس

[سورة الأنعام (6): الآيات 39 إلى 43]

من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فإن قلت ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا فما وجه هذه المماثلة. قلت: اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقيل: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبّحه وتصلي له كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلّون له. وقيل: إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عز وجل وقيل إنها يفهم بعضها عن بعض ويألف بعضها بعضا كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض. وقيل: أمثالكم في طلب الرزق وتوقي المهالك ومعرفة الذكر والأنثى. وقيل: أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب حتى يقتص للجماء من القرناء وهو قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني في اللوح المحفوظ لأنه يشمل جميع أحوال المخلوقات وقيل إن المراد بالكتاب القرآن يعني أن القرآن مشتمل على جميع الأحوال: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الدواب والطير قال ابن عباس: حشرها موتها. وقال أبو هريرة يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا (م). عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. [سورة الأنعام (6): الآيات 39 الى 43] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) قوله عز وجل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كذبوا بحجج الله وأدلته على توحيده صُمٌّ يعني عن سماع الحق وَبُكْمٌ يعني عن النطق به والمعنى أنهم في حال كفرهم وتكذيبهم كمن لا يسمع ولا يتكلم، ولهذا شبه الكفار بالموتى لأن الميت لا يسمع ولا يتكلم فِي الظُّلُماتِ يعني في ظلمات الكفر، حائرين مترددين فيها لا يهتدون سبيلا مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يعني عن الإيمان وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني ومن يشأ يجعله الله على دين الإسلام وفي هذا دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان به ومن أحب ضلالته تركه على كفره وهذا عدل منه لأنه تعالى هو الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ يعني: قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين تركوا عبادة الله عز وجل وعبدوا غيره من الأصنام أخبروني تقول العرب أرأيتك بمعنى أخبرنا بحالك وأصله أرأيتم والكاف فيه للتأكيد: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ يعني قبل الموت مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من: الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يعني القيامة أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ يعني في كشف العذاب عنكم إِنْ كُنْتُمْ

[سورة الأنعام (6): الآيات 44 إلى 45]

صادِقِينَ يعني في دعواكم. ومعنى الآية أن الكفار كانوا إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء وتركوا الأصنام فقيل لهم: أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء ولا تعبدونه ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء؟ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يعني بل تدعون الله، ولا تدعون غيره في كشف ما نزل بكم فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ يعني فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة وإن كانت الأمور كلها بمشيئة الله تعالى: وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ يعني: وتتركون دعاء الأصنام التي تعبدونها فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وقيل معناه أنكم في ترككم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها وهذا معنى قول الحسن لأنه قال وتعرضون عنها إعراض الناسي لها. قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يا محمد رسلا فخالفوهم وكفروا وحسن هذا الحذف لكونه معلوما عند السامع فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ يعني بالفقر الشديد وأصله من البؤس وهو الشدة والمكروه وقيل: البأساء، شدة الجوع وَالضَّرَّاءِ يعني الأمراض والأوجاع والزمانة لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يعني يخضعون ويتوبون والتضرع التخشع والتذلل والانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة. ومقصود الآية، أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل من قبله رسلا إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالبأساء والضراء وهي الشدة في النفس والمال فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فَلَوْلا يعني فهلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي التضرع فلم يتضرعوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ يعني ولكن غلظت قلوبهم فلم تضرع ولم تخشع بل أقاموا على كفرهم وتكذيبهم رسلهم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الكفر والتكذيب وتزيين الشيطان إغواؤه بما في المعصية من اللذة. قال ابن عباس: يريد زين الشيطان الضلالة التي كانوا عليها فأصروا على معاصي الله عز وجل. [سورة الأنعام (6): الآيات 44 الى 45] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قوله عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما وعظوا به وقيل تركوا العمل بما أمرتهم به الرسل وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأن التارك للشيء معرضا عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يعني بدلنا مكان البأساء والرخاء والسعة في الرزق والعيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام وذلك استدراج منه لهم. وقيل: فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الخير كان مغلقا عنهم حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا يعني فرحوا بما أوتوا من السعة والرخاء والصحة في الأبدان والمعيشة وظنوا أن ما كان نزل بهم من الشدة لم يكن انتقاما من الله تعالى فإنهم لما فتح الله عليهم ما فتح من الخير والسعة فرحوا به وظنوا أن ذلك باستحقاقهم وهذا فرح بطر كما فرح قارون بما أوتي من الدنيا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني جاءهم عذابنا فجأة من حيث لا يشعرون قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال أهل المعاني: إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف في ضروب اللذة، فأخذناهم في آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير، وقال الفراء المبلس اليائس المنقطع رجاؤه ولذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون له جواب قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحزن والحسرة وقال أبو عبيدة المبلس النادم والحزين والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم روى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك

[سورة الأنعام (6): الآيات 46 إلى 51]

استدراج ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ الآية» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري. وقوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم الذي يدبرهم. يقال: دبر فلان القوم، إذا كان آخرهم. والمعنى: أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الزجاج: حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم ومعنى هذا أن قطع دابرهم نعمة أنعم الله بها على الرسل الذين أرسلوا إليهم فكذبوهم فذكر الحمد تعليما للرسل ولمن آمن بهم ليحمدوا الله على كفايتهم إياهم شر الذين ظلموا وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم، إذ أهلك المشركين المكذبين. وقيل: معناه الثناء الكامل والشكر الدائم لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم وإهلاك أعدائهم واستئصالهم العذاب. [سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 51] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ يعني الذي تسمعون به فأصمكم حتى لا تسمعوا شيئا وَأَبْصارَكُمْ يعني وأخذ أبصاركم التي تبصرون بها فأعماكم حتى لا تبصروا شيئا أصلا وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ يعني لا تفقهوا شيئا أصلا ولا تعرفوا شيئا مما تعرفون من أمور الدنيا. وإنما ذكر هذه الأعضاء الثلاثة، لأنها أشرف أعضاء الإنسان فإذا تعطلت هذه الأعضاء، اختل نظام الإنسان وفسد أمره وبطلت مصالحه في الدين والدنيا. ومقصود هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن القادر على إيجاد هذه الأعضاء وأخذها هو الله تعالى المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها وهو قوله تعالى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعني يأتيكم بما أخذ الله منكم لأن الضمير في به يعود على معنى الفعل ويجوز أن يعود على السمع الذي ذكر أولا ويندرج تحته غيره انْظُرْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره أن انظر يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني كيف نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعني يعرضون عنها مكذبين لها قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً يعني فجأة أَوْ جَهْرَةً يعني معاينة ترونه عند نزوله، وقال ابن عباس ليلا أو نهارا هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ يعني المشركين لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك. قوله عز وجل: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ يعني لمن آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ يعني لمن أقام على كفره بالعقاب والمعنى ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ يعني آمن بهم وأصلح العمل لله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني حين يخاف أهل النار وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي إذا حزن غيرهم وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ يعني يصيبهم العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني بسبب ما كانوا يكفرون ويخرجون عن الطاعة. قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أقول لكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم إنما بعثت بشيرا ونذيرا ولا

[سورة الأنعام (6): آية 52]

أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي والمعنى ليس عندي خزائن رزق الله فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع علينا عيشنا ويغني فقرنا فأخبر أن ذلك بيد الله لا بيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل، وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، فأجابهم بقوله: ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء؟ فأجابهم بقوله: ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدون فلست أقول شيئا من ذلك ولا أدّعيه فتنكرون قولي وتجحدون أمري. وإنما نفى عن نفسه الشريفة هذه الأشياء تواضعا لله تعالى واعترافا له بالعبودية وأن لا يقترحوا عليه الآيات العظام إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعني ما أخبركم إلا بوحي من الله أنزله عليّ ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وما سيكون وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل فما أخبر عنه من غيب بوحي الله إليه وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من الله إليه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ يعني: المؤمن والكافر والضال والمهتدي والعالم والجاهل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ يعني أنهما لا يستويان. قوله عز وجل: وَأَنْذِرْ بِهِ يعني وخوف بالقرآن والإنذار إعلام مع تخويف الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ. قال ابن عباس: يريد المؤمنين لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال. وقيل: معنى يخافون يعلمون والمراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم وإن كان إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر. وقيل: المراد بهم الكفار لأنهم لا يعتقدون صحة ولذلك قال: يخافون أن يحشروا إلى ربهم، وقيل: المراد بالإنذار جميع الخلائق فيدخل فيه كل مؤمن معترف بالحشر وكل كافر منكر له لأنه ليس أحد إلا وهو يخاف الحشر سواء اعتقد وقوعه أو كان يشكّ فيه ولأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنذاره لجميع الخلق لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني من دون الله وَلِيٌّ أي قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٌ يعني يشفع لهم ثم إن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم الكفار فلا إشكال فيه لقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ وإن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم المؤمنون ففيه إشكال، لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمذنبين من أمته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لقوله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وإذا كانت الشفاعة بإذن الله صح قوله: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يعني حتى يأذن الله لهم في الشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني ما نهيتم عنه. [سورة الأنعام (6): آية 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال سلمان وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وهما من المؤلفة قلوبهم فوجدوا

النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع صهيب وبلال وعمار وخباب في نفر من ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله، حقّروهم فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب صوف لها رائحة ليس عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أنا بطارد المؤمنين» قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت. قال: نعم. قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا. قال: فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية إذا نزل جبريل عليه السلام بقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إلى قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الآية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه حتى كانت ركبنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال لنا «الحمد الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات». وروي عن سعد بن أبي وقاص قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هزيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أخرجه مسلم. وقال الكلبي: قالوا له، يعني أشراف قريش، اجعل لنا يوما ولهم يوما. قال: لا أفعل. قالوا: فاجعل المجلس واحدا وأقبل علينا وولّ ظهرك إليهم. فأنزل الله هذه الآية. وقال مجاهد: قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد يعني ابن مسعود لبايعناك فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن مسعود: مر ملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء بدلا من قومك هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية. وقال عكرمة: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ماذا يصيرون فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ فجاء عمر فاعتذر من مقالته. قلت بين هذه الروايات والرواية الأولى التي عن سلمان وخباب بن الأرت فرق كثير وبعد عظيم، وهو أن إسلام سلمان كان بالمدينة، وكان إسلام المؤلفة قلوبهم بعد الفتح وسورة الأنعام مكية. والصحيح ما روي عن ابن مسعود والكلبي وعكرمة في ذلك، ويعضده حديث مسعد بن أبي وقاص المخرج في صحيح مسلم من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء، يعني ضعفاء المسلمين، والله أعلم. وأما معنى الآية فقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم. يعني: ولا تطرد هؤلاء الضعفاء عنك ولا تبعدهم عن مجلسك لأجل ضعفهم وفقرهم. ثم وصفهم فقال تعالى الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر. ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس. وإنما ذكر هذين الوقتين تنبيها على شرفهما ولأنهم مواظبون عليهما مع بقية الصلوات، ولأن الصلوات تشتمل على القراءة

[سورة الأنعام (6): الآيات 53 إلى 54]

والدعاء والذكر فعبر بالدعاء عن الصلاة لهذا المعنى. قال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص فقال سعيد بن المسيب: ما أسرع الناس إلى هذا المجلس؟ فقال مجاهد: يتأولون قوله تعالى يدعون ربهم بالغداة والعشي قال أوفي هذا إنما هو في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن وقال ابن عباس إن ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناس من أشراف الناس نؤمن لك وإذا صلينا فأخّر هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا، وقيل: المراد منه حقيقة الدعاء والذكر والمعنى: أنهم كانوا يذكرون ربهم ويدعونه طرفي النهار يريدون وجهه يعني يطلبون بعبادتهم وطاعتهم وجه الله مخلصين في عبادتهم له. وقال ابن عباس: يطلبون ثواب الله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني لا تكلف أمرهم ولا يكلفون أمرك. وقيل: ما عليك حسابهم رزقهم فتملهم وتطردهم عنك ولا رزقك عليهم إنما الرازق لجميع الخلق هو الله تعالى فلا تطردهم عنك: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يعني بطردهم عنك وعن مجلسك. فقوله: فتطردهم، جواب النفي وهو قوله ما عليك من حسابهم من شيء وقوله: فتكون من الظالمين، جواب النهي وهو قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما همّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف عاتبه الله على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك يقدح في العصمة وقوله فتطردهم فتكون من الظالمين والجواب عن هذا الاحتجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همّ بطردهم، لأجل استخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه فأعلمه الله تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى من الهمّ بطردهم فقربهم منه وأدناهم. وأما قوله فتطردهم فتكون من الظالمين فإن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فيكون المعنى أن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير موضعه فهو من باب ترك الأفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات والله أعلم. [سورة الأنعام (6): الآيات 53 الى 54] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) قوله عز وجل: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني وكذلك ابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، والوضيع بالشريف فكل أحد مبتلى بضده فكان ابتلاء الأغنياء فالشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم. وأما فتنة الفقراء بالأغنياء، فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم فكان ذلك فتنة لهم لِيَقُولُوا يعني الأغنياء والشرفاء والرؤساء أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يعني منّ على الفقراء والضعفاء بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا اعتراض من الكفار على الله تعالى فأجابهم بقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعني أنه تعالى أعلم بخلقه وبأحوالهم وأعلم بالشاكرين من الكافرين. قوله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيه عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام. وقال عطاء: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم بن أبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد وقيل إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن. وقيل: لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدمت في رواية عكرمة وقال: ما

[سورة الأنعام (6): الآيات 55 إلى 57]

أردت إلا الخير، نزلت وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ يعني فرض ربكم وقضى ربكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهذا يفيد الوجوب وسبب هذا أنه تعالى يتصرف في عباده كيف يشاء وأراد فأوجب على نفسه الرحمة على سبيل الفضل والكرم لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قال مجاهد: كل من عمل ذنبا أو خطيئة فهو بها جاهل واختلفوا في سبب هذا الجهل فقيل لأنه جاهل بمقدار ما استحقه من العقاب وما فاته من الثواب. وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك السوء والفعل القبيح مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير فهو جاهل وقيل إنه لما فعل فعل الجهال نسب إلى الجهل وإن لم يكن جاهلا: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد ارتكابه ذلك السوء ورجع عنه وَأَصْلَحَ يعني أصلح العمل في المستقبل، وقيل أخلص توبته وندم على فعله فَأَنَّهُ غَفُورٌ يعني لمن تاب من ذنوبه رَحِيمٌ بعباده قال خالد بن دينار كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الآية. عن أبي سعيد الخدري قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ فسلم ثم قال ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتلحقوا وبرزت وجوههم، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة عام أخرجه أبو داود. [سورة الأنعام (6): الآيات 55 الى 57] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) وقوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك كذلك نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وَلِتَسْتَبِينَ قرأ بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يعني طريق هؤلاء المجرمين وقرأ بالياء على الغيبة ومعناه ليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا إلى النار. قوله تعالى: قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني نهيت أن أعبد الأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله وقيل تدعونها عند شدائدكم من دون الله لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى وهو قوله تعالى قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ يعني في عبادة الأصنام وطرد الفقراء قَدْ ضَلَلْتُ يعني: إِذاً عبدتها وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يعني لو عبدتها قُلْ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قال ابن عباس: يعني على يقين من ربي، وقيل: البيّنة الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل والمعنى: إني على بيان وبصيرة في عبادة ربي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يعني وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي وهو القرآن والمعجزات الباهرات والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم وكانوا يستعجلون به استهزاء وكانوا يقولون: يا محمد ائتنا بما تعدنا يعني من نزول

[سورة الأنعام (6): الآيات 58 إلى 60]

العذاب، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ما عندي ما تستعجلون به لأن إنزال العذاب لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على تقديمه ولا تأخيره. وقيل: كانوا يستعجلون بالآيات التي طلبوها واقترحوها فأعلم الله أن ذلك عنده ليس عند أحد من خلقه. وقيل: كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني الحكم الذي يفصل به بين الحق والباطل والثواب للطائع والعقاب للعاصي أي ما الحكم المطلق إلا لله ليس معه حكم فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب إذا شاء يَقُصُّ الْحَقَّ قرئ بالصاد المهملة. ومعناه: يقول الحق لأن كل ما أخبر به فهو وحق وقرئ يقض بالضاد المعجمة من القضاء يعني أنه تعالى يقضي القضاء الحق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ يعني وهو خير من بين وفصل وميز بين المحق والمبطل لأنه لا يقع في حكمه وقضائه جور ولا حيف على أحد من خلقه. [سورة الأنعام (6): الآيات 58 الى 60] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني من إنزال العذاب. والاستعجال، المطالبة بالشيء قبل وقته، فلذلك كانت العجلة مذمومة. والإسراع: تقديم الشيء في وقته، فلذلك كانت السرعة محمودة. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب لو أن عندي ما تستعجلون به لم أمهلكم ساعة ولكن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة. قوله تعالى: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يعني: لا نفصل ما بيني وبينكم ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه أعلم بما يستحقون من العذاب والوقت الذي يستحثونه فيه وقيل علم أنه سيؤمن بعض من كان يستعجل بالعذاب فلذلك أخره عنهم قال والله أعلم بالظالمين وبأحوالهم. قوله عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ المفتاح الذي يفتح به المغلاق جمعه مفاتيح ويقال فيه تفتح بكسر الميم وجمعه مفاتح والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح وجمعه مفاتح فقوله وعنده مفاتح الغيب يحتمل أن يكون المراد منه المفاتيح التي يفتح بها ويحتمل أن يكون المراد منه الخزائن. فعلى التفسير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طرق الاستعارة، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق، فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها، فهو عالم. وكذلك هاهنا لأن الله تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عن هذا المعنى بهذه العبارة. وعلى التفسير الثاني، يكون المعنى وعنده خزائن الغيب والمراد منه القدرة الكاملة على كل الممكنات ثم اختلفت أقوال المفسرين في قوله وعنده مفاتح الغيب لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فقيل: مفاتيح الغيب خمس وهي ما روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر. وفي رواية أخرى: لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر

أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى الساعة إلا الله، أخرجه البخاري. وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب: خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب، وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب. وقيل: هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم. وقيل: هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وقال ابن مسعود: أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء إلا مفاتح الغيب. وقال ابن عباس: إنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال مجاهد: البر المفاوز والقفار، والبحر القرى والأمصار لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه. وقال جمهور المفسرين: هو البر والبحر المعروفان، لأن جميع الأرض إما بر وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها يريد ساقطة وثابتة والمعنى أنه يعلم عدد ما يسقط من الورق وما بقي على الشجر من ذلك ويعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن تسقط على الأرض وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ قيل: هو الحب المعروف يكون في بطن الأرض قبل أن ينبت. وقيل: هي الحبة التي في الصخرة التي في أسفل الأرضين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس: الرطب الماء واليابس البادية. وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت. وقيل: المراد بالرطب الحي واليابس الميت. وقيل: هو عبارة عن كل شيء لأن جميع الأشياء إما رطبة وإما يابسة. فإن قلت إن جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله وعنده مفاتح الغيب فلم أفرد هذه الأشياء بالذكر وما فائدة ذلك؟. قلت: لما قال الله تعالى وعنده مفاتح الغيب على سبيل الإجمال ذكر من بعد ذلك الإجمال ما يدل على التفصيل، فذكر هذه الأشياء المحسوسة ليدل بها على غيرها، فقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من العجائب والغرائب من المدن والقرى والمفاوز والجبال وكثرة ما فيها من المعادن والحيوان، وأصناف المخلوقات مما يعجز الوصف عن إدراكها، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أقل من ذلك وهو مشاهد لكل أحد لأن الورقة الساقطة والثابتة يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها وكيفية خلقها إلا الله تعالى ثم ذكر بعد ذلك ما هو أصغر من الورقة وهي الحبة. ثم ذكر بعد ذلك مثالا يجمع الكل وهو الرطب واليابس فذكر هذه الأشياء وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى فصارت هذه الأمثال منبهة على عظمة عظيمة وقدرة عالية وعلم واسع فسبحان العليم الخبير. قوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فيه قولان: أحدهما أن الكتاب المبين هو علم الله الذي لا يغير ولا يبدل. والثاني: أن المراد بالكتاب المبين، هو اللوح المحفوظ، لأن الله كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض. وفائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب، لتقف الملائكة على إنفاذ علمه ونبه بذلك على تعظيم الحساب وأعلم عباده أنه لا يفوته شيء مما يصنعونه لأن من أثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب في كتاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ ما كسبتم بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم فيه أي في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قوله تعالى:

[سورة الأنعام (6): الآيات 61 إلى 63]

[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 63] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني وهو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئا وغلبه فهو مستعل عليه بالقهر والقدرة. فهو كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان، يعني: أنه أقدر منه. وأغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وأما مذهب السلف. فيها: فإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا إطلاق على جهة والقاهر هو الغالب لغيره المذلل له والله تعالى هو القاهر لخلقه وقهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت والإيجاد بالإعدام والغنى بالفقر والنور بالظلمة. وقوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم والمراد بالحفظة الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وغير ذلك من الأقوال والأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكا عن يمينه وملكا عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال. وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظا من الملائكة موكلا به يحفظ عليه أقواله وأفعاله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجرا له عن فعل القبيح وترك المعاصي. وقيل: المراد بقوله ويرسل عليكم حفظة، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم ويحفظون أجسادهم. قال قتادة: حفظه يحفظون على ابن آدم رزقه وأجله وعمله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر. فإن قلت قال الله تعالى في آية: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وقال في آية أخرى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وقال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات. وقيل: المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له. وقال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطشت يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم وقال أيضا: ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين. وقيل: إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له وقوله: وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به ولا يضيعونه. قوله عز وجل: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ يعني ثم رد العباد بالموت إلى الله في الآخرة وإنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل والله مولاهم وسيدهم ومالكهم بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني لا حكم إلا له وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض. قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني يا محمد، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون الله من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه وتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ومن ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق وأظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا وقيل: ظلمات البر والبحر مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال وقيل الحل على الحقيقة أولى. فظلمات البر هي ما اجتمع فيه

[سورة الأنعام (6): الآيات 64 إلى 65]

من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعا منكم إليه واستكانة. جهرا وخفية: يعني سرا حالا وحالا لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ يعني قائلين في حال الدعاء والتضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات وخلصتنا من الهلاك لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني لك على هذه النعمة والشكر وهو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها. [سورة الأنعام (6): الآيات 64 الى 65] قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها يعني من الظلمات والشدائد التي أنتم فيها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ يعني وهو الذي ينجيكم من كل كرب أيضا والكرب هو الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ يريد أنهم يقرون بأن الذي أنجاهم من هذه الشدائد هو الله تعالى ثم إنهم بعد ذلك الإقرار يشركون معه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع. قوله عز وجل: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أي: قل يا محمد لقومك إن الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون. وقال ابن عباس ومجاهد: عذابا من فوقكم، يعني أئمة السوء والسلاطين الظلمة أو من تحت أرجلكم يعني عبيد السوء. وقال الضحاك: من فوقكم يعني من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم يعني السفلة أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً الشيع جمع شيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع وأصله من التشيع. ومعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضا. وقيل: الشيعة هم الذي يتقوى بهم الإنسان. قال الزجاج: في قوله أو يلبسكم شيعا يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إنفاق فيجعلكم فرقا مختلفين يقاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال ابن عباس: قوله أو يلبسكم شيعا يعني الأهواء المختلفة ويذيق بعضكم بأس بعض يعني أنه يقتل بعضكم بيد بعض. وقال مجاهد: يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف. وقال ابن زيد: هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض. ثم اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم نزلت هذه الآية. قال أبو العالية: في قوله قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ الآية. قال: هن أربع وكلهن عذاب فجاءت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان وهما لا بد واقعتان يعني الخسف والمسخ. وعن أبي بن كعب نحوه وهن أربع خلال وكلهن واقع قبل يوم القيامة مضت ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض ثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم. وقال مجاهد: في قوله من فوقكم أو من تحت أرجلكم لأمة محمد فأعفاهم منه أو يلبسكم شيعا ما كان بينهم من الفتن والاختلاف زاد غيره ويذيق بعضكم بأس بعض يعني ما كان فيهم من القتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (خ) عن جابر قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أو هذا أيسر» (م).

[سورة الأنعام (6): الآيات 66 إلى 69]

عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». عن خباب بن الأرت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال: «أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله فيها ثلاثة فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا تهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» أخرجه الترمذي وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر يا محمد كيف نبين دلائلنا وحجتنا لهؤلاء المكذبين لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعني يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب. [سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 69] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ يعني بالقرآن وَهُوَ الْحَقُّ يعني في كونه كتابا منزلا من عند الله وقيل الضمير في به يرجع إلى العذاب وهو الحق يعني أنه نازل بهم أن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم. وقيل: الضمير يرجع إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كونها من عند الله قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. أي: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق بل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم على أعمالكم وقيل معناه إنما أدعوكم إلى الله وإلى الإيمان به ولم أومر بحربكم، فعلى هذا القول، تكون الآية منسوخة بآية السيف. وقيل في معنى الآية: قل لست عليكم بوكيل، يعني حفيظا إنما أطالبكم بالظاهر من الإقرار والعلم لا بما تحويه الضمائر والأسرار فعلى هذا تكون الآية محكمة لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة ومنتهى ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة. وقيل لكل خبر يخبر الله به وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير فكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني صحة هذا الخبر إما في الدنيا وإما في الآخرة. قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا الخطاب في وإذا رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وإذا رأيت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوضون في آياتنا يعني القرآن الذي أنزلناه إليك والخوض في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه. يقال: تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث وما يذم عليه ومنه قوله وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وقيل: الخطاب في وإذا رأيت لكل فرد من الناس. والمعنى: وإذا رأيت أيها الإنسان الذين يخوضون في آياتنا وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الاستهزاء بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه، فنهاهم الله أن يقعدوا معهم في وقت الاستهزاء بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني فاتركهم ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني حتى يكون خوضهم في غير القرآن والاستهزاء به وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ يعني فقعدت معهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعني إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف

[سورة الأنعام (6): الآيات 70 إلى 71]

بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ وفي رواية، قال المسلمون: إنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله هذه الآية وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من حساب المشركين من شيء يعني ليس عليهم شيء من حسابهم ولا آثامهم وَلكِنْ ذِكْرى يعني ولكن ذكروهم ذكرى. وقيل: معناه ولكن عليكم أن تذكروهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لعل تلك الذكرى تمنعهم من الخوض والاستهزاء. ((فصل)) قال سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره، وقيل: إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة فلا تكون منسوخة. [سورة الأنعام (6): الآيات 70 الى 71] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) قوله عز وجل: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً الخطاب للنبي. يعني: وذر يا محمد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا وذلك حيث سخروا به واستهزءوا به وقيل إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعبا ولهوا. وقيل: إن الكفار كانوا إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه. وقيل إن الله جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعبا ولهوا يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيرا وفعل الخير فيه مثل عيد الفطر وعيد النحر ويوم الجمعة وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني أنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق واتخذوا دينهم لعبا ولهوا ومعنى الآية: وذر يا محمد الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا واتركهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف وهو قول قتادة والسدي. وقيل: إنه خرج مخرج التهديد فهو كقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وهذا قول مجاهد فعلى هذا تكون الآية محكمة. وقيل: المراد بالإعراض عنهم، ترك معاشرتهم ومخالطتهم لا ترك الإنذار والتخويف ويدل عليه قوله: وَذَكِّرْ بِهِ يعني وذكر بالقرآن وعظ به هؤلاء المشركين أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي لئلا تبسل نفس وأصل البسل في اللغة: التحريم وضم الشيء ومنعه. وهذا عليك بسل: أي حرام ممنوع. فمعنى تبسل نفس بما كسبت: ترتهن وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام. وقال ابن عباس: تبسل تهلك. وقال قتادة: تحبس يعني في جهنم. وقال الضحاك: تحرق بالنار. وقال ابن زيد: تؤخذ يعني بما كسبت. وقيل: تفضح. والمعنى: وذكرهم بالقرآن ومواعظه وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جهنم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا وتحرم الثواب في الآخرة لَيْسَ لَها يعني لتلك النفس التي هلكت مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ أي قريب يلي أمرها وَلا شَفِيعٌ يعني يشفع لها في الآخرة وَإِنْ

[سورة الأنعام (6): الآيات 72 إلى 73]

تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ يعني وإن تفتد بكل فداء والعدل الفداء لا يُؤْخَذْ مِنْها يعني العدل وتلك الفدية أُولئِكَ الَّذِينَ إشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا يعني أسلموا إلى الهلاك بسبب ما اكتسبوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ذلك لهم بسبب كفرهم. قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائك أندعو يعني أنعبد من دون الله يعني الأصنام التي لا تنفع من عبدها ولا تضر من ترك عبادتها وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعني ونرد إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ يعني إلى دين الإسلام والتوحيد كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ يعني كالذي ذهبت به الشياطين فألقته في هوية من الأرض وأصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل حَيْرانَ يقال: حار فلان في الأمر، إذا تردد فيه فلم يهتد إلى الصواب ولا المخرج منه لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى يعني لهذا المتحير الذي استهوته الشياطين أصحاب على الطريق المستقيم ائْتِنا يعني يقولون له ائتنا وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولمن يدعو إلى عبادة الله عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقة ضل به الغول والشيطان عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه ورفقته يدعونه إليهم يقولون: هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى يعني أن طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم هو الهدى والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام ففيه زجر عن عبادتها كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن هدى الله هو الهدى لا هدى غيره وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ أي وأمرنا أن نسلم ونخلص العبادة لِرَبِّ الْعالَمِينَ لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره. [سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73] وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ يعني وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى لأن فيهما ما يقرب إليه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني في يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم. قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني إظهارا للحق فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته. وقيل: خلقها بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكل ذلك حق. وقيل خلقها بكلامه الحق وهو قول كن وفيه دليل على أن كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وقيل إنه راجع إلى خلق السموات. والمعنى: اذكر يوم قال للسموات والأرض كن فيكون. وقيل: يرجع إلى القيامة ويدل عليه سرعة البعث والحساب كأنه قال: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وقوموا للحساب فيقومون أحياء قَوْلُهُ الْحَقُّ يعني أن قول الله تبارك وتعالى للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق وهو كائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إنما أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى خالصا في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع يومئذ يدعي الملك وأنه المنفرد بالملك يومئذ وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار وإنه لا منازع له فيه واعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور. واختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن. قال

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 إلى 76]

مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ «قال قرن ينفخ فيه» أخرجه أبو داود والترمذي. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه» فقالوا كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا، وربما قال توكلنا على الله» أخرجه الترمذي. وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها بنفخ الروح فيها. وهذا قول الحسن ومقاتل. والقول الأول أصح لما تقدم في الحديث ولقوله تعالى في آية أخرى: ثم نفخ فيه أخرى: ولإجماع أهل السنة أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين، نفخة الصعق، ونفخة البعث للحساب. وقوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى ما غاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن عمله شيء وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله وتدبير خلقه الْخَبِيرُ يعني بكل ما يفعلونه من خير أو شر. [سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 76] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ اختلف العلماء في لفظ آزر فقال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك: آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارح مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي آزر وتارح لقب له وبالعكس والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة. وقال سليمان التيمي: آزر سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج. وقيل: الشيخ الهرم وهو بالفارسية وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظا قليلة فارسية. وقيل: هو المخطئ فكان إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأن من عبد شيئا أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسما له فهو كقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وقيل: معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والصحيح هو الأول أن آزر اسم لأبي إبراهيم لأن الله تعالى سماه به وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح ففيه نظر لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم. وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة» الحديث فسماه النبي صلى الله عليه وسلم آزر أيضا ولم يقل أباه تارخ فثبت بهذا أن اسمه الأصلي آزر لا تارخ والله أعلم. وقوله تعالى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً معناه: اذكر لقومك يا محمد قول إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك. والأصنام: جمع صنم وهو التمثال الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان وهو الوثن أيضا إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني: يقول إبراهيم لأبيه آزر: إني أراك وقومك الذين يعبدون الأصنام معك ويتخذونها آلهة في ضلال يعني عن طريق الحق مبين يعني بيّن لمن أبصر ذلك فإنه لا يشك أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع وهذه الآية احتجاج على مشركي

العرب بأحوال إبراهيم ومحاجته لأبيه وقومه لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويعترفون بفضله فلا جرم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه في معرض الاحتجاج على المشركين قوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معناه وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله وكذلك نرى إبراهيم لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى. والملكوت: الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرهبة والرغبة والرحمة. قال ابن عباس: يعني خلق السموات والأرض. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا يعني أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب. قال البغوي: وروي عن سليمان ورفعه بعضهم عن علي قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له تبارك وتعالى: «يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلى فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وفي رواية، وإن تولى فإن جهنم من ورائه، قال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار، واختلف في هذه الرؤية هل كانت بعين البصر أو بعين البصيرة على قولين: أحدهما إنها كانت بين البصر الظاهر فشق لإبراهيم السموات حتى رأى العرش وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها. والقول الثاني: إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك وذلك لا يعرف إلا بالعقل فبان بهذا أن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة، إلا أن يقال: المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض. وقوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ عطف على المعنى ومعناه «وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض» ليستدل به وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ واليقين: عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة، لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت، صارت سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك: قال ابن عباس في وليكون من الموقنين جلا له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى: إنك لا تستطيع هذا فردّه الله كما كان قبل ذلك فمعنى الآية على هذا القول وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسا وخبرا. وقوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وأجنه الليل وجن عليه إذا ستره بسواده رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ((ذكر القصة في ذلك)) قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار والسير: ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان الملك وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان منجمون، فقالوا له: إنه يولد في بلدك

هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء. وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك، فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة، رجلا يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما. قالوا: فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم. وقال محمد بن إسحاق: بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها. وقال السدي: فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له: إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك. فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك، ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم. قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها. قالوا: فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع. وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال محمد بن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصلح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها. وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حيا وهو يمص إبهامه. قال أبو روق: قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء، ومن إصبع لبنا، ومن إصبع سمنا، ومن إصبع عسلا، ومن إصبع تمرا. وقال محمد بن إسحاق: كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت: ولدت غلاما فما صدقها وسكت عنها. وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال: أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض. وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكبا قال: هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك. فلما رجعت به أمه، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحا شديدا. وقيل: إنه مكث في السرب سبع سنين. وقيل: ثلاث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة. قالوا، فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه: من ربي؟ قالت: أنا. قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك. ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه آزر فقال إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك. قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا. قال: فمن ربك؟ قال: نمرود. قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال: اسكت. فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا قال: هذا ربي ويقال إنه قال

لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من باب السرب حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه؟ قال: إبل وخيل وغنم. فقال إبراهيم: ما لهذه بد من أن يكون لها إله وهو ربها وخالقها. ثم نظر، فإذا المشتري قد طلع ويقال إنها الزهرة، وكانت تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يعني ستره بظلامه رأى كوكبا قال هذا رَبِّي ثم اختلف العلماء في وقت هذه الرؤية وفي وقت هذا القول هل كان قبل البلوغ أو بعده على قولين: أحدهما أنه كان قبل البلوغ في حال طفوليته وذلك قبل قيام الحجة عليه فلم يكن لهذا القول الذي صدر من إبراهيم في هذا الوقت اعتبار ولا يترتب عليه حكم لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ. وقيل: إن إبراهيم لما خرج من السرب في حال صغره ونظر إلى السماء وما فيها من العجائب ونظر إلى الأرض وما فيها من العجائب وكان قد خصه الله بالعقل الكامل والفطرة السليمة تفكر في نفسه وقال لا بد لهذا الخلق من خالق مدبر وهو إله الخلق، ثم نظر في حال تفكره فرأى الكوكب وقد أزهر، فقال: هذا ربي على ما سبق إلى وهمه وذلك في حال طفوليته وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى واستدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قالوا وهذا يدل على نوع تحير وذلك لا يكون إلا في حال الصغر وقبل البلوغ وقيام الحجة وهذا القول ليس بسديد ولا مرضي لأن الأنبياء معصومون في كل حال من الأحوال وأنه لا يجوز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو بالله عارف وله موحد وله من كل منقصة منزه ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على إبراهيم وقد عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السموات والأرض أفبرؤية الكوكب يقول معتقدا هذا ربي؟ حاشا إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ذلك لأن منصبه أعلى وأشرف من ذلك صلى الله عليه وسلم. والقول الثاني: الذي عليه جمهور المحققين إن هذه الرؤية وهذا القول كان بعد بلوغ إبراهيم وحين شرفه الله بالنبوة وأكرمه بالرسالة ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الآية ومعناها فذكروا فيها وجوها: الوجه الأول: أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها لأنهم كانوا يرون أن كل الأمور إليها، فأراهم إبراهيم أنه معظّم ما عظموه فلما أفل الكوكب والقمر والشمس أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأفول ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية. ومثل هذا كمثل الحواري الذي ورد على قوم كانوا يعبدون صنما فأظهر تعظيمه فأكرموه لذلك حتى صاروا يصدرون عن رأيه في كثير من أمورهم إلى أن دهمهم عدو لا قبل لهم به فشاوروه في أمر هذا العدو فقال: الرأي عندي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما نزل بنا، فاجتمعوا حول الصنم يتضرعون إليه فلم يغن شيئا فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يدفع، دعاهم الحواري وأمرهم أن يدعو الله عز وجل ويسألوه أن يكشف ما نزل بهم، فدعوا الله مخلصين، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا جميعا. الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام قال هذا القول على سبيل الاستفهام وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه وتقديره: أهذا ربي الذي تزعمون، وإسقاط حرف الاستفهام كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ يعني أفهم الخالدون. والمعنى أيكون هذا ربا ودلائل النقص فيه ظاهرة. الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه يقول هذا ربي بزعمكم فلما غاب قال لو كان إلها كما تزعمون لما غاب فهو كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يعني عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى عليه السلام بقوله تعالى: انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً يريد إلهك بزعمك. الوجه الرابع: إن في هذه الآية إضمارا تقديره يقولون «هذا ربي» وإضمار القول كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.

[سورة الأنعام (6): الآيات 77 إلى 80]

الوجه الخامس: إن الله تعالى قال في حقه وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثم قال بعده فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ والفاء تقتضي التعقيب فدل هذا أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض وبعض الإيقان ومن كان معه بهذه المنزلة العالية الشريفة لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب ويتخذها ربا. فأما الجواب عن قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فإن الأنبياء عليهم السلام لم يزالوا يسألون الله التثبيت ومنه قوله وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ قوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب والأفول غيبة النيرات قالَ يعني إبراهيم لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يعني لا أحب ربا يغيب ويطلع لأن أمارات الحدوث فيه ظاهرة. [سورة الأنعام (6): الآيات 77 الى 80] فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يعني طالعا منتشر الضوء قالَ هذا رَبِّي معناه ما تقدم من الكلام في الكوكب فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يعني إن لم يثبتني ربي على الهدى وليس المراد أنه لم يكن مهتديا لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية لله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً يعني طالعة قالَ هذا رَبِّي يعني هذا الطالع أو أنه إشارة إلى الضياء والنور لأنه رأى الشمس أضوأ من الكوكب والقمر وقيل إنما قال هذا ولم يقل هذه لأن تأنيث الشمس غير حقيقي فلهذا أتى بلفظ التذكير هذا أَكْبَرُ يعني من الكوكب والقمر فَلَمَّا أَفَلَتْ يعني فلما غابت الشمس قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني أنه لما أثبت إبراهيم عليه السلام بالدليل القطعي أن هذه النجوم ليست بآلهة ولا تصلح للربوبية تبرأ منها وأظهر لقومه أنه بريء مما يشركون ولما أظهر خلاف قومه وتبرأ من شركهم أظهر ما هو عليه من الدين الحق فقال إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ يعني إني صرفت وجه عبادتي وقصرت توحيدي لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني للذي خلقهما وأبدعهما حَنِيفاً يعني مائلا عن عبادة كل شيء سوى الله تعالى. وأصل الحنف: الميل، وهو ميل عن طرق الضلال إلى طريق الاستقامة. وقيل: الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة في صلاته وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه. قوله عز وجل: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ يعني وخاصمه قومه وذلك لما أظهر إبراهيم عليه السلام عيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها وأظهر التوحيد لله عز وجل خاصمه قومه وجادلوه في ذلك فقال: أتحاجوني في الله. يعني تجادلونني في توحيدي لله وقد هداني وقد بين لي طريق الهداية إلى توحيده ومعرفته. وقال البغوي: لما رجع إبراهيم إلى أبيه وصار من الشباب بحالة تسقط عنه طمع الذابحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها فيذهب إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يكتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها وقال اشربي استهزاء بقومه وبما هم فيه من الضلالة حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته حاجه قومه يعني خاصمه وجادله قومه في دينه قالَ يعني إبراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ

[سورة الأنعام (6): الآيات 81 إلى 84]

هَدانِ يعني إلى توحيده ومعرفته وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ وذلك أنهم قالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسّك بخبل أو جنون لعيبك إياها فأجابهم بقوله ولا أخاف ما تشركون به فإنها جمادات لا تضر ولا تنفع وإنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يعني لكن أن يشأ ربي شيئا كان ما يشاء لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال أن الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره ما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وهذا استثناء منقطع وليس هو من الأول في شيء. والمعنى ولكن إن شاء ربي شيئا كان وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أحاط علمه بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يعني أفلا تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع وأن الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما. [سورة الأنعام (6): الآيات 81 الى 84] وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ يعني وكيف أخاف الأصنام التي أشركتم بها لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ يعني وأنتم لا تخافون وقد أشركتم بالله وهو من أعظم الذنوب ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً يعني ما ليس لكم فيه حجة وبرهان فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني يقول من أولى بالأمن من العذاب في يوم القيامة الموحد أم المشرك الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وهذا فصل قضاه الله بين إبراهيم وبين قومه يعني أن الذين يستحقون الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم. وقيل: هو من تمام كلام إبراهيم في المحاجّة لقومه. والمعنى: إن الذين يحصل لهم الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا يعني آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شيئا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشرك (ق). عن ابن مسعود قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وفي رواية ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه وذكره. وقيل: في معنى قوله ولم يلبس إيمانهم بظلم، يعني: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم وذلك بأن يفعل بعض ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به فعلى هذا القول تكون الآية على العموم لأن الله لم يخص به معنى من معاني الظلم دون غيره والصحيح أن الظلم المذكور في هذه الآية هو الشرك لما تقدم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الظلم هنا بالشرك وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا كانت عاقبته الأمن من النار لقوله أُولئِكَ يعني الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لَهُمُ الْأَمْنُ يوم القيامة من عذاب النار وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني إلى سبيل الرشاد. وقوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني ما جرى بين إبراهيم وبين قومه واستدل على حدوث الكوكب والقمر والشمس بالأفول وقيل لما قالوا لإبراهيم إنّا نخاف عليك من آلهتنا لسبك إياها قال أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة أن يغضب الكبير عليكم؟ وقيل: إنه خاصم قومه المشركين فمالوا أي الفريقين أحق بالأمن من يعبد إلها واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة

[سورة الأنعام (6): الآيات 85 إلى 88]

فدلوا من يعبد إلها واحدا فقضوا على أنفسهم فكانت هذه حجة إبراهيم عليه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعني بالعلم والفهم والعدل والفضيلة كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى إلى محاجّة قومه. وقيل: نرفع درجات من نشاء في الدنيا بالنبوة والعلم والحكمة وفي الآخرة بالثواب على الأعمال الصالحة إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى حكيم في جميع أفعاله عليم بجميع أحوال خلقه لا يفعل شيء إلا بحكمة وعلم. قوله عز وجل: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ لما أظهر إبراهيم عليه السلام دينه وغلب خصمه بالحجج القاطعة والبراهين القوية والدلائل الصحيحة التي فهمه الله تعالى إياه وهداه إليها عدد الله نعمه عليه وإحسانه إليه بأن رفع درجته في عليين وأبقى النبوة في ذريته إلى يوم الدين فقال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ يعني لإبراهيم إسحاق يعني ابنا لصلبه ويعقوب يعني ابن إسحاق وهو ولد الولد كُلًّا هَدَيْنا يعني هدينا جميعهم إلى سبيل الرشاد ووفقناهم إلى طريق الحق والصواب وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ يعني من قبل إبراهيم أرشدنا نوحا ووفقناه للحق والصواب ومننّا عليه بالهداية وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ اختلفوا في الضمير إلى من يرجع فقيل يرجع إلى إبراهيم يعني ومن ذرية إبراهيم داوُدَ وَسُلَيْمانَ وقيل: يرجع إلى نوح وهو اختيار جمهور المفسرين، لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ولأن الله ذكر في جملة هذه الذرية لوطا وهو ابن أخي إبراهيم ولم يكن من ذريته فثبت بهذا أن هاء الكناية ترجع إلى نوح وقال الزجاج: كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعا قد جرى. وداود هو ابن بيشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة وكذلك سليمان بن داود وَأَيُّوبَ هو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم وَيُوسُفَ هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وَمُوسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وَهارُونَ هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني: وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم. [سورة الأنعام (6): الآيات 85 الى 88] وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) وَزَكَرِيَّا هو ابن آذن بن بركيا وَيَحْيى هو ابن زكريا وَعِيسى هو ابن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ. قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وقال محمد بن إسحاق: هو الياس بن سنا بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. وهذا هو الصحيح لأن أصحاب الأنساب يقولون: إن إدريس جد نوح لأن نوحا بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ولأن الله تعالى نسب الياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أن كل من ذكرنا وسمينا من الصالحين وَإِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا وَالْيَسَعَ هو ابن أخطوب بن العجوز وَيُونُسَ هو ابن متى وَلُوطاً هو ابن أخي إبراهيم: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يعني على عالمي زمانهم. ويستدل بهذه الآية من يقول إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملك فيقتضي أن الأنبياء أفضل من الملائكة. واعلم أن الله تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولكن هنا لطيفة أوجبت هذا الترتيب وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم السلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب

[سورة الأنعام (6): الآيات 89 إلى 91]

لأنهم أصول الأنبياء وإليهم ترجع أنسابهم جميعا ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان قد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظا وافرا من المراتب: الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف عليه السلام فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن أعطاه الله ملك مصر مع النبوة ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله تعالى موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا والإعراض عنها وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى والياس عليهم السلام ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ يعني ومن آباء الذين سميناهم ومن هنا للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلما وَذُرِّيَّاتِهِمْ يعني ومن ذرياتهم أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح وَإِخْوانِهِمْ يعني ومن إخوانهم والمعنى أن الله تعالى وفق من آباء المذكورين ومن إخوانهم وذرياتهم للهداية وخالص الدين وهو قوله تعالى: وَاجْتَبَيْناهُمْ يعني اخترناهم واصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ يعني وأرشدناهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الحق ذلِكَ هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي كان عليه هؤلاء الأنبياء. وقيل: المراد بهدى الله معرفة الله وتنزيهه عن الشركاء والأضداد والأنداد يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني يوفق من يشاء من عباده ويرشده إلى دينه وطاعته وخلع الأضداد والشركاء وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني هؤلاء الذين سميناهم لَحَبِطَ يعني لبطل وذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعات قبل ذلك لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئا. [سورة الأنعام (6): الآيات 89 الى 91] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) قوله عز وجل: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ يعني أولئك الذين سميناهم من الأنبياء أعطيناهم الكتب التي أنزلناها عليهم وآتيناهم العلم والفهم وشرفناهم بالنبوة وإنما قدم ذكر الكتاب والحكمة على النبوة وإن كانت النبوة هي الأصل لأن منصب النبوة أشرف المراتب والمناصب فذكروا أولا الكتاب والحكم لأنهما يدلان على النبوة فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني فإن يجحد بدلائل التوحيد والنبوة كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قال ابن عباس: هم الأنصار وأهل المدينة. وقيل: هم المهاجرون والأنصار وقال الحسن وقتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج قال: والدليل عليه قوله أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال رجاء العطاردي: هم الملائكة وفيه بعد لأن اسم القوم لا ينطلق إلا على بني آدم وقيل هم الفرس. قال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكا أو نبيا أو من الصحابة أو التابعين وفي الآية دليل على أن الله تعالى ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوي دينه ويجعله عاليا على الأديان كلها وقد جعل ذلك فهو

إخبار عن الغيب ... قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني النبيين الذين تقدم ذكرهم لأنهم هو المخصوصون بالهداية فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني فبشرائعهم وسننهم اعمل وأصل الاقتداء في اللغة طلب موافقة الثاني للأول في فعله. وقيل أمره أن يقتدي بهم في أمر الدين الذي أمرهم أن يجمعوا عليه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن جميع النقائص التي لا تليق بجلاله في الأسماء والصفات والأفعال. وقيل: أمره الله أن يقتدي بهم في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية والصفات الرفيعة الكاملة مثل: الصبر على أذى السفهاء، والعفو عنهم. وقيل: أمره أن يقتدي بشرائعهم إلا ما خصه دليل آخر فعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا. ((فصل)) احتج العلماء بهذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. بيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف وكانت متفرقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عز وجل، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن، وكان داود عليه السلام سليمان من أصحاب الشكر على النعمة، قال الله فيهم: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وكان أيوب صاحب صبر على البلاء، قال الله فيه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وكان يوسف قد جمع بين الحالتين، يعني: الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع وإخبات ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم والله أعلم. وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني: قل يا محمد لا أطلب على تبليغ الرسالة جعلا قيل لما أمره الله تعالى بالاقتداء بالنبيين وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم فقال: لا أسألكم عليه أجرا إِنْ هُوَ يعني ما هو يعني القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يعني أن القرآن موعظة وذكرى لجميع العالم من الجن والإنس وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى جميع الخلق من الجن والإنس وإن دعوته عمّت جميع الخلائق. قوله عز وجل: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال ابن عباس: لما عظموا الله حق عظمته وعنه أن معناه ما آمنوا أن الله على شيء قدير. وقال أبو العالية: ما وصفوا الله حق وصفه. وقال الأخفش: ما عرفوا الله حق معرفته. يقال: قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقداره يقال قدره يقدره بالضم قدرا ثم يقال لمن عرف شيئا هو يقدره قدره وإذا لم يعرفه بصفاته يقال فيه إنه لا يقدر قدره فقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يصح فيه جميع الوجوه المذكورة في معناه إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني الذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته إذ لو عرفوه حق معرفته لما قالوا هذه المقالة، ثم اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في كفار قريش وهذا على قول من يقول إن جميع هذه السورة مكية وهو قول السدي. ويروي ذلك عن مجاهد وصححه الطبري قال: لأن من أول السورة إلى هذا الموضع هو خبر عن المشركين من عبدة الأصنام وكان قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول عنه فلا يكون قوله إذ قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ خبرا عن غيرهم وأورد فخر الدين الرازي على هذا القول إشكالا وهو أن كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء فكيف يمكن إلزامهم بنبوة موسى وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش

إنما يليق بحال اليهود وأجاب عنه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود وقد سمعوا منهم أن موسى جاءهم بالتوراة وبالمعجزات الباهرات وإنما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيمكن إلزامهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وأجاب عن كون سياق الآية لأي ليق إلا بحال اليهود بأن كفار قريش واليهود لما كانوا مشتركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبعد أن بعض الآية يكون خطابا لكفار قريش وبعضها خطابا لليهود. والقول الثاني: في سبب نزول هذه الآية وهو قول جمهور المفسرين أنها نزلت في اليهود وهذا على قول من يقول: إن هذه الآية نزلت بالمدينة وأنها من الآيات المدنيات التي في السور المكية. قال ابن عباس: نزلت سورة الأنعام بمكة إلا ست آيات منها قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فإنها نزلت بالمدينة ثم اختلف القائلون بهذا القول في اسم من نزلت هذه الآية فيه فقال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجدون في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب. وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نورا وهدى للناس الآية. قال البغوي: وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد فقلت ذلك. فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق؟ فنزعوه عن الحبرية وجعلوا مكانه كعب الأشرف. وقال السدي: لما نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وهو القائل هذه المقالة. وقال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم فقالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى الآية وقال محمد بن كعب القرظي: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب؟ فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملونها من عند الله فأنزل الله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ الآية التي في سورة النساء فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة جثا رجل منهم وقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وأورد الرازي على هذا القول إشكالا أيضا وهو أنه قال: إن اليهود مقرون بإنزال التوراة على موسى فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء مع اعترافهم بإنزال التوراة ولم يجب عن هذا الإشكال بشيء وأجيب عنه بأن مراد اليهود إنكار إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقط ولهذا ألزموا بما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى فقال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم ما أنزل الله على بشر من شيء من أنزل التوراة على موسى وفي هذا الإلزام توبيخ اليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يعني التوراة ضياء من ظلمة الضلالة وبيانا يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن تبدل وتغير تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يكتبونه في قراطيس مقطعة تُبْدُونَها يعني القراطيس المكتوبة وَتُخْفُونَ كَثِيراً يعني ويخفون كثيرا مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في التوراة ومما أخفوه أيضا آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود ومعناه: أنكم علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من قبل. قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به. وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قُلِ اللَّهُ هذا راجع إلى قوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى، فإن أجابوك يا محمد وإلا فقل أنت

[سورة الأنعام (6): الآيات 92 إلى 93]

الله الذي أنزله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يعني: دعهم يا محمد فيما هم فيه يخوضون من باطلهم وكفرهم بالله. ومعنى يلعبون: يستهزءون ويسخرون. وقيل: معناه يا محمد إنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء فذرهم فيما هم فيه من الخوض واللعب وفيه وعيد وتهديد للمشركين. وقال بعضهم: هذا منسوخ بآية السيف وفيه بعد لأنه مذكور لأجل التهديد والوعيد. [سورة الأنعام (6): الآيات 92 الى 93] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني: وهذا القرآن كتاب أنزلناه من عندنا عليك يا محمد كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية. وأصل البركة: النماء والزيادة وثبوت الخير مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء يعني أنه موافق لما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب، لأنها اشتملت جميعها على التوحيد والتنزيه لله من كل عيب ونقيصة وتدل على البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقا لجميع الكتب المنزلة وَلِتُنْذِرَ قرئ بالتاء يعني ولتنذر يا محمد وبالياء ومعناه ولينذر الكتاب أُمَّ الْقُرى يعني مكة وفيه حذف تقديره ولتنذر أهل القرى وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. قاله ابن عباس: وقيل: لأنها أقدم القرى وأعظمها بركة. وقيل: لأنها قبلة أهل الأرض وَمَنْ حَوْلَها يعني جميع البلاد والقرى التي حولها شرقا وغربا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني: والذين يصدقون بقيام الساعة وبالمعاد والبعث بعد الموت يصدقون بها الكتاب وأنه منزل من عند الله عز وجل وقيل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذي يؤمن بالآخرة يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يرغب في تحصيل الثواب ورد العقاب عنه وذلك لا يحصل إلا بالنظر التام فإذا نظر وتفكر علم بالضرورة أن دين محمد أشرف الأديان وشريعته أعظم الشرائع وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني يداومون عليها في أوقاتها. والمعنى: أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة، وفائدة تخصيص الصلاة بالذكر دون سائر العبادات، التنبيه على أنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا حافظ العبد عليها يكون محافظا على جميع العبادات والطاعات قوله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني ومن أعظم خطأ وأجهل فعلا ممن اختلق على الله كذبا فزعم أن الله بعثه نبيا وهو في زعمه كذاب مبطل أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ قال قتادة: نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذاب بن ثمامة. وقيل مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات وكهانة وسجع ادعى النبوة باليمن وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا: نعم. فقال لهما: النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما (ق). عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذا بين يخرجان من بعدي، يقال لأحدهما: مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» قوله فأوحى إليّ أن

[سورة الأنعام (6): آية 94]

أنفخهما يروى بالخاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفخت الدابة برجلها إذا دفعت ورمحت ويروى بالخاء المعجمة من النفخ يريد أنه نفخهما فطارا عنه وهو قريب من الأول فأما مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوة باليمامة من اليمن وتبعه قوم من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات فاغترّ قومه بذلك وقتل مسيلمة. الكذاب في زمن خلافة أبي بكر الصديق قتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس يعني حمزة وقتلت شر الناس يعني مسيلمة وأما الأسود العنسي بالنون فهو عبهلة بن كعب وكان يقال له ذو الحمار ادعى النبوة باليمن في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقتل والنبي صلى الله عليه وسلم حي لم يمت وذلك قبل موته بيومين وأخبر أصحابه بقتله وقتله فيروز الديلمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاز فيروز يعني بقتلة الأسود العنسي فمن قال إن هذه الآية يعني قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أنزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي يقول: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة وهو قول لبعض علماء التفسير تقدم ذكره في أول السورة ومن قال إن هذه الآية مكية وقال: إنها نزلت في شأنهما يقول إنها خبر عن غيب قد ظهر ذلك فيما بعد والله أعلم. وقوله تعالى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال السدي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله بن أبي سرح وقال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران وقال ابن عباس نزل قوله ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله في المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قال العلماء وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يعني ولو ترى يا محمد حال هؤلاء الظالمين إذ أنزل بهم الموت لرأيت أمرا عظيما وغمراته شدائده وسكراته وغمرة كل شيء معظمه وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ يعني بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وقيل: باسطو أيديهم لقبض أرواحهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ يعني يقولون لهم أخرجوا أنفسكم. فإن قلت: إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا الكلام. قلت: معناه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم كرها لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر وقيل معناه يقولون لهم خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخا لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعني الهوان بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني ذلك العذاب الذي تجزونه بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني وبسبب ما كنتم تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه. [سورة الأنعام (6): آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى يعني وحدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم وهذا خبر من الله عز وجل عن حال الكافرين يوم القيامة وكيف يحشرون إليه ماذا يقول لهم في ذلك اليوم وفي قوله للكافرين

[سورة الأنعام (6): الآيات 95 إلى 98]

ولقد جئتمونا فرادى تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم كل ذلك شيئا يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني جئتمونا حفاة عراة غرلا يعني قلفا كما ولدتهم أمهاتهم في أول مرة في الدنيا لا شيء عليهم ولا معهم (ق). عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (ق) عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تحشر الناس حفاة غراة غرلا» قالت عائشة: فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك روي الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل امرئ منهم يومئذ شيء يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض». وقوله تعالى: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني وتركتم الذي أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد والخدم والخول وكل ما أعطى الله العبد خوله فيه من المال والعبيد وراء ظهوركم يعني في الدنيا وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ يعني أن المشركين زعموا أنهم إنما عبدوا هذه الأصنام «لأنها تشفع لهم عند الله يوم القيامة لأنها شركاء الله تعالى الله عن ذلك فإذا كان يوم القيامة وبخ الله المشركين وقرعهم بهذه الآية ثم قال تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرئ بينكم برفع النون، ومعناه لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني: وذهب وبطل ما كنتم تكذبون في الدنيا. [سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 98] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لما تقدم الكلام على تقرير التوحيد وتقرير النبوة، أردفه بذكر الدلائل على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيها بذلك على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها وتعريفا منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى: أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الله الذي فلق الحب عن النبات والنواة عن النخلة. وفي معنى فلق قولان: أحدهما: أنه بمعنى خلق ومعنى الآية على هذا القول: «أن الله خالق الحب والنوى» وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه. قال الضحاك ومقاتل: قال الواحدي: ذهبوا بفالق مذهب فاطر. وأنكر الطبري هذا القول وقال لا يعرف في كلام العرب فلق الله الشيء بمعنى خلق. ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه فقال: وقيل الفلق الخلق، وإذا تأملت الخلق، تبين لك أن أكثره عن انفلاق ومعنى هذا الكلام أن جميع الأشياء كانت قبل الوجود في العدم فلما أوجدها الله تعالى وأخرجها من العدم إلى الوجود فكأنه فلقها وأظهرها. والقول الثاني: وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق ثم اختلفوا في معناه على قولين: أحدهما: وهو

مروي عن ابن عباس قال: فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة وهو قول الحسن والسدي وابن زيد. قال الزجاج: بشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر. والقول الثاني: وهو قول مجاهد إنه الشقان اللذان في الحب والنوى والحب هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك والنوى جمع نواة وهي ما كان على ضد الحب كالرطب والخوخ والمشمش وما أشبه ذلك ومعنى قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر على ذلك قدر من الزمان أظهر الله تبارك وتعالى من تلك الحبة ورقا أخضر ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقا ضاربة في الأرض فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه. وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس: في رواية عنه: يخرج من النطفة بشرا حيا ويخرج النطفة الميتة من الحي وهذا قول الكلبي ومقاتل. قال الكلبي: يخرج النسمة الحية من النطفة الميتة ويخرج الفرخة من البيضة ويخرج النطفة الميتة والبيضة الميتة من الحي. وقال ابن عباس في رواية أخرى: يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن فجعل الإيمان بمنزلة الحياة والكفر بمنزلة الموت وهذا قول الحسن. وقيل: معناه يخرج الطائع من العاصي والعاصي من الطائع. وقال السدي: يخرج النبات من الحب والحب من النبات وهذا اختيار الطبري لأنه قال عقب قوله «إن الله فالق الحب والنوى». فإن قلت كيف قال ومخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل بعد قوله «يخرج الحي من الميت» وما السبب في عطف الاسم على الفعل. قلت: قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ عطف على قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالبيان والتفسير لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأن فلق الحب والنوى واليابس وإخراج النبات والشجر منه من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي من النبات في حكم الحيوان وقوله ذلِكُمُ اللَّهُ يعني ذلكم الله المدبر الخالق الصانع لهذه الأشياء المحيي المميت لها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يعني فأنى تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء كلها وفيه دليل أيضا على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده والإصباح مصدر سمي به الصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد وهما أول النهار. فإن قلت ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق بالصبح فما معنى ذلك؟ قلت ذكر العلماء فيه وجوها: الأول: أن يكون المراد فالق ظلمة الصبح وذلك لأن الصبح صبحان: فالصبح الأول هو البياض المستطيل الصاعد في الأفق كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة بعد ذلك ويسمى هذا الصبح الفجر الكاذب لأنه يبدو في الأفق الشرقي ثم يضمحل ويذهب ثم يطلع بعده الصبح الثاني، وهو الضوء المستطير في جميع الأفق الشرقي ويسمى الفجر الصادق لأنه ليس بعده ظلمة والحاصل من هذا أن يكون المعنى: فالق ظلمة الصبح الأول بنور الصبح الثاني. الوجه الثاني: أنه تعالى كما شق ظلمة الليل بنور الصباح فكذلك يشق نور الصبح بضياء النهار فيكون معنى قوله: فالِقُ الْإِصْباحِ أي فالق الصباح بنور النهار. الوجه الثالث: أن يراد فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح.

الوجه الرابع: أن يكون المعنى فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر إذا انصدع الفجر وانفلق وسمي الفجر فلقا بمعنى مفلوق. الوجه الخامس: الفلق بمعنى الخلق يعني خالق الإصباح. وعلى هذا القول يزول الإشكال. والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار. والمعنى أنه تعالى مبدي ضوء الصبح وخالقه ومنوره. وقوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً السكن ما سكنت إليه واسترحت به. يريد أن الناس يسكنون في الليل سكون راحة لأن الله جعل الليل لهم كذلك. قال ابن عباس: إن كل ذي روح يسكن فيه لأن الإنسان قد أتعب نفسه في النهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ويسكن عن الحركة وذلك هو الليل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني أنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر في الفلك بحسبان معين. قال ابن عباس: يجريان إلى أجل جعل لهما يعني عدد الأيام والشهور والسنين وقال الكلبي منازلهما بحسبان لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه. قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ جعل هنا بمعنى خلق يعني والله الذي خلق لكم هذه النجوم أدلة لتهتدوا بها إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه، فامتنّ الله على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق في البر والبحر إلى حيث يريدون ويستدلون بالنجوم أيضا على القبلة فيستدلون على ما يريدون في النهار بحركة الشمس وفي الليل بحركة الكواكب ومن منافعها أيضا أنه تعالى خلقها زينة للسماء ورجوما للشياطين كما قال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قد بينّا الآيات الدالة على توحيدنا وكمال قدرتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال علمه وقدرته. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني والله الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام فهو أبو البشر كلهم وحواء مخلوقة منه وعيسى أيضا لأن ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أن جميع الخلق من آدم عليه السلام فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قرئ فمستقر بكسر القاف وفتحها. يقال: قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف قال: المستقر بمعنى القارّ. والمعنى: منكم مستقر يعني في الأرحام. ومن فتح القاف جعله مكانا فالمستقر نفس المقر فيكون المعنى لكم مقر. وأما المستودع فهو مثل أودع فيجوز أن يكون اسما للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه. فمن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكانا، والمعنى: فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن كسر القاف جعل المعنى منكم مستقر ومنكم مستودع يعني منكم من استقر ومنكم من استودع والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض لأن يرد. ولهذا اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذين اللفظين فروي عن ابن عباس أنه قال المستقر في أرحام الأمهات والمستودع في أصلاب الآباء ثم قرأ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ ويؤيد هذا القول أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى في بطن الأم زمانا طويلا، ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب. وروي عنه أنه قال: بالعكس يعني أن المستقر صلب

[سورة الأنعام (6): آية 99]

الأب والمستودع رحم الأم. ووجه هذا القول، أن النطفة حصلت في صلب الأب قبل رحم الأم فوجب حمل المستقر على الصلب والمستودع على الرحم. وقال ابن مسعود: المستقر في الرحم إلى أن يولد والمستودع في القبر إلى أن يبعث وقال مجاهد: المستقر على ظهر الأرض في الدنيا لقوله: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ والمستودع عند الله في الآخرة. وقال الحسن: المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا ابن آدم أنت مستودع في أهلك إلى أن تلحق بصاحبك يعني القبر وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة والنار، لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأبيد قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ قد بيّنا الدلائل الدالة على التوحيد بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يعني لقوم يفهمون عن الله آياته ودلائله الدالة على توحيده لأن الفقه هو الفهم. قوله عز وجل: [سورة الأنعام (6): آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر وقيل إن الله ينزل المطر من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بالماء الذي أنزلنا من السماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعني كل شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات، وقيل معناه أخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء غذاء كل شيء من: الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم مما يتغذون به فينبتون عليه وينمون فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يريد أخضر مثل عور وأعور. والأخضر هو جميع الزروع والبقول الرطبة نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً يعني: يخرج من ذلك الأخضر سنابل فيها الحب يركب بعضها فوق بعض مثل: سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر لأنه القوت المألوف وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ يعني من ثمرها. يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها وطلعها كفراها قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض: يسمى طلعا أيضا وهو ما يكون في قلب الطلع والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقا وهو القنو وجمعه قنوان مثل: صنو وصنون. دانية أي قريبة التناول ينالها القائم والقاعد وقال مجاهد: متدلية. وقال الضحاك: قصار ملتصقة بالأرض وفيه اختصار وحذف تقديره ومن النخل ما قنوانها دانية قريبة ومنها ما هي بعيدة عالية فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لشدة الاهتمام بها ولأنها أسهل تناولا من البعيدة لأن البعيدة تحتاج إلى كلفة وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ يعني وأخرجنا من ذلك بساتين من أعناب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يعني وأخرجنا شجر الزيتون وشجر الرمان مُشْتَبِهاً قال قتادة مشتبها ورقها مختلفا ثمرها لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعني ومنها غير متشابه في الورق والطعم. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع وإنما قدم الزرع على سائر الأشجار لأن الزرع غذاء وثمار أشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء، وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار وإنما ذكر العنب عقب النخلة لأنها من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال ثم ذكر عقيبه الرمان لما فيه من المنافع أيضا لأنه فاكهة ودواء ثم قال تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ يعني ونضجه وإدراكه. والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله تعالى هذه التمرة الرطبة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني

[سورة الأنعام (6): الآيات 100 إلى 102]

يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار قادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم وإنما احتج الله عليهم بتصريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعا ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها وإخراج سائر أنواع النبات والثمار منها وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى ليبين أنه تعالى كذلك قادر على أن يحييهم بعد موتهم ويبعثهم يوم القيامة فاحتج عليهم بهذه الأشياء لأنهم كانوا ينكرون البعث قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 102] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ قال الحسن: معناه أطاعوا الجن في عبادة الأوثان. وهو اختيار الزجاج. قال: معناه إنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة أثبتوا الشرك لاثنين في الخلق فقالوا الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الرازي عن ابن عباس. قال الإمام فخر الدين: وهذا مذهب المجوس. وإنما قال ابن عباس: هذا قول الزنادقة، لأن المجوس يلتبسون بالزندقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل من السماء سماه بالزند والمنسوب إليه زندي ثم عرب: فقيل: زنديق فإذا جمع، قيل: زنادقة. ثم إن المجوس قالوا: كل ما يكون في هذا العالم من الخير فهو من يزدان يعني النور وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس ثم اختلف المجوس فالأكثرون منهم على أن إبليس محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا: إنه قديم وعلى كلا القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. فإن قلت فعلى هذا القول إنما أثبتوا لله شريكا واحدا وهو إبليس فكيف حكى الله أنهم جعلوا له شركاء قلت: إن إبليس له أعوان من جنسه وحزبه وهم شياطين الجن يعملون أعماله فصح ما حكاه الله عنهم من أنهم جعلوا له شركاء الجن ومعنى الآية وجعلوا الجن شركاء لله واختلفوا في معنى هذه الشركة فمن قال إن الآية في كفار العرب قال إنهم لما أطاعوا الجن فيما أمروهم به من عبادة الأصنام فقد جعلوهم شركاء لله ومن قال إنها في المجوس قال إنهم أثبتوا إلهين اثنين النور والظلمة، وقيل إن كفار العرب قالوا الملائكة بنات الله وهم شركاؤه فعلى هذا القول فقد جعلوا الملائكة من الجن وذلك لأنهم مستورون عن الأعين. وقوله وَخَلَقَهُمْ في معنى الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الجن فيكون المعنى: والله خلق الجن فكيف يكون شريك الله من هو محدث مخلوق. والقول الثاني: إن الكناية تعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى: وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئا. وهذا كالدليل القاطع بأن المخلوق لا يكون شريكه لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى هو الخالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي اختلقوا وكذبوا يقال: اختلق واخترق على فلان إذا كذب عليه وذلك أن النصارى وطائفة من اليهود ادعوا أن لله ابنا، وكفار العرب ادعوا أن الملائكة بنات الله وكذبوا على الله جميعا فيما ادعوه وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع على فساد هذا القول لأن الولد جزء من الأب والله سبحانه وتعالى لا يتجزأ فثبت بهذا فساد قول من يدعي أن لله ولدا ثم نزه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد وعن هذه الأقاويل الفاسدة فقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى

[سورة الأنعام (6): الآيات 103 إلى 105]

عَمَّا يَصِفُونَ فقوله سبحانه فيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وقوله تعالى يعني هو المتعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد، أو يكون المعنى: المتعالي عن اتخاذ الولد والتشريك وقوله عَمَّا يَصِفُونَ يعني عما يصفونه به من الكذب. قوله عز وجل: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الإبداع عبارة عن تكوين الشيء على غير مثال سبق والله تعالى خلق السموات والأرض على غير مثال سبق أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ يعني من أين يكون له ولد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ لأن الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى ولا ينبغي أن تكون لله صاحبة لأنه ليس كمثله شيء وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يعني أن الصاحبة والولد في جملة من خلق لأنه خالق كل شيء وليس كمثله شيء فكيف يكون الولد لمن لا مثل له وإذا نسب الولد والصاحبة إليه فقد جعل له مثل والله تعالى منزه عن المثلية وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى عالم بجميع خلقه لا يعزب عن علمه شيء وعلمه محيط بكل شيء. قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني ذلكم الله الذي من صفته أنه خلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سبق إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هو ربكم الذي يستحق العبادة لا من تدعون من دونه من الأصنام لأنها جمادات لا تخلق ولا تضر ولا تنفع ولا تعلم والله تعالى هو الخالق الضار النافع لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يعني أنه هو الذي يستحق العبادة فاعبدوه وأطيعوه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعني أنه هو تعالى على كل شيء خلق رقيب حفيظ، يقوم بأرزاق جميع خلقه. [سورة الأنعام (6): الآيات 103 الى 105] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) قوله عز وجل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قال جمهور المفسرين معنى: الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته فالأبصار ترى البارئ جل جلاله ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به. وقال سعيد بن المسيب في تفسيره: قوله لا تدركه الأبصار، لا تحيط به الأبصار. وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به. ((فصل)) تمسك بظاهر الآية قوم من أهل البدع ووهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا: إن الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلا، لأن الله أخبر أن الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية، إذ لا فرق بين قوله أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أن قوله لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة وأن رؤيته غير مستحيلة عقلا واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة قال الله تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال الشافعي رحمه الله: حجب قوما بالمعصية وهي الكفر فثبت أن قوما يرونه بالطاعة وهي الإيمان وقال مالك لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكفار بالحجاب وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وفسروا هذه الزيادة بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى يوم القيامة.

وأما دلائل السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضامون في القمر ليلة البدر؟ قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم ترونه» كذلك أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي وليس عنده في أوله أن أناسا سألوا ولا في آخره ليس دونها سحاب. عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة؟ قال: نعم قلت وما آية ذلك من خلقه؟ قال: يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال: «فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله جل وأعظم» أخرجه أبو داود وأما الدلائل العقلية، فقد احتج أهل السنة أيضا بهذه الآية على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، وتقريره، أنه تعالى تمدح بقوله لا تدركه الأبصار فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل هذا التمدح لأن المعدوم لا يصح التمدح به فثبت أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد المدح، وهذا يدل على أنه تعالى جائز الرؤية وتحقيق هذا أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية. ثم إنه قدر على حجب الأبصار عنه كانت القدرة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة، لأن موسى صلى الله عليه وسلم سأل الرؤية بقوله: أرني أنظر إليك وذلك يدل على جواز الرؤية، إذ لا يسأل نبي مثل موسى ما لا يجوز ويمتنع وقد علق الله الرؤية على استقرار الجبل بقوله فإن استقر مكانه فسوف تراني. استقرار الجبل جائز. والمعلق على الجائز جائز. وأما الجواب عن تمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية في نفي الرؤية، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية، لأن الإدراك هو الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، والرؤية: المعاينة للشيء من غير إحاطة. وقد تكون الرؤية بغير إدراك كما قال تعالى في قصة موسى: قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم لكن قاربوا إدراكهم إياه فنفى موسى الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا والله تعالى يجوز أن يرى في الآخرة من غير إدراك ولا إحاطة لأن الإدراك هو الإحاطة بالمرئي وهو ما كان محدودا وله جهات والله تعالى منزه عن الحد والجهة لأنه القديم الذي لا نهاية لوجوده فعلى هذا أنه تعالى يرى ولا يدرك وقال قوم: إن الآية مخصوصة بالدنيا. قال ابن عباس في معنى الآية: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة وعلى هذا القول فلا فرق بين الإدراك والرؤية قالوا ويدل على هذا التخصيص قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقوله: يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ مقيد بيوم القيامة على هذا يمكن الجمع بين الآيتين وقال السدي: البصر بصران: بصر معاينة وبصر علم فمعنى قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يدركه علم العلماء ونظيره ولا يحيطون به علما هذا وجه حسن أيضا والله أعلم. وقوله تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يعني أنه تعالى يرى جميع المرئيات ويبصر جميع المبصرات لا يخفى عليه شيء منها ويعلم حقيقتها ومطلع على ماهيتها فهو تعالى لا تدركه أبصار المبصرين وهو يدركها وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قال ابن عباس: بأوليائه الخبير بهم. وقال الزهري: معنى اللطيف الرفيق بعباده. وقيل هو الموصل الشيء إليك برفق ولين. وقيل هو الذي ينسى عباده ذنوبهم لئلا يخجلوا وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء. وقال أبو سليمان الخطابي: اللطيف هو اللين بعباده يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويوصل إليهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. وقال الأزهري: اللطيف في أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده. وقيل: هو اللطيف حيث لم يأمر عباده بفوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم. وقيل: هو اللطيف بعباده حيث يثني

[سورة الأنعام (6): الآيات 106 إلى 108]

عليهم عند الطاعة ولم يقطع عنهم بره وإحسانه عند المعصية. وقيل: هو الذي لطف عن أن تدركه الأبصار وهو يدركها. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر: جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والحجج التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل. وقيل: إن الآيات والبراهين ليست في أنفسها بصائر إلا أنها لقوّتها توجب البصائر لمن عرفها ووقف على حقائقها فلما كانت هذه الآيات والحجج والبراهين أسبابا لحصول البصائر سميت بصائر فَمَنْ أَبْصَرَ يعني فمن عرف الآيات واهتدى بها إلى الحق فَلِنَفْسِهِ يعني فلنفسه أبصر ولها عمل لأنه يعود نفع ذلك عليه وَمَنْ عَمِيَ يعني ومن جهل ولم يعرف الآيات ولم يستدل بها إلى الطريق فَعَلَيْها يعني فعلى نفسه عمى ولها ضر وكان وبال ذلك العمى عليه لأن الله تعالى غني عن خلقه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم إنما أنا رسول من ربكم إليكم أبلغكم ما أرسلت به إليكم والله هو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم. وقيل معناه لا أقدر أن أدفع عنكم ما يريده الله بكم وقيل معناه لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل وهذا كان قبل الأمر بقتال المشركين فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآيات السيف وعلى القول الأول ليست منسوخة والله أعلم. قوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني وكذلك نبين الآيات ونفصلها في كل وجه كما صرفناها وبيناها من قبل وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يعني وكذلك نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا درست. وقيل: معناه لئلا يقولوا درست وقيل اللام فيه لام العاقبة ومعناه عاقبة أمرهم أن يقولوا درست يعني قرأت على غيرك. يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ. قال ابن عباس: وليقولوا، يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست يعني تعلمت من يسار وجبر وكانا عبدين من سبي الروم ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله وقال الفراء: معناه تعلمت من اليهود وقرئ دارست بالألف بمعنى قارأت أهل الكتاب من المدارسة التي هي بين اثنين يعني يقولون قرأت على أهل الكتاب وقرءوا عليك وقرئ درست بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء ومعناه أن هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة فدرست وانمحت من قولهم فرس الأثر إذا محي وذهب أثره وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني القرآن وقيل: معناه نصرف الآيات لقوم يعلمون. قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل: معنى الآية وكذلك نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشفى بها آخرون فمن أعرض عنها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: درست أو درست فهو شقي ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد وقال أبو إسحاق: إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات عليهم وهذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة يعني صار عاقبة أمرهم أن قالوا دارست فصار ذلك سببا لشقاوتهم وفي هذا دليل على أن الله تعالى جعل تصريف الآيات سببا لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم. [سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 108] اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) قوله تعالى: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك وهو القرآن فاعمل به وبلغه إلى البادي ولا تلتفت إلى قول من يقول: دارست أو درست. وفي قوله اتبع ما أوحي إليك من ربك تعزية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن الذي حصل له بسبب قولهم درست ونبه بقوله

تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أنه سبحانه وتعالى واحد فرد صمد لا شريك له وإذا كان كذلك فإنه تجب طاعته ولا يجوز تركها بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين وقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قيل: المراد منه في الحال لا الدوام وإذا كان كذلك لم يكن النسخ وقيل: المراد ترك مقالتهم فعلى هذا يكون الأمر بالإعراض منسوخة بآية القتال قوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا قال الزجاج: معناه لو شاء الله لجعلهم مؤمنين وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى خلافا للمعتزلة في قولهم لم يرد من أحد الكفر والشرك فالآية رد عليهم وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني: وما جعلناك يا محمد على هؤلاء المشركين رقيبا ولا حافظا تحفظ عليهم أعمالهم. وقال ابن عباس في رواية عطاء: وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم منّا ومعناه إنك لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب وإنما بعثت مبلّغا فلا تهتم بشركهم فإن ذلك بمشيئة الله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني وما أنت عليهم بقيّم تقوم بأرزاقهم وما أنت عليهم بمسيطر، فعلى التفسير الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى قول ابن عباس: لا تكون منسوخة. قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية قال ابن عباس: لما نزلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سبب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم وقال قتادة: كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله لأنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عز وجل. وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه فدعاه جاء النبي صلى الله عليه وسلم: فقال له أبو طالب: إن هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال له أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدت لكم الخراج؟ فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال: قولوا لا إله إلا الله «فأبوا ونفروا» فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فأنزلت: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني ولا تسبوا أيها المؤمنون الأصنام التي يعبدها المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم يعني فيسبوا الله ظلما بغير علم لأنهم جهلة بالله عز وجل. قال الزجاج: نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت عبدها المشركون. وقال ابن الأنباري: هذه الآية منسوخة أنزلها الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وقيل إنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان في بسبها طاعة وهو مباح لما يترتب على ذلك من المفاسد التي هي أعظم من ذلك وهو سب الله عز وجل وسب رسوله وذلك من أعظم المفاسد فلذلك نهوا عن سب الأصنام وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا آلهتكم فيسبوا ربكم فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم فظاهر الآية وإن كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقته النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك. وقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يعني كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان كذلك زينا لكل أمه عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه.

[سورة الأنعام (6): آية 109]

وقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ يعني المؤمن والكافر والطائع والعاصي فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الدنيا ويجازيهم على ذلك. [سورة الأنعام (6): آية 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) قوله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال محمد بن كعب القرظي والكلبي: قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كانت له عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى فأتنا بآية حتى نصدقك ونؤمن بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون. وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يدعو الله عز وجل أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبريل فقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوك لنعذبهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتوب تائبهم فأنزل الله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني وحلفوا بالله جهد أيمانهم يعني وحلفوا بالله جهد أيمانهم يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها. قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ يعني كما جاءت من قبلهم من الأمم لَيُؤْمِنُنَّ بِها يعني ليصدقن بها قُلْ يعني قل يا محمد إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ يعني أن الله تعالى قادر على إنزالها وَما يُشْعِرُكُمْ يعني: وما يدريكم. ثم اختلف في المخاطبين بقوله وما يشعركم فقيل هو خطاب للمشركين الذين أقسموا بالله وقيل هو خطاب للمؤمنين واختلفوا في قوله أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فقرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم إنها بكسر الألف على الابتداء وقالوا تم الكلام عند قوله وما يشعروكم على معنى وما يدريكم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فمن جعل الخطاب للمشركين قال معناه وما يشعركم أيها المشركون أنها يعني الآيات إنها إذا جاءت آمنتم. ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه وما يشعركم أيها المؤمنون إذا جاءت آمنوا لأن المؤمنين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم الله بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فقال تعالى إنها: إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عز وجل عليهم بأنهم لا يؤمنون وذلك لسابق علمه فيهم وقرأ الباقون أنها بفتح الألف وجعلوا الخطاب في ذلك للمؤمنين لأن المؤمنين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الآيات حتى يؤمن المشركون بها إذا رأوها لأن المشركين كانوا حلفوا أنهم إذا جاءتهم آية آمنوا وصدقوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الآيات لذلك فقال الله تعالى: وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فعلى هذا اختلفوا في لفظة لا من قوله لا يؤمنون فقيل هي صلة والمعنى وما يشعركم إنها إذا جاءت يؤمنون وقيل هي على بابها وفيه حذف والمعنى وما يشعركم أنها إذا جاءتهم يؤمنون أو لا يؤمنون وقيل إن بمعنى لعل في قوله إنها إذا جاءت وكذلك هو في قراءة أبيّ بن كعب لعلها إذا جاءت وهذا سائغ في كلام العرب تقول العرب: أئت السوق أنك تشتري لنا شيئا، بمعنى لعلك ومنه قول عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد يعني لعل منيتي.

[سورة الأنعام (6): الآيات 110 إلى 111]

[سورة الأنعام (6): الآيات 110 الى 111] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ قال ابن عباس: يعني ونحول بينهم وبين الإيمان فلو جئناهم بالآيات التي سألوها لما آمنوا بها. والتقليب هو تحويل الشيء وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر لأن الله تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني كما لم يؤمنوا بما قبل ذلك من الآيات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات الباهرات، وقيل: أول مرة يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء. وقال ابن عباس: المرة الأولى دار الدنيا يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم وفي الآية دليل على أن الله تعالى: يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه فيقيم ما شاء منها ويزيغ ما أراد منها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فمعنى قوله بقلب أفئدتهم نزيغها عن الإيمان ونقلب أبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة الصواب وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فعلى هذا تكون الكناية في به عائدة على الإيمان بالقرآن وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها. وقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني ونترك هؤلاء المشركين الذين سبق علم الله أنهم لا يؤمنون في تمردهم على الله واعتدائهم عليه يترددون لا يهتدون إلى الحق. قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ قال ابن جريج: نزلت في المستهزئين، وذلك أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش، فقالوا: يا محمد ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل وأرنا الملائكة يشهدن لك أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا فنزلت هذه الآية جوابا لهم. والمعنى: ولو أنا نزلنا إليهم الملائكة حتى يشهدوا لك بالرسالة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى يعني كما سألوا وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا يعني وجمعنا عليهم كل شيء قبلا قبيلا، قيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول ما آمنوا وهو قوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني إلا أن يشاء الله الإيمان منهم وفيه دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى حتى الإيمان والكفر، وموضع المعجزة أن الأشياء المحشورة منها ناطق ومنها صامت فإذا أنطق الله الكل حتى يشهدوا له بصحة ما يقول كان ذلك في غاية الإعجاز. وقيل قبلا من المقابلة والمواجهة، والمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة ومعاينة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أخبر الله أن الإيمان بمشيئة الله لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا لم يؤمنوا، وقال ابن عباس: ما كانوا ليؤمنوا هم أهل الشقاء إلا أن يشاء الله هم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أنهم يدخلون في الإيمان. وصحح الطبري قول ابن عباس قال: لأن الله عم بقوله ما كانوا ليؤمنوا القوم الذين تقدم ذكرهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ثم استثنى منهم أهل السعادة وهم الذين شاء لهم الإيمان. قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ يعني يجهلون أن ذلك كذلك ويحسبون أن الإيمان إليهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا، وليس الأمر كذلك بل الإيمان والكفر بمشيئة الله تعالى فمن شاء له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة أن الأشياء كلها بمشيئة الله تعالى ورد على القدرية والمعتزلة في قولهم: إن الله أراد الإيمان من جميع الكفار.

[سورة الأنعام (6): الآيات 112 إلى 113]

[سورة الأنعام (6): الآيات 112 الى 113] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا قيل هو منسوق على قوله تعالى كذلك زينّا لكل أمة عملهم، أي كما فعلنا ذلك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا. وقيل: معناه كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء كذلك جعلنا لك أعداء وفيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له يقول الله تبارك وتعالى: كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا ليعظم ثوابه على ما يكابده من أذى أعدائه وعدو واحد يراد به الجمع يعني جعلنا لكل نبي أعداء شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ اختلف العلماء في معنى شياطين الإنس والجن على قولين: أحدهما: أن المراد شياطين من الإنس وشياطين من الجن والشيطان كل عات متمرد من الجن والإنس وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وهو قول مجاهد وقتادة. قالوا: وشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح وأعياه ذلك استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تعوذت بالله من شيطان الجن والإنس قلت يا رسول الله وهل للأنس من شيطان؟ قال نعم هم شر من شياطين الجن» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي. القول الثاني: إن الجميع من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم، وهذا قول عكرمة والضحاك والكلبي والسدي. ورواية عن ابن عباس قالوا: والمراد بشياطين الإنس التي مع الإنس وبشياطين الجن التي مع الجن وذلك أن إبليس قسم جنده قسمين فبعث فريقا منهم إلى الجن وفريقا إلى الإنس فالفريقان شياطين الجن والإنس بمعنى أنهم يغوونهم ويضلّونهم وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه من المؤمنين والصالحين. ومن ذهب إلى هذا القول قال: يدل على صحته أن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة فعلى هذا يكون في الشياطين نوع مغاير للإنس والجن وهم أولاد إبليس. وقوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني يلقي ويسرّ بعضهم إلى بعض ويناجي بعضهم بعضا وهو الوسوسة التي يلقيها إلى من يريد إغوائه، فعلى القول الأول: إن شياطين الإنس والجن يسر بعضهم إلى بعض ما يفتنون به المؤمنين والصالحين، وعلى القول الثاني: إن أولاد إبليس يلقى بعضهم بعضا في كل حين فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضلّ أنت صاحبك بمثله ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقوله: زُخْرُفَ الْقَوْلِ يعني باطل القول والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف غُرُوراً يعني أن الشياطين يغرون بذلك القول الكذب المزخرف غرورا وذلك أن الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم بها غرورا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ يعني ما فعلوا الوسوسة التي يلقيها الشياطين في قلوب بني آدم، والمعنى أن الله تعالى لو شاء لمنع الشياطين من إلقاء الوسوسة إلى الإنس والجن ولكن الله يمتحن من يشاء من عباده بما يعلم أنه الأجزل له في الثواب إذا صبر على المحنة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ يعني فخلّهم يا محمد وما زين لهم إبليس وغرهم به من الكفر والمعاصي فإني من ورائهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 114 إلى 117]

قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قال ابن عباس: ولتميل إليه وأصل الصغو في اللغة الميل، يقال: أصغى إلى كذا مال إليه. ويقال صغوت أصغو وصغيت أصغى لغتان. قال ابن الأنباري: اللام في ولتصغى متعلقة بفعل مضمر معناه وفعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وقال غيره اللام متعلقة بيوحي تقديره ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول، ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به وهو قوله: وَلِيَرْضَوْهُ يعني يرضون ذلك القول المزخرف الباطل وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ يعني وليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون. [سورة الأنعام (6): الآيات 114 الى 117] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) قوله عز وجل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أفغير الله أطلب حكما قاضيا يقضي بيني وبينكم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكما، فأمره الله تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب والحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة، غير أن بعض أهل المعاني قال: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم من شأنه أن يحكم والحكم أهل أن يتحاكم إليه وهو الذي لا يحكم إلا بالحق فالله تعالى حكم لا يحكم إلا بالحق فلما أنزل الله على محمد القرآن فقد حكم له بالنبوة وهو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا يعني علماء اليهود والنصارى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ يعني يشهدون أن هذا القرآن منزل من عند الله وذلك لما ثبت عندهم بالدلائل الدالة على ذلك، وقيل المراد بهم علماء الصحابة ورؤساؤهم مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونظرائهم يعلمون أن هذا القرآن منزل من ربك بالحق فآمنوا به وصدقوه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يعني فلا تكونن يا محمد من الشاكّين أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله وقيل: معناه فلا تكونن في شك مما قصصنا عليك أنه حق وصدق فهو من باب التهييج لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط، وقيل: الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به غيره. والمعنى: فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك أنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى. قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وقرئ كلمات ربك على الجمع فمن قرأ على التوحيد قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال الشاعر في كلمته يعني في قصيدته، وكذلك القرآن كلمة واحدة لأنه شيء واحد في إعجاز النظم وكونه حقا وصدقا ومعجزا ومن قرأ بالجمع قال لأن الله قال في سياق الآية لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فوجب الجمع في اللفظ الأول اتباعا للثاني صِدْقاً وَعَدْلًا يعني صدقا فيما وعد وعدلا فيما حكم وقيل إن القرآن مشتمل على الأخبار والأحكام فهو صادق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية وعما هو كائن إلى قيام الساعة. وفيما أخبر عن ثواب المطيع في الجنة وعقاب العاصي في النار وهو عدل فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعني لا مغير لقضائه ولا رادّ لحكمه ولا خلف لمواعيده، وقيل: لما وصف كلماته بالتمام في قوله وتمت كلمة ربك والتمام في كلام الله لا يقبل النقص والتغيير والتبديل.

[سورة الأنعام (6): الآيات 118 إلى 120]

قال الله تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لأنها مصونة عن التحريف والتغيير والتبديل باقية إلى يوم القيامة وفي قوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ دليل على أن السعيد لا ينقلب شقيا ولا الشقي ينقلب سعيدا، فالسعيد من سعد في الأزل والشقي من شقي في الأزل وأورد على هذا أن الكافر يكون شقيا بكفره فيسلم فينقلب سعيدا بإسلامه وأجيب عنه بأن الاعتبار بالخاتمة فمن ختم له بالسعادة كان قد كتب سعيدا في الأزل ومن ختم له بالشقاوة كان شقيا في الأزل والله أعلم. وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ يعني لما يقول العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم قوله عز وجل: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون إن المشركين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة وذلك أنهم قالوا للمسلمين كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم؟ فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن تطع أكثر من في الأرض في أكل الميتة، وكان الكفار يومئذ أكثر أهل الأرض يضلوك عن سبيل الله، يعني يضلوك عن دين الله الذي شرعه لك وبعثك به وقيل معناه لا تطعهم في معتقداتهم الباطلة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل الله يعني يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم أخبر عن حال الكفار وما هم عليه فقال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أن هؤلاء الكفار الذين يجادلونك ما يتبعون في دينهم الذي هم عليه إلا الظن وليسوا على بصيرة وحق في دينهم وليسوا بقاطعين أنهم على حق لأنهم اتبعوا أهواءهم وتركوا التماس الصواب والحق واقتصروا على اتباع الظن والجهل وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني يكذبون وأصل الخرص الحزر والتخمين، ومنه خرص النخلة إذا حزر كمية ثمرتها على الظن من غير يقين ويسمى الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكاذبة وقيل: إن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص لأن قائله لم يقله عن علم ويقين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد إن ربك هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيّ الناس يضل عن سبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني وهو أعلم أيضا بمن كان على هدى واستقامة وسداد ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه فأخبر تعالى أنه أعلم بالفريقين الضال والمهتدي وأنه يجازي كلّا بما يستحق. [سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 120] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا جواب لقول المشركين حيث قالوا للمسلمين أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل ربكم؟ فقال الله تعالى للمسلمين فكلوا أنتم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وقيل كانوا يحرمون أصنافا من النعم ويحلون الميتة فقيل: أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، فعلى هذا القول تكون الآية خطابا للمشركين. وعلى القول الأول تكون الآية خطابا للمسلمين وهو الأصح لقوله في آخر الآية: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يعني وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا وما يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني وقد بين لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون. وقال جمهور المفسرين: المراد بقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم المحرمات المذكورة في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وأورد الإمام فخر الدين الرازي هاهنا إشكالا فقال: في سورة الأنعام مكية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، وقوله: وقد فصل يجب أن يكون ذلك المفصل متقدما على هذا المحل والمدني متأخر على

المكي فيمتنع كونه متقدما ثم قال بل الأولى أن يقال قوله تعالى بعد هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من المتأخر لا يمنع أن يكون هو المراد قال كاتبه ولما ذكره المفسرون وجه وهو أن الله لما علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول حسن عود الضمير في قوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلى ما هو متقدم في الترتيب وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية والله أعلم بمراده. قوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ يعني إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم ذلك عند الاضطرار وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني وإن كثيرا من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم أتأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما يذبحه الله، وإنما قالوا هذه المقالة جهلا منهم بغير علم منهم بصحة ما يقولون بل يتبعون أهواءهم ليضلوا أنفسهم وأتباعهم بذلك. وقيل: المراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من بحر البحائر وسيّب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم عليه السلام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ يعني إن ربك يا محمد هو أعلم بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فهو يجازيهم على سوء صنيعهم. قوله عز وجل: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعني وذروا أيها الناس ما يوجب الإثم وهي الذنوب والمعاصي كلها سرها وعلانيتها قليلها وكثيرها، قال الربيع بن أنس: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يعمل به سرا وعلانية وقال سعيد بن جبير: في هذه الآية الظاهر منه قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ونكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات والباطن الزنا، وقال السدي: أما الظاهر فالزواني في الحوانيت وهنّ أصحاب الرايات. وأما الباطن فالمرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سرا، وقال الضحاك: كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون أن ذلك حلالا ما كان سرا فحرم الله السر منه والعلانية، وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف والباطن الزنا، وقال الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك إلى أن جاء الإسلام فنهى الله عن ذلك كله. وقيل: إن هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأصح لأن تخصيص العام بصورة معينة من غير دليل لا يجوز، فعلى هذا القول يكون معنى الآية وذروا ما أعلنتم به وما أسررتم من الذنوب كلها، قال ابن الأنباري: وذروا الإثم من جميع جهاته. وقيل: المراد بظاهر الإثم الإقدام على الذنوب من غير مبالاة وباطنه ترك الذنوب لخوف الله عز وجل لا خوف الناس وقيل المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وباطنه أفعال القلوب فيدخل في ذلك الحسد والكبر والعجب إرادة السوء للمسلمين ونحو ذلك. وقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يعني إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويرتكبون ما حرم عليهم من المعاصي وغيرها سَيُجْزَوْنَ يعني في الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يعني بما كانوا يسكبون في الدنيا من الآثام وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب أنه مخصوص بمن لم يتب لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب العبد من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وزاد أهل السنة في ذلك، فقالوا: المذنب إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قال بن عباس: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام اهـ. ((فصل)) اختلف العلماء في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء تركها عامدا أو

[سورة الأنعام (6): الآيات 121 إلى 122]

ناسيا: وهو قول ابن سيرين والشعبي ونقله الإمام فخر الدين الرازي عن مالك، ونقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام. احتجوا في ذلك بظاهر هذه الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة: إن ترك التسمية عامدا لا تحل وإن تركها ناسيا تحل. وقال الشافعي: تحل الذبيحة سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا، ونقله البغوي عن ابن عباس ومالك ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين: فيما إذا ترك التسمية عامدا وإن تركها ناسيا حلت فمن أباح أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها قال: المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم الأصنام بدليل أنه قال تعالى في سياق الآية وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق واحتجوا أيضا في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله إن هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا قال اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» قالوا لو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح وقول الشافعي في أول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة وهي قوله وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم أنكم لمشركون علمنا أن المراد من هذا العموم هو الخصوص والفسق ذكر اسم غير الله في الذبح ما قال في آخر السورة قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلى قوله أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فصار هذا الفسق الذي أهلّ لغير الله به مفسرا لقوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وإذا كان كذلك كان قوله: [سورة الأنعام (6): الآيات 121 الى 122] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصا بما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والله أعلم. وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ يعني أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم ويخاصموا محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال: الله قتلها قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله عز وجلّ هذه الآية، وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية في تحريم الميتة كتبت فارس، وهم المجوس، إلى مشركي قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له إن ما ذبحت فهو حلال، وما ذبحه الله فهو حرام فأنزل الله: وأن الشياطين، يعني مردة الإنس وهم المجوس، ليوحون إلى أوليائهم، يعني مشركي قريش، وكان بين فارس والعرب مولاة ومكاتبة على الروم، فعلى هذا يكون المراد بالوحي المكاتبة في خفية وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في أكل الميتة، وما حرم الله عليكم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يعني أنكم إذا مثلهم في الشرك، قال الزجاج: فيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك إنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما غير الله عز وجل ومن كان كذلك فهو مشرك. قوله عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يعني أو من كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان وإنما جعل الكفر موتا لأنه جعل الإيمان حياة لأن الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبهه بالحياة وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعني وجعلنا له نورا يستضيء به في الناس ويهتدي به إلى قصد السبيل، قيل: النور هو الإسلام لأنه يخلص من ظلمات الكفر لقوله: يخرجهم من الظلمات إلى النور.

[سورة الأنعام (6): الآيات 123 إلى 124]

وقال قتادة: هو كتاب الله القرآن لأنه بينة من الله مع المؤمن بما يعمله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ يعني كمن هو في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها يعني من تلك الظلمات وهذا مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها ليس بخارج منها فيكون متحيرا على الدوام، ثم اختلف المفسرون في هذين المثالين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو هما عامّان في كل مؤمن وكافر؟ فذكروا في ذلك قولين: أحدهما أن الآية في رجلين معينين ثم اختلفوا فيهما فقال ابن عباس في قوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يريد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم كمن مثله في الظلمات يريد بذلك أن أبا جهل بن هشام وذلك أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل وجعل يضربه بالقوس، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولا تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلم حمزة يومئذ فأنزل الله هذه الآية. وقال الضحاك: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وقال مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وذلك أن أبا جهل قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسي رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن حتى يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية. والقول الثاني: وهو قول الحسن في آخرين أن هذه الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر وهذا هو الصحيح لأن المعنى إذا كان حاصلا في الكل دخل فيه كل أحد. وقوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله زينّا لهم أعمالهم ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصوله لا يكون إلا بخلق الله تعالى فدل ذلك على أن المزين هو الله تعالى، وقالت المعتزلة المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم. [سورة الأنعام (6): الآيات 123 الى 124] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) وقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها يعني وكما جعلنا في مكة أكابر، وعظماء جعلنا في كل قرية أكابر وعظماء، وقيل: هو معطوف على ما قبله. ومعناه: كما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية أكابر جمع الأكبر ولا يجوز أن يكون مضافا لأنه لا يتم المعنى في بل الآية تقديم وتأخير تقديره: وكذلك جعلنا كل قرية أكابر «مجرميها» وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على المكر والغدر وترويج الباطل بين الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رئاستهم وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فسّاقهم أكابرهم لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة: المكر، الخديعة والحيلة والغدر والفجور. زاد بعضهم والغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة وترويج الباطل. قال ابن عباس: معناه ليقولوا فيها الكذب. وقال مجاهد: جلس على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقولوا هو كذاب ساحر كاهن فكان هذا مكرهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ يعني ما يحيق هذا المكر إلا بهم لأن وبال مكرهم يعود عليهم وَما يَشْعُرُونَ يعني أن وبال ذلك المكر يعود عليهم ويضرهم.

[سورة الأنعام (6): آية 125]

قوله عز وجل: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يعني النبوة وذلك أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فأنزل الله هذه الآية. وإذا جاءتهم آية، يعني حجة بينة ودلالة واضحة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: يعني الوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام أو كل واحد من رؤساء الكفر ويدل عليه الآية التي قبلها وهي قوله وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها فكان من مكر كفار قريش أن قالوا لن نؤمن لك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله يعني النبوة وإنما قالوا هذه المقالة الخبيثة حسدا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وفي قولهم لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله قولان: أحدهما: وهو المشهور أن القوم أرادوا أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين. القول الثاني: وهو قول الحسن ومنقول عن ابن عباس أن المعنى: وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لن نؤمن لك يعني لن نصدقك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله يعني حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل بصدقك بأنك رسول الله، فعلى هذا القول لم يطلبوا النبوة وإنما طلبوا أن تخبرهم الملائكة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله تعالى. وعلى القول الأول أنهم طلبوا أن يكونوا أنبياء ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يعني أنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها ويعلم من لا يستحقها ومن ليس بأهل لها، وأنتم لستم لها بأهل وأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها، خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر. وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعثة مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم فيقال إنما كانوا رؤساء مطاعين فاتبعهم قومهم لأجل ذلك فكان الله تعالى أعلم بمن يستحق الرسالة فجعلها ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد وغيرهما من أكابر قريش ورؤسائها وقوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ أي ذلة وهوان. وقيل الصغار هو الذل الذي تصغر إلى المرء نفسه فيه عِنْدَ اللَّهِ يعني هذا من عند الله وقيل إن هذا الصغار ثابت لهم عند الله فعلى هذا القول إنما يحصل لهم الصغار في الآخرة وقيل معناه سيصيبهم صغار بحكم الله حكم به عليهم في الدنيا وَعَذابٌ شَدِيدٌ يعني في الآخرة بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يعني إنما حصل لهم هذ الصغار والعذاب بسبب مكرهم وحسدهم وطلبهم ما لا يستحقون. [سورة الأنعام (6): آية 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي الإيمان. يقال: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول الإيمان والخير فتوسع وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر مال بطبعه إليه وقويت رغبته فيه فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر. وقيل الشرح الفتح والبين ويقال شرح فلان أمره إذا: أوضحه وأظهره. وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فأوضحها وبينها فقد ثبت أن للشرح معنين: أحدهما: الفتح ومنه يقال شرح الكافر بالكفر صدرا أي فتحه لقبوله ومنه قوله تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً وقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني فتحه ووسعه لقبوله.

والثاني: أن الشرح نور يقذفه الله في قلب العبد فيعرف بذلك النور الحق، فيقبله وينشرح صدره له ومعنى الآية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ للإيمان بالله وبرسوله وبما جاء به من عنده يوفقه له ويشرح صدره، لقبوله ويهونه عليه ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه فيضيء به ويتسع له صدره ولما نزلت هذه الآية سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح» قيل فهل لذلك أمارة قال: «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» وأسنده الطبري عن ابن مسعود قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قال «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت». وقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أي الله أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يعني يجعل صدره ضيقا حتى لا يدخله الإيمان، وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك. وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية وعنده أعرابي من كنانة فقال له: ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. وأصل الحرج الضيق وهو مأخوذ من الحرجة وهي الأشجار الملتف بعضها على بعض حتى لا يصل إليه شيء. وقرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه، فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر. قال أهل المعاني: لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات وصف الله تعالى قلب من يريد هدايته بالانشراح والانفساح ونوره فقبل ما أودعه من الإيمان بالله ورسوله ووصف قلب من يريد ضلالته بالضيق الذي هو خلاف الشرح والانفساح فدل ذلك على أن الله تعالى صير قلب الكافر بحيث لا يعي علما ولا استدلالا على توحيد الله تعالى والإيمان به وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر. وقوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يعني أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك، وقيل: يجوز أن يكون المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء نبوا عن الإسلام وتكبرا، وقيل: ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى السماء وليس يقدر على ذلك، وقيل: هو من المشقة وصعوبة الأمر فيكون المعنى أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام فإنه يتكلف مشقة وصعوبة في ذلك كمن يتكلف إلى السماء وليس يقدر على ذلك كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الكاف في كذلك تفيد التشبيه وفيه وجهان: الأول معناه أن جعله الرجس عليهم كجعله صدورهم ضيقة حرجة والمعنى كما جعلنا صدورهم ضيقه حرجة كذلك يجعل الله الرجس عليهم. والوجه الثاني: قال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك كذلك يجعل الله الرجس. قال ابن عباس: الرجس الشيطان أي فيسلطه الله عليهم، وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وفي رواية عن ابن عباس أن الرجس العذاب، وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 إلى 128]

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 128] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) قوله عز وجل: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً يعني وهذا الذي بيّنّا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن هو صراط ربك يعني دينه الذي شرعه لعباده ورضيه لنفسه وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه. قال ابن عباس: في قوله وهذا صراط ربك مستقيما يعني الإسلام، وقال ابن مسعود: يعني القرآن لأنه يؤدي من تبعه وعمل به إلى طريق الاستقامة والسداد قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قد فصلنا آيات القرآن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب والحلال والحرام والأمر والنهي وغير ذلك من أحكام القرآن لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يعني لمن يتذكر بها ويتعظ بما فيها من المواعظ والعبر. قال عطاء: يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني الجنة في قول جميع المفسرين. قال الحسن والسدي: السلام هو الله تعالى وداره الجنة. معنى السلام في أسماء الله تعالى ذو السلام وهو جمع سلامة لأنه تعالى ذو السلامة من جميع الآفات والنقائص فعلى هذا القول أضيفت الدار إلى السلام الذي هو اسم الله تعالى إضافة تشريف وتعظيم كما قيل للكعبة بيت الله وللنبي صلى الله عليه وسلم عبد الله في قوله «وأنه لما قام عبد الله يدعوه»، واحتج لصحة هذا بأن في إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية تشريفها وتعظيمها فكان ذكر الإضافة مبالغة في تعظيم أمرها. وقيل إن السلام صفة للدار لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع فعلى هذا يكون السلام بمعنى السلامة كأنه قال دار السلامة التي لا يلقون فيها شيئا يكرهونه. وقيل سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة كما قال تعالى في وصفها ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وقال تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وقال سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني أن الجنة معدة مهيأة لهم عند ربهم حتى يوصلهم إليها وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أنه تعالى يتولى أمرهم وإيصال المنافع إليهم ويدفع المضار عنهم. وقيل معناه أنه يتولاهم في الدنيا بالتوفيق والهداية وفي الآخرة بالجزاء والجنة. وقيل: الولي هو الناصر والقريب يعني أنه تعالى ينصرهم في الدنيا ويقربهم في الآخرة بسبب أعمالهم الصالحة التي كانوا يتقربون بها إليه في الدنيا قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي اذكر يا محمد يوم نحشر المعادلين بالله الأصنام مع أوليائهم من الشياطين يعني نحشر المشركين والشياطين جميعا يوم القيامة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه حذف تقديره يقول لهم يا معشر الجن والمعشر الجماعة والمراد من الجن الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني من إضلالهم وإغوائهم وقال ابن عباس: معناه أضللتم كثيرا من الإنس وهذا التفسير لا بد له من تأويل آخر لأن الجن لا يقدرون على إضلال الإنس وإغوائهم بأنفسهم لأنه لا يقدر على الإجبار أحد إلا الله لأنه هو المتصرف في خلقه بما شاء فوجب أن يكون المعنى: قد استكثرتم من الدعاء إلى الإضلال مع مصادفة القبول من الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ يعني استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن فأما استمتاع الإنس بالجن فقال الكلبي: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فنزل بأرض قفراء وخاف على نفسه من الجن قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوارهم. وأما استمتاع الجن بالإنس فهم أنهم قالوا سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم. وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم الأمور التي كانوا يهوونها وتسهيل سبلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس للجن، فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي، وقيل: استمتاع الإنس بالجن فيما كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات وأصناف الطيبات ويسهلونها عليهم واستمتاع الجن بالإنس هي طاعة الإنس للجن، فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم

[سورة الأنعام (6): الآيات 129 إلى 130]

فصاروا كالرؤساء للإنس والإنس كالأتباع. وقيل: إن قوله ربنا استمتع بعضنا ببعض هو من كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر نادر لا يكاد يظهر، أما استمتاع الإنس بعضهم ببعض فهو ظاهر فوجب حمل الكلام عليه وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة الندامة، قال الحسن والسدي: لأجل الموت. وقيل: هو وقت البعث للحساب في يوم القيامة قالَ يعني قال الله لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجن والإنس النَّارُ مَثْواكُمْ يعني أن النار مقامكم ومقركم فيها ومصيركم إليها خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين في نار جهنم أبدا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ اختلفوا في معنى هذا الاستثناء فقيل: معناه خالدين فيها إلا قدر مدة بعثهم ووقوفهم للحساب إلى حين دخولهم إلى النار فإن هذا الوقت ليسوا بخالدين فيه في النار، وقيل: المراد من الاستثناء هو أوقات نقلتهم من عذاب إلى عذاب آخر وذلك أنهم يستغيثون من النار فينقلون إلى الزمهرير ثم يستغيثون منه فينقلون إلى النار فكانت مدة نقلتهم هي المراد من هذا الاستثناء. ونقل جمهور المفسرين عن ابن عباس أنه قال: إن هذا الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم فيخرجون من النار قالوا فعلى هذا التأويل تكون ما في قوله إلا ما شاء الله، بمعنى من يعني إلا ما شاء الله ونقل الطبري عن ابن عباس أنه كان يتأول هذا الاستثناء بأن الله عز وجل جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابهم إلى مشيئته، وقال في هذه الآية: إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا. قال الزجاج: والقول الأول أولى لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هو يوم القيامة ثم قال خالِدِينَ فِيها منذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدة محاسبتهم. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ يعني في تدبير خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله. وقيل حكيم فيما يفعله من ثواب الطائع وعقاب العاصي وفي سائر وجوه المجازاة عَلِيمٌ يعني بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون كأنه قال إنما حكمت لهؤلاء الكفار بالخلود في النار، لعلمي بأنهم يستحقون ذلك. [سورة الأنعام (6): الآيات 129 الى 130] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) قوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً الكاف في كذلك كاف التشبيه تقتضي شيئا تقدم ذكره فالتقدير كما أنزلت العذاب بالجن والإنس الذين استمتع بعضهم ببعض كذلك نولي بعض الظالمين بعضا أي نسلط بعضهم على بعض فنأخذ من الظالم بالظالم كما جاء في الأثر: «من أعان ظالما سلطه الله عليه» وقال قتادة: نجعل بعضهم أولياء بعض فالمؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان. وفي رواية أخرى عن قتادة قال: يتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة، وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس الجن وظلمة الجن ظلمة الإنس يعني نكل بعضهم إلى بعض. وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية وأن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى عليهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى عليهم شرارهم فعلى هذا القول إن الرعية متى كانوا ظالمين سلط الله عز وجل عليهم ظالما مثلهم فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظالم فليترك الظلم. وقوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني يسلط عليهم من يظلمهم بسبب أعمالهم الخبيثة التي اكتسبوها. قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ المعشر كل جماعة أمرهم واحد والجمع معاشر لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية وهل كان من الجن رسل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه لم يكن من

الجن رسول وإنما كانت الرسل من الإنس وأجابوا عن قوله رسل منكم يعني من أحدكم وهم الإنس فحذف المضاف فهو كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وهو جائز في كل ما اتفق في أصله فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج ومذهب جمهور أهل العلم. قال الواحدي: وعليه دل كلام ابن عباس لأنه قال يريد أنبياء من جنسهم ولم يكن من جنس الجن أنبياء وذهب قوم إلى أنه أرسل إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس رسلا منهم. قال الضحاك: من الجن رسل كما من الإنس رسل وظاهر الآية يدل على ذلك لأنه تعالى قال: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فخاطب الفريقين جميعا وأجيب عن ذلك بأن الله تعالى قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ وهذا يقتضي كون الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وكان هذا القول أولى من حمل لفظ الآية على ظاهرها فثبت بذلك كون الرسل من الإنس لا من الجن، ويحتمل أيضا أن يقال إن كافة الرسل كانوا من الإنس لكن الله تعالى يلقى الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل من الإنس ثم يأتوا قومهم من الجن فيخبروهم بما سمعوا من الرسول ينذرهم به كما قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ- إلى- فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فكان أولئك النفر من الجن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم وهذا مذهب مجاهد فإنّ الرسل من الإنس والنذر من الجن ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة. وقيل: كانت الرسل يبعثون إلى الجن من الجن، ولكن بواسطة رسل الإنس والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني ويحذرونكم ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة وذلك أن الله تعالى يقول يوم القيامة يوم لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ ما أخبر في كتابه، وهو قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الآية فيجيبون بما أخبر عنهم في قوله تعالى: الُوا يعني كفار الجن والإنس هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا اعترفوا بأن الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذروهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا إنما كان ذلك بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا. فإن قلت كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا الشرك والكفر في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. قلت: يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فإذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الخير والفضل والكرامة أنكروا الشرك لعل ذلك الإنكار ينفعهم، وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فحينئذ يختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر فذلك قوله تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. فإن قلت لما كرر شهادتهم على أنفسهم، قلت: شهادتهم الأولى اعتراف منهم بما كانوا عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتكذيب الرسل وفي قوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ولذاتها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والمقصود من شرح حالهم تحذير السامعين وضجر لهم عن الكفر والمعاصي. وقوله عز وجل:

[سورة الأنعام (6): الآيات 131 إلى 134]

[سورة الأنعام (6): الآيات 131 الى 134] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) وذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وقال الزجاج: معناه ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبهم أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ يعني لأنه لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ قال الكلبي: معناه لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل فتنهاهم فإن رجعوا وإلا أتاهم العذاب، وهذا قول جمهور المفسرين قال الفراء: يجوز أن يكون المعنى لم يكن ليهلكهم بظلم منه وَأَهْلُها غافِلُونَ أي: وهم غافلون فعلى قول الجمهور: يكون الظلم فعلا للكفار وهو شركهم وذنوبهم التي عملوها، وعلى قول الفراء: إنه لو أهلكهم قبل بعثة الرسل لكان ظالما والله عز وجل يتعالى عن الظلم. والقول الأول: أصح، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، غير أنه أخبر أنه لا يعذب قبل بعثة الرسل ولو فعل ذلك لم يكن ظلما منه قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا يعني ولكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات، يعني منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج وهذا إنما يكون في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا فمنهم من هو أعظم ثوابا ومنهم من هو أشد عقابا، وهو قول جمهور المفسرين وقيل: إن قوله تعالى وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم. وقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ مختص بأهل الكفر والمعاصي ففيه وعيد وتهديد لهم. والقول الأول أصح، لأن علمه تعالى شامل لكل المعلومات فيدخر فيه المؤمن والكافر والطائع والعاصي وأنه عالم بأعمالهم على التفصيل التام فيجزي كل عامل على قدر عمله وما يليق به من ثواب أو عقاب. قوله عز وجل: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يعني عن خلقه وذلك أنه تعالى لما بيّن أن لكل عامل بطاعة أو معصية درجة على قدر عمله بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والعاصين بالعقاب ليس لأنه محتاج إلى طاعة المطيع أو منتقص بمعصية العاصي بل هو الغني على الإطلاق وأن جميع الخلق فقراء إليه ذُو الرَّحْمَةِ قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته، وقال الكلبي: بخلقه ذو التجاوز عنهم فمن رحمته تأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني يهلككم. الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم وَيَسْتَخْلِفْ يعني وينشئ ويخلق مِنْ بَعْدِكُمْ يعني من بعد إهلاككم ما يَشاءُ يعني خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ اختلف عبارات المفسرين في هذه اللفظة فقال البغوي: يعني آباءهم الماضين قرنا بعد قرن، ونحوه قال الواحدي وصاحب الكشاف: يعني من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام. وقال الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت. وأما قوله ما يَشاءُ فالمراد منه خلق ثالث أو رابع واختلفوا فيه، فقال بعضهم: خلقا آخر من أمثال الجن والإنس. قال القاضي: وهو الوجه الأقرب لأن القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى كمل خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس

[سورة الأنعام (6): الآيات 135 إلى 37]

دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي الثواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء الأقوام الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل منهم سواهم ثم بيّن الله تعالى قوة قدرته على ذلك فقال: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لأن المرء إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان كذلك فكما قدر على تصوير هذه الأجسام بهذه الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم خلقا آخر مخالفا لها هذا آخر كلامه. وقال الطبري في قوله «كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين» يقول كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم ومعنى من في هذا الموضع التعقيب كما يقال في الكلام أعطيتك من دينارك ثوبا يعني مكان الدينار ثوبا لا أن الثوب من الدينار بعض. كذلك الذين خوطبوا بقوله «كما أنشأكم» لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين ولكن معنى ذلك ما ذكرنا أنهم أنشئوا مكان قوم آخرين قد أهلكوا قبلهم. قوله تعالى: إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة لَآتٍ يعني أنه كائن قريب وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني بفائتين حيثما كنتم يدرككم الموت. [سورة الأنعام (6): الآيات 135 الى 37] قُلْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد يا قَوْمِ أي قل لقومك من كفار قريش اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وقرئ مكاناتكم على الجمع والمكانة تكون مصدرا يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة كما يقال مقام ومقامة فقوله اعملوا على مكانتكم يحتمل أن يكون معناه اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أن يكون معناه اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها كما يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: مكانتك يا فلان أي أثبت على ما أنت عليه لا تتغير عنه. وقال ابن عباس معناه اعملوا على ناحيتكم إِنِّي عامِلٌ يعني إني عامل على مكانتي التي أنا عليها وما أمرني به ربي والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة فإني ثابت على الإسلام والمصابرة. فإن قلت ظاهر الآية يدل على أمر الكفار بالإقامة على ما هم عليه من الكفر وذلك لا يجوز. قلت: معنى هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه من الكفر فكأنه قال أقيموا على ما أنتم عليه من الكفر إن رضيتم لأنفسكم بالعذاب الدائم فهو كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ففيه تفويض أمر العمل إليهم على سبيل الزجر والتهديد وليس فيه إطلاق لهم في عمل ما أرادوه من الكفر والمعاصي. وقوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني لمن العاقبة المحمودة لنا أو لكم. وقيل معناه فسوف تعلمون عند نزول العذاب بكم أينا كان على الحق في عمله نحن أم أنتم مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني فسوف تعلمون غدا القيامة لمن تكون عاقبة الدار وهي الجنة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: معناه أنه لا يسعد من كفر بي وأشرك. ثم في هذه الآية قولان:

أحدهما: أنها محكمة وهذا على قول من يقول إن المراد بقوله اعملوا على مكانتكم الوعيد التهديد. والقول الثاني: أنها منسوخة بآية السيف وهذا على قول من يقول إن المراد بها ترك القتال. قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الآية لما بين الله عز وجل قبح طريقه الكفار وما كانوا عليه من إنكار البعث وغير ذلك عقبه بذكر أنواع من جهالاتهم وأحكامهم الفاسدة تنبيها على ضعف عقولهم وفساد ما كانوا عليه في الجاهلية فقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ يعني مما خلق من الحرث يعني الزرع والثمر والأنعام، يعني ومن الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم نصيبا يعني قسما وجزءا. قال المفسرون: كان المشركون في الجاهلية يجعلون لله من حروثهم وثمارهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا وللأصنام نصيبا فما جعلوه من ذلك لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه عليها وعلى خدمتها فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان. وقالوا: إنها محتاجة إليه. وكانوا إذا هلك شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به وإذا انتقص شيء مما جعلوه للأوثان جبروه مما جعلوه لله فذلك قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً وفيه اختصار تقديره وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا وللأصنام نصيبا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يعني قولهم الذي هو بغير حقيقة لأن معنى زعم حكاية قول يكون مظنة الكذب ولذلك لا يجيء إلا في موضع ذم لقائليه وإنما نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا الله بزعمهم وإن كانت الأشياء كلها لله لإضافتهم نصيب الأصنام مع نصيب الله وهو قولهم: وَهذا لِشُرَكائِنا يعني الأصنام وإنما سموا الأصنام شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يعني وما جعلوا لها من الحرث والأنعام فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يعني فلا يعطونه المساكين ولا ينفقونه على الضيفان وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ والمعنى أنهم كانوا يقرون ما جعلوه للأصنام مما جعلوه لله ولا يقرون ما جعلوه لله مما جعلوه للأصنام، وقال قتادة: كانوا إذا أصابتهم سنة قحط وشدة استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا مما جعلوه لشركائهم ولم يأكلوا منه شيئا. وقال الحسن والسدي: كانوا إذا هلك ما جعلوا لشركائهم أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون ذلك فيما جعلوه لشركائهم فلذلك ذمهم الله تعالى فقال: ساءَ ما يَحْكُمُونَ يعني: بئس ما يحكمون ويقضون وذلك أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله تعالى في الرعاية والحفظ وهذا سفه منهم. وقيل: إن الأشياء كلها لله عز وجل وهو خلقها فلما جعلوا للأصنام جزءا من المال وهي لا تملك ولا تخلق ولا تضر ولا تنفع نسبوا إلى الإساءة في الحكم والمقصود من ذلك بيان ما كانوا عليه في الجاهلية من هذه الأحكام الفاسدة التي لم يرد بها شرع ولا نص ولا يحسنها عقل. قوله عز وجل: وَكَذلِكَ عطف على قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً يعني كما فعلوا ذلك جهلا منهم كذلك زين لكثير منهم قتل أولادهم شركاؤهم. والمعنى أن جعلهم لله نصيبا من أموالهم ولشركائهم نصيبا في غاية الجهل بمعرفة الخالق المنعم لأنهم جعلوا الأصنام مثله في استحقاق النصيب وكذلك إقدامهم على قتل أولادهم في نهاية الجهالة أيضا فكأنه قال ومثل ذلك الذي فعلوه في القسم جهلا وخطأ وضلالا كذلك زَيَّنَ يعني حسّن لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ يعني به وأد البنات أحياء مخافة الفقر والعيلة شُرَكاؤُهُمْ يعني شياطينهم أمروهم أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من معصية الله وقتل الأولاد فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم وأضيف الشركاء إلى المشركين لأنهم أطاعوهم واتخذوهم أربابا، وقال الكلبي: شركاؤهم سدنة آلهتهم يعني خدامها وهم الذين كانوا يزينون ويحسنون للكفار قتل الأولاد وكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن آخرهم

[سورة الأنعام (6): الآيات 138 إلى 139]

كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله فعلى هذا القول، الشركاء هم السدنة وخدام الأصنام سموا شركاء لأنهم أشركوهم في الطاعة لِيُرْدُوهُمْ يعني ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به. والإرداء في اللغة: الإهلاك. قال ابن عباس: ليردوهم في النار وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ يعني وليخلطوا عليهم دينهم. قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل عليه السلام فرجعوا عنه بتلبيس الشياطين، وإنما فعلوا ذلك ليزيلهم عن الدين الحق الذي كان عليه إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فوضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ يعني ولو شاء الله لعصمهم من ذلك الفعل القبيح الذي زين لهم من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد أخبر الله عز وجلّ أن جميع الأشياء بمشيئته وإرادته إذ لو لم يشأ ما فعلوا ذلك فَذَرْهُمْ يعني فاتركهم يا محمد وَما يَفْتَرُونَ يعني وما يختلقون من الكذب على الله فإن الله لهم بالمرصاد. [سورة الأنعام (6): الآيات 138 الى 139] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قوله تعالى: وَقالُوا يعني المشركين هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أي حرام وأصله المنع لأنه منع من الانتفاع منه بتحريمه. وقيل: هو من التضييق والحبس لأنهم كانوا يحبسون أشياء من أنعامهم وحروثهم لآلهتهم. قال مجاهد: يعني بالأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ يعني يأكلها خدام الأصنام والرجال دون النساء: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني الحوامي وهي الأنعام التي حموا ظهورها عن الركوب فكانوا لا يركبونها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعني لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح وإنما كانوا يذكرون عليها أسماء الأصنام: وقيل معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر الله على فعل كل خير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير افْتِراءً عَلَيْهِ يعني أنهم كانوا يفعلون هذه الأفعال ويزعمون أن الله أمرهم بها وذلك اختلاق وكذب على الله عز وجل: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ فيه وعيد وتهديد لهم على افترائهم على الله الكذب. قوله عز وجل: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا يعني نساءنا، قال ابن عباس وقتادة والشعبي: أراد جنة البحائر والنساء جميعا وهو قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ودخلت الهاء في خالصة للتأكيد والمبالغة، كقولهم رجل علّامة ونسّابه. وقال الفراء: دخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنث بتأنيثها. وقال الكسائي: خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة وقيل: إذا كان اللفظ عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خالصة على المعنى وذكر ومحرم على اللفظ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ يعني سيكافئهم بسبب وصفهم على الله الكذب إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى حكيم فيما يفعله عليم بقدر استحقاقهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 140 إلى 141]

[سورة الأنعام (6): الآيات 140 الى 141] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر وكان الرجل يقاضي الرجل على أن يستحيي جارية ويئد أخرى فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عندها امرأته وقال لها أنت عليّ كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها فتخدّ لها في الأرض خدا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عليها ثم يتداولنها بينهن حتى إذا أبصرته راجعا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب. وقال قتادة: هذا من صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنه مخافة السبي والفاقة ويفدو كلبه. أما سبب الخسران المذكور في قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم: أن الولد نعمة عظيمة أنعم الله بها على الوالد فإذا تسبب الرجل في إزالة هذه النعمة عنه وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله به عليه. وأما خسارته في الآخرة فقد استحق بذلك العذاب العظيم. وقوله سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني فعلوا ذلك للسفاهة وهي الخفة والجهالة المذمومة وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه لأن الجهل كان هو الغالب عليهم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا جاهلية وقوله تعالى: وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعني البحائر والسوائب والحامي وبعض الحروث وبعض ما في بطون الأنعام، وهذا أيضا من أعظم الجهالة افْتِراءً عَلَى اللَّهِ يعني أنهم فعلوا هذه الأفعال المذمومة وزعموا أن الله أمرهم بذلك وهذا افتراء على الله وكذب وهذا أيضا من أعظم الجهالة لأن الجرأة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ولهذا قال تعالى: قَدْ ضَلُّوا يعني في فعلهم عن طريق الحق والرشاد وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يعني إلى طريق الحق والصواب في فعلهم (خ). عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى قوله قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يعني والله الذي ابتدع وخلق جنات يعني بساتين معروشات وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني مسموكات مرتفعات وغير مرتفعات وأصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف واعترش العنب العريش إذا علاه وركبه. واختلفوا في معنى قوله مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فقال ابن عباس: المعروشات ما انبسط على الأرض وانتشر مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ ونحو ذلك وغير معروشات ما قام على ساق ونسق كالنخل والزرع وسائر الشجر. وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأن منه ما يعرش ومنه ما لم يعرش بل يلقى على وجه الأرض منبسطا، وقيل: المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره وغير معروشات وهو ما أنبته الله في البراري والجبال من كرم أو شجر وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ يعني وأنشأ النخل والزرع وهو جميع الحبوب التي تقتات وتدخر مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعني به اختلاف الطعوم في الثمار كالحلو والحامض والجيد والرديء ونحو ذلك وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً يعني في المنظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعني في المطعم كالرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، وقيل: إن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ولكن ثمرتهما مختلفة في الجنس والطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ لما ذكر ما أنعم الله به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع من الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها، فقال تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر، وهذا أمر إباحة. وتمسك بهذا بعضهم فقال: الأمر قد يرد إلى غير الوجوب لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحجر. وقال بعضهم: المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الزكاة في الحبوب

والثمار كان يحتمل أن يحرم على المالك أن يأكل منها شيئا قبل إخراج الواجب فيها لمكان شركة الفقراء والمساكين معه فأباح الله أن يأكل قبل إخراجه لأن رعاية حق النفس مقدمة على رعاية حق الغير وقيل إنما قال تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر بصيغة الأمر ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء التي أنعم الله بها على عباده وهو الأكل وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني يوم جذاذه وقطعه. واختلفوا في هذا الحق المأمور بإخراجه، فقال ابن عباس وأنس بن مالك: هو الزكاة المفروضة. وهذا قول طاوس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وقتادة. قال قتادة في قوله «وآتوا حقه يوم حصاده» أي من الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم سن فيما سقت السماء والعين السائحة أو سقاه النيل والندى أو كان بعلا العشر كاملا وإن سقي بنضح أو سانية فنصف العشر وهذا فيما يكال من الثمرة أو الزرع وبلغ خمسة أوسق وذلك ثلاثمائة صاع فقد وجب فيها حق الزكاة وفي رواية عن ابن عباس في قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال هو العشر ونصف العشر. فإن قلت على هذا التفسير إشكال وهو أن فرض الزكاة كان بالمدينة وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل قوله وآتوا يوم حصاده على الزكاة المفروضة، قلت: ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس وقتادة: إن هذه الآية نزلت بالمدينة فعلى هذا القول تكون الآية محكمة نزلت في حكم الزكاة وإن قلنا إن هذه الآية مكية تكون منسوخة بآية الزكاة، لأنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وقيل في قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أنه حق سوى الزكاة فرض يوم الحصاد وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والثمر، وهذا قول علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد. قال إبراهيم: هو الضغث، وقال الربيع: هو لقاط السنبل، وقال مجاهد: كانوا يجيئون بالعذق عند الصرام فيأكل منه من مر. وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فما سقط منه أكله فعلى هذا القول هل هذا الأمر أمر وجوب أو استحباب وندب فيه قولان: أحدهما: أنه أمر وجوب فيكون منسوخا بآية الزكاة. وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي هل علي غيرها قال إلا أن تطوع. والقول الثاني: إنه أمر ندب واستحباب فتكون الآية محكمة، وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقا يؤمر بإخراجه في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخا بإيجاب العشر، ولقول ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن واختار هذا القول الطبري وصححه واختار الواحدي والرازي القول الأول وصححاه. فإن قلت: فعلى القول الأولى كيف تؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وإنما يجب الإخراج بعد التصفية والجفاف، قلت: معناه قدروا أداء إخراج الواجب منه يوم الحصاد فإنه قريب من زمان التنقية والجفاف ولأن النخل يجب إخراج الحق منه يوم حصاده وهو الصرام والزرع محمول عليه إلا أنه لا يمكن إخراج الحق منه إلا بعد التصفية. وقيل معناه وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التصفية، وقيل: إن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وبلوغه إنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه. قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا الإسراف تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان وإن كان في الإنفاق أشهر وقيل السراف تجاوز ما حد لك وسرف المال إنفاقه في غير منفعة. ولهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلا. قال ابن عباس في رواية عنه: عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء فأنزل الله هذه الآية

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 إلى 143]

وَلا تُسْرِفُوا قال السدي: معناه لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء. قال الزجاج فعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف لأنه قد صح في الحديث «ابدأ بمن تعول». وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة فتأويل الآية على هذا القول لا تجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول في البذل والإعطاء والثاني في الإمساك والبخل، وقال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا القول أيضا يرجع إلى مجاوزة الحد لأن من شرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له. وقال الزهري: معناه لا تنفقوا في معصية الله عز وجل. وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به في حق الله تعالى ولو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقته في طاعة الله لم تكن مسرفا ولو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله كنت مسرفا. وقال ابن زيد: إنما خوطب بهذا السلطان نهي أن يأخذ من رب المال فوق الذي ألزم الله ماله. يقول الله عز وجل للسلاطين: لا تسرفوا أي لا تأخذوا بغير حق فكانت الآية بين السلطان وبين الناس. وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار. قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 143] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْأَنْعامِ يعني وأنشأ من الأنعام حَمُولَةً وهي كل ما يحمل عليها من الإبل وَفَرْشاً يعني صغار الإبل التي لا تحمل. قال ابن عباس: الحمولة هي الكبار من الإبل والفرش هي الصغار من الإبل، وقال في رواية أخرى عنه ذكرها الطبري: أما الحمولة: فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه وأما الفرش فالغنم. وقال الربيع بن أنس: الحمولة: الإبل والبقر والفرش المعز والضان فالحمولة كل ما يحمل عليها من الأنعام والفرش ما لا يصلح للحمل سمي فرشا لأنه يفرش للذبح ولأنه قريب من الأرض لصغره كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يعني كلوا مما أحله الله لكم من هذه الأنعام والحرث وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام كما فعله أهل الجاهلية إِنَّهُ يعني الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أنه مبين العداوة لكم ثم بين الحمولة والفرش فقال عز وجل: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج يعني ثمانية أصناف والزوج في اللغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والواحد ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والمعز ذوات الشعر من الغنم والواحد ماعز والجمع معزى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ استفهام إنكار، أي: قل يا محمد لهؤلاء الجهلة الذكرين من الضأن والمعز حرم عليكم أم الأنثيين منهما، فإن كان حرم الذكرين من الغنم فكل ذكورها حرام وإن كان حرم الأنثيين منهما فكل إناثها حرام أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى نَبِّئُونِي أي أخبروني وفسروا لي ما حرمتم بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني أن الله حرم ذلك عليكم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 144 إلى 145]

[سورة الأنعام (6): الآيات 144 الى 145] وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ وهذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ وتفسير هذه الآية نحو ما تقدم وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من الله تعالى لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه الله وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال كما أخبر الله عنهم في كتابه فلما جاء الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف الجشمي فقال: يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حرمتم أصنافا من النعم على غير أصل وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ولم يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا مالك ألا تتكلم؟ فقال: بل أنت تتكلم وأسمع منك، قال المفسرون: فلو قال جاء التحريم من قبل الذكر بسبب الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى. وأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض دون البعض فمن أين ذلك التحريم؟ فاحتج الله على بطلان دعواهم بهاتين الآيتين وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن كل ما قالوه من ذلك وأضافوه إلى الله فهو كذب على الله وأنه لم يحرم شيئا من ذلك وأنهم اتبعوا في ذلك أهواءهم وخالفوا أمر ربهم. وذكر الإمام فخر الدين في معنى الآية وجهين آخرين ونسبهما إلى نفسه، فقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني إنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم. والوجه الثاني: إنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي مخصوصا بالإبل فالله تعالى بيّن أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة وهي: الضأن والمعز والبقر والإبل فلم لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم دون هذه الأنواع الثلاثة. قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين يزعمون أن الله حرم عليهم ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث هل شاهدتم الله حرم هذا عليكم ووصاكم به فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله عز وجل. ولما احتج الله عليهم بهذه الحجة وبين أنه لا مستند لهم في ذلك قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني فمن أشد ظلما وأبعد عن الحق ممن يكذب على الله ويضيف تحريم ما لم يحرمه الله إلى الله ليضل الناس بذلك ويصدهم عن سبيل الله جهلا منه إذ ليس هو على بصيرة وعلم في ذلك الذي ابتدعه ونسبه إلى الله ويقول إن الله أمرنا بهذا، قيل: أراد به عمرو بن لحي لأنه أول من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدع شيئا لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب

ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن الله لا يرشده ولا يوفق من كذب على الله وأضاف إليه ما لم يشرعه لعباده. قوله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ اعلم أنه لما بين الله تعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التضليل والتحريم من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبيّن أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي، فقال تعالى: قل أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم لا أجد فيما أوحي إليّ، وقيل إنهم قالوا فما المحرم إذا فنزل؟ قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً يعني شيئا محرما على طاعم يطعمه يعني على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يعني سائلا مصبوبا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي نجس أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ما ذبح على غير اسم الله تعالى فبين الله تعالى في هذه الآية أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي منه وأن المحرمات محصورة في الأربعة الأشياء المذكورة في هذه الآية وهي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله، وهذا مبالغة في أن التحريم لا يخرج عن هذه الأربعة وذلك أنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات إلا بالوحي وثبت أن الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة الأشياء ولهذا اختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب بعضهم إلى ظاهرها وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوان إلا ما ذكر في هذه الآية يروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وهو ظاهر مذهب مالك واحتجوا على ذلك بأن هذه الآية محكمة لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ واحتجوا بأن هذه الآية وإن كانت مكية لكن يعضدها آية مدنية وهي قوله تعالى في سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وكلمة إنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم، وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا التحريم لا يختص بهذه الأشياء المنصوص عليها في هذه الآية فإن المحرم بنص الكتاب هو ما ذكر في هذه الآية. وقد حرمت السنة أشياء فوجب القول بها: منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير. عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعفيهم بمثل قراه». عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو معفو وتلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الآية أخرجه أبو داود (م) عن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» (م) عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية» (ق) عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل» وفي رواية: «أكلنا من خيبر الخيل وحمر الوحش» ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة الأنعام (6): آية 146]

نهى عن أكل الهر وأكل ثمنه» وقد استثنى الشارع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال وأباح أكل ذلك وقد تقدم دليله. والأصل في ذلك عند الشافعي أن كل ما لم يرد فيه نص بتحريم أو تحليل فما كان أمر الشرع بقتله كما ورد في الصحيح «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور» وروي عن سعد بن أبي وقاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ» أخرجه البخاري ومسلم، وسماه فويسقا. وعن ابن عباس قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد» أخرجه أبو داود فهذا كله حرام لا يحل أكله وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادة العرب فما يستطيبه الأغلب منهم فهو حلال وما يستخبثه الأغلب منهم ولا يأكلونه فهو حرام لأن الله خاطبهم بقوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فما استطابوه فهو حلال فهذا تقرير ما يحل ويحرم من المطعومات. وأما الجواب عن هذه الآية الكريمة فمن وجوه: أحدها: أن يكون المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما أوحي إليّ في هذه الآية. الوجه الثاني: أن يكون المراد وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما غير ما ذكر ونص عليه في هذه الآية ثم حرم بعد نزولها أشياء أخر. الوجه الثالث: يحتمل أن هذا اللفظ العام خصص بدليل آخر، وهو ما ورد في السنة. الوجه الرابع: أن ما ذكر في هذه الآية محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما ورد في السنة من المحرمات والله أعلم. بقي في الآية أحكام في قوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال فإنهما حلال لأنهما دمان جامدان. وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل، قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس بذلك وإنما نهي عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود. وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لما بين الله المحرمات في هذه الآية أباح أكلها عند الاضطرار من غير بغي ولا عدوان، وفي قوله: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دليل على الرخصة والإباحة عند الاضطرار. [سورة الأنعام (6): آية 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قال ابن عباس: هو البعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب. وقيل كل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل البعير والنعامة والإوز والبط. قال القتيبي هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما يعني شحم الجوف وهي الثروب وشحم الكليتين إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما من الشحم فإنه غير محرم عليهم، وقال السدي

[سورة الأنعام (6): الآيات 147 إلى 148]

وأبو صالح: الألية مما حملت ظهورهما وهذا القول مختص بالغنم لأن البقر ليس لها ألية أَوِ الْحَوايا وهي المباعر، في قول ابن عباس وجمهور المفسرين واحدتها حاوية وحوية، وقيل: الحوايا المباعر والمصارين وهي الدوائر التي تكون في بطن الشاة والمعنى أن الشحم المتلصق بالمباعر والمصارين غير محرم على اليهود أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعني من شحم الألية لأنه اختلط بالعصعص وكذا الشحم المختلط بالعظام التي تكون في الجنب والرأس والعين فكل هذا حلال على اليهود فحاصل هذا أن الذي حرم عليهم شحم الثرب وشحم الكلية وما عدا ذلك فهو حلال عليهم (ق). عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح بمكة «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قوله: جملوه يعني أذابوه يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح. وقوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي ذلك التحريم جزيناهم عقوبة بِبَغْيِهِمْ يعني بسبب بغيهم وظلمهم وهو قتل الأنبياء وأخذ الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني في الإخبار عن بغيهم وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم. [سورة الأنعام (6): الآيات 147 الى 148] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني فإن كذبك اليهود يا محمد فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وأحللنا لهم مما بينّاه في هذه الآية المتقدمة فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يعني بتأخير العقوبة عنكم فإن رحمته تسع المسيء والمحسن فلا يعجل بالعقوبة على من كفر به أو عصاه وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ يعني ولا يرد عذابه ونقمته إذا جاء وقتهما عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر الله تعالى عنهم بما سيقولونه فقال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي قريش والعرب لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا يعني من قبل، قال المفسرون: جعلوا قولهم لو شاء الله ما أشركنا حجة على إقامتهم على الكفر والشرك. وقالوا: إن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي ما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغير ذلك، فقال الله عز وجل ردا وتكذيبا لهم كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من كفار الأمم الخالية الذي كانوا قبل قومك كذبوا أنبياءهم وقالوا مثل قول هؤلاء حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا يعني عذابنا. ((فصل)) استدل القدرية والمعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن القوم لما قالوا لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم بقوله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وأيضا فإن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار صريح مذهب الجبرية وهو قولهم لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك ولمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد له وإذا أراده منا امتنع تركه منا وأجيب عن هذا بأن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ثم ذكر عقيبة كذلك كذب الذين من قبلهم وهذا التكذيب ليس هو في قولهم لو شاء الله ما أشركنا، بل ذلك القول حق

[سورة الأنعام (6): الآيات 149 إلى 151]

وصدق ولكن الكذب في قولهم إن الله أمرنا به ورضي ما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والدليل أن التكذيب في قولهم إن الله أمرنا بهذا ورضيه منا لا في قولهم لو شاء الله ما أشركنا قوله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالتشديد ولو كان خبرا من الله عن كذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب وقال الحسن بن الفضل: لو قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون لما عابهم بذلك، ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون. وقيل في معنى الآية: إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة وهو قوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان والرد عليهم في ذلك أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمر بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام والله أعلم. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لو شاء الله ما أشركنا ولكنه رضي ما نحن عليه من الشرك هل عندكم يعني بدعواكم ما تدعون من علم يعني من حجة وكتاب يوجب اليقين من العلم فَتُخْرِجُوهُ لَنا يعني فتظهروا ذلك العلم لنا وتبينوه كما بينّا لكم خطأ قولكم وفعلكم وتناقض ذلك واستحالته في العقول إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله عليكم وتحسبون أنكم على حق وإنما هو باطل وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ يعني وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله الباطل. [سورة الأنعام (6): الآيات 149 الى 151] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وقوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين حين عجزوا عن إظهار علم الله أو حجة لهم فلله الحجة البالغة يعني التامة على خلقه بإنزال الكتاب وإرسال الرسل. قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله أو أشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يعني فلو شاء الله لوفقكم أجمعين للهداية ولكنه لم يشأ ذلك وفيه دليل على أنه تعالى لم يشأ إيمان الكافر ولو شاء لهداه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ يعني هاتوا وادعوا شهداءكم. وهلم كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى وفيها لغة أخرى يقال للواحد هلم وللاثنين هلما

وللجمع هلموا وللأنثى هلمي واللغة الأولى أفصح أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وهذا تنبيه من الله باستدعاء الشهود من الكافرين على تحريم ما حرموه على أنفسهم وقالوا إن الله أمرنا به ليظهر أن لا شاهد لهم على ذلك وإنما اختلقوه من عند أنفسهم فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وهذا تنبيه أيضا على كونهم كاذبين في شهادتهم فلا تشهد أنت يا محمد معهم لأنهم في شهادتهم كاذبون وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت يا محمد أهواءهم ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتابي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني يشركون. قوله عز وجل: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لما بين الله تعالى فساد مقالة الكفار فيما زعموا أن الله أمرهم بتحريم ما حرموه على أنفسهم فكأنهم سألوا وقالوا: أي شيء حرم الله فأمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم تعالوا تعال من الخاص الذي صار عاما وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. وقيل أصله أن تدعو الإنسان إلى مكان مرتفع وهو من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاه إلى ما فيه رفعة وشرف ثم كثر في الاستعمال، والمعنى: تعالوا وهلموا أيها القوم أتل عليكم يعني أقرأ ما حرم ربكم عليكم يعني الذي حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا شك فيه ولا ظنا ولا كذبا كما تزعمون أنتم بل هو وحي أوحاه الله إليّ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. فإن قلت: ترك الإشراك واجب فما معنى قوله أن لا تشركوا به شيئا لأنه كالتفصيل لما أجمله فيقوله حرم ربكم عليكم وذلك لا يجوز. قلت الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن يكون موضع أن رفع معناه هو أن لا تشركوا له. الوجه الثاني: أن يكون محل النصب، واختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه حرم عليكم أن تشركوا وتكون لا صلة. وقيل: إن حرف لا على أصلها ويكون المعنى: أتل عليكم تحريم الشرك أي لا تشركوا ويكون المعنى أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله وبالوالدين إحسانا محمول على: أوصيكم بالوالدين إحسانا. الوجه الثالث: أن يكون الكلام قد تم عند قوله حرم ربكم، ثم قال: عليكم أن لا تشركوا على الإغراء أو بمعنى فرض عليكم أن لا تشركوا به شيئا ومعنى هذا الإشراك الذي حرمه الله ونهى عنه هو أن يجعل الله شريكه من خلقه أو يطيع مخلوقا في معصية الخالق أو يريد بعبادته رياء وسمعة ومنه قوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. وقوله عز وجل: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وفرض عليكم ووصاكم بالوالدين إحسانا وإنما ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة الله لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئا ثم بعد نعمة الله نعمة الوالدين لأنهما السبب في وجود الإنسان ولما لهما عليه من حق التربية والشفقة والحفظ من المهالك في حال صغره وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ يعني من خوف الفقر، والإملاق: الإقتار. والمراد بالقتل، وأد البنات وهن أحياء فكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ يعني لا تئدوا بناتكم خوف العيلة والفقر فإني رازقكم وإياهم لأن الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ يعني الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يعني علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في السر والعلانية وقيل

[سورة الأنعام (6): آية 152]

إن الأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع الفواحش المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره لأن المعنى الموجب لهذا النهي هو كونه فاحشة فحمل اللفظ على العموم أولى من تخصيصه بنوع من الفواحش، وأيضا فإن السبب إذا كان خاصا لا يمنع من حمل اللفظ على العموم وفي قوله ما ظهر منها وما بطن دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر ولم يحترز منها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته فيما أمرها به أو نهى عنه ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم ومن كان كذلك استحق العقاب ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا لأجل خوف الله وتعظيما لأمره استوجب رضوان الله وثوابه وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ حرم الله تعالى قتل النفس إلا بالحق وقتها من جملة الفواحش المتقدم ذكرها في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيما لأمر القتل وإنه من أعظم الفواحش والكبائر، وقيل: إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك فقال: لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وهي التي أبيح قتلها من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم. (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة». وقوله تعالى: ذلِكُمْ يعني ما ذكر من الأوامر والنواهي المحرمات وَصَّاكُمْ بِهِ يعني أمركم به وأوجبه عليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني لكي تفهموا ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فتعملوا بها. قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): آية 152] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له. قال مجاهد: هو التجارة فيه وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه. ولا يأخذ من ربحه شيئا هذا إذا كان القيم بالمال غنيا غير محتاج فلو كان الوصي فقيرا فله أن يأكل بالمعروف حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ يعني احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. فأما الأشد فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشاب إلى حد الرجال. قال الشعبي ومالك: لأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات. وقال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته. وقال الكلبي: الأشد هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وقيل إلى أربعين وقيل إلى ستين سنة وقال الضحاك: الأشد عشرون سنة، وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة وقال مجاهد: الأشد ثلاث وثلاثون سنة وهذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه. والمراد بالأشد في هذه الآية، هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل من غير زيادة ولا نقصان لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه. لم يكلف المعطي أن يعطي أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد بما يسعه مما لا حرج عليه فيه وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا يعني في الحكم والشهادة وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني المحكوم عليه وكذا

[سورة الأنعام (6): الآيات 153 إلى 154]

المشهود عليه، وقيل: إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم والشهادة، بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زيادة فيه ولا نقصان وأداء الأمانة وغير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل والصدق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر ونحوه فيجب الوفاء به ذلِكُمْ يعني الذي ذكر في هذه الآيات وَصَّاكُمْ بِهِ يعني بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به. [سورة الأنعام (6): الآيات 153 الى 154] وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) قوله عز وجل وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ يعني وأن هذا الذي وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو صراطي يعني طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي مستقيما يعني قويما لا اعوجاج فيه فاتبعوه ويعني فاعملوا به. وقيل: إن الله تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به مفصلا أجمله في هذه الآية إجمالا يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه ويدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة وكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام هو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين وأمرهم باتباع جملته وتفصيله وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني الطرق المختلفة والأهواء المضلة والبدع الرديئة وقيل السبل المختلفة مثل: اليهود والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل الآية ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يعني باتباع دينه وصراطه الذي لا اعوجاج فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الطرق المختلفة والسبل المضلة. قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن من محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار. وعن ابن مسعود قال: من سرّه أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات- إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة. فإن قلت إتيان موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن وحرف ثم للتعقيب فما معنى ذلك؟ قلت دخلت ثم لتأخير الخير لا لتأخير النزول والمعنى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهو كذا وكذا إلى قوله تعالى لعلكم تتقون ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب وقيل إن المحرمات المذكورة في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ محرمات على جميع الأمم وجميع الشرائع فتقدير الكلام: ذلك وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب يعني بعد إيجاب هذه المحرمات وقيل معناه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم قال بعد ذلك يا محمد إنا آتينا موسى الكتاب فحذف لفظة قل لدلالة الكلام عليها. وقوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ اختلف أهل التفسير فيه فقيل معناه تماما على المحسنين من قومه فيكون الذي بمعنى أي تماما على من أحسن من قومه لأنه كان منهم محسن ومسيء وعلى قراءة ابن مسعود تماما على الذين أحسنوا، وقيل: معناه تماما على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى على المحسنين وهم الأنبياء

[سورة الأنعام (6): الآيات 155 إلى 157]

والمؤمنون أي أتممنا فضله عليهم بالكتاب، وقيل: الذي أحسن هو موسى فيكون الذي بمعنى ما أي على ما أحسن وتقديره وآتينا موسى الكتاب إتماما للنعمة عليه لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة وأداء الأمر. وقيل الإحسان بمعنى العلم وتقديره آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة زيادة له على ذلك وقيل معناه تماما مني على إحساني إلى موسى وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني: وفيه بيان لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين وأحكامه وَهُدىً يعني: وفيه هدى من الضلالة وَرَحْمَةً يعني: إنزاله عليهم رحمة مني عليهم لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب. [سورة الأنعام (6): الآيات 155 الى 157] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) قوله عز وجل: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني: القرآن لأنه كثير الخير والنفع والبركة ولا يتطرق إليه نسخ فَاتَّبِعُوهُ يعني: فاعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام وَاتَّقُوا يعني مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: ليكن الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل معناه لكي ترحموا على جزاء التقوى أَنْ تَقُولُوا يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا يعني أنزلنا إليكم الكتاب كراهية أن تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ وقيل: يجوز أن تكون أن متعلقة بما قبلها فيكون المعنى واتقوا أن تقولوا وهذا خطاب لأهل مكة والمعنى واتقوا يا أهل مكة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب والكتاب اسم جنس لأن المراد به التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا أي: وقد كنا وقيل وإنه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ يعني قراءتهم لَغافِلِينَ يعني: لا علم لنا بما فيها لأنها ليست بلغتنا. والمراد بهذه الآية إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم والمعنى: وأنزلنا القرآن بلغتهم لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وذلك أن جماعة من الكفار قالوا لو أنزل علينا ما أنزله على اليهود والنصارى لكنّا خيرا منهم وأهدى وإنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم وجودة فطنهم وذهنهم قال الله عز وجل: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو رحمة ونعمة أنعم الله بها عليكم فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم أو أكفر مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها يعني وأعرض عنها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ يعني أسوأ العذاب وأشده بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي ذلك العذاب جزاؤهم بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات الله قوله تعالى: [سورة الأنعام (6): آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) هَلْ يَنْظُرُونَ يعني: هل ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله وهو استفهام معناه النفي وتقديره الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث فإذا جاءتهم إحداها آمنوا وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني: لقبض أرواحهم وقيل أن تأتيهم بالعذاب أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يعني: للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيمة وقد تقدم الكلام في معنى الآية في

سورة البقرة عند قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ بما فيه كفاية وإن المجيء والذهاب على الله لمحال فيجب إمرارها بلا تكييف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قال جمهور المفسرين: هو طلوع الشمس من مغربها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» أخرجه مسلم. عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «أو يأتي بعض آيات ربك» قال: «طلوع الشمس من مغربها» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه» عن صفوان بن عسال المراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» وفي رواية «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (م) عن حذيفة بن أسد الغفاري قال اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا الساعة فقال «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم» (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا» وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية قال: «تصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين» زاد في رواية عنه «فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» وبسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما «أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها لا تنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي فتخر ساجدة في مستقرها تحت العرش فيقال لها اطلعي من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون أي يوم ذلك أقالوا: الله ورسوله أعلم. قال ذلك يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». وبسنده عن أبي ذر قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمار «فنظر إلى الشمس حين غربت فقال إنها تغرب في عين حمئة تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» وروي بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية من العشيات فقال لهم «عباد الله توبوا إلى الله قبل أن يأتيكم بعذاب فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب فإذا فعلت حبست التوبة وطوي العمل» فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون له ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقص ثم يأتون مضاجعهم

[سورة الأنعام (6): آية 159]

فينامون حتى إذا استيقظوا والليل مكانه فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم فإذا أصبحوا فطال عليهم رأت أعينهم طلوع الشمس فبينما هم ينظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» قال ابن عباس: لا ينفع مشركا إيمانه عند الآيات وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرا قبل ذلك. وقال ابن الجوزي قيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن الملحدة المنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم الله قدرته فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق فيتحقق عجزهم وقيل بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها. يروى عن ابن مسعود أنه قال: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة وطلوع الشمس من مغربها أو يأجوج ومأجوج. ويروى عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات طرحت التوبة وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال. ويروى عن أبي هريرة في قوله تعالى أو يأتي بعض الآيات ربك قال هي مجموع الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ورواه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلوع الشمس من مغربها وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعني لا ينفع من كان مشركا إيمانه ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أو عملت قبل ظهور هذه الآية خيرا من عمل صالح وتصديق. قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل منه قبل ذلك فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل الله عذابا على أمة فآمنوا وصدقوا فإنها لا ينفعهم إيمانهم ذلك لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة وقوله قُلِ انْتَظِرُوا يعني ما وعدتم به من مجيء الآية ففيه وعيد وتهديد إِنَّا مُنْتَظِرُونَ يعني ما وعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة أو قبله في الدنيا. قال بعض المفسرين: وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين والمكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الوقت والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبدا. وقيل إن قوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ المراد به الكف عن قتال الكفار فتكون الآية منسوخة بآية القتال وعلى القول الأول تكون الآية محكمة. [سورة الأنعام (6): آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا وقرئ فارقوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً يعني أحزابا متفرقة في الضلالة ومعنى فرقوا دينهم أنهم لم يجتمعوا عليه وكانوا مختلفين فيه فمن قرأ وفرقوا دينهم يعني جعلوا دينهم وهو دين إبراهيم الحنيفية السهلة أديانا مختلفة كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام ونحو ذلك من الأديان المختلفة، ومن قرأ فارقوا دينهم قال: معناه باينوه وتركوه من المفارقة للشيء. وقيل: إن معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد في الحقيقة وهو أن من فرق دينه فأمر ببعض وأنكر بعضا فارق دينه في الحقيقة ثم اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فقال الحسن: هم جميع المشركين لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا إنهم بنات الله وبعضهم عبدوا الكواكب فكان هذا تفريق دينهم. وقال مجاهد: هم اليهود. وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك: هم اليهود والنصارى لأنهم تفرقوا فكانوا فرقا مختلفة. وقال أبو هريرة: في هذه الآية هم أهل الضلالة من هذه الأمة وروى ذلك مراوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة» أسنده

[سورة الأنعام (6): الآيات 160 إلى 163]

الطبري، فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة. وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودّع فما تعهد إلينا؟ فقال «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داود والترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة «زاد في رواية» وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الترمذي. قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته. وقوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، التجاري تفاعل من الجري وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة والبدع المضلة تشبيها بجري الفرس والكلب. قال ابن مسعود «إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها» ورواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا. وقوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يعني: في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال وهذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود والنصارى والكفار، ومن قال: المراد من الآية أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة قال: معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم بريء وهم منك برآء. تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك ولست مني أي كل واحد منا بريء من صاحبه إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يعني في الجزاء والمكافأة ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني إذا وردوا القيامة. [سورة الأنعام (6): الآيات 160 الى 163] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها يعني مثلها في مقابلتها واختلفوا في هذه الحسنة والسيئة على قولين: أحدهما: أن الحسنة قول لا إله إلا الله والسيئة هي الشرك بالله، وأورد على هذا القول: إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها وأجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند الله فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء وإنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد وكذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها. والقول الثاني: إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة، وهذا أولى. لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم: التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن الله يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة ويعطي من

يشاء بغير حساب وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقص من ثواب الطائع ولا يزاد على عذاب العاصي (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى» (م) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري وفي لفظ مسلم عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «قال الله تبارك وتعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي» زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها. قوله عز وجل: قُلْ يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين دِيناً قِيَماً يعني هداني صراطا مستقيما دينا قيما، وقيل: يحتمل أن يكون محمولا على المعنى تقديره: وعرفني دينا قيما يعني دينا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، وقيل: قيما ثابتا مقوما لأمور معاشي ومعادي، وقيل: هو من قام وهو أبلغ من القائم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ والملة بالكسر الدين والشريعة. يعني هداني وعرفني دين إبراهيم وشريعته حَنِيفاً الأصل في الحنيف الميل وهو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم عليه السلام وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين وممن يعبد الأصنام قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي: قل يا محمد إن صلاتي وَنُسُكِي قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي: أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج والعمرة، وقيل: النسك العبادة والناسك العابد. وقيل: المناسك أعمال الحج. وقيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة وحج وذبح وعبادة. ونقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال: النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. وفي قوله إن صلاتي ونسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص لله ويؤكد هذا قوله لله رب العالمين لا شريك له وفيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام والكمال لأن ما كان لله لا ينبغي أن يكون إلا كاملا تاما مع إخلاص العبادة له فما كان بهذه الصفة من العبادات كان مقبولا وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي حياتي وموتي بخلق الله وقضائه وقدره أي هو يحييني ويميتني وقيل معناه إن محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله، وقيل: معناه إن طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله وحاصل هذا الكلام له أن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين أن صلاته ونسكه وسائر عباداته وحياته وموته كلها واقعة بخلق الله

[سورة الأنعام (6): الآيات 164 إلى 165]

وقضائه وقدره وهو المراد بقوله لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ يعني في العبادة والخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه وَبِذلِكَ أُمِرْتُ يعني: قل يا محمد وبهذا التوحيد أمرت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال قتادة: يعني من هذه الأمة وقيل معناه وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره. [سورة الأنعام (6): الآيات 164 الى 165] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) قوله عز وجل: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير الله أطلب سيدا أو إلها وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ يعني وهو سيد كل شيء ومالكه لا يشاركه فيه أحد وذلك أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال الله عز وجل ردا عليه وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني لا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا من الأديان والملل. قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني: والله الذي جعلكم يا أمة محمد خلائف في الأرض فإن الله أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم وذلك لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وهو آخرهم وأمته آخر الأمم وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة والفضل فجعل منهم الحسن والقبيح والغني والفقير والشريف والوضيع والعالم والجاهل والقوي والضعيف وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو الجهل أو البخل فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ يعني يعاملكم معاملة المبتلي والمختبر وهو أعلم بأحوال عباده. والمعنى: يبتلي الغني بغناه والفقير بفقره والشريف بشرفه والوضيع بدناءته والعبد والحر وغيرهم من جميع أصناف خلقه ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب، لأن العبد إما أن يكون مقصرا فيما كلف به وإما أن يكون موفيا ما أمره به فإن كان مقصرا كان نصيبه التخويف والترغيب وهو قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ يعني لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت فهو قريب إن كان العبد موفيا حقوق الله تعالى فيما أمره به أو نهاه عنه كان نصيبه الترغيب والتشريف والتكريم وهو قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ يعني لذنوب أوليائه وأهل طاعته رَحِيمٌ يعني بجميع خلقه والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الأعراف

سورة الأعراف نزلت بمكة روي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة. وروي عن ابن عباس أيضا أنها مكية إلا خمس آيات أولها: وأسألهم عن القرية التي كانت. وبه قال قتادة وقال مقاتل: ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها وأسألهم عن القرية إلى قوله وإذا أخذ ربك من بني آدم وهي مائتان وست آيات وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وأربعة عشرة ألف حرف عشرة أحرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعراف (7): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) قوله عز وجل المص قال ابن عباس: معناه أنا الله أفصل وعنه أنا الله أعلم وأفصل وعنه أن المص قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادة: المص اسم من أسماء القرآن، وقال الحسن: هو اسم للسورة، وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور، وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صادق وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله تعالى بعلمها وهي سره في كتابه العزيز، وقيل: هي حروف اسمه الأعظم وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده وقد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة. [سورة الأعراف (7): الآيات 2 الى 6] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) وقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ يعني: فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس لِتُنْذِرَ بِهِ يعني: أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه. قال ابن عباس: فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له. قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان. قال الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها، وبنحو هذا قال الزجاج: أي اتبعوا القرآن وما

أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مما أنزل لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ومعنى الآية أن الله تعالى لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم «وقل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم» واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك، وقيل: معناه لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم»، وقيل: هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك ويدل عليه قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني ولا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك أولياء فتتبعوهم. والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ يعني ما تتعظون إلا قليلا. قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها لما أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، قيل: فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، وقيل: ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها فَجاءَها بَأْسُنا يعني عذابنا. فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا؟ قلت: معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. وقال الفراء: الهلاك والبأس قد يقعان معا كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معا. وقال غيره: لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلا من الآخر بَياتاً يعني فجاءها عذابنا ليلا قبل أن يصبحوا أَوْ هُمْ قائِلُونَ من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلا وهم نائمون أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة. ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة فَما كانَ دَعْواهُمْ يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يعني عذابنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية وذلك حين لا ينفع الاعتراف فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ يعني ولنسألن الرسل الذين أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا وأديتم إلى الأمم ما أمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: يسأل الله تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا وعنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وقال السدي: يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ويسأل الرسل هل بلّغوا ما أرسلوا به. فإن قلت: قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك؟ قلت: لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم والتقصير والمقصود من هذا التقريع والتوبيخ للكفار.

[سورة الأعراف (7): الآيات 7 إلى 9]

فإن قلت: فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم؟ قلت: إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع والتوبيخ للكفار أيضا لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم وهوانهم وعذابهم. [سورة الأعراف (7): الآيات 7 الى 9] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يعني: فلنخبرن الرسل ومن أرسلوا إليهم بعلم ويقين بما عملوا في الدنيا وَما كُنَّا غائِبِينَ يعني عنهم وعن أفعالهم وعن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا. فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ وإذا كان عالما فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدة سؤال الأمم والرسل مع علمه سبحانه وتعالى بجميع المعلومات، التقريع، والتوبيخ للكفار لأنهم إذ أقروا على أنفسهم كان أبلغ في المقصود، فأما سؤال الاسترشاد والاستثبات، فهو منفي عن الله عز وجل، لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، فهو العالم بالكليات، والجزئيات، وعلمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها. قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل، وقال مجاهد: المراد بالوزن هنا القضاء، ومعنى الحق العدل. وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله عز وجل ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب، قال ابن الجوزي: جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إلهي من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل زن بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة فإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل. فإن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حكم منها إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده، ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم

[سورة الأعراف (7): الآيات 10 إلى 12]

عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل. وقال ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس: أن الأعمال تتصور صورا وتوضع تلك الصور في الميزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلا وخفة. ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في الميزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك. وقوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع ميزان، وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: هم الناجون غدا والفائزون بثواب الله وجزائه وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قوله عز وجل: [سورة الأعراف (7): الآيات 10 الى 12] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض، والمراد من التمكين التمليك وقيل: معناه جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا أو قدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين: أحدهما: ما أنعم الله تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب. والثاني: ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل الله وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من الله تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يعني: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم، وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم الله فيشكره عليها فلا يخلو في

بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر، تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني: ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صورا مخلوقة. فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله «ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته؟ قلت: يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر. وقيل في معنى الآية: ولقد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني ذريته، وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكان في خلقه خلق من خرج من صلبه وقيل: إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده. والمعنى: ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود، وقيل: بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين، وقيل: بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة. وقوله تعالى: فَسَجَدُوا يعني الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ يعني: فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول: إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأمورا بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم. قوله تعالى: قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يعني: قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله: فَلا أُقْسِمُ وقوله وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي يرجعون وقوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. وقيل: إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها، وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى: أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيدا لأن معنى قوله «ما منعك أن لا تسجد» من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء. وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفا تقديره ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.

[سورة الأعراف (7): الآيات 13 إلى 17]

فإن قلت: لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به؟ قلت: إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب الله عليه قالَ يعني قال إبليس مجيبا لله تعالى عما سأله عنه أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه. قلت: استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلا وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضا: ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلا وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضا الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك مما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في القدم. [سورة الأعراف (7): الآيات 13 الى 17] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) وقوله تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها يعني قال الله تعالى لإبليس لعنه الله اهبط من الجنة. وقيل: من السماء إلى الأرض. والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة الله تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة. قال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة. وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها قالَ يعني: قال إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي يعني أخّرني وأمهلني فلا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه

سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقا للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به قالَ الله تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم. فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه؟ قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم قالَ يعني إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وقيل: هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل: المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنّهم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» أخرجه النسائي، وقوله تعالى إخبارا عن إبليس ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيها، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. وقال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه. وقال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال مجاهد: يأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه. وقال شقيق البلخي: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي

[سورة الأعراف (7): الآيات 18 إلى 20]

أما بين يدي فيقول: لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون. وقيل إن ذكر هذه الجهات الأربع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، ومعنى الآية على هذا القول: ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم. وقال ابن عباس: معناه ولا تجد أكثرهم موحدين. فإن قلت: كيف علم الخبيث إبليس ذلك حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين؟ قلت: قاله ظنا فأصاب منه قوله تعالى، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوبا في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده. [سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 20] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) قوله عز وجل: قالَ اخْرُجْ مِنْها أي: قال الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه وذلك بسبب مخالفته وعصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة مَذْؤُماً يعني معيبا والذأم أشد العيب مَدْحُوراً يعني مطرودا مبعدا. وقال ابن عباس: صغيرا ممقوتا. وقال قتادة: لعينا مقيتا وقال الكلبي: ملوما مقصيا من الجنة ومن كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ يعني من بني آدم وأطاعه منهم. قوله تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما يعني فكلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما. فإن قلت: قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق؟ قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيفا مكررا وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعل الوسوسة وألقاها إليهما. فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أخرج منها؟ قلت: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن هذا السؤال عن الحسن أنه قال: كان يوسوس في

[سورة الأعراف (7): الآيات 21 إلى 22]

الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصة مشهورة ركيكة، وقال آخرون: إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفا من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك. فإن قلت: إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله؟ قلت: يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مرارا كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما «إني لكما لمن الناصحين» فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي لهما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما وَقالَ يعني وقال إبليس لآدم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ يعني عن الأكل من هذه الشجرة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبدا. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه. قلت: ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبدا وقوله تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 21 الى 22] وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) وَقاسَمَهُما أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ قال قتادة: حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يعني فخدعهما بغرور يقال ما زال فلان يدلي فلانا بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام

[سورة الأعراف (7): الآيات 23 إلى 26]

يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا وإبليس أول من حلف بالله كاذبا فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ يعني: طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما يعني: ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. وقال وهب: كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة: كان لباس آدم في الجنة ظفرا كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته وَطَفِقا يعني وأقبلا وجعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. وقال الزجاج: جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها. روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان آدم صلى الله عليه وسلم رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّا فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك» ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفا ومرفوعا. قوله تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال: ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسدا وبغيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة. وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري. [سورة الأعراف (7): الآيات 23 الى 26] قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) قوله عز وجل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا وَتَرْحَمْنا يعني وتتفضل علينا برحمتك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من الهالكين. قال قتادة: قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك، قال: إذا أدخلك الجنة.

وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل. ((فصل)) وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرفعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل، ذنوبا وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم. وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ والخلاف فيه فأغنى عن الإعادة والله أعلم. قوله تعالى: قالَ اهْبِطُوا قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. وقال الطبري: قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله: قوله تعالى: اهْبِطُوا يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني موضع قرار تستقرون فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني القبور وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني: قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم وَفِيها تَمُوتُونَ يعني: وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم وَمِنْها تُخْرَجُونَ يعني: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة. قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقرا لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني لباسا تسترون به عوراتكم. فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباسا. قلت ذكر العلماء فيه وجوها أحدها: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباسا أو بمعنى رزقناكم لباسا. الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم. الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى: وأنزلنا الحديد وَرِيشاً الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى

[سورة الأعراف (7): الآيات 27 إلى 28]

وأنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وقال وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشا يعني مالا، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به، ويقال: تريش الرجل إذا تموّل. وقال ابن زيد: الريش الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضا، وقيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس أو يفرش والريش أيضا المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضا في الخصب ورفاهية العيش وَلِباسُ التَّقْوى اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضا في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير. وقيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير. وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى: لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك. وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة والسدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه: لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى: إذا أنت لم تلبس ثيابا من التقى ... عريت وإن وارى القميص قميص وقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها. [سورة الأعراف (7): الآيات 27 الى 28] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ قيل: هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والمعنى: لا يخدعنكم بغروره ولا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف وإنما ذكر قصة آدم هنا وشدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يعني آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام والمعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته وشدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر الله عز وجل بني آدم وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان وغروره وتزيينه القبائح وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى الله تعالى عباده عنها وحذرهم منها.

قوله تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: كان لباس آدم وحواء نورا، وقال مجاهد: كان لباسهما التقى. وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني: ليرى آدم عورة حواء وترى حواء عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ يعني أن إبليس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضا، وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله، وحكى أبو عبيد عن أبي يزيد القبيل: ثلاثة فصاعدا من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد. وقال الطبري: قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن. وقال مجاهد: الجن والشياطين وقال ابن يزيد: قبيله نسله. وقال ابن عباس رضي عنهما: هو ولده وقوله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم الله: إن الله تعالى خلق في عيون الجن إدراكا يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن. وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن الله تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضا ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها. وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى» كما قال تعالى: «الذي يوسوس في صدور الناس» فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وقال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى. وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني أعوانا وقرباء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج يعني سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم. قوله عز وجل: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء. وقال عطاء: هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصا بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم الله تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر الله عنهم وهو قوله تعالى: قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، والعذر الثاني قولهم والله أمرنا بها وهذا العذر أيضا باطل وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر الله تعالى بها والله لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى ردا عليهم أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني انكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 29 إلى 30]

[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون أمر ربي بالقسط يعني بالعدل، وهذا قول مجاهد والسدي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلا إله إلا الله فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله وأنه واحد لا شريك له وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فإن قلت قل أمر ربي بالقسط خبر وقوله وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز فما معناه. قلت: فيه إضمار وحذف تقديره قل أمر ربي بالقسط وقال «وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد» فحذف فقال لدلالة الكلام عليه ومعنى الآية قول مجاهد والسدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، وقال الضحاك: معناه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي أو في مسجد قومي. وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي واعبدوه مخلصين العبادة والطاعة والدعاء لله عز وجل لا لغيره كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله عز وجل بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا وحجة هذا القول قوله في سياق الآية فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فإنه كالتفسير له ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث كل عبد على ما مات عليه» أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته: المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقال محمد بن كعب: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة. ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كانوا يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة ويصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» أخرجه مسلم وقال الحسن ومجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ويشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» أخرجه البخاري ومسلم وقوله تعالى: فَرِيقاً هَدى يعني هداهم إلى الإيمان به ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ يعني وخذل فريقا حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله عز وجل، ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص روى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعوانا أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي والمعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر والمعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد. وقوله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق وفيه دليل

[سورة الأعراف (7): الآيات 31 إلى 33]

على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء. [سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 33] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أخرجه مسلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل» وذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزرا فإن قدر عليه وإلا طاف عريانا فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد. وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس وهم قريش وأحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها أي جعلها حراما عليه فلذلك قال الله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد، والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة وقوله تعالى: خذوا زينتكم، أمر وظاهره الوجوب وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطواف وفي كل حال. وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا يعني الدسم واللحم وَلا تُسْرِفُوا يعني بتحريم ما لم يحرمه الله من أكل اللحم والدسم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف ومخيلة» وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ يعني أن الله تعالى لا يحب من إسراف المأكول والمشروب والملبوس وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضا. وإيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان: أحدهما: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.

والقول الثاني: ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالا: أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. القول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب. قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وهو هذا وأنزل الله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. والقول الثالث: إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج الله من رزقه للذين آمنوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، وقيل: خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك لي فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي. قوله عز وجل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يعني علانيته وسره (ق). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه. أصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله: ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم. وقوله تعالى: وَالْإِثْمَ يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايد والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية: قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر. وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل: إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل إن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسما لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد

[سورة الأعراف (7): الآيات 34 إلى 37]

صار في العرف مخصوصا بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء. قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثما واستدل عليه بقول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لأن العرب ما سمته إثما قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله: قل فيهما إثم كبير. وقوله تعالى: وَالْبَغْيَ أي وحرم البغي بِغَيْرِ الْحَقِّ والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغيا وَأَنْ تُشْرِكُوا أي وحرم أن تشركوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهانا بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهانا ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلا على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضا من الفواحش والإثم. قلت: إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ تقدم تفسيره. [سورة الأعراف (7): الآيات 34 الى 37] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان: أحدهما أنه أجل العذاب والمعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتا معينا وأجلا مسمى أمهلهم الله إلى ذلك الوقت فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يعني: إذا حلّ وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يعني فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة وإنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف وهذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم الله تعالى أن لهم وقتا إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم واستئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. والقول الثاني: إن المراد بهذا الأجل هو أجل الحياة والعمر، فإذا انقضى ذلك الأجل وحضر الموت فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة وعلى هذا القول يلزم أن يكون لكل واحد أجل لا يقع فيه تقديم ولا تأخير وإنما قال تعالى: لكل أمة تقارب أعمار أهل كل عصر فكأنهم كالواحد في مقدار العمر. وعلى هذا القول أيضا يكون المقتول ميتا بأجله خلافا لمن يقول القاتل قطع عليه أجله.

قوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آدم لأهل مكة ومن يلحق بهم. وقيل: أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني يقرءون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي فَمَنِ اتَّقى يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي وَأَصْلَحَ يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني لا يخرجون منها أبدا. قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني فمن أعظم ظلما ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكا من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين أحدهما: أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه، فقال الحسن والسدي: ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون، وقال ابن عباس: في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذبا أن وجهه أسود، وقال الزجاج: هو المذكور في قوله فأنذرتكم نارا تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم. والقول الثاني: إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية، في قوله: ينالهم نصيبهم من الكتاب، قالوا: هو السعادة والشقاوة، وقال ابن عباس: ما كتب عليهم من الأعمال، وقال في رواية أخرى عنه: من عمل خيرا جوزي به ومن عمل شرا جوزي به. وقال قتادة: جزاء أعمالهم التي عملوها. وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، وقال الربيع بن أنس: ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق، وقال محمد بن كعب القرظي: عمله ورزقه وعمره. وقال ابن زيد: ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال: لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم. قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى: إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه. وقال بعض المحققين: حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلا من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا. قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب

[سورة الأعراف (7): الآيات 38 إلى 39]

رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى قالُوا يعني: قال الرسل وهم الملائكة للكفار أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم. وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبدونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله قالُوا يعني الكفار مجيبين للرسل ضَلُّوا عَنَّا يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك. [سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) قوله عز وجل: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقول الله عز وجل يوم القيامة لمن افترى عليه الكذب وجعل له شريكا من خلقه: ادخلوا في أمم يعني في جملة أمم قد خلت يعني قد مضت وسلفت وإنما قال قد خلت ولم يقل قد خلوا لأنه أطلق الضمير على الجماعة يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم يعني من الجن والإنس فِي النَّارِ أي ادخلوا جميعا في النار التي هي مستقركم ومأواكم وإنما عنى بالأمم والجماعات والأحزاب وأهل الملل الكافرة من الجن والإنس كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ يعني كلما دخلت جماعة النار لَعَنَتْ أُخْتَها يعني كلما دخلت أمة النار لعنت أختها من أهل ملتها في الدين لا في النسب. قال السدي: كلما دخلت أهل ملة النار لعنوا أصحابهم على ذلك الدين فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا يعني تداركوا وتلاحقوا فِيها جَمِيعاً يعني تلاحقوا واجتمعوا في النار جميعا وأدرك بعضهم بعضا واستقروا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني قال آخر كل أمة لأولها، وقال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين. وقال مقاتل: يعني قال أخراهم دخولا النار وهم الأتباع لأولاهم دخولا وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولا رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا يعني: تقول الأتباع ربنا هؤلاء القادة والرؤساء أضلونا عن الهدى وزينوا لنا طاعة الشيطان، وقيل: إنما قال المتأخرون ذلك لأنهم كانوا يعتقدون تعظيم المتقدمين من أسلافهم فسلكوا سبيلهم في الضلالة واتبعوا طريقهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلالة فلما كان يوم القيامة وتبين لهم فساد ما كانوا عليه قالوا ربنا هؤلاء أضلونا لأنا اتبعنا سبيلهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي أضعف عليهم العذاب، قال أبو عبيدة: الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة، قال الأزهري والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضع كلام العرب والضعف في كلامهم ما زاد وليس بمقصور على مثلين وجائز في كلام العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور وقال الزجاج في تفسير هذه الآية: فآتهم عذابا ضعفا أي مضاعفا لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته قالَ يعني قال الله

[سورة الأعراف (7): الآيات 40 إلى 43]

تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ يعني لأولاكم ضعف ولأخراكم ضعف وقيل معناه للتابع ضعف وللمتبوع ضعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ يعني ما أعد الله لكل فريق من العذاب وقرئ بالياء ومعناه ولكن لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر وَقالَتْ أُولاهُمْ يعني في الكفر وهم القادة لِأُخْراهُمْ يعني الأتباع فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاءوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم فَذُوقُوا الْعَذابَ وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يعني بسبب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة. [سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبرا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل، وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» وقيل في معنى الآية: لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء. وقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب قال الشاعر: جسم الجمال وأحلام العصافير وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق

المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع هذا الشرط محالا ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعا. وقال بعض أهل المعاني: لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفيا لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك: لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني: الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين الله عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن النار محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي: المهاد الفراش والغواشي اللحف وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا وسعها يعني لا نكلف نفسا إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج: الوسع ما يقدر عليه، وقال مجاهد: معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفسا إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نكلف نفسا إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به. قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وروي عنه أيضا أنه قال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخلص

المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحدا أبدا وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته. وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لما أخبر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورهم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحسانا وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ يعني: ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة (م). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون». وقوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» زاد في رواية فذلك قوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتا بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حيا بقوله: لينذر من كان حيا وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل: أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثوابا على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله» فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثوابا وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.

[سورة الأعراف (7): آية 44]

[سورة الأعراف (7): آية 44] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ يعني ونادى أهل الجنة أهل النار وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار تقول أهل الجنة يا أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يعني ما وعدنا في الدنيا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته حقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا يعني من العذاب على الكفر قالُوا نَعَمْ يعني قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة نعم وجدنا ذلك حقا. فإن قلت: هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟ قلت: ظاهر قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار يفيد العموم والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا. فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء أو كيف يصح أن يقع. قلت: إن الله تعالى قادر على أن يقوي الأصوات والأسماء فيصير البعيد كالقريب. وقوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يعني نادى مناد وأعلم لأن أصل الأذان في اللغة الإعلام. والمعنى نادى مناد أسمع الفريقين وهذا المنادي من الملائكة وقيل إنه إسرافيل صاحب الصور ذكره للواحدي أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يعني يقول المؤذن إن لعنة الله على الظالمين ثم فسر الظالمين من هم فقال تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 45 الى 46] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني الذين يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني ويحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها. وقيل معناه أنهم يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله وذلك أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظمه الله فأخطئوا الطريق وضلوا عن السبيل وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ يعني وهم بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها. قوله عز وجل: وَبَيْنَهُما حِجابٌ يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة وأهل النار حجاب وهو المذكور في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ قال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار. وقال السدي وبينها حجاب هو السور وهو الأعراف وقوله: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ الأعراف: جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض ومنه قيل عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، وقال السدي: إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الأعراف الشيء المشرف وعنه قال الأعراف سور كعرف الديك وعنه أن الأعراف جبل بين الجنة والنار. يحبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار واختلف العلماء في صفة الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك فروي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله تعالى فيهم، قال بعضهم: إنما جعلوا

على الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار فهم لا من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن الله تعالى يدخلهم الجنة بفضله ورحمته لأنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار. وقال ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة من كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار وإن الميزان يخف ويثقل بمثال حبة من خردل ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فهنالك يقول الله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فكان الطمع دخولا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إذا عمل العبد حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب له إلا واحدة ثم قال هلك من غلب آحاده عشراته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فهم بذلك المكان حتى إذا أراد الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا فيدخلون الجنة ذكره ابن جرير في تفسيره. وقال شرحبيل بن سعد: أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو من غير إذن آبائهم. ورواه الطبري بسنده إلى يحيى بن غيل مولى لبني هاشم عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال «هم قوم قتلوا عصاة لآبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة» زاد في رواية «فهم آخر من يدخل الجنة» وذكر ابن الجوزي: إنهم قوم رضي آباؤهم دون أمهاتهم وأمهاتهم دون آبائهم. ورواه عن إبراهيم وذكر عن أبي صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنهم أولاد الزنا، وقيل: إنهم الذين ماتوا في الفترة وفيه بعد لأن آخر أمر أصحاب الأعراف إلى الجنة وهؤلاء الذين ماتوا في الفترة والله أعلم بحالهم وهو يتولى أمرهم وقيل إنهم أولاد المشركين الذين ماتوا أطفالا وهذا القول يرجع معناه إلى القول الذي قبله لأنه داخل في حكمه فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى. وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء فعلى هذا القول إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة أو ليرى غيرهم شرفهم وفضلهم وقيل إنهم أنبياء حكاه ابن الأنباري وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار. وقال أبو مجلز: أصحاب الأعراف ملائكة يعرفون الفريقين بسيماهم يعني يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل لأبي مجلز: إن الله تعالى يقول وعلى الأعراف رجال وأنت تقول إنهم ملائكة فقال إن الملائكة ذكور ليسوا بإناث وضعّف الطبري قول أبي مجلز قال: لأن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على الذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق وحاصل هذه الأقوال أن أصحاب الأعراف أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل. وقيل: إنما أجلسهم الله في ذلك المكان العالي ليميزوا بين أهل الجنة وبين أهل النار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. قوله عز وجل: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ يعني: أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة بسيماهم وذلك ببياض وجوههم ونضرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسيماهم وذلك بسواد وجوههم وزرقة عيونهم والسيما العلامة الدالة على الشيء وأصله من السمة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوا ببياض الوجوه وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه. فإن قلنا إن أصحاب الأعراف من استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم دون أهل الجنة في الدرجة كان وقوفهم

[سورة الأعراف (7): الآيات 47 إلى 49]

على الأعراف ليكونوا درجة متوسطة بين الجنة والنار فإذا رأوا أهل الجنة وعرفوهم ببياض وجوههم نادوهم أن سلام عليكم وهو قوله تعالى وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني: نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم يعني سلمتم من الآفات وحصل لكم الأمن والسلامة وإذا رأوا أهل النار يعرفونهم بسواد وجوههم قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وإن قلنا: إن أصحاب الأعراف هم الأشراف والأفاضل من أهل الجنة كان جلوسهم على الأعراف ليطلعوا على أهل الجنة وأهل النار ثم لينقلهم الله عز وجل إلى الدرجات العلية في الجنة. وقوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يعني في دخول الجنة. قال الحسن: ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. [سورة الأعراف (7): الآيات 47 الى 49] وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) قوله تعالى: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ يعني وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني وجاههم وحيالهم فنظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا لأهل النار وعرفوهم قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين والمعنى أن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وما هم فيه من العذاب تضرعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم. قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني ونادى أصحاب الأعراف رجالا كانوا عظماء في الدنيا وهم من أهل النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يعني سيما أهل النار قالُوا يعني أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ يعني ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ يعني وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئا. قال الكلبي: ينادونهم وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزئون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار أَهؤُلاءِ لفظ استفهام يعني أهؤلاء الضعفاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ بالله لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يعني أنكم حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة وقد دخلوا الجنة ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بفضلي ورحمتي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وقيل إن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأصحاب النار ما أخبر الله عنهم قال لهم أهل النار إن أولئك دخلوا الجنة وأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7): الآيات 50 إلى 53]

[سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 53] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج فقالوا: يا ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم وينظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادون أي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول قد احترقت أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون إن الله حرمهما على الكافرين. ومعنى الآية أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة إذا استقروا فيها وذلك عند نزول البلاء بأهل النار وما يلقون من شدة العطش والجوع عقوبة لهم من الله على ما سلف منهم في الدنيا من الكفر والمعاصي. يقول أهل النار لأهل الجنة يا أهل الجنة أفيضوا علينا من الماء يعني صبوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله يعني أو أطعمونا مما رزقكم الله ووسعوا علينا من طعام الجنة فيجيبهم أهل الجنة بقولهم إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وهذا الجواب يفيد الحرمان، وقال بعضهم: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب عذبهم الله في الآخرة بشدة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا في طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأن الله حرمهما على الكافرين يعني طعام الجنة وشرابها ثم وصف الكافرين فقال تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً يعني أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم ولهوا عنه. وأصل اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. ويقال لهوت بكذا ولهيت عن كذا أي اشتغلت عنه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المستهزؤون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزءوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل: هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية. وقيل: معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهوا ولعبا لا يذكرون الله فيه وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني وخدعهم عاجل ما هم فيه من خصب العيش ولذته وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسله وعن الأخذ بنصيبهم من الآخرة حتى أتتهم المنية على ذلك. والغرة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال والجاه ونيل الشهوات فإذا حصل ذلك صار محجوبا عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال فَالْيَوْمَ يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا يعني فاليوم نتركهم في العذاب المهين جياعا عطاشا كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر. وقيل معناه نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار كما تركوا العمل وأعرضوا عن الإيمان إعراض الناسي. سمى الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأن الله تعالى لا ينسى شيئا فهو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون المراد من هذا النسيان أن الله تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحم ضعفهم وزلتهم بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعني ونتركهم في النار كما كانوا بدلائل وحدانيتنا يكذبون. قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعني ولقد جئنا هؤلاء الكفار بالقرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي بيناه على علم منا بما نفصله ونبينه هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة لقوم يؤمنون هَلْ يَنْظُرُونَ يعني هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآياتنا وجحدوها ولم يؤمنوا بها إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني هل ينظرون ويتوقعون إلا ما وعدوا به على ألسنة الرسل من العذاب وأن مصيرهم إلى النار

[سورة الأعراف (7): آية 54]

والتأويل ما يؤول إليه الشيء يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء وما تؤول إليه أمورهم يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ يعني: يقول الذين تركوا العمل بالقرآن ولم يؤمنوا به يوم القيامة عند معاينة العذاب قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أقروا على أنفسهم واعترفوا حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف والإقرار. والمعنى أن الكفّار أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من الإيمان والتصديق والحشر والنشر والبعث يوم القيامة والثواب والعقاب حق وصدق وإنما أقروا بهذه الأشياء لأنهم شاهدوها معاينة وذلك حين لا ينفعهم ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ يعني أنه ليس لنا طريق إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب إلا أن يشفع لنا شفيع عند ربنا فيقبل شفاعته فينا فيخلصنا من هذا العذاب أو نرد إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها فنبدل الكفر بالتوحيد والإيمان والمعاصي بالطاعة والإنابة قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني أن الذي طلبوه لا يحصل لهم فتبين خسرانهم وإهلاكهم أنفسهم لأنهم كانوا في الدنيا أول مرة فلم يعملوا بطاعة الله ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني وبطل وذهب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعملوا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين. [سورة الأعراف (7): آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ يعني إن سيدكم ومالككم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم والذي يدفع عنكم المكاره وهو الله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أصل الخلق في اللغة التقدير ويستعمل في إيداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم. فقوله: خلق السموات والأرض يعني أبدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق وقدر أحوالهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فإن قلت: اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار هو من طلوع الشمس إلى غروبها فكيف قال في ستة أيام ولم يكن شمس ولا سماء قلت معناه في مقدار ستة أيام فهو كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا يعني على مقادير البكر والعشي في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار. واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل بخلق الأشياء فيه فقيل في يوم السبت وهو قول محمد بن إسحاق وغيره، ويدل على صحة هذا القول ما روى مسلم في إفراده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وهذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم ففيه مقال وقد أنكره بعض العلماء لما فيه من المخالفة للآية الكريمة لأن الله تعالى يقول: خلق السموات والأرض في ستة أيام. وقال في آخر آية أخرى: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فدل بهذين النصين على أن جميع الخلق تم وعمل في ستة أيام والذي في الحديث أن بعض الخلق وقع في سبعة أيام وذلك مجموع أيام الأسبوع فلهذا السبب أنكره وأنكره من العلماء وقد ذكر الأزهري في كتابه تهذيب اللغة ما يقوي الحديث فقال: وقال ابن الأنباري السبت القطع وسمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ الخلق يوم السبت وقطع فيه بعض خلق السموات والأرض وقيل: إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري، قال الطبري: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وروي بسنده عن مجاهد قال: بدأ خلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وبدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وجمع

الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود في يوم السبت ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون ويعضد هذا القول ما حكاه صاحب المحكم ابن سيده قال: وسمي سابع الأسبوع سبتا لأن ابتداء الخلق كان من يوم الأحد إلى يوم الجمعة ولم يكن في السبت خلق. قال أصحاب الأخبار والسير والتواريخ: إن الله تعالى خلق التربة التي هي الأرض بلا دحو ولا بسط في يوم الأحد والاثنين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات في يومين وهما الثلاثاء والأربعاء ثم دحا الأرض وبسطها وطحاها وأخرج ماءها ومرعاها وخلق دوابها ووحشها وجميع ما فيها في يومين وهما الخميس والجمعة وخلق آدم في يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة وقبل خلق الله عز وجل التربة يوم الأحد ثم استوى إلى السماء فخلقها وجميع ما فيها يوم الاثنين والثلاثاء ثم مد الأرض ودحاها يوم الأربعاء والخميس وخلق آدم يوم الجمعة وأسكنه الجنة هو وزوجته حواء ثم أهبطهما إلى الأرض في آخر ساعة من يوم الجمعة. وقيل: أول ما خلق الله القلم ثم اللوح فكتب فيه ما كان وما سيكون وما خلق وما هو خالق إلى يوم القيامة ثم خلق الظلمة والنور ثم خلق العرش ثم خلق السماء من درة بيضاء ثم خلق التربة ثم خلق السموات وما فيها من نجوم وشمس وقمر ثم مد الأرض وبسطها من التربة التي خلقها أولا ثم خلق جميع ما فيها من جبال وشجر ودواب وغير ذلك ثم خلق آدم آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة وفيه أهبط إلى الأرض فتكامل جميع الخلق في ستة أيام كل يوم مقداره ألف سنة وهذا قول جمهور العلماء وقيل في ستة أيام من أيام الدنيا. فإن قلت إن الله عز وجل قادر على أن يخلق جميع الخلق في لحظة واحدة ومنه قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فما الفائدة في خلق السموات والأرض في ستة أيام وما الحكمة في ذلك؟ قلت: إن الله سبحانه وتعالى، وإن كان قادرا على خلق جميع الأشياء في لحظة واحدة، إلا أنه تعالى جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا معلوما فلا يدخل في الوجود إلا في ذلك الوقت والمقصود من ذلك تعليم عباده التثبت والتأني في الأمور. وقال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله والعجلة من الشيطان» وقيل إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة فلعله أن يخطر ببال بعضهم أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا بعد شيء على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة. وقيل: إن الله تعالى أراد أن يوقع في كل يوم أمرا من أمره حتى تستعظمه الملائكة وغيرهم ممن شاهده. وقيل إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن فيكون. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ العرش في اللغة: السرير، وقيل: هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز. يقال فلان فل عرشه بمعنى ذهب عزه وملكه وسلطانه. قال الراغب في كتابه مفردات القرآن: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب. وأما استوى بمعنى استقر فقد رواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات برواية كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وقال: أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك، وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه

ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل. وفي رواية يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال: ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم. وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرءوها كما جاءت بلا كيف. وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية: أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى وهو الذي قررنا في تفسير قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني: أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان: الأول، ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال الله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيها على عظمة الله جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة. قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على العرش وأورد على هذا القول أن الله تعالى لم يكن مستويا على الملك قبل خلق السموات والأرض والله تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات. ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علوا

بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر. ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء. قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا وقد قال بعض أصحابنا: إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه. وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل: إنما معنى قوله استوى أي استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم. وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار لدلالة الكلام عليه يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعني سريعا، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهما الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه، حكى الإمام فخر الدين الرازي عن القفال أنه قال: إن الله تعالى لما أخبر عباده باستوائه على العرش أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه منها لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات. قال الإمام: واعلم أنه سبحانه وتعالى وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها بتحرك الفلك الأعظم ثلاث آلاف ميل وهي ألف فرسخ فلهذا قال تعالى يطلبه حثيثا لسرعة حركته وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ معنى التسخير التذليل وقال الزجاج وخلق هذه الأشياء جارية في مجاريها بأمره وقال المفسرون: يعني بتسخيرهن تذليلهن لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هي قادرات بأنفسهن وإنما هن يتصرفن في متصرفاتهن على إرادة المدبر لهن الحكيم في تدبيرهن وتصريفهن على ما أراد منهن والمراد بالأمر في قوله بأمره نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبين عظمة قدرته ومنهم من حمل الأمر على الأمر الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا وخراب هذا العالم. فإن قلت: إن الشمس والقمر من النجوم فلم أفردهما بالذكر ثم عطف عليهما ذكر النجوم؟ قلت: إنما أفردهما بالذكر لبيان شرفهما على سائر الكواكب لما فيهما من الإشراق والنور وسيرهما في المنازل لتعرف الأوقات فهو كقوله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعطف جبريل وميكال على ذكر الملائكة وإن كانا من الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما على غيرهما من الملائكة وقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يعني: له الخلق لأنه خلقهم وله أن يأمر فيهم بما أراد وله أن يحكم فيهم بما شاء وعلى هذا المعنى الأمر هنا الذي هو نقيض النهي، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. وقيل: معناه أن جميع ما في العالم لله عز وجل والخلق له لأنه خلقهم وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره فهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء، وقيل: المراد بالأمر هنا الإرادة لأن الغرض من الآية تعظيم القدرة وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم، فأخبر الله أنه هو الخالق المدبر لهذا العالم لا الشمس والقمر والكواكب وله الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 إلى 56]

الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه تَبارَكَ اللَّهُ يعني تمجد وتعظم وارتفع، وقال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خير وقيل معناه تعالى وتعظم الله رَبُّ الْعالَمِينَ يعني أنه هو الذي يستحق التعظيم وذلك أن الله تعالى لما افتتح هذه الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وذكر أشياء من عظيم خلقه وأن له الخلق والأمر والنهي والقدرة عليهم ختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق والثناء والتعظيم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما. معناه جاء بكل بركة. وقيل: تبارك معناه تقدس والتقديس الطهارة. وقيل معناه باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف. قوله عز وجل: [سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ادْعُوا رَبَّكُمْ قيل معناه اعبدوا ربكم لأن معنى الدعاء طلب الخير من الله تعالى وهذه الصفة العبادة ولأنه تعالى عطف عليه قوله وادعوه خوفا وطمعا والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه. وقيل: المراد به حقيقة الدعاء هو الصحيح لأن الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته، وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى: تَضَرُّعاً يعني ادعوا ربكم تذللا واستكانة، وهو إظهار الذل في النفس والخشوع. يقال: ضرع فلان لفلان إذا أذل له وخشع. وقال الزجاج: تضرعا يعني تملقا وحقيقته أن ندعوه خاضعين خاشعين متعبدين بالدعاء له تعالى وَخُفْيَةً يعني سرا في أنفسكم وهو ضد العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفيا لهذه الآية قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (ق) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» قال أبو موسى رضي الله عنه وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في نفسي فقال: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قلت بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قوله صلى الله عليه وسلم «أربعوا على أنفسكم» يعني ارفقوا بها وأقصروا عن الصياح في الدعاء. وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يعني في الدعاء، وقال أبو مجلز: هم الذين يسألون منازل الأنبياء. عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها قال أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» أخرجه أبو داود. وقال ابن جريج: الاعتداء رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء. وقيل: الاعتداء مجاوزة الحد في كل شيء فكل من خالف أمر الله ونهيه فقد اعتدى ودخل تحت قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وفرع بعض أرباب الطريقة على قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً هل الأفضل إظهار العبادات أم لا فذهب بعضهم إلى أن إخفاء الطاعات والعبادات أفضل من إظهارها لهذه الآية ولكونها أبعد عن

الرياء وذهب بعضهم إلى أن إظهارها أفضل ليقتدي به الغير فيعمل مثل عمله وتوسط الشيخ محمد بن عبد الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء، فالأولى إخفاء العبادات صونا لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى التمكين بحيث صار مباينا شائبة الرياء كأن الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به وذهب بعضهم إلى أن إظهار العبادات المفروضات أفضل من إخفائها فالصلاة المكتوبة في المسجد أفضل من صلاته في بيته وصلاة النفل في البيت أفضل من صلاته في المسجد وكذا إظهار الزكاة أفضل من إخفائها وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها ويقاس على هذا سائر العبادات قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. قال ابن عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض شيئا بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها. وقوله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفا منه ومن عقابه وطمعا فيما عنده من جزيل ثوابه. وقال ابن جريج: العدل معناه خوف والطمع الفضل. وقيل معناه ادعوه خوفا من الرياء في الذكر والدعاء طمعا في الإجابة. فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك؟ قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم أي ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفا وطمعا أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده وإيصال الخير إليهم. وقيل: هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ. وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.

[سورة الأعراف (7): الآيات 57 إلى 58]

[سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ هذا عطف على ما قبله. والمعنى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً قرئ نشرا بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية، وقيل: هو جمع ناشر يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها. وقال الفراء: النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الأنباري: النشر المنتشرة الواسعة الهبوب. وقيل: النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت. وقرئ بشرا بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمان: أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني أمام المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة. قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله تعالى: اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيها وتمثيلا بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها» رواه الشافعي رضي الله عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه. وقال كعب الأحبار: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئا يراه قليلا والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحابا لانسحابه في الهواء. والمعنى: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابا ثقالا بما فيه من الماء قال السدي: إن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وقيل إن الله تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكا شديدا فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء الله عز وجل وهو قوله تعالى: سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى. وقيل: معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا، لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا نظرا إلى اللفظ. قال الأزهري رحمه الله تعالى: قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامرا أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد. زاد غيره والمفازة تسمى بلدة، لكونها مسكن الوحش والجن. قال الأعشى: وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ... للجن بالليل في حافاتها زجل ومعنى الآية: إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ اختلفوا في الضمير في قوله تعالى به إلى ماذا يعود؟ فقال الزجاج رحمه الله وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة

لنزول الماء فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سببا لإخراج الثمرات، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزروع كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه، فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية: أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون: قال مجاهد: إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا ورمما بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الخطاب لمنكري البعث، يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن الله تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها. والمعنى: إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي. قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن الله عز وجل: وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته إِلَّا نَكِداً يعني عسرا بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنسانا: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا يعني بالتافه القليل وبالنكد العسير ومعناه: إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة. قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتوا وكفرا وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث. وقال مجاهد: هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء

[سورة الأعراف (7): الآيات 59 إلى 62]

فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن. [سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 62] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ اعلم أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه فقط عن قبول الحق بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا وفي الآخرة إلى العذاب العظيم فمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحدا من علماء زمانه فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد علم بذلك أنه إنما أتى به من عند الله عز وجل وإنه أوحى إليه ذلك فكان دليلا واضحا وبرهانا قاطعا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ لقد أرسلنا نوحا جواب قسم محذوف تقديره والله لقد أرسلنا نوحا وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويعني أرسلنا بعثنا وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نوح عليه الصلاة والسلام نجارا. وقيل: معنى الإرسال أن الله تعالى حمله رسالة ليؤديها إلى قومه فعلى هذا التقدير فالرسالة تكون متضمنة للبعث أيضا ويكون البعث كالتابع لا أنه أصل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بعثه الله وهو ابن أربعين سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقيل هو ابن مائة سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنان وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فَقالَ يعني نوحا لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني اعبدوا الله تعالى فإنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره فإنه ليس لكم إله معبود سواه فإنه هو الذي يستوجب أن يعبد إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته واليوم الذي خافه عليهم وهو إما يوم الطوفان وإهلاكهم فيه أو يوم القيامة وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة قالَ الْمَلَأُ وهم الجماعة الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يعني يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني في خطأ وزوال عن الحق بين قالَ يعني نوحا يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ يعني ما بي ما تظنون من الضلال وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به وهو قوله

[سورة الأعراف (7): الآيات 63 إلى 67]

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم. وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذابا عظيما وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل: لعل الله تعالى أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون. [سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 67] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أَوَعَجِبْتُمْ الألف ألف استفهام والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف وهذا الاستفهام استفهام إنكار معناه أكذبتم وعجبتم أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني وحيا من ربكم عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ تعرفونه وتعرفون نسبه وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب، وقيل: المراد بالذكر الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نوح عليه الصلاة والسلام سماه ذكرا كما سمي القرآن ذكرا. وقيل: المراد بالذكر المعجزة التي جاء بها نوح عليه السلام فعلى هذا تكون على بمعنى مع أي مع رجل منكم. قال الفراء على هنا بمعنى مع لِيُنْذِرَكُمْ يعني جاءكم لأجل أن ينذركم وَلِتَتَّقُوا أي ولأجل أن تتقوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأن المقصود من إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة فَكَذَّبُوهُ يعني فكذبوا نوحا فَأَنْجَيْناهُ يعني من الطوفان والغرق وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني من آمن من قومه معه فِي الْفُلْكِ يعني في السفينة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى، قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان. يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم قال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الفرق. قوله تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى أخاهم هودا يعني أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقال ابن إسحاق: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح واتفقوا على أن هودا عليه الصلاة والسلام لم يكن أخاهم في الدين ثم اختلفوا في سبب الأخوّة من أين حصلت فقيل إنه كان

[سورة الأعراف (7): الآيات 68 إلى 72]

واحدا من القبيلة فيتوجه قوله أخاهم لأنه واحد منهم وقيل إنه لم يكن من القبيلة ثم ذكروا في تفسير هذه الإخوة وجهين: الأول: قال الزجاج: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة. والمعنى إنّا أرسلنا إلى عاد واحدا من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم نبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك أو الجن. والثاني: إنه أخاهم يعني صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضر موت قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه إلها آخر فإنه ليس لكم إله غيره والفرق بين قوله في قصة نوح وهنا قال إن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب. وأما هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ يعني أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره ولما كانت هذه القصة منسوقة على قصة قوم نوح وقد علموا ما حل بهم من الفرق حسن قوله هنا. أفلا تتقون يعني أفلا تخافون ما نزل بهم العذاب ولم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ يعني إنا لنراك يا هود في حمق وجهالة وضلالة عن الحق. والصواب: أخبر الله تعالى عن قومه نوح أنهم قالوا له إنا لنراك في ضلال مبين وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا إنا لنراك في سفاهة والفرق بينهما أن نوحا لما خوف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة قال له قومه عند ذلك إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا إنا لنراك في سفاهة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يعني في ادعائك أنك رسول من عند الله قالَ يعني قال هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ يعني ليس الأمر كما تدعون أن بي سفاهة وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني إليكم. [سورة الأعراف (7): الآيات 68 الى 72] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي يعني أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ يعني فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل وترك عبادة ما سواه أَمِينٌ يعني على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما ائتمن عليه. حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام، أنه قال وأنصح لكم وحكى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال: وأنا لكم ناصح فالأول بصيغة الفعل والثاني بصيغة اسم الفاعل والفرق بينهما أن صيغة الفعل تدل على تجدد النصح ساعة بعد ساعة فكان نوح يدعو قومه ليلا ونهارا كما أخبر الله عنه بقوله

قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال: وأنصح لكم وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتا دون وقت فلهذا قال: وأنا لكم ناصح أمين والمدح للنفس بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء وإنما فعل هود ذلك وقال هذا القول لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم وإنا لنظنك من الكاذبين فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله ففيه تقرير للرسالة والنبوة وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ يعني أعجبتم أن أنزل الله وحيه على رجل تعرفونه لينذركم بأس ربكم ويخوفكم عقابه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ يعني واذكروا نعمة الله عليكم إذا أهلك قوم نوح وجعلكم تخلفونهم في الأرض وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً يعني طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا وقيل سبعين ذراعا. عن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانين ذراعا وقال مقاتل: اثني عشر ذراعا وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني نعم الله وفيه إضمار تقديره فاذكروا نعمة الله عليكم واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تفوزوا بالفلاح وهو البقاء في الآخرة قالُوا يعني قال قوم هود مجيبين له أَجِئْتَنا يا هود لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا يعني من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قولك إنك رسول الله قالَ يعني قال هود مجيبا لهم قَدْ وَقَعَ يعني نزل ووجب عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي عذاب وسخط أَتُجادِلُونَنِي يعني أتخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني وضعتم لها أسماء من عند أنفسكم والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة وذلك معدوم فيها ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يعني من حجة وبرهان على هذه التسمية وإنما سميتموها أنتم من عند أنفسكم بغير دليل فَانْتَظِرُوا يعني العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يعني نزول العذاب بكم فَأَنْجَيْناهُ يعني فأنجينا هودا عند نزول العذاب بقومه وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني وأهلكنا الذين كذبوا هودا من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعا ولم يبق منهم واحد وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام: ((ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار)) قالوا جميعا: كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هودا عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضر موت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء، وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فآمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل

معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفا مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلا يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلّ عنهم المطر قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم قد هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله وما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا قال وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال معاوية: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهمو بخير ... فقد أمست نساؤهم أيامى وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركمو وليلكمو تماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك: عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد ... فأبصرنا الهدى وجلا العماء وأن إله هود هو إلهي ... على الله التوكل والرجاء زاد في رواية: لقد حكم الإله وليس جورا ... وحكم الله إن غلب الهواء على عاد وعاد شر قوم ... فقد هلكوا وليس لهم بقاء وإني لن أفارق دين هود ... طوال الدهر أو يأتي الفناء فقال جلهمة بن الخيبري مجيبا لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به:

ألا يا سعد إنك من قبيل ... ذوي كرم وأمك من ثمود فإنا لا نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد أتأمرنا لنترك دين وفد ... ورمل والصداء مع الصمود ونترك دين آباء كرام ... ذوي رأي ونتبع دين هود ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولو إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد، وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال: اللهم أعط قيلا ما سألك. وقال الوفد معه: واجعل سؤلنا مع سؤله. وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قام لقمان فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحائب فقال قيل: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا لا يبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيها من العذاب صاحت ثم صعقت فلما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع من آل عاد أحدا إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له: أين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال: فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب الكعبة. وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيرا أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه، وقيل: إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث «إنما خرجت على مثل خرق الخاتم» وقيل: إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد: اللهم أعطني برا وصدقا فأعطي ذلك، وقال لقمان: اللهم أعطني عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.

[سورة الأعراف (7): آية 73]

وأما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عادا فهلك ومن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعا فلما أهلك الله عادا ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضر موت. يروى عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضر موت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها. [سورة الأعراف (7): آية 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) قوله عز وجل: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً يعني أرسلنا إلى ثمود وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عابر وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ومعنى الكلام وإلى بني ثمود أخاهم صالحا لأن ثمود قبيلة. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل وقيل سموا ثمود باسم أبيهم الذي ينسبون إليه أخاهم صالحا يعني في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني قال لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم يا قوم وحدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا فما لكم من إله يستحق أن يعبد سواه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني جاءتكم حجة من ربكم وبرهان على صدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وعلى تصديق بأني رسول الله إليكم ثم فسر تلك البينة فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً يعني علامة على صدقي قال العلماء رحمهم الله تعالى: ووجه كون هذه الناقة آية على صدق صالح ومعجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل وكونها لا من ذكر ولا من أنثى وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج لأنها خلقت في ساعة وخرجت من الصخرة وقيل لأنه كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم وهذا من المعجزة أيضا لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة وكانوا يحلبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم ويقوم لهم مقام الماء وهذ أيضا معجزة وقيل إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم شرب الناقة وتشرب الحيوانات الماء في غير يوم الناقة وهذا أيضا معجزة وإنما أضافها إلى الله تعالى في قوله هذه ناقة الله على سبيل التفضيل والتشريف كما يقال بيت الله وقيل لأن الله تعالى خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى وقيل لأنه لم يملكها أحد إلا الله تعالى وقيل لأنها كانت حجة الله على قوم صالح فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ يعني فذروا الناقة تأكل العشب من أرض الله فإن الأرض لله والناقة أيضا لله وليس لكم في أرض الله شيء لأنه هو الذي أنبت العشب فيها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يعني ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى ولا تعقروها فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني بسبب عقرها وأذاها.

[سورة الأعراف (7): الآيات 74 إلى 77]

[سورة الأعراف (7): الآيات 74 الى 77] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ يعني أن الله أهلك عادا وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها وَبَوَّأَكُمْ يعني وأسكنكم وأنزلكم فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً يعني تبنون القصور من سهولة الأرض لأن القصور إنما تبنى من اللّبن والآجر المتخذ من الطين السهل اللين وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً يعني وتشقون بيوتا من الجبال وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متمتعين مترهفين فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قال قتادة: معناه ولا تسيروا في الأرض مفسدين فيها والعثو أشد الفساد وقيل أراد به عقر الناقة وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني قال الأشراف الذين تعظموا عن الإيمان بصالح لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني المساكين لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ يعني قال الأشراف المتعظمون في أنفسهم لأتباعهم الذين آمنوا بصالح وهم الضعفاء من قومه أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ يعني أن الله أرسله إلينا وإليكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ يعني قال الضعفاء إنا بما أرسل الله به صالحا من الدين والهدى مصدقون قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي جاحدون منكرون فَعَقَرُوا النَّاقَةَ يعني فعقرت ثمود الناقة والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تكبروا عن أمر ربهم وعصوه والعتو الغلوّ في الباطل والتكبر عن الحق والمعنى أنهم عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم صالحا عليه الصلاة والسلام وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني: إن كنت كما تزعم أنك رسول الله فإن الله تعالى ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب فعجل الله لهم ذلك فقال تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 78 الى 79] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: الرجفة الزلزلة الشديدة العظيمة، وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة فيحتمل أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا وهو قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يعني فأصبحوا في أرضهم وبلدهم جاثمين ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب أي بلد الحرب ودار بني فلان بمعنى موضعهم ومجمعهم وجمع في آية أخرى، فقال في ديارهم لأنه أراد ما لكل واحد منهم من الديار والمساكن وقوله جاثمين يعني باركين على الركب والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير وجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين على وجوههم موتى لا يتحركون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عنهم صالح وفي وقت هذا التولي قولان: أحدهما: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدل عليه قوله فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ والفاء للتعقيب فدل على أنه جعل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم. والقول الثاني: أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل موتهم وهلاكهم ويدل عليه أنه خاطبهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ

أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء فعلى هذا القول يحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا أنه خاطبهم بعد هلاكهم وموتهم توبيخا وتقريعا كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيح وفيه فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أقواما قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون. وقيل إنما خاطبهم صالح بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها. ((ذكر قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وغيرهما من أصحاب السير والأخبار)) قالوا جميعا إن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى إن أحدهم ليبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من العيش والرخاء فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله تعالى إليهم صالحا نبيا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم بيتا وحسبا فبعثه الله تعالى إليهم وهو غلام فلم يزل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى عبادته حتى شمط وكبر فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا على ما يقول فقال صالح أي آية تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه أصنامهم، وذلك في يوم معلوم من السنة وقالوا تدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت بالبخت من الإبل فإن فعلت آمنا بك وصدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا نعم قال فصلى صالح عليه الصلاة والسلام ركعتين ودعا ربه عز وجل فتمخضت الصخرة كما تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما سألوا ووصفوا غير أنه لا يعلم ما بين جنبها إلا الله عز وجل عظيما وهم ينظرون إليها ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط معه من قومه وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب وكانا صاحبا أوثانهم ورباب بن ضمير وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة من الصخرة قال لهم صالح: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا فإذا كان يوم ورودها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا منها من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر الناقة من غير الفج الذي وردت منه ولا تقدر أن تصدر من حيث وردت حتى إذا كان من الغد كان يوم ثمود فيشربوا ما شاء الله من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة فهم على ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم الإبل والبقر والغنم فتهبط إلى بطن الوادي فتكون في حره وجدبه وإذا كان الشتاء فتشتو الناقة في بطن الوادي فتهرب المواشي إلى ظهره فتكون في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله بهم والبلاء الاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر

الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مخلد وتكنى بأم غنم وكانت عجوزا مسنة وهي امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، والمرأة الأخرى يقال لها صدقة بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه الصلاة والسلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بمواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدقة رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال لها مصدع بن مهزج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وجها وأكثرهم مالا فأجابها إلى إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا ويزعمون أنه كان ابن زانية ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه فقالت عنيزة لقدار أي بناتي شئت أعطيتك على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزا منيعا في قومه (ق). عن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» قوله انبعث أي قام بسرعة والعارم الخبيث الشرير والعرامة الشدة والقوة والشراسة والمنيع الممتنع ممن أراده. قال أصحاب الأخبار: فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهزج، فاستنفروا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم في عضلة ساقها فخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها فسفرت عن وجهها وكانت من أحسن الناس وجها ليراها قدار ثم حثته على عقرها وأغرته فشد قدار على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فتحذر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلد فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل قارة وأتى صالح عليه الصلاة والسلام فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل نحوها وخرج أهل البلد يتلقونه ويعتذرون إليه ويقولون يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل فذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن تطاول فتطاول حتى ما تناله الطير وجاء صالح عليه السلام فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثا ثم انفجرت الصخرة فدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق تبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهزج وأخوه ذؤاب فرماه مصدع بسهم فأصاب قلبه ثم جذبه فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزئون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام في ذلك الوقت الأحد أول والاثنين أهون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام حين قالوا ذلك: تصبحون غدا يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمّرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلموا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليقتلوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح عليه الصلاة والسلام فوجدوهم وقد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه وقالوا لا تقتلوه أبدا فإنه قد وعدكم العذاب أنه نازل بكم بعد ثلاث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم إلا غضبا عليكم وإن كان كاذبا فأنتم وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم

وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فيما قال فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم ولحق بحي من بطون ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فمنع صالحا فلم يقدروا عليه وكانوا عمدوا إلى أصحاب صالح ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنهم يعذبونا لندلهم عليك أفندلهم عليك؟ قال: نعم. فدلوهم عليه فأتوا أبو هدب فكلموه في أمر صالح فقال هو عندي وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم ما نزل بهم من العذاب فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدم فصاحوا وضجوا وبكوا وأيقنوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب فلما كانت ليلة الأحد خرج صالح عليه الصلاة والسلام ومن أسلم معه من بين أظهرهم إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبحوا في اليوم الرابع تكفنوا وتحنطوا وألقوا بأنفسهم إلى الأرض يقلّبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه الصلاة والسلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد ما عاينت العذاب وما أصاب ثمود فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب الذي بثمود ثم استقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت في الحال. وذكر السدي في عقر الناقة فقال: أوحى الله عز وجل إلى صالح عليه والسلام إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك صالح فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا في هذا الشهر ولد إلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد فذبحوهم ثم ولد للعاشر ولد فأبى أن يذبحه لأنه كان لم يولد له قبل ذلك ولد وكان الولد الذي ولد له أحمر أزرق فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله يعني فتحالفوا بالله لنبيتنه وأهله وقالوا نخرج فنرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم نرجع إلى الغار فنكون فيه حتى ننصرف إلى رحلنا فنقول ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا فيظنون أنا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم في القرية بل كان يبيت في مسجد له خارج القرية فإذا أصبح أتاهم فيعظهم ويذكرهم فإذا أمسى خرج إلى مسجده فيتعبد فيه قال فانطلق التسعة إلى الغار فدخلوا فسقط عليهم فقتلوا فانطلق رجال ممن كان قد اطلع على أمرهم لينظروا ما فعل أولئك النفر فرأوهم وهم رضخ فرجعوا إلى القرية يصيحون ما رضي صالح بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق: كان التسعة قد تقاسموا على تبييت صالح بعد عقر الناقة، وقال السدي وغيره: لما ولد للعاشر ولد سماه بقدار فكان يشب سريعا فلما كبر جلس مع أناس يشربون الخمر فأرادوا ماء ليمزجوا به شرابهم وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نصنع نحن بلبن هذه الناقة ولو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه لأنعامنا وزروعنا كان خيرا لنا، وقال ابن العاشر: هل لكم أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي» وفي رواية لمسلم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ثم ذكر مثله ولهما عنه أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقوا ما استقوه

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 إلى 81]

ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة «وللبخاري» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارهم ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. وفي بعض الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآيات فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها وأراهم مرتقى الفصيل من القارة فعتوا عن أمر ربهم وعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا يقال له أبو وغال وهو أبو ثقيف، كان في حرم الله فمنعه حرم الله تعالى من عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال فنزل القوم وابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن» وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي حضرموت ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حضوراء وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح عليه الصلاة السلام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة. [سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 81] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) قوله تعالى: وَلُوطاً يعني وأرسلنا لوطا وقيل: معناه واذكر يا محمد لوطا وهو لوط بن هاران بن تارخ وهو ابن أخي إبراهيم وإبراهيم عمه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يعني أهل سدوم وإليهم كان قد أرسل وذلك أن لوطا عليه الصلاة والسلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أرض فلسطين ونزل لوط الأردن أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني أتفعلون الفعلة الخسيسة التي هي غاية في القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكران في أدبارهم ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والمعنى: ما سبقكم أيها القوم بهذه الفعلة الفاحشة أحد من العالمين قبلكم وفي هذا الكلام توبيخ لهم وتقريع على فعلهم تلك الفاحشة. قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يعني في أدبارهم شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ يعني في أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء بَلْ أَنْتُمْ يعني أيها القوم قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي مجاوزون الحلال إلى الحرام وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا وجعل النساء محلا للشهوة وموضع النسل فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فكأنما قد أسرف وجاوز واعتدى لأنه وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان وكانت قصة قوم لوط، على ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار والسير أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة ذات زروع وثمار لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم وضيقوا عليهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما أحل الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا صباحا فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء، وقيل: استحكم ذلك الفعل فيهم حتى نكح بعضهم بعضا. وقال الكلبي: إن أول من عمل به عمل قوم لوط إبليس وذلك لأن بلادهم أخصبت فقصدها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد فدعا إلى نفسه فكان أول من نكح في دبره فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 82 إلى 85]

[سورة الأعراف (7): الآيات 82 الى 85] وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) قوله عز وجل: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ يعني وما كان جواب قوم لوط للوط إذ وبخهم على فعلهم القبيح وركوبهم ما حرم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث إِلَّا أَنْ قالُوا يعني قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني أخرجوا لوطا وأتباعه وأهل دينه من بلدكم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني أنهم أناس يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال لأنها موضع النجاسة ومن تركها فقد تطهر، وقيل: إن البعد عن المعاصي والآثام يسمى طهارة فمن تباعد عنهما فقد تطهر فلهذا قال إنهم أناس يتطهرون أي من فعل المعاصي والآثام فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعني فأنجينا لوطا ومن آمن به واتبعه على دينه، وقيل: المراد بأهله المتصلون به بسبب النسل أو المراد بأهله ابنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ يعني زوجته كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني كانت من الباقين في العذاب لأنها كانت كافرة، وقيل: معناه كانت من الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل ثم هلكت مع من هلك من قوم لوط وإنما قال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الرجال فقال من الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني حجارة من سجّيل قد عجنت بالكبريت والنار يقال مطرت السماء وأمطرت. وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب أمطرت وفي الرحمة مطرت فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ يعني انظر يا محمد كيف كان عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالله ورسوله وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم. قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام فأدخل جناحيه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة. وقوله فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وإن كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره من أمته ليعتبروا بما جرى على أولئك فينزجروا بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة والفواحش الخبيثة. قوله عز وجل: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً يعني: وأرسلنا إلى مدين أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فعلى هذا يكون المعنى وأرسلنا إلى ولد مدين ومدين اسم للقبيلة كما يقال بنو تميم بنو عدي وبنو أسد. وقيل: مدين اسم للماء الذي كانوا عليه وقيل هو اسم للمدينة وعلى هذين القولين يكون المعنى: وأرسلنا إلى أهل مدين والصحيح هو الأول لقوله أخاهم شعيبا يعني في النسب لا في الدين وشعيب هو ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاله عطاء وقال محمد بن إسحاق وهو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وقيل: هو شعيب بن يثرون بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان قالَ يعني شعيبا يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: قد جاءتكم حجة وبرهان من ربكم بحقيقة ما أقول وصدق ما أدعي من النبوة والرسالة إليكم لأنه لا بد لكل نبي من معجزة تدل على صدق ما جاء به من عند الله غير أن تلك المعجزة التي كانت لشعيب لم تذكر في القرآن وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن، وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم وقيل أراد بالبينة الموعظة وهي قوله: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ يعني فأتموا الكيل والميزان وأعطوا الناس حقوقهم وهو قوله وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يعني لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها فتطففوا الكيل والوزن. يقال: بخس فلان في الكيل والوزن إذا نقصه وطففه

[سورة الأعراف (7): الآيات 86 إلى 89]

وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها يعني بعد أن أصلحها الله تعالى ببعثة الرسل وإقامة العدل وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ذلِكُمْ يعني الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان بالله ووفاء الكيل والميزان وترك الظلم والبخس خَيْرٌ لَكُمْ يعني مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مصدّقين بما أقول. [سورة الأعراف (7): الآيات 86 الى 89] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ يعني أن شعيبا قال لقومه الكفار ولا تقعدوا على كل طريق من الدين والحق تمنعون الناس من الدخول فيه وتهددونهم على ذلك ذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من يريد الإيمان بالله وبرسوله شعيب وهو قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني وتمنعون من يريد الإيمان بالله وتقولون إن شعيبا كذاب وتخوفونه بالقتل. قال ابن عباس: كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبا الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وَتَبْغُونَها عِوَجاً يعني: وتريدون اعوجاج الطريق عن الحق وعدولها عن القصد. وقيل معناه تلتمسون لها الزيغ والضلال ولا تستقيمون على طريق الهدى والرشاد وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ يعني: أن شعيبا عليه الصلاة والسلام ذكرهم نعمة الله عليهم. قال الزجاج: يحتمل ذلك ثلاثة أوجه كثر عددكم وكثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقوة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء ضعفاء فهم بمنزلة القليل والمعنى إنه كثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة فاشكروا نعمة الله تعالى عليكم وآمنوا به وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني وانظروا نظر اعتبار ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم السالفة والقرون الخالية حين عتوا على ربهم وعصوا رسله من العذاب والهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسله وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت رسالتي فَاصْبِرُوا فيه وعيد وتهديد حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا يعني حتى يقضي الله ويفصل بيننا فيعجز المؤمنين المصدقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ يعني أنه حاكم عادل منزه عن الجور والميل والحيف في حكمه وإنما قال خير الحاكمين لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكما على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة فلهذا قال وهو خير الحاكمين قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني قال الجماعة من أشراف قومه الذين تكبروا عن الإيمان بالله وبرسوله وتعظموا عن اتباع شعيب لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعني أن قوم شعيب أجابوه بأن قالوا لا بد من أحد أمرين إما إخراجك ومن تبعك على دينك من بلدنا أو لترجعن إلى ديننا وملتنا وما نحن عليه وهذا فيه إشكال وهو أن شعيبا عليه الصلاة والسلام لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه فما معنى

قوله أو لتعودن في ملتنا وأجيب عن هذا الإشكال بأن اتباع شعيب كانوا قبل الإيمان به على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعا فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط. وقيل: معناه لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود على معنى الابتداء كما تقول قد عاد عليّ من فلان مكروه بمعنى قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن قد سبق منه مكروه فهو كما قال الشاعر: فإن تكن الأيام أحسن مدة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان. وقوله تعالى: قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي لا نعود في ملتكم وإن أكرهتمونا وأجبرتمونا على الدخول فيها فلا نقبل ولا ندخل قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يعني أن شعيبا أجاب قومه إذ دعوه ومن آمن به إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها فقال قد افترينا يعني قد اختلقنا على الله كذبا وتخرصنا عليه من القول باطلا إن نحن رجعنا إلى ملتكم وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين وقد أنقذنا الله وخلصنا منها وبصرنا خطأها وهذا أيضا فيه من الأشكال مثل ما في الأول وهو أن شعيبا عليه الصلاة والسلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها والجواب عنه مثل ما أجيب عن الإشكال الأول وهو أن نقول إن الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أن شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كانا بريئا مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب. وقيل: معنى نجانا الله منها علمنا قبح ملتكم وفسادها فكأنه خلصنا منها وقوله تعالى إخبارا عنه وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يعني وما يكون لنا أن نرجع إلى ملتكم ونترك الحق الذي نحن عليه إلا أن يشاء الله ربنا يعني إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله أن نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله وقدره فينا وينفذ سابق مشيئته علينا وقال الواحدي: ومعنى العود هنا الابتداء والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية أن شعيبا وأصحابه قالوا ما كنا لنرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا فأمورنا راجعة إلى الله غير خارجة عن قبضته يسعد من يشاء بالطاعة ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام «واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال الزجاج رحمه الله تعالى المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها وتصديق ذلك قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أنه تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون وما سيكون وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء فالسعيد من سعد في علم الله تعالى والشقي من شقي في علم الله تعالى عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا على الله نعتمد وإليه نستند في أمورنا كلها فإنه الكافي لمن توكل عليه والمعنى: على الله توكلنا لا على غيره فكأنه ترك الأسباب ونظر إلى مسبب الأسباب رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ لما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال ربنا افتح أي اقض وافصل واحكم بيننا وبين قومنا بالحق يعني بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يعني خير الحاكمين قال الفراء إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد وأنشد لبعضهم في ذلك: ألا أبلغ بني عصم رسولا ... فإني عن فتى حكم غني أراد أنه غني عن حاكمهم وقاضيهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى قوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول تعال أفاتحك يعني أقاضيك. وهذا قول قتادة والسدي وابن جريج وجمهور المفسرين أن الفاتح هو القاضي والحاكم سمي بذلك لأنه يفتح

[سورة الأعراف (7): الآيات 90 إلى 92]

أغلاق الإشكال بين الخصوم ويفصلها. وقال الزجاج: وجائز أن يكون معناه ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتمييز. [سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 92] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً يعني وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم لئن اتبعتم شعيبا على دينه وتركتم دينكم وملتكم وما أنتم عليه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ يعني إنكم لمغبونون في فعلكم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني الزلزلة الشديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ قال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا من جهنم فأخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليبردوا فيها فوجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض من تحتهم فاحترقوا كاحتراق الجراد في المقلاة وصاروا رمادا، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا بها. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة هلكوا جميعا. قال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة اسمه كلمن فلما هلك قالت ابنته شعرا تبكيه وترثيه به: كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحلة سيد القوم أتاه ... هلك نار تحت ظله جعلت نارا عليهم ... دارهم كالمضمحله وقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يوما من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي أقمت به. والمغاني: المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين. يقال: غني الرجل إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم. [سورة الأعراف (7): الآيات 93 الى 97] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ

أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله فَكَيْفَ آسى يعني أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر. وقيل في معنى الآية إن شعيبا قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقّين لأن يحزن عليكم. فعلى القول الأول: إنه حصل لشعيب حزن على قومه. وعلى القول الثاني: لم يحزن عليه والله أعلم. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج: فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض. وقيل: البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعوا ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية أنه قد أرسل رسلا إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر. قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل فالسيئة والحسنة هنا الشدة والرخاء. والمعنى أنه تعالى بدل مكان البأساء والضراء النعمة والسعة والخصب والصحة في الأبدان فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله حَتَّى عَفَوْا يعني أنه فعل ذلك بهم حتى كثروا وكثرت أموالهم. يقال: عفا الشعر إذا كثر وطال. قال مجاهد: حتى كثرت أموالهم وأولادهم وَقالُوا يعني من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء والسعة قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعني أنهم قالوا هكذا عادة الدهر قديما وحديثا لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدة والضراء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم مما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني أخذناهم فجأة آمن ما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب. قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لما بين الله تعالى في هذه الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم بعذابه بين في هذه الآية أنهم لو آمنوا يعني بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمرهم به واتقوا يعني ما نهى الله تعالى عنه وحرمه عليهم لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده. وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه وكذا ثبوت البركة في نابت الأرض لأنه نشأ عن بركات السماء وهي المطر. وقال البغوي: أصل البركة

[سورة الأعراف (7): الآيات 98 إلى 101]

المواظبة على الشيء. أي تابعنا عليهم بالمطر من السماء والنبات من الأرض ورفعنا عنهم القحط والجدب وَلكِنْ كَذَّبُوا يعني فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا يعني الرسل فَأَخَذْناهُمْ يعني بأنواع العذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني أخذناهم بسبب كسبهم الأعمال الخبيثة. قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وتهديد وزجر، والمراد بالقرى مكة وما حولها، وقيل: هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا يعني عذابنا بَياتاً يعني ليلا وَهُمْ نائِمُونَ. [سورة الأعراف (7): الآيات 98 الى 101] أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى يعني نهارا لأن الضحى صدر النهار وَهُمْ يَلْعَبُونَ يعني: وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم. والمقصود من الآية أن الله خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا، وأمور الدنيا كلها لعب ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم وذلك لعب أيضا لأنه يضر ولا ينفع أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل: المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون، وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكرا لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجا إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين أَوَلَمْ يَهْدِ أو لم يبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني لو نشاء أخذناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم وَنَطْبَعُ أي نختم عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يعني لا يسمعون موعظة ولا يقبلون الإيمان ونطبع منقطع عما قبله والمعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون معطوفا على الماضي ولفظه لفظ المستقبل والمعنى لو شئنا طبعنا على قلوبهم تِلْكَ الْقُرى يعني هذه القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعني نخبرك عنها وعن أخبار أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم يا محمد إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائنا وأعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم وبمخالفتهم رسلهم ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعني لأهل تلك القرى رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني جاءتهم رسلهم بالمعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اختلف أهل التفسير في معنى ذلك فقيل: معناه فما كانوا هؤلاء المشركين الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم رسلهم بما كذبوا من قبل ذلك وهو يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وهذا معنى قول ابن عباس والسدي. قال السدي: آمنوا كرها يوم أخذ الميثاق، وقال مجاهد: فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ومعاينتهم العذاب ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم وقيل معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق لهم في علم الله أنهم يكذبون به حين أخرجهم من صلب آدم عليه الصلاة والسلام.

[سورة الأعراف (7): الآيات 102 إلى 107]

قال أبيّ بن كعب: كان سبق لهم في علمه يوم أقروا له بالميثاق أنهم لا يؤمنون به وقال الربيع بن أنس يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم وأن لا يتأولوا علم ما أخفى الله تعالى عنهم فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون وفي ذلك قال تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ قال: نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في صلب آدم عليه الصلاة والسلام. قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول أبيّ بن كعب والربيع بن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة أنهم لا يؤمنون أبدا فأخبر عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ يعني كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك. [سورة الأعراف (7): الآيات 102 الى 107] وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني وما وجدنا لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا قوله عز وجل: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام مُوسى بِآياتِنا يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع فَظَلَمُوا بِها يعني: فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي: انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك حَقِيقٌ أي واجب عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني خلّ عنهم وأطلقهم من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب

[سورة الأعراف (7): الآيات 108 إلى 112]

اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة: إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي بيّن، والثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان. قال ابن عباس والسدي: إن موسى لما ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضا فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبينا وجوه: الأول: أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم. الوجه الثاني: أنهم شاهدوا العصا قد انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيّن. الوجه الثالث: إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام في أنه رسول من رب العالمين. [سورة الأعراف (7): الآيات 108 الى 112] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وقوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ النزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه والمعنى أنه أخرج يده من جيبه أو من تحت جناحه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس وغيره: أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص، وقيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام أدخل يده تحت جيبه ثم نزعها منه وقيل أخرج يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس وكان موسى عليه الصلاة والسلام آدم اللون ثم ردها إلى جيبه فأخرجها فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيبا في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى «بيضاء من غير سوء» يعني من غير برص والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة يتعجب منه. ((فصل في بيان المعجزة وكونها دليلا على صدق الرسل)) اعلم أن الله تبارك وتعالى كان قادرا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده ابتداء من غير واسطة ولكن أرسل إليهم رسلا تعرفهم معالم دينه وجميع تكليفاته وذلك الرسول واسطة بين الله عز وجل وبين عباده يبلغهم كلامه ويعرفهم أحكامه وجائز أن تكون تلك الواسطة من غير البشر كالملائكة من الأنبياء وجائز أن تكون الواسطة من جنس البشر كالأنبياء مع أممهم ولا مانع لهذا من جهة العقل وإذا جاز هذا في دليل العقل وقد جاءت الرسل

عليهم الصلاة والسلام بمعجزات دلت على صدقهم فوجب تصديقهم في جميع ما أتوا به لأن المعجز مع التهدي من النبي قائم مقام قول الله عز وجل صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ولأن معجزة النبي شاهد على صدقه فيما يقوله وسميت المعجزة معجزة لأن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها وهي على ضربين: فضرب منها هو على نوع قدرة البشر ولكن عجزوا عنه فعجزهم عنه دلّ على أنه من فعل الله ودل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم كتمنّي الموت في قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وسلم الضرب الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى وقلب العصا حية وإخراج ناقة من صخرة وكلام الشجر والجماد والحيوان ونبع الماء من بين الأصابع وغير ذلك من المعجزات التي عجز البشر عن مثلها فإذا أتى النبي بشيء من تلك المعجزات الخارقة للعادات علم أن ذلك من عند الله وأن الله عز وجل هو الذي أظهر ذلك المعجز على يد نبيه ليكون حجة له على صدقه فيما يخبر به عن الله عز وجل وقد ثبت بدليل العقل والبرهان القاطع أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سبق لها وإخراجها من العدم إلى الوجود وأنه قادر على قلب الأعيان وخوارق العادات والله تعالى أعلم. قوله عز وجل: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا يعني موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ يعني أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان فلما أتى بما يعجز عنه غيره قالوا إن هذا لساحر عليم. فإن قلت: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قوم الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم فكيف الجمع بينهما. قلت: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولا ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله تعالى عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء، وقيل: يحتمل أن فرعون قال هذا القول، ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامة فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون. وقوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يعني يريد موسى أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ يعني: فأي شيء تشيرون أن نفعل به وقيل إن قوله فماذا تأمرون من قول الملأ لأن كلام فرعون تم عند قوله يريد أن يخرجكم من أرضكم فقال الملأ مجيبين لفرعون فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم والمعنى فما ترون أن نفعل به والقول الأول أصح لسياق الآية التي بعدها وهو قوله تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعني أخّر أمرهما ولا تعجل فيه فتصير عجلتك عليك لا لك والإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس ولأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعد أن رأى من أمر العصا ما رأى وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ يعني رجالا يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد والمعنى أنهم قالوا لفرعون أرسل إلى هذه المدائن رجالا من أعوانك وهم الشرط يحشرون إليك من فيها من السحرة وكان الرؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدقناه واتبعناه وإن غلبوه أنه ساحر فذلك قوله يَأْتُوكَ يعني الشرط بِكُلِّ ساحِرٍ وقرئ سحار والفرق بين الساحر والسحار أن الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر فيتعلم ولا يعلم والسحار هو الماهر الذي يتعلم منه السحر وقيل الساحر من يكون سحره وقتا دون وقت والسحار الذي يدوم سحره ويعمل في كل وقت عَلِيمٍ يعني ماهر بصناعة السحر وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن إسحاق والسدي: إن فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا قال إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فاتخذ غلمانا من بني

[سورة الأعراف (7): الآيات 113 إلى 117]

إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كبيرا وواعد فرعون موسى موعدا ثم بعث إلى السحرة فجاؤوا ومعهم معلمهم فقال فرعون للمعلم ماذا صنعت قال قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك ساحرا إلا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفا، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفا، وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا وقال محمد بن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا وقال السدي: كانوا بضعا وثمانين ألفا، ويقال: رئيس القوم شمعون، وقيل: يوحنا. [سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 117] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) قوله عز وجل: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ يعني لما اجتمعوا وجاءوا إلى فرعون قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً يعني جعلا وعطاء تكرمنا به إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ يعني لموسى قال الإمام فخر الدين الرازي: ولقائل أن يقول كان حق الكلام أن يقول وجاء السحرة فرعون فقالوا بالفاء وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذا جاءوا فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين يعني لموسى قالَ نَعَمْ يعني: قال لهم فرعون لكم الأجر والعطاء وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني ولكم المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر والمعنى أن فرعون قال للسحرة إني لا أقتصر معكم على الأجر بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي، قال الكلبي: تكونوا أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج من عندي قالُوا يعني السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ يعني عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يعني عصيّنا وحبالنا في هذه الآية دقيقة لطيفة وهي أن السحرة راعوا مع موسى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء لا جرم أن الله عز وجل عوضهم حيث تأدبوا مع نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أولا وأظهروا ما يدل على رغبتهم في ذلك قالَ يعني قال لهم موسى أَلْقُوا يعني أنتم فقدمهم على نفسه في الإلقاء. فإن قلت كيف جاز لموسى أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر غير جائز؟ قلت: ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أجوبة أحدها أن معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا. الجواب الثاني: إنما أمرهم بالإلقاء لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا حبالهم وعصيهم لم تظهر معجزة موسى في عصاه. الجواب الثالث: أن موسى علم أنهم لا بد أن يلقوا تلك الحبال والعصي وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فأذن لهم في التقديم لتظهر معجزته أيضا بغلبهم لأنه لو ألقى أولا لم يكن له غلب وظهور عليهم فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولا فَلَمَّا أَلْقَوْا يعني حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يعني صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوا من التمويه والتخييل وهذا هو السحر وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي هي فعل الله وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك

[سورة الأعراف (7): الآيات 118 إلى 125]

ذلك الشيء والمعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى عليه الصلاة والسلام حية تسعى وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعني أرهبوهم وأفزعوهم بما فعلوه من السحر وهذا قوله تعالى: وَجاؤُ يعني السحرة بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصي زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. ويقال: إن الأرض كانت سعتها ميلا في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه الصلاة والسلام لأجل سحرهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان على يقين وثقة من الله تعالى أنهم لن يغلبوه وهو غالبهم وكان عالما بأن كل ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخييل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى من ذلك بل كان خوفه عليه الصلاة والسلام لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوا من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه الصلاة والسلام أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسه خيفة موسى. قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ يعني فألقاها فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ يعني تبتلع ما يَأْفِكُونَ يعني ما يكذب فيه السحرة لأن أصل الإفك قلب الشيء عن غير وجهه ومنه قيل للكذاب أفّاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل. قال المفسرون: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن لا تخف وألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فإذا هي تلقف يعني تبتلع كل شيء أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام بينهم فمات من ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أول مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس بسحر وعرفوا أن ذلك ليس من قدرة البشر وقوتهم فعند ذلك خروا سجّدا وقالوا: آمنا برب العالمين وذلك قوله تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 118 الى 125] فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) فَوَقَعَ الْحَقُّ يعني فظهر الحق الذي جاء به موسى وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من السحر وذلك أن السحرة قالوا لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت وتلاشت في عصا موسى علموا أن ذلك من أمر الله وقدرته فَغُلِبُوا هُنالِكَ يعني فعند ذلك غلب فرعون وسحرته وجموعه وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ يعني ورجعوا ذليلين مقهورين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ يعني أن السحرة لما عاينوا من عظيم قدرة الله تعالى ما ليس في قدرتهم مقابلته وعلموا أنه ليس بسحر خروا لله ساجدين وذلك أن الله عز وجل ألهمهم معرفته والإيمان به قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال فرعون إياي تعنون فقالوا بل رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قال مقاتل: قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك، وقيل: إن الحبال والعصي التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها قال بعضهم لبعض هذا أمر خارج عن حد السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا به وصدقوه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 126 إلى 128]

فإن قلت كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان. قلت: لما قذف الله عز وجل في قلوبهم الإيمان والمعرفة خروا سجدا لله تعالى شكرا على هدايتهم إليه وعلى ما ألهمهم الله من الإيمان بالله وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم. وقيل: لما رأوا عظيم قدرة الله تعالى وسلطانه في أمر العصا وأنه ليس يقدر على ذلك أحد من البشر وزالت كل شبهة كانت في قلوبهم بادروا إلى السجود لله تعظيما لشأنه لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان باللسان. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخّروا سجّدوا وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. قوله عز وجل: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ يعني فرعون للسحرة آمنتم بموسى وصدقتموه قبل أن آمركم به وآذن لكم فيه إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ يعني إن هذا الصنع الذي صنعتموه أنتم وموسى في مدينة مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع وذلك أن فرعون رأى موسى يحدث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطآ عليه وعلى أهل مصر وهو قوله لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها وتستولوا عليها أنتم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد وتهديد يعني: فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد فقال لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو أن تقطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين فيخالف بينهما في القطع ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ يعني على شاطئ نيل مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل فرعون قالُوا يعني مجيبين لفرعون حين وعدهم بالقتل إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إنا إلى ربنا راجعون وإليه صائرون في الآخرة. [سورة الأعراف (7): الآيات 126 الى 128] وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) وَما تَنْقِمُ مِنَّا وما تكره منا وما تطعن علينا وقال عطاء: معناه وما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثم فزعوا إلى الله تعالى وسألوه الصبر على تعذيب فرعون إياهم فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي اصبب علينا صبرا كاملا تاما ولهذا أتى بلفظ التنكير يعني صبرا وأي صبر عظيم وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ يعني واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء. قال الكلبي: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم غير أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ. قوله تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى يعني وقال جماعة من أشراف قوم فرعون لفرعون أتدع موسى وَقَوْمَهُ من بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر وأراد بالإفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني وتذره ليذرك ويذر آلهتك فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت لفرعون بقرة كان يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلا. وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله أنا ربكم الأعلى والأولى أن يقال إن فرعون كان دهريا منكر الوجود الصانع فكان

[سورة الأعراف (7): الآيات 129 إلى 131]

يقول مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب فاتخذ أصناما على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك وإلهتك بكسر الألف ومعناه ويذرك وعبادتك فلا يعبدك لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل أراد بالآلهة الشمس والكواكب لأنه كان يعبدها قال الشاعر: تروحنا من اللعباء قصرا ... وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا أراد بالإلاهة الشمس قالَ يعني فرعون مجيبا لقومه حين قالوا له أتذر موسى وقومه سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يعني نتركهن أحياء. وذلك أن قوم فرعون لما أرادوا إغراء فرعون على قتل موسى وقومه أوجس موسى إنزال العذاب بقومه ولم يقدر فرعون أن يفعل بموسى عليه الصلاة والسلام شيئا مما أرادوا به لقوة موسى عليه السلام بما معه من المعجزات فعدل إلى قومه فقال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاءهم موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان قال فرعون: أعيدوا عليهم القتل فأعادوا القتل على بني إسرائيل، والمعنى أن فرعون قال إنما يتقوى موسى بقومه فنحن نسعى في تقليل عدد قومه بالقتل لتقلّ شوكته، ثم بين فرعون أنه قادر على ذلك بقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يعني بالغلبة والقدرة عليهم ولما نزل ببني إسرائيل ما نزل شكوا إلى موسى ما نزل بهم قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يعني لما شكوا إليه اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا يعني استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله تعالى يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهذا إطماع من موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل أن يهلك فرعون وقومه ويملك بني إسرائيل أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم وهو قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وقيل أراد الجنة يعني إن عاقبة المتقين الصابرين الجنة. [سورة الأعراف (7): الآيات 129 الى 131] قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما آمنت السحرة تبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل والمعنى أن بني إسرائيل لما سمعوا ما قاله فرعون ووعدهم به من القتل مرة ثانية قالوا لموسى قد أوذينا من قبل أن تأتينا يعني بالرسالة وذلك أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار فلما جاء موسى بالرسالة وجرى ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار وأعاد القتل عليهم فقالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يعني بالرسالة وظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر. والجواب عن هذا الإيهام أن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدة والمشقة فظنوا أن ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنه قد زادت الشدة عليهم قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد

[سورة الأعراف (7): الآيات 132 إلى 133]

ما جئتنا فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه قالَ موسى مجيبا لهم عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ يعني فرعون وقومه وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني فيرى ربكم كيف تعملون من بعدهم. قال الزجاج: فيرى وقوع ذلك منهم لأن الله تعالى لا يجازيهم بما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم. قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ يعني بالقحط والجدب. تقول العرب: مستهم السنة بمعنى أخذهم الجدب في السنة ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر: ورجال مكة مسنتون عجاف ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» ومعنى الآية: ولقد أخذنا آل فرعون بالجدب والقحط والجوع سنة بعد سنة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ يعني وإتلاف الغلات بالآفات. قال قتادة أما السنون فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عز وجل من الخير، ثم بين الله تعالى أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا فقال تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعني الغيث والخصب والسعة والعافية والسلامة من الآفات قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مستحقون لها ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني القحط والجدب والمرض والبلاء ورأوا ما يكرهون في أنفسهم يَطَّيَّرُوا يعني يتشاءموا وأصله يتطيروا والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يعني أنهم قالوا ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم وما ذلك إلا بشؤم موسى وقومه. قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين وسنة لم يروا مكروها قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يعني أن نصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله قال ابن عباس رضي الله عنهما طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله وفي رواية عنه شؤمهم عند الله تعالى ومعناه أنه إنما جاءهم بكفرهم بالله وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن ما أصابهم من الله تعالى وإنما قال أكثرهم لا يعلمون لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب ولا يضيفونها إلى القضاء والقدر. [سورة الأعراف (7): الآيات 132 الى 133] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) قوله تعالى: وَقالُوا يعني قوم فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ يعني من عند ربك فهي عندنا سحر وهو قولهم لِتَسْحَرَنا بِها يعني لتصرفنا عما نحن عليه من الدين فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدّقين وكان موسى عليه الصلاة والسلام رجلا حديدا مستجاب الدعوة فدعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه فقال تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق: دخل كلام بعضهم في بعض قالوا لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عز وجل عليهم الآيات فأخذهم أولا بالسنين وهو بالقحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة

ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله عليهم المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مختلفة مشتبكة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت إسرائيل شيء وركد الماء على أرضهم فلم يقدروا على التحرك ولم يعلموا شيئا ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. وقال مجاهد وعطاء: الطوفان الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة أهل اليمن. وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به ثم بقي في الأرض. وقال مقاتل: الطوفان الماء طفا فوق حروثهم. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن الطوفان أمر من الله عز وجل طاف بهم فعند ذلك قالوا يا موسى ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا المطر ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فرفع عنهم الطوفان وأنبت الله لهم تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زرعهم وثمارهم وورق الشجر وأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة وأكل مسامير الحديد التي في الأبواب وغيرها وابتلي الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا هذا الرجز لنؤمنن لك وأعطوه عهد الله وميثاقه بذلك فدعاه موسى ربه عز وجل فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت وفي الخبر «مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم» ويقال إن موسى عليه السلام خرج إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق فرجع الجراد من حيث جاء وكان قد بقي من زروعهم وثمارهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأقاموا شهرا في عافية ثم بعث الله عز وجل عليهم القمل واختلفوا فيه فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القمل هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد وقتادة والسدي والكلبي: القمل الدبي وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له. وقال الحسن: يقرأ بفتح القاف وسكون الميم. قال أصحاب الأخبار أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب رملي أعفر بقرية من قرى مصر تسمى عين شمس فمشى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه فانهال عليهم القمل فتتبع ما بقي من حروثهم وزروعهم وثمارهم فأكلها كلها ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه فإذا أكل أحدهم طعاما امتلأ قملا. قال سعيد بن المسيب: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأخذت أشعارهم وأبصارهم وحواجبهم وأشفار عيونهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا بموسى إنّا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فمكثوا بعد ذلك ورجعوا إلى أخبث ما كانوا عليه من الأعمال الخبيثة وقالوا ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الرمل دوابا فدعا موسى عليهم بعد ما أقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل منهم يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يثب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تثب في قدورهم فتفسد طعامهم عليهم وتطفئ نيرانهم وكان أحدهم إذا اضطجع ركبته الضفادع حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر وإذا أراد أن يأكل سبقه الضفدع إلى فيه ولا يعجن أحدهم عجينا إلا امتلأ ضفادع فلقوا من ذلك بلاء شديدا. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله عز وجل على آل

[سورة الأعراف (7): الآيات 134 إلى 136]

فرعون وسمعت وأطاعت وجعلت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي على النار وفي التنانير وهي تفور أثابها الله عز وجل بحسن طاعتها برد الماء فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ما يلقونه من الضفادع وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود فأخذ موسى عليه السلام عليهم العهود والمواثيق ثم دعا الله عز وجل فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقامت عليهم سبعا من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام فأرسل الله عز وجل الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم كلها دما وكل ما يستقون من الآبار والأنهار يجدونها دما عبيطا فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا: ليس لنا شراب إلا الدم، فقال: سحركم. فقالوا: من أين يسحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا. فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويفرغان الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى أن المرأة من آل فرعون تأتي إلى المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول لها اسقني من مائك فتصب لها في قربتها فيصير في الإناء ماء حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي فتفعل ذلك فيصير دما ثم إن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دما فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم. وقال زيد بن أسلم: إن الدم الذي سلط الله عز وجل عليهم كان الرعاف فأتوا موسى عليه الصلاة والسلام وشكوا إليه ما يلقوه وقالوا ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فكشف عنهم ذلك فلم يؤمنوا فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ يعني يتبع بعضها بعضا وتفصيلها أن كل عذاب كان يقوم عليهم أسبوعا وبين كل عذابين مدة شهر فَاسْتَكْبَرُوا يعني عن الإيمان فلم يؤمنوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني آل فرعون. [سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 136] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني لما نزل بهم العذاب الذي ذكره في الآية المتقدمة هو الطوفان وما بعده وقال سعيد بن جبير الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت فنزل بهم الطاعون حتى مات منهم في يوم واحد سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون (ق). عن أبي أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه». وقوله تعالى: قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ يعني بما أوصاك وقيل بما عهد عندك من إجابة دعوتك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ يعني العذاب الذي وقع بنا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ حتى يذهبوا حيث شاؤوا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ يعني بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ يعني إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ يعني إذا هم ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به. واعلم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات هي معجزات في الحقيقة دالة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام ووجه ذلك أن العذاب كان مختصا بآل فرعون دون بني إسرائيل فاختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز وكون بني إسرائيل في أمان منه وعافية وقوم فرعون في شدة وعذاب وبلاء مع اتحاد المساكن معجز أيضا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 137 إلى 140]

فإن اعترض معترض وقال إن الله تعالى علم من حال آل فرعون أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها. فالجواب على مذهب أهل السنة إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة فلعله تعالى علم من قوم فرعون أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات وظهورها فلهذا السبب والاها عليهم والله أعلم بمراده. قوله عز وجل: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم. وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه. قال الزهري: اليم معروف لفظة سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ والمراد به نيل مصر وهو عذب بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا وَكانُوا عَنْها يعني عن آياتنا غافِلِينَ يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين. ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزا لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان. [سورة الأعراف (7): الآيات 137 الى 140] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) قوله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعني ومكنّا القوم الذين كانوا يقهرون ويغلبون على أنفسهم وهو أن فرعون وقومه كانوا قد تسلطوا على بني إسرائيل فقتلوا أبناءهم واستخدموهم فصيروهم مستضعفين تحت أيديهم مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض الشام ومصر وأراد بمشارقها ومغاربها جميع جهاتها ونواحيها. وقيل: أراد بمشارق الأرض ومغاربها الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب. وقيل: أراد جميع جهات الأرض وهو اختيار الزجاج قال: لأن داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض. وقوله عز وجل: الَّتِي بارَكْنا فِيها يدل على أنها الأرض المقدسة يعني باركنا فيها بالثمار والأشجار والزروع والخصب والسعة وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يعني وتمت كلمة الله وهي وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم وقيل كلمة الله هي قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ الآية والحسنى صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمامها إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم بِما صَبَرُوا يعني إنما حصل لهم ذلك التمام وهو ما أنعم الله تعالى به عليهم من إنجاز وعده لهم بسبب صبرهم على دينه وأذى فرعون لهم وَدَمَّرْنا يعني وأهلكنا والدمار الهلاك باستئصال ما كانَ

يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من العمارات والبنيان وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يعني يسقفون من ذلك البنيان وقال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور. وقال الحسن: وما كانوا يعرشون من الثمار والأعناب. قوله عز وجل: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ يعني وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد إهلاك فرعون وقومه وإغراقهم فيه يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره. وقال الكلبي عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكرا لله تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يعني فمر بنو إسرائيل بعد مجاوزة البحر على قوم يعكفون أي يقيمون ويواظبون على أصنام لهم يعني تماثيل لهم كانوا يعبدونها من دون الله. قال ابن جريج: كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل. وقال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة يعني بالرقة ساحل البحر وقيل كان أولئك الأقوام من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقتالهم قالُوا يعني قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا ذلك التمثال يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعني كما لهم أصنام يعبدونها ويعظمونها فاجعل لنا أنت إلها نعبده ونعظمه. قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم وقال غيره هذا يدل على غاية جهل بني إسرائيل وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعد ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وعبادتهم غير الله تعالى فحملهم جهلهم على أن قالوا لنبيهم موسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام بقوله قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ يعني تجهلون عظمة الله تعالى وأنه لا يستحق أن يعبد سواه لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه. عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي مهلك والتتبير الإهلاك وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ البطلان عبارة عن عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائده ونفعه والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا يدفع عنهم ضرا لأنه عمل لغير الله تعالى فكان باطلا لا نفع فيه قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حكم عليهم بالجهالة وقال مجيبا لهم على سبيل العجب والإنكار عليهم أغير الله أبغيكم إلها يعني أطلب لكم وأبغي لكم إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ والمعنى أن الإله ليس هو شيئا يطلب ويلتمس ويتخير بل الإله هو الذي فضلكم على العالمين لأنه القادر على الإنعام والإفضال فهو هذا الذي يستحق أن يعبد ويطاع لا عبادة غيره ومعنى قوله فضلكم على العالمين يعني على عالمي زمانكم وقيل فضلهم بما خصهم به من الآيات الباهرة التي لم تحصل لغيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 141 إلى 143]

[سورة الأعراف (7): الآيات 141 الى 143] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قوله عز وجل: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ هذه الآية تقدم تفسيرها في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. قوله عز وجل: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً يعني وواعدنا موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاتنا ثلاثين ليلة وهي ذو القعدة وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ يعني عشر ذي الحجة وهذا قول ابن عباس ومجاهد. قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله عز وجل فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه عز وجل أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل بل أكل من ورق الشجر فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام وقيل إن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يصوم ثلاثين يوما ويعمل فيها ما يتقرب به إلى الله ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال: وتممناها بعشر وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فذكره هناك على الإجمال وذكره هنا على التفصيل. وقوله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني فتم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى عليه الصلاة والسلام وعبادته أربعين ليلة لأن الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال ولهذا قيل مواقيت الحج وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي يعني كن أنت خليفتي فيهم من بعدي حتى أرجع إليك وَأَصْلِحْ يعني وأصلح أمور بني إسرائيل واحملهم على عبادة الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الرفق بهم والإحسان إليهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يعني ولا تسلك طريق المفسدين في الأرض ولا تطعهم والمقصود من هذا الأمر التأكيد لأن هارون عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين فهو كقوله ولكن ليطمئن قلبي وكقولك للقاعد اقعد بمعنى دم على ما أنت عليه من القعود. قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا يعني للوقت الذي وقتنا له أن يأتي فيه لمناجاتنا وهو قوله وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وفي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام واختلف الناس في كلام الله تعالى فقال الزمخشري كلمه ربه عز وجل من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في الألواح هذا كلامه وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأن الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري» فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهبت الحنابلة ومن وافقهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قد تم وذهب جمهور المتكلمين إلى أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول قالوا إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع تلك الصفة الأزلية الحقيقية وقالوا كما أنه لا يبعد رؤية ذاته وليس جسما ولا

عرضا كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته. قال أهل التفسير والأخبار: لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن الله تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشيطان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرش بارزا وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه الله تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه كلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم الله تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الزجاج: فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك وإنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى الله عن ذلك قالَ لَنْ تَرانِي يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر إليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام: إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك. وقال السدي: لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال «رب أرني أنظر إليك» قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام «لن تراني». ((فصل)) وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى: لَنْ تَرانِي قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود «ولن يتمنوه أبدا» مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقوله يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولا على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعا بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضا فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفا بالله تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على الله عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى وأيضا فإن الله عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل الله تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا والله أعلم بمراده. قال وهب ومحمد بن إسحاق: لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل الله الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع

فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى أهل السموات أن يعترضوا على موسى عليه الصلاة والسلام فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد فقال موسى: رب إني كنت عن هذا غنيا ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه مثل الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف موسى بن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وبدنه ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني مما أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس لهم جلب كجلب الجيش العظيم أو النهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة ورئيسهم: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصير عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من الملائكة كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى عليه الصلاة والسلام رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك فلا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن أقمت مت فقال له كبير الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبدا لا يموت فارتج الجبل لشدة أصواتهم واندك واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله تعالى برحمته الروح فتغشته وقلب عليه الحجر الذي كان جلس عليه موسى فصار عليه كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه الصلاة والسلام وأقامت الروح عليه مثل اللامة فلما أفاق موسى قام يسبح ويقول آمنت بك وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك والإله العظيم لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلّك يا رب العالمين فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال ابن عباس: ظهر نور ربه للجبل فصار ترابا واسم الجبل زبير. وقال الضحاك أظهر الله عز وجل من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ما تجلى للجبل من الله تعالى إلا مثل سم الخياط حتى صار دكا. وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على الفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل ذكره البغوي هكذا بغير سند وأخرجه الترمذي أيضا عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال حماد هكذا وأمسك بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى فساخ الجبل وخرّ موسى عليه السلام صعقا. وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة

[سورة الأعراف (7): آية 144]

ويروى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا يعني مستويا بالأرض وقال ابن عباس: جعله ترابا وقال سفيان ساخ الجبل حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي صار رملا هائلا وقال الكلبي جعله دكا يعني كسرا جبالا صغارا وقيل إنه صار لعظمة الله تعالى ستة أجبل فوقع ثلاثة بالمدينة وهي: أحد وورقان ورضوى ووقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبر وحراء وقوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس والحسن يعني مغشيا عليه. وقال قتادة يعني ميتا والأول أصح لقوله فَلَمَّا أَفاقَ والميت لا إفاقة له إنما يقال أفاق من غشيته قال الكلبي صعق موسى عليه الصلاة والسلام يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. وقال الواقدي: لما خر موسى صعقا قالت ملائكة السموات: ما لابن عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو في غشيته فجعلوا يركلونه ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة فلما أفاق يعني من غشيته ورجع عقله إليه وعرف أنه سأل أمرا عظيما لا ينبغي له قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك من النقائص كلها تُبْتُ إِلَيْكَ يعني من مسألتي الرؤية بغير إذنك وقيل من سؤال الرؤية في الدنيا وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال سبحانك تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي وقيل لما سأل الرؤية ومنعها قال تبت إليك يعني من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني بأنك لا ترى في الدنيا وقيل وأنا أول المؤمنين يعني من بني إسرائيل بقي في الآية سؤالات: الأول أن الرؤية عين النظر فكيف قال أرني أنظر إليك وعلى هذا يكون التقدير أرني حتى أراك؟ والجواب عنه: أن معنى قوله أرني اجعلني متمكن من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك. السؤال الثاني كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ حتى يكون مطابقا لقوله «أنظر إليك»؟ والجواب: أن النظر لما كان مقدمة الرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه. السؤال الثالث: كيف استدرك وكيف اتصل الاستدراك من قوله: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله؟ والجواب أن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحدا لا يقوى على رؤيته تعالى إلا من قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أصل التجلي للجبل اندك وتقطع فهذا هو المراد من هذا الاستدراك لأنه يدل على تعظيم أمر الرؤية والله أعلم بمراده. [سورة الأعراف (7): آية 144] قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) قوله عز وجل: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي يعني قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام يا موسى إني اخترتك واتخذتك صفوة. الاصطفاء الاستخلاص من الصفوة والاجتباء والمعنى إني فضلتك واجتبيتك على الناس وفي هذا تسلية لموسى عليه الصلاة والسلام عن منع الرؤية حين طلبها لأن الله تعالى عدد عليه نعمه التي أنعم بها عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت منعت من الرؤية التي طلبت فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيقن صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها ويه الاصطفاء على الناس برسالاتي وبكلامي يعني من غير واسطة لأن غيره من الرسل منع كلام الله تعالى إلا بواسطة الملك. فإن قلت كيف قال اصطفيتك على الناس برسالاتي مع أن كثيرا من الأنبياء قد ساواه في الرسالة قلت ذكر العلماء عن هذا السؤال جوابين: أحدهما: ذكره البغوي فقال لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة استقام قوله «اصطفيتك على الناس» وإن شاركه فيها غيره كما يقول الرجل للرجل خصصتك بمشورتي وإن كان قد شاور غيره إذا لم تكن

[سورة الأعراف (7): آية 145]

المشورة على العموم فيكون مستقيما وفي هذا الجواب نظر لأن من جملة من اصطفاه الله برسالته محمدا صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من موسى عليه الصلاة والسلام فلا يستقيم هذا الجواب الجواب الثاني ذكره الإمام فخر الدين الرازي فقال: إن الله تعالى بين أنه خصه بمجموع أمرين وهما الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجموع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص هاهنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الجواب بغير واسطة سببا لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فيه كان أعلى وأشرف ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب وهذا الجواب فيه نظر أيضا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم اصطفاه برسالته وكلمه ليلة المعراج بغير واسطة وفرض عليه وعلى أمته الصلوات وخاطبه بيا محمد يدل عليه قوله فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ورفعه إلى حيث سمع صريف الأقلام وهذا كله يدل على مزيد الفضل والشرف على موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء فلا يستقيم هذا الجواب أيضا والذي يعتمد في هذا الجواب عن هذا السؤال أن الله اصطفى موسى عليه الصلاة والسلام برسالته وبكلامه على الناس الذين كانوا في زمانه وذلك أنه لم يكن في ذلك الوقت أعلى منصبا ولا أشرف ولا أفضل منه وهو صاحب الشريعة الظاهرة وعليه نزلت التوراة فدل ذلك عليه أنه اصطفاه على ناس زمانه كما اصطفى قومه على عالمي زمانهم وهو قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ قال المفسرون: يعني على عالمي زمانهم. وقوله تعالى: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ يعني ما فضلتك وأكرمتك به وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني على إنعامي عليك وفي القصة أن موسى عليه الصلاة والسلام كان بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها قوله تعالى: [سورة الأعراف (7): آية 145] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة والمعنى وكتبنا لموسى في ألواح التوراة قال البغوي وفي الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح إثنا عشر ذراعا وجاء في الحديث خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده. وقال الحسن: كانت الألواح من خشب. وقال الكلبي من زبرجدة خضراء. وقال سعيد بن جبير من ياقوتة حمراء. وقال ابن جريج من زمرد أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى جاء بها من جنة عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور. وقال الربيع بن أنس: كانت الألواح من زبرجد وقال وهب: أمره الله بقطع أرواح من صخرة صماء لينها له فقطعها بيده ثم شقها بإصبعه وسمع موسى عليه الصلاة والسلام صرير الأقلام بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي الحجة كان طول الألواح عشرة أذرع على طول موسى وقيل إن موسى خر صعقا يوم عرفه فأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وهذا أقرب إلى الصحيح عنه أنها لوحان واختاره الفراء قال وإنما جمعت على عدة العرب في إطلاق الجمع على الإثنين وقال وهب كانت عشرة ألواح. وقال مقاتل: كانت تسعة. وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيرا يقرأ لجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع بن نون وعزيز وعيسى عليهم الصلاة والسلام والمراد بقوله لم يقرأها يعني لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلبه إلا هؤلاء الأربعة. وقال الحسن: هذه الآية في التوراة بألف آية يعني قوله وكتبنا له في الألواح مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني يحتاج إليه من أمر ونهي مَوْعِظَةً يعني نهيا عن الجهل وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني وتبيينا لكل شيء

من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام مما يحتاج إليه في أمور الدين وروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه قال: كتب له يعني في التوراة لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كل ذلك خلقي ولا تحلف باسمي كاذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ووقر والديك. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن كعب الأحبار أن موسى عليه الصلاة والسلام نظر في التوراة فقال: إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى فقال رب إني لأجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون كفارتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله وإذا هبط واديا حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعلمها كتب له حسنة بمثلها وإن عملها كتبت بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال: رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبدا إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء من البحر فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته قال يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي- إلى قوله- سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال فرضي موسى كل الرضا. وقوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ يعني وقلنا لموسى عليه الصلاة والسلام إذا كتبنا له في الألواح من كل شيء خذها بجد واجتهاد. وقيل معناه فخذها بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة لأن من أخذ شيئا بضعف نية أداه إلى الفتور وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قال ابن عباس: يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعلموا بمحكمها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه الصلاة والسلام أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به وقيل ظاهر قوله وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يدل على أن بين التكليفين فرقا ليكون في هذا الفصل فائدة وهي أن التكليف كان على موسى أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره من قومه. فإن قلت ظاهر قوله تعالى: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يدل على أن فيها ما ليس بحسن وذلك لم يقل به أحد فما معنى قوله يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها؟ قلت إن التكليف كله حسن وبعضه أحسن كالقصاص حسن ولكن العفو أحسن وكالانتصار حسن والصبر أحسن منه فأمروا أن يأخذوا بالشد على أنفسهم ليكون ذلك أعظم من الثواب فهو كقوله اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وكقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقيل إن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس وقيل معناه بأحسنها بحسنها وكلها حسن. قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال مجاهد: يعني مصيركم في الآخرة وقال الحسن وعطاء يريد جهنم يحذركم أن تكونوا مثلهم. وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا الله

[سورة الأعراف (7): آية 146]

تعالى لتعتبروا بها. وقال عطية العوفي يعني دار فرعون وقومه وهي مصر. وقال السدي: يعني منازل الكفار وقال الكلبي هي منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا فكانوا يمرون عليها إذا سافروا. [سورة الأعراف (7): آية 146] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) قوله عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال ابن عباس يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها حتى لا يؤمنوا بي عقوبة بحرمان الهداية لعنادهم الحق. وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن وقيل معناه سأصرفهم عن التفكير في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعبر وقيل حكم الآية لأهل مصر خاصة وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام والأكثرون على أن الآية فيه دليل لمذهب أهل السنة على أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويصرف عن آياته ويقبل الحق من يشاء ويوفق بالتفكر في آياته وقبول الحق من يشاء لأنه القادر على ما يشاء لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ومعنى الذين يتكبرون الذين يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم والتكبر على هذه الصفة لا يكون إلا لله عز وجل لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد سواه فالتكبر في حق الله عز وجل صفة مدح وفي حق المخلوقين صفة ذم لأنه تكبر بما ليس له ولا يستحقه وقيل التكبر إظهار كبر النفس على غيرها فهو صفة ذم في حق جميع العباد وقوله يتكبرون من الكبر لا من التكبر أن يفتعلون التكبر ويرون أنهم أفضل من غيرهم فلذلك قال يتكبرون في الأرض بغير الحق بل بالباطل وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ يعني طريق الحق والهدى والسداد والصواب لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا يعني لا يختاروه لأنفسهم طريقا يسلكونه إلى الهداية وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يعني طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ذلك اختاروه لأنفسهم من ترك الرشد واتباع الغي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله الدالة على توحيده وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ يعني عن التفكر فيها والاتعاظ بها، [سورة الأعراف (7): الآيات 147 الى 150] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني ولقاء الدار الآخرة التي فيها الثواب والعقاب حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطلت فصارت كأن لم تكن والمعنى أنه قد يكون في الذين يكذبون بآيات الله من يعمل البر والإحسان والخير فبين الله تعالى بهذه الآية أن ذلك ليس ينفعهم من كفرهم وتكذيبهم بآيات الله وإنكارهم الدار الآخرة والبعث هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني هل يجزون في العقبى إلا جزاء العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا.

قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل لمناجاة ربه عز وجل: مِنْ حُلِيِّهِمْ يعني التي استعاروها من قوم فرعون وذلك أن بني إسرائيل كان لهم عيد فاستعاروا من القبط الحلي ليتزينوا به في عيدهم فبقي عندهم إلى أن أهلك الله فرعون وقومه فبقي الحلي لبني إسرائيل ملكا لهم فلذلك قال الله تعالى من حليهم فلما أبطأ موسى عليهم جمع السامري ذلك الحلي وكان رجلا مطاعا في بني إسرائيل فذلك قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى. والمتخذ هو واحد فنسب الفعل إلى الكل لأنه كان برضاهم فكأنهم أجمعوا عليه وكان السامري رجلا صائغا فصاغ لهم عِجْلًا جَسَداً يعني من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة وألقى في ذلك العجل من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلا جسدا لحما ودما لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور أهل التفسير وقيل كان جسدا لا روح فيه وكان يسمع منه صوت وقيل إن ذلك الصوت كان خفيق الريح وذلك أنه جعله مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على وضع مخصوص فإذا هبت الريح دخلت في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت كصوت البقر. والقول الأول: أصح لأنه كان يخور وقيل إنه خار مرة واحدة وقيل إنه كان يخور كثيرا وكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. قال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقال السدي: كان يخور ويمشي أَلَمْ يَرَوْا يعني الذين عبدوا العجل وقيل إن بني إسرائيل كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ وهذا يفيد العموم وقيل إن بعضهم عبد العجل وهو الصحيح وأجيب عن قوله واتخذ قوم موسى أنه خرج على الأغلب وكذا قوله أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ يعني العجل الذي عبدوه لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعني أن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جمادا أو حيوانا ناقصا عاجزا وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ يعني لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى الذي يضر وينفع واشتغلوا بعبادة العجل الذي لا يضر ولا ينفع ولا يتكلم ولا يهديهم إلى رشد وصواب. قوله عز وجل: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ يعني ولما ندموا على عبادة العجل. تقول العرب لكل نادم على أمر: سقط في يده وذلك لأن من شأن من اشتد ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب على فخذه فتصير يده ساقطة لأن السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا يعني وتيقنوا أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا يعني يتب علينا ويتجاوز عنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين خسروا أنفسهم بوضعهم العبادة في غير موضعها وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدر عليه من الذنب وندم على ما صدره منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويرحمهم كلام التائب النادم على ما فرط منه وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وهو قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً يعني لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة ربه إلى قومه بني إسرائيل رجع غضبان أسفا لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأن السامري قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفا. قال أبو الدرداء: الأسف أشد الغضب. وقال ابن عباس والسدي: الأسف الحزن والأسيف الحزين. قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا والأخرى غضبا فعلى هذا كان موسى عليه الصلاة والسلام غضبان من قومه لأجل عبادتهم العجل آسفا حزينا لأن الله تعالى فتنهم وأن الله تعالى كان قد أعلمه بذلك فحزن لأجل ذلك قالَ يعني موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم هذا الخطاب يحتمل

[سورة الأعراف (7): الآيات 151 إلى 153]

أن يكون لعبدة العجل من السامي وأتباعه أو لهارون من بني إسرائيل فعلى الاحتمال الأول في أنه خطاب لعبدة العجل يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله وعلى الاحتمال الثاني وهو أن يكون الخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى وقد رأيتم مني الأمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له ونفي الشركاء عنه وحمل بني إسرائيل على ذلك ومن حق الخلفاء أن يسروا لسيرة مستخلفهم وقوله أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة لم يقل موسى عليه الصلاة والسلام «عجلت إليك رب لترضى» ومعنى الآية أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدروا أنه لم يأت على رأس الثلاثين فقد مات وقيل معناه أعجلتم سخط ربكم بعبادة العجل. وقال الكلبي: معناه أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام رجع إلى قومه غضبان أسفا ذكر بعده ما أوجبه الغضب فقال تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ يعني التي فيها التوراة وكان حاملا لها فألقاها من شدة الغضب قالت الرواة وأصحاب الأخبار: كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباع وبقي سبع واحد رفع منها ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام، وروى أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام بفتنة قومه وعرف موسى عليه الصلاة والسلام أن ما أخبره الله سبحانه وتعالى به حق وصدق ومع ذلك لم يلق التوراة من يده فلما رجع إلى قومه وعاين ذلك وشاهده ألقى التوراة وهذا كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قيل إنه أخذ بشعر رأسه ولحيته من شدة غضبه وقال ابن الأنباري لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام ووجد قومه مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه فأقبل على أخيه هارون يلومه ومد يده إلى رأسه لشدة موجدته عليه إذا لم يلحق به فيعرفه خبر بني إسرائيل فيرجع ويتلافاهم فأعلمه هارون عليه السلام أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفا على نفسه من القتل وهو قوله تعالى: قالَ يعني هارون ابْنَ أُمَّ إذ قال هارون لموسى ابن أم وإن كانا لأب وأم ليرققه ويستعطفه عليه إِنَّ الْقَوْمَ يعني الذين عبدوا العجل اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي أي وقاربوا أهمّوا أن يقتلوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به والمعنى لا تسر الأعداء بما تنال مني من مكروه وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الذين عبدوا العجل. [سورة الأعراف (7): الآيات 151 الى 153] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما تبين له عذر أخيه هارون قال رب اغفر لي ما صنعت إلى أخي هارون يريد ما أظهر من الموجدة عليه في وقت الغضب وَلِأَخِي يعني واغفر لأخي هارون إن كان وقع منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل وَأَدْخِلْنا يعني جميعا فِي رَحْمَتِكَ يعني في سعة رحمتك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وهذا فيه دليل على الترغيب في الدعاء لأن من هو أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ يعني إلها عبدوه من دون الله سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني سينالهم عقوبة من ربهم وهوان بسبب كفرهم وعبادتهم العجل وذلك في عاجل الحياة الدنيا ثم للمفسرين في هذه الآية قولان:

[سورة الأعراف (7): الآيات 154 إلى 155]

أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم كما أمرهم الله فتاب عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة؟ والجواب: إن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضبا عليهم والمراد بالذلة هو إسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ. فإن قلت السين في قوله سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟ قلت: هذا الكلام إنما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقا لوقوعه وهو التل الذي أمرهم الله به بعد ذلك وقال ابن جريج في هذه الآية إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل وهو الذي قاله ابن جريج وإن كان له وجه لكن لجميع المفسرين على الخلافة. القول الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآباؤهم هم الذين عبدوا العجل وأراد بالغضب عذاب الآخرة وبالذلة في الدنيا الجزية. وقال عطية العوفي: سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وبني قريظة من القتل والجلاء وعلى هذا القول في تقرير الآية وجهان: الأول: أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل لك في المناقب فتقول للأبناء كذا وفعلتم كذا وإما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذلك هاهنا وصف اليهود الذين كانوا على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم اتخذوا العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم على اليهود الذين كانوا في زمنه بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا. الوجه الثاني: أن تكون الآية من باب حذف المضاف والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم، إلخ ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ يعني: وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها نجزي كل من افترى على الله كذبا أو عبد غيره وقال أبو قلابة: هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال والمبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يعني عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب صغير وكبير حتى الكفر فما دونه ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني ثم رجعوا إلى الله من بعد أعمالهم السيئة وَآمَنُوا يعني وصدقوا بالله تعالى وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب إِنَّ رَبَّكَ يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب مِنْ بَعْدِها يعني من بعد توبتهم لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يغفر الذنوب ويرحم التائبين وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعا بفضله ورحمته وتقدير الآية أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله وأخلص التوبة فإن الله يغفرها له ويقبل توبته وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين. [سورة الأعراف (7): الآيات 154 الى 155] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ يعني: سكن لأن السكوت أصله الإمساك عن الشيء ولما كان السكوت بمعنى السكون استعير في سكون الغضب لأن الغضب لا يتكلم لكنه لما كان بفورته دالّا على ما في نفس المغضب كان بمنزلة الناطق فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة السكوت عما كان متكلما به وقيل معناه ولما سكت موسى عن الغضب فهو من المقلوب كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة والقول الأول أصح لأنه قول أهل اللغة والتفسير أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني التي ألقاها قال الإمام فخر الدين: وظاهر هذا يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء وَفِي نُسْخَتِها النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف فقد نقلت ما في الأصل إلى الفرع فعلى هذا قيل أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ، وقيل: أراد بها النسخة المكتتبة من الألواح التي أخذها موسى بعد ما تكسرت. وقال ابن عباس وعمرو بن دينار: لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت عليه في لوحين وفيهما ما في الأولى بعينها فيكون نسخها نقلها وعلى قول من قال إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بعينها بعد ما ألقاها يكون معنى وفي نسختها المكتوب فيها هُدىً وَرَحْمَةً قال ابن عباس: يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يعني للخائفين من ربهم. قوله عز وجل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا الاختيار افتعال من لفظ الخيار يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره. والمعنى اختار موسى من قومه فحذف كلمة من وذلك سائغ في العربية لدلالة الكلام عليه. قال أصحاب الأخبار: إن موسى عليه الصلاة والسلام اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يقونا وقيل إنه لم يجد إلا ستين شيخا فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه واختلف أهل التفسير في ذلك الميقات فقيل إنه الميقات الذي كلمه فيه ربه وسأل فيه الرؤية وذلك أنه لما خرج إلى طور سيناء أخذ معه هؤلاء السبعين فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودخل موسى فيه وقال لقومه ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجدا وسمعوا الله تعالى وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل كذا لا تفعل كذا فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية. وقال السدي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا فاختار موسى من قومه سبعين رجلا ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا «لن نؤمن لك» يا موسى «حتى نرى الله جهرة» فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي. وقال محمد بن إسحاق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال السبعون فيما ذكر لي حين فعلوا ما أمرهم به وخرجوا مع موسى لميقات ربه اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا فكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجودا فسمعوا الله وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وهي مرجفة فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه يقول رب لو شئت أهلكتهم من

قبل وإياي، وقال ابن عباس: كان الله أمر موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فبرز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم ادعوا على موسى أنه قتل هارون. قال علي بن أبي طالب: انطلق موسى وهارون إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه، وكان هارون حسن الخلق محببا في بني إسرائيل فقال لهم موسى اختاروا من شئتم فاختاروا سبعين رجلا فلما انتهوا إليه قالوا يا هارون من قتلك قال ما قتلني أحد ولكن الله توفاني فأخذتهم الرجفة فجعل موسى يرجع يمينا وشمالا ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ الآية فأحياهم الله عز وجل وقيل إنما أخذتهم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل لا لأنهم كانوا من عبدته. قال ابن عباس: إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل وما كرهوا أن يجامعوهم عليه. قال ابن جريج فلما خرجوا ودعوا الله أماتهم ثم أحياهم: وقال مجاهد: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا الميقات الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، وقال محمد بن كعب القرظي: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف فأخذتهم الرجفة فماتوا ثم أحياهم الله وقوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أصل الرجفة الاضطراب الشديد الذي يحصل معه التغيير والهلاك ولهذا اختلفوا في تلك الرجفة التي حصلت لهؤلاء هل كان معها موت أم لا فمعظم الروايات التي تقدمت أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة. وقال وهب بن منبه: لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة فاطمأنوا وسمعوا كلام الله فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ يعني موسى رَبِّ أي يا رب لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل عبادتهم العجل وَإِيَّايَ وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا رجع إليهم وما هم معه ولم يصدقوه بأنهم ماتوا فقال: رب لو شئت أهلكتهم من قبل يعني قبل خروجهم إلى الميقات وإياي معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحاب العجل العجل فقال أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني عبدة العجل وإنما أهلكوا بسبب مسألتهم الرؤية وهي قولهم أرنا الله جهرة، وهذا قول الكلبي وجماعة، وقال جماعة من أهل العلم: لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى يهلك قوما بذنوب غيرهم ولكن قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام بمعنى الجحد أي لست تفعل ذلك وهذا قول ابن الأنباري، وقال المبرد: هذا استفهام استعطاف أي لا تهلكنا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأن معناه لا تهلكنا بفعلهم فإن تلك الفتنة كانت اختبارا منك وابتلاء أضللت بها قوما فافتتنوا وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك وهو المراد من قوله: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر أَنْتَ وَلِيُّنا يعني أنت يا ربنا ناصرنا وحافظنا وهذا يفيد الحصر أي لا وليّ لنا ولا ناصر ولا حافظ إلا أنت فَاغْفِرْ لَنا سأل موسى عليه الصلاة والسلام لنفسه ولقومه الغفران أما لنفسه فلقوله إن هي إلا فتنتك وهذا فيه إقدام على الحضرة المقدسة وأما لقومه فلقولهم أرنا الله جهرة وفي هذا إقدام على الحضرة المقدسة فلهذا السبب سأل موسى عليه الصلاة والسلام الغفران له ولقومه وَارْحَمْنا أي اشملنا برحمتك التي وسعت كل

[سورة الأعراف (7): الآيات 156 إلى 157]

شيء وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ يعني أن كل من سواك إنما يغفر الذنب طلبا للثناء الجميل أو لدفع ضرر وأما أنت يا رب فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم فأنت خير الغافرين. [سورة الأعراف (7): الآيات 156 الى 157] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ يعني قال موسى في دعائه واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي واجعلنا ممن كتبت له حسنة وهي ثواب الأعمال الصالحة وفي الآخرة أي واكتب لنا في الآخرة مغفرة لذنوبنا إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس معناه إنّا تبنا إليك، وهذا قول جميع المفسرين وأصل الهود الرجوع برفق قال بعضهم وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم فلما نسخت شريعتهم صار اسم ذم وهو لازم لهم قالَ يعني قال الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ يعني من خلقي وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي ومن تصرف في خالص حقه فليس لأحد عليه اعتراض وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يعني أن رحمته سبحانه وتعالى عمّت خلقه كلهم، وقال بعضهم: هذا من العام أريد به الخاص فرحمه الله عمت البر والفاجر في الدنيا وهي للمؤمنين خاصة في الآخرة وقيل هي للمؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة ولكن الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن لسعة رحمة الله له فإذا كان يوم القيامة وجبت للمؤمنين خاصة قال جماعة من المفسرين لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء تطاول إبليس إليها وقال أنا من ذلك الشيء فنزعها الله تعالى من إبليس فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أيس إبليس منها، وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية وقال نوف البكالي لما اختار موسى من قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى اجعل لك الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة لا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم يقرؤها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال موسى ذلك لقومه فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ولا نستطيع أن نقرأ التوراة على ظهر قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا قال الله تعالى فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ- إلى قوله- الْمُفْلِحُونَ فجعلها الله تعالى لهذه الأمة، فقال موسى: رب اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم، قال: اجعلني منهم قال إنك لن تدركهم قال موسى: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فرضي موسى، أما التفسير فقوله الذين يتقون يعني الشرك وسائر ما نهوا عنه لأن جميع التكاليف محصورة في نوعين: الأول: التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها ولا يقربها وإليه الإشارة بقوله تعالى: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ والثاني الأفعال المأمور بها وتلك الأعمال بدنية وقلبية أما البدنية فإنها الإشارة بقوله ويؤتون الزكاة وهذه الآية وإن كانت في حق المال لكن يختص البدن بإخراجها والأعمال القلبية كالإيمان

والمعرفة وإليها الإشارة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. قوله عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية وجهين: أحدهما: إن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وفي قوله والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل. الوجه الثاني: إن المراد من لحق من بني إسرائيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه، قال: وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة. وجمهور المفسرين على خلاف ذلك فإنهم قالوا: المراد بهم جميع أمته الذين آمنوا به واتبعوه سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم وأجمع المفسرون على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه رسولا لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه المبلغ رسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ثم وصفه بكونه نبيا. وهذا أيضا من أعلى المراتب وأشرفها وذلك يدل على أنه رفيع الدرجات عند الله المخبر عنه ثم وصفه بالأمي. قال ابن عباس: هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الزجاج في معنى الأمي: هو الذي على صفة أمة العرب لأن العرب أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك فلهذا وصفه الله تعالى بكونه أميا وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» قال أهل التحقيق: وكونه صلى الله عليه وسلم كان أميا من أكبر معجزاته وأعظمها، وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير فدل ذلك على معجزته وهو قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وقيل: إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهما فيه لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره فلما كان أميا وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن الكتابة تعين الإنسان على الاشتغال بالعلوم وتحصيلها ثم إنه أتى بهذه الشريعة الشريفة والآداب الحسنة مع علوم كثيرة وحقائق دقيقة من غير مطالعة كتب ولا اشتغال على أحد فدل ذلك على كونه معجزة له صلى الله عليه وسلم وقيل في معنى الأمي: الذي هو منسوب إلى أمه كأنه لم يخرج بعد عما ولدته عليه وقيل سمي أميا لأنه منسوب إلى أم القرى وهي مكة وقوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يعني يجيدون صفته ونعته ونبوته مكتوبا عندهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم له وخوفا على زوال رئاستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رئاستهم ووقعوا في الذل والهوان (خ) عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال: أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. ((شرح غريب ألفاظ الحديث)) الفظ: السيئ الخلق، والغليظ: الجافي القاسي، وقوله سخاب: بالسين والصاد وهو كثير الصياح في

[سورة الأعراف (7): الآيات 158 إلى 159]

الأسواق، والاعوجاج: ضد الاستقامة وأراد بالملة العوجاء: الكفر والقلب الأغلف: الذي لا يصل إليه شيء ينفعه شبهه بالأغلف كأنه في غلاف. وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار قال: إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد يأتزرون على أنصافهم ويغضون أطرافهم صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء مناديهم ينادي في جوف السماء لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام. وقوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني بالإيمان وتوحيد الله وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك بالله، وقيل: المعروف ما عرف في الشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ يعني بذلك ما كان محرما عليهم في التوراة من الطيبات وهو لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر، وقيل: هو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، وقيل: هي المستلذات التي تستطيبها الأنفس وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الميتة والدم ولحم الخنزير، وقيل: هو كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس، فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ يعني ثقلهم وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله، والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام فكانت تلك الشدائد وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ يعني ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم في الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثوب بالمقراض وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وتتبع العروق في اللحم وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال مجازا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل، وقيل: شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق. كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام نسخ ذلك كله ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: بعثت بالحنيفية السهلة السمحة فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني بمحمد عليه الصلاة والسلام وَعَزَّرُوهُ يعني وقّروه وعظموه، وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه وهو قوله وَنَصَرُوهُ يعني على أعدائه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ يعني القرآن سمي القرآن نورا لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج به من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني هم الناجون الفائزون بالهداية. [سورة الأعراف (7): الآيات 158 الى 159] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد للناس إني رسول الله إليكم جميعا لا إلى بعضكم دون بعض ففي الآية دليل على عموم رسالته إلى كافة الخلق، لأن قوله يا أيها الناس خطاب عام يدخل فيه جميع الناس ثم أمره الله عز وجل بأن يقول إني رسول الله إليكم جميعا، وهذا

يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس (ق) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة» وفي رواية «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وقوله في الرواية الأولى وبعثت إلى كل أحمر وأسود قيل أراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب وقيل أراد بالأحمر الإنس وبالأسود الجن فعلى هذا تكون رسالته صلى الله عليه وسلم عامة إلى كافة الخلق من الإنس والجن. (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فضلت على الأنبياء بستة أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون». وقوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما أمر الله عز وجل رسوله محمدا بأن يقول «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا» أردفه بما يدل على صحة دعواه: يعني أن الذي له ملك السموات والأرض وهو مدبرهما ومالك أمرهما هو الذي أرسلني إليكم وأمرني بأن أقول لكم إني رسول الله إليكم جميعا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وصف الله نفسه بالإلهية وأنه لا شريك له فيها وأنه القادر على إحياء خلقه وإماتتهم ومن كان كذلك فهو القادر على إرسال الرسل إلى خلقه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس إني رسول الله إليكم جميعا أمر الله جميع خلقه بالإيمان به ورسوله وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عنه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله فقال فآمنوا بالله ورسوله ثم وصفه الله تعالى فقال النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ تقدم معناهما الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ قال قتادة: يعني آياته وهو القرآن، وقال مجاهد والسدي: أراد بكلماته عيسى ابن مريم لأنه خلق بقوله كن فكن، وقيل: هو على العموم يعني يؤمن بجميع كلمات الله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ يعني واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه وقيل: المتابعة على قسمين: متابعة في الأقوال ومتابعة في الأفعال. أما المتابعة في الأقوال فبأن يتمثل التابع جميع ما أمره به المتبوع على طريق الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وأما المتابعة في الأفعال فبأن يقتدي به في جميع أفعاله وآدابه إلا ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت بالدليل أنه من خصائصه فلا متابعة فيه وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني لكي تهتدوا وترشدوا وتصيبوا الحق والصواب في متابعتكم إياه. قوله عز وجل: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني من بني إسرائيل أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني يهتدون بالحق ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعني وبالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون ويتصفون. واختلفوا في هؤلاء من هم فقيل هم الذين أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واعترض على هذا بأنهم كانوا قليلين ولفظ الأمة يقتضي الكثرة. وأجيب عنه بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله إن إبراهيم كان أمة وقيل هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام قبل التحريف والتبديل ودعوا

[سورة الأعراف (7): الآيات 160 إلى 162]

الناس إليه. وقال السدي وابن جريج وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وأن يبعدهم عنم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفا رواه الطبري. وحكى البغوي عن الكلبي والضحاك والربيع قالوا: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصحون بالنهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق. وذكر لنا أن جبريل ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء به فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قالوا هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم موسى وأقرأهم عشر سور من القرآن نزلت عليه بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وهذه الحكاية ضعيفة من وجوه: الأول: قولهم إن أحدا منا لا يصل إليهم وإذا كان كذلك فمن ذا الذي أوصل خبرهم إلينا. الوجه الثاني: قولهم إن جبريل ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء به وهذا لم يرد به نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث ولا يلتفت إلى قول الأخباريين والقصاص في ذلك. الوجه الثالث: قولهم إنهم بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم موسى وقد صح في حديث المعراج أنه سلم عليه في السماء السادسة وأيضا قولهم وأقرأهم عشر سور وقد نزل عليه بمكة أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضيتها فإذا ثبت بما ذكرناه بطلان هذه الرواية فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه والله أعلم بمراده. [سورة الأعراف (7): الآيات 160 الى 162] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ يعني وفرقنا بني إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً يعني من أولاد يعقوب لأن يعقوب هو إسرائيل وأولاده الأسباط وكانوا اثني عشر ولدا أُمَماً يعني جماعات وقبائل وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ يعني في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ يعني: فانفجرت. وقيل: عرقت وهو الانبجاس مِنْهُ أي من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً يعني: لكل سبط عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ يعني لا يدخل سبط على سبط في مشربهم وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ يعني في التيه يقيهم حر الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ هو الترنجبين وَالسَّلْوى جنس من الطير جعل الله ذلك طعاما لهم في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما

[سورة الأعراف (7): الآيات 163 إلى 164]

رَزَقْناكُمْ أي وقلنا كلوا وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ في الكلام حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فأجمعوا ذلك وسئموه، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غيره لأن المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصيا بفعله ذلك فلهذا قال: وما ظلمونا يعني وما أدخلوا علينا في ملكنا وسلطاننا نقصا بمسألتهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون يعني بمخالفتهم ما أمروا به وقد تقدم بسط الكلام على هذه الآية في سورة البقرة. وقوله تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ يعني: واذكر يا محمد لقومك إذ قيل لهم يعني لبني إسرائيل اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني بيت المقدس، وقال في سورة البقرة: ادخلوا هذه القرية، ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ يعني وكلوا من ثمار القرية وزروعها وحبوبها وبقولها حيث شئتم وأين شئتم. وقال في البقرة: فكلوا، بالفاء وهنا بالواو والفرق بينهما أن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فيحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلا متى شاؤوا وإنما قال في سورة البقرة: رغدا، ولم يقله هنا لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل فأما الأكل مع السكنى والاستمرار فليس كذلك فحسن دخول لفظة رغدا هناك بخلافه هنا وَقُولُوا حِطَّةٌ أي حط عنا ذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وقال في البقرة عكس هذا اللفظ ولا منافاة في ذلك لأن المقصود من ذلك تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بسبب التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ يعني نغفر لكم ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها. وإنما قال هنا خطيئاتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وقال في سورة البقرة: وسنزيد، بالواو ومعناه أنه قد وعد المسيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بهذا المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: سنزيد المحسنين فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يعني فغير الذين ظلموا أنفسهم بمخالفة أمرنا من بني إسرائيل فقالوا قولا غير الذي قيل لهم وأمروا به وذلك أنهم أمروا أن يقول حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم وتغييرهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ يعني بعثنا عليهم عذابا من السماء أهلكهم، ولا منافاة بين قوله تعالى هنا أرسلنا وبين قوله في سورة البقرة أنزلنا لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل، وقيل: بينهما فرق وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بذلك فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلا ثم أرسله عليهم كثيرا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ يعني أن إرسال العذاب عليهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم أمر الله. وقال في البقرة: بما كانوا يفسقون، والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى وقد تقدمت هذه القصة أيضا في تفسير سورة البقرة. [سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 164] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) قوله عز وجل: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك عن حال أهل القرية وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد علم حال أهل هذه القرية بوحي الله عز وجل إليه وإخباره إياهم بحالهم وإنما المقصود

بهذا السؤال تقريع اليهود على إقدامهم على الكفر والمعاصي قديما وأن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكار نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث منهم في زمانه بل إصرارهم على الكفر كان حاصلا لأسلافهم في قديم الزمان. وفي الإخبار بهذه القصة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميا لا يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأولين، ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وإنهم بسبب مخالفتهم أمر الله عز وجل مسخوا قردة وخنازير واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس «1»: هي قرية بين مصر والمدينة والمغرب. وقيل بين مدين والطور على شاطئ البحر. وقال الزهري: هي طبرية الشام. وفي رواية عن ابن عباس قال: هي مدين وقال وهب: هي ما بين مدين وعيوني يعني القرية التي كانت على ساحل البحر وقريبة منه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعني يتجاوزون حد الله فيه، وما أمرهم به من تعظيمه فخالفوا أمر الله وصادوا فيه السمك إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً يعني ظاهرة على الماء كثيرة وقال الضحاك تأتيهم متتابعة يتبع بعضها بعضا وقيل كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش البيض السمان وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ يعني الحيتان كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ يعني مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم ونحن أعلم بحالهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أن ذلك الابتداء والاختبار بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله وما أمروا به. قال أهل التفسير: إن اليهود أمروا يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وهو أن الله أمرهم بتعظيمه ونهاهم عن العمل فيه وحرم عليهم فيه الصيد، فلما أراد أن يبتليهم كانت الحيتان تظهر لهم في يوم السبت ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل فلما ابتلوا به وسوس إليهم الشيطان وقال إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل فاصطادوا وقيل إنه وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ فاتخذوا حياضا على ساحل البحر وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت فإذا كان يوم الأحد خذوها ففعلوا ذلك زمانا ثم إنهم تجرؤوا على السبت وقالوا: ما نرى السبت إلا قد حل لنا فاصطادوا فيه وأكلوا وباعوا وصار أهل القرية أحزابا ثلاثة وكانوا نحوا من سبعين ألفا فثلث نهوا عن الاصطياد وثلث سكتوا ولم ينهوا وقالوا للناهين لم تعظمون قوما الله مهلكهم وثلث هم أصحاب الخطيئة الذين خالفوا أمر الله واصطادوا وأكلوا وباعوا فلما لم ينتهوا عما هم فيه من المعصية قال الناهون لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار للناهين باب يدخلون ويخرجون منه وللعاصين باب، ولعنهم داود عليه الصلاة والسلام وكانوا في زمنه فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لشأنا لعل الخمر قد غلبتهم فعلوا على الجدار الذي بينهم فإذا هم قد مسخوا قردة ففتحوا عليهم الباب ودخلوا إليهم فصار القردة يعرفون أنسابهم من الناس ولم يعرف الناس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتي أنسابها من الناس فتشم ثيابها فيقول لهم أهلوهم ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم فنجا الناهون وهلك سائرهم فذلك قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ واختلفوا في القائلين هذه المقالة فقال بعض المفسرين إن أهل القرية افترقوا ثلاث فرق فرقة اعتدت وأصابت الخطيئة وفرقة نهتهم عن ذلك الفعل وفرقة أمسكت عن الصيد وسكتت عن موعظة المعتدين. وقالوا للناهين: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا، يعني أنهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير متعظين ولا منزجرين فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم: معذرة إلى ربكم يعني أن موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا فموعظتنا لهؤلاء عذر لنا عند الله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد وقال بعضهم: إن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة نهت وزجرت عن السوء

_ (1) قوله هي قرية بين مصر والمدينة والمغرب في نسخة هي إيلة بين مصر والمدينة والعرب تسمى المدينة قرية وقال الزهري إلخ اهـ.

[سورة الأعراف (7): الآيات 165 إلى 168]

وفرقة عملت بالسوء فعلى هذا يكون الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم الفرقة المعتدية وذلك أن الفرقة الناهية قالوا للفرقة المعتدية انتهوا قبل أن ينزل بكم عذاب شديد إن لم تنتهوا عما أنتم فيه فقالت لهم الفرقة المعتدية: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ والمعنى: لم تعظونا وقد علمتم أن الله مهلكنا أو منزل بنا عذابه، والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين لكان قولهم معذرة إلى ربكم خطابا من الناهية للمعتدية. [سورة الأعراف (7): الآيات 165 الى 168] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) وقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلما تركوا ما وعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الفرقة الناهية وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني الفرقة المعتدية العاصية بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وجميع من البأس وهو الشدة بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدر ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم قال فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فكسانيهما وقال: نجت الساكتة وقال يمان ابن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون والذين قالوا معذرة وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر وقوله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قول ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان والمعنى فلما عتوا عما نهوا يعني عن ترك ما نهوا عنه وتمردوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ يعني صاغرين مبعدين من كل خير. قال قتادة: لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء. وقال ابن عباس: جعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شبان القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير، قيل إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر الناس إليهم ثم هلكوا جميعا. قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعنى تأذن أذن والأذان الإعلام يعني أعلم ربك وقيل معناه قال ربك، وقيل: حكم ربك وقيل آلى ربك بمعنى أقسم أجزما ربك لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ اللام في قوله ليبعثن جواب القسم لأن قوله وإذ تأذن ربك جار مجرى القسم لكونه وجواب القسم ليبعثن عليهم واختلفوا في الضمير في عليهم إلى من يرجع فقيل يقتضي أن يكون راجعا إلى قوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين لكن قد علم أن الذين مسخوا لم يبق منهم أحد فيحتمل أن يكون المراد الذين بقوا منهم فألحق الذل بهم وقيل بأن المراد سائر اليهود من بعدهم لأن الذين بقوا من أهل القرية كانوا صالحين والذي بعثه الله على اليهود هو بختنصر وسخاريب وملوك الروم فساموهم سوء العذاب. وقيل: المراد بقوله ليبعثن عليهم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فألزم من لم يسلم منهم الصّغار والذلة والهوان والجزية لازمة لليهود إلى يوم القيامة وأورد على هذا بأن في آخر الزمان يكون لهم عزة وذلك عند خروج

[سورة الأعراف (7): آية 169]

الدجال لأن اليهود أتباعه وأشياعه وأجيب عنه بأن ذلك العز الذي يحصل لهم هو في نفسه غاية الذلة لأنهم يدعون إلهية الدجال فيزدادون كفرا على كفرهم فإذا هلك الدجال أهلكهم المسلمون وقتلوهم جميعا فذلك هو الذلة والصغار المشار إليه بقوله تعالى ليبعثن عليهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهذا نص في أن العذاب إنما يحصل لهم في الدنيا مستمرا عليهم إلى يوم القيامة ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة كان عذابهم أشد وأعظم وهو قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ يعني لمن أقام على الكفر ففيه دليل على أنه يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمرا عليهم في الدنيا والآخرة، ثم ختم الآية بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام. قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلدا إلا وفيه من اليهود طائفة وجماعة، قال ابن عباس: كل أرض يدخلها قوم من اليهود مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى عليه الصلاة والسلام وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره، وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد: إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل. وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا وَبَلَوْناهُمْ يعني جميعا الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان بِالْحَسَناتِ يعني الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ يعني الجدب والشدة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكرا فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها. [سورة الأعراف (7): آية 169] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هؤلاء الذين وصفناهم قوله تعالى: خَلْفٌ يعني خلف سوء يعني حدث من بعدهم وتبدل منهم بدل سوء يقال منه هو خلّف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها فأكثر ما يقال في المدح بفتح اللام وفي الذم بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت في المدح: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع فسكن اللام في قوله وخلفنا وهو يريد المدح وقال لبيد في الذم: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب ففتح اللام وهو يريد الذم وأصله من الفساد. يقال: خلف اللبن إذا فسد وتغير في السقاء ويقال للرديء من القول: خلف وخلف الشيء تغيره، ومنه خلوف فم الصائم والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم

[سورة الأعراف (7): الآيات 170 إلى 172]

خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله وَرِثُوا الْكِتابَ يعني انتقل إليهم الكتاب عن آبائهم والمراد بالكتاب التوراة يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير والمعنى أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام على تبديل الكلام وتغييره وذلك الذي يأخذونه من حطام الدنيا هو الشيء التافه الخسيس الحقير لأن الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنها حرام ثم إنهم مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم يصرون عليه وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يعني ذنوبنا فيتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أخرجه الترمذي وقال في قوله عليه الصلاة والسلام دان نفسه يعني حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة وموضع الاستشهاد من الحديث على الآية، قوله وتمنى على الله الأماني لأن اليهود كانوا يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا وهذا هو التمني بعينه قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، والمعنى أنهم إذا أتاهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه. قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم فيقال له ما بالك ترتشي فيقول: سيغفر لي فيطعن عليه الآخرون فإذا مات أو نزع من الحكم وجعل مكانه آخر فمن كان يطعن عليه ارتشى أيضا يقول الله عز وجل وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ يعني ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم العهود والمواثيق في الكتاب وهو التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني إنّا أخذنا عليهم الميثاق على أن يقولوا الحق فقالوا الباطل وخالفوا أمر الله وهو قولهم سيغفر لنا والمراد من هذا التوبيخ والتقريع لليهود في ادعائهم على الله الباطل قال ابن عباس: هو ما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها وَدَرَسُوا ما فِيهِ يعني ما في الكتاب والمعنى أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في الكتاب لأنهم دارسون له لم يتركوه ولكن درسوه وضيعوا العمل به وَالدَّارُ الْآخِرَةُ يعني وما في الدار الآخرة مما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته العاملين بما أمرهم الله به من كتابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم يرتشوا في الأحكام خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يتقون الله ويخافون عقابه أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أن ما في الآخرة خير وأبقى لأنها دار المتقين. [سورة الأعراف (7): الآيات 170 الى 172] وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وأمسكت به والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه. نزلت هذه الآية في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم تمسكوا بالكتاب الأول ولم يحرفوه ولم يغيروه فأداهم ذلك التمسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيها

على عظم قدرها وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله وبرسوله إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ قوله عز وجل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ يعني واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل كأنه ظلة يعني جعلناه فوقهم كالظلة والظلة كل ما علا الإنسان كالسقف ونحوه وَظَنُّوا أي علموا وأيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ يعني الجبل خُذُوا يعني وقلنا لهم خذوا وإضمار القول كثير في القرآن وكلام العرب ما آتَيْناكُمْ يعني التوراة بِقُوَّةٍ يعني بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ يعني واعملوا بما فيه من الأحكام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال أصحاب الأخبار: إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عز وجل جبريل فرفع جبلا عظيما حتى صار على رؤوسهم كالظلة فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خرّوا ساجدين فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا أن يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الآية عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآية قال سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا. قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال أو لم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحد ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وأما تفسير الآية فقوله سبحانه وتعالى: وإذ أخذ ربك، يعني واذكر يا محمد إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم يعني من ظهور بني آدم وإنما لم يذكر ظهر آدم وإن كان الله سبحانه وتعالى أخرج جميع الذرية من ظهره لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم فاستغنى عن ذكر ظهر آدم عليه السلام لما علم أنهم كلهم بنو آدم وأخرجوا من ظهره فترك ذكر ظهر آدم استغناء. ثم للعلماء في تفسير هذه الآية مذهبان: أحدهما وهو مذهب أهل التفسير والأثر وظاهر ما جاءت به الروايات عن السلف فيما روي عن ابن عباس من طرق كثيرة وروايات مختلفة رواها عنه الطبري بأسانيد، فمنها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا وقال ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم

القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» وعن ابن عباس في هذه الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة وأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا وعن ابن عباس أيضا قال: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» زاد في رواية عنه «فجف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وفي رواية عنه قال «لما خلق الله آدم أخذ ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصائبه واستخرج ذريته كالذر وكتب أرزاقهم وآجالهم ومصائبهم» وفي رواية عنه قال «إن الله عز وجل مسح صلب آدم فاستخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفّل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطي الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الأول ومن مات صغيرا ولم يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة» وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى؟ قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة «إنا كنا عن هذا غافلين» وقال ابن عباس: أخرج ذرية آدم من ظهره فكلمهم الله وأنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى ثم أعادها في صلبه فليس أحد من الخلق إلا وقد تكلم فقال ربي الله وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه، وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء ثم إنه مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه كهيئة الذر بيضاء فقال ادخلوا الجنة برحمتي ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجهه التبعية زاد في رواية وذلك حيث يقول «وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها» وقال محمد بن كعب القرظي: أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل خلق أجسادها، وقال مقاتل: مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون فقال يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعا في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق جميعا. وروى أن الله سبحانه وتعالى قال لهم جميعا. اعلموا أنه لا إله لكم غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فتكلموا جميعا وقالوا شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب هلا سويت بينهم فقال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعاده إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق» وقال الزجاج وجائز أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل لأمثال الذر عقلا وفهما تعقل به كما قال تبارك وتعالى في النملة قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وكما قال وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال ابن الأنباري مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولادهم وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعه فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولا حتى خوطبوا بقوله «يا جبال أوبي معه» وكم جعل للبعير عقلا حتى سجد للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت ومعنى قوله «ألست بربكم» على هذا التفسير قال الله تعالى للذرية «ألست بربكم» فهو إيجاب

للربوبية عليهم قالوا بلى يعني قالت الذرية بلى أنت ربنا فهو جواب منهم له وإقرار منهم له بالربوبية واعتراف على أنفسهم بالعبودية شَهِدْنا فيه قولان: أحدهما: أنهم لما أقروا له بالربوبية قال الله عز وجل للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا على إقرارهم فعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله سبحانه وتعالى بلى لأن كلام الذرية تم وانقطع وقوله شهدنا كلام مستأنف. والقول الثاني: إن قوله سبحانه وتعالى شهدنا من كلام الذرية والمعنى شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وعلى هذا لا يحسن الوقف على بلى لتعلقه بما بعده. وقوله سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولُوا وقرئ بالتاء على خطاب الذرية ومعناه لئلا تقولوا أيها الذرية يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا يعني الميثاق غافِلِينَ وقرئ أن يقولوا بالياء على الغيبة ومعناه لئلا يقولوا أي الذرية إنا كنا عن هذا غافلين، والمذهب الثاني في معنى هذه الآية وهو مذهب أهل الكلام والنظر أنه سبحانه وتعالى أخرج الذرية وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء وهم أولاد بني آدم فأخرج الذرية إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقول وأراهم عجائب خلقه وغرائب صنعه ودلائل وحدانيته فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وذلك بما أظهر لهم من دلائل آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم وبارئهم وربهم ونافذ الحكم فيهم فلما عرفوا ذلك دعاهم ذلك إلى التصديق بوحدانيته وربوبيته فقالوا بلى شهدنا على أنفسنا أنك أنت ربنا وخالقنا فعلى هذا القول يكون قولهم بلى شهدنا على أنفسنا على المجاز لا على الحقيقة وهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في كلام العرب فكل من بلغ وعقل فقد أخذ عليه الميثاق بما جعل فيه من السبب الذي يؤخذ به الميثاق وهو العقل والتكليف فيكون معنى الآية وإذ يأخذ ربك من بني آدم ويشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقل الذي يكون به الفهم والتكليف الذي به يترتب على صاحبه الثواب والعقاب يوم القيامة. فإن قلت: فما المختار من هذين المذهبين في تفسير هذه الآية؟ قلت: المذهب الأول هو المختار لأنه مذهب جمهور المفسرين من السلف وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت إذا كانت المختار في تفسير هذه الآية هو مذهب السلف في ذلك وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم كما ورد في الحديث أيضا فكيف يحمل تفسير ألفاظ هذه الآية على هذا القول؟ قلت: قد صحّ الحديث بأن الله مسح ظهر آدم فأخرج ذريته وأخذ عليهم الميثاق ولا منافاة بين الآية والحديث كما تقدم في تفسير ألفاظ الآية من أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره على سبيل التوالد بعضهم من بعض كما في الخارج وكلهم بأجمعهم من ظهر آدم الذي هو أصلهم فبهذا الطريق أمكن الجمع بين الآية والحديث، إذ ليس في معنى ألفاظ الآية ما يدل على بطلان ذلك ونفيه وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جمعا بين الآية والحديث وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال: ليس بين قوله إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه تعالى إذ أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم ذرية كذرية بعضهم من بعض قال وتحصل الفائدة بهذا الفصل بأنه تعالى أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ ومن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم بالحجة بالآيات والدلائل التي نصبها بالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ وقال غيره: فائدة أخذ الميثاق عليها في القدم أن من مات منهم صغيرا أدخل الجنة بإقراره بالميثاق الأول وهذا على قول من يقول إن أطفال المشركين يدخلون الجنة

[سورة الأعراف (7): الآيات 173 إلى 175]

إذا ماتوا صغارا فأما من لا يحكم لهم بالجنة فإنه يقول من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء وإنما أقروا بالمعرفة كرها فلم يغن عنهم ذلك شيئا ومن بلغ وعقل لم يغن عنه إقراره بالميثاق الأول شيئا حتى يؤمن ويصدق عند بلوغه وعقله بأن الله ربه وخالقه ويصدق رسله فيما جاءوا به من عنده وإنما فعل ذلك لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق أو الإيمان بأن الله ربنا غافلين أو لئلا تقول أخلافهم إنما أشرك آباؤنا ونحن نسير على آثارهم ظنا منهم أن الحق ما كانوا عليه. فإن قلت: إن ذلك الميثاق لا يذكره أحد اليوم فكيف يكون حجة عليهم اليوم أو فكيف يذكرونه يوم القيامة حتى يحتج عليهم به. قلت: لما أخرج الذرية من صلب آدم ركب فيهم العقول وأخذ عليهم الميثاق فلما أعيدوا إلى صلب آدم بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق لاقتضاء الحكمة الإلهية نسيانهم له ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، إذ الدار دار تكليف وامتحان ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والابتلاء والتكليف، فقامت الحجة عليهم لإمدادهم بالرسل وإعلامهم بجريان أخذ الميثاق عليهم وبذلك قامت الحجة عليهم أيضا يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولم تسقط الحجة عنهم بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات. [سورة الأعراف (7): الآيات 173 الى 175] أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وقوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا يعني الذرية إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ يعني إنما أخذ الميثاق عليهم لئلا يقول المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ يعني وكنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم في الشرك أَفَتُهْلِكُنا يعني أفتعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ قال المفسرون: هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد والميثاق وكنا نحن الذرية من بعدهم فقلدناهم واقتدينا بهم وكنا في غفلة عن هذا الميثاق فلا ذنب لنا فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك وقد أخذ عليهم جميعا الميثاق وجاءتهم الرسل وذكروهم به وثبتت الحجة عليهم بذلك يوم القيامة، وأما الذين حملوا معنى الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل وهو مذهب أهل النظر قالوا معناه إن الله نصب هذه الدلائل وأظهرها للعقول لئلا يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لآبائنا لأن نصب أدلة التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء في الشرك. وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى الحق والإيمان ويعرضوا عن الباطل والكفر وهو المراد من قوله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن الشرك إلى التوحيد وقيل معناه ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه. قوله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ يعني واقرأ على قومك يا محمد نَبَأَ يعني خبر الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا اختلفوا فيه فقال ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، وقال مجاهد: بلعام بن باعر، وقال ابن مسعود: هو بلعم بن أبر، قال عطية قال ابن عباس: إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد

الجبارين، وقال مقاتل: هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إن موسى رجل حديد وأن معه جنودا كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي؟ فراجعوه وألحوا عليه فقال: حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه: إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه: قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، ثم قال: جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلا فظا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذارعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفا في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنه كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية، وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت: لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي

فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى: آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها. فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك قلت الجواب عنه من وجوه: أحدها: منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول. الوجه الثاني: أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلها فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم. الوجه الثالث: على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له: قتلهم محمد فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت: بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: أوعى قال وعى قال أزكى قال أبي قالت فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعرا: كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه» فأنزل الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآية وفي رواية عن ابن عباس: إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبة نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات

[سورة الأعراف (7): آية 176]

جميعا والقولان الأولان أشهر. وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه، وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى آتَيْناهُ آياتِنا قال ابن عباس: كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، وقال السدي: كان يعلم اسم الله الأعظم. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أنه أوتي كتابا وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها فَانْسَلَخَ مِنْها يعني فخرج من الآيات التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها، وقال ابن عباس: نزع منه العلم فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعا لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه. قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه وقوله تعالى: [سورة الأعراف (7): آية 176] وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها يعني رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات التي أوتيها. وقال ابن عباس: لرفعناه، وقال ابن عباس: لرفعناه بعمله بها، وقال مجاهد وعطاء: معناه لو شئنا لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ يعني: ولكنه سكن إلى الدنيا ومال إليها ورضي بها وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن الأرض عبارة عن المفاوز والقفار وفيها المدن والضياع والمعادن والنبات ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض وَاتَّبَعَ هَواهُ يعني أنه أعرض عن التمسك بما أتاه الله من الآيات واتبع الهوى فخسر دنياه وأخرته ووقع في هاوية الردى والهلاك وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته وحكمته وعلمه اسمه الأعظم وجعل دعاءه مستجابا ثم إنه اتبع هواه وركن إلى الدنيا ورضي بها عوضا عن الآخرة نزع منه ما كان أعطيه وانسلخ من الدين فخسر الدنيا والآخرة ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع وثبته بالعلم وبصّره بعيوب نفسه. عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه» أخرجه الترمذي ثم ضرب الله عز وجل مثلا لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثا وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائما فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة، ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحالة الكلب اللاهث وقيل: إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدلع لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدلع لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة. ومعنى أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو

[سورة الأعراف (7): الآيات 177 إلى 178]

حريص أيضا لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضا بل هم ضلّال في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى فَاقْصُصِ الْقَصَصَ وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيتعظون، وقيل: هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه ثم قال سبحانه وتعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 177 الى 178] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يعني بتكذيبهم بآياتنا. قوله عز وجل: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي، وقيل: معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يعني ومن يتول الضلالة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل وقوله سبحانه وتعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 179 الى 180] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَلَقَدْ ذَرَأْنا يعني خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» أخرجه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا. وأجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى الله عليه وسلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة «إني لأراه مؤمنا فقال: أو مسلما» الحديث، ويحتمل أن صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاث مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين. رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى:

وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم. وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل، وقيل: اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يعني: لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علما على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني: إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه. ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر: وعوراء الكلام صمت عنها ... وإني إن أشاء بها سميع فإنه أثبت له صمما مع وجود السمع. قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئا من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق. ثم ضرب لهم مثلا فقال سبحانه وتعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع. وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئا ثم قال تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ يعني: بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرف ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعط القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالا من الأنعام. وقيل: إن الأنعام مطيعة لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم. قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال مقاتل: إن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي: هو أبو جهل إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الآية أن أسماء الله

سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر. وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين: أحدهما: عدم افتقاره إلى غيره. الثاني: افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى (ق). عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» قال البخاري: أحصاها حفظها. وفي رواية الترمذي قال: قال رسول الله «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي الميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» قال الترمذي: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث. قال ابن الأثير: وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال: «إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما» الحديث. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر «أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم. قال ابن العربي: وهذا قليل. وقوله صلى الله عليه وسلم: من أحصاها دخل الجنة تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة. وقيل: المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها. وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبرا متدبرا ذاكرا راغبا راهبا معظما لها ولمسماها ومقدسا لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم. قال أبو

[سورة الأعراف (7): الآيات 181 إلى 183]

القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» وقال الإمام فخر الدين الرازي: دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضا قوله سبحانه وتعالى: ولله الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقال غيره: الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره. وقال أهل اللغة: إنما جعل الاسم تنويها على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر. قال العلماء: وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضا وقوله سبحانه وتعالى: فَادْعُوهُ بِها يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موقع الدعاء وكان له تأثير عظيم وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة. وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحادا إذا عدل عنه ومال إلى غيره. قال المحققون: الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه: أحدها: إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد. الوجه الثاني: وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم. الوجه الثالث: مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضار يا نافع يا خالق الخلق. الوجه الرابع: أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة. وقوله سبحانه وتعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل. [سورة الأعراف (7): الآيات 181 الى 183] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) قوله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يعني جماعة وعصابة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. قال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه

[سورة الأعراف (7): الآيات 184 إلى 187]

الآية قال «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» (ق) عن معاوية قال وهو يخطب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار. وقيل: المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تماديا في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه. وقال الضحاك: معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة. وقال الكلبي: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر. روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلا ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئا بعد شيء وَأُمْلِي لَهُمْ يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم. والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد. وقال ابن عباس: معناه إن مكري شديد. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. [سورة الأعراف (7): الآيات 184 الى 187] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ يعني من جنون قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا «يا بني فلان يا بني فلان إني لكم نذير مبين» وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في عاقبة الأمر والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من جنة والجنة. حالة من الجنون وإدخال لفظة من في قوله من جنة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنهم رأوا أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضا عن الدنيا ولذاتها مقبلا على الآخرة ونعيمها مشتغلا بالدعاء إلى الله عز وجل وإنذارهم

بأسه ونقمته ليلا ونهارا من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى الجنون فبرأه الله سبحانه وتعالى من الجنون فقال تعالى: إِنْ هُوَ يعني ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ثم حثّهم على النظر المؤدي إلى العلم بالوحدانية فقال سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر اعتبار واستدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ والمقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية ووجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السموات والأرض بل كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وبرأه فيه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى وآثار قدرته كما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يعني بعد القرآن يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون. والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه وتعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم فلو هداهم لآمنوا وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني ويتركهم في ضلالتهم وتماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلا. قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قال قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس: قال جبل بن أبي قشير وشمول بن زيد، وهما من اليهود، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل الله عز وجل: يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة. سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة وبغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى مرساها. قال ابن عباس: يعني منتهاها أي متى وقوعها. قالوا والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق وأصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت قُلْ أي قل لهم يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا الله استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليه أحد ومر حديث الإيمان والإسلام والإحسان وسؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال المحققون: وسبب إخفاء علم الساعة ووقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف وحذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل وخوف وإشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والتوبة وأزجر لهم عن المعصية لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو، وقال السدي: لا يرسلها لوقتها إلا هو والتجلية إظهار الشيء بعد خفائه، والمعنى: لا يظهرها لوقتها المعين إلا الله ولا يقدر على ذلك غيره ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد. وقال الحسن: إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض وإنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على القلوب لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يعني فجأة على حين غفلة من الخلق (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» اللّقحة بفتح اللام وكسرها: الناقة القريبة العهد بالنتاج.

[سورة الأعراف (7): الآيات 188 إلى 189]

قوله: يليط حوضه ويروى يلوط حوضه يعني يطينه ويصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه وأصله من اللصوق. الأكلة: بضم الهمزة اللقمة. وقوله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بهم بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم. قال ابن عباس: يقول كأن بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم. قال ابن عباس لما سأل الناس محمدا صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم حفي بهم فأوحى الله عز وجل إليه إنما علمها عنده استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكا ولا رسولا وقيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها قُلْ يعني يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني استأثر الله بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل. فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله سبحانه وتعالى ثانيا يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار؟ قلت: ليس فيه تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها وشدائدها فلم يلزم التكرار. فإن قلت: عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى: علمها عند ربي وعن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى: علمها عند الله فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين. قلت: فيه فرق لطيف وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعا عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي. ولما كان السؤال الثاني واقعا عن أحوالها وشدائدها وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى عند الله لأنه أعظم الأسماء وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعملون أن علمها عند الله وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه. وقيل: ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق قوله سبحانه وتعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 188 الى 189] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا قال ابن عباس: إن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري به فتربح فيه عند الغلاء وبالأرض التي يريد أن تجدب فترحل عنها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله عز وجل: قُلْ لا أَمْلِكُ أي قل يا محمد لا أملك ولا أقدر لنفسي نفعا أي اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ولا ضرا يعني ولا أقدر أن أدفع عن نفسي ضرا نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة وأترك الجدبة إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن أملكه وأقدر عليه وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ يعني ولو كنت

أعلم وقت الخصب والجدب لاستكثرت من المال وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعني الضر والفقر والجوع. وقال ابن جريج: معناه لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا من الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب يريدون وقت الموت لاستكثرت من الخير يعني من العمل الصالح. وقيل إن أهل مكة لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة أنزل الله تعالى الآية الأولى وهذه الآية ومعناه: أنا لا أدعي علم الغيب حتى أخبركم عن وقت قيام الساعة وذلك لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب فذكر أن قدرته قاصرة عن علم الغيب. فإن قلت: قد أخبر صلى الله عليه وسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم فكيف الجمع بينه وبين قوله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير؟ قلت: يحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع والأدب والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي. ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله عز وجل على الغيب فلما أطلعه الله عز وجل أخبر به كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله سبحانه وتعالى عن أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وقوله وما مسنى السوء يعني الجنون وذلك أنهم نسبوه إلى الجنون وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير واحترزت عن الشر حتى أصير بحيث لا يمسني السوء وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لأعلمتكم بوقت قيام الساعة حتى تؤمنوا وما مسني السوء يعني قولكم لو كنت نبيا لعلمت متى تقوم الساعة إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ يعني ما أنا إلا رسول أرسلني الله إليكم أنذركم وأخوفكم عقابه إن لم تؤمنوا وَبَشِيرٌ يعني وأبشر بثوابه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون. قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني وخلق منها زوجها حواء قد تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم في أول سورة النساء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يعني ليأنس بها ويأوي فَلَمَّا تَغَشَّاها يعني واقعها وجامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يعني النطفة والمني لأن أول ما تحمل النطفة وهي خفيفة عليها فَمَرَّتْ بِهِ يعني أنها استمرت بذلك الحمل فقامت وقعدت وهو خفيف عليها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت إلى حال الثقل وكبر ذلك الحمل ودنت مدة ولادتها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني أن آدم وحواء دعوا الله ربهما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً يعني لئن أعطيتنا بشرا سويا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني لك على إنعامك علينا. قال المفسرون: لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصاب حواء فحملت من ساعتها فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا أترين في الأرض إلا بهيمة أو نحوها قالت: إني أخاف بعض ذلك قال وما يدريك من أين خرج أمن دبرك أم من فيك أو يشق بطنك فيقتلك فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم فلم يزالا في غم من ذلك ثم عاد إليها إبليس فقال لها إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك حواء لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث. وقال ابن عباس: كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش. عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة

[سورة الأعراف (7): آية 190]

وقال وقد رواه بعضهم ولم يرفعه وقوله وذلك من وحي الشيطان يعني من وسوسته وحديثه كما جاء أنه خدعهما مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض. قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد آتاه إبليس فقال إني أنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحارث وكان اسمه في السماء الحارث فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة فأخرجتني من الجنة فلن أطيعك فمات ولده ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر فقال أطعني وإلا مات كما مات الأول فعصاه فمات ولده، فقال لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث فلم يزل به حتى سماه عبد الحارث فذلك فقوله تعالى: [سورة الأعراف (7): آية 190] فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قال ابن عباس: أشركاه في طاعته في غير عبادة ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه. وقال قتادة: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة. وقال عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء وكان لا يعيش لهما ولد فأتاهما الشيطان فقال إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فهو قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما قرئ شركا بكسر الشين مع التنوين ومعناه شركة وقال أبو عبيدة معناه حظا ونصيبا وقرئ شركاء بضم الشين مع المد جمع شريك يعني إبليس عبر عن الواحد بلفظ الجمع يعني جعلا له شريكا إذ سميا ولدهما عبد الحارث. قال العلماء: ولم يكن ذلك شركا في العبادة ولا أن الحارث رب لهما لأن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد بتسميتهما الولد بعبد الحارث أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامته وسلامة أمه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا أخبر عن نفسه أنه عبد الضيف ما أقام عنده مع بقاء الحرية عليه وإنما أراد بالعبودية خدمة الضيف والقيام بواجب حقوقه كما يقوم العبد بواجب حقوق سيده. وقد يطلق اسم الرب بغير الألف واللام على غير الله كقول يوسف عليه الصلاة والسلام لعزيز مصر «إنه ربي أحسن مثواي» أراد به التربية ولم يرد به أنه ربه ومعبوده فكذلك هنا وإنما أخبر عن آدم عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فعاتبه الله على ذلك لأنه نظر إلى السبب ولم ينظر إلى المسبب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. قال العلماء: وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله فيما آتاهما ثم ابتدأ في الخبر عن الكفار بقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ نزه نفسه سبحانه وتعالى عن إشراك المشركين من أهل مكة وغيرهم وهذا على العموم، ولو أراد آدم وحواء لقال سبحانه وتعالى فتعالى الله عما يشركان على التثنية لا على الجمع وقال بعض أهل المعاني: ولو أراد به ما سبق في معنى الآية فمستقيم أيضا من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في التسمية فكان الأولى أن يسمياه عبد الله لا عبد الحارث وفي معنى الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم وهو قول الحسن وعكرمة ومعناه وجعل أولادهما له شركاء فحذف ذكر الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فعير به اليهود الذين كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من فعل آبائهم وقال عكرمة: خاطب كل واحد من الخلق بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها أي وجعل من جنسها زوجها آدمية مثله وهذا قول حسن إلا أن القول وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوهم ونصّروهم وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار ونحو ذلك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 191 إلى 194]

[سورة الأعراف (7): الآيات 191 الى 194] أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) وقوله سبحانه وتعالى: أَيُشْرِكُونَ قرئ بالتاء على خطاب الكفار، وقرئ بالياء على الغيبة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعني إبليس والأصنام وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي وهم مخلوقون. فإن قلت: كيف وحد يخلق ثم جمع فقال وهم يخلقون؟ قلت: إن لفظة «ما» تقع على الواحد والإثنين والجمع فهي من صيغ الواحدان بحسب ظاهر اللفظ ومحتملة للجمع بحسب المعنى فوحد قوله ما لا يخلق رعاية الحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وهم يخلقون رعاية لجانب المعنى. فإن قلت: كيف جمع بالواو وبالنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟ قلت: لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع بناء على ما يعقدونه ويتصورونه. وقوله تعالى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يعني أن الأصنام لا تقدر على نصر من أطاعها وعبدها ولا تضر من عصاها والنصر، المعونة على الأعداء. والمعنى أن المعبود الذي تجب عبادته يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ثم قال تعالى: وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرها قدر عليه وهي لا تقدر على دفعه عنها. ثم خاطب المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى يعني وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يَتَّبِعُوكُمْ لأن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلون الهداية سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ إلى الدين والهداية أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ أي ساكتون عن دعائهم فهم في كلا الحالين لا يؤمنون. وقيل إن الله سبحانه وتعالى لما بيّن في الآية المتقدمة عجز الأصنام بيّن في هذه الآية أنه لا علم لها بشيء البتة والمعنى أن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع لمن دعاها إلى خير وهدى ثم قوى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وذلك أن المشركين كانوا إذا وقعوا في شدة وبلاء تضرعوا لأصنامهم فإذا لم تكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا وصمتوا فقيل لهم لا فرق بين دعائكم للأصنام أو سكوتكم عنها فإنها عاجزة في كل حال. قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ يعني أن الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون إنما هي مملوكة لله أمثالهم وقيل إنها مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون قال مقاتل في قوله سبحانه وتعالى: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والقول الأول أصح وفيه سؤال وهو أنه وصفها بأنها عباد مع أنها جماد. والجواب أن المشركين لما ادعوا أن الأصنام تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا كونها عاقلة فاهمة فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتا لهم وتوبيخا ولذلك قال عز وجل: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في كونها آلهة وجواب آخر وهو أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين والمعنى أن قصارى هذه الأصنام التي تعبدونها أحياء عاقلة على معتقدكم فهم عباد الله أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلما

[سورة الأعراف (7): الآيات 195 إلى 198]

عبدتموهم وجعلتموهم آلهة وجعلتم أنفسكم لهم عبيدا ثم وصفهم بالعجز فقال تعالى: [سورة الأعراف (7): الآيات 195 الى 198] أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني أن قدرة الإنسان المخلوق إنما تكون بهذه الجوارح الأربعة فإنها آلات يستعين بها الإنسان في جميع أموره والأصنام ليس لها من هذه الأعضاء والجوارح شيء فهم مفضلون عليها بهذه الأعضاء لأن الرجل الماشية أفضل من الرجل العاجزة عن المشي وكذلك اليد الباطشة أفضل من اليد العاجزة عن البطش والعين الباصرة أفضل من العين العاجزة عن الإدراك والأذن السامعة أفضل من الأذن العاجزة عن السمع فظهر بهذا البيان أن الإنسان أفضل من هذه الأصنام العاجزة بكثير بل لا فضل لها البتة لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإذا كان لا فضل له البتة ولا يضر ولا ينفع فامتنع بهذه الحجة كون الأصنام آلة ثم قال تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم هذه الأصنام التي تعبدونها حتى يتبين عجزها ثُمَّ كِيدُونِ يعني أنتم وشركاؤكم وهذا متصل بما قبله في استكمال الحجة عليهم لأنهم لما قرّعوا بعادة من لا يملك ضرا ولا نفعا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم قل إن معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لأن الله يدفع عني، وقال الحسن كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فَلا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ يعني أن الذي يتولى حفظي وينصرني عليكم هو الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ يعني القرآن، المعنى كما أيدني بإنزال القرآن علي كذلك يتولى حفظي وينصرني وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يعني يتولاهم بنصره وحفظه فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين وغيرهم ممن أرادهم بسوء أو كادهم بشر. قال ابن عباس: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئا ولا يعصونه وفي هذا مدح للصالحين لأن من تولاه الله يحفظه فلا يضره شيء. قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ هذه الآية قد تقدم تفسيرها، والفائدة في تكريرها أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع والتوبيخ وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره وحفظه وبين هذه الأصنام وهي ليست كذلك فلا تكون معبودة. وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعوا إليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضا واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر. قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء. وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء

[سورة الأعراف (7): الآيات 200 إلى 201]

(خ) عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال: وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة، وقال الضحاك: خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله عز وجل وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقول لا إله إلا الله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل أن يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخا بآية القتال، قال بعضهم: أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذا؟ قال لا أدري حتى أسأل. ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند. وقال جعفر الصادق: أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه. عن عائشة قالت «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» قوله عز وجل: [سورة الأعراف (7): الآيات 200 الى 201] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال ابن زيد «لما نزل قوله سبحانه وتعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالغضب يا رب فأنزل الله عز وجل: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم. ونزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب. وقيل النزغ الانزعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر والإفساد. يقال: نزغت بين القوم إذا أفسدت بينهم. وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة والمعنى وإما يصيبنك يا محمد ويعرض لك من الشيطان وسوسة أو نخسة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ يعني فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ يعني لدعائك عَلِيمٌ بحالك وقيل إن الشيطان يجد مجالا في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ فأمر الله بالالتجاء إليه والتعوذ به في تلك الحالة فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض. ((فصل واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية)) فقالوا لو كان النبي معصوما لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة والجواب عنه من وجوه، الأول: أن معنى الكلام إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان فاستعذ بالله وإنه لم يحصل له ذلك البتة فهو كقوله لئن أشركت وهو بريء من الشرك البتة. والوجه الثاني: على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن قبولها وثبوتها في قلبه (م) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم وضمها فمن

[سورة الأعراف (7): الآيات 202 إلى 204]

رفع قال معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال معناه أن القرين أسلم من الإسلام يعني صار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير. قال الخطابي: الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح قال الشيخ وهو المختار لقوله فلا يأمرني إلا بخير. قال القاضي عياض: واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه أعلمنا أنه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان والله أعلم. الوجه الثالث: يحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ومعناه وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله فهو كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله. قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ وقرئ طيف مِنَ الشَّيْطانِ وهما لغتان ومعناه الشيء يلم بالإنسان وقيل بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان والطيف الوسوسة. وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس. قال الأزهري: الطيف في كلام العرب الجنون وقيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون. وقيل سمي الجنون والغضب والوسوسة طيفا لأنه لمة من الشيطان تشبه لمة الخبال فذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف المذكور في هذه الآية لأن حالة الشيطان مع الأنبياء أضعف من حاله مع غيرهم تَذَكَّرُوا يعني عرفوا ما حصل لهم من وسوسة الشيطان وكيده قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضب فيذكر الله فيكظم غيظه. وقال مجاهد: هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يعني أنهم يبصرون مواقع الخطأ بالتذكر والتفكر. وقال السدي: إذا زلوا تابوا وقال مقاتل: هو الرجل إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عن مخالفة الله عز وجل: [سورة الأعراف (7): الآيات 202 الى 204] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَإِخْوانُهُمْ يعني وإخوان الشياطين من المشركين يَمُدُّونَهُمْ أي يمدهم الشياطين فِي الغَيِّ قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين يمدونهم أي يطيلون لهم في الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ يعني لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين لأن المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر والكافر مستمر في ضلالته لا يتذكر ولا يرعوي. وقال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنه فعلى هذا القول يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعا. قوله عز وجل: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ يعني وإذا لم تأت المشركين يا محمد بآية ومعجزة باهرة قالُوا يعني قال المشركون لَوْلا اجْتَبَيْتَها يعني افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبت الكلام إذا اختلقته وافتعلته. وقال الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها يعني هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي يعني القرآن الذي أنزل عليّ وليس لي أن أقترح الآيات والمعجزات هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني هذا القرآن حجج وبرهان وأصل البصائر من الإبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب وَهُدىً يعني وهو هدى وَرَحْمَةٌ يعني وهو رحمة من الله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وهنا لطيفة وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم

التوحيد حتى صار كالمشاهد وهو أصحاب عين اليقين ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين ومنهم المسلم والمستسلم وهم عامة المؤمنين وهم أصحاب حق اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة. قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى: وإذا قرئ عليكم أيها المؤمنون القرآن فاستمعوا له يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه وأنصتوا يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع. يقال: نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد. واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر. وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال: القول الأول: وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرآن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت. والقول الثاني: إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن. وقال عبد الله: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا. القول الثالث: إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود: أنه سمع ناسا يقرءون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله. وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار. القول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد: الإنصات للإمام يوم الجمعة. وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب. وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ. يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر. يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعا بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية واردة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية. قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال: «صلى

[سورة الأعراف (7): آية 205]

رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال قلنا: يا رسول الله أي والله قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك» وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه. [سورة الأعراف (7): آية 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) قوله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين. قال ابن عباس: يعني بالذكر القرآن في الصلاة يريد اقرأ سرا في نفسك والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وقيل المراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة المذكور جل جلاله وإذا كان الذكر باللسان عاريا عن ذكر القلب كان عديم الفائدة لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل تَضَرُّعاً يقال ضرع الرجل يضرع ضراعه إذا خضع وذل واستكان لغيره وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ يعني وخوفا والمعنى تضرع إليّ وخاف عذابي. وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت في الدعاء وهاهنا لطيفة وهي أن قوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ فيه إشعار بقرب العبد من الله عز وجل وهو مقام الرجاء لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام الله عليه وإحسانه إليه فعند ذلك يقوى مقام الرجاء ثم أتبعه بقوله تضرعا وخيفة وهذا مقام الخوف فإذا حصل في قلب العبد داعية الخوف والرجاء قوي إيمانه والمستحب أن يكون الخوف أغلب على العبد في حال صحته وقوته فإذا قارب الموت ودنا آخر أجله فيستحب أن يغلب رجاؤه على خوفه. عن أنس بن مالك «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف» أخرجه الترمذي. وقوله سبحانه وتعالى: بِالْغُدُوِّ جمع غدوة وَالْآصالِ جمع أصيل وهي ما بين صلاة العصر إلى المغرب والمعنى اذكر ربك بالبكر والعشيات وإنما خص هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يستقبله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعني عما يقربك إلى الله عز وجل وقيل إن أعمال العبد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى المغرب فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه بالذكر وقيل: لما كانت الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر مكروهة استحب للعبد أن يذكر الله في هذين الوقتين ليكون في جميع أوقاته مشتغلا بما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة أو ذكر. [سورة الأعراف (7): آية 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة المقربين لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالذكر في حالة التضرع والخوف أخبر أن الملائكة الذين عنده مع علو مرتبتهم وشرفهم وعصمتهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وطاعته لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه عز وجل: وَيُسَبِّحُونَهُ يعني وينزهونه عن جميع النقائص ويقولون سبحان ربنا وَلَهُ يَسْجُدُونَ لا لغيره. فإن قلت: التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته لأنهما من جملة العبادة فكيف أفردهما بالذكر؟ قلت: أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنهم يسبحونه وله يسجدون ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأعمال القلوب هي تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله: ويسبحونه. وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: وله يسجدون وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قوله: وله يسجدون ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم (ق) عن عبد الله بن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (م) عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الثاني من تفسير الخازن ويليه الجزء الثالث وأوله: تفسير سورة الأنفال.

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية كلها إلا سبع آيات منها نزلت بمكة وهي من قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخر سبع آيات والأصح أنها نزلت بالمدينة وإن كانت الواقعة مكية وهي خمس وسبعون آية وألف وخمس وسبعون كلمة وخمسة آلاف وثمانون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الأنفال (8): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) قوله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (ق) عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن سورة الأنفال. قال: نزلت في بدر واختلف أهل التفسير في سبب نزولها فقال ابن عباس لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ومن أتى مكان كذا وكذا فله كذا وكذا ومن قتل قتيلا فله كذا فتسارع الشباب وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا ولا تستأثروا به علينا فإن كنا رداءا لكم ولو انكشفتم إلينا فتنازعوا. فأنزل الله عز وجل: يسألونك عن الأنفال. الآية قال أهل التفسير: قام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنك وعدت أن من قتل قتيلا فله كذا وكذا وإنا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولكن كرهنا أن تعرى مصافك فتعطف عليك خيل من المشركين فيصيبونك. فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك فإن تعط هؤلاء الذين ذكرت لا يبقى لأصحابك كبير شيء فنزلت هذه الآية: يسألونك عن الأنفال وقال محمد بن إسحاق: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في العسكر فجمع فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب وقال الذين كانوا يقاتلون العدو لولا نحن ما أصبتموه وقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كنا نقدر أن نقاتل العدو ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق منا فنزلت هذه الآية». روى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: «سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا عن بواء» يقول على سواء وكان فيه تقوى الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح ذات البين وعن سعد بن أبي وقاص قال: «لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين أو نحو هذا هب لي هذا السيف فقال: «هذا ليس لي ولا لك فقلت: عسى أن يعطي هذا من لا يبلي بلائي فجاءني

[سورة الأنفال (8): الآيات 2 إلى 4]

الرسول فقال «إنك سألتني وليس لي وأنه قد صار لي وهو لك» فنزلت يسألونك عن الأنفال، الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه مسلم في جملة حديث طويل يتضمن فضائل سعد ولفظ مسلم فيه. قال: «أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة وإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نفلني هذا السيف فأنا قد علمت حاله فقال رده من حيث أخذته فانطلقت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت أعطنيه قال فشد على صوته «رده من حيث أخذته فأنزل الله عز وجل» يسألونك عن الأنفال وقال ابن عباس: كانت المغانم لرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى» يسألونك عن الأنفال» استفتاء يعني يسألك أصحابك يا محمد عن حكم الأنفال وعلمها وهو سؤال استفتاء لا سؤال طلب. وقال الضحاك وعكرمة: هو سؤال طلب وقوله عن الأنفال أي من الأنفال وعن بمعنى من. وقيل: عن صلة أي يسألونك الأنفال والأنفال هي الغنائم في قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأصله الزيادة سميت الغنائم أنفالا لأنها زيادة من الله عز وجل لهذه الأمة على الخصوص وأكثر المفسرين على أنها نزلت في غنائم بدر. وقال عطاء: هي ما شذ عن المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو امرأة أو متاع فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي: قل لهم يا محمد إن الأنفال حكمها لله ورسوله يقسمانها كيف شاؤوا واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال مجاهد وعكرمة والسدي هذه الآية منسوخة فنسخها الله سبحانه وتعالى بالخمس في قوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية. وقيل كانت الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها كيف شاء ولمن شاء ثم نسخها الله بالخمس. وقال بعضهم: هذه الآية ناسخة من وجه منسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراما على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم فأباحها الله لهذه الأمة بهذه الآية وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا ثم نسخت بآياته الخمس وقال عبد الرحمن بن زيد إنها محكمة وهي إحدى الروايات عن ابن عباس ومعنى الآية على هذا القول قل الأنفال لله والرسول يضعها حيث أمره الله وقد بين الله مصارفها في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية. وصح من حديث ابن عمر، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا ونفلنا بعيرا نعيرا أخرجاه في الصحيحين فعلى هذا تكون الآية محكمة وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني اتقوا الله بطاعته واتقوا مخالفته واتركوا المنازعة والمخاصمة في الغنائم وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك المنازعة والمخالفة وبتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده قوله سبحانه وتعالى: [سورة الأنفال (8): الآيات 2 الى 4] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ لما أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته وطاعة رسوله في الآية المتقدمة ثم قال بعد ذلك إن كنتم مؤمنين لأن الإيمان يستلزم الطاعة، بيّن في هذه الآية صفات المؤمنين وأحوالهم فقال سبحانه وتعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ولفظة إنما تفيد الحصر والمعنى ليس المؤمنون الذين يخالفون الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي خضعت وخافت ورقت قلوبهم وقيل إذا خوفوا بالله انقادوا خوفا من عقابه. وقال أهل الحقائق: الخوف على قسمين: خوف عقاب وهو خوف العصاة، وخوف الهيبة والعظمة وهو خوف الخواص، لأنهم يعلمون عظمة الله عز وجل فيخافونه أشد

خوف، وأما العصاة فيخافون عقابه فالمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته في ذكر الله. فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية وجلت قلوبهم بمعنى خافت وقال في آية أخرى تطمئن قلوبهم بذكر الله فكيف الجمع بينهما؟ قلت: لا منافاة بين هاتين الحالتين لأن الوجل هو خوف العقاب والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهذا مقام الخوف والرجاء وقد جمعا في آية واحدة وهي قوله سبحانه وتعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. والمعنى: تقشعر جلودهم من خوف عقاب الله ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله ورجاء ثوابه وهذا حاصل في قلب المؤمنين ثم قال تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يعني وإذا قرأت عليهم آيات القرآن زادتهم تصديقا قاله ابن عباس. والمعنى: أنه كلما جاءهم شيء من عند الله آمنوا به فيزدادون بذلك إيمانا وتصديقا لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين فتكون معرفته بالله أقوى فيزداد إيمانه. الوجه الثاني: هو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ولما كانت التكاليف متوالية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما تجدد تكليف صدقوا به فيزدادون بذلك الإقرار تصديقا وإيمانا ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان أكبر ممن يصدقه في شيء واحد فقوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم واختلف أناس في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا؟ فالذين قالوا إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا لا يقبل الزيادة لإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب وذلك لا يقبل الزيادة ومن قال إن الإيمان عبارة عن مجموع أمور ثلاثة وهي التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان فقد استدل على ذلك بهذه الآية من وجهين أحدهما أن قوله زادتهم إيمانا صريح في أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان عبارة عن التصديق بالقلب فقط لما قبل الزيادة وإذا قيل لزيادة فقد قبل النقص. الوجه الثاني: أنه ذكر في هذه الآية أوصافا متعددة من أحوال المؤمنين ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. وذلك يدل على أن تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» أخرجاه في الصحيحين ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلا للزيادة والنقص. قال عمير بن حبيب، وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصانا. قيل له: فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي: أن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. وقوله سبحانه وتعالى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ معناه يفوضون جميع أمورهم إليه ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه. واعلم أن المؤمن إذا كان واثقا بوعد الله ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره وهي درجة عالية ومرتبة شريفة لأن الإنسان يصير بحيث لا يبقى له اعتماد في شيء من أموره إلا على الله عز وجل واعلم أن هذه المراتب الثلاث أعني الوجل عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والتوكل على الله من أعمال القلوب

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الصفات الثلاث أتبعها بصفتين من أعمال الجوارح فقال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها وينفقون أموالهم فيما أمرهم الله به من الإنفاق فيه ويدخل فيه النفقة في الزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والقربات ثم قال تعالى: أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يعني يقينا لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برءوا من الكفر. وقال قتادة: استحقوا الإيمان وأحقه الله لهم وفيه دليل على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن الله سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواما مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة: الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين: الأول: أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد، فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمنا حقا، ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله. الوجه الثاني: أنه سبحانه وتعالى قال أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقا وفي قوله أنا مؤمن إن شاء الله تشكيك فيما قطع الله لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه: الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الاعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحا وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الاعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك. الوجه الثاني: أن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال: إن شاء الله زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار. روي أن أبا حنيفة قال لقتادة: لم استثنيت في إيمانك؟ فقال قتادة: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أو لم تؤمن؟ قال: بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب. مزيد الطمأنينة. الوجه الثالث: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافا خمسة وهي الخوف من الله والإخلاص لله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال: أولئك هم المؤمنون حقا يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمنا حقا ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت؟ فقال الحسن: إن كنت سألتني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية فلا أدري أنا منهم أم لا. وقال علقمة: كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم؟ فقالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن

[سورة الأنفال (8): الآيات 5 إلى 7]

مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئا قال هلا قلتم لهم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين هم أهل الجنة؟ وقال سفيان الثوري: من زعم أنه مؤمن حقا عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف الآخر. الوجه الرابع: إن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله للتبرك لا للشك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع العلم القطعي أنه لاحق بأهل القبور. الوجه الخامس: إن المؤمن لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا ختم له بالإيمان ومات عليه وهذا لا يحصل إلا عند الموت، فلهذا السبب حسن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة. وأجاب أصحاب هذا القول، وهم أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم، عن استدلال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم بقولهم: إن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله بأن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا وبين وصفه بكونه متحركا أن الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة والحركة فعل يقيني فحصل الفرق بينهما والجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم إنه سبحانه وتعالى قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم لهم بكونهم مؤمنين حقا أنه تعالى حكم للموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية بكونهم مؤمنين حقا إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة ولا يقدر أحد أن يأتي بتلك الأوصاف على الحقيقة ونحن نقول أيضا إن من أتى بتلك الأوصاف على الحقيقة كان مؤمنا حقا ولكن لا يقدر على ذلك أحد والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني لهم مراتب بعضها أعلى من بعض لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ تلك الأوصاف المذكورة فلهذا تتفاوت مراتبهم في الجنة لأن درجات الجنة على قدر الأعمال. قال عطاء: درجات الجنة يرتقون فيها بأعمالهم، وقال الربيع بن أنس: درجات الجنة سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام» أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وَمَغْفِرَةٌ يعني ولهم مغفرة لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني ما أعدّ لهم في الجنة وصفه بكونه كريما لأن منافعه حاصلة لهم دائمة عليهم مقرونة بالإكرام والتعظيم. [سورة الأنفال (8): الآيات 5 الى 7] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) قوله سبحانه وتعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ اختلفوا في الجالب لهذه الكاف ما هو؟ فقال المبرد: تقديره قل الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا. وقيل: معناه امض لأمر ربك في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر ربك في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون. وقيل: معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم كما أن إخراج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق هو خير لكم وإن كرهه فريق منكم. وقيل: هو راجع لقوله سبحانه وتعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ تقديره وعد الله المؤمنين بالدرجات حق حتى ينجزه الله تعالى كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأنجز الوعد بالنصر والظفر. وقيل: هي متعلقة بما بعدها تقديره كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه. وقيل: الكاف بمعنى على أي امض على الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق فإنه حق. وقيل: الكاف بمعنى القسم تقديره والذي أخرجك ربك من بيتك وجوابه يجادلونك في الحق. وقيل: الكاف بمعنى إذ

تقديره واذكر يا محمد إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق. قيل: المراد بهذا الإخراج إخراجه من مكة إلى المدينة للهجرة. وقال جمهور المفسرين: المراد بهذا الإخراج هو خروجه من المدينة إلى بدر ومعناه كما أمرك ربك بالخروج من بيتك بالمدينة بالحق يعني بالوحي لطلب المشركين وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يعني للقتال وإنما كرهوه لقلة عددهم وقلة سلاحهم وكثرة عدوهم وسلاحهم يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك وقالوا لم تعلمنا أنّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم وإنما خرجنا لطلب العير فذلك جدالهم بَعْدَ ما تَبَيَّنَ يعني تبين لهم أنك لا تصنع شيئا إلا بأمر ربك وتبين لهم صدقك في الوعد كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ يعني لشدة كراهتهم القتال وَهُمْ يَنْظُرُونَ يعني إلى الموت شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت وهو ينظر إليه ويعلم أنه آتيه. قوله عز وجل: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ يعني الفرقتين فرقة أبي سفيان مع العير وفرقة أبي جهل مع النفير أَنَّها لَكُمْ يعني إحدى الفرقتين لكم. قال ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدي: أقبل أبو سفيان بن حرب من الشام في عير قريش في أربعين راكبا من كفار قريش منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري ومعهم تجارة كبيرة وهي اللطيمة. يريد باللطيمة، الجمال التي تحمل العطر والبز غير الميرة، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو وقال: هذه هي عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا فلما سمع أبو سفيان بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم ويخبرهم أن محمدا في أصحابه قد عرض لعيرهم فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت رؤيا قبل قدوم ضمضم مكة بثلاثة أيام أفزعتها فبعثت إليها أخيها العباس بن عبد المطلب. فقالت: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فقال لها وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخلها منها فلقة فقال العباس: والله إن هذه الرؤيا فظيعة فاكتميها ولا تذكريها لأحد. ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، وكان صديقا للعباس، فذكر رؤيا عاتكة له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش بمكة. قال العباس: فعمدت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في نفر من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فغدوت أطوف فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. قال العباس: فلما فرغت من طوافي أقبلت إليهم حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فو الله ما كان مني إليه من كبير شيء إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقلن أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت. قال: قلت قد والله فعلت ما كان مني إليه من شيء وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنه، قال: فغدوت في اليوم الثالث من

رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني شيء أحب أن أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فو الله إني لأمر نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال العباس: فقلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه قال فإذا هو قد سمع ما لم أسمع سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة هذه أموالكم مع أبي سفيان وقد عرض لها محمد في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر قال: فتجهز الناس سراعا ولم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة من الحرب فقالوا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر فقال أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجت قريش سراعا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه لليال مضت من شهر رمضان حتى بلغ واديا يقال له ذا قرد فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عن عيرهم فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بخبرهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إنها لكم إما العير، وإما قريش، وكانت العير أحب إليهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد- يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا فنمنعك مما منع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسيروا معه إلى عدو من بلادهم فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل. قال: آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وعدوك إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله عز وجل أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك فقال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم (م). عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى قال عمر فو الذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا» فذلك قوله سبحانه وتعالى وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم يعني طائفة أبي سفيان مع العير وطائفة أبي جهل مع النفير وَتَوَدُّونَ أي

[سورة الأنفال (8): الآيات 8 إلى 9]

وتريدون وتتمنون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ والمعنى: وتتمنون أن العير التي ليس فيها قتال ولا شوكة تكون لكم والشوكة الشدة والقوة ويقال السلاح وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يظهر الحق ويعليه بِكَلِماتِهِ يعني بأمره إياكم بالقتال وقيل بعداته التي سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي ويستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد. [سورة الأنفال (8): الآيات 8 الى 9] لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) لِيُحِقَّ الْحَقَّ يعني ليثبت الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ يعني وينفي الكفر وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين وفي الآية سؤالان: الأول: أن قوله ويريد الله أن يحق الحق ثم قال بعده ليحق الحق تكرير فما معناه؟. والجواب أنه ليس فيه تكرير لأن المراد بالأول تثبيت ما وعد في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء والمراد بالثاني: تقوية القرآن والدين وإظهار منار الشريعة لأن الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم وقهر الكافرين مع كثرتهم كان سبب لإعزاز الدين وقوته ولهذا السبب قرنه بقوله ويبطل الباطل يعني الذي هو الشرك. السؤال الثاني: الحق حق لذاته والباطل باطل لذاته فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل. والجواب: إن المراد من تحقيق الحق إظهار كون ذلك الحق حقا والمراد من إبطال ذلك الباطل إظهار كون ذلك الباطل باطلا وذلك بإظهار دلائل الحق وتقويته. وقمع رؤساء الباطل وقهرهم. قوله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي واذكر يا محمد إذ تستجيرون بربكم من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر وفي المستغيثين قولان أحدهما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه قاله الزهري والقول الثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم له (م) عن ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فأمده الله بالملائكة. قال سماك: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السيف فأحصى ذلك أجمع وجاء فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة. فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وقوله سبحانه وتعالى فاستجاب لكم، يعني فأجاب دعاءكم أني ممدكم أصله بأني ممدكم أي مرسل إليكم مددا ورداء لكم بألف من الملائكة مردفين، يعني: يردف بعضهم بعضا بمعنى يتبع بعضهم بعضا. روي أنه نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة وميكائيل عليه السلام في خمسمائة في صور الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوها بين أكتافهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشد ربه وقال أبو بكر إن الله سينجز لك ما وعدك خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع (خ). عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» يعني آلة الحرب قال ابن عباس: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى

[سورة الأنفال (8): الآيات 10 إلى 12]

يوم بدر من الأيام وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا. وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة تقدم الكلام في سورة آل عمران هل قاتلت الملائكة أم لا والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر لما تقدم من حديث ابن عباس في الذي ضربه بالسوط فحطم أنفه وشق وجهه وكانوا فيما سوى يوم بدر مددا وعونا قيل إنهم لم يقاتلوا وإنما نزلوا ليكثروا سواد المسلمين ويثبتوهم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: [سورة الأنفال (8): الآيات 10 الى 12] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى يعني وما جعل الله الإرداف بالملائكة إلا بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وهذا يحقق أنهم إنما نزلوا لذلك لا للقتال والصحيح هو الأول وأنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا فيما سواه من الأيام. وقوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني أن الله هو ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وشدة بأسكم وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله ولا يثق بغيره فإن الله تعالى بيده النصر والإعانة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعني أنه تعالى قوي منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كل شيء ويغلبه حَكِيمٌ يعني في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده. قوله سبحانه وتعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي: واذكروا إذ يلقى عليكم النعاس وهو النوم الخفيف أمنة منه أي أمنا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم قال عبد الله بن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان والفائدة في كون النعاس أمنة في القتال أن الخائف على نفسه لا يأخذه النوم فصار حصول النوم وقت الخوف الشديد دليلا على الأمن وإزالة الخوف. وقيل إنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عدوهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم وعددهم وعطشوا عطشا شديدا ألقى عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش وتمكنوا من قتال عدوهم وكان ذاك النوم نعمة في حقهم لأنه كان خفيفا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم وقيل في كون هذا النوم كان أمنة من الله أنه وقع عليهم النعاس دفعة واحدة فناموا كلهم مع كثرتهم وحصول النعاس لهذا الجمع العظيم مع وجود الخوف الشديد أمر خارج عن العادة فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة لأنه أمر خارق للعادة وقوله سبحانه وتعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش فوسوس لهم الشيطان. وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين فكيف ترجون أن تظهروا على عدوكم؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى مطرا سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الركاب وملأوا الأسقية وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام وزالت عنهم وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك وكان دليلا على حصول النصر والظفر، فذلك قوله سبحانه وتعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ يعني: من الإحداث والجنابة وَيُذْهِبَ

عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعني وسوسته التي ألقاها في قلوبكم وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يعني بالنصر واليقين والربط في اللغة الشد وكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه عليه قال الواحدي ويشبه أن تكون لفظة على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالصبر وما أوقع فيها من اليقين وقيل: إن لفظة على ليست بصلة لأنها تفيد الاستعلاء فيكون المعنى: أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يعني أن ذاك المطر لبد الأرض وقوى الرمل حتى تثبتت عليه الأقدام وحوافر الدواب، وقيل المراد به تثبت الأقدام بالصبر وقوة القلب لأن من يكون ضعيف القلب لا يثبت قدمه بل يفر ويهرب عن اللقاء. وقوله سبحانه وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ يعني أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الملائكة الذين أمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إني معكم بالنصر والمعونة فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: قووا قلوبهم واختلفوا في كيفية هذه التقوية والتثبيت. فقيل: كما أن للشيطان قوة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر، فكذلك للملك قوة في إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير. ويسمى ما يلقي الشيطان: وسوسة، وما يلقي الملك لمة وإلهاما، فهذا هو التثبيت. وقيل: إن ذلك التثبيت هو حضورهم معهم القتال ومعونتهم لهم أي: ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين، وقيل معناه بشروهم بالنصر والظفر فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول أبشروا فإن الله ناصركم عليهم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يعني الخوف وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين حيث ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قيل هو خطاب مع المؤمنين فيكون منقطعا عما قبله. وقيل: هو خطاب مع الملائكة فيكون متصلا بما قبله .. قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعرف تقتل بني آدم فعلمهم الله ذلك بقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق. قال عكرمة: يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق. وقال الضحاك: معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة. وقيل: معناه فاضربوا على الأعناق فتكون فوق بمعنى على وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يعني كل مفصل. وقال ابن عباس: يعني الأطراف وهي جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن الإنسان أن يبين ما يريد أن يعمله بيديه وإنما خصت بالذكر من دون سائر الأطراف لأجل أن الإنسان بها يقاتل وبها يمسك السلاح في الحرب. وقيل: إنه سبحانه وتعالى أمرهم بضرب أعلى الجسد وهو الرأس وهو أشرف الأعضاء وبضرب البنان وهو أضعف الأعضاء فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد. وقيل: أمرهم بضرب الرأس وفيه هلاك الإنسان وبضرب البنان وفيه تعطيل حركة الإنسان عن الحرب لأن بالبنان يتمكن من مسك السلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل عن ذلك كله. روي عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري. وعن سهل بن حنيف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف، وروى عكرمة عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قد دخل علينا أهل البيت فأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاء الخبر عن مقتل أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، قال أبو رافع وكنت رجلا ضعيفا أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم فو الله إني لجالس أنحت القداح وعندي أم الفضل جالسة إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب: إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر اليقين فجلس إليه والناس قيام عليه فقال أبو لهب: يا ابن أخي خبرني كيف كانت أحوال الناس؟ قال: لا

[سورة الأنفال (8): الآيات 13 إلى 16]

شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وايم الله ما لمت الناس لقينا رجالا بيضاء على خيل بلق بين السماء والأرض والله لا يتلقاهم شيء ولا يقوم لهم شيء. قال أبو رافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي وقلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك على صدري وكنت رجلا ضعيفا، فقامت إليه أم الفضل بعمود من عمد الحجرة فضربته به ضربة ففلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله تعالى بالعدسة فقتلته. وروي مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم. وكانت وقعة بدر في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة النبوية. [سورة الأنفال (8): الآيات 13 الى 16] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) وقوله سبحانه وتعالى: لِكَ يعني الذي وقع من القتل والأسر يوم بدرأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني بأنهم خالفوا الله ورسوله. والمشاقة: المخالفة، وأصلها المجانبة، كأنهم صاروا في شق وجانب عن شق المؤمنين وجانبهم وهذا مجاز معناه أنهم شاقّوا أولياء الله وهم المؤمنون أو شاقوا دين الله ثم قال سبحانه وتعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم من القتل والأسر شيء قليل فيما أعد الله لهم من العقاب يوم القيامة ثم قال تعالى: ذلِكُمْ إشارة إلى القتل والأسر الذي نزل بهم فَذُوقُوهُ يعني عاجلا في الدنيا لأن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل الذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب وهو قوله: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ يعني في الآخرة، عن ابن عباس قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر قيل له عليك بالعير ليس من دونها شيء قال فناداه العباس من وثاقه لا يصلح لك لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك قال: صدقت، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً يعني مجتمعين متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني في القتال وأصل الزحف مشي مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي وسمي مشي الطائفتين بعضهم إلى بعض في القتال زحفا لأنها تمشي كل طائفة إلى صاحبتها مشيا رويدا وذلك قبل التداني للقتال، وقال ثعلب: الزحف المشي قليلا قليلا إلى الشيء فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ يعني فلا تولوهم ظهوركم منهزمين منهم فإن المنهزم يولي ظهره ودبره وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يعني ومن ينهزم ويول دبره يوم الحرب والقتال إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يعني إلا منقطعا إلى القتال يرى عدوه من نفسه الانهزام وقصده طلب الكرة على العدو والعود إليه وهذا هو أحد أبواب الحرب وخدعها ومكايدها. وقوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ يعني أو منضما وصائرا إلى جماعة من المؤمنين يريدون العود إلى القتال فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يعني من انهزم من المسلمين وقت الحرب إلا في هاتين الحالتين وهي التحرف للقتال والتحيز إلى فئة من المسلمين فقد رجع بغضب من الله وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

[سورة الأنفال (8): آية 17]

((فصل في حكم هذه الآية)) اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ولم تكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ولأنها أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه والمسلمون معه فشدد الله عليهم أمر الانهزام وحرمه عليهم يوم بدر فأما بعد ذلك اليوم فإن المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك قال يزيد بن أبي حبيب: أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر فلما كان يوم أحد قال الله تعالى إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ثم كان يوم حنين بعده فقال سبحانه وتعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال: لا بل أنتم الكرارون إنا فئة المسلمين. قوله فحاص الناس حيصة، يعني جال الناس جولة يطلبون الفرار من العدو. والمحيص: الهرب. وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر بن الخطاب، فقال: لو انحاز إليّ كنت له فئة أنا فئة كل مسلم. وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ظهره منهزما بدليل قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهذا خطاب عام فيتناول جميع الصور وإن كانت الآية نزلت في غزاة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وجاء في الحديث «من الكبائر الفرار من الزحف» وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت بذلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا منهم ويولوهم ظهورهم وإن كان العدو أكثر من المثلين جاز لهم أن يفروا منهم قال ابن عباس من فرّ من ثلاثة لم يفر ومن فرّ من اثنين فقد فرّ قوله تعالى: [سورة الأنفال (8): آية 17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ قال مجاهد: سبب نزول هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن قتال أهل بدر كان الرجل يقول: أنا قتلت فلانا، ويقول الآخر: أنا قتلت فلانا فنزلت هذه الآية والمعنى فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم يعني بنصره إياكم وتقويتكم عليهم وقيل: معناه ولكن الله قتلهم بإمداده إياكم بالملائكة. قال الزمخشري: الفاء في قوله فلم تقتلوهم جواب شرط محذوف تقديره وإن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قال أهل التفسير والمغازي لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، انطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد فأخذوهما وأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين قريش؟ قالا: هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ما عددهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما عشرة ويوما تسعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة إلى ألف. ثم قال لهما: من فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وطعمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل، وهو الكثيب الرمل جاء إلى الوادي. فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني» فأتاه جبريل

[سورة الأنفال (8): الآيات 18 إلى 19]

عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء عليه تراب فرمى به وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» يعني قبحت الوجوه فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينه وفمه ومنخريه من ذلك التراب شيء فانهزموا وتبعهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وقال قتادة وابن زيد: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم وقال: «شاهت الوجوه» فانهزموا فذلك قوله عز وجل: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصى في وجوه جيش فلا تبقى عين إلا وقد دخل فيها من ذلك شيء فصورة الرمي صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأثيرها صدر من الله عز وجل فلهذا المعنى صح النفي والإثبات، وقيل. في معنى الآية: وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ رميك، وقيل: ما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بحصياتك ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً يعني ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب فقد أجمع المفسرون على أن البلاء هنا بمعنى النعمة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني لدعائكم عَلِيمٌ يعني بأحوالكم. [سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 19] ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) وقوله تعالى: ذلِكُمْ يعني الذين ذكرت من أمر القتل والرمي والبلاء الحسن من الظفر بهم والنصر عليهم فعلنا ذلك الذي فعلنا وَأَنَّ اللَّهَ يعني واعملوا أن الله مع ذلك مُوهِنُ أي مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ يعني مكرهم وكيدهم قوله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ هذا خطاب مع المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر، لما التقى الجمعان: اللهم أينا كان أفخر يعني نفسه ومحمدا صلى الله عليه وسلم قاطعا للرحم فأحنه اليوم. وقيل: إنه قال: اللهم أينا كان خيرا عندك فانصره. وقيل: قال: اللهم انصر أهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين اللهم من كان أفخر وأقطع لرحمه فأحنه اليوم فأنزل الله عز وجل إن تستفتحوا ومعنى الآية إن تستحكموا الله على أقطع الفريقين للحرم وأظلم الفئتين فينصر المظلوم على الظالم والمحق على المبطل والمقطوع على القاطع (ق). عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال أي عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي. قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفكما؟ فقالا: لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لهما والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء (ق). عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال فأخذ بلحيته فقال أنت أبو جهل وفي كتاب البخاري أنت أبو جهل هكذا قاله أنس فقال وهل فوق رجل قتلتموه أو قال قتله قومه وفي رواية فقال أبو جهل فلو غير أكار قتلني» عن عبد الله بن مسعود قال: مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت رجله فقلت يا عدو الله يا أبا جهل قد أخزى الله الآخر قال:

ولا أهابه عند ذلك فقال أعمد من رجل قتله قومه فضربته بسيف غير طائل فلم يغن شيئا حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى برد أخرجه أبو داود وأخرجه البخاري مختصرا. قال: إنه أتى أبا جهل يوم بدر وبه رمق فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه. وقال عكرمة: قال المشركون والله ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله عز وجل إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح يعني إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. وقال السدي والكلبي: كان المشركون لما خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح. يعني: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وهو على ما سألوه فكان النصر لأهدى الفئتين وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى فقال: اللهم لا يعجزك، فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة طيرت قدمه بنصف ساقه قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني جعلت عليها قدمي ثم تمطيت بها حتى طرحتها ثم مر بأبي جهل وهو عفير معاذ بن عفراء فضربه حتى أتبته وتركه وبه رمق فمر به عبد الله بن مسعود قال عبد الله وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه فقلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدبرة قلت لله ولرسوله. روي عن ابن مسعود أنه قال: قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ثم احتززت رأسه ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال: آلله الذي لا إله غيره فقلت نعم والذي لا إله غيره ثم ألقيته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله. وقال أبي بن كعب: هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل للمسلمين إن تستفتحوا أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح أي النصر (خ) عن خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» قلت: استدل البغوي بهذا الحديث على ما فسر به أبي بن كعب الآية وفيه نظر، لأن هذه الواقعة المذكورة في الحديث كانت بمكة والآية مدنية، فلا تعلق للحديث بتفسير الآية والله أعلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الله ببدر وسأله إنجاز ما وعده من إحدى الطائفتين وألح في الدعاء والمسألة حتى سقط رداؤه وقال الله سبحانه وتعالى مجيبا له إن تستفتحوا يعني تطلبوا النصر وإنجاز ما وعدكم الله به فقد جاءكم الفتح يعني فقد حصل لكم ما طلبتم فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم من إجابة دعائكم وإنجاز ما وعدكم به وهذا القول أولى لأن قوله فقد جاءكم الفتح لا يليق إلا بالمؤمنين. هذا إذا فسرنا الفتح بالنصر والظفر على الأعداء. أما إذا فسرناه بالقضاء والحكم لم يمتنع أن يراد به الكفار. أما قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فهو خطاب للكفار يعني وإن تنتهوا عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم وعن تكذيبه فهو خير لكم في الدين والدنيا أما في الدين بأن تؤمنوا به وتكفوا عنه فيجعل لكم بذلك الفوز بالثواب والخلاص من العقاب. وأما في الدنيا فهو الخلاص من القتل والأسر وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ يعني وإن تعودوا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم نعد بتسليطه عليكم ونصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ يعني جماعتكم شَيْئاً يعني لا تغني عنكم شيئا وَلَوْ

[سورة الأنفال (8): الآيات 20 إلى 24]

كَثُرَتْ يعني جماعتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يعني بالنصر لهم عليكم يا معشر الكفار. [سورة الأنفال (8): الآيات 20 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في أمر الجهاد لأن فيه بذل المال والنفس وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ يعني عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن التولي لا يصح إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حق الله تعالى والمعنى لا تعرضوا عنه وعن معونته ونصرته في الجهاد وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يعني القرآن يتلى عليكم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا بألسنتهم سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يعني وهم لا يتعظون ولا ينتفعون بما سمعوا من القرآن والمواعظ وهذه صفة المنافقين إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ يعني إن شر من دب على وجه الأرض من خلق الله عند الله الصُّمُّ عن سماع الحق الْبُكْمُ عن النطق به فلا يقولونه الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه ولا يقبلونه وإنما سماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم. قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقتلوا جميعا يوم أحد وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يعني سماع تفهم وانتفاع وقبول للحق ومعنى ولو علم الله. قال الإمام فخر الدين: إن كان ما كان حاصلا فيجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ يعني بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بما يسمعون من المواعظ والدلائل لقوله تعالى: لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني لتولوا عن سماع الحق وهم معرضون عنه لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره وقيل: إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن لك فقال الله سبحانه وتعالى: ولو أحيا لهم قصيا وسمعوا كلامه لتولوا عنه وهم معرضون. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يعني أجيبوهما بالطاعة والانقياد لأمرهما إِذا دَعاكُمْ يعني الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنما وجد الضمير في قوله تعالى إذا دعاكم لأن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم استجابة لله تعالى وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد واستدل أكثر الفقهاء بهذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن كل من أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بفعل فقد دعاه إليه وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه (خ). عن أبي سعيد بن المعلى قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم» ثم ذكر الحديث عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبيّ فالتفت أبيّ ولم يجبه وصلى أبي وخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم أفلم تجد فيما أوحى الله إلي: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى» وذكر الحديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

[سورة الأنفال (8): آية 25]

قيل هذه الإجابة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر وقيل لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير فله أن يقطع صلاته. وقوله تعالى: لِما يُحْيِيكُمْ يعني إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم. قال السدي: هو الإيمان، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان. وقال قتادة: هو القرآن، لأنه حياة القلوب وفيه النجاة والعصمة في الدارين. وقال مجاهد: هو الحق وقال محمد بن إسحاق: هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل. وقيل: هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله. وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد. وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وقد دلت البراهين العقلية على هذا القول لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي وتلك الاعتقادات والدواعي لا بد أن تتقدمها الإرادة وتلك الإرادة لا بد لها من فاعل مختار وهو الله سبحانه وتعالى فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله تعالى (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن قلوب بين آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك» عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلنا يا رسول الله قد آمنّا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء». أخرجه الترمذي وهذا الحديث من أحاديث الصفات، فيجب على المرء المسلم أن يمره على ما جاء مع الاعتقاد الحازم بتنزيه الله تعالى عن الجارحة والجسم. وقيل في معنى الآية: إن الله عز وجل يحول بين المرء وقلبه حتى لا يدري ما يصنع ولا يعقل شيئا. وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمنا والجبن جراءة. وقوله تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني في الآخرة فيجزي كل عامل بعمله فيثيب المحسن ويعاقب العاصي. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الأنفال (8): آية 25] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لما أخبر الله عز وجل أنه يحول بين المرء وقلبه حذر من وقوع المرء في الفتن والمعنى واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح وأراد بالفتنة الابتلاء والاختبار وقيل: تقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم جميعا الظالم وغير الظالم. قال الحسن: نزلت هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير. قال الزبير: لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها يعني ما كان منهم في يوم الجمل. وقال السدي ومجاهد والضحاك وقتادة: هذا في قوم مخصوصين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل. وقال ابن عباس: أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب فيصيب الظالم وغير الظالم روى البغوي بسنده عن عدي بن عدي الكندي قال حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة» والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا

[سورة الأنفال (8): الآيات 26 إلى 27]

عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» أخرجه أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» أخرجه أبو داود. وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذبه» فإن قلت ظاهر قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً يشمل الظالم وغير الظالم كما تقدم تفسيره فكيف يليق برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من يذنب. قلت: إنه تعالى مالك الملك وخالق الخلق وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع المصلحة والله أعلم بمراده. وقوله سبحانه وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيه تحذير ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره الله منها. [سورة الأنفال (8): الآيات 26 الى 27] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وقوله عز وجل: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله وحذرهم من الفتنة ذكرهم نعمته عليهم. فقال تعالى: واذكروا يا معشر المؤمنين المهاجرين إذ أنتم قليل يعني في العدد مستضعفون في الأرض يعني في أرض مكة في ابتداء الإسلام تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يعني كفار مكة قال عكرمة كفار العرب وقال وهب ابن منبه يعني فارس والروم فَآواكُمْ يعني إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يعني وقواكم بالأنصار. وقال الكلبي: وقواكم يوم بدر بالملائكة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون الله على نعمه عليكم قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ قال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعيد بن معاذ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه يعني إنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد. وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء فحله بيده ثم قال أبو لبابة إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من

[سورة الأنفال (8): الآيات 28 إلى 30]

مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تصدق به فنزل فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. وقال السدي: كانوا يسمعون السر من النبي صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت هذه الآية وقال جابر بن عبد الله: إن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن أبا سفيان في مضوع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا قال فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل لا تخونوا الله والرسول وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ومعنى الآية لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنها أمانة وقيل: معناه وأنتم تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الخلق خيانة وأصل الخيانة من الخون وهو النقص لأن من خان شيئا فقد نقصه والخيانة ضد الأمانة، وقيل في معنى الآية: لا تخونوا الله والرسول فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم. وقال ابن عباس: معناه لا تخونوا الله بترك فرائضه ولا تخونوا الرسول بترك سنته ولا تخونوا أماناتكم قال ابن عباس هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله تعالى والأعمال التي ائتمن عليها العباد وقال قتادة: اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ومنه الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب. [سورة الأنفال (8): الآيات 28 الى 30] وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وقوله عز وجل وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ . قيل: هذا مما نزل في أبي لبابة وذلك لأن أمواله وأولاده كانت في بني قريظة فلذلك قال ما قال خوفا عليهم. وقيل: إنه عام في جميع الناس وذلك أنه لما كان الإقدام على الخيانة في الأمانة هو حب المال والولد نبّه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فتنة على أنه يجب على العاقل أن يحذر من المضار المتولدة من حب المال والولد، لأن ذلك يشغل القلب ويصيره محجوبا عن خدمة المولى وهذا من أعظم الفتن وروى البغوي بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى بصبي فقبله وقال أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان الله» أخرج الترمذي عن عمر بن عبد العزيز قال زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم قال: «خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله» قال الترمذي: لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا عن خولة. قوله، لمن ريحان الله: أي لمن رزق الله والريحان في اللغة الرزق. وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لمن أدى الأمانة ولم يخن وفيه تنبيه على أن سعادة الآخرة وهو ثواب الله أفضل من سعادة الدنيا وهو المال والولد. وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يعني بطاعته وترك معاصيه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يعني يجعل لكم نورا وتوفيقا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل والفرقان أصله الفرق بين الشيئين لكنه أبلغ من أصله لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل والحجة والشبهة. قال مجاهد: يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: مخرجا في الدين من الشبهات وقال عكرمة: نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون وقال محمد بن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم وقيل يفرق بينكم وبين

الكفار بأن يظهر دينكم ويعليه ويبطل الكفر ويوهنه وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني ويمح عنكم ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني ويستر عليكم بأن لا يفضحكم في الدنيا ولا في الآخرة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لأنه هو الذين يفعل ذلك بكم فله الفضل العظيم وعلى غيركم من خلقه ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفي به قيل إنه يتفضل على الطائعين بقبول الطاعات ويتفضل على العاصين بغفران السيئات وقيل: معناه أن بيده الفضل العظيم فلا يطلب من عند غيره. قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لما ذكر الله المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى: واذكروا إذ أنتم قليل ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه عليه فيما جرى عليه بمكة من قومه لأن هذه السورة مدنية وهذه الواقعة كانت بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة والمعنى واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير قالوا جميعا إن قريشا فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا. فقالوا: ادخل. فدخل، فقال أبو البختري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتحبسوه في بيت مقيدا وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون منها طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء فصرخ عدو الله إبليس وهو الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم فقالوا صدق الشيخ النجدي. فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، فقال: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه. فقال إبليس اللعين: ما هذا لكم برأي تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاقة لسانه وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه والله لئن فعلتم ذلك يذهب ويستميل قلوب قوم آخرين ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم فقالوا: صدق الشيخ النجدي. فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسطا فتيا ثم نعطي كل فتى سيفا صارما ثم يضربوه جميعا ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها وأنهم إذا أرادوا ذلك. قالوا: العقل فتؤدي قريش ديته فقال إبليس اللعين: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا، والقول ما قال لا أرى غيره فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجتمعون عليه فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأذن الله عز وجل له عند ذلك بالخروج إلى المدينة «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يبيت في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه» ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ قبضة من تراب وأخذ الله عز وجل أبصارهم عنه فخرج وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الى قوله، فهم لا يبصرون. ومضى إلى الغار من ثور وهو أبو بكر وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته. قالوا: وبات المشركون يحرسون عليا وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا، ساروا إليه ليقتلوه فرأوه عليا فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتفوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخله لم يكن لنسج العنكبوت على بابه أثر فمكث في الغار ثلاثا ثم خرج إلى المدينة فذلك قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وأصل المكر احتيال

[سورة الأنفال (8): الآيات 31 إلى 33]

في خفية لِيُثْبِتُوكَ أي ليحبسوك ويوثقوك لأن كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة أَوْ يَقْتُلُوكَ يعني كما أشار عليهم أبو جهل أَوْ يُخْرِجُوكَ يعني من مكة وَيَمْكُرُونَ يعني ويحتالون ويدبرون في أمرك وَيَمْكُرُ اللَّهُ يعني ويجازيهم الله جزاء مكرهم فسمى الجزاء مكر، لأنه في مقابلته. وقيل: معناه ويعاملهم الله معاملة مكرهم. والمكر: هو التدبير وهو من الله تعالى التدبير بالحق. والمعنى: أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أظهره وقواه ونصره فضاع فعلهم وتدبيرهم وظهر فعل الله وتدبيره وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فإن قلت كيف قال الله سبحانه وتعالى والله خير الماكرين ولا خير في مكرهم. قلت: يحتمل أن يكون المراد والله أقوى الماكرين فوضع خبر موضع أقوى وفيه تنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن مكرهم فيه خير بزعمهم فقال سبحانه وتعالى في مقابلته: والله خير الماكرين. وقيل: ليس المراد التفضيل بل إن فعل الله خير مطلقا. [سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 33] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) قوله عز وجل: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار وذلك أنه كان يختلف إلى أرض فارس والحيرة ويسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وأحاديث العجم وكان يمر بالعباد من اليهود والنصارى فيراهم يقرءون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون ويبكون فلما جاء مكة وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه وهو يقرأ ويصلي. فقال النضر بن الحارث: قد سمعنا يعني مثل هذا الذي جاء به محمد لو نشاء لقلنا مثل هذا فذمهم الله بدفعهم الحق الذي لا شبهة فيه بادعائهم الباطل بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا بعد التحدي وأبان عجزهم عن ذلك ولو قدروا ما تخلفوا عنه وهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة فبان بذلك كذبهم في قولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني أخبار الماضين. قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ نزلت في النضر بن الحرث أيضا. قال ابن عباس: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر بن الحرث: لو شئت لقلت مثل هذا فقال له عثمان بن مظعون: اتق الله فإن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول الحق قال وأنا أقول الحق. قال: فإن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله. قال: وأنا أقول لا إله إلا الله. ولكن هذه بنات الله، يعني الأصنام، ثم قال: اللهم إن كان هذا هو الحق يعني القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعني إن كان الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد وادعاء النبوة وغير ذلك هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء يعني كما أمطرتها على قوم لوط أو ائتنا بعذاب أليم: يعني مثل ما عذبت به الأمم الماضية، في النضر بن الحرث نزل سأل سائل بعذاب واقع. قال عطاء: لقد نزل في النضر بن الحرث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قال سعيد بن جبير: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحرث وروى أنس بن مالك أن الذي قال ذلك أبو جهل (ق) عن أنس قال: قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية

[سورة الأنفال (8): آية 34]

فنزلت وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية فلما أخرجوه نزلت وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدونهم عن المسجد الحرام. قوله عز وجل: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق: هذه الآية متصلة بما قبلها وهي حكاية عن المشركين وذلك أنهم قالوا إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيها معها فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكره جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثم قال تعالى ردا عليهم: وما لهم ألا يعذبهم الله وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وهم يصدون عن المسجد الحرام. وقال آخرون: هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخبارا عن نفسه تعالى وتقدس وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، واختلفوا في معناه فقال الضحاك وجماعة: تأويلها: وما كان الله ليعذبهم وأنت يا محمد مقيم فيهم بين أظهرهم. قالوا: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة ثم لما خرج منها بقي بقية من المسلمين يستغفرون، فأنزل الله عز وجل وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ثم لما خرج أولئك المسلمون من بين أظهر الكافرين أذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وقال ابن عباس: لم يعذب الله قرية حتى يخرج نبيها منها والذين آمنوا معه ويلحق بحيث أمر فقال الله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله لهم ومالهم ألا يعذبهم الله، وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد فراغهم من الطواف غفرانك غفرانك. وقال زيد بن رومان: قالت قريش اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال الله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وقال قتادة والسدي: معناه وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أي لو استغفروا ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقروا بالذنب واستغفروا الله لكانوا مؤمنين. وقيل: هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، كالرجل يقول لعبده لا أعاقبك. وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة: وهم يستغفرون أي يسلمون. يعني: لو أسلموا لما عذبوا. وقال ابن عباس: وفيهم من سبق له من الله العناية أنه يؤمن ويستغفر مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم. وقال مجاهد: وهم يستغفرون، أي وفي أصلابهم من يستغفر وقيل في معنى الآية: إن الكفار لما بالغوا وقالوا إن كان محمد محقا في قوله فأمطر علينا حجارة من السماء أخبر الله سبحانه وتعالى أن محمدا محق في قوله وأنه مع ذلك لا يمطر على أعدائه ومنكري نبوته حجارة من السماء ما دام بين أظهرهم وذلك تعظيما له صلى الله عليه وسلم وأورد على هذا أنه إذا كانت إقامته مانعة من نزول العذاب بهم فكيف قال في غير هذه الآية قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فالجواب أن المراد من العذاب الأول هو عذاب الاستئصال والمراد من العذاب الثاني وهو قوله سبحانه وتعالى يعذبهم الله بأيديكم هو عذاب القتل والسبي والأسر وذلك دون عذاب الاستئصال. قال أهل المعاني: دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان سلامة من العذاب عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل عليّ أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي. [سورة الأنفال (8): آية 34] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

[سورة الأنفال (8): الآيات 35 إلى 36]

وقوله سبحانه وتعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ يعني أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم يعني بعد خروجك من بين أظهرهم، لأنه سبحانه وتعالى بيّن في الآية الأولى أنه لا يعذبهم وهو مقيم فيهم بين أظهرهم وبيّن في هذه الآية أنه معذبهم. ثم اختلفوا في هذا العذاب فقيل: هو القتل والأسر يوم بدر. وقيل: أراد به عذاب الآخرة. وقيل: أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وأراد بالعذاب الثاني: العذاب بالسيف. وقيل: أراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وبهذا العذاب عذاب الآخرة. وقال الحسن: الآية الأولى وهو قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم منسوخة بقوله وما لهم ألا يعذبهم الله وفيه بعد لأن الأخبار لا يدخلها النسخ ثم بين ما لأجله يعذبهم فقال تعالى: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني وهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالبيت وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ قال الحسن: كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بقوله وما كانوا أولياءه يعني ليسوا أولياء المسجد الحرام إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني المشركين لا يَعْلَمُونَ ذلك قوله عز وجل: [سورة الأنفال (8): الآيات 35 الى 36] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً لما ذكر الله عز وجل أن الكفار ليسوا بأولياء البيت الحرام ذكر عقبة السبب في ذلك وهو أن صلاتهم عنده كانت مكاء وتصدية. والمكاء في اللغة: الصفير. يقال: مكا الطير يمكو إذا صفر والمكاء: اسم طير أبيض يكون بالحجاز له صفير. وقيل: هو طائر يألف الريف سمي بذلك لكثرة مكائه يعني صفيره. والتصدية: التصفيق وفي أصله واشتقاقه قولان أحدهما: أنه من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل كالمجيب للمتكلم ولا يرجع إلى شيء. الثاني: قال أبو عبيدة أصله تصددة فأبدلت الياء من الدال. قال الأزهري: والمكاء والتصدية، ليسا بصلاة، ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية قال حسان بن ثابت: صلاتهم التصدي والمكاء. قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. وقال مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزءون به ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون. فالمكاء: جعل الأصابع في الشدق، والتصدية: الصفير. وقال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله: إلا مكاء وتصدية، فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا. وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قام رجلان عن يمينه يصفران ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهم من بني عبد الدار. فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول غيره كان نوع أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، وقول ابن عباس أصح، لأن الله سبحانه وتعالى سمى ذلك صلاة. فإن قلت كيف سماها صلاة وليس ذلك من جنس الصلاة؟ قلت: إنهم كانوا يعتقدون ذلك المكاء والتصدية صلاة فخرج ذلك على حسب معتقدهم وفيه وجه آخر

[سورة الأنفال (8): الآيات 37 إلى 40]

وهو أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له فهو كقول العرب من كان السخاء عيبه فلا عيب له وقال سعيد بن جبير: التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين والصلاة فعلى هذا التصدية من الصد وهو المنع وقوله سبحانه وتعالى: فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني عذاب القتل والأسر في الدنيا. وقيل: يقال لهم في الآخرة فذوقوا العذاب بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يعني بسبب كفرهم في الدنيا. قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى عبادة الكفار البدنية وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبها عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، فكان يطعم كل واحد منهم الجيش في كل يوم عشر جزر وأسلم من هؤلاء: العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكيم بن حزام. وقال الحكم بن عتبة: نزلت في أبي سفيان بن حرب حين أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية كل أوقية اثنان وأربعون مثقالا. وقال ابن أبزي: استأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب. وقيل: استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من كنانة فقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: لما أصيب من أصيب من قريش يوم بدر ورجع أبو سفيان بعيره إلى مكة مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش قد أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة. فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا. بمن أصيب منافقيهم نزلت إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله أي ليصرفوا الناس عن الإيمان بالله ورسوله وقيل ينفقون أموالهم على أمثالهم من المشركين ليتقووا بهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فَسَيُنْفِقُونَها يعني أموالهم في ذلك الوجه ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ يعني ما أنفقوا من أموالهم يكون عليهم حسرة وندمة يوم القيامة لأن أموالهم تذهب ويغلبون ولا يظفرون بما يؤملون وَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني منهم لأن فيهم من أسلم ولهذا قال والذين كفروا يعني من المنفقين أموالهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يعني يساقون إلى النار. [سورة الأنفال (8): الآيات 37 الى 40] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يعني ليفرق الله بين فريق الكفار وهم الفريق الخبيث وبين فريق المؤمنين وهم الفريق الطيب وهذا معنى قول ابن عباس فإنه قال: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة وقال: ليميز العمل الخبيث من العمل الطيب فيجازي على العمل الخبيث النار وعلى العمل الطيب الجنة وقيل: المراد به إنفاق الكفار في سبيل الشيطان وإنفاق المؤمنين في سبيل الله وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ يعني بعضه فوق بعض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً يعني فيجمعه جميعا ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكم فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ يعني الخبيث أُولئِكَ إشارة إلى المنفقين في سبيل الشيطان أو إلى الخبيث هُمُ الْخاسِرُونَ يعني أنهم خسروا الدنيا والآخرة لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة.

[سورة الأنفال (8): آية 41]

قوله سبحانه وتعالى: قُلْ يعني قل يا محمد لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يعني عن الشرك يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ يعني ما قد مضى من كفرهم وذنوبهم قبل الإسلام وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ يعني في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه. ومعنى الآية: إن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر ودخلوا في دين الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وشركهم وإن عادوا إلى الكفر وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أن الإسلام يجب ما قبله وإذا أسلم الكافر لم يلزمه شيء من قضاء العبادات البدنية والمالية. وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه يعني بذلك أنه ليس عليه ذنب. قال يحيى بن معاذ الرازي: التوحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر فأرجو الله أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال ابن عباس: حتى لا يكون بلاء وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ يعني تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، وقال قتادة: حتى يقال لا إله إلا الله عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم وإليها عاد وقال محمد بن إسحاق في قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله يعني لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصا ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد والشركاء فَإِنِ انْتَهَوْا يعني عن الشرك وإفتان المؤمنين وإيذائهم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني فإن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ونياتهم حتى يوصل إليهم ثوابهم وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني وإن أعرضوا عن الإيمان وأصروا على الكفر وعادوا إلى قتال المؤمنين وإيذائهم فَاعْلَمُوا يعني أيها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يعني أن الله وليكم وناصركم عليها وحافظكم نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ يعني أن الله سبحانه وتعالى هو نعم المولى فمن كان في حفظه ونصره وكفايته وكلاءته فهو له نعم المولى ونعم النصير. [سورة الأنفال (8): آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) قوله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الغنم الفوز بالشيء يقال يغنم غنما فهو غانم واختلف العلماء هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمى واحد أم يختلفان في التسمية فقال عطاء بن السائب: الغنيمة ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوة وأما الأرض فهي فيء. وقال سفيان الثوري: الغنيمة ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوة بقتال وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة. والفيء: ما صولحوا عليه بغير قتال وليس فيه خمس فهو لمن سمى الله. وقيل: الغنيمة ما أخذ من أموال الكفار عنوة عن قهر وغلبة، والفيء: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وأموال الصلح والمهادنة. وقيل: إن الفيء والغنيمة معناهما واحد وهما اسمان لشيء واحد، والصحيح أنهما يختلفان فالفيء ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب والغنيمة ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه وركاب فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الغنيمة فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني من أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فإن لله خمسه وللرسول. وقد ذكر أكثر المفسرين والفقهاء أن قوله لله افتتاح كلام على سبيل التبرك وإنما أضافه لنفسه تعالى لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء وليس المراد منه أن سهما منه لله منفردا لأن الدنيا والآخرة كلها لله وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي قالوا: سهم الله وسهم رسوله واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها

وأحرزها والخمس الباقي لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال أبو العالية: يقسم خمس الخمس على ستة أسهم سهم لله عز وجل فيصرف إلى الكعبة القول الأول أصح أي إن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان له في حياته واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام وهذا قول الشافعي وأحمد. وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح. وقال قتادة: هو للخليفة. وقال أبو حنيفة: سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته مردود في الخمس فيقسم الخمس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله سبحانه وتعالى: وَلِذِي الْقُرْبى يعني أن سهما من خمس الخمس لذوي القربى وهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش وقال قوم هم الذين لا تحل لهم الصدقة وقال مجاهد وعلي بن الحسين: هم بنو هاشم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم «قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وفي رواية: أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا وفي رواية قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا أخرجه البخاري وفي رواية أبي داود «أن جبير بن مطعم جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقسم من الخمس في بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا وقرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وفي رواية النسائي قال «لما كان يوم خيبر رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه» واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم أم لا فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطي فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الأنثيين وهو قول مالك والشافعي وذهب أبو حنيفة وأصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت قالوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردود في الخمس فيقسم خمس الغنيمة على ثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل فيصرف إلى فقراء ذوي القربى مع هذه الأصناف دون أغنيائهم وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطون ذوي القربى ولا يفضلون فقيرا على غني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله وكذا الخلفاء بعده كانوا يعطونه وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد قال ويفضل الذكر على الأنثى فيعطى الذكر سهمين والأنثى سهما. وقوله سبحانه وتعالى: وَالْيَتامى جمع يتيم يعني ويعطى من خمس الخمس لليتامى، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه وَالْمَساكِينِ وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر البعيد عن ماله فيعطى من خمس الخمس مع الحاجة فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الذين شهدوا الواقعة وحازوا الغنيمة فيعطى للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، ويعطى الراجل سهما واحدا لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما. وفي رواية نحوه بإسقاط لفظ النفل أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللراجل سهم ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول وعند أبي حنيفة يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقفا على المصالح وظاهر الآية يدل على أنه لا فرق بين العقار والمنقول ومن قتل من المسلمين مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» أخرجه الترمذي وأخرجه البخاري ومسلم في حديث طويل والسلب كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح والفرس الذي كان راكبه ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصهم به من بين سائر الجيش ثم يجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش. عن حبيب بن سلمة الفهري، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة أخرجه أبو داود واختلف العلماء في أن النفل من أين يعطى فقال قوم من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر وبرة من جنب بعير فقال: يا أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم أخرجه النسائي. وقال قوم: هو من الأربعة الأخماس بعد إقرار الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق. وذهب قوم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل التخميس كالسلب للقاتل وأما الفيء، وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب بأن صالحهم على ما يؤدونه، وكذلك الجزية وما أخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له فهذا كله فيء ومال الفيء كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة حياته. وقال عمر: إن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يخص به أحدا غيره ثم قرأ عمر: وما أفاء الله على رسوله منهم الآية فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة وكان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله في الكراع والسلاح واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة الذين أثبتت أسماؤهم في ديوان الجهاد لأنهم هم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو. والقول الثاني: إنه لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ثم بالأهم فالأهم من المصالح واختلف أهل العلم في تخميس الفيء فذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى أنه يخمس وخمسه لأهل الخمس من الغنيمة على خمسة أسهم وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل يصرف جميعه مصرفا واحدا ولجميع المسلمين فيه حق. عن مالك بن أنس قال: ذكر عمر يوما الفيء فقال ما أنا أحق بهذا الفيء منكم وما أحد منا أحق به الآخر إلا أنا على منازلنا من كتاب الله وقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمه والرجل وبلاؤه والرجل وعياله والرجل وحاجته أخرجه أبو داود وأخرج البغوي بسنده عنه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم وقوله سبحانه وتعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ يعني واعلموا أيها المؤمنون أن خمس الغنيمة مصروف إلى ما ذكر في هذه الآية من الأصناف فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بأربعة أخماس

[سورة الأنفال (8): الآيات 42 إلى 44]

الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله وصدقتم بوحدانيته وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني وآمنتم بالمنزل على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه إضافة تشريف وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم والذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يسألونك عن الأنفال الآية يَوْمَ الْفُرْقانِ يعني يوم بدر. قال ابن عباس: يوم الفرقان يوم بدر فرق الله عز وجل بين الحق والباطل يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جميع المؤمنين وجميع الكافرين وهو يوم بدر وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو لسبع عشرة من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله المشركين وقتل منهم زيادة على سبعين وأسر منهم مثل ذلك وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني على نصركم أيها المؤمنون مع قلتكم وكثرة أعدائكم. [سورة الأنفال (8): الآيات 42 الى 44] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) قوله سبحانه وتعالى: إِذْ أَنْتُمْ أي اذكروا نعمة الله عليكم يا معشر المسلمين إذ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا يعني بشفير الوادي الأدنى من المدينة والدنيا هنا تأنيث الأدنى وَهُمْ يعني المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى يعني بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة والقصوى تأنيث الأقصى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه وهم غير قريش التي خرجوا لأجلها وكانوا في موضع أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ يعني أنتم والمشركون لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وذلك لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها من المسلمين فالتقوا على غير ميعاد والمعنى ولو تواعدتم أنتم والكفار على القتال لاختلفتم أنتم وهم لقتلكم وكثرة عدوكم وَلكِنْ يعني ولكن الله جمعكم على غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وأعداء دينه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ يعني ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ يعني ويعيش من عاش عن بينة رآها وعبرة شاهدها وحجة قامت عليه وقال محمد بن إسحاق: معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك لأن الهلاك هو الكفر والحياة هي الإيمان ونحوه قال قتادة ليضل من ضل على بينة ويهتدي من اهتدى على بينة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني يسمع دعاءكم ويعلم نياتكم ولا تخفى عليه خافية. قوله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ يعني: واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ يريك المشركين فِي مَنامِكَ يعني في نومك قَلِيلًا قال مجاهد: أراهم الله في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وكان ذلك تثبيتا. وقال محمد بن إسحاق: فكان ما أراه الله من ذلك نعمة من نعمه عليهم يشجعهم بها على عدوهم، فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم. وقيل: لما أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في منامه قليلا فأخبر بذلك أصحابه قالوا: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق فصار ذلك سببا لجراءتهم على عدوهم وقوة لقلوبهم. وقال الحسن: إن هذه الإراءة كانت في اليقظة. والمراد من المنام، العين، لأنها موضع النوم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ يعني لجبنتم والفشل ضعف مع جبن والمعنى ولو أراكهم كثيرا فذكرت ذلك لأصحابك لفشلوا وجبنوا عنهم وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني اختلفتم في أمر الإقدام عليهم أو الإحجام عنهم وقيل معنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجاذبة كل واحد إلى واحد إلى ناحية والمعنى: لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم

[سورة الأنفال (8): الآيات 45 إلى 46]

وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ يعني: ولكن الله سلمكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم. وقيل: معناه ولكن الله سلمكم من الهزيمة والفشل إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني أنه تعالى يعلم ما يحصل في الصدور من الجراءة والجبن والصبر والجزع. وقال ابن عباس: معناه أنه عليم بما في صدوركم من الحب لله عز وجل: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا يعني أن الله سبحانه وتعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم بدر لما التقوا في القتال ليتأكد في اليقظة ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأخبر به أصحابه قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال: أراهم مائة فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم قال: كنا ألفا. ويقللكم في أعينهم يعني ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعين المشركين. قال السدي: قال ناس من المشركين إن العير قد انصرف فارجعوا فقال أبو جهل الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى نستأصلهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني لقتلهم في عينيه ثم قال: فلا تقتلوهم واربطوهم في الحبال يقوله من القدرة التي في نفسه والحكمة في تقليل المشركين في أعين المؤمنين تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ولتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم عليه ولا يجبنوا عند قتالهم والحكمة في تقليل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم فيكون ذلك سببا لظهور المؤمنين عليهم. فإن قلت: كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل؟ قلت: ذلك ممكن في القدرة الإلهية فإن الله سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير ويكون ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة من خوارق العادات فلا ينكر ذلك لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني أمرا كان كائنا من إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله فإن قلت: قد قال في الآية المتقدمة ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقال في هذه الآية ليقضي الله أمرا كان مفعولا فما معنى هذا التكرار؟ قلت: المقصود من ذكره في الآية المتقدمة ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه القهر والغلبة ليكون ذلك معجزة دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود من ذكره في هذه الآية لأنه تعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضا للحكمة التي قضاها فلذلك قال ليقضي الله أمرا كان مفعولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني في الآخرة فيجازى كل عامل على قدر عمله فالمحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يغفر. [سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 46] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً يعني جماعة كافرة فَاثْبُتُوا يعني لقتالهم وهو أن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله ولا يحدثوها بالتولي وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً يعني كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكرا كثيرا بقلوبكم وألسنتكم أمر الله عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال وذلك عند لقاء العدو وقتاله، وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله. وقيل: المراد من هذا الذكر هو الدعاء بالنصر على العدو وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء ثم قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني: وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفرة. فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز. قلت المراد من الثبات هو الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز ثم قال تعالى مؤكدا لذلك وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا يعني: ولا

[سورة الأنفال (8): الآيات 47 إلى 48]

تختلفوا فإن التنازع والاختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن. وقوله تعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يعني قوتكم. وقال مجاهد: نصرتكم. قال: وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد. وقال السدي: جراءتكم وجدكم وقال مقاتل: حدتكم وقال الأخفش وأبو عبيدة: دولتكم. والريح هنا كناية في نفاذ الأمر وجريانه على المراد. تقول العرب: هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد وقال قتادة وابن زيد: هي ريح النصر ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور. وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر أخرجه أبو داود. وقوله سبحانه وتعالى: وَاصْبِرُوا يعني عند لقاء عدوكم ولا تنهزموا عنهم إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني بالنصر والمعونة (ق) عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا. [سورة الأنفال (8): الآيات 47 الى 48] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) قوله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً يعني فخرا وأشرا. وقيل: البطر: الطغيان في النعمة وذلك أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن فذلك هو البطر في النعم وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها، وهذا معنى قول الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها وَرِئاءَ النَّاسِ الرياء إظهار الجميل ليراه الناس مع إبطال القبيح والفرق بين الرياء والنفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله نزلت هذه الآية في كفار قريش حين خرجوا إلى بدر ولهم فخر وبغي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به. قال ابن عباس: إن أبا سفيان لما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان في بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق في كل عام قال فنقيم عليها ثلاثا وننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا. زاد غيره قال: فلما وافوا بدرا سقوا كؤوس الحمام عوضا عن الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم والمعنى لا يكونن أمركم أيها المؤمنون رياء وسمعة ولا لالتماس ما عند الله ولكن أخلصوا لله عز وجل النية وقاتلوا حسبة في

نصر دينكم ومؤازرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تعملوا إلا لذلك ولا تطلبوا غيره. وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى عالم بجميع الأشياء لا يخفى عن علمه شيء لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ زين الشيطان يريد إبليس للمشركين أعمالهم الخبيثة وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ قال بعضهم: كان تزيينه وسوسة ألقاها في قلوبهم من غير أن يتحول في صورة غير صورته. وقال جمهور المفسرين: تصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان تزيينه أن قريشا لما أجمعت على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بكر بن الحرث من الحروب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشرف بين كنانة، فقال: أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه فخرجوا سراحا. وقال ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم فقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين. وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، لعنه الله فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك جار لنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة. وقوله: إني جار لكم، يعني مجير لكم من كنانة فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء فعلم عدو الله إبليس أنه لا طاقة له بهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ يعني رجع القهقرى وولى مدبرا هاربا على قفاه، وقال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو آخذ بيد الحرث بن هشام فنكص عدو الله إبليس على عقبيه فقال له الحرث: أفرارا من غير قتال؟ وجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق فانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال: بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس فو الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فقالوا: أما أتيتنا في يوم كذا وكذا فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان شيطانا قال الحسن في قوله: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ قال: رأى إبليس جبريل عليه السلام معتجرا ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب. وقال قتادة: قال إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: إني أخاف الله وكذب ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منفعة فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه إذ التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقيل إنه خاف أن يهلك فيمن هلك وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر ربه وقيل لما رأى الملائكة قد نزلت من السماء خاف أن تكون القيامة وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قيل معناه إني أخاف الله لأنه شديد العقاب فعلى هذا يكون من تمام قول إبليس. وقيل: تم كلامه عند قوله: إني أخاف الله. وقوله تعالى: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ابتداء كلام. يقول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف الله وكفر به. عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. أخرجه مالك في الموطأ. قوله: ولا أدحر هو بالدال والحاء المهملتين من الدحور، وهو الإبعاد والطرد مع الإهانة. وقوله: يزع الملائكة، أي يكفهم ويحبسهم لئلا يتقدم بعضهم على بعض. والوازع: هو الذي يتقدم ويتأخر في الصف ليصلحه. فإن قلت: كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطانا؟

[سورة الأنفال (8): الآيات 49 إلى 50]

قلت: إن الله عز وجل أعطاه قوة وأقدره على ذلك كما أعطى الملائكة قوة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنة لم تتغير فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة. [سورة الأنفال (8): الآيات 49 الى 50] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) قوله عز وجل: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني من أهل المدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وارتياب وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقو الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن فلما خرج كفار قريش إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم إلى بدر فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعني أن هؤلاء نفر قليلون يقاتلون أضعافهم فقد غرهم دينهم الإسلام على ذلك وحملهم على قتل أنفسهم رجاء الثواب في الآخرة فقتلوا جميعا يوم بدر. وقال مجاهد: إن فئة من قريش وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: غر هؤلاء دينهم ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يعني ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسانه فَإِنَّ اللَّهَ حافظه وناصره لأنه عَزِيزٌ لا يغلبه شيء حَكِيمٌ فيما قضى وحكم فيوصل الثواب إلى أوليائه والعقاب إلى أعدائه. قوله عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يعني: ولو عاينت يا محمد وشهدت إذ تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا عند الموت لرأيت أمرا عظيما ومنظرا فظيعا وعذابا شديدا ينالهم في ذلك الوقت يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ اختلفوا في وقت هذا الضرب، فقيل: هو عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار. وقيل: إن الذين قتلوا يوم بدر من المشركين كانت الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم. وقال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدبارهم ضربت الملائكة أدبارهم. وقال ابن جريج: يريد، ما أقبل من أجسادهم وأدبر يعني يضربون جميع أجسادهم وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ يعني وتقول لهم الملائكة عند القتل: ذوقوا عذاب الحريق. قيل: كان مع الملائكة مقامع من حديد محمية بالنار يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم. وقال ابن عباس: تقول لهم الملائكة ذلك بعد الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة تقول لهم الزبانية ذوقوا عذاب الحريق. [سورة الأنفال (8): الآيات 51 الى 54] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) ذلِكَ يعني الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يعني إنما حصل لكم ذلك بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي.

فإن قلت: اليد ليست محلا للكفر وإنما محله القلب لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد محله القلب وظاهر الآية يقتضي أن فاعل هذا الكفر هي اليد وذلك ممتنع. قلت: اليد هنا عبارة عن القدرة لأن اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل فاليد كناية عن القدرة. قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يعذر أحدا من خلقه إلا بجرم اجترمه لأنه لا يظلم أحدا من خلقه وإنما نفى الظلم عن نفسه مع أنه يعذب الكافر على كفره والعاصي على عصيانه لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ومن كان كذلك استحال نسبة الظلم إليه فلا يتوهم متوهم أنه سبحانه وتعالى مع خلقه كفر الكافر وتعذيبه عليه ظالم فلهذا قال الله سبحانه وتعالى وأن الله ليس بظلام للعبيد لأنهم في ملكه وتحت قدرته فهو يتصرف فيهم كيف يشاء. قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني أن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا وكذا يداوم عليه ويتعب نفسه فيه ثم سميت العادة دأبا لأن الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها. قال ابن عباس: معناه أن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبي من الله تعالى فكذبوه فكذلك هؤلاء لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق كذبوه فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل آل فرعون كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني أن عادة الأمم السالفة هو كفرهم بآيات الله فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ يعني بسبب كفرهم وذنوبهم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ يعني في أخذه وانتقامه ممن كفر به وكذب رسله شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن كفر به وكذب رسله ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ يعني: أن الله سبحانه وتعالى أنعم على أهل مكة بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فقابلوا هذه النعمة بأن تركوا شكرها وكذبوا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وغيّروا ما بأنفسهم فسلبهم الله سبحانه وتعالى النعمة وأخذهم بالعقاب قال السدي: نعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أنعم به على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله الله تعالى إلى الأنصار وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني لأقوال خلقه لا يخفى عليه شيء من كلامهم عَلِيمٌ يعني بما في صدورهم من خير وشر، فيجازي كل واحد على عمله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني أن هؤلاء الكفار الذين قتلوا يوم بدر غيروا نعمة الله عليهم كصنيع آل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني: أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ فكذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ يعني الأولين والآخرين، فإن قلت ما الفائدة في تكرير هذه الآية مرة ثانية؟. قلت: فيها فوائد منها الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم، وفي الآية الثانية ذكر إغراقهم، فهذه تفسير للأولى. الفائدة الثانية: أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الأولى إشارة إلى أنهم أنكروا آيات الله وجحدوها، وفي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها. الفائدة الثالثة: أن تكرير هذه القصة للتأكيد وفي قوله كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب.

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 إلى 58]

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 58] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ يعني في علمه وحكمه الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والمعنى أن شر الدواب من الإنس الكفار المصرون على الكفر نزلت في يهود بني قريظة رهط كعب بن الأشرف الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ قيل: من صلة يعني الذين عاهدتهم وقيل: هي للتبعيض لأن المعاهدة مع بعض القوم وهم الرؤساء والأشراف ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قال المفسرون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضا ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ لا يَتَّقُونَ يعني أنهم لا يخافون الله في نقض العهد لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقون بكلامه فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد فهو من شر الدواب فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ يعني فأما تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وتظفرن بهم في الحرب فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال ابن عباس: معناه فنكل بهم من ورائهم. وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم وأصل التشريد في اللغة التفريق مع اضطراب ومعنى الآية إنك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل تفرق به جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعل ذلك النكال يمنعهم من نقض العهد وَإِمَّا تَخافَنَّ يعني وإما تعلمن يا محمد مِنْ قَوْمٍ يعني معاهدين خِيانَةً يعني نقضا للعهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر كما ظهر من بني قريظة والنضير فَانْبِذْ أي فاطرح إِلَيْهِمْ يعني عهدهم وارم به إليهم عَلى سَواءٍ يعني على طريق ظاهر مستو يعني أعلمهم قبل حربك إياهم إنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم ينقض العهد سواء فلا يتوهمون أنك نقضت العهد أولا بنصب الحرب معهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يعني في نقض العهد عن سليم بن عمر عن رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية» أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عن سليم بن عامر نفسه بلا زيادة رجل من حمير وعنده الله أكبر مرة واحدة وفيه جاء على دابة أو فرس وأما حكم الآية فقال أهل العلم إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى الإمام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب وإن ظهرت الخيانة بأمارات تلوح وتتضح له من غير أمر مستفيض فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم بالحرب وذلك لأن قريظة كانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فهاهنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويعلمهم بالحرب وأما إذا ظهر نقض العهد ظهروا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة.

[سورة الأنفال (8): الآيات 59 إلى 60]

[سورة الأنفال (8): الآيات 59 الى 60] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ قرئ بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى ولا تحسبن يا محمد الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يعني فاتوا وانهزموا يوم بدر وقرئ بالياء على الغيبة ومعناه ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا يعني خلصوا من القتل والأسر يوم بدر إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ يعني أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منهم فأعلمهم الله أنهم لا يعجزونه. قوله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه وفي المراد بالقوة أقوال أحدها: أنها جميع أنواع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوة في الحرب على قتال عدوكم، الثاني: أنها الحصون والمعاقل الثالث: الرمي وقد جاءت مفسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ثلاثا» أخرجه مسلم (خ) عن أبي أسيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوم بدر حين صففنا لقريش إذا أكثبوكم» يعني غشوكم وفي رواية أكثروكم فارموهم واستبقوا نبلكم وفي رواية «إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل» (م) عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو باسمه» (م) عن فقيم اللخمي قال قلت لعقبة بن عامر تختلف بين هذين الغرضين وأنت شيخ كبير يشق عليك فقال عقبة لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أغانه قال قلت وما ذاك؟ قال سمعته يقول: «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى» عن أبي نجيح السلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة» فبلغت يومئذ عشرة أسهم قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر» أخرجه النسائي والترمذي بمعناه وعنده قال عدل رقبة محررة وأخرجه أبو داود أيضا عن عقبة بن عامر بمعناه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله عز وجل ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في عمله الخير والرامي به والممد به» وفي رواية «ومنبله فارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه أي نبله إنهن من الحق ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها» أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي مختصر إلى نبله (خ) عن سلمة بن الأكوع قال «مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم. القول الرابع: أن المراد بالقوة جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو فكل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور باستعدادها وقوله صلى الله عليه وسلم «ألا أن القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي من القوة فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» وقوله: «الندم توبة» فهذا لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور من أفضل المقصود وأجله فكذا هاهنا يحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الحرب وجهاد العدو بجميع ما يمكن من الآلات كالرمي بالنبل والنشاب والسيف والدرع وتعليم الفروسية كل ذلك مأمور به إلا أنه من فروض الكفايات وقوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يعني اقتناءها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ وسمي المكان الذي يخص بإقامة

حفظة فيه رباطا والمرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها وربط الخيل الجهاد من أعظم ما يستعان به. روي أن رجلا قال لابن سيرين: إن فلانا أوصى بثلث ماله للحصون فقال ابن سيرين: يشتري به الخيل ويربطها في سبيل الله. وقال عكرمة: القوة الحصون ومن رباط الخيل يعني الإناث ووجه هذا أن العرب تربط الإناث من الخيل بالأفنية للنسل. وروي أن خالد بن الوليد كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها. وعن ابن محيريز قال: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات. وقيل: ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو فكانت المحاربة عليها أولى من الإناث وقيل إن لفظ الخيل عام فيتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله (ق) عن عروة بن الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة» (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله زاد في رواية لأهل الإسلام فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان لها حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره الطيل الحبل الذي يشد به الفرس وقت الرعي واستنان الجري والشرف الشوط الذي تجري فيه الفرس وقوله تغنيا يعني استغناء بها عن الطلب لما في أيدي الناس أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعا إلى أهله وأما حق رقابها فقيل: أراد به الإحسان إليها. وقيل: أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات وقوله: نواء لأهل الإسلام النواء المعاداة يقال ناوأت الرجل مناوأة إذا عاديته. وقوله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ يعني: تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط عدو الله وعدوكم يعني الكفار من أهل مكة وغيره. وقال ابن عباس: تحزنون به عدو الله وعدوكم وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سببا لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين. وقوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعني وترهبون آخرين من دونهم اختلف العلماء فيهم فقال مجاهد: هم بنو قريظة، وقال السدي: هم فارس وقال ابن زيد هم المنافقون لقوله تعالى: لا تَعْلَمُونَهُمُ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ يعني أنهم منافقون وأورد على هذا القول أن المنافقين لا يقاتلون لإظهارهم كلمة الإسلام فكيف يخوفون بإعداد القوة ورباط الخيل. وأجيب عن هذا الإيراد أن المنافقين إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويحزنهم فكان في ذلك إرهابهم وقال الحسن: هم كفار الجن وصحح هذا القول الطبري قال: لأن الله تعالى قال لا تعلمونهم ولا شك بأن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لعلمهم بأنهم مشركون ولأنهم حرب للمؤمنين أما الجن فلا يعلمونهم الله يعلمهم يعني يعلم أحوالهم وأماكنهم دونكم ويعضد هذا القول ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هم الجن وأن الشيطان لا يخيل أحدا في داره فرس عتيق» ذكر هذا الحديث ابن الجوزي وغيره من المفسرين بغير إسناد وقال الحسن:

[سورة الأنفال (8): الآيات 61 إلى 65]

صهيل الخيل يرهب الجن. وقوله سبحانه وتعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل أراد به نفقة الجهاد والغزو وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخير والطاعة فيدخل فيه نفقة الجهاد وغيره يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يعني أجره في الآخرة ويعجل لكم عوضه في الدنيا وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ يعني وأنتم لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا قوله تبارك وتعالى: [سورة الأنفال (8): الآيات 61 الى 65] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بإعداد القوة وما يرهب العدو أمرهم بعد ذلك أن يقبلوا منهم الصلح إن مالوا إليه وسألوه فقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ يعني مالوا إلى السلم يعني المصالحة فاقبلوا منهم الصلح وهو قوله تعالى فاجنح لها أي مل إليها يعني إلى المصالحة. روي عن الحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: إنها غير منسوخة لكنها تتضمن الأمر بالصلح إذا كان فيه مصلحة ظاهرة فإن رأى الإمام أن يصالح أعداءه من الكفار وفيه قوة فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز أن يهادنهم عشر سنين ولا تجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة مدة عشر سنين ثم إنهم نقضوا العهد قبل انقضاء المدة. وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يعني فوض أمرك إلى الله فيما عقدته معهم ليكون عونا لك في جميع أحوالك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لأقوالهم الْعَلِيمُ يعني بأحوالهم: قوله عز وجل: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ يعني يغدروا بك قال مجاهد: يعني بني قريظة والمعنى وإن أرادوا بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ يعني فإن الله كافيك بنصره ومعونته هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ يعني هو الذي قواك وأعانك بنصره يوم بدر وفي سائر أيامك وَبِالْمُؤْمِنِينَ يعني وأيدك بالمؤمنين يعني الأنصار. فإن قلت: إذا كان الله قد أيده بنصره فأي حاجة إلى نصر المؤمنين حتى يقول وبالمؤمنين. قلت: التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة وبأسباب ظاهرة معلومة فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله «هو الذي أيدك بنصره» لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله «وبالمؤمنين» لأن أسبابه ظاهرة بوسائط وهم المؤمنون والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو الذي أقامهم لنصره ثم بيّن كيف أيده بالمؤمنين فقال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وذلك أن العرب كانت فيهم الحمية الشديدة والأنفة العظيمة والأنفس القوية والعصبية والانطواء على الضغينة من أدنى شيء حتى لو أن رجلا من قبيلة لطم لطمة واحدة قاتل عنه أهل قبيلته حتى يدركوا ثأرهم لا يكاد يأتلف منهم قلبان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وآمنوا به واتبعوه انقلبت تلك الحالة فائتلفت قلوبهم واستجمعت كلمتهم وزالت حمية الجاهلية من قلوبهم وأبدلت تلك الضغائن والتحاسد بالمودة والمحبة لله وفي الله واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعوانا يقاتلون عنه ويحمونه وهم الأوس والخزرج وكانت بينهم في الجاهلية حروب عظيمة ومعاداة

[سورة الأنفال (8): الآيات 66 إلى 67]

شديدة ثم زالت تلك الحروب وحصلت المحبة والألفة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وصار ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة دالة على صدقه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وفي الآية دليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء وأرادوا ذلك لأن تلك الألفة والمحبة إنما حصلت بسبب الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه سبحانه وتعالى ختم هذه الآية بقوله إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يعني أنه تعالى قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب فيقلبها من العداوة إلى المحبة ومن النفرة إلى الألفة وكل ذلك على وجه الحكمة والصواب. قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر بن الخطاب قال سعيد بن جبير «أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية» فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال فعلى هذا القول أراد بقوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني إلى غزوة بدر وقيل أراد بقوله ومن اتبعك من المؤمنين الأنصار وتكون الآية نزلت بالمدينة وقيل أراد جميع المهاجرين والأنصار، ومعنى الآية يا أيها النبي حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين وقيل معناه حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ يعني حثهم على قتال عدوهم. والتحريض في اللغة: الحث على الشيء بكثرة التزين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو الهلاك إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ يعني رجلا صابِرُونَ يعني عند اللقاء محتسبين أنفسهم يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ يعني من عدوهم وظاهر لفظ الآية خبر ومعناه الأمر فكأنه تعالى قال إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في قتال عدوهم حتى يغلبوا مائتين ويدل على أن المراد بهذا الخبر الأمر قوله «الآن خفف الله عنكم» لأن النسخ لا يدخل على الإخبار إنما يدخل على الأمر فدل ذلك على أن الله سبحانه وتعالى أجب أولا على المؤمنين هذا الحكم وإنما حسن هذا التكليف لأن الله وعدهم بالنصر ومن تكفل الله له بالنصر سهل عليه الثبات مع الأعداء وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يعني صابرة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فحاصله وجوب ثبات الواحد من المؤمنين في مقابلة العشرة من الكفار، ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يعني: أن المشركين لا يقاتلون لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية فإذا صدقتموهم في القتال فإنهم لا يثبتون معكم. [سورة الأنفال (8): الآيات 66 الى 67] الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ (خ) عن ابن عباس: قال لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مائتين ثم نزلت الآن خفف الله عنكم الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين. وفي رواية أخرى عنه قال: لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين فنزلت الآن خفف الله عنكم الآية فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم عن الصبر بقدر ما خفف عنهم فظاهر هذا أن قوله

سبحانه وتعالى الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم من الآية الأولى وكان هذا الأمر يوم بدر فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقل ذلك على المؤمنين فنزلت الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفا يعني في قتال الواحد للعشرة فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فرد من العشرة إلى الاثنين فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فرّ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني بالنصر والمعونة. قال سفيان: قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك. قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى روي عن عبد الله ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولن في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ومكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، ومكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا فقال له العباس: قطعت رحمك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ثم دخل فقال ناس يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقول ابن رواحة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر مثل نوح قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى قال: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء. قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل عليه: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الآية خرج هذا الحديث الترمذي مختصرا وقال: في الحديث قصة وهي هذه القصة التي ذكرها البغوي. وأخرج مسلم في إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس: لما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب قال قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت

لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً فأحل الله الغنيمة لهم ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب من إفراد مسلم بزيادة فيه. أما تفسير الآية، فقوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى يعني ما كان ينبغي ولا يجب لنبي. وقال أبو عبيدة: معناه لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك يا محمد والمعنى ما كان لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه وصار في يده أسيرا للفداء والمن، والأسرى جمع أسير وأسارى جمع الجمع حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته. يقال: أثخنه المرض إذ اشتدت قوته عليه والمعنى حتى يبالغ في قتال المشركين ويغلبهم ويقهرهم فإذا حصل ذلك فله أن يقدم على الأسر فيأسر الأسارى تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأخذكم الفداء من المشركين وإنما سمى منافع الدنيا عرضا لأنه لا ثبات لها ولا دوام فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة فإنها دائمة الانقطاع لها، وقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني أنه سبحانه وتعالى يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصركم الدين لأنها دائمة بلا زوال ولا انقطاع وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يقهر ولا يغلب حَكِيمٌ يعني في تدبير مصالح عباده. قال ابن عباس: كان ذلك يوم بدر والمؤمنون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى في الأسارى فأما منا بعد وإما فداء فجعل الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم وإن شاؤوا أعتقوهم. قال الإمام فخر الدين: إن هذا الكلام يوهم أن قوله فأما منا بعد وإما فداء يزيل حكم الآية التي نحن في تفسيرها وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان وكلتاهما تدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء. قال العلماء: كان الفداء لكل أسير أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما فيكون مجموع ذلك ألفا وستمائة درهم. وقال قتادة: كان الفداء يومئذ لكل أسير أربعة ألاف درهم. (فصل) قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء. وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى صريح في النهي عن أخذ الأسارى وقد وجد ذلك يوم بدر. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقومه بقتل المشركين يوم بدر فلما لم يقتلوهم بل أسروهم دل ذلك على صدور الذنب منهم. الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء وهو محرم وذلك ذنب. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء وخوف العذاب وقرب نزوله. والجواب عن الوجه الأول: أن قوله سبحانه وتعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض يدل على أنه كان الأسر مشروعا ولكن بشرط الإثخان في الأرض وقد حصل لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلا من عظماء المشركين وصناديدهم وأسروا سبعين وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس فدلت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان وقد حصل. والجواب عن الوجه الثاني: أن الأمر بالقتل إنما كان مختصا بالصحابة لإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بمباشرة قتال الكفار بنفسه وإذا ثبت أن الأمر بالقتل كان مختصا بالصحابة كان الذنب صادرا منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 68 إلى 69]

والجواب عن الوجه الثالث: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء وهو محرم فنقول لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرما وأما قوله سبحانه وتعالى تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ففيه عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه ولا يدل على تحريم الفداء إذ لو كان حراما في علم الله لمنعهم من أخذه مطلقا. والجواب عن الوجه الرابع: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قعدا يبكيان يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف الأمر بالقتل واشتغل بالأسر استوجب بذلك الفعل العذاب فبكى النبي صلى الله عليه وسلم خوفا وإشفاقا من نزول العذاب عليهم بسبب ذلك الفعل وهو الأسر وأخذ الفداء والله أعلم. [سورة الأنفال (8): الآيات 68 الى 69] لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) قوله عز وجل: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قال ابن عباس: كانت الغنائم محرمة على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان فكانت النار تنزل من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في أخذ الغنائم والفداء فأنزل الله عز وجل: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم. ثم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يأخذ قوما فعلوا بجهالة لمسكم يعني لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب عظيم قال محمد بن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرا إلا وأحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ. وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً يعني قد أحلت لكم الغنائم وأخذ الفداء فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وكانت قبل ذلك حراما على جميع الأمم الماضية صح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم وذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا. وقوله سبحانه وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني وخافوا الله أن تعودوا وإن لم تفعلوا شيئا من قبل أنفسكم قبل أن تؤمروا به واعلموا أن الله قد غفر لكم ما أقدمتم عليه من هذا الذنب ورحمكم وقيل في قوله واتقوا الله إشارة إلى المستقبل وقوله إن الله غفور رحيم إشارة إلى الحالة الماضية. [سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ نزلن في العباس بن عبد المطلب عم رسول الله

[سورة الأنفال (8): الآيات 72 إلى 74]

صلى الله عليه وسلم وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة إلى بدر وكان قد خرج ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم بها إذ جاءت نوبته فكانت نوبته يوم الوقعة ببدر فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا فلم يطعم شيئا وبقيت العشرون أوقية معه فلما أسر أخذت منه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أما شيء خرجت به لتستعين به علينا فلا أتركه لك. وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس: يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم يعني بنيه. فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي قال: أخبرني به ربي قال العباس: أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله لم يطلع عليه أحد إلا الله وأمر ابني أخيه عقيل ونوفل بن الحارث فأسلما فذلك قوله سبحانه وتعالى: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم مِنَ الْأَسْرى يعني الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يعني إيمانا وتصديقا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ يعني من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ يعني ما سلف منكم قبل الإيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه رَحِيمٌ يعني بأهل طاعته قال العباس: فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل. وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا يعني الأسارى خِيانَتَكَ يعني أن يكفروا بك فَقَدْ خانُوا اللَّهَ يعني فقد كفروا بالله مِنْ قَبْلُ وقيل معناه وإن نقضوا العهد ورجعوا إلى الكفر فقد خانوا الله بذلك فَأَمْكَنَ يعني فأمكن الله المؤمنين مِنْهُمْ ببدر حتى قتلوا منهم وأسروا منهم وهذا نهاية الإمكان وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتمكن من كل أحد يخونه أو ينقض عهده وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق أو خيانة ونقض عهد حَكِيمٌ يعني حكم بأنه يجازي كلا بعمله الخير بالثواب والشر بالعقاب. [سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 74] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني إن الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بما جاءهم به وهاجروا يعني وهجروا ديارهم وقومهم في ذات الله عز وجل وابتغاء رضوان الله وهم المهاجرون الأولون وجاهدوا يعني وبذلوا أنفسهم في سبيل الله يعني في طاعة الله وابتغاء رضوانه وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يعني آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأنصار أُولئِكَ يعني المهاجرين والأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في العون والنصر دون أقربائهم من الكفار وقال ابن عباس: في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون أقربائهم وذوي أرحامهم وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيثما كانوا فصار ذلك منسوخا بقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.

[سورة الأنفال (8): آية 75]

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا يعني آمنوا وأقاموا بمكة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني من الميراث حَتَّى يُهاجِرُوا يعني إلى المدينة وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ يعني استنصركم الذين آمنوا ولم يهاجروا فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ يعني فعليكم نصرهم وإعانتهم إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد فلا تنصروهم عليهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في النصر والمعونة وذلك أن كفار قريش كانوا معادين لليهود فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاونوا عليه جميعا قال ابن عباس: يعني في الميراث وهو أن يرث الكفار بعضهم من بعض إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به، وقال ابن جريج إلا تتعاونوا وتتناصروا وقال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ثم قال سبحانه وتعالى إلا تفعلوه وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير فالفتنة في الأرض هي قوة الكفار والفساد الكبير هو ضعف المسلمين وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يعني لا شك في إيمانهم ولا ريب لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل النفس والمال في نصر الدين لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يعني لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني في الجنة. فإن قلت ما معنى هذا التكرار؟ قلت ليس فيه تكرار لأنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا ثم ذكر في هذه الآية ما منّ به عليهم من المغفرة والرزق الكريم وقيل إن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به فلما ذكرهم أولا ثم أعاد ذكرهم ثانيا دل ذلك على تعظيم شأنهم وعلو درجاتهم وهذا هو الشرف العظيم لأنه تعالى ذكر في هذه الآية من وجوه المدح ثلاث أنواع: أحدها: قوله أولئك هم المؤمنون حقا وهذا يفيد الحصر وقوله سبحانه وتعالى حقا يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين في طريق الدين وتحقيق هذا القول أن من فارق أهله وداره التي نشأ فيها وبذل النفس والمال كان مؤمنا حقا. النوع الثاني: قوله سبحانه وتعالى لهم مغفرة وتنكير لفظ المغفرة يدل على أن لهم مغفرة وأي مغفرة لا ينالها غيرهم والمعنى لهم مغفرة تامة كاملة ساترة لجميع ذنوبهم. النوع الثالث: قوله سبحانه وتعالى ورزق كريم فكل شيء شرف وعظم في بابه قيل له كريم والمعنى أن لهم في الجنة رزقا لا تلحقهم فيه غضاضة ولا تعب. وقيل: إن المهاجرين كانوا على طبقات فمنهم من هاجر أولا إلى المدينة وهم المهاجرون الأولون ومنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ثم هاجر إلى المدينة فهم أصحاب الهجرتين ومنهم من هاجر بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة فذكر الله في الآية الأولى أصحاب الهجرة الأولى وذكر في الثانية أصحاب الهجرة الثانية، والله أعلم بمراده. [سورة الأنفال (8): آية 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) وقوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ اختلفوا في قوله من بعد فقيل من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية وقيل من نزول هذه الآية وقيل من بعد غزوة بدر والأصح أن المراد به أهل الهجرة الثانية لأنها بعد الهجرة الأولى لأن الهجرة انقطعت بعد فتح مكة لأنها صارت دار إسلام بعد الفتح ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» أخرجاه في الصحيحين وقال الحسن الهجرة غير منقطعة.

ويجاب عن هذا بأن المراد منه الهجرة المخصوصة من مكة إلى المدنية فأما من كان من المؤمنين في بلد يخاف على إظهار دينه في كثرة الكفار وجب عليه أن يهاجر إلى بلد لا يخاف على إظهار دينه وقوله تعالى: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يعني أنهم منكم وأنتم منهم لكن فيه دليل على أن مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة لأن الله سبحانه وتعالى ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين وجعلهم منهم وذلك معرض المدح والشرف ولولا أن المهاجرين الأولين أفضل وأشرف لما صح هذا الإلحاق. وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض أي في الميراث أي فبين بهذه الآية أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بهذه الآية ذلك التوارث وقوله في كتاب الله يعني في حكم الله وقيل أراد به في اللوح المحفوظ وقيل أراد به القرآن وهي أن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن وتمسك أصحاب الإمام أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام. وأجاب عنه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء فصارت هذه الآية مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء من قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات. وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة التوبة

سورة التوبة وهي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي: سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية وقيل مائة وثلاثون آية وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمة وعشرة آلاف وأربعة وثمانون حرفا ولهذه السورة أسماء عشرة التوبة وسورة براءة وهذان الاسمان مشهوران وهي المقشقشة قاله ابن عمر سميت بذلك لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وهي المبعثرة لأنها تبعثر عن أخبار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها والفاضحة قاله ابن عباس لأنها فضحت المنافقين وسورة العذاب قاله حذيفة وهي المخزية لأن فيها خزي المنافقين وهي المدمدمة سميت بذلك لأن فيها هلاك المنافقين وهي المشردة سميت بذلك لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم وهي المثيرة سميت بذلك لأنها أثارت مخازي المنافقين وكشفت عن أحوالهم وهتكت أستارهم. عن سعيد بن جبير: قال قلت لابن عباس سورة التوبة فقال بل هي الفاضحة ما زالت تقول ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال نزلت في بدر قال قلت سورة الحشر قال بل سورة بني النضير أخرجاه في الصحيحين. ((فصل في بيان سبب ترك كتابة التسمية في أول هذه السورة)) عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا نزلت عليه الآية يقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نقضها وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة وقال محمد بن الحنفية: قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب لم لم تكتبوا في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال يا بني إن براءة نزلت بالسيف وأن بسم الله الرحمن أمان وسئل سفيان بن عيينة عن هذا فقال لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وقال المبرد لم تفتتح هذه السورة الشريفة ببسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية افتتاح للخير وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود فلذلك لم تفتتح بالتسمية وسئل أبي بن كعب عن هذا فقال إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر في براءة بذلك فضمت إلى الأنفال لشبهها بها وقيل إن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة هل هما سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم سورة واحدة لأنهما نزلتا

[سورة التوبة (9): الآيات 1 إلى 2]

في القتال ومجموعها معا مائتان وخمس آيات فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال وقال بعضهم هما سورتان فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة أما التفسير فقوله تعالى. [سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني هذه براءة من الله ورسوله وأصل البراءة في اللغة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة وقيل معناها التباعد مما تكره مجاورته قال المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم وذلك قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً الآية ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونبذ إليهم عهودهم قال الزجاج: أي قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم إلا أنه هو الذي عاقدهم وأصحابه بذلك راضون فكأنهم هم عقدوا وعاهدوا. قوله سبحانه وتعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي فسيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المشركين وأصل السياحة الضرب من الأرض والاتساع فيها والبعد عن مواضع العمارة قال ابن الأنباري: قوله فسيحوا فيه مضمر أي قل لهم فسيحوا وليس هذا من باب الأمر بل المقصود منه الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وزوال الخوف يعني سيحوا في الأرض وأنتم آمنون من القتل والقتال أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يعني مدة أربعة أشهر واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مجاهد: هذا التأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر حطه إلى أربعة أشهر ومن كان عهده بغير أجل معلوم محدود حده بأربعة أشهر ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله يقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان، وقيل: إن المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل فيصير هذا داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام ولئلا ينسب المسلمون إلى الغدر ونكث العهد وكان ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر. فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما قال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال والقول الأول أصوب وعليه الأكثرون. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة أشهر عهدا لمن كان له عهد دون الأربعة أشهر فأتم له الأربعة أشهر. فأما من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وقيل كان ابتداؤها في العاشر من ذي القعدة وآخرها العاشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسإ ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «إن الزمان قد استدار» الحديث قال الحسن: أمر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين فقال تعالى: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فكان لا يقاتل إلا من قاتله ثم أمره بقتال

المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منهم وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أبا وكنا ولدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... في فليق كالبحر يجري مزبدا أبيض مثل الشمس يسمو صعدا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تنجي أحدا ... وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم. وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقيل له المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال: لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فبعث أبا بكر في تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال: لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله فسار أبو بكر أميرا على الحجاج وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم فأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال يزيد بن تبيع سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن يكون له عهده فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في حج ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع (ق). عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع (ق). عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ويوم الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس للعمرة الحج الأصغر قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية.

[سورة التوبة (9): آية 3]

((فصل)) قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا المتوهم ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميرا على الموسم في تلك السنة أول حديث أبي هريرة المتقدم أن أبا بكر بعثه في رهط يؤذنون في الناس الحديث وفي لفظ أبو داود والنسائي قال بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فقوله بعثني أبو بكر فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ليؤذن في الناس ببراءة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها أو رجل من أقاربه وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف ما نعرفه من عادتنا في عقد العهود ونقضها وقيل لما خص أبا بكر بتوليته على الموسم خص علينا بتبليغ هذه الرسالة تطييبا لقلبه ورعاية لجانبه وقيل إنما بعث عليا في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحجاج وولاه الموسم وبعث عليا خلفه ليقرأ على الناس براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر المتولي أمر الموسم والأمير على الناس ولم يكن ذلك لعلي فدل ذلك على تقديم أبي بكر على علي وفضله عليه والله أعلم. وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لمصلحة ولطف بكم ليتوب تائب وقيل: معناه فسيحوا في الأرض أربعة أشهر عالمين أنكم لا تعجزون الله بل هو يعجزكم ويأخذكم لأنكم في ملكه وقبضته وتحت قهره وسلطانه وقيل معناه إنما أمهلكم هذه المدة لأنه لا يخاف الفوت ولا يعجزه شيء وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ يعني بالقتل والعذاب في الآخرة. [سورة التوبة (9): آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) قوله عز وجل: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الأذان في اللغة الإعلام ومنه الأذان للصلاة لأنه إعلام بدخول وقتها والمعنى وإعلام صادر من الله ورسوله واصل إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ اختلفوا في يوم الحج الأكبر فروى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة ويروى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعن علي بن أبي طالب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر أخرجه الترمذي وقال ويروى موقوفا عليه وهو أصح وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال: أي يوم هذا، فقالوا يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الأكبر أخرجه أبو داود ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي. وروى ابن جريج عن مجاهد أن يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول الحج الأكبر أيام منى كلها لأن اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقولك يوم صفين ويوم الجمل لأن الحروب دامت في تلك الأيام ويطلق عليها يوم واحد وقال عبد الله بن الحرث بن نوفل: يوم الحج الأكبر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن سيرين لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم عند المؤمنين والكافرين. قال مجاهد: الحج الأكبر القرآن لأنه قرن بين الحج والعمرة، وقال الزهري والشعبي وعطاء: الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة وإنما قيل لها الأصغر

[سورة التوبة (9): الآيات 4 إلى 5]

لنقصان أعمالها عن الحج وقيل: سمي الحج الأكبر لموافقة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فودع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم وذكر في خطبته أن الزمان قد استدار وأبطل النسيء وجميع أحكام الجاهلية. وقوله سبحانه وتعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه حذف والتقدير وأذان من الله ورسوله بأن الله بريء من المشركين وإنما حذفت الباء لدلالة الكلام عليها وفي رفع رسوله وجوه الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير أن الله بريء من المشركين ورسوله أيضا بريء الثاني تقديره بريء الله ورسوله من المشركين الثالث إن الله في محل الرفع بالابتداء وبريء خبره ورسوله عطف على المبتدأ. فإن قلت: لا فرق بين قوله براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين وبين قوله إن الله بريء من المشركين ورسوله فما فائدة هذا التكرار قلت المقصود من الآية الأولى البراءة من العهد ومن الآية الثانية البراءة التي هي تفيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذي يدل على صحة هذا الفرق أنه قال في أولها براءة من الله ورسوله إلى يعني بريء إليهم وفي الثانية بريء منهم وقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ يعني فإن رجعتم عن شرككم وكفركم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني من الإقامة على الشرك وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشكر الموجب لدخول النار وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ فيه وعيد عظيم وإعلام لهم بأن الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال العذاب بهم وهو قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني في الآخرة ولفظ البشارة هنا إنما ورد على سبيل الاستهزاء. كما يقال: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 4 الى 5] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يعني إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد وهو قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً يعني من عهودهم التي عاهدتموهم عليها وَلَمْ يُظاهِرُوا يعني ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً يعني من عدوكم وقال صاحب الكشاف: وجهه أن يكون مستثنى قوله فسيحوا في الأرض لأن الكلام خطاب للمسلمين ومعناه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم: سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل لهم بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أن قضية التقوى تقتضي أن لا يسوى بين القبيلتين يعني الوافي بالعهد والناكث له والغادر فيه. قوله سبحانه وتعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ يعني فإذا انقضت الأشهر الحرم ومضت وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق: هي شهور العهد سميت حرما لحرمة نقض

[سورة التوبة (9): الآيات 6 إلى 8]

العهد فيما فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم وذلك خمسون يوما وقيل إنما قال لها حرم لأن الله سبحانه وتعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم. فإن قلت: على هذا القول هذه المدة وهي الخمسون يوما بعض الأشهر الحرم والله سبحانه وتعالى قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم. قلت: لما كان هذا القدر من الأشهر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع والمعنى فإذا مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني في الحل والحرم وهذا أمر إطلاق يعني اقتلوهم في أي وقت وأي مكان وجدتموهم وَخُذُوهُمْ يعني واسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي واحبسوهم. قال ابن عباس: يريد أن تحصنوا فاحصروهم وامنعوهم من الخروج. وقيل: امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ يعني على كل طريق والمرصد الوضع الذي يقعد فيه للعدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته والمعنى كونوا لهم رصدا حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا. وقيل: معناه اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها فَإِنْ تابُوا يعني من الشرك ورجعوا إلى الإيمان وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني وأتموا أركان الصلاة المفروضة وَآتَوُا الزَّكاةَ الواجبة عليهم طيبة بها أنفسهم فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ يعني إلى الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لمن تاب ورجع من الشرك إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة رَحِيمٌ يعني بأوليائه وأهل طاعته، وقال الحسن بن الفضل: نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. [سورة التوبة (9): الآيات 6 الى 8] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ يعني وإن استأمنك يا محمد أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله الذي أنزل عليك وهو القرآن فأجره حتى يسمع كلام الله ويعرف ماله من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه وإن قاتلك بعد ذلك وقدرت عليه فاقتله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم يحتاجون إلى سماع كلام الله عز وجل، قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ هذا على وجه التعجيب ومعناه الجحد أي لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قال ابن عباس: هم قريش. وقال قتادة: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال السدي محمد بن عباد ومحمد بن إسحاق هم بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو الديل قبائل من بني بكر كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، وقال مجاهد: هم أهل العهد من خزاعة فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ يعني على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة التوبة (9): الآيات 9 إلى 11]

بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم إما أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا فأسلموا بعد الأربعة الأشهر والصواب من ذلك قول من قال إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمة وبنو مدلج من ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة وإنما كان الصواب هذا القول لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وذلك قبل فتح مكة لأن بعد الفتح كيف يقول لشيء قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم وإنما هم الذين قال الله عز وجل فيهم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا كما نقصكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى يحب الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا ويتقون نقضه كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قبل هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قال الأخفش معناه، كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظهروا بكم ويغلبوكم ويعلوا عليكم لا يرقبوا أي لا يحفظوا. وقيل: معناه لا ينتظروا. وقيل: معناه لا يراعوا فيكم إلّا. قال ابن عباس: يعني قرابة. وقيل: رحما وهذا معنى قول ابن عباس أيضا. وقال قتادة: الإل الحلف. وقال السدي: هو العهد وكذلك الذمة وإنما كرر للتأكيد أو لاختلاف اللفظين: وقال أبو مجلز ومجاهد: الإل هو الله عز وجل ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة الكذاب إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني من الله وعلى هذا القول يكون معنى الآية لا يرقبون الله فيكم ولا يحفظونه لا يراعونه وَلا ذِمَّةً يعني ولا يحفظون عهدا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ يعني يطيعونكم بألسنتهم بخلاف ما في قلوبهم وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فإن قلت إن الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أخبث وأقبح من الفسق فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم وما الفائدة في قوله وأكثرهم فاسقون مع أن الكفار كلهم فاسقون. قلت: قد يكون الكافر عدلا في دينه وقد يكون فاسقا خبيث الفسق في دينه فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين أنهم نقضوا العهد وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم فيكون أبلغ في الذم وإنما قال أكثرهم ولم يقل كلهم فاسقون لأن منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه وأكثرهم نقضوا العهد فلهذا قال سبحانه وتعالى وأكثرهم فاسقون. [سورة التوبة (9): الآيات 9 الى 11] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وقوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها عرضا قليلا من متاع الدنيا وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أكلة أطعمهم إياها أبو سفيان بن حرب فذمهم الله بذلك. قال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفاءه وترك حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعني منعوا الناس عن الدخول في دين الله قال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الشرك ونقضهم العهد ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإسلام لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يعني أن هؤلاء المشركين لا يراعون في مؤمن عهدا ولا ذمة إذا قدروا عليه قتلوه فلا تبقوا أنتم عليهم كما لم يبقوا عليكم إذا ظهروا عليكم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ يعني في نقض العهد.

[سورة التوبة (9): الآيات 12 إلى 13]

قوله عز وجل: فَإِنْ تابُوا يعني فإن رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني وبذلوا الزكاة المفروضة عليهم طيبة بها أنفسهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ يعني إذا فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم مالكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني ونبين حجج أدلتنا ونوضح بيان آياتنا لمن يعلم ذلك ويفهمه. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له. وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة وهو قوله: والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما يعني الصلاة والزكاة (ق) يعني أبي هريرة قال لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل» فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها. وفي رواية، عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. عن أنس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله. [سورة التوبة (9): الآيات 12 الى 13] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعني وإن نقضوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ يعني من بعد ما عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ يعني وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه وثلبوه. وفي هذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام وعابه ظاهرا لا يبقى له عهد والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد كفار قريش وهو قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ يعني رؤوس المشركين وقادتهم. قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش وهم الذين نقضوا عهدهم وهموا بإخراج الرسول وقيل أراد جميع الكفار وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة ففي قتالهم قتال الأتباع، وقال مجاهد: هم فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان: ما قوتل أهل هذه الآية بعد ولم يأت أهلها ولعل حذيفة أراد بذلك الذين يظهرون مع الدجال من اليهود فإنهم أئمة الكفر في ذلك الزمان والله أعلم بمراده. وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين أي لا عهد لهم وقيل معناه إنهم لا وفاء لهم بالعهود وقرئ لا إيمان لهم بكسر الهمزة ومعناه لا دين لهم ولا تصديق وقيل هو من الأمان أي اقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تؤمنوهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم ويرجعوا عن الكفر إلى الإيمان ثم حض المؤمنين على جهاد الكفار وبين السبب في ذلك فقال تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعني نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ

[سورة التوبة (9): الآيات 14 إلى 17]

يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ يعني بالقتال أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا لا ننصرف حتي نستأصل محمدا وأصحابه وقيل أراد به أنهم بدءوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتَخْشَوْنَهُمْ يعني أتخافوهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ يعني في ترك القتال إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده. [سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 17] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) قوله سبحانه وتعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم الله بأيديكم. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله يعذبهم الله بأيديكم وبين قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم؟ قلت: المراد بقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان الله ليستأصلهم بالعذاب جميعا وأنت فيهم والمراد بقوله: قاتلوهم، يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم. والفرق بين العذابين، أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف وقوله تعالى: وَيُخْزِهِمْ يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ يعني بأن يظفركم بهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة اليقين وثبات العزيمة. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعني ويذهب وجد قلوبهم بما نالوه من بني بكر. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر ذكره البغوي بغير سند. ثم قال تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ هذا كلام مستأنف ليس له تعلق بالأول والمعنى ويهدي الله من يشاء إلى الإسلام فيمن عليه بالتوبة من الشرك والكفر ويهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منّ الله عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة فيتوب عليه ويهديه إلى الإسلام حَكِيمٌ يعني في جميع أفعاله قوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أراد بالعلم: المعلوم، لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده. قاله الإمام فخر الدين الرازي: ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا

[سورة التوبة (9): آية 18]

وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً قال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة: وليجة، يعني خيانة. وقال الضحاك: خديعة. وقال عطاء: أولياء. يعني لا تتخذوا المشركين أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة من الولوج فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس. وقال الراغب: الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم وليس منهم والمقصود من هذا نهي المؤمنين عن موالاة المشركين وإن يفشوا إليهم أسرارهم وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني من موالاة المشركين وإخلاص العمل لله وحده. قوله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ يعني به المسجد الحرام وقرئ مساجد الله على الجمع والمراد به المسجد الحرام أيضا وإنما ذكر بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر ومنهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم. فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم من محاسن؟ قال: نعم. نحن أفضل منكم نحن نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فنزلت هذه الآية: ما كان للمشركين أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله أوجب الله على المسلمين منعهم من ذلك المساجد إنما تعمر لعبادة الله تعالى وحده فمن كان كافرا بالله فليس له أن يعمر مساجد الله واختلفوا في المراد بالعمارة على قولين أحدهم أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من بناء المساجد وتشييدها ومرمتها عند خرابها فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى ببناء مسجد لم تقبل وصيته والقول الثاني إن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه فيمتنع الكافر من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذن لم يعزر ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها. وقوله تعالى: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ يعني: لا يدخلون المساجد في حال كونهم شاهدين. وقيل: تقديره وهم شاهدون فلما حذفت وهم نصب. وقال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش كانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام فلم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدا. وقال الحسن: إنهم لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شهادة عليهم بالكفر. وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي والمشرك يقول مشرك. وقال ابن عباس: في رواية عنه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه من أنفسهم أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني الأعمال التي عملوها في حال الكفر من أعمال البر مثل قرى الضيف وسقي الحاج وفك العاني لأنها لم تكن لله فلم يكن لها تأثير مع الكفر وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ يعني من مات منهم على كفره. [سورة التوبة (9): آية 18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) قوله عز وجل: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لما بين الله عز وجل أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين في هذه الآية من هو المستحق لعمارة المساجد وهو من آمن بالله فإن الإيمان بالله شرط

[سورة التوبة (9): آية 19]

فيمن يعمر المسجد لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فمن لم يكن مؤمنا بالله امتنع أن يعمر موضعا يعبد الله فيه واليوم الآخر يعني وآمن باليوم الآخر وأنه حق كائن لأن عمارة المسجد لأجل عبادة الله وجزاء أجره إنما يكون في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يعبد الله ولم يعمر له مسجدا. فإن قلت لم لم يذكر الإيمان برسول الله مع أن الإيمان به شرط في صحة الإيمان. قلت: إن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الإيمان بالله فإن من آمن بالله واليوم الآخر فقد آمن برسول الله لأن من جهته عرف الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه هو الداعي إلى ذلك وقيل إن المشركين كانوا يقولون أن محمدا إنما ادعى النبوة طلبا للرياسة والملك فأخبر الله عز وجل أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما دعا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر لا لطلب الرياسة والملك فلذلك قال سبحانه وتعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وترك ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه تبارك وتعالى قال بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وكان ذلك مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة فقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أن الاعتبار بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المساجد أن الإنسان إذا عمر المسجد أقام الصلاة وآتى الزكاة لأن عمارة المسجد إنما تلزم لإقامة الصلاة فيه ولا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مؤديا للزكاة لأن الزكاة واجبة وعمارة المسجد نافلة ولا يشتغل الإنسان بالنافلة إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه. وقوله تعالى: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ يعني ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله لخشية الناس فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وعسى من الله واجب يعني وأولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر» الآية أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح النزل ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم (ق) عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتا في الجنة. وفي رواية: بنى الله له في الجنة مثله. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة. أخرجه الترمذي عن عمرو بن عنبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بنى لله مسجدا ليذكر الله فيه بنى الله له بيتا في الجنة، أخرجه النسائي. [سورة التوبة (9): آية 19] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) قوله سبحانه وتعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآية (م) عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. قال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجره عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر إلى آخرها. وقيل: قال العباس حين أسروا يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد

[سورة التوبة (9): الآيات 20 إلى 23]

الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله هذه الآية وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله وإن الإيمان والجهاد مع نية خير مما هم عليه. وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي: نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن أبي شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه. وقال العباس: وأنا صاحب السقاية والقيامة عليها وقال ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله هذه الآية أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ والسقاية مصدر كالرعاية والحماية وهي: سقي الحاج وكان العباس ابن عبد المطلب بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وعمارة المسجد الحرام يعني بناؤه وتشييده ومرمته كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه حذف تقديره كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وكجهاد من جاهد في سبيل الله. وقيل: السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ يعني: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفره لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عملا إلا مع الإيمان به وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (خ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا يعني عاتقه (م) عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل إنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة فقال: أحسنتم أو أجملتم كذا فاصنعوا فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ تمر ينقع في الماء غدوة ويشرب عشاء أو ينقع عشاء ويشرب غدوة وهذا حلال فإن غلى وحمض حرم. قوله عز وجل: [سورة التوبة (9): الآيات 20 الى 23] الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يعني أن من كان موصوفا بهذه الصفات يعني الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس كان أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام وإنما لم يذكر القسم المرجوح لبيان فضل القسم الراجح على الإطلاق على من سواهم والمراد بالدرجة المنزلة والرفعة عند الله في الآخرة وَأُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْفائِزُونَ يعني بسعادة الدنيا والآخرة يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ يعني يخبرهم ربهم والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه عند سماعه ذلك الخبر السار ثم ذكر الخبر الذي يبشرهم به فقال تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وهذا أعظم البشارات لأن الرحمة والرضوان من الله عز وجل على العبد نهاية مقصوده وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ يعني أن نعيم الجنة دائم غير منقطع أبدا خالِدِينَ فِيها يعني في الجنان وفي

[سورة التوبة (9): الآيات 24 إلى 25]

النعيم أَبَداً يعني لا انقطاع له إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لمن عمل بطاعته وجاهد في سبيله. قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال ابن عباس: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك الله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم وأنزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة. قال بعضهم: حمل هذه الآية على ترك الهجرة مشكل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي من آخر القرآن نزولا والأقرب أن يقال إن الله سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالتبري من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فذكر الله أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه وهو قوله تعالى: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ يعني إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه وتركوا الإيمان بالله ورسوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله واختيار الكفار على المؤمنين ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا: لم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا فأنزل الله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 24 الى 25] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها يعني اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها يعني بفراقكم لها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها يعني تستوطنوها راضين بسكناها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فبين الله سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا. قوله عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ النصر المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني أماكن كثيرة والمراد بها غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منهم ويقال إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون وقيل: ثمانون وهو قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ

حُنَيْنٍ يعني: ونصركم الله في يوم حنين أيضا فأعلم الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يتولى نصر المؤمنين في كل موقف وموطن ومن يتولى الله نصره فلا غالب له وحنين اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا. وقال عروة: هو إلى جنب ذي المجاز وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان فخرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وقال عطاء: كانوا ستة عشر ألفا. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان على هوازن مالك بن عوف النصري وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن رقيش لن نغلب اليوم من قلة فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل. وفي رواية: فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم. وذكر ابن الجوزي عن سعيد بن المسيب، أن القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير الطبري: أن القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم كان في جميع أحواله متوكلا على الله عز وجل لا يلتفت إلى كثرة عدد ولا إلى غيره بل نظره إلى ما يأتي من عند الله عز وجل من النصر والمعونة قالوا: فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم تنادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح. فتراجعوا وانكشف المسلمون. وقال قتادة: ذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا (ق) عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من النسا وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برقش من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نصرك. زاد أبو خيثمة ثم وصفهم. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء بن عازب يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤه حسرا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبنى نصر فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل ودعا واستنصر وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء إن هوازن كانوا قوما رماة ولما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر. قوله: ولكنه انطلق إخفاء من الناس. الإخفاء: جمع خفيف وهم المسرعون من الناس الذين ليس لهم ما يعوقهم. والحسر: جمع حاسر وهو الذي لا درع عليه يقال إذا رمى القوم بأسرهم إلى جهة واحدة: رمينا رشقا، والرجل من الجراد القطعة الكبيرة منه. وقوله: كنا إذا احمر البأس يعني إذا اشتد الحرب والبأس بالموحدة من تحت الشدة والخوف. وقال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وقال غيره لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن قتل يوم حنين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أيمن أخو أسامة بن زيد لأمه أمهما بركاة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته (م) عن العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن

الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بلغة له بيضاء أهداها له فروة بن فاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولي المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال العباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال العباس، وكان رجلا صيتا: فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. قال: فو الله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا لبيك لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج. فقالوا: يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قوله حمي الوطيس، أي اشتد الحرب. قال الخطابي: هذه الكلمة لم تسمع قبل أن يقولها النبي صلى الله عليه وسلم من العرب وهي ما اقتضبه وأنشأه. والوطيس في اللغة: التنور. وقوله: حدهم كليلا يعني لا يقطع شيئا (م) عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال: فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بلغته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم. وقال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله بذلك وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين أخرجه مسلم بزيادة فيه قال سعيد بن جبير: أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وروى أن رجلا من بني نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البالق والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة. وروي أن رجلا من المشركين قال يوم حنين لما التقينا وأصحاب محمد لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم فبينا نحن نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. واختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم حنين على قولين والصحيح أنها لم تقاتل إلا يوم بدر وإنما كانت الملائكة يوم حنين مددا وعونا. وذكر البغوي أن الزهري قال: بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائضي فنظرت إليه وهو أحب إليّ من سمعي وبصري فقلت أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعك الله على ما في نفسي فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا إلى أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على الجيش فسار إلى أوطاس فاقتتلوا بها وقتل دريد بن الصمة وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيال المشركين وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أبو عامر أمير المسلمين. قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف صبي ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم وأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناسا منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم (ق). عن أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم

يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله لم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال: فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا سنصبر زاد في رواية قال أنس فلم نصبر (ق) عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال: فما منعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله آمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبوا بالنبي إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار (م) عن رافع بن خديج قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع قال: فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم له مائة (خ) عن المسور ومروان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم. وفي رواية: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل فقال الناس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله. فقال لهم في ذلك: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمتهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا الذي بلغنا من سبي هوازن وأنزل الله عز وجل في قصة حنين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ يعني حين قلتم لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يعني كثرتكم شَيْئاً يعني أن الظفر بالعدو ليس بكثرة العدد ولكن إنما يكون بنصر الله ومعونته وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يعني بسعتها وفضائها ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ يعني منهزمين.

[سورة التوبة (9): الآيات 26 إلى 28]

[سورة التوبة (9): الآيات 26 الى 28] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ يعني بعد الهزيمة والسكينة والطمأنينة والأمنة، وهي فعلية من السكون وذلك أن الإنسان إذا خاف رجف فؤاده فلا يزال متحركا وإذا أمن سكن فؤاده وثبت فلما كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن. وقوله تعالى: عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ إنما كان إنزال السكينة على المؤمنين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساكن القلب ليس عنده اضطراب كما حصل للمؤمنين من الهزيمة واضطراب في هذه الواقعة ثم من الله عليهم بإنزال السكينة عليهم حتى رجعوا إلى قتال عدوهم بعد الهزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت لم يفر وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة تثبيت المؤمنين وتشجيعهم وتخذيل المشركين وتجبينهم لا للقتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بالأسر والقتل وسبي العيال والأموال وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ يعني في الدنيا ثم إذا أفضوا إلى الآخرة كان لهم عذاب أشد من ذلك العذاب وأعظم ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ يعني فيهديه إلى الإسلام كما فعل بمن بقي من هوازن حيث أسلموا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبين فمنّ عليهم وأطلق سبيهم وَاللَّهُ غَفُورٌ إن تاب رَحِيمٌ بعباده. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قيل: أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار. وقيل: بل أراد جميع أصناف الكفار عبدة الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى. والنجس: الشيء القذر من الناس وغيرهم. وقيل: النجس الشيء الخبيث وأراد بهذه النجاسة نجاسة الحكم لا نجاسة العين. سموا نجسا على الذم لأن الفقهاء اتفقوا على طهارة أبدانهم. وقيل: هم أنجاس العين كالكلب والخنزير. حتى قال الحسن بن صالح: من مس مشركا فليتوضأ. ويروى هذا عن الزيدية من الشيعة والقول الأول أصح وقال قتادة سماهم: نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ المراد: منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ويؤكد هذا قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام أراد به الحرم لأنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ. قال العلماء: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام أحدها: الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية وبه قال الشافعي وأحمد ومالك فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهدة حول الحرم القسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي. وقيل: كلها حجازي. وقال ابن الكلبي: حد الحجاز ما بين جبل طيء وطريق العراق سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة، ونجد. وقيل: لأنه حجز بين نجد والسراة. وقيل: لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي: وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام (م) عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما زاد في رواية لغير مسلم وأوصى فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا. عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه مالك في الموطأ مرسلا (م) عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن

[سورة التوبة (9): آية 29]

في التحريش بينهم. قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر وقال غيره حد جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم. وقوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق بالناس وفيه نادى على براءة وأن لا يحج بعد العام مشرك وهو سنة تسع من الهجرة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يعني فقرا وفاقة وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يجلبون إلى مكة الطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خاف أهل مكة من الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل وإن خفتم عيلة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال عكرمة: فأغناهم الله بأن أنزل المطر مدرارا وكثر خيرهم وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة: عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها إِنْ شاءَ قيل: إنما شرط المشيئة في الغنى المطلوب ليكون الإنسان دائم التضرع والابتهال إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات وأن يقطع العبد أمله من كل أحد إلا من الله عز وجل فإنه هو القادر على كل شيء وقيل إن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله تبارك وتعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعني بما يصلحكم حَكِيمٌ يعني أنه تعالى لا يفعل شيئا إلا عن حكمة وصواب فمن حكمة أن منع المشركين من دخول الحرم وأوجب الجزية والذل والصغار على أهل الكتاب فقال تعالى: [سورة التوبة (9): آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قال مجاهد: نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين والمعنى قاتلوا أيها المؤمنون القوم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فإن قلت اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟ قلت: إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله. وقيل: من اعتقد أن عزيزا ابن الله وأن المسيح ابن الله فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك بالله. وقيل: من كذب رسولا من رسل الله فليس بمؤمن بالله واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء فليسوا بمؤمنين بالله. وأما إيمانهم باليوم الآخر، فليس كإيمان المؤمنين، وذلك أنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن. وقوله تعالى: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعني: ولا يحرمون الخمر والخنزير. وقيل: معناه أنهم لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ولا ما حرم رسوله في السنة. وقيل: معناه لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ يعني: ولا يعتقدون صحة الإسلام الذي هو

دين الحق. وقيل: الحق هو الله تعالى ومعناه: ولا يدينون دين الله ودينه الإسلام وهو قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقيل معناه ولا يدينون دين أهل الحق وهم المسلمون ولا يطيعون الله كطاعتهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهي ما يعطى المعاهد من أهل الكتاب على عهده وهي الخراج المضروب على رقابهم سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم عَنْ يَدٍ يعني عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس أعطى عن يد وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وقيل: يعطونها نقدا لا نسيئة. وقيل: يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم وَهُمْ صاغِرُونَ من الصغار وهو الذل والإهانة يعني يعطون الجزية وهم أذلاء مقهورون وقال عكرمة: يعطون الجزية وهم قائمون والقابض جالس. وقال ابن عباس: تؤخذ الجزية من أحدهم وتوطأ عنقه وقال الكلبي: إذا أعطى يصفع قفاه وقال هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه ويقال له أدّ حق الله يا عدو الله وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم. ((فصل في بيان أحكام الآية)) اجتمعت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا واختلفوا في أهل الكتاب العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم، فذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من عبدة الأوثان بحال واحتج بما روي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية أخرجه أبو داود وقال الشافعي: وهو رجل من العرب يقال إنه من غسان وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب وذهب مالك والأوزاعي إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد. وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب على العموم وتؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا وأما المجوس فاتفقت الصحابة على جواز الأخذ منهم ويدل عليه ما روي عن بجالة بن عبيدة ويقال عبدة: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. أخرجه البخاري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أخرجه مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من مجوس فارس وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر أخرجه مالك في الموطأ وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك وإنما تؤخذ من أهل الكتاب واختلفوا في أن المجوس هل هم من أهل الكتاب. فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم بخلاف أهل الكتاب وأما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين فينظر فإن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل فإنهم يقرون بالجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم وإن كانوا دخلوا فيه بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ونسخ شريعتهم بشريعته فإنهم لا يقرون بالجزية ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم ومن شككنا في أمرهم هل دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم تغليبا للتحريم ومنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب أقرهم عمر على الجزية. وقال: لا تحل لنا ذبائحهم وأما الصابئة والسامرة فسبيلهم سبيل أهل الكتاب فهم في أهل الكتاب كأهل البدع في المسلمين وأما قدر الجزية فأقلها دينار ولا يجوز أن ينقص عنه ويقبل

[سورة التوبة (9): آية 30]

الدينار من الغني والفقير والمتوسط ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم أي محتلم دينارا أو عدله من المغافرية ثياب تكون باليمن» أخرجه أبو داود فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ دينارا ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء وإنما تؤخذ من الأحرار البالغين وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير وعى كل متوسط دينارين وعلى كل فقير دينارا وهو قول أصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام أخرجه مالك في الموطأ. قال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي فإذا رضي أهل الذمة بالزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير قال العلماء: إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل بخلاف أهل الشرك حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل وأيضا فإن بأيديهم كتبا قديمة فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته فأمهلوا لهذا المعنى وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارهم على كفرهم بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم رجاء أن يعرفوا الحق فيرجعوا إليه بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه. [سورة التوبة (9): آية 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) قوله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآية لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق بينه في هذه الآية فأخبر عنهم أنهم أثبتوا لله ولدا ومن جوز ذلك على الله فقد أشرك به لأنه لا فرق بين من يعبد صنما وبين من يعبد المسيح فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق وقد تقدم سبب أخذ الجزية منهم وإبقائهم على هذا الشرك وهو حرمة الكتب القديمة التي بأيديهم ولعلهم يتفكرون فيها ويعرفون الحق فيرجعون إليه. روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله فأنزل الله هذه الآية. وقال عبيد بن عمير إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن الله فقير ونحن أغنياء فعلى هذين القولين القائل لهذه المقالة جماعة من اليهود أو واحد وإنما نسب ذلك إلى اليهود في وقالت اليهود جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد تقول العرب فلان يركب الخيل وإنما يركب فرسا واحدا منها. وتقول العرب: فلان مجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا واحدا منهم وروى عطية العوفي عن ابن عباس أنه قال: إنما قالت اليهود ذلك من أجل أن عزير كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوراة فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه فأذن في قومه وقال يا قوم قد أتاني الله التوراة وردها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله. وقال الكلبي: إن بختنصر لما غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغيره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله لهم عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون لهم آية بعد ما أماته الله مائة سنة

قال فأتى ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إن رجلا منهم قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا إن الله لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله فعلى هذين القولين أن هذا القول كان فاشيا في اليهود جميعا ثم إنه انقطع واندرس فأخبر الله تعالى به عنهم وأظهره عليهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن خبر الله عز وجل أصدق وأثبت من إنكارهم وأما قول النصارى المسيح ابن الله فكان السبب فيه أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه ثم أتى إلى النصارى فقالوا له من أنت قال: أنا عدوكم بولص فقد نوديت من السماء أنه ليس لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه السكينة ونصروه وأدخلوه بيتا منها لم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال قد نوديت أن الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال اسم الواحد منهم نسطور والآخر يعقوب والآخر ملكان فعلم نسطور أن عيسى ومريم والإله ثلاثة وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك فيهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي وادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وقال لكل واحد منهم: إني سأذبح نفسي تقربا إلى عيسى ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرقوا واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله . وقال الإمام فخر الدين الرازي، بعد أن حكى هذه الحكاية: والأقرب عندي أن يقال لعله ذكر لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك منهم وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يعني أنهم يقولون ذلك القول بألسنتهم من غير علم يرجعون إليه قال أهل المعاني: لم يذكر الله قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك القول زورا وكذبا لا حقيقة له يُضاهِؤُنَ قال ابن عباس: يشابهون والمضاهاة المشابهة. وقال مجاهد: يواطئون وقال الحسن: يوافقون قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قال قتادة والسدي: معناه ضاهت النصارى قول اليهود من قبلهم فقالوا: المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله. وقال مجاهد: معناه يضاهئون قول المشركين من قبل لأن المشركين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله وقال الحسن: شبه الله كفر اليهود والنصارى بكفر الذين مضوا من الأمم الخالية الكافرة. وقال القتيبي: يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: لعنهم الله وقال ابن جريج: قتلهم الله وقيل ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب أي حق أن يقال لهم هذا القول تعجبا من بشاعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلا يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله أَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني أنى يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل وإقامة الحجة بأن الله واحد أحد فجعلوا له ولدا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله سبحانه وتعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا

[سورة التوبة (9): آية 31]

الخطاب على عادة العرب في مخاطبتهم فالله سبحانه وتعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل. [سورة التوبة (9): آية 31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) قوله سبحانه وتعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني اتخذ اليهود والنصارى علماءهم وقراءهم والأحبار العلماء من اليهود والرهبان أصحاب الصوامع من النصارى أربابا من دون الله يعني أنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وذلك أنهم أحلوا لهم أشياء وحرموا عليهم أشياء من قبل أنفسهم فأطاعوهم فيها فاتخذوهم كالأرباب لأنهم عبدوهم واعتقدوا فيهم الإلهية. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فقال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. قال عبد الله بن المبارك: وهل بدل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ يعني اتخذوه إلها وذلك لما اعتقدوا فيه النبوة والحلول اعتقدوا فيه الإلهية وَما أُمِرُوا يعني وما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة لا غيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال. [سورة التوبة (9): الآيات 32 الى 33] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يُرِيدُونَ يعني يريد رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني يريد هؤلاء إبطال دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بتكذيبهم إياه. وقيل المراد: من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وهي أمور أحدها المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدقه وثانيها القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند الله فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه وثالثها أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه واتباع طاعته والأمر بعبادته والتبرئ من كل معبود سواه فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بمزيد النصر وإعلاء الكلمة وإظهار الدين بقوله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ يعني ويأبى الله إلا أن يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ولو كره ذلك الكافرون. قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني أن الله الذي يأبى إلا أن يتم نوره هو الذي أرسل رسوله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدى يعني بالقرآن الذي أنزله عليه وجعله هاديا إليه وَدِينِ الْحَقِّ يعني دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ يعني ليعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني على سائر الأديان وقال ابن عباس: الهاء في ليظهره عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها وقال غيره من المفسرين الهاء راجعة إلى الدين الحق والمعنى ليظهر دين الإسلام على الأديان كلها وهو ألا يعبد الله إلا به وقال

[سورة التوبة (9): آية 34]

أبو هريرة والضحاك ذلك عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. عن المقداد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل إما أن يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما أن يذلهم فيدينون له» أخرجه البغوي بغير سند (م) عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت يا رسول الله إني كنت أظن حين أنزل الله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله إن ذلك تام قال إنه سيكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث ريحا طيبة تتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» قال الشافعي: وقد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا هو ظهوره على الدين كله وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وفي قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ كَثِيراً دليل على أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في قوله تعالى: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتبا يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند الله ويأخذون بها ثمنا قليلا وهي المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبه لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهبت عنهم تلك المآكل وقيل إن التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلبا للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك قوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الإسلام وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم الله بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب. قال معاوية بن أبي سفيان: لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه. وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين (خ)

عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشأم فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمر على عبد حبشي لسمعت وأطعت واختلف العلماء في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته وروي عن ابن عمر: أنه قال له أعرابي أخبرني عن قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها ويل له هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال. أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة ورواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال: كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونا. وروي عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما فوقها كنز وما دونها نفقة. وقيل: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. وروى الطبري بسنده عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان كان هذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الزكاة فكان يجب على كل من فضل معه شيء من المال إخراجه لاحتياج غيره إليه فلما فرضت الزكاة نسخ ذلك الحكم. عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، كبر على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم. فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم. قال: فكبر عمر ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» أخرجه أبو داود عن ثوبان قال «لما نزلت والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة فلو علمنا أي المال خيرا اتخذناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن والصحيح من هذه الأقوال القول الأول وهو ما ذكرنا عن ابن عمر أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر وإن كان كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب عليه وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة ويستحق على منع الزكاة الوعيد من الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بعفوه وغفرانه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقتضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالإبل قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة

[سورة التوبة (9): الآيات 35 إلى 36]

وإما إلى النار» أخرجه مسلم بزيادة فيه قوله كلما ردت أعيدت له هكذا هو في بعض نسخ صحيح مسلم ردت بضم الراء وفي بعضها بردت بالباء وهذا هو الصواب والرواية الأولى هي رواية الجمهور قوله حلبها هو بفتح اللام على المشهور وحكى إسكانها وهو ضعيف قوله بقاع قرقر هو المستوي من الأرض الواسع الأملس والعقصاء هي الشابة الملتوية القرنين وإنما استثناها لأنها لا تؤلم بنطحها وكذا الجلحاء وهي الشاة التي لا قن لها وكذا العضباء وهي الشاة المكسورة القرن (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله سبحانه وتعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الآية الشجاع الحية والأقرع صفة له بطول العمر لأن من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات والزبيبتان هما الزبدتان في الشدقين واللهزمتان عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين. وقوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني ولا يؤدون زكاتها وإنما قال ولا ينفقونها ولم يقل ينفقونهما لأنه رد الكناية إلى المال المكنوز وهي أعيان الذهب والفضة وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب أموال الناس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني الكافرين الذين لا يؤدون زكاة أموالهم (ق) عن أبي ذر قال: «انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس» هذا لفظ مسلم وفرقه البخاري في موضعين. [سورة التوبة (9): الآيات 35 الى 36] يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) وقوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها يعني الكنوز فتدخل النار فيوقد عليها حتى تبيض من شدة الحرارة فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ يعني الكنوز جباه كانزيها وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ قال ابن عباس: لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته. قال بعض العلماء: إنما خص هذه الأعضاء، بالكي من بين سائر الأعضاء لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئا تبدو منه آثار الكراهة والمنع فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه ثم إن كرر السائل الطلب نأى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانبا ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال ولاه ظهره وأعرض عنه واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل وهذا دأب ما نعى البر والإحسان. وعادة البخلاء فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة. وقوله سبحانه وتعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي يقال لهم ذلك يوم القيامة فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي فذوقوا عذاب ما كنزتم في الدنيا من الأموال ومنعتم حق الله منها (ق) عن الأحنف بن قيس قال: قدمت

المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا هذا لفظ مسلم وفيه زيادة لم أذكرها. وزاد البخاري قلت: «1» من هذا؟ قالوا: أبا ذر. قال: فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل فقال ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وهذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف. قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان يقع حجهم تارة في وقته وتارة في المحرم وتارة في صفر وتارة في غيره من الشهور فأعلم الله عز وجل أن عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهرا على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تبارك وتعالى إن عدة الشهور عند الله يعني في علمه وحكمه اثنا عشر شهرا فِي كِتابِ اللَّهِ يعني في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلق وما يأتون وما يذرون. وقيل: أراد بكتاب الله القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وقيل أراد بكتاب الله الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني أن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض أن السنة اثنا عشر شهرا مِنْها يعني من الشهور أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وهي رجب فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وإنما سميت حرما لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه وابنه وأخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يهجه ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيما ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف وكذلك السيئات أيضا أشد من غيرها فلا يجوز انتهاك حرمة الأشهر الحرم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي فالدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه. يعني: حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت. وقيل: أراد بالدين القيم الحكم الذي لا يغير ولا يبدل. والقيم هنا: بمعنى الدائم الذي لا يزول. فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبياعاتهم وأجل ديونهم وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور (ق) عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر. قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم

_ (1) قوله وزاد البخاري إلخ، هذه الزيادة لمسلم لا للبخاري اهـ من هامش.

[سورة التوبة (9): آية 37]

فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال: ألا هل بلغت ألا هل بلغت قلنا نعم قال: اللهم اشهد. وقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ قيل: الكناية في فيهن ترجع إلى جميع الأشهر أي لا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقا في جميع الأوقات إلى الممات. وقيل: إن الكناية ترجع إلى الأشهر الحرم وهو قول أكثر المفسرين. وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل حال عظيما. وقال ابن عباس: لا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك وهو النسيء. وقيل: إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس لا جرم أن الله خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات فربما تركها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة سببا لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم وكذلك الأمكنة أيضا. وقوله سبحانه وتعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يعني قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة والمعنى تعاونوا وتناصروا على قتالهم ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيرا حراما ثم نسخ بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني في الأشهر الحرم وفي غيرهن وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: إنه غير منسوخ. قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يعني بالنصر والمعونة على أعدائه قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): آية 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ النسيء: في اللغة، عبارة عن التأخير في الوقت ومنه النسيئة في البيع ومعنى النسيء المذكور في الآية هو تأخير شهر حرام إلى شهر آخر وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم إلى الأشهر الحلال فنسؤوا يعني أخروا تحريم شهر إلى شهر آخر فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيستحلون المحرم ويحرمون صفر فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع الأول فكانوا يصنعون هكذا يؤخرون شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجة شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع

وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض الحديث المتقدم. وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من نسأ النسيء. فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد: أول من نسأ النسيء، بنو مالك بن كنانة وكان يليه جنادة بن عوف بن أمية الكناني وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان يقوم على الناس في الموسم فإذا همّ الناس بالصدر قام فخطف الناس فيقول لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول: إن صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك، حلّوا الأوتار، ونزعوا الأسنة، والأزجة من الرماح، وإن قال: حلال، عقدوا أوتار القسي، وركبوا الأسنة في الرماح، وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف: وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من بني كنانة يقال له القلمس قال شاعرهم: وفينا ناسئ الشهر القلمس وكانوا يفعلون ذلك إذا اجتمعت العرب في الموسم وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار فهذا ما ورد في تفسير النسيء الذي ذكره الله في قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر يعني زيادة كفر على كفرهم وسبب هذه الزيادة أنهم أمروا بإيقاع كل فعل في وقته من الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب أغراضهم الفاسدة أخروه إلى وقت آخر بسبب ذلك النسيء فأوقعوه في غير وقته من الأشهر الحرم فكان ذلك الفعل زيادة في كفرهم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرئ: يضل بفتح الياء وكسر الضاد ومعناه يضل الله به الطين كفروا أو يضل به الشيطان الذين كفروا بتزيين ذلك لهم وقيل يضل بالنسيء الذين كفروا وقرئ يضل بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبارهم أضلوهم وحملوهم عليه وقرئ يضل به الذين كفروا بضم الياء وكسر الضاد ومعناه يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأفعالهم وهذا الوجه أقوى الوجهين في تفسير قراءة من قرأ يضل بضم الياء وكسر الضاد يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً يعني يحلون ذلك الإنساء عاما ويحرمونه عاما والمعنى يحلون الشهر المحرم عاما فيجعلونه حلالا ليغيروا فيه ويحرمونه عاما فيجعلونه محرما فلا يغيرون فيه لِيُواطِؤُا يعني ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ يعني أنهم ما أحلوا شهرا من المحرم إلا حرموا شهرا مكانه من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة كما حرم الله فيكون ذلك موافقة في العدد لا في الحكم فذلك قوله سبحانه وتعالى: فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ قال ابن عباس: زين لهم الشيطان هذا العمل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يرشد من هو كافر أثيم لما سبق له في الأزل أنه من أهل النار.

[سورة التوبة (9): الآيات 38 إلى 40]

[سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 40] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ نزلت هذه الآية في الحث على غزوة تبوك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر حين طابت الظلال ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز وعددا كثيرا وجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم يعني قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: انفروا في سبيل الله، أي اخرجوا إلى الجهاد. يقال: استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا». والإثم النفير اثاقلتم أي تثاقلتم وتباطأتم عن الخروج إلى الغزو إلى الأرض يعني لزمتم أرضكم ومساكنكم وإنما استثقل ذلك الغزو لشدة الزمان وضيق الوقت وشدة الحر وبعد المسافة والحاجة إلى كثرة الاستعداد من العدد والزاد وكان ذلك الوقت وقت إدراك ثمار المدينة وطيب ظلالها وكان العدو كثيرا فاستثقل الناس تلك الغزوة فعاتبهم الله تعالى بقوله: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ يعني أرضيتم بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ يعني أن لذات الدنيا ونعيمها فان زائل ينفد عن قليل ونعيم الآخرة باق على الأبد فلهذا السبب كان متاع الدنيا قليلا بالنسبة إلى نعيم الآخرة وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن الله سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجبا لما عاتبهم على ذلك التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور الآية الآتية وهي قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يعني إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى ما استنفركم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني في الآخرة لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة. وقيل: إن المراد به احتباس المطر في الدنيا. قال نجدة بن نفيع: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله تعالى عنهم المطر فكان ذلك عذابهم وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني خيرا منكم وأطوع. قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. وقيل: هم أهل اليمن نبه سبحانه وتعالى على أنه قد تكفل بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه فإن سارعوا معه إلى الخروج إلى حيث استنفروا حصلت النصرة بهم ووقع أجرهم على الله عز وجل وإن تثاقلوا وتخلفوا عنه حصلت النصرة بغيرهم وحصلت العتبى لهم لئلا يتوهموا أن إعزاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته لا تحصل إلا بهم وهو قوله تعالى: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قيل: الضمير راجع إلى الله تعالى يعني ولا تضروا الله شيئا لأنه غني عن العالمين وإنما تضرون أنفسكم بترككم الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الضمير راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: ولا تضروا محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا فإن الله ناصره على أعدائه ولا يخذله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء فهو ينصر نبيه ويعز دينه قال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال الجمهور هذه الآية محكمة لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا كما نقل عن ابن عباس وعلى هذا التقدير فلا نسخ. قوله عز وجل: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ يعني إلا تنصروا محمدا صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون هذا خطاب لمن تثاقل عن الخروج معه إلى تبوك فأعلم الله عز وجل أنه هو المتكفل بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه وإعلاء كلمته أعانوه أو لم يعينوه وإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد

إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنه تعالى نصره في الوقت الذي أخرجه فيه كفار مكة من مكة حين مكروا به وأرادوا قتله ثانِيَ اثْنَيْنِ يعني هو واحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِذْ هُما فِي الْغارِ يعني إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار والغار نقب عظيم يكون في الجبل وهذا الغار في جبل ثور وهو قريب من مكة إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ يعني يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق لا تحزن وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهم فجزع من ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يعني بالنصر والمعونة قال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر وقال الحسن بن الفضل: من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ولا يكون كافرا. عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار. أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب (ق) عن أبي بكر الصديق قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. قال الشيخ محيي الدين النووي معناه: ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد وهو داخل في قوله سبحانه وتعالى أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وفيه بيان عظيم على توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها اللفظ الدال على أن الله ثالثهما ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورئاسته في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيها ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك. روي عن عمر بن الخطاب أنه ذكر عنده أبو بكر فقال: وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه أما فليلته ليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال والله لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخله فكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به وبقي منهما ثقبان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أبا بكر فقال: لدغت فداك أبي وأمي فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته وأما يومه فلما قبض صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وقالوا: لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم. قال: لي أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام أنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد قال البغوي وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك واذكر الرصد فأمشي بين يديك فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار فدخل فاستبرأه ثم قال انزل يا رسول الله فنزل وقال له: إن أقتل فأنا رجل واحد من المسلمين وإن قتلت هلكت الأمة. ((ذكر سياق حديث الهجرة وهو من أفراد البخاري)) عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في

الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيق ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وفي رواية فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذ عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أراد إليك جوارك وأرضى بجوار الله والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر هو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب: قال عروة قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: اخرج من عندك. فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم. قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق السواحل وفي رواية طريق الساحل. قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو

أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس. فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكبر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ الأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال أخف عنا ما استطعت فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السارب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه قال فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار لمن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقال لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة، فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت أخرجه البخاري بطوله. ((شرح غريب ألفاظ الحديث)) قولها: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، يعني، أنهما كانا ينقادان إلى الطاعة، وبرك الغماد بفتح الباء من برك وكسر الغين المعجمة اسم موضع بينه وبين مكة خمس ليال مما يلي ساحل البحر إلى المدينة من بلاد غفار. وقيل: هو قليب ماء لبني ثعلبة. قوله: تكسب المعدوم فيه قولان: أحدهما: أنه لقوة سعده وحظه من

الدنيا لا يتعذر عليه كسب كل شيء حتى المعدوم الذي يتعذر كسبه على غيره. والقول الثاني: إنه يملك الشيء المعدوم المتعذر لمن لا يقدر عليه ففيه وصفة بالإحسان والكرم والكل ما يثقل حمله من حقوق الناس وصلة الأرحام والقيام بأمر العيال وإقراء الضيف ونوائب الحق ما ينوب الإنسان من المغارم وقضاء الحقوق لمن يقصده أنا لك جار أي حام وناصر ومدافع عنك والاستعلان إظهار المخفي. وقوله: فينقذف النساء عليه يعني يزدحمن عليه والذمة العهد والأمان وإخفاؤها نقضها. واللابة: الجبل. والحرة: الأرض التي تعلوها حجارة سود. يقال: افعل الشيء على رسلك بكسر الراء أي على هينتك. والراحلة: البعير القوي على الحمل والسير، والظهيرة: وقت شدة الحر والنطاق: حبل أو نحوه تشد به المرأة وسطها وترفع ثوبها من تحته فتعطف طرفا من أعلاه إلى أسفله لئلا يصل إلى الأرض. وقولها: ثقف لقن. يقال: ثقف الرجل ثقافة إذا صار حاذقا فطنا واللقن السريع الفهم. والإدلاج: بتخفيف الدال سير أول الليل وبتشديدها سير آخره والمنحة الشاة ذات اللبن والرسل بكسر الراء وسكون السين هو اللبن يقال: نعق الراعي بالغنم إذا دعاها لتجتمع إليه. والغلس: ظلام آخر الليل. والخريت: تقدم شرحه في الحديث وهو الماهر بالهداية وأراد به هداية الطريق فهو الدليل. وقد غمس حلفا يقال: غمس فلان حلفا في آل فلان إذا أخذ بنصيب من عهدهم وحلفهم والأسودة الأشخاص. والأكمة: التل المرتفع من الأرض. يقال: قرب الفرس يقرب تقريبا إذا عدا عدوا دون الإسراع والكناية هي الجعبة التي تجعل فيها السهام والأزلام القداح التي كانوا يستقسمون بها عند طلب الحوائج كالفأل والعثان الغبار. يقال: ما رزأت فلانا شيئا أي ما أصبت منه شيئا والمراد أنهم لم يأخذوا منه شيئا وقوله أوفى أي أشرف وأطلع. والأطم: البناء المرتفع كالحصن، وقوله: مبيضين هو بكسر الياء أي: هم ذو ثياب بيض والمربد الموضع يوضع فيه التمر كالبيدر. وقوله: هذا الحمال هو بالحاء المهملة يعني هذا الحمل والمحمول من اللبن أبر عند الله وأطهر وأبقى ذخرا وأدوم منفعة في الآخرة لأحمال خيبر يعني ما يحمل من خيبر من التمر والزبيب والطعام المحمول منها. والمعنى: أن ذلك الحمل الذي نحمله من اللبن لأجل عمارة المسجد أفضل عند الله مما يحمل من خيبر وقد روى هذا الجمال بالجيم من التجمل، والرواية الأولى أشهر وأكثر والله أعلم قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضتا في أسفل النقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقيل: أتت يمامة على فم الغار وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم» فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت ووجدت في بعض التفاسير شعرا وقد نسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو قوله: قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف في ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد تكفل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين قد كادت لكفار والله مهلكهم بما صنعوا ... وجاعل المنتهي منهم طم إلى النار وقوله سبحانه وتعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ يعني فأنزل الله الطمأنينة والسكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس عن أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك. ((فصل في الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على فضل سيدي أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه)) منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختفى في الغار من الكفار كان مطلعا على باطن أبي بكر الصديق في سره وإعلانه

[سورة التوبة (9): آية 41]

وأنه من المؤمنين الصادقين الصديقين المخلصين فاختار صحبته في ذلك المكان المخوف لعمله بحاله. ومنها: أن هذه الهجرة كانت بإذن الله فخصّ الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم أبا بكر دون غيره من أهله وعشيرته وهذا التخصيص يدل على شرف أبي بكر وفضله على غيره. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى عاتب أهل الأرض بقوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله سوى أبي بكر الصديق وهذا دليل على فضله. ومنها: أن سيدنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ولا حضر بل كان ملازما له وهذا دليل على صدق محبته وصحة صحبته له ومنها مؤانسته للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفي هذا دليل على فضله. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعله ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وفي هذا نهاية الفضيلة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وقد ذكر بعض العلماء أن أبا بكر كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر الأحوال ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان بالله فكان أبو بكر أول من آمن ثم دعا أبو بكر إلى الإيمان بالله ورسوله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير فآمنوا على يدي أبي بكر ثم حملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر معه في ذلك الموقف ومنه أنه لما مرض صلى الله عليه وسلم قام مقامه في الإمامة فكان ثانيه ومنها أنه ثانيه في تربته صلى الله عليه وسلم وفي هذا دليل على فضل أبي بكر الصديق ومنها أن الله سبحانه وتعالى نص على صحبة أبي بكر دون غيره بقوله سبحانه وتعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن ومنها أن الله سبحانه وتعالى كان ثالثهما ومن كان الله معه دل على فضله وشرفه على غيره ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بها دليل على فضله والله أعلم. وقوله سبحانه وتعالى: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني: وأيد النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. وقيل: ألقى الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي: أعانه بالملائكة يوم بدر فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه نصره وصرف عنه كيد الأعداء وهو في الغار في حالة القلة والخوف ثم نصره بالملائكة يوم بدر وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يعني كلمة الشرك فهي سفلى إلى يوم القيامة وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال ابن عباس: هي كلمة لا إله إلا الله فهي باقية إلى يوم القيامة عالية. وقيل: إن كلمة الذين كفروا هي ما كانوا قدروها فيما بينهم من الكيد للنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه وكلمة الله هي ما وعده من النصر والظفر بهم فكان ما وعد الله سبحانه وتعالى حقا وصدقا. [سورة التوبة (9): آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) قوله سبحانه وتعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا يعني انفروا على الصفة التي يخفف عليكم الجهاد بها وعلى الصفة التي يثقل عليكم فيها وهذان الوصفان يدخل تحتها أقسام كثيرة فلهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها. فقال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة: يعني شبابا وشيوخا. وقال ابن عباس: نشاطا وغير نشاط. وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة. وقال أبو صالح: خفافا من المال يعني فقراء وثقالا يعني أغنياء. وقال ابن زيد: الخفيف الذي لا ضيعة له والثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته. ويروى عن ابن عباس قال: خفافا أهل اليسرة من المال وثقالا أهل العسرة. وقيل: خفافا يعني من السلاح مقلين منه وثقالا يعني مستكثرين منه. وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل. وقيل: أصحاء ومرضى. وقيل: عزابا ومتأهلين. وقيل: خفافا من الحاشية والأتباع وثقالا مستكثرين منهم. وقيل: خفافا يعني مسرعين في الخروج إلى الغزو ساعة سماع النفير وثقالا يعني بعد التروي فيه والاستعداد له والصحيح أن هذا عام لأن هذه الأحوال كلها داخلة تحت قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا يعني على أي حال كنتم فيهما.

[سورة التوبة (9): الآيات 42 إلى 45]

فإن قلت: فعلى هذا يلزم الجهاد لكل أحد حتّى المريض والزمن والفقير وليس الأمر كذلك فما معنى هذا الأمر. قلت: من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ. قال ابن عباس: نسخت هذه الآية بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية. وقال السدي: نسخت بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية ومنهم من حمل هذا الأمر على الندب. قال مجاهد: إن أبا أيوب الأنصاري شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون بعده فقيل له في ذلك، فقال: سمعت الله عز وجل يقول انفروا خفافا وثقالا ولا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضر فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد أو حفظت المتاع. وقال صفوان بن عمرو: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت يا عم أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه من يحبه يبتليه والصحيح. هو القول الأول أنها منسوخة وأن الجهاد من فروض الكفايات ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك وأن النبي صلى الله عليه وسلم خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات ليس على الأعيان والله أعلم. وقوله سبحانه وتعالى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيه قولان الأول أن الجهاد إنما يجب على من له مال يتقوى به على تحصيل آلاف الجهاد ونفس سليمة قوية صالحة للجهاد فيجب عليه فرض الجهاد والقول الثاني أن من كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للحرب فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره ممن يصلح للجهاد فيغزو بماله فيكون مجاهدا بماله دون نفسه ذلِكُمْ يعني ذلكم الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ يعني من القعود والتثاقل عنه. وقيل: معناه أن الجهاد خير حاصل لكم ثوابه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود عنه ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قوله عز وجل: [سورة التوبة (9): الآيات 42 الى 45] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً فيه إضمار تقديره لو كان ما تدعوهم إليه عرضا يعني غنيمة سهلة قريبة التناول والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وَسَفَراً قاصِداً يعني سهلا قريبا لَاتَّبَعُوكَ يعني لخرجوا معك وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة والشقة السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان سلوكها. ومعنى الآية: لو كان العرض قريبا والغنيمة سهلة والسفر قاصدا لاتبعوك طمعا في تلك المنافع التي تحصل لهم ولكن لما كان السفر بعيدا وكانوا يستعظمون غزو الروم لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنه إذا رجع النبي عليه السلام من هذا الجهاد يحلفون بالله وهو قوله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة لَوِ اسْتَطَعْنا

لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يعني إلى هذه الغزوة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني بسبب هذه الأيمان الكاذبة والنفاق وفيه دليل على أن الأيمان الكاذبة تهلك صاحبها وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في أيمانهم وهو قولهم: لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج. قوله عز وجل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قال الطبري: هذا عتاب من الله عز وجل عاتب الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أي في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم. والمعنى: عفا الله عنك يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك. قال عمرو بن ميمون الأودي: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله كما تسمعون وقال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. ((فصل)) استدل بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنوب من الأنبياء وبيانه من وجهين: أحدهما، أنه سبحانه وتعالى. قال: عفا الله عنك والعفو يستدعي سابقة الذنب الوجه الثاني أنه سبحانه وتعالى قال لم أذنت لهم وهذا استفهام معناه الإنكار. والجواب عن الأول: إنا لا نسلم أن قوله تعالى عفا الله عنك يوجب صدور الذنب بل نقول إن ذلك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير فهو كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما له عفا الله عنك ما صنعت في أمري رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك الله وغفر لك كل هذه الألفاظ في ابتداء الكلام وافتتاحه تدل على تعظيم المخاطب به قال علي بن الجهم يخاطب المتوكل: عفا الله عنك إلا حرمة ... تعود بفضلك أن أبعدا ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا هدى أقلني أقالك من لم يزل ... يقيل ويصرف عنك الردى والجواب عن الثاني: أنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله لم أذنت لهم الإنكار عليه وبيانه: إما أن يكون قد صدر عنه ذنب في هذه الواقعة أولا فإن كان قد صدر عنه ذنب فذكر الذنب بعد العفو لا يليق. فقوله: عفا الله عنك، يدل على حصول العفو وبعد حصول العفو، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه وإن لم يكن قد صدر عنه ذنب امتنع الإنكار عليه فثبت بهذا أن الإنكار يمتنع في حقه صلى الله عليه وسلم وقال القاضي عياض في كتابه الشفاء في الجواب عن قوله عفا الله عنك لم أذنت لهم: أنه أمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولا عده تعالى عليه معصية بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه: وقد حاشاه لله من ذلك بل كان مخيرا في أمرين قالوا: وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي فكيف وقد قال الله سبحانه وتعالى له فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليه فيما فعل وليس عفا هنا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولم تجب عليهم قط أي يلزمكم ذلك ونحوه للقشيري. قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب قال ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنب. قال الداودي: إنها تكرمة. وقال مكي: هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك وحكى السمرقندي أن معناه عفاك الله. وقيل معناه: أدام الله لك العفو لم أذنت لهم يعني في التخلف عنك وهذا يحمل على ترك الأولى

[سورة التوبة (9): الآيات 46 إلى 48]

والأكمل لا سيما وهذه كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني في اعتذارهم وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يعني فيما يعتذرون به. قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة. قوله سبحانه وتعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي في أن يجاهدوا وإنما حسن هذا الحذف لظهوره وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ يعني الذين يتقون لمخالفته ويسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ يعني في التخلف عن الجهاد معك يا محمد من غير عذر الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهم المنافقون لقوله وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يعني شكت قلوبهم في الإيمان وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان أيضا فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقا فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ يعني أن المنافقين متحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وقد اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية. فقيل: إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله سبحانه وتعالى إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم وقيل إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذرا استأذن في التخلف فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا في الإذن لهم بقوله تعالى فأذن لمن شئت منهم وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم الله تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر. [سورة التوبة (9): الآيات 46 الى 48] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني إلى الغزو معكم لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً لتهيئوا له بإعداد آلات السفر وآلات القتال من الكراع والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ يعني خروجهم إلى الغزو معكم فَثَبَّطَهُمْ يعني منعهم وحبسهم عن الخروج معكم والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كره خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم فصرفهم عنه وهاهنا يتوجه سؤال وهو أن خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلم قال: ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وإن كان فيه مفسدة. فلم عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أذنه لهم بالقعود والجواب عن السؤال أن خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عن تلك المفسدة بقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، بقي فلم عاتب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم فلهذا السبب قال الله تعالى: لم أذنت لهم؟ وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحي إليه في أمرهم بالقعود وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ معناه أنهم لما استأذنوه في القعود. قيل لهم: اقعدوا مع القاعدين وهم النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ثم اختلفوا في القائل من هو فقيل، قال بعضهم لبعض: اقعدوا مع القاعدين. وقيل: القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال ذلك لهم على سبيل الغضب لما استأذنوه في القعود فقال لهم اقعدوا مع القاعدين فاغتنموا ذلك وقعدوا وقيل إن القائل ذلك هو الله سبحانه وتعالى بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره انبعاثهم مع المسلمين إلى الجهاد ثم بيّن سبحانه وتعالى ما في خروجهم من المفاسد فقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا يعني لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الغزو ما زادوكم إلا فسادا وشرا وأصل الخبال اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون قال بعض النحاة:

[سورة التوبة (9): الآيات 49 إلى 52]

هذا من الاستثناء المنقطع والمعنى لو خرجوا فيكم ما زادوكم قوة لكن خبالا والمراد به هنا الإفساد وإيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر وشدة السفر وكثرة العدوان وقوتهم وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يعني ولأسرعوا فيكم وساروا بينكم بإلقاء النميمة والأحاديث الكاذبة فيكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني يطلبون لكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين لقد جمع لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبن وقيل معناه يطلبون العيب والشر وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد: يعني وفيكم عيون لهم يؤدون إليهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس. وقال قتادة: وفيكم مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعا من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم. فإن قلت: كيف يجوز أن يكون في المؤمنين المخلصين من يسمع ويطيع للمنافقين؟ قلت: يحتمل أن يكون بعض المؤمنين لهم أقارب من كبار المنافقين ورؤسائهم فإذا قالوا قولا ربما أثر ذلك القول في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وهذا وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين وقوله سبحانه وتعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ يعني لقد طلبوا صد أصحابك يا محمد عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنكم قيل هذا اليوم كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول يوم أحد حين انصرف بأصحابه عنكم وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ يعني وأجالوا فيك وفي أمرك وفي إبطال دينك الرأي وبالغوا في تخذيل الناس عنك وقصدهم تشتيت أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يعني النصر والظفر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ يعني ذلك. [سورة التوبة (9): الآيات 49 الى 52] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قوله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي نزلت في الجد بن قيس وكان من المنافقين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم تتخذ منهم سراري ووصفاء. فقال الجد: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بحب النساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي قال ابن عباس: اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك فأنزل الله عز وجل فيه ومنهم يعني ومن المنافقين من يقول ائذن لي يعني في التخلف والقعود في المدينة ولا تفتني يعني ببنات بني الأصفر وهم الروم أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعني أنهم وقعوا في الفتنة العظيمة وهي النفاق ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عنه وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني يوم القيامة تحيط بهم وتجمعهم فيها. قوله سبحانه وتعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ يعني إن تصبك يا محمد حسنة من نصر وغنيمة تحزن المنافقين وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يعني من هزيمة أو شدة يَقُولُوا يعني المنافقين قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا يعني أخذنا أمرنا بالجد والحزم في القعود عن الغزو مِنْ قَبْلُ يعني من قبل هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ يعني

[سورة التوبة (9): الآيات 53 إلى 55]

مسرورين لما نالك من المصيبة وسلامتهم منها قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا يعني قل يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه لن يصيبنا إلا ما قدره الله لنا وعلينا وكتبه في اللوح المحفوظ لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروها نزل به أو يجلب لنفسه نفعا أراده لم يقدر له هُوَ مَوْلانا يعني أن الله سبحانه وتعالى هو ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني في جميع أمورهم قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا يعني: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين هل تنتظرون بنا أيها المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ يعني إما النصر والغنيمة وإما الشهادة والمغفرة وذلك أن المسلم إذا ذهب إلى الغزو والجهاد في سبيل الله إما أن يغلب عدوه فيفوز بالنصر والغنيمة والأجر العظيم في الآخرة وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي الغاية القصوى ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله وفي رواية تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة» أخرجاه في الصحيحين. وقوله سبحانه وتعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ يعني ونحن ننتظر بكم إحدى السوأيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني فيهلككم كما أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية أَوْ بِأَيْدِينا يعني أو يصيبكم بأيدي المؤمنين بأن يظفرنا بكم ويظهرنا عليكم فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ قال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه. [سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 55] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نزلت في الجد بن قيس المنافق وذلك أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عنه وقال أنا أعطيكم مالي فأنزل الله عز وجل ردا عليه قل أي قل يا محمد لهذا المنافق وأمثاله في النفاق أنفقوا طوعا أو كرها يعني أنفقوا طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه ثم علل بسبب منع القبول بقوله إِنَّكُمْ أي لأنكم كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أي المانع من قبول نفقاتهم هو كفرهم بالله وبرسوله وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى جمع كسلان يعني متثاقلين في الإتيان إلى الصلاة وذلك لأنهم لا يرجون على فعلها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا فلذلك ذمهم مع فعلها وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم كانوا يعتقدون الإنفاق في سبيل الله مغرما ومنع ذلك الإنفاق مغنما فَلا تُعْجِبْكَ يا محمد أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ هذا الخطاب وإن كان مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به جميع المؤمنين والمعنى فلا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم والإعجاب السرور بالشيء مع نوع من الافتخار به مع الاعتقاد أنه ليس لغيره مثله وهذا يدل على استغراق النفس بذلك الشيء ويكون سبب انقطاعه عن الله عز وجل فينبغي للإنسان أن لا يعجب بشيء من أمور الدنيا ولذاتها فإن العبد إذا كان من الله عز وجل في استدراج كثر ماله وولده فيكثر إعجابه بماله وولده فيبطر ويكفر نعم الله عليه ولهذا

[سورة التوبة (9): الآيات 56 إلى 58]

قال سبحانه وتعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن قلت كيف يكون المال والولد عذابا في الدنيا وفيهما اللذة والسرور في الدنيا. قلت: قال مجاهد وقتادة: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقيل: إن سبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الحزن والغم بسبب المصائب الواقعة فيهما، فعلى هذا القول، لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصل لكل أحد من بني آدم مؤمنهم وكافرهم فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا التعذيب في الدنيا وأجيب عن هذا الإيراد بأن المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا العذاب وهو أن المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وإنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذابا في الدنيا وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له وإنه ليس فيها ثواب فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والشدة والغم والحزن على المال والولد عذابا عليه في الدنيا فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين. وقيل: إن تعذيبهم بهما في الدنيا أخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله غير مثابين على ذلك وربما قتل الولد في الغزو فلا يثاب الوالد المنافق على قتل ولده وذهاب ماله. وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه وحفظه والكره في إنفاقه والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ثم يقدم في الآخرة على ملك لا يعذره وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ يعني وتخرج أنفسهم وَهُمْ كافِرُونَ والمعنى أنهم يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة. [سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 58] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) قوله عز وجل: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يعني على دينكم وملتكم وَما هُمْ مِنْكُمْ يعني أنهم كاذبون في أيمانهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يعني أنهم يخافون أن تظهروا على ما هم عليه من النفاق لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يعني حرزا وحصنا ومعقلا يلجئون إليه وقيل لو وجدوا مهربا لهربوا إليه وقيل لو يجدون قوما يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم ولفارقوكم أَوْ مَغاراتٍ يعني غيرانا في الجبل جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يستتر أَوْ مُدَّخَلًا يعني موضع دخول يدخلون فيه وهو السرب في الأرض كنفق اليربوع وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوَلَّوْا إِلَيْهِ والمعنى أنهم لو وجدوا مكانا بهذه الصفة أو على أحد هذه الوجوه الثلاثة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه أي لرجعوا إليه وتحرزوا فيه وَهُمْ يَجْمَحُونَ يعني وهم يسرعون إلى ذلك المكان والمعنى أن المنافقين لشدة بغضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لو قدروا أن يهربوا منكم إلى أحد هذه الأمكنة لصاروا إليه لشدة بغضهم إياكم. قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير وهو أصل الخوارج (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا فأتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم فقال يا رسول الله اعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك من يعدل إذا لم أعدل وفي رواية: قد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» زاد في رواية «يقرءون القرآن

[سورة التوبة (9): الآيات 59 إلى 60]

لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين» وفي رواية «من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين، يقال له أبو الجواظ لم تقسم بالسوية فنزلت هذه الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل فما عدلت فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم ويلك فمن ذا يعدل بعدي وقال ابن زيد قال المنافقون والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا من يهواه فأنزل الله سبحانه وتعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات يعني ومن المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات وفي تفريقها ويطعن عليك في أمرها يقال همزه ولمزه بمعنى واحد أي عابه فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها يعني من الصدقات رَضُوا يعني رضوا عنك في قسمتها وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ يعني وإن لم تعطهم منها عابوا عليك وسخطوا. [سورة التوبة (9): الآيات 59 الى 60] وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم الله لهم وقنعوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ يعني إليه إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب لو محذوف تقديره لكان خيرا لهم وأعود عليهم. قوله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الآية اعلم أن المنافقين لما لمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات بيّن الله عز وجل في هذه الآية إن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ومصرفها إليهم ولا تعلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه منها شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فلا مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات. عن زياد بن الحرث الصدائي قال «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود. (فصل في بيان حكم هذه الآية وفيه مسائل) المسألة الأولى: في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الأغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس وذلك من وجوه، الوجه الأول أن المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال اشتغل به عن حب الله عز وجل وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله عز وجل فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن الله فيصير سببا للقرب من الله عز وجل بإخراج الزكاة منه. الوجه الثاني: إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها ولذاتها فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سبب لقساوة القلب. والوجه الثالث سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن لأن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق على النفس فأوجب الله عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال لتميز بذلك المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها. الوجه الرابع أن المال مال الله والأغنياء خزان الله والفقراء عيال الله فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى

عياله فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال الأمر المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله (ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين. الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال التي بأيدي الأغنياء فأوجب الله عز وجل نصيبا للفقراء في ذلك المال تطييبا لقلوبهم. الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك بقي معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى لا يصير ذلك المال معطلا بالكلية. المسألة الثانية: الآية تدل على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا هؤلاء الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه لأن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك لأنها مركبة من إن وما فكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات لا تصرف إلا إلى الأصناف الثمانية. المسألة الثالثة: في بيان الأصناف الثمانية فالصنف الأول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري: الفقير الذي لا يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على الشيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وقال قتادة: الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا زمنا كان أو غير زمن والمسكين من له مال أو حرفة ولكن لا تقع منه موقعا لكفايته سائلا كان أو غير سائل فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير. وقال أبو حنيفة، وأصحاب الرأي: الفقير أحسن حالا من المسكين ومن الناس من قال لا فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن الله سبحانه وتعالى حكم بصرف الصدقات إلى هؤلاء الأصناف الثمانية دفعا لحاجتهم وتحصيلا لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ بالأهم فالأهم فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد: لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل قال ابن الأعرابي: الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي فقيرا لزمانته وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر وقال «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت بهذا أن المسكين أحسن حالا من الفقير ولأن الله سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة لأن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ولأن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير قوله أو مسكينا ذا متربة وصف المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة ولأن الله تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج أيضا بقول الراعي: أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد واحتج أيضا بقول الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له

وكذا قال القتيبي: الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له وقيل: الفقير الذي له المسكن والخادم والمسكين الذي لا ملك له وقيل: إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره قال الله سبحانه وتعالى: أنتم الفقراء إلى الله فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لأنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن الاستدلال ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه فسقط الاستدلال به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين. وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «ولا لذي مرة قوي» عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال «أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه «أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن الصدقة فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حده أن يملك مائتي درهم. وقال قوم: من ملك خمسين درهما أو قيمتها لا تحل له الصدقة لما روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا: لا يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين درهما من الزكاة وقيل: أربعين درهما لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» أخرجه أبو داود وكانت الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما الصنف الثالث قوله سبحانه وتعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر وبه. قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات. وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي يقول: هو وأجرة عمل تتقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل لنا الصدقة وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم قسمان: قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم الأول هم قوم من أشراف العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤلاء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في الإسلام وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في الإسلام وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام فيجوز للإمام أن يعطي أمثال هؤلاء من خمس خمس الغنيمة والفيء من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات أيضا. القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤلاء الذين بإزائهم من المسلمين

لا يجاهدونهم لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة قلوبهم ومن هؤلاء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى الإمام فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل الله. روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأما مؤلفة الكفار فهم قوم يخشى شرهم أو يرجى إسلامهم فيجوز للإمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسلامه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام أما اليوم فقد أعز الله الإسلام وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من المشركين فلا يعطى مشرك تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه. وقال قوم: سهمهم ثابت لم يسقط. يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس قوله سبحانه وتعالى: وَفِي الرِّقابِ قال الزجاج: فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير الرقاب أقوال الأول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد ويدل عليه أيضا قوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، القول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال لا بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله في الرقاب يقتضي التبعيض. القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة. قال أصحابنا: الأحوط في سهم الرقاب أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدمة بلام الملك فقال: إنما الصدقات للفقراء. وقال: في الصنف الخامس وفي الرقاب فلا بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في تخليص رقابهم من الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى: وَالْغارِمِينَ أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين غرما لكونه شاقا على الإنسان والمراد بالغارمين هنا المديونون وهم قسمان أدانوا لأنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بديونهم فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه أما من كان دينه في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئا الصنف السابع قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني وفي النفقة في سبيل الله وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري ولا يعطى من سهم الله لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم

سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال لأن قوله وفي سبيل الله عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه الصنف الثامن قوله سبحانه وتعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق قال الشاعر: أنا ابن الحرب ربتني وليدا ... إلى أن شبت واكتهلت لداتي فكل مريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال، وقال قتادة: ابن السبيل هو الضيف وقال فقهاء العراق: ابن السبيل هو الحاج المنقطع. وقوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني أن هذه الأحكام التي ذكرها في الآية فريضة واجبة من الله وقيل فرض الله هذه الأشياء فريضة وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بمصالح عباده حَكِيمٌ يعني فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقض ولا خلل. المسألة الرابعة: في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز صرفها كلها إلى بعض الأصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعض الأصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال: يجب أن يقسم زكاة ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء لأن سهم المؤلفة ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من الأصناف الستة لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منه ثلاثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثلاثة جاز فإن لم يجد من بعض الأصناف إلا واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد الاستحقاق فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز لأن الله سبحانه وتعالى إنما سمى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الثمانية إلا إيجابا منه لقسمتها بينهم جميعا وهذا قول عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل. قال أحمد بن حنبل: يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى. وقال إبراهيم النخعي: إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع إليه شيئا من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق فلا يزيد الفقير على قدر غناه وهو ما يحتاج إليه فإن حصل أدنى اسم الغني فلا يعطي بعده شيئا وإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فالاعتبار عند الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يدفع الحاجة من غير حد. وقال أحمد بن حنبل: لا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطى رجل واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه قولان ولا يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطى والدا وإن علا ولا ولدا وإن سفل ولا زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فلا

[سورة التوبة (9): الآيات 61 إلى 62]

يدفع إليهم من الزكاة شيء لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا آل بيت لا تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم ولا تحرم على بني المطلب دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وتحرم الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك لا تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن الله سبحانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان والله أعلم. [سورة التوبة (9): الآيات 61 الى 62] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين بل نقول ما شئنا ثم نأتيه وننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن أي يسمع كل ما يقال له ويقبله وقيل معنى هو أذن أي ذو أذن سامعة، وقال محمد بن إسحاق: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان أزنم ثائر الشعر أحمر العينين أسقع الخدين مشوه الخلقة وقد قال فيه النبي: «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث» وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين. فقيل له: لا تفعل ذلك. فقال: إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا، فأنزل الله هذه الآية. ومقصود المنافقين بقوله هو أذن أنه ليس بعيد غور بل هو سليم سريع الاغترار بكل ما يسمع فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يعني هب أنه أذن لكنه أذن خير لكم كقولك رجل صدق وشاهد عدل والمعنى أنه مستمع خير وصلاح لا مستمع شر وفساد وقرئ أذن خير مرفوعين منونين ومعناه يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم ثم وصف الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني أنه يصدق المؤمنين ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين وإنما عدي الإيمان بالله بالياء والإيمان للمؤمنين باللام لأن الإيمان بالله هو نقيض الكفر فلا يتعدى إلا بالياء فيقال: آمن بالله والإيمان للمؤمنين معناه تصديق المؤمنين فيما يقولونه فلا يقال إلا باللام ومنه قوله تعالى أنؤمن لك وقوله آمنتم له وَرَحْمَةٌ أي هو رحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وإنما قال منكم لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فبين الله سبحانه وتعالى كذبهم بقوله إنه رحمة للمؤمنين المخلصين لا للمنافقين وقيل في كونه صلى الله عليه وسلم رحمة لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر ولا ينقب عن أحوالهم ولا يهتك أسرارهم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. قوله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ قال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ثم وديعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام من قولهم وقال والله

[سورة التوبة (9): الآيات 63 إلى 64]

إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فدعاهم فسألهم فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو ويقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون ليرضوكم يعني فيما بلغكم عنهم من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ اختلفوا في معنى هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل: الضمير عائد على الله تعالى لأن في رضا الله رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى والله ورسوله أحق أن يرضوه بالتوبة والإخلاص. وقيل: يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. وقيل: معناه والله أحق أن يرضوه وكذلك رسوله: إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ يعني إن كان هؤلاء المنافقون مصدقين بوعد الله ووعيده في الآخرة. [سورة التوبة (9): الآيات 63 الى 64] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) قوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا قال أهل المعاني ألم تعلم خطاب لمن علم شيئا ثم نسيه أو أنكره فيقال له ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله ألم يعلموا يعني من شرائع الدين التي علمهم رسولنا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني أنه من يخالف الله ورسوله. وأصل المحاداة في اللغة: المخالفة والمجانبة والمعادة. واشتقاقه: من الحد. يقال: حاد فلان فلانا إذا صار في غير حده وخالفه في أمره. وقيل: معنى يحادد الله ورسوله أي يحارب الله ورسوله ويعاند الله ورسوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحق أن له نار جهنم خالِداً فِيها يعني على الدوام ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعني ذلك الخلود في نار جهنم هو الفضيحة العظيمة. قوله عز وجل: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ يعني يخشى المنافقون أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ يعني على المؤمنين تُنَبِّئُهُمْ يعني تخبر المؤمنين بِما فِي قُلُوبِهِمْ يعني بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا فيما بينهم يذكرون المؤمنين بسوء ويسترونه ويخافون الفضيحة ونزول القرآن في شأنهم. قال قتادة: وهذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة يعني أنها فضحت المنافقين وبعثرت عن أخبارهم وأثارتها وأسفرت عن مخازيهم ومثالبهم. وقال ابن عباس: أنزل الله ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة منه على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لأن أولادهم كانوا مؤمنين قُلِ اسْتَهْزِؤُا أمر تهديد فهو كقوله اعملوا ما شئتم إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ أي مظهر ما تَحْذَرُونَ والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يظهر إلى الوجود ما كان المنافقون يسترونه ويخفونه عن المؤمنين. قال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين

[سورة التوبة (9): الآيات 65 إلى 67]

وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد أضمروا له وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وكان معه عمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاهم عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال لم أعرف منهم أحدا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنهم فلان وفلان حتى عدّهم كلهم فقال حذيفة هلا بعثت إليهم من يقتلهم فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة (م) عن قيس بن عباد قال: قلت لعمار: أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب أم عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن في أمتي» قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم». [سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 67] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) قوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ الآية وسبب نزولها على ما قال زيد بن أسلم أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقرائنا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء؟ فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. قال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه، يعني إلى المنافق، متعلقة بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة يقول إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون» ما يزيده قال محمد بن إسحاق الذي قال هذه المقالة فيما بلغني هو وديعة بن ثابت أخو أمية بن زيد بن عمرو بن عوف. وقال قتادة: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال نبي صلى الله عليه وسلم احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون» وقال الكلبي ومقاتل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان منهم يستهزئان بالقرآن والرسول والثالث يضحك» قيل كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك. وقيل: كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه أنزل في أصحابنا قرآن إنما هو قوله وكلامه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك. فقال: احبسوا على الركب فدعاهم. وقال لهم: قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب، ومعنى الآية: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما كانوا يقولون فيما بينهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب يعني كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعله الركب يقطعون الطريق باللعب والحديث، وأصل الخوض: الدخول في

مائع كالماء مع الطين كثر استعماله حتى صار يستعمل في كل دخول مع تلويث وأذى قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فيه توبيخ وتقريع للمنافقين وإنكار عليهم والمعنى كيف تقدمون على إيقاع الاستهزاء بالله يعني بفرائض الله وحدوده وأحكامه والمراد بآياته كتابه وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشام. قال بعض المسلمين: الله يعينه على ذلك فذكر بعض المنافقين كلاما يشعر بالقدح في قدرة الله وإنما ذكروا ذلك على طريق الاستهزاء. قوله عز وجل: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعني قل لهؤلاء المنافقين لا تعتذروا بالباطل. ومعنى الاعتذار محو أثر الموجدة من قلب المعتذر إليه. وقيل: معنى العذر قطع اللائمة عن الجاني. قد كفرتم بعد إيمانكم: يعني الاستهزاء بالله كفر والإقدام عليه يوجب الكفر فلهذا قال سبحانه وتعالى لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم فإن قلت إن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فكيف قال قد كفرتم بعد إيمانكم. قلت: معناه أظهرتم الكفر بعد ما كنتم قد أظهرتم الإيمان وذلك أن المنافقين كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر قيل لهم قد كفرتم بعد إيمانكم. وقيل: معناه قد كفرتم عند المؤمنين بعد أن كنتم عندهم مؤمنين. وقوله سبحانه وتعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد طائفة والاثنان طائفة. والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فلهذا أطلق لفظ الطائفة على الواحد. قال محمد بن إسحاق: الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشى بن حمير الأشجعي يقال إنه هو الذي كان يضحك ولا يخوض. وقيل: إنه كان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فكان ذنبه أخف فلما نزلت الآية تاب من نفاقه ورجع إلى الإسلام وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ عني بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه قوله سبحانه وتعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني أنهم على أمر واحد ودين واحد مجتمعون على النفاق والأعمال الخبيثة كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي أمرنا واحد لا مباينة فيه يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ يعني يأمر بعضهم بعضا بالشرك والمعصية وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ يعني عن الإيمان والطاعة وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يعني عن الإنفاق في سبيل الله تعالى وفي كل خير نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ هذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان الحقيقي لم يستحقوا ذما عليه لأن النسيان ليس في وسع البشر دفعه وأيضا فإن النسيان في حق الله محال فلا بد من التأويل وقد ذكروا فيه وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صاروا بمنزلة الناسين له فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسى من ثوابه ورحمته فخرج على مزاوجة الكلام فهو كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها. الوجه الثاني: أن النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر الله وعبادته ترك الذكر لأن من ترك شيئا لم يذكره وقيل لما تركوا طاعة الله والإيمان به تركهم من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته في العقبى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني هم الخارجون عن الطاعة.

[سورة التوبة (9): الآيات 68 إلى 69]

[سورة التوبة (9): الآيات 68 الى 69] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ يقال: وعده بالخير وعدا، ووعده بالشر وعيدا. فالوعد يكون في الخير والشر نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فيه حذف تقديره يصلونها خالدين يعني مقيمين فيها هِيَ حَسْبُهُمْ يعني هي كافيتهم جزاء على كفرهم ونفاقهم وتركهم الإيمان والطاعة وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني وأبعدهم من رحمته وطردهم عن بابه وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم لا ينقطع. فإن قلت قوله خالدين فيها بمعنى ولهم عذاب مقيم وهذا تكرار فما معناه؟ قلت ليس ذلك تكرارا. وبيان الفرق من وجهين الأول أن معناه ولهم نوع آخر من العذاب المقيم سوى الصلي بالنار. ولقائل أن يقول: هذا التأويل مشكل لأنه سبحانه وتعالى قال في النار هي حسبهم وذلك يمنع من ضم شيء آخر إلى عذاب النار. وأجيب عن هذا الإشكال بأن قوله هي حسبهم في الإيلام ولا يمتنع أن لا يحصل نوع آخر من العذاب من غير جنس النار كالزمهرير ونحوه ويكون ذلك زيادة في عذابهم. الوجه الثاني: أن العذاب المقيم هو العذاب المعجل لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من خوف اطلاع المسلمين عليهم وما هم فيه من النفاق وكشف فضائحهم وهذا هو العذاب المقيم. قوله سبحانه وتعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هذا رجوع عن الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم، شبه فعل المنافقين بفعل الكفار الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة وقيل: إنه تعالى شبه المنافقين في عدو لهم عن طاعة الله واتباع أمره لأجل طلب الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصف الكفار بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين قوة وأكثر أموالا وأولادا فقال تعالى: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً يعني بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يعني فتمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضا عن الآخرة والخلاق النصيب وهو ما خلق الله للإنسان وقدر له من خير كما يقال قسم له فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ وهذا خطاب للحاضرين يعني فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ فإن قلت ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم إعادة ذكره في حق الأولين ثالثا. قلت فائدته أنه يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها ورضاهم بها وتركهم النظر فيما يصلحهم في الدار الآخرة ثم شبه حال المخاطبين من المنافقين والكفار بحال من تقدمهم ثم رجع إلى ذكر حال الأولين ثالثا وهذا كما تريد أن تبكت بعض الظلمة على قبح ظلمة فتقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حق ويعذب بغير جرم فأنت تفعل مثل ما كان يفعل فالتكرير هنا للتأكيد وتقبيح فعلهم وفعل من شابههم في فعلهم. وقوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا معطوف على ما قبله ومستند إليه يعني وسلكتم في فعلكم مثل ما سلكوا في اتباع الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطلت أعمالهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني أن أعمالهم لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة بل يعاقبون عليها وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والمعنى أنه كما بطلت أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون

[سورة التوبة (9): الآيات 70 إلى 72]

وتخسرون (ق). عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن» قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 70 الى 72] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) أَلَمْ يَأْتِهِمْ رجع من الخطاب إلى الغيبة يعني ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي قد أتاهم نَبَأُ يعني خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا ثم ذكرهم فقال تعالى: قَوْمِ نُوحٍ يعني أنهم أهلكوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح العقيم وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلكوا بسلب النعمة وكان هلاك نمرود ببعوضة وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وهم قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ يعني المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها وهي مدائن قوم لوط. وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الطوائف الستة، لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها المنافقون والكفار فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يعني بتعجيل العقوبة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني أن الذي استحقوه من العقوبة بسبب ظلمهم أنفسهم. قوله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لما وصف الله المنافقين بالأعمال الخبيثة والأحوال الفاسدة ثم ذكر بعده ما أعد لهم من أنواع الوعيد في الدنيا والآخرة عقبه بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة فقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني الموالاة في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى قال في وصف المنافقين: بعضهم من بعض وقال في وصف المؤمنين: بعضهم أولياء بعض فما الفائدة في ذلك. قلت: لما كان نفاق الأتباع وكفرهم إنما حصل بتقليد المتبوعين وهم الرؤساء والأكابر وحصل بمقتضى الطبيعة أيضا قال فيهم بعضهم من بعض ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الفائدة. وقوله سبحانه وتعالى: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف في الشرع من خير وبر وطاعة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك والمعصية والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع وهذا في مقابلة ما وصف به المنافقون وضده وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني الصلاة المفروضة

ويتممون أركانها وحدودها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني الواجبة عليهم وهو في مقابلة ويقبضون أيديهم وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني فيما يأمرهم به وهو في مقابلة نسوا الله فنسيهم أُولئِكَ يعني المؤمنين والمؤمنات الموصوفين بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لما ذكر الله ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين والمؤمنات من الرحمة والرضوان وما أعد لهم في الجنان والسين في قوله سيرحمهم الله للمبالغة والتوكيد إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهذا يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو الذي لا يمتنع عليه شيء أراده فهو قادر على إيصال العقوبة لمن أراد والحكيم هو الذي يدبر عباده على ما يقتضيه العدل والإنصاف وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لما ذكر الله في الآيات المتقدمة وعيد المنافقين وما أعد لهم في نار جهنم من العذاب ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية ما وعد به المؤمنين من الخير والثواب والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يتحير في حسنها الناظر لأنه سبحانه وتعالى قال ومساكن طيبة في جنات عدن والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والفرق بينهما وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يعني ومنازل يسكنونها طيبة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يعني في بساتين خلد وإقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به. روى الطبري بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ومساكن طيبة في جنات عدن قال: قصر من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين» وفي رواية: كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من طعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع» وروي بسنده عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عدن داره يعني دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وهي مسكنه ولا يسكنها مع بني آدم غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله عز وجل طوبى لمن دخلك» هكذا رواه الطبري فإن صحت هذه الرواية فلا بد من تأويلها فقوله عدن داره يعني دار الله وهو من باب حذف المضاف تقديره عدن دار أصفياء الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقربين من عباده. عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» أخرجه البخاري ومسلم. وقال عبد الله بن مسعود: عدن بطنان الجنة يعني وسطها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة خيامه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة فيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حين خلقها الله حتى ينزلها أهلها وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض. قال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل هذا الكلام أن في جنات عدن قولين: أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول قال صاحب الكشاف وعدن علم بدليل قوله «جنات عدن التي وعد الرحمن عباده» والقول الثاني إنه صفة للجنة. قال الأزهري: العدن مأخوذ من قولك: عدن بالمكان إذا أقام به. يعدن عدوانا فبهذا الاشتقاق قالوا: الجنات كلها جنات عدن.

[سورة التوبة (9): الآيات 73 إلى 74]

وقوله سبحانه وتعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني أن رضوان الله الذي ينزله عليهم أكبر من كل ما سلف ذكره من نعيم الجنة ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما تقدم ذكره من نعيم الجنة والرضوان (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ومالنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا». [سورة التوبة (9): الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ يعني بالسيف والمحاربة والقتال وَالْمُنافِقِينَ يعني وجاهد المنافقين واختلفوا في صفة جهاد المنافقين وسبب هذا الاختلاف أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام ولما كان الأمر كذلك لم تجز مجاهدته بالسيف والقتال لإظهاره الإسلام فقال ابن عباس: أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وإذهاب الرفق عنهم وهذا قول الضحاك أيضا وقال ابن: مسعود بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم يعني إذا تعاطوا أسبابها وهذا القول فيه بعد لأن إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق وإنما قال الحسن وقتادة ذلك لأن غالب من كان يتعاطى أسباب الحدود فتقام عليهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون. قال الطبري: وأولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلا بد من دليل آخر وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة وبترك الرفق بهم تارة وبالانتهار تارة وهذا هو قول ابن مسعود وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يعني شدد عليهم بالجهاد والإرهاب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بمعنى أن جهنم مسكنهم وبئس المصير مصيرهم إليها. فإن قلت كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم وبحالهم. قلت: إنما أمر الله عز وجل نبيه سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام على إظهارها. فأما من تكلم بالكفر في السر فإذا اطلع عليه أنكره ورجع عنه وقال: إني مسلم فإنه يحكم بإسلامه في الظاهر في حقن دمه وماله وولده وإن كان معتقدا غير ذلك في الباطن لأن الله سبحانه وتعالى أمر بإجراء الأحكام على الظواهر فلذلك أجرى النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين على ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى لأنه العالم بأحوالهم وهو يجازيهم في الآخرة بما يستحقون. قوله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقال عروة بن الزبير: نزلت في الجلاس بن سويد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء.

فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلت وخفت أن ينزل في القرآن أو أن تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس، فقال له: يا جلاس أقلت ما قال مصعب؟ فحلف ما قال، فأنزل الله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، الآية. وروي عن مجاهد ونحوه. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال: إنه سيأتينكم إنسان فينظر إليكم بعين الشيطان فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنه فأنزل الله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا. ثم نعتهم جميعا إلى آخر الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي بن سلول للأوس: انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قال فأنزل الله هذه الآية، هذه روايات الطبري. وذكر البغوي عن الكلبي قال: نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس. فقال الجلاس: كذب يا رسول الله عليّ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب على عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يده إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فإن يتوبوا يك خيرا لهم فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه فتاب وحسنت توبته فذلك قوله سبحانه وتعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ يعني أظهروا كلمة الكفر بعد إسلامهم وتلك الكلمة هي سب النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير وقيل هي كلمة عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين إن شاء الله تعالى. قوله سبحانه وتعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قال مجاهد: همّ الجلاس بقتل الذي سمع مقالته خشية أن يفشيها عليه وقيل همّ عبد الله بن أبي بن سلول وكان همه قوله لئن رجعنا إلى المدينة فلم ينله وقيل: همّ اثنا عشر رجلا من المنافقين بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا على العقبة وقت رجوعه من تبوك ليقتلوه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك. وقال السدي: قال المنافقون إذا رجعنا إلى المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي بن سلول تاجا فلم يصلوا إليه وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقموا عليه وقيل إنهم بطروا النعمة فنقموا أشرا وبطرا وقال ابن قتيبة: معناه ليس ينقمون شيئا ولا يتعرفون إلا الصنع وهذا كقول الشاعر:

[سورة التوبة (9): آية 75]

ما نقم الناس من أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا فهو كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب أي ليس فيهم عيب. قال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. فعلى هذا القول يكون الكلام عاما. وقال عروة: كان الجلاس قتل له مولى فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى. وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أبي دية فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له. وقال عكرمة: إن مولى لبني عدي قتل رجلا من الأنصار فقضى له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا وفيه نزلت وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ يعني: فإن يتوبوا من كفرهم ونفاقهم يك ذلك خيرا لهم في العاجل والآجل وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعني وإن يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا يعني بالخزي والإذلال وَالْآخِرَةِ أي ويعذبهم في الآخرة بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني وليس لهم أحد يمنعهم من عذاب الله أو ينصرهم في الدنيا والآخرة. [سورة التوبة (9): آية 75] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية. روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي قال: «جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمالك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما ينمو الدود فكان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضا حتى صار لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم جمعة خرج فتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة. فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما: مرا على ثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بها السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياها قالا: ما هذه عليك. قال: خذاها فإن نفسي بذلك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأيي. قالا: فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يتكلما: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله سبحانه وتعالى فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية إلى قوله سبحانه وتعالى: وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة

[سورة التوبة (9): آية 76]

فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى أن يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فقال: اقبل صدقتي. فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا لا أقبلها. فقبض أبو بكر ولم يقبلها منه فلما ولي عمر أتاه فقال: اقبل صدقتي فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها. ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان». وأخرجه الطبري أيضا بسنده. قال بعض العلماء: إنما لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ثعلبة، لأن الله سبحانه وتعالى منعه من قبولها منه مجازاة له على إخلافه ما وعد الله عليه وإهانة له على قوله: إنما هي جزية أو أخت الجزية، فلما صدر هذا القول منه ردت صدقته عليه إهانة له وليعتبر غيره فيه فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها ويرى أنها واجبة عليه وأنه يثاب على إخراجها ويعاقب على منعها. وقال ابن عباس: إن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه ووصلت القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية. وقال الحسن ومجاهد: نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا لئن رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهما الله بخلا به. وقال ابن السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة «1» كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله لئن آتاني الله من فضله يعني ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فلما آتاه ذلك المال لم يف بما عاهد الله عليه فنزلت هذه الآية وحاصله أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة فلما آتاه الله من فضله ما سأل لم يف بما عاهد الله عليه ومعنى الآية ومن المنافقين من أعطى الله عهدا لئن رزقنا من فضله بأن يوسع علينا في الرزق لنصدقن يعني لنتصدقن ولنخرجن من ذلك المال صدقته وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: ولنعملن في ذلك المال ما يعمله أهل الصلاح بأموالهم من صلة الأرحام والإنفاق في سبيل الله وجميع وجوه البر والخير وإخراج الزكاة وإيصالها إلى أهلها والصالح ضد المفسد والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع. وقيل: إن المراد بقوله لنصدقن، إخراج الزكاة الواجبة. وقوله: ولنكونن من الصالحين إشارة إلى كل ما يفعله أهل الصلاح على الإطلاق من جميع أعمال البر والطاعة. [سورة التوبة (9): آية 76] فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ يعني فلما رزقهم الله لم يفعلوا من أعمال البر شيئا وَتَوَلَّوْا يعني عما عاهدوا الله عليه وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن العهد. [سورة التوبة (9): الآيات 77 الى 79] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)

_ (1) قوله إن حاطب إلخ لم يذكر البغوي هذا القول وأصاب فإن حاطبا مهاجري بدري وفضل آل بدر لا يخفى اهـ.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ يعني فأعقبهم الله نفاقا بأن صيرهم منافقين يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صارت عاقبة أمره إلى ذلك وقيل معناه أنه سبحانه وتعالى عاقبهم بنفاق قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يعني أنه سبحانه وتعالى حرمهم التوبة إلى يوم القيامة فيوافونه على النفاق فيجازيهم عليه بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ يعني الصدقة والإنفاق في سبيله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ يعني في قولهم لنصدقن ولنكونن من الصالحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة وفي رواية خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» قال الشيخ محيي الدين النووي: هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق مخلد في النار فإن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال وكذا قد يوجد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذا أو كله. قال الشيخ: هذا ليس بحمد الله إشكالا ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في هذه الخصال ويتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا موجود في صاحب هذه الخصال فيكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى الله عليه وسلم كان منافقا خالصا معناه كان شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من ندر ذلك منه فليس ذلك حاصلا فيه هذا هو المختار في معنى الحديث. وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخافوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا. وحكى الخطابي قولا آخر: إن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال وحكى أيضا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقولا فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا» والله أعلم. وقال الإمام فخر الدين الرازي: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. وقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني هؤلاء المنافقين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ يعني ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق وَنَجْواهُمْ يعني ويعلم ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم والمعنى أنهم يعلمون أن الله يعلم جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا مبالغا في العلم يعني أن الله عالم بجميع الأشياء فكيف تخفى عليه أحوالهم. قوله عز وجل: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ الآية (ق) عن أبي مسعود البدري قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء

[سورة التوبة (9): الآيات 80 إلى 82]

عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات فلمزهم المنافقون. فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بواجب عليه وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وقيل: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعا عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو قولهم لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيا وكانوا يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون: إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند الله من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به وقوله سبحانه وتعالى: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. [سورة التوبة (9): الآيات 80 الى 82] اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) قوله سبحانه وتعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال المفسرون: لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وبان نفاقهم وظهر للمؤمنين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ويقولون استغفر لنا فنزلت استغفر لهم أو لا تستغفر فلن يغفر الله لهم وإنما خص سبحانه وتعالى السبعين من العدد بالذكر لأن العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى على عمه حمزة رضي الله تعالى عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبعة وهو عدد شريف فإن السموات والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم السيارة سبع فلهذا خص الله تبارك وتعالى السبعين بالذكر للمبالغة في اليأس من طمع المغفرة لهم. قال الضحاك ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم فأنزل الله سبحانه وتعالى سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم (ق) عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله يعني بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله عز وجل

[سورة التوبة (9): الآيات 83 إلى 85]

فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين قال إنه منافق فصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون زاد في رواية فترك الصلاة عليهم. وقوله سبحانه وتعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني أن هذا الفعل من الله وهو ترك العفو عنهم وترك المغفرة لهم من أجل أنهم اختاروا الكفر على الإيمان بالله ورسوله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني والله لا يوافق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله. قوله عز وجل: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ يعني فرح المتخلفون عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بمقعدهم يعني بقعودهم في المدينة خلاف رسول الله يعني بعده وعلى هذا المعنى خلاف بمعنى خلف فهو اسم للجهة المعينة لأن الإنسان إذا توجه إلى قدامه فمن تركه خلفه فقد تركه بعده وقيل معناه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى تبوك وأقاموا بالمدينة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أمرهم بالخروج إلى الجهاد فاختاروا القعود مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى: وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الخروج إلى الجهاد وذلك أن الإنسان يميل بطبعه إلى إيثار الراحة والقعود مع الأهل والولد ويكره إتلاف النفس والمال وهو قوله سبحانه وتعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر فأجاب الله عن هذا بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعني: قل يا محمد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر أن نار جهنم التي هي موعد في الآخرة أشد حرا من حر الدنيا لو كانوا يعلمون. قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف. فقال رجال: يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فقال الله عز وجل قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فأمره الله تعالى بالخروج فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا يعني فليضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحين قليلا في الدنيا الفانية بمقعدهم خلافه وَلْيَبْكُوا كَثِيراً يعني مكان ضحكهم في الدنيا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار والمعنى: أنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني إن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيثة في الدنيا (خ). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا» فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت». [سورة التوبة (9): الآيات 83 الى 85] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يعني فإن ردك الله يا محمد من غزاتك هذه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ

يعني إلى المتخلفين عنك وإنما قال منهم لأنه ليس كل من تخلف بالمدينة عن غزوة تبوك كان منافقا مثل أصحاب الأعذار فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يعني فاستأذنك المنافقون الذين تخلفوا عنك وتحقق نفاقهم في الخروج معك إلى غزوة أخرى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً يعني فقل يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج وهم مقيمون على نفاقهم لن تخرجوا معي أبدا لا إلى غزوة ولا إلى سفر وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ يعني لأنكم رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني أنكم رضيتم بالتخلف عن غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ يعني: مع المتخلفين من النساء والصبيان. وقيل: مع المرضى والزمنى. وقال ابن عباس: مع الذين تخلفوا بغير عذر. وقيل: مع المخالفين يقال صاحب خالف إذا كان مخالفا كثير الخلاف وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات. قوله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية، قال قتادة: بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه قال فنهاه عمر عن ذلك فأتاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أهلكك حب اليهود فقال يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه فأعطاه إياه واستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فكفنه في قميصه صلى الله عليه وسلم ونفث في جلده ودلاه في قبره فأنزل الله سبحانه وتعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره الآية (خ). عن عمر بن الخطاب: قال لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي بن سلول وقد قال يوم كذا كذا وكذا عدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إلى قوله وهم فاسقون قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم. وأخرجه الترمذي وزاد فيه فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله تعالى (ق) عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم. قال: وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان وقال أبو هارون: وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال له ابن عبد الله يا رسول الله ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك. قال سفيان: فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أليس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع وفي رواية عن جابر قال: لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. ((فصل)) قد وقع في هذه الأحاديث التي تتضمن قصة موت عبد الله بن أبي بن سلول المنافق صورة اختلاف في الروايات ففي حديث ابن عمر المتقدم، أنه لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه وصلى عليه وفي حديث عمر بن الخطاب من إفراد البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى له ليصلي عليه. وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه. قميصه ووجه الجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم

أعطاه قميصه فكفن فيه ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه فالظاهر والله أعلم أنه صلى عليه أولا كما في حديث عمر وابن عمر ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ثانيا بعد ما أدخل حفرته فأخرجه منها ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه لينفث عليه من ريقه ثم إنه صلى الله عليه وسلم ألبسه قميصه بيده الكريمة فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطيبا لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابيا مسلما صالحا مخلصا، وأما قول قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده في مرضه وأنه سأله أن يستغفر له وأن يعطيه قميصه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه واستغفر له وصلى عليه ونفث في جلده ودلاه في حفرته فهذه جمل من القول ظاهرها الترتيب وما المراد بهذا الترتيب إلا توفيقا بين الأحاديث فيكون قوله: ونفث في جلده ودلاه في قبره جملة منقطعة عما قبلها. يعني أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعد ما أعطاه القميص وبعد أن صلى عليه والله أعلم. وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم له أن عبد الله بن أبي بن سلول كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة غير أن الإسلام غلب عليه فنافق وكان رأسا في المنافقين وأعظمهم نفاقا وأشدهم كفرا وكان المنافقون كثيرا حتى لقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة وكان ولده عبد الله يعني ولد عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدرا وكان أبر الناس بأبيه ومع ذلك فقد قال يوما للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنك لتعلم أني من أبر الناس بأبي وإن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نعفو عنه وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه وعلى أن ينتفع من بركات النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولذلك لما مات أبوه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فينال من بركته فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه كل ذلك إكراما لابنه عبد الله وإسعافا له ولطلبته من قول عمر تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه يحتمل أن يكون قبل نزول ولا تصل على أحد منهم مات أبدا. ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون فهمه من سياق قوله: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وهذان التأويلان فيهما بعد. قال القرطبي: والذي يظهر لي، والله أعلم، أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقة هي أبين من هذه وليس فيها هذا اللفظ فقال عن ابن عباس عن عمر لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: وثبت إليه الحديث، إلى قوله فصلى عليه ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيرا حتى أنزلت عليه الآيتان من براءة. قال القرطبي: وهذا مساق حسن وتنزيل متقن ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم فهو الأولى وقوله صلى الله عليه وسلم: سأزيد على السبعين وعد بالزيادة وهو مخالف لما في حديث ابن عباس عن ابن عمر فإن فيه لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا فلذلك قال لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت فقد علم أنه لا يغفر له. وقوله صلى الله عليه وسلم: إني خيرت مشكل مع قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا وهو متقدم على الآية التي فيها التخيير والجواب عن هذا الإشكال أن المنهي عنه استغفاره لمن تحقق موته على الكفر والشرك. وأما استغفاره لأولئك المنافقين المخير فيهم فهو قد علم صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع وغايته وإن وقع كان تطييبا لقلوب الأحياء من قراباتهم فانفصل الاستغفار المنهي عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال بحمد الله والله أعلم. وقال الشيخ محيي الدين النووي: إنما أعطاه قميصه ليكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابيا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه وقيل بل أعطاه مكافأة لعبد الله بن أبي المنافق الميت لأنه ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا وفي الحديث بيان مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء له

وقابله بالحسنى وألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له قال الله سبحانه وتعالى وإنك لعلى خلق عظيم وقال البغوي: قال سفيان بن عيينة كانت له يد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحب أن يكافئه بها ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه. فيروى أنه أسلم ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ يعني لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره ولما نزلت هذه الآية ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق ولا قام على قبره وبعدها. فإن قلت: الفسق أدنى حالا من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافرا دخل تحته الفسق وغيره فما الفائدة في وصفه بكونه فاسقا بعد ما وصفه بالكفر قلت إن الكافر قد يكون عدلا في نفسه بأن يؤدي الأمانة ولا يضمر لأحد سوءا وقد يكون خبيثا في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير وهذا أمر مستقبح عند كل أحد ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة وصفهم الله سبحانه وتعالى بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر. قوله تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ الكلام على هذه الآية في مقامين المقام الأول في وجه التكرار والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل أولا وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بال ولا يغفل عنه ولا ينساه وأن يعتقد أن العمل به مهم وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه وهو أن أشد الأشياء جذبا للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى وبالجملة فالتكرير يراد به التأييد والمبالغة في التحذير من ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به وقيل أيضا إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوما من المنافقين كان لهم أموال وأولاد عند نزولها وبالآية الأخرى أقواما آخرين منهم المقام الثاني في وجه بيان ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك بالفاء وقال هنا ولا تعجبك بالواو والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله ولا ينفقون إلا وهم كارهون وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء في قوله فلا تعجبك وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بحرف الواو وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وأسقط حرف لا هنا قال سبحانه وتعالى وأولادهم والسبب فيه أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد وكان إعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى إنما يريد الله ليعذبهم بحرف اللام وقال سبحانه وتعالى هنا أن يعذبهم بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف اللام فمعناه أن كقوله سبحانه وتعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله ومعناه وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله وقال تبارك وتعالى في الآية الأولى في الحياة الدنيا وقال تعالى هنا في الدنيا والفائدة في إسقاط لفظة الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث أنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على كمال دنائتها فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

[سورة التوبة (9): الآيات 86 إلى 90]

[سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 90] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) قوله عز وجل: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يحتمل أن يراد بالسورة بعضها لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز ويحتمل أن يراد جميع السورة، فعلى هذا المراد بالسورة براءة لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان والأمر بالجهاد أَنْ أي بأن آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ. فإن قلت: كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين فهو من باب تحصيل الحاصل قلت: معناه الأمر بالدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل. وقيل: إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد في كل ساعة. وقيل: إن هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون والمعنى أن أخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلا فكأنه قيل للمنافقين: الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله أولا وتجاهدوا مع رسوله ثانيا حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة. وقوله سبحانه وتعالى: اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ قال ابن عباس: يعني أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال وقيل: هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم وفي تخصيص أولى الطول بالذكر قولان: أحدهما أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد. والقول الثاني: إنما خص أولي الطول بالذكر لأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان وَقالُوا يعني أولي الطول ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ يعني في البيوت مع النساء والصبيان وقيل مع المرضى والزمنى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قيل: الخوالف النساء اللواتي يتخلفن في البيوت فلا يخرجن منها، والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء وقيل: خوالف جمع خالفة وهم أدنياء الناس وسفلتهم يقال فلان خالفة قومه إذا كان دونهم وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ يعني: وختم على قلوب هؤلاء المنافقين فهم لا يفقهون مراد الله في الأمر بالجهاد. قوله سبحانه وتعالى: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم يعني الرسول والمؤمنين وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة وقيل الحور لقوله فيهن خيرات حسان وهي جمع خيرة تخفيف خيرة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطالب. قوله سبحانه وتعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية. قوله سبحانه وتعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ يعني وجاء المعتذرون من أعراب البوادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه في التخلف عن الغزو معه. قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرين إليه دفاعا عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم. وقيل: هم نفر من بني غفار رهط خفاف بن إيماء بن رحضة. وقيل: هم من أسد وغطفان. وقال ابن

[سورة التوبة (9): الآيات 91 إلى 93]

عباس هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء المعذرون: أي المقصرون. يعني: أنهم قصروا ولم يبالغوا فيما اعتذروا به والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له. وقيل: إن الأصل في هذا اللفظ عند النحاة المعتذرون أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما والاعتذار في كلام العرب على قسمين يقال اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى يعتذرون إليكم فرد الله عليهم بقوله قل لا تعتذروا فدل ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه ويقال اعتذر إذا أتى بعذر صحيح ومنه قول لبيد: ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر. يعني فقد جاء بعذر صحيح. وقيل: هو من التعذير الذي هو التقصير. يقال: عذر تعذيرا إذا قصر ولم يبالغ فعلى هذا المعنى، يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسرين من قال: إنهم كانوا صادقين، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعده وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دلّ ذلك على أنهم ليسوا كاذبين ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام، قال: إن قوما تكلفوا عذرا بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وجاء المعذرون وتخلف آخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جرأة على الله تعالى فهم المراد بقوله وقعد الذين كذبوا الله ورسوله وهم منافقو الأعراب الذين ما جاءوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله يعني في ادعائهم الإيمان سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال منهم لأنه سبحانه وتعالى علم أن منهم من سيؤمن ويخلص في إيمانه فاستثناهم الله من المنافقين الذين أصروا على الكفر والنفاق وماتوا عليه. [سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) قوله عز وجل لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد واعتذروا بأعذار باطلة عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقية الصحيحة وعذرهم وأخبر أن فرض الجهاد عنهم ساقط فقال سبحانه وتعالى: ليس على الضعفاء والضعيف هو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو وتحمل مشاق السفر والجهاد مثل الشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفا نحيفا ويدل على أن هؤلاء الأصناف هم الضعفاء أن الله سبحانه وتعالى عطف عليهم المرضى فقال سبحانه وتعالى: وَلا عَلَى الْمَرْضى والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فأما المرضى فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ يعني الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد، فلا يجدون الزاد والراحلة والسلاح ومؤنة السفر لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج أي إثم في التخلف عن الغزو. وقال الإمام فخر الدين الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم فإن ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطا معينا وقوله سبحانه وتعالى: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ

ومعناه: أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو وقاموا بمصالح بيوتهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وتابعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن جملة هذه الأمور تجري مجرى النصح لله ورسوله ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه والمعنى أنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه ويستنبط من قوله ما على المحسنين من سبيل أن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مخلصا من قلبه ليس عليه سبيل في نفسه وماله إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع رَحِيمٌ يعني: أنه تعالى رحيم بجميع عباده. قال قتادة: نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر ولما ذكر الله عز وجل هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين أتبعه بذكر قسم رابع وهو قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ يعني ولا حرج ولا إثم في التخلف عنك على الذين إذا ما أتوك لِتَحْمِلَهُمْ يعني يسألونك الحملان ليبلغوا إلى غزو عدوك وعدوهم والجهاد معك يا محمد. قال ابن إسحاق: نزلت في البكائين وكانوا سبعة. ونقل الطبري عن محمد بن كعب وغيره قالوا: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فأنزل الله هذه الآية وهم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف جرمي بن عمير ومن بني مازن ابن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ذلك ومن بني سلمة عمرو بن عنمة وعبد الله بن عمر المزني. وقال البغوي: هم سبعة نفر سموا البكائين معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل المزني. قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن الله عز وجل قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. وقال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة إخوة: معقل، وسويد، والنعمان بنو مقرن. وقيل: نزلت في العرباض بن سارية، ويحتمل أنها نزلت في كل ما ذكر. قال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب. وقيل: بل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما أحملكم عليه، فولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين. فذلك قوله سبحانه وتعالى: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ قال صاحب الكشاف: وكقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ومن البيان كقولك أفديك من رجل حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ يعني على أنفسهم في الجهاد إِنَّمَا السَّبِيلُ لما قال الله سبحانه وتعالى: ما على المحسنين من سبيل. قال تعالى في حق من يعتذر ولا عذر له إنما السبيل يعني إنما يتوجه الطريق بالعقوبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمد في التخلف عنك والجهاد معك وَهُمْ أَغْنِياءُ يعني قادرين على الخروج معك رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ يعني رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان والقعود معهم وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني ختم عليها فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو وأما في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.

[سورة التوبة (9): الآيات 94 إلى 98]

[سورة التوبة (9): الآيات 94 الى 98] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) قوله سبحانه وتعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ يعني يعتذر هؤلاء المنافقون المتخلفون عنك يا محمد إليك وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنهم اعتذروا إليه وإلى المؤمنين فلهذا قال تعالى يعتذرون إليكم يعني بالأعذار الباطلة الكاذبة إذا رجعتم إليهم يعني من سفركم قُلْ أي قل لهم يا محمد لا تَعْتَذِرُوا قال البغوي: روي أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين فقال الله تعالى قل لا تعتذروا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ يعني لن نصدقكم فيما اعتذرتم به قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ يعني قد أخبرنا الله فيما سلف من أخباركم وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ يعني في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه وقيل: يحتمل أنهم وعدوا بأن ينصروا المؤمنين في المستقبل فلهذا قال وسيرى الله عملكم ورسوله هل تفون بما قلتم أم لا ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ يعني فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لأنه هو المطلع على ما في ضمائركم في الخيانة والكذب وإخلاف الوعد. قوله عز وجل: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ يعني إذا رجعتم من سفركم إليهم يعني إلى المتخلفين بالمدينة من المنافقين لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ يعني لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم ولا توبخوهم بسبب تخلفهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ يعني فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق. وقيل: يريد ترك الكلام يعني لا تكلموهم ولا تجالسوهم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لا تجالسوهم ولا تكلموهم قال أهل المعاني إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال تعالى: إِنَّهُمْ رِجْسٌ يعني أن بواطنهم خبيثة نجسة وأعمالهم قبيحة وَمَأْواهُمْ يعني مسكنهم في الآخرة جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني من الأعمال الخبيثة في الدنيا. قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي: صلى الله عليه وسلم لا تجالسوهم ولا تكلموهم. وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لا إله إلا هو أنه لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله عز وجل هذه الآية والتي بعدها يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ يعني: يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ يعني فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا لكم وقبلتم عذرهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم أبدا. وقوله سبحانه وتعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً نزلت في سكان البادية يعني أن أهل البدو أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر. قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. ورجل أعرابي إذا كان بدويا يطلب مساقط الغيث والكلأ. ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فمن استوطن القرى والمدن العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم الأعراب، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك. والعربي إذا قيل له: يا أعرابي غضب والعرب أفضل من الأعراب، لأن المهاجرين والأنصار وعلماء الدين من العرب.

[سورة التوبة (9): الآيات 99 إلى 100]

والسبب في كون الأعراب أشد كفرا ونفاقا بعدهم عن مجالسة العلماء وسماع القرآن والسنن والمواعظ وهو قوله سبحانه وتعالى وَأَجْدَرُ يعني وأخلق وأحرى أَلَّا يَعْلَمُوا يعني بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يعني الفرائض والسنن والأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بما في قلوب عباده حَكِيمٌ فيما فرض من فرائضه وأحكامه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً يعني لا يرجو على إنفاقه ثوابا ولا يخاف على إمساكه عقابا إنما ينفق خوفا أو رياء. والمغرم: التزام ما لا يلزم. والمعنى: أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة لأنه لا ينفق ذلك إلا خوفا من المسلمين أو مرآة لهم ولم يرد بذلك الإنفاق وجه الله وثوابه وَيَتَرَبَّصُ يعني: وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني بالدوائر تقلب الزمان وصروفه التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر. قال يمان بن رباب: يعني تقلب الزمان فيموت الرسول وتظهر المشركون عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني: بل يتقلب عليهم الزمان ويدور السوء والبلاء والحزن بهم ولا يرون في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودينه إلا ما يسوءهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالهم عَلِيمٌ يعني بما يخفون في ضمائرهم من النفاق والغش وإرادة السوء للمؤمنين نزلت هذه الآية في أعراب أسد وغطفان وتميم ثم استثنى الله عز وجل فقال تبارك وتعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 99 الى 100] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبي: هم أسلم وغفار وجهينة (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرا من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة فقال رجل: خابوا وخسروا. قال: نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة». وفي رواية «أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما تابعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال وجهينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال: وجهينة خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان قال خابوا وخسروا قال نعم» (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها» زاد مسلم في رواية له: أما إني لم أقلها لكن الله قالها (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله» وقوله سبحانه وتعالى: وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ جمع قربة أي يطلب بما ينفق القربة إلى الله تعالى: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ يعني ويرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبي أوفى» أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ يحتمل أن يعود الضمير في إنها إلى صلوات الرسول ويحتمل أن يعود إلى الإنفاق وكلاهما قربة لهم عند الله وهذه شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات عند الله وصلوات الرسول له مقبولة عند الله لأن الله سبحانه وتعالى أكد ذلك بحرف التنبيه وهو قوله تعالى ألا وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى إنها قربة لهم سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وهذه النعمة هي أقصى مرادهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمؤمنين المنفقين في سبيله رَحِيمٌ يعني بهم حيث وفقهم لهذه الطاعة.

قوله سبحانه وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ اختلف العلماء في السابقين الأولين فقال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر. وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وقال محمد بن كعب القرظي هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حميد بن زياد: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم وأردت الفتن فقال: إن الله قد غفر لجميعهم محسنهم ومسيئهم وأوجب لهم الجنة في كتابه فقلت له في أي موضع أوجب لهم الجنة فقال سبحان الله ألا تقرأ والسابقون الأولون إلى آخر الآية فأوجب الله الجنة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زاد في رواية في قوله والذين اتبعوهم بإحسان قال شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أعمالهم الحسنة دون السيئة. قال حميد: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط. واختلف العلماء في أول الناس إسلاما بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاما وأول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض العلماء أول من آمن بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر بن عبد الله ثم اختلفوا في سنة وقت إسلامه فقيل: كان ابن عشر سنين. وقيل: أقل من ذلك. قيل: أكثر. وقيل: كان بالغا. والصحيح، أنه لم يكن بالغا وقت إسلامه. وقال بعضهم: أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير: أول من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن العبيد زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام. قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا الناس إلى الله ورسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلمها بما كان فيها وكان رجلا تاجرا وكان ذا خلق حسن ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا على يده وصلوا معه فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق الناس إلى الإسلام ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول إلى الإسلام وأما السابقون من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي العقبة الأولى وكانوا ستة نفر «1» أسعد بن زرارة وعوف بن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر وجابر بن عبد الله بن رباب ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلا ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلا منهم البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة فهؤلاء سباق الأنصار ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلمهم القرآن فأسلم على يده خلق كثير من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة وذلك قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقيل: إن المراد بالسابقين الأولين من سبق إلى الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أن الله سبحانه وتعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين بماذا سبقوا فبقي اللفظ مجملا فلما قال تعالى من المهاجرين والأنصار ووصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا وجب صرف اللفظ المجمل إليه وهو الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أيضا أن الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية من حيث إن الهجرة أمر شاق على النفس لمفارقة الوطن والعشيرة وكذلك النصرة فإنها مرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله عز وجل عليهم ومدحهم فقال سبحانه وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.

_ (1) قوله ستة نفر المعدود هنا خمسة والسادس عقبة بن عامر كما في المواهب.

[سورة التوبة (9): آية 101]

قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين فعلى هذا القول، يكون الجميع من الصحابة. وقيل: هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة وقال عطاء هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار فيترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم (ق) عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا وفي رواية أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». أراد بالقرن في الحديث الأول أصحابه. والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضا واختلفوا في مدته من الزمان. فقيل: من عشر سنين إلى عشرين. وقيل: من مائة إلى مائة وعشرين سنة. والمد: المذكور في الحديث الثاني هو ربع صاع. والنصيف: نصفه. والمعنى: لو أن أحدا عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في سبيل الله ما بلغ هذا القدر اليسير التافه من أعمال الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة. وقوله سبحانه وتعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يعني رضي الله عن أعمالهم ورضوا عنه بما جازاهم عليها من الثواب وهذا اللفظ عام يدخل فيه كل الصحابة وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ذكر جماعة من المفسرين المتأخرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي أنهم من أعراب مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم وكانت منازلهم حول المدينة ويعني ومن هؤلاء الأعراب منافقون وما ذكروه مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهؤلاء القبائل ومدحهم فإن صح نقل المفسرين فيحمل قوله سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ على القليل لأن لفظة من للتبعيض ويحمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم على الأكثر والأغلب وبهذا يمكن الجمع بين قول المفسرين ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وأما الطبري، فإنه أطلق القول ولم يعين أحدا من القبائل المذكورة بل قال في تفسير هذه الآية: من القوم الذين حول مدينتكم أيها المؤمنون من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون وقال البغوي: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ من الأوس والخزرج منافقون مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ فيه تقديم وتأخير تقديره وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق يعني مرنوا عليه يقال تمرد فلان على ربه إذا عتا وتجبر ومنه الشيطان المارد وتمرد في معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ولم يتب منها قال ابن إسحاق: لجوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه ولم يتوبوا منه لا تَعْلَمُهُمْ يعني أنهم بلغوا في النفاق إلى حيث أنك لا تعلمهم يا محمد مع صفاء خاطرك واطلاعك على الأسرار نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ يعني لكن نحن نعلمهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اختلف المفسرون في العذاب الأول مع اتفاقهم على العذاب الثاني هو عذاب القبر بدليل قوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار في الآخرة فثبت بهذا أنه سبحانه وتعالى يعذب المنافقين ثلاث مرات مرة في الدنيا ومرة في القبر ومرة في الآخرة أما المرة الأولى وهي التي اختلفوا فيها فقال الكلبي والسدي «قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في يوم جمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج من المسجد أناسا وفضحهم» فهذا هو العذاب الأول. والثاني: هو عذاب القبر فإن صح هذا القول فيحتمل أن يكون بعد أن أعلمه الله حالهم وسماهم له لأن الله

[سورة التوبة (9): آية 102]

سبحانه وتعالى قال لا تعلمهم نحن نعلمهم ثم بعد ذلك أعلمه بهم. وقال مجاهد: هذا العذاب الأول هو القتل والسبي وهذا القول ضعيف، لأن أحكام الإسلام في الظاهر كانت جارية على المنافقين فلم يقتلوا ولم يسبوا وعن مجاهد رواية أخرى أنهم عذبوا بالجوع مرتين. وقال قتادة: المرة الأولى هي الدبيلة في الدنيا وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها خراج من نار تظهر في أكتافهم حتى تنجم من صدورهم يعني تخرج من صدورهم. وقال ابن زيد: الأولى هي المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن عباس: الأولى إقامة الحدود عليهم في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن إسحاق: الأولى هي ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه كرها غير حسبة والأخرى عذاب القبر. وقيل: إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر. وقيل: الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنم وهو قوله سبحانه وتعالى: ثم يردون إلى عذاب جهنم يخلدون فيه. [سورة التوبة (9): آية 102] وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) قوله عز وجل: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان: أحدهما: أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن قوله تعالى وآخرون عطف على قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري. عن ابن عباس أنه قال: هم الأعراب. والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك. واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة. وقيل: كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء؟ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية. وقال قوم: نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية. وقال: والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحله بيده فقال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة. قالوا جميعا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال: خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم. لأن لفظة «من» تقتضي التبعيض. وقال الحسن وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.

[سورة التوبة (9): آية 103]

أما تفسير الآية: فقوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني: الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا. فإن قلت: الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا؟ قلت: مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة. وقوله سبحانه وتعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً قيل: أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك. وقيل: إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصا بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم. فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطا فما المخلوط به. قلت: إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملا صالحا بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي. وقال: اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معا بقي كل واحد منهما على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب فقوله سبحانه وتعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع المطلق. وقال الواحدي: العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيدا وعمرا. والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط. ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيء كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما وقوله سبحانه وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: عسى من الله واجب والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح وقد فعل ذلك. وقال أهل المعاني: لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال. وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا يفيد إنجاز الوعد قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): آية 103] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها. قال ابن عباس: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه انطلق أبو لبابة وصاحبه فأتوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خذ أموالنا وتصدق بها عنا وصل علينا يريدون

استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آخذ شيئا منها حتى أومر به، فأنزل الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية، وهذا قول زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. ثم اختلف العلماء في المراد بهذه الصدقة فقال بعضهم: هو راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك أنهم بذلوا أموالهم صدقة فأوجب الله سبحانه وتعالى أخذها وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم لتكون جارية مجرى الكفارة. وأصحاب هذا القول يقولون ليس المراد بها الصدقة الواجبة. وقال بعضهم: إن الزكاة كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منهم وقال بعضهم إن الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء وهذا قول أكثر الفقهاء واستدلوا بها على إيجاب أخذ الزكاة. أما حجة أصحاب القول الأول، فإنهم قالوا: إن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسبة فلو حملناها على أخذ الزكاة الواجبة، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها، ولأن جمهور المفسرين ذكروا في سبب نزولها أنها نزلت في شأن التائبين وأما أصحاب القول الأخير فإنهم قالوا: المناسبة حاصلة أيضا على هذا التقدير وذلك أنهم لما تابوا وأخلصوا وأقروا أن السبب الموجب للتخلف وحب المال أمروا بإخراج الزكاة التي هي طهرة فلما أخرجوها علمت صحة قولهم وصحة توبتهم. ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فإن قالوا: إن الزكاة قدر معلوم لا يبلغ ثلث المال وقد أخذ منهم ثلث أموالهم قلنا: لا يمنع هذا صحة ما قلناه لأنهم رضوا ببذل الثلث من أموالهم فلأن يكونوا راضين بإخراج الزكاة أولى. ثم في هذه الآية أحكام: الأول قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً، الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم أي خذ يا محمد من أموالهم صدقة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذها منهم أيام حياته ثم أخذها من بعده الأئمة فيجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويدفعها إلى الفقراء. الحكم الثاني: قوله من أموالهم، ولفظة «من» تقتضي التبعيض وهذا البعض المأخوذ غير معلوم ولا مقدر بنص القرآن فلم يبق إلا الصدقة التي بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وصفتها في أخذ الزكاة. الحكم الثالث: ظاهر قوله خذ من أموالهم صدقة يفيد العموم فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون وفي مال الركاز. الحكم الرابع: ظاهر قوله تطهرهم، أن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي وهذا قول أبي حنيفة ثم أجاب أصحاب الشافعي: بأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا. وللعلماء في قوله سبحانه وتعالى تطهرهم أقوال: الأول: أن معناه خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بأخذها من دنس الآثام. القول الثاني: أن يكون تطهرهم متعلقا بالصدقة تقديره خذ من أموالهم صدقة فإنها طهرة لهم وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة من أوساخ الناس فإذا أخذ الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ وكان ذلك الاندفاع جاريا مجرى التطهير: فعلى هذا القول يكون قوله سبحانه وتعالى وتزكيهم بها متقطعا عن قوله تطهرهم ويكون التقدير: خذ يا محمد من أموالهم صدقة تطهرهم تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها. القول الثالث: أن تجعل التاء في قوله تطهرهم وتزكيهم ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت يا محمد بأخذها منهم وتزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة. القول الرابع: أن معناه تطهرهم من ذنوبهم وتزكيهم يعني ترفع منازلهم عن منازل المنافقين إلى منازل

[سورة التوبة (9): الآيات 104 إلى 106]

الأبرار المخلصين وقيل معنى وتزكيهم أي تنمي أموالهم ببركة أخذها منهم. الحكم الخامس: قوله سبحانه وتعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يعني ادع لهم واستغفر لهم لأن أصل الصلاة في اللغة الدعاء. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم: يجب على الإمام أن يدعو للمتصدق. وقال بعضهم: يستحب ذلك. وقيل: يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع. وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. وقال بعضهم: يستحب أن يقول اللهم صلّ على فلان. ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلّ عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» أخرجاه في الصحيحين. وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ صَلاتَكَ وقرئ: صلواتك على الجمع سَكَنٌ لَهُمْ يعني إن دعاءك رحمة لهم. وقال ابن عباس: طمأنينة لهم. وقيل: إن الله قد قبل منهم. وقال أبو عبيدة: تثبيت لقلوبهم. وقيل: إن السكن ما سكنت إليه النفس والمعنى إن صلواتك توجب سكون نفوسهم إليها والمعنى أن الله قد قبل توبتهم أو قبل زكاتهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالهم أو لدعائك لهم عَلِيمٌ يعني بنياتهم. [سورة التوبة (9): الآيات 104 الى 106] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر الله عز وجل هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن الله تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة. وقيل: إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل الله هذه الآية ترغيبا لهم في التوبة. وقوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل: لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذ لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك. وقيل: بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيرا بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها وقوله سبحانه وتعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيبا في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء وقيل معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها. ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها، أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخذ لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله تعالى يقبلها من عبده المتصدق (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم. وفي البخاري: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب». وفي رواية: «ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرجه الترمذي ولفظه: «إن الله سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا

[سورة التوبة (9): آية 107]

أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربى الصدقات. وقوله: من كسب طيب. أي: حلال. وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن الله سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي، لأن من عادة الفقير أو السائل، أخذ الصدقة بكفه اليمين، فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة. وقوله: فتربو أي تكبر. يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر. والفلو: بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها. وقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد لقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم. قوله عز وجل: وَقُلِ أي: قل يا محمد لهؤلاء التائبين اعْمَلُوا يعني لله بطاعته وأداء فرائضه فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ يعني ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أعمالكم أيضا. أما رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطلاع الله إياه على أعمالكم. وأما رؤية المؤمنين، فبما يقذف الله عز وجل في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني: وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم فَيُنَبِّئُكُمْ أي فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم. قوله سبحانه وتعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أي مؤخرون والإرجاء التأخير لِأَمْرِ اللَّهِ يعني لحكم الله فيهم قال بعضهم إن الله سبحانه وتعالى قسم المتخلفين على ثلاثة أقسام: أولهم: المنافقون وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه. والقسم الثاني: التائبون وهم الذين سارعوا إلى التوبة بعد ما اعترفوا بذنوبهم وهم أبو لبابة وأصحابه فقبل الله توبتهم. والقسم الثالث: موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم الله تعالى فيهم وهم المراد بقوله: وآخرون مرجون لأمر الله. والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث، أن القسم الثاني سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم، والقسم الثالث توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة فأخر الله أمرهم. نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وستأتي قصتهم عند قوله تعالى: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وذلك أنهم لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن كلامهم وكانوا من أهل بدر، فجعل بعض الناس يقول هلكوا وبعضهم يقول: عسى الله أن يتوب عليهم ويغفر لهم وهو قوله سبحانه وتعالى: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ يعني أن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم بسبب تخلفهم وإن شاء غفر لهم وعفا عنهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بما في قلوبهم حَكِيمٌ يعني بما يقضي عليهم. [سورة التوبة (9): آية 107] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا

يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضرارا يعني مضارة للمؤمنين وكفرا يعني ليكفروا فيه بالله ورسوله وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شابا يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا فيه. وقوله سبحانه وتعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصادا يعني انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: جئت بالحنيفية دين إبراهيم. فقال أبو عامر: فأنا عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها. قال أبو عامر: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين وسماه الناس: أبا عامر الفاسق. فلما كان يوم أحد، قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن، يئس أبو عامر وخرج هاربا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك وقوله: سبحانه وتعالى: وَإِرْصاداً يعني انتظارا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب الله ورسوله من قبل مسجد الضرار وَلَيَحْلِفُنَّ يعني الذين بنوا المسجد إِنْ أَرَدْنا يعني ما أردنا ببنائه إِلَّا الْحُسْنى يعني إلا الفعلة الحسنى وهي: الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قيلهم وحلفهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من تبوك راجعا نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية وأخبره خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار، فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة. مات أبو عامر الراهب بالشام غريبا وحيدا. وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم. فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما

[سورة التوبة (9): آية 108]

أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر وقوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): آية 108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً قال ابن عباس: معناه لا تصلّ فيه أبدا منع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى اللام فيه لام الابتداء. وقيل: لام القسم تقديره والله مسجد أسس يعني بني أصله ووضع أساسه على التقوى يعني على تقوى الله عز وجل مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يعني من أول يوم بني ووضع أساسه كان ذلك البناء على التقوى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يعني مصليا واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مسجد المدينة ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله أي المسجدين أسس على التقوى؟ قال فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» أخرجه مسلم (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» (ق) عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أخرجه النسائي قوله رواتب يعني: ثوابت. يقال: رتب بالمكان إذا قام فيه وثبت. وفي رواية عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أنه مسجد قباء ويدل عليه سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ويدل على أنهم أهل قباء ما روي عن أبي هريرة «قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث غريب. هكذا ذكره صاحب جامع الأصول من رواية أبي داود والترمذي موقوفا على أبي هريرة ورواه البغوي من طريق أبي داود مرفوعا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ومما يدل على فضل مسجد قباء ما روي عن ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء أو يأتي قباء راكبا وماشيا» زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا وكان ابن عمر يفعله» أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم وأخرج الرواية الثانية البخاري عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة» أخرجه النسائي عن أسد بن ظهير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة» أخرجه الترمذي. وقوله سبحانه وتعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا يعني من الأحداث والجنابات وسائر النجاسات وهذا قول أكثر المفسرين. قال عطاء: ولما كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة وروى الطبري بسنده عن عويمر بن ساعدة وكان من أهل بدر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء «إني أسمع الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور» قالوا: يا رسول الله ما نعمل شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود

[سورة التوبة (9): آية 109]

رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء «إن الله سبحانه وتعالى قد أحسن عليكم بالثناء في الطهور فما تصنعون؟ قالوا: إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول» وقال الإمام فخر الدين الرازي: المراد من هذه الطهارة الطهارة من الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه: الأول: أن التطهر من الذنوب هو المؤثر في القرب من الله عز وجل واستحقاق ثوابه ومدحه. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والتفريق بينهم والكفر بالله وكون هؤلاء يعني أهل قباء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا لكونهم مبرئين من الكفر والمعاصي وهي الطهارة الباطنية. الوجه الثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي وقيل يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين يعني طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة. [سورة التوبة (9): آية 109] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) قوله سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ يعني طلب ببنائه المسجد الذي بناه تقوى الله ورضاه. والمعنى: أن الباني لما بنى ذلك البناء كان قصده تقوى الله وطلب رضاه وثوابه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ الشفا: هو الشفير وشفا كل شيء حرفه ومنه يقال: أشفى على كذا إذا دنا منه وقرب أن يقع فيه. والجرف: المكان الذي أكل الماء تحته فهو إلى السقوط قريب وقال أبو عبيد: الجرف هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينحفر بالماء فيبقى واهيا هار أي هائر وهو الساقط فهو من هار يهور فهو هائر وقيل: هو من هاريها إذا تهدم وسقط وهو الذي تداعى بعضه في أثر بعض كما يهار الرمل والشيء الرخو فَانْهارَ بِهِ يعني سقط بالباني فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ والمعنى أن بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهله فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمسجدين مسجد الضرار ومسجد التقوى مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى المثل: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أم من أسس دينه على أضعف القواعد وأقلها بقاء وثباتا وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل بناء على غير أساس ثابت وهو شفا جرف هار وإذا كان كذلك كان أسرع إلى السقوط في نار جهنم ولأن الباني الأول قصد ببنائه تقوى الله ورضوانه فكان بناؤه أشرف البناء، والباني الثاني قصد ببنائه الكفر والنفاق وإضرار المسلمين فكان بناؤه أخسّ البناء وكانت عاقبته إلى نار جهنم. قال ابن عباس: صيرهم نفاقهم إلى النار. وقال قتادة: والله ما تناهى بناؤهم حتى وقع في النار ولقد ذكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي الدخان يخرج منها. وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.

[سورة التوبة (9): الآيات 110 إلى 111]

[سورة التوبة (9): الآيات 110 الى 111] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً يعني شكا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ والمعنى: أن ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم، لأن المنافقين فرحوا ببناء مسجدهم، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم وازدادوا غما وحزنا وبغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان سبب الريبة في قلوبهم. وقيل: إنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه كما حبب العجل إلى بني إسرائيل فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخريبه، بقوا شاكّين مرتابين لأي سبب أمر بتخريبه. وقال السدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي حرارة وغيظا في قلوبهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي تجعل قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالموت. والمعنى: أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا عليها وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني بأحوالهم وأحوال جميع عباده حَكِيمٌ يعني فيما حكم به عليهم. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الآية قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ قال ابن عباس: بالجنة. قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئا هو له في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والأشياء كلها ملك الله عز وجل، ولهذا قال الحسن: أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد، وذلك لأن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل أو أنفق ماله في سبيل الله عوّضه الله الجنة في الآخرة جزاء لما فعل في الدنيا فجعل ذلك استبدالا واشتراء فهذا معنى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة والمراد باشتراء الأموال إنفاقها في سبيل الله وفي جميع وجوه البر والطاعة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا تفسير لتلك المبايعة. وقيل: فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيل الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ يعني: فيقتلون أعداء الله ويقتلون في طاعته وسبيله وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يعني ذلك الوعد بأن لهم الجنة وعدا على الله حقا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ يعني أن هذا الوعد الذي وعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن وفيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ يعني لا أحد أوفى بالعهد من الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فاستبشروا أيها المؤمنون بهذا البيع الذي بايعتم الله به وَذلِكَ يعني هذا البيع هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه رابح في الآخرة. قال عمر بن الخطاب: إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن وعنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها. وقال قتادة: ثامنهم فأغلى لهم. [سورة التوبة (9): الآيات 112 الى 113] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) قوله سبحانه وتعالى: التَّائِبُونَ قال الفراء: استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.

وقال الزجاج: التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر. والمعنى: التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين. كما قال تعالى: وكلا وعد الله الحسنى ومن جعله تابعا للأول، كان الوعد بالجنة خاصا بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله: إن الله اشترى. وأما التفسير: فقوله سبحانه وتعالى التائبون يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق. وقيل: التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق. وقيل: التائبون من جميع المعاصي، لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة: أولها احتراق القلب عند صدور المعصية، وثانيها الندم على فعلها فيما مضى، وثالثها العزم على تركها في المستقبل، ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان الله وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته. الْعابِدُونَ يعني المطيعين لله الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم لله تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة لله تعالى: الْحامِدُونَ يعني الذين يحمدون الله تعالى على كل حال في السراء والضراء. روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء. وقيل: هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى السَّائِحُونَ قال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون. قال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال الأزهري: قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه فكان ممسكا عن الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل. وقيل: أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء: السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ويدل عليه ما روي عن عثمان بن مظعون قال قلت يا رسول الله ائذن لي في السياحة. فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ذكره البغوي بغير سند. وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعا من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود، لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني يأمرون الناس بالإيمان بالله وحده وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك بالله. وقيل: إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى الله عباده عنه أو نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسن: أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله سبحانه وتعالى: وثامنهم كلبهم وقوله تعالى في صفة الجنة: وفتحت أبوابها. وقيل: فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فعلى هذا يكون قوله تعالى التائبون إلى قوله الساجدون مبتدأ خبره الآمرون يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال ابن عباس: يعني القائمين بطاعة الله وقال الحسن: الحافظون لفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله. وقيل: هم المؤدون فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئا من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهيا نهاهم عنه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم الله به

إذا وفوا الله تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة. وقيل: وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو قوله تعالى التائبون إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز. قوله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى الآية واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية فقال قوم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والد علي وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته فنهاه الله عن ذلك ويدل على ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن «قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قالوا: أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» أخرجاه في الصحيحين. فإن قلت قد استبعد بعض العلماء نزول هذه الآية في شأن أبي طالب وذلك أن وفاته كانت بمكة أول الإسلام ونزول هذه السورة بالمدينة وهي من آخر القرآن نزولا. «قلت الذي نزل في أبي طالب قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» كما في الحديث فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية فمنع من الاستغفار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (م). عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل الله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» الآية وفي رواية قال: «لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله» الآية» (ق). «عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه طالب فقال «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلى منه أم دماغه» وفي رواية: «يغلى منه دماغه من حرارة نعليه» (ق) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال: هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» وفي رواية قال قلت يا رسول الله إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال «نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح» وقال أبو هريرة وبريدة «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية وروى الطبري بسنده عن بريدة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قال وأكثر ظني أنه قال قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا: يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يؤذن لي فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ». وحكى ابن الجوزي «عن بريدة قال إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أمه فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا: ما أبكاك؟ قال: مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها فزجرت زجرا فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى» الآية (ق) «عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت

[سورة التوبة (9): آية 114]

ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت» وقال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله هذه الآية وروى الطبري بسنده عنه قال: «ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية ثم عذر الله إبراهيم فقال تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخرجه النسائي والترمذي. وقال: حديث حسن وأخرجه الطبري. وقال فيه: فأنزل الله عز وجل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه الآية ومعنى الآية ما كان ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله ففيه النهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام فيستوي فيه القريب والبعيد ثم ذكر عز وجل سبب المنع فقال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعني تبين لهم أنهم ماتوا على الشرك فهم من أصحاب الجحيم وأيضا فقد قال تبارك وتعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به والله تعالى لا يخلف وعده أما قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): آية 114] وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فمعناه وما كان طلب إبراهيم لأبيه المغفرة من الله إلا من أجل موعدة وعدها إبراهيم إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «لما أنزل الله خبرا عن إبراهيم» أنه قال سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك» يعني أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار لأنه إنما استغفر لأبيه وهو مشرك لمكان الوعد الذي وعده أن يسلم فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ فعلى هذا الهاء في إياه راجعة إلى إبراهيم والوعد كان من أبيه وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يسلم فقال إبراهيم: سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت. وقيل: إن الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. ويؤكد هذا قوله: سأستغفر لك ربي ويدل عليه أيضا قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه يعني: فلما ظهر لإبراهيم وبان له أن أباه عدو لله يعني بموته على الكفر تبرأ منه عند ذلك وقيل يحتمل أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن أباه عدو له فتبرأ منه وقيل لما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» أخرجه البخاري زاد غيره فتبرأ منه والقترة غبرة يعلوها سواد والذيخ بذال معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم خاء معجمة هو ذكر الضباع والأنثى ذيخة.

[سورة التوبة (9): آية 115]

وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع. وقال ابن مسعود: الأواه الكثير الدعاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المؤمن التواب، وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد: الأواه الموقن وقال كعب الأحبار: هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله عز وجل وقال سعيد بن جبير هو المسبح وعنه أنه المعلم للخير. وقال عطاء: هو الراجع عما يكره الله الخائف من النار. وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع إيقانا ولزوما للطاعة. وقال الزجاج: انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت تنفس الصعداء والفعل منه أوه هو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن تحمي الروح داخل القلب ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخف بعض ما به من الحزن والشدة وأما الحليم: فمعناه ظاهر وهو الصفوح عمن سبه أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم بأبهى حين قال لئن لم تنته لأرجمنك، فأجابه إبراهيم بقوله سلام عليك سأستغفر لك ربي. وقال ابن عباس: الحليم: السيد، وإنما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذين الوصفين وهما شدة الرقة والخوف الوجل والشفقة على عباد الله ليبين سبحانه وتعالى أنه مع هذه الصفات الجميلة الحميدة تبرأ من أبيه لما ظهر له إصراره على الكفر فاقتدوا به أنتم في هذه الحالة أيضا. [سورة التوبة (9): آية 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) وقوله سبحانه وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني: وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله وذلك أنه لما منع المؤمنين من الاستغفار للمشركين وكانوا قد استغفروا لهم قبل المنع خافوا ما صدر منهم فأعلمهم أن ذلك ليس بضائرهم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ يعني ما يأتون وما يذرون وهو أن يقدم إليهم النهي عن ذلك الفعل فأما قبل النهي فلا حرج عليهم في فعله وقيل: إن جماعة من المسلمين كانوا قد ماتوا قبل النهي عن الاستغفار للمشركين فلما منعوا من ذلك وقع في قلوب المؤمنين خوف على من مات على ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية وبين أنه لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه ويتركوه. وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة. وقال الضحاك: وما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. وقال مقاتل والكلبي: هذا في أمر المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ورجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة إلى الكعبة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا بعد ذلك إلى المدينة فوجودا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت إلى الكعبة فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله عز وجل: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم وقد عملوا بالمنسوخ حتى بين الناسخ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه سبحانه وتعالى عليم بما خالط نفوسكم من الخوف عند ما نهاكم عن الاستغفار للمشركين ويعلم ما يبين لكم من أوامره ونواهيه.

[سورة التوبة (9): الآيات 116 إلى 117]

[سورة التوبة (9): الآيات 116 الى 117] إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى هو القادر على ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه يحكم فيهم بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ يعني أنه تعالى يحيي من يشاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من يشاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني أنه تعالى هو وليكم وناصركم ليس لكم غيره يمنعكم من عدوكم وينصركم عليهم. قوله عز وجل: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الآية تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم: عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وقال أصحاب المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى فأن لله خمسه. ومعنى هذا: أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له. وأما معنى: توبة الله على المهاجرين والأنصار، فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية. وقيل: إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر الله لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ضم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة: منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله قال أتحب ذلك قال: نعم فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل. وقيل: همّ بعضهم أن يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم عند تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى: ثُمَّ تابَ

[سورة التوبة (9): الآيات 118 إلى 120]

عَلَيْهِمْ يعني أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة. فإن قلت قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟ قلت إنه سبحانه وتعالى ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيما لشأنهم وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ثم أتبعه بقوله إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تأكيدا لذلك ومعنى الرؤوف في صفة الله تعالى أنه الرفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى. قال الخطابي: قد تكون الرحمة مع الكراهة للمصلحة ولا تكاد الرأفة تكون مع الكراهة. [سورة التوبة (9): الآيات 118 الى 120] وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا هذا معطوف على ما قبله تقديره لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا وفائدة هذا العطف بين قبول توبتهم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وهم المرادون بقوله سبحانه وتعالى وآخرون مرجون لأمر الله وفي معنى خلفوا قولان: أحدهما أنهم خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وذلك أنهم لم يخضعوا كما خضع أبو لبابة وأصحابه فتاب الله على أبي لبابة وأصحابه وأخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب عليهم بعد ذلك والقول الثاني أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يخرجوا مع رسول الله فيها وأما حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، فقد روي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت كعب بن مالك بن عبد الله بن مالك بن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حتى تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حين جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع

ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا مما عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو كذلك، رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفره بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك قال قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، وفي رواية عفو الله عز وجل، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد معي قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدرا ففيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال: فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله مارد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل عليّ كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك قال: فقلت حين قرأتها وهذه أيضا

من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خدام فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء وو الله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا. قال ثم صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج قال وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلا رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك منه قال فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول الله إن الله إن أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله، والله ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عز وجل لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ أنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب: والله ما أنعم الله عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله سبحانه وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه فبذلك قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه وفي رواية ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر فما

من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي ولا يسلم علي قال: وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة. وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره قال: إذا يحطمكم الناغس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا أخرجه البخاري ومسلم. (شرح غريب هذا الحديث) .. قوله حين تواثقنا على الإسلام: التواثق تفاعل من الميثاق وهو العهد. والراحلة: الجمل أو الناقة القويان على الحمل والسفر. وقوله: ورى بغيرها يقال: ورى عن الشيء إذا أخفاه وأظهره غيره. والمفازة: البرية القفراء سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والنجاة منها قوله فجلا هو بالتخفيف يعني كشف لهم مقصدهم وأظهره لهم والأهبة الجهاز وما يحتاج إليه المسافر قوله فأنا إليها صعر هو بالعين المهملة أي أميل والصعر الميل. قوله: وتفارط الغزو أي تباعد ما بيني وبين الجيش من المسافة وطفق مثل جعل والمغموص المعيب المشار إليه بالعيب. يقال: فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجبا بنفسه ويقال: زال به السراب يزول إذا ظهر شخص الإنسان خيالا فيه من بعد. والسراب: هو ما يظهر للإنسان في البرية في وقت الهاجرة كأنه ماء والمبيض بكسر الياء لابس البياض. قوله: كن أبا خيثمة معناه أنت أبو خيثمة وقيل معناه: اللهم اجعله أبا خيثمة أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قوله الذي لمزه المنافقون يعني عابوه واحتقروه والقافل الراجع من سفره إلى وطنه قوله حضرني بثني البث أشد الحزن كأنه لشدته يظهر قوله زاح عني الباطل أي زال وذهب عني وأجمعت صدقه أي عزمت عليه لقد أعطيت جدلا أي فصاحة وقوة في الكلام بحيث أخرج عن عهدة ما أردت بما أشاء من الكلام والمغضب بفتح الضاد هو الغضبان قوله فما زالوا يؤنبونني أي يلومونني أشد اللوم قوله حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي أعرف: معناه تغير علي كل شيء من الأرض وتوحشت عليّ وصارت كأنها أرض لا أعرفها وقوله فأما صاحباي فاستكانا يعني خضعا وسكنا قوله تسورت حائط أبي قتادة أي علوته وصعدت سوره وهو أعلاه والأنباط الفلاحون والزراعون وهم من العجم والروم والمضيعة مفعلة من الضياع والأطراح، وقوله فتيممت بها التنور فسجرته بها أي فقصدت بالصحيفة التي أرسل بها ملك غسان فأحرقتها في التنور وسلع جبل بالمدينة معروف وقوله وانطلقت أتأمم يعني أقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفوج: الجماعة من الناس. يقال: برق وجهه إذا لمع وظهر عليه أمارات الفرح والسرور قوله أنخلع من مالي أي أخرج منه جميعه وأتصدق به كما يخلع الإنسان قميصه. قوله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني البلاء. والابتلاء: يكون في الخير وفي الشر وإذا أطلق كان في الشر غالبا فإذا أريد به الخير قيد به كما قيد هنا بقوله أحسن مما أبلاني أن أنعم على قوله أن لا أكون كذبته، هذا هو في جميع روايات الحديث بزيادة لفظ لا قال بعض العلماء لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته وقوله فأهلك هو بكسر اللام وإرجاؤه أمرنا تأخيره وقوله في الرواية الأخرى يحطمكم الناس أي يطؤكم ويزدحمون عليكم وأصل الوطء الكسر وقوله سائر الليل يعني باقي الليل وقوله وآذن بتوبة الله علينا أي أعلم والأذان الإعلام والله أعلم. قوله عز وجل: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يعني بما اتسعت والرحب سعة المكان والمعنى أنه ضاق عليهم المكان بعد أن كان واسعا وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ يعني من شدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم وَظَنُّوا يعني وأيقنوا وعلموا أَنْ لا مَلْجَأَ يعني لا مفزع ولا مفر مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ولا عاصم من عذابه إلا هو ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فيه إضمار وحذف تقديره وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا

إليه فرحمهم ثم تاب عليهم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه وقوله ثم تاب عليهم تأكيد لقبول توبتهم لأنه قد ذكر توبتهم في قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا كما تقدم بيانه وأنه عطف على قوله لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ أي وتاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار أي وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا. وقوله تعالى: لِيَتُوبُوا معناه: أن الله سبحانه وتعالى تاب عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل فيرجعوا ويداوموا عليها وقيل إن أصل التوبة الرجوع ومعناه ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالتهم الأولى يعني إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ يعني على عباده الرَّحِيمُ بهم وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والفضل والإحسان وأنه لا يجب على الله تعالى شيء. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يعني في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يعني مع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو. وقال سعيد بن جبير: مع الصادقين يعني مع أبي بكر وعمر. قال ابن جريج: مع المهاجرين. وقال ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية. وقيل: كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب وهم يعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق لأن الصدق يهدي إلى الجنة والكذب إلى الفجور كما ورد في الحديث. وقال ابن مسعود: الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صاحبه شيئا ثم لا ينجزه اقرءوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين. وروي أن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة وذلك أن الأنصار قالوا: منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر: يا معشر الأنصار إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار: أنتم هم فقال أبو بكر: إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء وقيل مع بمعنى من والمعنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين قوله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ يعني لساكني المدينة من المهاجرين والأنصار: وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ يعني سكان البوادي من مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وقيل: هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يعني إذا غزا وهذا ظاهر خبر ومعناه النهي أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلا يَرْغَبُوا يعني ولا أن يرغبوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ يعني ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضاه لنفسه ولا يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ويتركوا مصاحبته والجهاد معه في حال الشدة والمشقة وقال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم وغزواتهم ظَمَأٌ أي عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ يعني مجاعة شديدة فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ يعني ولا يضعون قدما على الأرض يكون ذلك القدم سببا لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا يعني أسرا أو قتلا أو هزيمة أو غنيمة أو نحو ذلك قليلا كان أو كثيرا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ يعني إلا كتب الله لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يدع محسنا من خلقه قد أحسن في عمله وأطاعه فيما أمره به أو نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه وعمله الصالح وفي الآية دليل

[سورة التوبة (9): آية 121]

على أن من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئات إلا أن يغفرها الله بفضله وكرمه واختلف العلماء في حكم هذه الآية. فقال قتادة: هذا الحكم خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف عنه إذا لم يكن للمسلمين إليه ضرورة. وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها فعلى هذا تكون هذه الآية محكمة لم تنسخ. وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله عز وجل وأباح التخلف لمن شاء بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة ونقل الواحدي عن عطية أنه قال: وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم وأمرهم. وقال: هذا هو الصحيح لأنه لا تتعين الطاعة والإجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا أمر وكذا غيره من الأئمة والولاة قالوا إذا ندبوا أو عينوا لأنّ لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد ولم يختص بذلك بعض دون بعض لأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد والله أعلم. [سورة التوبة (9): آية 121] وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وقوله عز وجل: وَلا يُنْفِقُونَ يعني في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً يعني تمرة فما دونها أو أكثر منها حتى علاقة سوط وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً يعني ولا يجاوزون في مسيرهم واديا مقبلين أو مدبرين فيه إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ يعني كتب الله لهم آثارهم وخطاهم ونفقاتهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ يعني يجازيهم أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال الواحدي: معناه بأحسن ما كانوا يعملون. وقال الإمام فخر الدين الرازي: فيه وجهان: الأول: أن الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح فالله سبحانه وتعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد (ق) عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها وفي رواية وما فيها (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فأقتل في سبيل الله ثم أغزو فأقتل ثم أغزوا فأقتل» لفظ مسلم وللبخاري بمعناه (ق). عن أبي سعيد الخدري قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي الناس أفضل قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله» وفي رواية «يتقي الله ويدع الناس من شره» (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات (خ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار» (م) عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال: «جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» عن خريم بن

[سورة التوبة (9): آية 122]

فاتك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف أخرجه الترمذي والنسائي. [سورة التوبة (9): آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) قوله سبحانه وتعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية. قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قال ناس من المنافقين. هلك من تخلف فنزلت هذه الآية ومن كان المؤمنون لينفروا كافة. وقال ابن عباس: أنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل الله عز وجل الآية يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم إذا رجعوا إليهم فذلك قوله سبحانه وتعالى: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: «كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا عما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة فكانوا إذا أتوا قومهم نادوا أن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما يحتاجون إليه من أمر الدين وأن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام وينذروهم ويبشروهم بالجنة وقال مجاهد: إن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الحطب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله عز وجل فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير وقعد طائفة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليسمعوا ما أنزل الله وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ من الناس إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وقال ابن عباس: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيرون إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد نزل في بعضهم قرآن تعلمه القاعدون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخرى فذلك قوله سبحانه وتعالى ليتفقهوا في الدين يقول ليتعملوا ما أنزل الله على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون نقل هذه الأقوال كلها الطبري وأما تفسير الآية فيمكن أن يقال إنها من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد فعلى الاحتمال الأول فقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج للغزو ولم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ الله في الكشف عن عيوب المنافقين وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سرية يبعثها فلما قدم المدينة وبعث السرايا نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزلت هذه الآية فيكون المعنى ما كان ينبغي للمؤمنين ولا يجوز لهم أن ينفروا بكليتهم إلى الجهاد ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يجب أن ينقسموا إلى قسمين فطائفة يكونون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة ينفرون إلى الجهاد لأن ذلك الوقت كانت الحاجة داعية إلى انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: قسم للجهاد، وقسم لتعلم العلم والتفقه في الدين، لأن الأحكام والشرائع كانت تتجدد شيئا بعد شيء فالملازمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظون ما نزل من الأحكام وما تجدد من الشرائع فإذا قدم الغزاة أخبروهم بذلك فيكون معنى الآية وما كان المؤمنون لينفروا

كافة فلولا يعني فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للجهاد وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم من غزوهم لعلهم يحذرون يعني مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهذا معنى قول قتادة. وقيل: إن التفقه صفة للطائفة النافرة قال الحسن: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ومعنى ذلك أن الفرقة النافرة إذا شاهدوا نصر الله لهم على أعدائهم وأن الله يريد إعلاء دينه وتقوية نبيه صلى الله عليه وسلم وأن الفئة القليلة قد غلبت جمعا كثيرا، فإذا رجعوا من ذلك النفير إلى قومهم من الكفار، أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لهم لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والنفاق وأورد على هذا القول أن هذا النوع لا يعد تفقها في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا علموا أن الله هو ناصرهم ومقويهم على عدوهم كان ذلك زيادة في إيمانهم فيكون ذلك فقها في الدين. وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يقال إن هذه الآية كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد وهو ما ذكرناه عن مجاهد أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البوادي فأصابوا معروفا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا فأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية والمعنى هلا نفر من كل فرقة طائفة وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ويبلغوا ذلك إلى النافرين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني بأس الله ونقمته إذا خالفوا أمره في الآية دليل على أنه يجب أن يكون المقصود من العلم والتفقه دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم فكل من تفقه وتعلم بهذا القصد كان المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وتعلم العلم لطلب الدنيا كان من الأخسرين أعمالا الآية (ق). عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطى الله ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله» (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد». أخرجه الترمذي وأصل الفقه في اللغة الفهم يقال فقه الرجل إذا فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها. وقيل: الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي الاصطلاح الفقه عبارة عن العلم بأحكام الشرائع وأحكام الدين وذلك ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين معرفة أحكام الطهارة وأحكام الصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفة ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ذكره البغوي بغير سند وكذلك كل عبادة وجبت على المكلف بحكم الشرع يجب عليه معرفة علمها مثل علم الزكاة إذا صار له مال يجب في مثله الزكاة وعلم أحكام الحج إذا وجب عليه. وأما فرض الكفاية من الفقه، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ودرجة الفتيا وإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام به من كل بلد واحد فتعلم حتى بلغ درجة الفتيا سقط الفرض عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» أخرجه الترمذي مع زيادة فيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» أخرجه الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة» أخرجه أبو داود.

[سورة التوبة (9): الآيات 123 إلى 125]

الآية المحكمة هي التي لا اشتباه فيها ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ، والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك، والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها. قال الفضيل بن عياض: عالم عامل معلم يدعى عظيما في ملكوت السموات. وأخرجه الترمذي موقوفا وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» قوله سبحانه وتعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 123 الى 125] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب قال ابن عباس: مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها. وقال ابن عمر: هم الروم لأنهم كانوا مكان الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. وقال بعضهم: هم الديلم. وقال ابن زيد: كان الذين يلونهم من الكفار العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم فأمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد. ونقل عن بعض العلماء أنه قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً صارت ناسخة لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وقال المحققون من العلماء: لا وجه للنسخ، لأنه سبحانه وتعالى لما أمرهم بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور، ولهذا السبب قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا قومه، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم انتقل إلى قتال أهل الكتاب وهم: قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، ثم انتقل إلى غزو الروم في الشأم فكان فتح الشأم في زمن الصحابة ثم إنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد. قوله سبحانه وتعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً يعني شدة وقوة وشجاعة والغلظة ضد الرقة. وقال الحسن: صبرا على جهادهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يعني بالعون والنصرة. قوله عز وجل: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يعني: وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن فمن المنافقين من يقول يعني يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه يعني السورة إيمانا يعني تصديقا ويقينا وإنما يقول ذلك المنافقون استهزاء وقيل: يقول ذلك المنافقون لبعض المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يعني تصديقا ويقينا وقربة من الله، ومعنى الزيادة، ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته فالمؤمنون إذا أقروا بنزول سورة القرآن عن ثقة واعترفوا أنها من عند الله عز وجل زادهم ذلك القرار والاعتراف إيمانا وقد تقدم بسط الكلام على زيادة الإيمان في أول سورة الأنفال وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني أن المؤمنين يفرحون بنزول القرآن شيئا بعد شيء لأنهم كلما نزل ازدادوا إيمانا وذلك يوجب مزيد الثواب في الآخرة كما تحصل الزيادة في الإيمان بسبب نزول القرآن كذلك تحصل الزيادة في الكفر وهو قوله سبحانه وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضا لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى العلاج فَزادَتْهُمْ يعني السورة من القرآن رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ يعني

[سورة التوبة (9): الآيات 126 إلى 128]

كفرا إلى كفرهم وذلك أنهم كلما جحدوا نزول سورة أو استهزءوا بها ازدادوا كفرا مع كفرهم الأول وسمي الكفر رجسا لأنه أقبح الأشياء وأصل الرجس في اللغة الشيء المستقذر وَماتُوا يعني هؤلاء المنافقين وَهُمْ كافِرُونَ يعني وهم جاحدون لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: في هذه الآية الإيمان يزيد وينقص وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه ويقول تعالوا حتى نزداد إيمانا. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازدادا الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. [سورة التوبة (9): الآيات 126 الى 128] أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) قوله سبحانه وتعالى: أَوَلا يَرَوْنَ قرئ ترون بالتاء على خطاب المؤمنين وقرئ بالياء على أنه خبر عن المنافقين المذكورين في قوله في قلوبهم مرض أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يعني يبتلون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يعني بالأمراض والشدائد. وقيل: بالقحط والجدب. وقيل: بالغزو والجهاد. وقيل: إنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم. وقيل: إنهم ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون. وقيل إنهم ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ يعني من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى الله وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني ولا يتعظون بما يرون من صدق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يعني فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يريدون بذلك الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني هل أحد من المؤمنين يراكم إن قمتم من مجلسكم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم من المؤمنين أقاموا ولبثوا على تلك الحال ثُمَّ انْصَرَفُوا يعني عن الإيمان بتلك السورة النازلة. وقيل: انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يعني عن الإيمان. وقال الزجاج: أضلهم الله مجازاة لهم على فعلهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يعني لا يفقهون عن الله دينه ولا شيئا فيه نفعهم. قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ هذا خطاب للعرب يعني: لقد جاءكم أيها العرب رسول من أنفسكم تعرفون نسبه وحسبه وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب وقال جعفر بن محمد الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» هكذا ذكره الطبري وذكر البغوي بإسناد الثعلبي. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام» قال قتادة: جعله الله من أنفسكم فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. قال بعض العلماء في تفسير قول ابن عباس: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: من مضرها وربيعتها ويمانيها فأما ربيعة ومضر فهم من ولد معد بن عدنان وإليه تنسب قريش وهو منهم وأما نسبه إلى عرب اليمن وهم القحاطنة فإن آمنة لها نسب في الأنصار وإن كانت من قريش والأنصار أصلهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبأ فعلى هذا القول يكون المقصود من قوله: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم».

[سورة التوبة (9): آية 129]

ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزتهم بعزته وفخرهم بفخره وهو من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة. وقرأ ابن عباس والزهري: من أنفسكم بفتح الفاء. ومعناه: أنه من أشرفكم وأفضلكم (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه» (م) عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدية من الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم وخير الفريقين ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» أخرجه الترمذي. وقيل إن قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عام فحمله على العموم أولى فيكون المعنى على هذا القول لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم يعني من جنسكم بشر مثلكم إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه والأخذ عنه. قوله سبحانه وتعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم يعني مكروهكم. وقيل: يشق عليه ضلالكم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على إيمانكم وإيصال الخير إليكم وقال قتادة: حريص على هدايتكم وأن يهديكم الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه صلى الله عليه وسلم رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين (ق). عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي» وقد سماه الله رؤوفا رحيما. قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله سبحانه وتعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي صلى الله عليه وسلم فسماه رؤوفا رحيما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. [سورة التوبة (9): آية 129] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرض هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان بالله ورسوله وناصبوك للحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يعني يكفيني الله وينصرني عليكم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني لا على غيره وبه وثقت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إنما خص سبحانه وتعالى العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات فيدخل ما دونه في الذكر فيكون المعنى فهو رب العرش العظيم فما دونه أو يكون خصه بالذكر تشريفا له كما يقال بيت الله، وروي عن أبي بن كعب أنه قال: هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة آخر القرآن نزلا وفي رواية عنه أنه قال: أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآيتين والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة يونس

سورة يونس نزلت بمكة إلا ثلاث آيات وهي قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ إلى آخر الثلاثة آيات قاله ابن عباس وبه قال قتادة. وفي رواية أخرى: عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ الآية، وقال مقاتل: هي مكية إلا آيتين وهي قوله سبحانه وتعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ والتي تليها وهي مائة وتسع آيات وألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) قوله عز وجل: الر قال ابن عباس والضحاك معناه أنا الله أرى وقال ابن عباس في رواية أخرى: عنه الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة وبه قال سعيد بن جبير وسالم بن عبد الله وقال قتادة: الر اسم من أسماء القرآن وقيل هي اسم للسورة وقد تقدم الكلام في معنى الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما فيه كفاية تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ المراد في لفظ تلك الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة ويكون التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب وهو القرآن الذي أنزله الله إليك يا محمد وذلك أن الله عز وجل وعده أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا تغيره الدهور. وقيل: إن لفظة تلك للإشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. والمعنى: أن تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم، وفيه قول آخر أن المراد بآيات الكتاب الكتب التي قبل القرآن حكاه الطبري عن قتادة. وروي عن مجاهد أنها التوراة والإنجيل فعلى هذا القول يكون التقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة أو الإنجيل والمراد من الآيات القصص المذكورة في هذه السورة وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف لأن التوراة والإنجيل لم يجر لهما ذكر قريب حتى يشار إليهما وقيل: إن المراد من الآيات حروف الهجاء التي منها الر سميت آيات لأنها افتتاح السور وسر القرآن الْحَكِيمِ يعني المحكم الحلال والحرام والحدود والأحكام. فعيل: بمعنى مفعول. وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل لأن القرآن حاكم يميز بين الحق والباطل ويفصل الحلال من الحرام. وقيل: حكيم بمعنى المحكوم فيه فيعمل بمعنى مفعول. قال الحسن: حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وقيل: إن الحكيم هو الذي يفعل الحكمة والصواب فمن حيث إنه يدل على الأحكام صار كأنه هو الحكيم في نفسه.

[سورة يونس (10): الآيات 2 إلى 4]

[سورة يونس (10): الآيات 2 الى 4] أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) قوله سبحانه وتعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن الله عز وجل لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ومن أنكر منهم قال: الله أعظم من أن يكون له رسول بشر مثل محمد فقال الله سبحانه وتعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ وقال سبحانه وتعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا الآية والهمزة في أكان همزة استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ والمعنى لا يكون ذلك عجبا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة. وقيل: العجب حالة تعتري الإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة وبالرجل محمد صلى الله عليه وسلم منهم يعني من أهل مكة من قريش يعرفون نسبه وصدقه وأمانته أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ يعني خوفهم بعقاب الله تعالى إن أصروا على الكفر والمخالفة والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور وهو قوله سبحانه وتعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق. فقال ابن عباس: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وقال الضحاك: ثواب صدق. وقال مجاهد: الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول يعني في اللوح المحفوظ. وقال زيد بن اسلم: هو شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة. وقيل: لهم منزلة رفيعة عند ربهم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقوله مسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد والفائدة في هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله في مقعد صدق، وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال: لفلان قدم في الإسلام وقدم في الخير ولفلان عندي قدم صدق وقدم سوء. قال حسان بن ثابت: لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع وقال الليث وأبو الهيثم القدم السابق والمعنى أنه قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة ... لهم قدم معروفة ومفاخر والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد. وقال ذو الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمت على البحر معناه لكم سابقة عظيمة لا ينكرها الناس وقال آخر: صل لذي العرش واتخذ قدما ... تنجيك يوم العثار والزلل وقوله سبحانه وتعالى: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ وقرئ: لساحر مبين وفيه حذف تقديره أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون: إن هذا لساحر، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، وإنما نسبوه إلى السحر لما أتاهم بالمعجزات الباهرات التي لا يقدر أحد من البشر أن يحصل مثلها، ومن قرأ السحر فإنهم عنوا به القرآن المنزل عليه وإنما نسبوه إلى السحر لأن فيه الإخبار بالبعث والنشور وكانوا ينكرون ذلك.

[سورة يونس (10): الآيات 5 إلى 7]

قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تقدم تفسير هذا في سورة الأعراف بما فيه كفاية. وقوله سبحانه وتعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه وحده. وقيل: معنى التدبير، تنزيل الأمور في مراتبها وعلى أحكام عواقبها. وقيل: إنه سبحانه وتعالى يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة وهو النظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. وقيل: معناه إنه سبحانه وتعالى يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض فلا يحدث حدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي إلا بإرادته وتدبيره وقضائه وحكمته ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ يعني: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده وبموضع الصواب والحكمة في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم فإذا أذن له في الشفاعة كان له أن يشفع فيمن يأذن له فيه وفيه رد على كفار قريش في قولهم: إن الأصنام تشفع لهم عند الله يوم القيامة فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لأن له التصرف المطلق في جميع العالم ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني الذي خلق هذه الأشياء ودبرها هو ربكم وسيدكم لا رب لكم سواه فَاعْبُدُوهُ أي فاجعلوا عبادتكم له لا لغيره لأنه المستحق للعبادة بما أنعم عليكم من النعم العظيمة أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الدلائل والآيات التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني إلى ربكم الذي خلق جميع المخلوقات مصيركم جميعا أيها الناس يوم القيامة والمرجع بمعنى الرجوع وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا يعني وعدكم الله ذلك وعدا حقا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم وهذا معنى قول مجاهد فإنه قال يحييه ثم يميته ثم يحييه. وفي هذه الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه ورد على منكري البعث ووقوعه، لأن القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفرقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيبا ثانيا ويخلق الإنسان الأول مرة أخرى وكما لم يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع والعقاب للعاصي وهو قوله سبحانه وتعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ هو ماء حار قد انتهى حره وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. [سورة يونس (10): الآيات 5 الى 7] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً يعني ذات ضياء وَالْقَمَرَ نُوراً يعني ذا نور. واختلف العلماء أصحاب الكلام في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض، والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة فالنور اسم لأصل هذه الكيفية والضوء اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية فلهذا خص الشمس بالضياء لأنها أقوى وأكمل من النور وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما لو تساويا لم يعرف الليل من النهار فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص

[سورة يونس (10): الآيات 8 إلى 11]

بالقمر وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ قيل: الضمير في وقدّره يرجع إلى الشمس والقمر والمعنى قدر لهما منازل أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانهما في السير ولا يقصران عنهما وإنما وحد الضمير في وقدره للإيجاز أو اكتفى بذكر أحدهما دون الآخر فهو كقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وقيل: الضمير في وقدره يرجع إلى القمر وحده لأن سير القمر في المنازل أسرع وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي السنة القمرية لا الشمسية ومنازل القمر ثمان وعشرون منزلة: وهي الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت، فهذه منازل القمر وهي مقسومة على اثني عشر برجا وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، لكل برج منزلان وثلث منزل وينزل القمر كل ليلة منزلا منهما إلى انقضاء ثمانية وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين وإن كان تسعا وعشرين اختفى ليلة واحدة لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ يعني قدر هذه المنازل لتعلموا بها عدد السنين ووقت دخولها وانقضائها وَالْحِسابَ يعني: ولتعلموا حساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعني للحق وإظهار قدرته ودلائل وحدانيته ولم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني يبين دلائل التوحيد بالبراهين القاطعة لقوم يستدلون بها على قدرة الله ووحدانيته إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يعني لا يخافون لقاءنا يوم القيامة فهم مكذبون بالثواب والعقاب والرجاء يكون بمعنى الخوف تقول العرب: فلان لا يرجو فلانا بمعنى: لا يخافه، ومنه قوله سبحانه وتعالى ما لكم لا ترجون الله وقارا ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها أي لم يخفه. والرجاء يكون بمعنى الطمع، فيكون المعنى: لا يطمعون في ثوابنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يعني: اختاروها وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها وَاطْمَأَنُّوا بِها يعني وسكنوا إليها مطمئنين فيها وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار من الميل إلى الدنيا ولذاتها أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد. وقال ابن عباس: عن آياتنا يعني عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن غافلون: أي معرضون. [سورة يونس (10): الآيات 8 الى 11] أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: من الكفر والتكذيب والأعمال الخبيثة. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يعني يهديهم ربهم إلى الجنان

ثوابا لهم بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وقال مجاهد: يهديهم على الصراط إلى الجنة: يجعل لهم نورا يمشون به. وقال قتادة: بلغنا أن المؤمن إذا خرج من قبره يصور له عمله في صورة حسنة فيقول له: من أنت فيقول: أنا عملك. فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر بالضد، فلا يزال به عمله حتى يدخله النار وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى أن الله يزيدهم هداية بخصائص ولطائف وبصائر ينور بها قلوبهم ويزيل بها الشكوك عنهم ويجوز أن يكون المعنى ويثبتهم على الهداية وقيل معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يعني بين أيديهم ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم فهو كقوله سبحانه وتعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه بل أراد بين يديها. وقيل: تجري بأمرهم فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعني ذلك لهم جنات النعيم دَعْواهُمْ فِيها أي قولهم وكلامهم فيها. وقيل: الدعوى بمعنى الدعاء أي دعاؤهم فيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وهي كلمة تنزيه لله تعالى من كل سوء ونقيصة. قال أهل التفسير: هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا: سبحانك اللهم فيأتونهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تبارك وتعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقيل: إن المراد بقوله سبحانك اللهم اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم وابتهاجهم وكمال لذتهم ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد» أخرجه مسلم. قوله جشاء أي يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقا. وقوله سبحانه وتعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ يعني يحيي بعضهم بعضا بالسلام. وقيل: تحييهم الملائكة بالسلام وقيل تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب وأنهم إذا اشتهوا شيئا قالوا: سبحانك اللهم فيحضر ذلك الشيء وإذا فرغوا منه. قالوا: الحمد لله رب العالمين فترفع الموائد عند ذلك وقال الزجاج: أعلم الله أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكره والثناء عليه. وقيل: إنهم يفتتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد. وقيل: إنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ يعني ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر بما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال. قال ابن عباس: هذا في قول الرجل لأهله وولده عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم. وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ يعني كاستعجالهم بالخير وكما يحبون أن يعجل لهم إجابة دعائهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ يعني لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته والاستعجال طلب العجلة. وقال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال يقال لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم يعني: لفرغ من هلاكهم ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له في الشر. وقيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فعلى هذا يكون المعنى ولو يعجل الله للكافرين العذاب كما عجل لهم

[سورة يونس (10): الآيات 12 إلى 14]

خير الدنيا من المال والولد لعجل قضاء آجالهم ولهلكوا جميعا ويدل على صحة هذا القول قوله سبحانه وتعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يعني فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت فِي طُغْيانِهِمْ يعني في تمردهم وعتوهم يَعْمَهُونَ يعني يترددون (ق). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة» قوله عز وجل: [سورة يونس (10): الآيات 12 الى 14] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي الشدة والجهد والمراد بالإنسان في هذه الآية الكافر دَعانا لِجَنْبِهِ أي على جنبه مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا ينفك عن إحدى هذه الحالات الثلاث والمعنى أن المضرور لا يزال داعيا في جميع حالاته إلى أن ينكشف ضره سواء كان مضطجعا أو قائما أو قاعدا وهذا القول فيه بعد لأن ذكر الدعاء إلى هذه الأحوال أقرب من ذكر الضر فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ يعني فلما أزلنا عنه ما نزل به من الضر ودفعنا عنه مَرَّ يعني على طريقته الأولى قبل مس الضر كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا فيه حذف تقديره كأنه لم يدعنا وإنما أسقط الضمير على سبيل التخفيف إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ والمعنى أنه استمر على حالته الأولى قبل أن يمسه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني مثل ما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح كذلك زين للمسرفين والمزين هو الله سبحانه وتعالى لأنه مالك الملك والخلق كلهم عبيدة يتصرف فيهم كيف يشاء وقيل المزين هو الشيطان وذلك بأقدار الله إياه على ذلك والمسرف هو المجاوز الحد في كل شيء وإنما سمي الكافر مسرفا لأنه أتلف نفسه وضيعها في عبادة الأصنام وأتلف ماله وضيعه في البحائر والسوائب وما كانوا ينفقونه على الأصنام وسدنتها يعني خدامها. وقال ابن جريج: في قوله كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون يعني من الدعاء عند المصيبة وترك الشكر عند الرخاء. وقيل: كما زين لكم أعمالكم كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم. وبيان مقصود الآية أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند حصول النعماء والرخاء فإذا مسه الضر أقبل على الدعاء والتضرع في جميع حالاته مجتهدا في الدعاء طالبا من الله إزالة ما نزل به من المحنة والبلاء فإذا كشف الله ذلك عنه أعرض عن الشكر ورجع إلى ما كان عليه أولا وهذه حالة الغافل الضعيف اليقين فأما المؤمن العاقل فإنه بخلاف ذلك فيكون صابرا عند البلاء شاكر الله عند الرخاء والنعماء كثير التضرع والدعاء في جميع أوقات الراحة والرفاهية وهاهنا مقام أعلى من هذا وهو أن المؤمن إذا ابتلي ببلية أو نزل به مكروه يكون مع صبره على ذلك راضيا بقضاء الله غير معرض بالقلب عنه بل يكون شاكرا لله عز وجل في جميع أحواله وليعلم العبد المؤمن أن الله تبارك وتعالى مالك الملك على الإطلاق حكيم في جميع أفعاله وله التصرف في خلقه بما يشاء ويعلم أنه إن أبقاه على تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل. قوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم يخوف بذلك كفار مكة لَمَّا ظَلَمُوا يعني لما أشركوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني فكذبوهم وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا

[سورة يونس (10): الآيات 15 إلى 17]

يعني: هذه الأمم برسلهم ويصدقوهم بما جاءوا به من عند الله كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يعني: كما أهلكنا الأمم الخالية لما كذبوا رسلهم كذلك نهلككم أيها المشركون بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ الخطاب لأهل مكة الذين أرسل فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني خيرا أو شرا فنعاملكم على حسب أعمالكم والنظر هنا بمعنى العلم يريد لنختبر أعمالكم وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون. قال أهل المعاني: معنى النظر، هو طلب العلم وجاز في وصف الله سبحانه وتعالى إظهارا للعدل لأنه سبحانه وتعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله تبارك وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ذكره الواحدي والرازي (م) عن سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء» أخرجه مسلم قوله فاتقوا الدنيا معناه احذروا فتنة الدنيا واحذروا فتنة النساء. [سورة يونس (10): الآيات 15 الى 17] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتابنا الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات يعني واضحات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوتك قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني قال هؤلاء المشركون الذين لا يخافون عذابنا ولا يرجون ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وكل من كان منكرا للبعث فإنه لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قال قتادة: قال ذلك مشركو مكة، وقال مقاتل: هم خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام، قال هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن غير هذا ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزله الله عليك فقل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلال حراما. قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين: أحدهما، أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء وهو قولهم لو جئتنا بقرآن غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم السخرية والاستهزاء. الثاني: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كان كاذبا في قوله: إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله. ومعنى قوله: ائت بقرآن غير هذا أو بدله يحتمل أن يأتي بقرآن آخر مع وجود هذه القرآن والتبديل لا يكون إلا مع وجوده وهو أن يبدل بعض آياته بغيرها كما طلبوه ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يجيبهم بقوله قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي يعني أن هذا الذي طلبتموه من التبديل ليس إليّ وما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي ولم أومر به إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعني فيما آمركم به أو أنهاكم عنه وما أخبركم إلا ما يخبرني الله به وإن الذي أتيتكم به هو من عند الله لا من عندي إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: قل لهم يا محمد إني أخشى من الله

إن خالفت أمره أو غيرت أحكام كتابه أو بدلته فعصيته بذلك أن يعذبني بعذاب عظيم في يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت. قوله سبحانه وتعالى: قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعني لو شاء الله لم ينزل علي هذا القرآن ولم يأمرني بقراءته عليكم وَلا أَدْراكُمْ بِهِ قال ابن عباس: ولا أدراكم الله به ولا أعلمكم به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ يعني فقد مكثت فيكم قبل أن يوحى إلي هذا القرآن مدة أربعين سنة لم آتكم بشيء ووجه هذا الاحتجاج أن كفار مكة كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وعلموا أحواله وأنه كان أميا لم يطالع كتابا ولا تعلم من أحد مدة عمره قبل الوحي وذلك أربعون سنة ثم بعد الأربعين جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والآداب ومكارم الأخلاق والفصاحة والبلاغة ما أعجز البلغاء والفصحاء عن معارضته فكل من له عقل سليم وفكر ثاقب يعلم أن هذا لم يحصل إلا بوحي من الله تعالى لا من عند نفسه وهو قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ لا من قبل نفسي (ق) عن ابن عباس قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين ثم توفي صلى الله عليه وسلم: وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثمان سنين يوحى إليه وأقام بالمدينة عشرا أو توفي وهو ابن خمس وستين سنة أخرجاه في الصحيحين (ق) عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. أخرجاه في الصحيحين (م) عن أنس قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين وعمر وهو ابن ثلاث وستين أخرجه مسلم (ق). عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ليس بجعد قطط ولا سبط رجل أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. أخرجاه في الصحيحين قال الشيخ محيي الدين النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات إحداها أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهو أصحها وأشهرها رواها مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس واتفق العلماء على أن أصحها ثلاث وستون سنة وتأولوا الباقي عليه فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس متأولة أيضا بأنها حصل فيها اشتباه. قوله: يسمع الصوت، يعني صوت الهاتف من الملائكة ويرى الضوء يعني ضوء الملائكة أو نور آيات الله حتى رأى الملك بعينه وشافه بالوحي من الله عز وجل وقوله ليس بالأبيض الأمهق المراد به الشديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهم الناظر أنه برص. والمراد: أنه كان أزهر اللون بين البياض والحمرة. قوله عز وجل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني فزعم أن له شريكا وولدا والمعنى: أني لم أفتر على الله كذبا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله وأنتم قد افتريتم على الله الكذب فزعمتم أن له شريكا وولدا والله تعالى منزه عن الشريك والولد وقيل: معناه إن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني من حيث إني افتريته على الله ولما كان هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ وجب أن يقال ليس أحد في الدنيا أجهل ولا أظلم على نفسه منكم من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله فقد كذبتم بآياته وهو قوله تعالى: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني جحد بكون القرآن من عند الله وأنكر دلائل

[سورة يونس (10): الآيات 18 إلى 21]

التوحيد إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ يعني المشركون وهذا وعيد وتأكيد لما سبق. [سورة يونس (10): الآيات 18 الى 21] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ يعني: ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا تضرهم إن عصوها وتركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإن العبادة أعظم أنواع التعظيم فلا تليق إلا بمن يضر وينفع ويحيي ويميت وهذه الأصنام جماد وحجارة لا تضر ولا تنفع وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ يعني الأصنام التي يعبدونها شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد من تعظيم الله من عبادتهم إياه وقالوا لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام فإنها تكون شافعة لنا عند الله ومنه قوله سبحانه وتعالى إخبارا عنهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وفي هذه الشفاعة قولان: أحدهما: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة قاله ابن جريج عن ابن عباس. والثاني: أنها تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم قاله الحسن لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثا بعد الموت قُلْ أي قل لهم يا محمد أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ يعني: أتخبرون الله أن له شريكا ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض. وهذا على طريق الإلزام. المقصود: نفي علم الله بذلك الشفيع وأنه لا وجود له البتة لأنه لو كان موجودا لعلمه الله وحيث لم يكن معلوما لله وجب أن لا يكون موجودا ومثل هذا مشهور في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء حصل في نفسه يقول: ما علم الله ذلك مني مقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشركاء والأضداد والأنداد وتعالى أن يكون له شريك في السموات والأرض ولا يعلمه. قوله سبحانه وتعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يعني: فتفرقوا إلى مؤمن وكافر يعني كانوا جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام ويدل على ذلك أن آدم عليه السلام وذريته كانوا على دين الإسلام إلى أن قتل قابيل هابيل ثم اختلفوا. وقيل: بقوا على ذلك إلى زمن نوح عليه السلام ثم اختلفوا فبعث الله نوحا. وقيل: إنهم كانوا على دين الإسلام وقت خروج نوح ومن معه من السفينة ثم اختلفوا بعد ذلك وقيل كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. فعلى هذا القول، يكون المراد من الناس في قوله وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً العرب خاصة. وقيل: كان الناس أمة واحدة في الكفر. وهذا القول منقول عن جماعة من المفسرين ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وتقديره: أنه لا مطمع في أن يصير الناس على دين واحد فإنهم كانوا أولا على الكفر وإنما أسلم بعضهم ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان الناس أمة واحدة. وليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج. وقيل:

معناه أنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» والمراد بالفطرة في الحديث، فطرة الإسلام. قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني أنه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة أجلا وقضى بذلك في سابق الأزل، قال الكلبي: هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلا بينهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقال الحسن: ولولا كلمة سبقت من ربك يعني مضت في حكمة الله أنه لا يقضي عليهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون يوم القيامة لقضى بينهم في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بإيمانهم وأدخل الكافرين النار بكفرهم ولكن سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة وقيل سبق من الله أنه لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه. وقيل: الكلمة التي سبقت من الله هي قوله: إن رحمتي سبقت غضبي ولولا رحمته، لعجل لهم العقوبة في الدنيا ولكن أخرهم برحمته إلى يوم القيامة ثم يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يعني في الدنيا وَيَقُولُونَ يعني كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني هلا نزل على محمد ما نقترحه عليه من الآيات فَقُلْ أي: فقل لهم يا محمد إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ يعني إن الذي سألتمونيه هو من الغيب وإنما الغيب لله لا يعلم أحد ذلك إلا هو والمعنى لا يعلم أحد متى نزول الآية إلا هو فَانْتَظِرُوا يعني نزولها إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وقيل معناه فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل إني معكم من المنتظرين قوله عز وجل: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً يعني رخاء ونعمة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ يعني من بعد شدة وبلاء وضيق في العيش أصابهم والمراد بالناس هنا: كفار مكة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد: أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين. قوله: على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء. والأنواء عند العرب: هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لا بد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضا فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلا، فهو جاهل بمعنى الدلالة. وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكرا لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي: قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر، قابل مكرهم بمكر أشد منه وهو إمهالهم إلى يوم القيامة إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم قوله تعالى:

[سورة يونس (10): الآيات 22 إلى 23]

[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك. وقيل: معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلبا للمعاش أو هو المهيّئ لكم أسباب السير في البر والبحر حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ يعني: السفن. ولفظة الفلك: تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بها الواحد كان كبناء قفل، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني: وجرت السفن بركابها. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: قال صاحب الكشاف: المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب. وقيل: إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة وَفَرِحُوا بِها يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ قيل: إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى: جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها. وقيل: الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك. يعني: جاءت الفلك. ريح عاصف. يقال: ريح عاصف وعاصفة، ومعنى عصفت الريح: اشتدت. وأصل العصف: السرعة وإنما قال: عاصف، لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يعني: وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل: هو شدة حركة الماء واختلاطه وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يعني: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. وقيل: المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك. وقيل: بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني أنهم أخلصوا في الدعاء لله عز وجل ولم يدعوا أحدا سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا الله تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا لله الدعاء لَئِنْ أَنْجَيْتَنا أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا مِنْ هذِهِ يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة فَلَمَّا أَنْجاهُمْ يعني: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدة التي كانوا فيها إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني أنهم أخلفوا الله ما وعدوه وبغوا في الأرض فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها وأصل البغي مجاوزة الحد. قال صاحب المفردات: البغي على ضربين، أحدهما محمود وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع. والثاني مذموم وهو مجاوزة الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق قلت بلى قد يكون بحق

[سورة يونس (10): الآيات 24 إلى 25]

وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يعني: إن وبال بغيكم راجع عليكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا قيل هو كلام مبتدأ، والمعنى: أن بغي بعضكم على بعض هو متاع الحياة الدنيا لا يصلح لزاد الآخرة وقيل هو كلام متصل بما قبله والمعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيأ أن يبغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها في سرعة انقضائها. والبغي: من منكرات الذنوب العظام. قال بعضهم: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي. وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرا وكان المأمون يتمثل به فقال: يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فارجع فخير مقال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله وقوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ أي فنخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. [سورة يونس (10): الآيات 24 الى 25] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) قوله عز وجل: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني في فنائها وزوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ يعني المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ أي بالمطر نَباتُ الْأَرْضِ قال ابن عباس: نبت بالماء من كل لون مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ يعني من الحبوب والثمار وَالْأَنْعامُ يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور وَازَّيَّنَتْ أي وتزينت وَظَنَّ أَهْلُها يعني أهل تلك الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها يعني على جذاذها وقطافها وحصادها، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوما. وقيل: رده إلى الثمرة والغلة وقيل: إلى الزينة أَتاها أَمْرُنا أي قضاؤنا بهلاكها لَيْلًا أَوْ نَهاراً يعني في الليل أو النهار فَجَعَلْناها حَصِيداً يعني محصودة مقطوعة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ يعني: كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات والزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها وذلك أنه تعالى لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفا فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو بردا أو ريحا فجعلها حصيدا كأن لم تكن من قبل. قال قتادة: إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.

ووجه التمثيل، أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها. وقيل: يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك، لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية. ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادرا على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني: كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم حكمها، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سببا موجبا لزوال الشك والشبهة من القلوب. قوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ لما ذكر الله زهرة الحياة الدنيا وأنها فانية زائلة لا محالة دعا إلى داره والله يدعو إلى دار السلام. قال قتادة: الله هو السلام وداره الجنة فعلى هذا السلام اسم من أسماء الله عز وجل ومعناه أنه سبحانه وتعالى سلم من جميع النقائص والعيوب والفناء والتغيير. وقيل: إنه سبحانه وتعالى يوصف بالسلام لأن الخلق سلموا من ظلمه. وقيل: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى ذي السلام أي لا يقدر على تخليص العاجزين من المكاره والآفات إلا هو. وقيل: دار السلام اسم للجنة وهو جمع سلامة. والمعنى: أن من دخلها فقد سلم من جميع الآفات، كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد. وقيل: سميت الجنة دار السلام لأن الله سبحانه وتعالى يسلم على أهلها أو تسلم الملائكة عليهم. قيل: إن من كمال رحمة الله وجوده وكرمه على عباده، أن دعاهم إلى جنته التي هي دار السلام. وفيه دليل على أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ولا يصف إلا عظيما، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: والله يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام عم بالدعوة أولا إظهارا للحجة وخص بالدعوة ثانيا استغناء عن الخلق وإظهارا للقدرة فحصلت المغايرة بين الدعوتين (خ). عن جابر قال: «جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة» ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان فقال بعضهم الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس وفي رواية: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا» وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

[سورة يونس (10): الآيات 26 إلى 28]

[سورة يونس (10): الآيات 26 الى 28] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) قوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى قال ابن عباس: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله الجنة. وقيل: معناه للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه وأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم عنه الحسنى، قال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة، تأنيث الأحسن والعرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخلصة المرغوب فيها. وقيل: معناه للذين أحسنوا المثوبة الحسنى وَزِيادَةٌ اختلف المفسرون في معنى هذه الحسنى وهذه الزيادة على أقوال: القول الأول: إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم وهذا قول جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وهو قول الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي ويدل على صحة هذا القول المنقول والمعقول أما المنقول فما روي عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب قال فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» زاد في رواية «ثم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» أخرجه مسلم. وروى الطبري بسنده عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وعن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه وتعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. قال: الحسنى: الجنة وزيادة: قال النظر إلى وجه الله. وعن أبي موسى الأشعري قال: «إن كان يوم القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديا ينادي هل أنجزكم الله ما وعدكم به فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات فيقولون نعم فيقول للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى وفي رواية رفعها أبو موسى قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث يوم القيامة» وذكره بمعناه. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله لهم: هل بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال: فيتجلى لهم عز وجل قال فيصغر عندهم كل شيء أعطوه ثم قال للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه ربهم» فهذه الأخبار والآثار قد دلت على أن المراد بهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. وأما المعقول فنقول: إن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف فانصرفت إلى المعهود السابق وهو الجنة في قوله سبحانه وتعالى والله يدعو إلى دار السلام فثبت بهذا أن المراد من لفظة الحسنى هي الجنة وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من النعيم وإلا لزم التكرار وإذا كان كذلك وجب حمل هذه الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى ومما يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فأثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهو حسن الوجوه وذلك من نعيم الجنة، والثاني النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى على الجنة ونعيمها وحمل الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى. وقالت المعتزلة: لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية، لأن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممتنعة، ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ورؤية الله ليست من جنس نعيم الجنة ولأن الأخبار التي تقدمت توجب التشبيه ولأن جماعة من المفسرين حملوا هذه الزيادة على غير الرؤية فانتفى ما قلتم.

أجاب أصحابنا عن هذه الاعتراضات بأن الدلائل العقلية قد دلت على إمكان وقوع رؤية الله تعالى في الآخرة وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الرؤية وجب المصير إليها وإجراؤها على ظواهرها من غير تشبيه ولا إحاطة. وأجيب عن قولهم ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه بأن المزيد عليه إذا كان بمقدار معين كانت الزيادة من جنسه وإذا لم يكن بمقدار معين وجب أن تكون الزيادة مخالفة له فالمذكور في الآية لفظ الحسنى وهي الجن ونعيمها غير مقدر بقدر معين فوجب أن الزيادة تكون شيئا مغايرا لنعيم الجنة وذلك المغاير هو الرؤية. وأجيب عن قولهم ولأن جماعة من المفسرين حملوا الزيادة على غير الرؤية بأنه معارض بقول جماعة من المفسرين: بأن الزيادة هي الرؤية والمثبت مقدم على النافي والله أعلم. القول الثاني: في معنى هذه الزيادة ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب. القول الثالث: إن الحسنى واحدة الحسنات والزيادة التضعيف إلى تمام العشرة إلى سبعمائة. قال ابن عباس: هو مثل قوله سبحانه وتعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يقول يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله. قال قتادة: كان الحسن يقول: الزيادة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. القول الرابع: إن الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان قاله مجاهد. القول الخامس: قول ابن زيد أن الحسنى هي الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به يوم القيامة وقوله سبحانه وتعالى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ يعني ولا يغشى وجوه أهل الجنة قَتَرٌ أي كآبة ولا كسوف ولا غبار. وقال ابن عباس: هو سواد الوجوه وَلا ذِلَّةٌ يعني ولا هوان. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني أن هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أصحاب الجنة لا غيرهم وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبدا. قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها اعلم أنه لما شرح الله سبحانه وتعالى أحوال المحسنين وما أعد لهم من الكرامة شرح في الآية حال من أقدم على السيئات والمراد بهم الكفار فقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ. يعني: والذين عملوا السيئات والمراد بها الكفر والمعاصي جزاء سيئة بمثلها يعني فلهم جزاء السيئة التي عملوها مثلها العقاب. والمقصود من هذا التقييد، التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة وذلك تفضلا منه وتكرما. وأما السيئات، فإنه يجازي عليها بمثلها عدلا منه سبحانه وتعالى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قال ابن عباس: يغشاهم ذل وشدة. وقيل: يغشاهم ذل وهوان لعقاب الله إياهم ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعني ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً يعني كأنما ألبست وجوههم سوادا من الليل المظلم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قوله سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الحشر الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد والمعنى ويوم نجمع الخلائق جميعا لموقف الحساب وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه حتى تسألوا وفي هذا

[سورة يونس (10): الآيات 29 إلى 32]

وعيد وتهديد للعابدين والمعبودين أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ يعني أنتم أيها المشركون والأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ يعني: ففرقنا بين العابدين والمعبودين وميزنا بينهم وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا. فإن قلت قوله سبحانه وتعالى فزيلنا بينهم جاء على لفظ الماضي بعد قوله ثم نقول للذين أشركوا وهو منتظر في المستقبل فما وجهه. قلت: السبب فيه، أن الذي حكم الله فيه بأنه سيكون صار كالكائن الآن. قوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله وإنما سماهم شركاءهم، لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم أو لأنه سبحانه وتعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله: مكانكم فقد صاروا شركاء في هذا الخطاب ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ تبرأ المعبودون من العابدين. فإن قلت: كيف صدر هذا الكلام من الأصنام وهي جماد لا روح فيها ولا عقل لها؟ قلت: يحتمل أن الله تعالى خلق لها في ذلك اليوم من الحياة والعقل والنطق حتى قدرت على هذا الكلام فإن قلت إذا أحياهم الله في ذلك اليوم فهل يفنيهم أو يبقيهم. قلت: الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله وأحوال القيامة غير معلومة إلا ما دل عليه الدليل من كتاب أو سنة. فإن قلت: إن الأصنام قد أنكرت أن الكفار كانوا يعبدونها وقد كانوا يعبدونها؟ قلت: قد تقدمت هذه المسألة وجوابها في تفسير سورة الأنعام ونقول هنا قال مجاهد: تكون في يوم القيامة ساعة تكون فيها شدة تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم تعبدوننا فيقولون والله إياكم كنا نعبد فتقول لهم الآلهة. [سورة يونس (10): الآيات 29 الى 32] فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. والمعنى قد علم الله وكفى به شهيدا أما ما علمنا أنكم كنتم تعبدوننا وما كنا عن عبادتكم إيانا من دون لله إلا غافلين ما نشعر بذلك أما قوله سبحانه وتعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ فهو كالتتمة للآية المتقدمة والمعنى في ذلك المقام أو ذلك الموقف أو ذلك الوقت على معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان وفي قوله تبلوا قراءات قرئ بتاءين ولها معنيان أحدهما أنه من تلاه إذا تبعه أي تبع كل نفس ما أسلفت لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب. الثاني: أن يكون من التلاوة والمعنى أن كل نفس تقرأ صحيفة عملها من خير أو شر. وقرئ: تبلو بالتاء المثناة والباء الموحدة ومعناه تخبر وتعلم. والبلو: الاختبار ومعناه: اختبارها ما أسلفت يعني: أنه إن قدم خيرا أو شرا قدم عليه وجوزي به وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الرد: عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه. والمعنى: وردوا إلى ما ظهر لهم من الله الذي هو مالكهم ومتولي أمرهم.

[سورة يونس (10): الآيات 33 إلى 35]

فإن قلت: قد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فما الفرق؟ قلت: المولى في اللغة يطلق على المالك ويطلق على الناصر، فمعنى المولى هنا المالك ومعنى المولى هناك الناصر فحصل الفرق بين الآيتين وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني وبطل وذهب ما كانوا يكذبون فيه في الدنيا وهو قولهم إن هذه الأصنام تشفع لنا. قوله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماء يعني المطر والأرض يعني النبات أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ يعني ومن أعطاكم هذه الحواس التي تسمعون بها وتبصرون بها وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعني أنه تعالى يخرج الإنسان حيا من النطفة وهي ميتة وكذلك الطير من البيضة وكذلك يخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ويخرج البيضة الميتة من الطائر الحي. وقيل: معناه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والقول الأول أقرب إلى الحقيقة وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يعني أن مدبر أمر السموات ومن فيها ومدبر أمر الأرض وما فيها هو الله تعالى وذلك قوله فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يعني أنهم يعترفون أن فاعل هذه الأشياء هو الله وإذا كانوا يقرون بذلك فَقُلْ أي قل لهم يا محمد أَفَلا تَتَّقُونَ يعني: أفلا تخافون عقابه حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء من هذه الأمور فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ يعني: فذلكم الذي يفعل هذه الأشياء ويقدر عليها هو الله ربكم الحق الذي يستحق العبادة لا هذه الأصنام فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ يعني: إذا ثبت بهذه البراهين الواضحة والدلائل القطعية أن الله هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالا وباطلا فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعني: إذا عرفتم هذا الأمر الظاهر الواضح فكيف تستخيرون العدول عن الحق إلى الضلال الباطل. [سورة يونس (10): الآيات 33 الى 35] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) كَذلِكَ أي كما ثبت أنه ليس بعد الحق إلا الضلال حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ في الأزل عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قيل: المراد بكلمة الله قضاؤه عليهم في اللوح المحفوظ أنهم لا يؤمنون وقضاؤه لا يرد ولا يدفع قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل من شركائكم يعني هذه الأصنام التي تزعمون أنها آلهة مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يعني من يقدر على أن ينشئ الخلق على غير مثال سبق ثُمَّ يُعِيدُهُ أي ثم يعيده بعد الموت كهيئته أول مرة، وهذا السؤال استفهام إنكار قُلْ أي: قل أنت يا محمد اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني أن الله هو القادر على ابتداء الخلق وإعادته فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يعني فأنى تصرفون عن قصد السبيل والمراد من هذا التعجب من أحوالهم كيف تركوا هذا الأمر الواضح وعدلوا عنه إلى غيره قُلْ أي قل يا محمد هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يعني هل من هذه الأصنام من يقدر علي أن يرشد إلى الحق فإذا قالوا لا ولا بد لهم من ذل قُلْ أي قل لهم أنت يا محمد اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ يعني أن الله هو الذي يرشد إلى الحق لا غيره أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى يعني أن الله هو الذي يهدي إلى الحق فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدي. فإن قلت: الأصنام جماد لا تتصور هدايتها ولا أن تهدي فكيف قال إلا أن يهدي. قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال وجوها.

[سورة يونس (10): الآيات 36 إلى 40]

الأول: أن معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال من مكان إلى مكان فيكون المعنى أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا أن تحمل وتنقل، فبين سبحانه وتعالى بها عجز الأصنام. الوجه الثاني: أن ذكر الهداية في حق الأصنام على وجه المجاز وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر به عمن يسمع ويعقل ويعلم ووصفها بهذه الصفة وإن كان الأمر ليس كذلك. الوجه الثالث: يحتمل أن يكون المراد من قوله هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده الأصنام، والمراد من قوله هل من شركائكم من يهدي إلى الحق رؤساء الكفر والضلالة فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين بما ظهر من الدلائل الدالة على وحدانيته وأما رؤساء الكفر والضلالة فإنهم لا يقدرون على هداية غيرهم إلا إذا هداهم الله إلى الحق فكان اتباع دين الله والتمسك بهدايته أولى من اتباع غيره. وقوله سبحانه وتعالى: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ قال الزجاج: فما لكم كلام تام كأنه قيل لهم: أي شيء لكم في عبادة هذه الأصنام. ثم قال: كيف تحكمون؟ يعني: على أي حال تحكمون. وقيل: معناه كيف تقضون لأنفسكم بالجور حين تزعمون أن مع الله شريكا وقيل معناه بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكا من ليس بيده منفعة ولا مضرة ولا هداية. [سورة يونس (10): الآيات 36 الى 40] وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا يعني: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته بل هم في شك منه وريبة وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميع المشركين يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم وقيل المراد بالأكثر الرؤساء إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئا ولا يقوم مقامه وقيل في الآية إن قولهم إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم ظن منهم لم يرد به كتاب ولا يعني أنها لا تدفع عنهم من عذاب الله شيئا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ يعني من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين. قوله تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني وما كان ينبغي لهذا القرآن أن يختلق ويفتعل لأن معنى الافتراء الاختلاق والمعنى ليس وصف القرآن وصف شيء ممكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر وذلك أن كفار مكة زعموا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق فأخبر الله عز وجل أن هذا القرآن وحي أنزله الله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يؤكد هذا بقوله: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني ولكن الله أنزل هذا القرآن مصدقا لما قبله من الكتب التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل. وتقرير هذا، أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز وفيه أخبار الأولين وقصص

الماضين وكل ذلك موافق لما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة قبله ولو لم يكن كذلك لقدحوا فيه لعداوة أهل الكتاب له ولما لم يقدح فيه أحد من أهل الكتاب علم بذلك أن ما فيه من القصص والأخبار مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع القطع بأنه ما علم ما فيها فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله عليه وأنه مصدق لما بين يديه وأنه معجزة له صلى الله عليه وسلم. وقيل في معنى قوله: ولكن تصديق الذي بين يديه يعني من أخبار الغيوب الآتية، فإنها جاءت على وفق ما أخبر وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ يعني وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من رب العالمين وأنه ليس مفترى على الله وأنه لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله وهو قوله سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمد هذا القرآن وخلقه من قبل نفسه وهو استفهام إنكار وقيل أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه قُلْ أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يعني بسورة شبيهة به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي في الفصاحة والبلاغة. فإن قلت: قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة فأتوا بسورة من مثله وقال سبحانه وتعالى هنا فأتوا بسورة مثله فما فائدة ذلك وما الفرق بينهما. قلت لما كان محمد صلى الله عليه وسلم أميا لم يقرأ ولم يكتب وأتى بهذا القرآن العظيم كان معجزا في نفسه فقيل لهم فأتوا بسورة من مثله يعني: مع إنسان أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم يساويه في عدم الكتابة والقراءة. وأما قوله سبحانه وتعالى: فأتوا بسورة مثله أي فأتوا بسورة تساوي سور القرآن في الفصاحة والبلاغة وهو المراد بقوله فأتوا بسورة مثله يعني أن السورة في نفسها معجزة فإن الخلق لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه وهو المراد من قوله: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني وادعوا للاستعانة على ذلك من استطعتم من خلقه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في قولكم إن محمدا افتراه ثم قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعني القرآن. أي: كذبوا بما لم يعلموه. قال عطاء: يريد أنه ليس خلق يحيط بجميع علوم القرآن. وقيل: معناه بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها مما لم يحيطوا بعلمه، لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله. وقيل: إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص وأخبار الأمم الخالية ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك أنكروها لجهلهم فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة لا يقدر أحد على استيعابها وتحصيلها وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يعني أنهم كذبوا به ولم يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في القرآن به من العقوبة. والمعنى: أنهم لم يعلموا ما تؤول إليه عاقبة أمرهم. وقيل: معناه أنهم لم يعلموه تنزيلا ولا علموه تأويلا فكذبوا به وذلك لأنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كما كذب هؤلاء بالقرآن كذلك كذب الأمم الماضية أنبياءهم فيما وعدوهم به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: فانظر يا محمد كيف كان عاقبة من ظلم من الأمم كذلك تكون عاقبة من كذبك من قومك ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس. والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم فاحذر أن تفعل مثل فعله. قوله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يعني ومن قومك يا محمد من سيؤمن بالقرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لعلم الله السابق فيه أنه لا يؤمن وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ يعني الذين لا يؤمنون.

[سورة يونس (10): الآيات 41 إلى 45]

[سورة يونس (10): الآيات 41 الى 45] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني وإن كذبك قومك يا محمد فَقُلْ أي فقل لهم لِي عَمَلِي يعني الطاعة وجزاء ثوابها وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ يعني الشرك وجزاء عقابه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ قيل: المراد منه الزجر والرجوع. وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الإمام فخر الدين الرازي: وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا الحكم المنسوخ. ومدلول الآية: اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلا. قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني ومن هؤلاء المشركين مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ يعني بأسماعهم الظاهرة ولا ينفعهم ذلك لشدة بغضهم وعداوتهم لك أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ يعني كما أنك لا تقدر على إسماع الصم فكذلك لا تقدر على إسماع من أصم الله سمع قلبه وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ يعني أن الله سبحانه وتعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يسمعون ولم يوفقهم لذلك فهم بمنزلة الجهال إذا لم ينتفعوا بما لم يسمعوا وهم أيضا كالصم الذين لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه لعدم التوفيق وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعني بأبصارهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ يريد عمي القلوب وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ لأن الله أعمى بصائر قلوبهم فلا يبصرون شيئا من الهدى وفي هذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ولا تقدر أن تهدي من سلبته البصر ولا تقدر أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قال العلماء: لما حكم الله عز وجل على أهل الشقوة بالشقاوة لقضائه وقدره السابق فيهم أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقاوة عليهم ما كان ظلما منه لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيدة وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالما وإنما قال ولكن الناس أنفسهم يظلمون لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم. قوله سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعني: واذكر يا محمد يوم نجمع هؤلاء المشركين لموقف الحساب. وأصل الحشر: إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يعني كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من النهار. وقيل: معناه كأنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار. والوجه الأول أولى، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار لبثهم في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمله على أمر يختص بحال الكافر وهو أنهم لما لم ينتفعوا بأعمارهم في الدنيا استقلوها. والمؤمن لما انتفع بعمره في الدنيا لم يستقله. وسبب استقلال الكفار: مدة مقامهم في الدنيا أنهم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على ما فيها ولم يعملوا بطاعة الله فيها كان وجود ذلك كالعدم فلذلك استقلوه. وقيل: إنهم لما شاهدوا أهوال يوم القيامة وطال عليهم ذلك، استقلوا مدة مقامهم في الدنيا، لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جدا يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعني: يعرف بعضهم بعضا إذا خرجوا من قبورهم كما كانوا يتعارفون في الدنيا ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، وفي بعض الآثار: أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ولا يقدر أن يكلمه هيبة وخشية، وقيل: إن أحوال يوم القيامة مختلفة ففي بعضها يعرف بعضهم بعضا وفي بعضها ينكر بعضهم بعضا لهول ما يعاينون في ذلك اليوم قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ يعني أن

[سورة يونس (10): الآيات 46 إلى 50]

من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه أثر الفاني على الباقي وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يعني إلى ما يصلحهم وينجيهم من هذا الخسار. [سورة يونس (10): الآيات 46 الى 50] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يعني يا محمد بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ يعني ما نعدهم به من العذاب في الدنيا فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يعني في الآخرة وفيه دليل على أن الله يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعا من عذاب الكافرين وذلهم وخزيهم في حال حياته في الدنيا وقد أراه ذلك في يوم بدر وغيره من الأيام وسير به ما أعد لهم من العذاب في الآخرة بسبب كفرهم وتكذيبهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ فيه وعيد وتهديد لهم يعني أنه سبحانه وتعالى شاهد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة. قوله عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ لما بيّن الله عز وجل حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بيّن أن حال الأنبياء مع أممهم كذلك فقال تعالى: ولكل أمة، يعني قد خلت وتقدمت قبلكم، رسول يعني: مبعوثا إليهم يدعو إلى الله وإلى طاعته والإيمان به فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ في هذا الكلام إضمار تقديره، فإذا جاءهم رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني حكم بينهم بالعدل وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما: أنه في الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى كل أمة رسولا لتبليغ الرسالة وإقامة الحجة وإزالة العذر فإذا كذبوا رسلهم وخالفوا أمر الله قضى بينهم، وبين رسلهم في الدنيا فيهلك الكافرين وينجي رسلهم والمؤمنين ويكون ذلك عدلا لا ظلما لأن قبل مجيء الرسول لا يكون ثوابا ولا عقابا. القول الثاني: إن وقت القضاء في الآخرة وذلك أن الله إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والقضاء بينهم والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم. والمراد من ذلك، المبالغة في إظهار العدل، وهو قوله تعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني من جزاء أعمالهم شيئا ولكن يجازي كل أحد على قدر عمله. وقيل: معناه أنهم لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم وَيَقُولُونَ يعني هؤلاء الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ يعني الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب وقيل قيام الساعة، وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك أو يكون المعنى: إن كنتم صادقين أنت وأتباعك يا محمد أو ذكروه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم قُلْ أي: قل لهم يا محمد لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني لا أملك لنفسي دفع ضر أو جلب نفع ولا أقدر على ذلك إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن أقدر عليه أو أملكه. والمعنى: أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصر للأولياء وعلم قيام الساعة لا يقدر عليه إلا الله فتعيين الوقت إلى الله سبحانه وتعالى بحسب مشيئته ثم إذا حضر ذلك الوقت الذي وقته الله لحدوث هذه الأشياء فإنه يحدث لا محالة وهو قوله سبحانه وتعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي مدة مضروبة ووقت معين إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يعني إذا انقضت مدة أعمارهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يعني لا يتأخرون عن ذلك الأجل الذي أجل لهم ولا يتقدمونه قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً يعني ليلا يقال بات

[سورة يونس (10): الآيات 51 إلى 56]

يفعل كذا إذا فعل بالليل والسبب فيه إن الإنسان في الليل لا يكون إلا في البيت غالبا فجعل الله هذه اللفظة كناية عن الليل أَوْ نَهاراً يعني في النهار ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ يعني ما الذي يستعجلون من نزول العذاب وقد وقعوا فيه وحقيقة المعنى أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ يعني أي شيء يعلم المجرمون ما يطلبون ويستعجلون كما يقول الرجل لغيره وقد فعل فعلا قبيحا ماذا جنيت على نفسك. [سورة يونس (10): الآيات 51 الى 56] أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ يعني إذا ما نزل العذاب ووقع آمَنْتُمْ بِهِ يعني آمنتم بالله وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس وقيل معناه صدقتم بالعذاب عند نزوله ودخلت همزة الاستفهام على ثم للتوبيخ والتقريع آلْآنَ فيه إضمار تقديره يقال لهم آلآن تؤمنون أي حين وقوع العذاب وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يعني تكذيبا واستهزاء ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بسبب شركهم وكفرهم بالله ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يعني في الدنيا من الأعمال. قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ يعني ويستخبرونك يا محمد أحق ما تعدنا به من نزول العذاب وقيام الساعة قُلْ إِي وَرَبِّي أي قل لهم يا محمد نعم وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ يعني إن الذي أعدكم به حق، لا شك فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني بفائتين من العذاب لأن من عجز عن شيء فقد فاته وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ يعني أشركت ما فِي الْأَرْضِ يعني من شيء لَافْتَدَتْ بِهِ يعني يوم القيامة. والافتداء: بمعنى البذل لما ينجو به من العذاب إلا أنه لا ينفعه الفداء ولا يقبل منه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ يعني يوم القيامة، وإنما جاء بلفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة، لأن أحوال يوم القيامة لما كانت واجبة الوقوع، جعل الله مستقبلها كالماضي والإسرار يكون بمعنى الإخفاء وبمعنى الإظهار فهو من الأضداد، فلهذا اختلفوا في قوله: وأسروا الندامة. فقال أبو عبيدة: معناه وأظهروا الندامة لأن ذلك اليوم ليس يوم تصبر وتصنع. وقيل: معناه أخفوا، يعني أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء والأتباع خوفا من ملامتهم إياهم وتعبيرهم لهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يعني: حين عاينوا العذاب وأبصروه وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني وحكم بينهم بالعدل قيل بين المؤمن والكافر وقيل: بين الرؤساء والأتباع. وقيل: بين الكفار لاحتمال أن بعضهم قد ظلم بعضا فيؤخذ للمظلوم من الظالم وهو قوله سبحانه وتعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني في الحكم لهم وعليهم بأن يخفف من عذاب المظلوم ويشدد في عذاب الظالم أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن كل شيء في السموات والأرض لله ملك له لا يشركه فيه غيره فليس للكافر شيء يفتدي به من عذاب الله يوم القيامة لأن الأشياء كلها لله وهو أيضا ملك لله فكيف يفتدي من هو مملوك لغيره بشيء لا يملكه أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني ما وعد الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من ثواب الطائع وعقاب العاصي حق لا شك فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني حقيقة ذلك هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ

[سورة يونس (10): الآيات 57 إلى 60]

يعني الذي يملك ما في السموات والأرض قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني بعد الموت للجزاء قوله عز وجل: [سورة يونس (10): الآيات 57 الى 60] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قيل: أراد بالناس قريشا. وقيل: هو على العموم وهو الأصح وهو اختيار الطبري قد جاءتكم موعظة من ربكم يعني القرآن والوعظ زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. وقيل: الموعظة، ما يدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة. والقرآن داع إلى كل خير وصلاح بهذا الطريق وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ يعني أن القرآن ذو شفاء لما في القلوب من داء الجهل وذلك لأن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن. وأمراض القلب هي: الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة. فالقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها، لأن فيه الوعظ والزجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير فهو الدواء والشفاء لهذه الأمراض القلبية، وإنما خص الصدر بالذكر، لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه وَهُدىً يعني وهو هدى من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني ونعمة على المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بالقرآن دون غيرهم قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ الباء في بفضل الله متعلقة بمضمر استغنى عن ذكره لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله قد جاءتكم موعظة من ربكم. والفضل هنا: بمعنى الإفضال ويكون معنى الآية على هذا يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهو القرآن بإفضال الله عليكم ورحمته بكم وإرادته الخير لكم ثم قال سبحانه وتعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أشار بذلك إلى القرآن لأن المراد بالموعظة والشفاء: القرآن فترك اللفظ وأشار إلى المعنى وقيل: فبذلك فليفرحوا إشارة إلى معنى الفضل والرحمة والمعنى فبذلك التطول والإنعام فليفرحوا قال الواحدي الفاء في قوله تعالى: فَلْيَفْرَحُوا زائدة كقول الشاعر: فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي فالفاء في قوله فاجزعي، زائدة. وقال صاحب الكشاف في معنى الآية بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك. فليفرحوا والتكرير للتأكيد والتقرير إيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه والفاء داخلة لمعنى الشرط فكأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما، والفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب والمشتهى. يقال: فرحت بكذا إذا أدركت المأمول ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح في اللذات البدنية الدنيوية واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الخيرات ومعنى الآية ليفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته أي ما آتاهم الله من المواعظ وشفاء الصدور وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يعني من متاع الدنيا ولذاتها الفانية هذا مذهب أهل المعاني في هذه الآية.

[سورة يونس (10): الآيات 61 إلى 63]

وأما مذهب المفسرين فغير هذا، فإن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله. وقال ابن عمر: فضل الله الإسلام ورحمته تزيينه في قلوبنا. وقيل: فضل الله الإسلام ورحمته الجنة. وقيل: فضل الله القرآن ورحمته السنن. فعلى هذا الباء في بفضل الله تتعلق بمحذوف يفسره ما يعده تقديره قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته قُلْ أي قل يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ يعني من زرع وضرع وغيرهما وعبر عما في الأرض بالإنزال لأن جميع ما في الأرض من خير ورزق فإنما هو من بركات السماء فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ يعني من ذلك الرزق حَراماً وَحَلالًا يعني ما حرموه على أنفسهم في الجاهلية من الحرث والأنعام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. قال الضحاك: وهو قوله سبحانه وتعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ يعني: قل لهم يا محمد آلله أذن لكم في هذا التحريم والتحليل أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ يعني بل أنتم كاذبون على الله في ادعائكم أن الله أمرنا بهذا وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني: إذا لقوه يوم القيامة أيحسبون أنه لا يؤاخذهم ولا يجازيهم على أعمالهم فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني ببعثة الرسل وإنزال الكتب لبيان الحلال والحرام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ يعني: لا يشكرون الله على ذلك الفضل والإحسان. [سورة يونس (10): الآيات 61 الى 63] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) قوله سبحانه وتعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده والشأن الخطب والحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور والجمع الشؤون تقول العرب ما شأن فلان أي ما ماله. والشأن اسم إذا كان بمعنى الخطب والحال ويكون مصدرا إذا كان معناه القصد والذي في هذه الآية يجوز أن يكون المراد به الاسم. قال ابن عباس: معناه، وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر؟ وقال الحسن: في شأن من شؤون الدنيا وحوائجك ويجوز أن يكون المراد منه القصد يعني قصد الشيء وما تتلو منه من قرآن. اختلفوا في الضمير في منه إلى ماذا يعود فقيل: يعود إلى الشأن إذ تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم شؤونه، فعلى هذا يكون داخلا تحت قوله تعالى: وما تكون في شأن إلا أنه سبحانه وتعالى خصه بالذكر لشرفه وعلو مرتبته. وقيل: إنه راجع إلى القرآن لأنه قد تقدم ذكره في قوله سبحانه وتعالى قل بفضل الله وبرحمته، فعلى هذا يكون المعنى وما تتلو من القرآن من قرآن يعني من سورة وشيء منه لأن لفظ القرآن يطلق على جميعه وعلى بعضه. وقيل: الضمير في منه راجع إلى الله والمعنى وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك. وأما قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فإنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته داخلون فيه ومرادون به، لأن من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس قوم وكبيرهم، كان القوم داخلين في ذلك الخطاب. ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ولا تعملون من عمل على صيغة الجمع فدل على أنهم داخلون في الخطابين الأولين وقوله

سبحانه وتعالى: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً يعني شاهدين لأعمالكم وذلك لأن الله سبحانه وتعالى شاهد على كل شيء وعالم بكل شيء لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى فكل ما يدخل في الوجود من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وهو شاهد عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يعني أن الله سبحانه وتعالى شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون في ذلك العمل. والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه. وقال ابن الأنباري: معناه إذ تدفعون فيه وتبسطون في ذكره. وقيل: الإفاضة: الدفع بكثرة. وقال الزجاج: تنشرون فيه. يقال: أفاض القوم في الحديث، إذا انتشروا فيه وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ يعني: وما يبعد ويغيب عن ربك يا محمد من عمل خلقه شيء لأنه عالم به وشاهد عليه. وأصل العزوب: البعد. يقال منه كلام عازب إذا كان بعيد المطلب مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ يعني وزن ذرة والمثقال: الوزن. والذرّة: النملة الصغيرة الحمراء وهي خفيفة الوزن جدا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فإن قلت: لم قدم ذكر الأرض على السماء هنا وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ وما فائدة ذلك؟ قلت: كان حق السماء أن تقدم على الأرض كما في سورة سبأ إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ثم وصل ذلك بقوله وما يعزب عن ربك حسن تقديم الأرض على السماء في هذا الموضع لهذه الفائدة وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ يعني من الذرة وَلا أَكْبَرَ يعني منها إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ. قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اعلم أننا نحتاج أولا في تفسير هذه الآية أن نبين من يستحق اسم الولاية ومن هو الولي فنقول: اختلف العلماء فيمن يستحق هذا الاسم فقال ابن عباس في هذه الآية هم الذين يذكر الله لرؤيتهم وروى الطبري بسنده عن سعيد بن جبير مرسلا قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولياء الله فقال هم الذين إذ رأوا ذكر الله» وقال ابن زيد: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ولن يتقبل الإيمان إلا بالتقوى. وقال قوم: هم المتحابون في الله. ويدل على ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا بشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟. قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتقاطعونها فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» أخرجه أبو داود. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» أخرجه مسلم. عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» أخرجه الترمذي. وروى البغوي بسنده عن أبي مالك الأشعري. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لله عبيدا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة. قال: وفي ناحية القوم أعرابي، فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم البشر فقال هم عباد من عباد الله ومن بلدان شتى وقبائل شتى لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتبادلون بها يتحابون بروح الله يجعل وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون ويخاف الناس

[سورة يونس (10): الآيات 64 إلى 65]

ولا يخافون». ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم» هكذا ذكره البغوي بغير سند، وروى الطبري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» الغبطة نوع من الحسد إلا أن الحسد مذموم والغبطة محمودة والفرق بين الحسد والغبطة أن الحاسد يتمنى زوال ما على المحسود من النعمة ونحوها والغبطة هي أن يتمنى الغابط مثل تلك النعمة التي هي على المغبوط من غير زوال عنه. وقال أبو بكر الأصم: أولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم وتولوا القيام بحق العبودية لله والدعوة إليه. وأصل الولي من الولاء وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض عليه ويكون مشتعلا بالله مستغرق القلب في معرفة نور جلال الله فإن رأى رأى دلائل قدرة الله وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله وإن تحرك تحرك في طاعة الله وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله لا يفتر عن ذكر الله ولا يرى بقلبه غير الله، فهذه صفة أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا. وقال المتكلمون: ولي الله من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة وإليه الإشارة بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وهو أن الإيمان مبني على جميع الاعتقاد والعمل ومقام التقوى هو أن يتقي العبد كل ما نهى الله عنه وقوله سبحانه وتعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، يعني في الآخرة إذ خاف غيرهم ولا هم يحزنون يعني على شيء فاتهم من نعيم الدنيا ولذاتها. قال بعض المحققين: زوال الخوف والحزن عنهم إنما يحصل لهم في الآخرة لأن الدنيا لا تخلو من هم وغم وأنكاد وحزن. قال بعض العارفين: إن الولاية عبارة عن القرب من الله ودوام الاشتغال بالله وإذا كان العبد بهذه الحالة فلا يخاف من شيء ولا يحزن على شيء لأن مقام الولاية والمعرفة منعه من أن يخاف أو يحزن. وأما قوله سبحانه وتعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فقد تقدم تفسيره وأنه صفة لأولياء الله. [سورة يونس (10): الآيات 64 الى 65] لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) وقوله سبحانه وتعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ اختلفوا في هذه البشرى، فروي عن عبادة بن الصامت قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» أخرجه الترمذي. وله عن رجل من أهل مصر قال «سألت أبا الدرداء عن هذه الآية لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» قال الترمذي حديث حسن (خ). عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ورؤيا المؤمن

جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» لفظ البخاري ومسلم «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاث: الرؤيا الصالحة بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، قال بعض العلماء: ووجه هذا القول إنا إذا حملنا قوله تبارك وتعالى لهم البشرى على الرؤيا الصالحة الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحمل هذه الحالة إلا لهم، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله عز وجل ومن كان كذلك فإنه عند النوم لا يبقى في قلبه غير ذكر الله ومعرفته ومن المعلوم أن معرفة الله في القلب لا تفيد إلا الحق والصدق فإذا رأى الولي رؤيا أو رؤيت له كانت تلك الرؤيا بشرى من الله عز وجل لهذا الولي. قال الخطابي: في هذه الأحاديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها وإنما كانت جزءا من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم وكان الأنبياء عليهم السلام يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة، قال الخطابي: قال بعض العلماء معنى الحديث أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة لا أنها جزء من النبوة وقال الخطابي وغيره في معنى قوله- الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة: أقام النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح وكان قبل ذلك بستة أشهر يرى في المنام الوحي فهي جزء من ستة وأربعين جزءا وقيل إن المنام لعل أن يكون فيه إخبار بغيب وهو أحد مراتب النبوة وهو يسير في جانب النبوة لأنه لا يجوز أن يبعث الله بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيا يشرع الشرائع ويبين الأحكام ولا يخبر بغيب أبدا. فإذا وقع لأحد في المنام الإخبار بغيب يكون هذا القدر جزءا من النبوة لا أنه نبي، وإذا وقع ذلك لأحد في المنام يكون صدقا والله أعلم. وقيل في تفسير الآية: إن المراد بالبشرى في الحياة الدنيا هي الثناء الحسن وفي الآخرة الجنة ويدل على ذلك ما روي عن أبي ذر قال «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن» أخرجه مسلم قال الشيخ محيي الدين النووي قال العلماء معنى هذا البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل للبشرى المؤخرة له في الآخرة بقوله بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار وهذه البشرى المعجلة دليل على رضا الله عنه ومحبته له وتحبيبه إلى الخلق كما قال ثم يوضع له القبول في الأرض هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم قال بعض المحققين: إذا اشتغل العبد بالله عز وجل استنار قلبه وامتلأ نورا فيفيض من ذلك النور الذي في قلبه على وجهه فتظهر عليه آثار الخشوع والخضوع يحبه الناس ويثنون عليه فتلك عاجل بشراه بمحبة الله له ورضوانه عليه وقال الزهري وقتادة في تفسير البشرى: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند الموت ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وقال عطاء عن ابن عباس البشرى في الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشارة وفي الآخرة بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله تعالى ويبشر برضوان الله تعالى وقال الحسن هي ما بشر الله به المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه ويدل عليه قوله تعالى: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يعني لا خلف لوعد الله الذي وعد به أولياءه وأهل طاعته في كتابه وعلى ألسنة رسله ولا تغيير لذلك الوعدلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني ما وعدهم به في الآخرة وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحزنك يا محمد قول هؤلاء المشركين لك ولا يغمك تخويفهم إياك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني أن القهر والغلبة والقدرة لله جميعا هو المنفرد بها دون غيره وهو ناصرك عليهم والمنتقم لك منهم. وقال سعيد بن المسيب: إن العزة لله جميعا فيعز من يشاء وهذا كما قال سبحانه وتعالى في آية أخرى «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» ولا منافاة بين الآيتين فإن عزة الرسول صلى الله عليه وسلم وعزة المؤمنين بإعزاز الله إياهم فثبت بذلك

[سورة يونس (10): الآيات 66 إلى 70]

أن العزة لله جميعا وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. وقيل إن المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم فأخبر الله سبحانه وتعالى أن جميع ذلك لله وفي ملكه فهو قادر على أن يسلبهم جميع ذلك ويذلهم بعد العز هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم ودعائكم الْعَلِيمُ بجميع أحوالكم لا تخفى عليه خافية. [سورة يونس (10): الآيات 66 الى 70] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ألا كلمة تنبيه معناه أنه لا ملك لأحد في السموات ولا في الأرض إلا لله عز وجل فهو يملك من في السموات ومن في الأرض. فإن قلت قال سبحانه وتعالى في الآية التي قبل هذه ألا إن لله ما في السموات بلفظة ما وقال سبحانه وتعالى في هذه الآية بلفظة من فما فائدة ذلك؟ قلت إن لفظة ما تدل على ما لا يعقل ولفظة من تدل على من يعقل فمجموع الآيتين يدل على أن الله عز وجل يملك جميع من في السموات ومن في الأرض من العقلاء وغيرهم وهم عبيده وفي ملكه. وقيل: إن لفظة من لمن يعقل فيكون المراد بمن في السموات الملائكة والعقلاء ومن في الأرض الإنس والجن وهم العقلاء أيضا وإنما خصهم بالذكر لشرفهم وإذا كان هؤلاء العقلاء المميزون في ملكه وتحت قدرته فالجمادات بطريق الأولى أن يكونوا في ملكه إذا ثبت هذا فتكون الأصنام التي يعبدها المشركون أيضا في ملكه وتحت قبضته وقدرته ويكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء لله معبودة دونه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ لفظة ما استفهاميه معناه وأي شيء يتبع الذي يدعون من دون الله شركاء والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء لأنهم يعبدونها على أنها شركاء لله تشفع لهم وليس الأمر على ما يظنون وهو قوله سبحانه وتعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أن فعلهم ذلك ظن منهم أنها تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله وذلك ظن منهم لا حقيقة له وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني إن هم إلا يكذبون في دعواهم ذلك. قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً يعني هو الله ربكم الذي خلق لكم الليل راحة لتسكنوا فيه وليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وأصل السكون الثبوت بعد الحركة والنهار مبصرا وجعل النهار مضيئا لتهتدوا فيه لحوائجكم وأسباب معايشكم وأضاف الإبصار إلى النهار وإنما يبصر فيه وليس النهار مما يبصر ولكن لما كان مفهوما من كلام العرب معناه خاطبهم بلغتهم وما يفهمونه قال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم فأضاف النوم إلى الليل ووصفه به وإنما عنى نفسه وأنه لم يكن نائما هو ولا بعيره وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يعني يسمعون سمع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أن الذي

[سورة يونس (10): الآيات 71 إلى 73]

خلق هذه الأشياء كلها هو الإله المعبود المنفرد بالوحدانية في الوجود قالُوا يعني المشركين اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً يعني به قولهم الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن اتخاذ الولد هُوَ الْغَنِيُّ يعني أنه سبحانه وتعالى هو الغني عن جميع خلقه فكيف يليق بجلاله اتخاذ الولد وإنما يتخذ الولد من هو محتاج إليه والله تعالى هو الغني المطلق وجميع الأشياء محتاجة إليه وهو غني عنها لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه مالك ما في السموات وما في الأرض وكلهم عبيده وفي قبضته وتصرفه وهو محدثهم وخالقهم. ولما نزّه الله سبحانه وتعالى نفسه عن اتخاذ الولد عطف على من قال ذلك بالإنكار والتوبيخ والتقريع فقال سبحانه وتعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا يعني أنه لا حجة عندكم على هذا القول البتة ثم بالغ في الإنكار عليهم بقوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته وتضيفون إليه ما لا تجوز إضافته إليه جهلا منكم بما تقولون بغير حجة ولا برهان قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون على الله الباطل ويزعمون أن له ولدا لا يُفْلِحُونَ يعني لا يسعدون وإن اغتروا بطول السلامة والبقاء في النعمة. والمعنى أن قائل هذا القول لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر قال الزجاج هذا وقف قام يعني قوله لا يفلحون ثم ابتدأ فقال تعالى: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا وفيه إضمار تقديره لهم متاع في الدنيا يتمتعون به مدة أعمارهم وانقضاء آجالهم في الدنيا وهي أيام يسيرة بالنسبة إلى طول مقامهم في العذاب وهو قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يعني بعد الموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ يعني ذلك العذاب بسبب ما كانوا يجحدون في الدنيا من نعمة الله عليهم ويصفونه بما لا يليق بجلاله. [سورة يونس (10): الآيات 71 الى 73] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) قوله سبحانه وتعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ لما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم ليكون في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة بمن سلف من الأنبياء وتسلية له ليخف عليه ما يلقى من أذى قومه وأن الكفار من قومه إذا سمعوا هذه القصص وما جرى لكفار الأمم الماضية من العذاب والهلاك في الدنيا كان ذلك سببا لخوف قلوبهم وداعيا لهم إلى الإيمان. ولما كان قوم نوح أول الأمم هلاكا وأعظمهم كفرا وجحودا ذكر الله قصتهم وأنه أهلكهم بالغرق ليصير ذلك موعظة وعبرة لكفار قريش، فقال سبحانه وتعالى واتل عليهم نبأ نوح يعني واقرأ على قومك يا محمد خبر قوم نوح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ وهو بنو قابيل إِنْ كانَ كَبُرَ يعني ثقل عَلَيْكُمْ مَقامِي يعني فيكم وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ يعني: ووعظي إياكم بآيات الله: وقيل: معناه إن كان ثقل وشق عليكم طول مقامي فيكم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى ويذكرهم بآيات الله وهو قوله وتذكيري بآيات الله يعني ووعظي بآيات الله وحججه وبيناته فعزمتم على قتلي وطردي فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ يعني فهو حسبي وثقتي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ يعني فأحكموا أمركم واعزموا عليه، قال الفراء: الإجماع الإعداد والعزيمة

[سورة يونس (10): الآيات 74 إلى 80]

على الأمر قال ابن الأنباري: المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم ومكرهم فالتقدير لا تدعوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه وَشُرَكاءَكُمْ يعني وادعوا شركاءكم يعني آلهتكم فاستعينوا بها لتجمع معكم وتعينكم على مطلوبكم وإنما حثهم على الاستعانة بالأصنام بناء على مذهبهم واعتقادهم أنها تضر وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضر ولا تنفع فهو كالتبكيت والتوبيخ لهم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً يعني لا يكن أمركم عليكم خفيا مبهما ولكن ليكن أمركم ظاهرا منكشفا من قولهم غم الهلال فهو مغموم إذا خفي والتبس على الناس ثُمَّ اقْضُوا ثم امضوا إِلَيَّ بما في أنفسكم من مكروه وما توعدوني به من قتل وطرد وافرغوا منه تقول العرب قضى فلان إذا مات ومضى وقيل معناه ثم اقضوا ما أنتم قاضون وَلا تُنْظِرُونِ أي: ولا تؤخروني ولا تمهلوني بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه وهذا الكلام من نوح عليه السلام على طريق التعجيز لهم أخبر الله عز وجل عن نوح عليه السلام أنه كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله وأنه كان واثقا بنصره غير خائف من كيدهم علما منه بأنهم وآلهتهم ليس لهم نفع ولا ضر وإن مكرهم لا يصل إليه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني فإن أعرضتم عن قولي وقبول نصحي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يعني من جعل وعوض على تبليغ الرسالة فإذا لم يأخذ على تبليغ الدعوة إلى الله شيئا كان أقوى تأثيرا في النفس إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي: ما ثوابي وجزائي على تبليغ الرسالة إلا على الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني أني أمرت بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تارك له سواء قبلتموه أم لم تقبلوه وقيل معناه وأمرت أن أكون من المستسلمين لأمر الله ولكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة فَكَذَّبُوهُ يعني فكذبوا نوحا عليه السلام فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ يعني في السفينة وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يعني وجعلنا الذين نجيناهم معه في الفلك سكان الأرض بعد الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي فانظر يا محمد أو يا أيها الإنسان كيف كان آخر أمر من أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ولم يقبلوا ذلك. [سورة يونس (10): الآيات 74 الى 80] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل وقد كان بعد نوح هود وصالح وغيرهما من الرسل فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يعني أن أولئك الأقوام والأمم التي جاءتهم الرسل جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما جاءتهم به الرسل ولم يرجعوا عما هم فيه من الكفر والتكذيب كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني مثل إغراقنا قوم نوح بسبب تكذيبهم نوحا كذلك نختم على قلوب من اعتدى وسلك سبيلهم في التكذيب. قوله عز وجل: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أشراف قومه بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا يعني عن الإيمان بما جاء به موسى وهارون وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني مستكسبين للإثم فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني فلما جاء فرعون وقومه الحق الذي جاء به موسى من عند

[سورة يونس (10): الآيات 81 إلى 83]

الله قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ يعني أن هذا الذي جاء به موسى سحر مبين يعرفه كل أحد قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا فيه حذف تقديره أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا فحذف السحر الأول اكتفاء بدلالة الكلام عليه ثم قال أسحر هذا وهو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنه ليس بسحر ثم احتج على صحة قوله فقال وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ يعني حاصل السحر تمويه وتخييل وصاحب ذلك لا يفلح أبدا قالُوا يعني قال قوم فرعون لموسى أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا يعني لتصرفنا وتلوينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعني من الدين وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ يعني الملك والسلطان فِي الْأَرْضِ يعني في أرض مصر والخطاب لموسى وهارون. قال الزجاج: سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ يعني أن فرعون أراد أن يعارض معجزة موسى بأنواع من التلبيس ليظهر أن ما أتى به موسى سحر فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ إنما أمرهم موسى بإلقاء ما معهم من الحبال والعصي التي فيها سحرهم ليظهر الحق ويبطل الباطل ويتبين أن ما أتوا به فاسد. [سورة يونس (10): الآيات 81 الى 83] فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) فَلَمَّا أَلْقَوْا يعني ما معهم من الحبال والعصي قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ يعني الذي جئتم به هو السحر الباطل وهذا على سبيل التوبيخ لهم إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ يعني يكمله ويظهر فضيحة صاحبه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ يعني لا يقويه ولا يكمله ولا يحسنه وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يعني ويظهر الله الحق ويقويه ويعليه بِكَلِماتِهِ يعني وعده الصادق لموسى أنه يظهره وقيل بما سبق من قضائه وقدره لموسى أنه يغلب السحرة وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. قوله سبحانه وتعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ لما ذكر الله عز وجل ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة الباهرة أخبر الله سبحانه وتعالى أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه وإنما ذكر الله عز وجل هذا تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به واستمرارهم على الكفر والتكذيب فبين الله سبحانه وتعالى أن له أسوة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي جاء به موسى عليه السلام من المعجزات كان أمرا عظيما ومع ذلك فما آمن معه إلا ذرية. والذرية: اسم يقع على القليل من القوم، قال ابن عباس: الذرية القليل وقيل المراد به التصغير وقلة العدد واختلفوا في هاء الكناية في قومه فقيل إنها راجعة إلى موسى وأراد بهم قوم موسى وهم بنو إسرائيل الذين كانوا معه بمصر من أولاده. قال مجاهد: هم أولاد يعقوب الذين أرسل إليهم موسى هلك الآباء وبقي الأبناء وقيل هم قوم نجوا من قتل فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة في بني إسرائيل إذا ولدت ابنا وهبته لقبطية خوفا عليه من القتل فنشؤوا بين القبط فلما كان اليوم الذي غلب موسى فيه السحرة آمنوا به، وقال ابن عباس: ذرية من قومه يعني من بني إسرائيل. وقيل: إنها راجعة إلى فرعون يعني إلا ذرية من قوم فرعون. روى عطية عن ابن عباس قال: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطة ابنته.

[سورة يونس (10): الآيات 84 إلى 88]

قال الفراء: سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فكان الرجل يتبع أمه وأخواله في الإيمان وذلك كما يقال لأولاد فارس الذين دخلوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس الآباء عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الملأ: الأشراف فعلى هذا يكون معنى الآية على خوف من فرعون ومن أشرافهم، وهم ملأ الذرية لأنه كان آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل وقيل أراد بالملإ ملأ فرعون وإنما قال سبحانه وتعالى وملئهم بالجمع وفرعون واحد على سبيل التفخيم له أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم ويصدهم عن الإيمان وإنما قال أن يفتنهم ولم يقل أن يفتنوهم لأن قوم فرعون كانوا على مراده وتابعين لأمره وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ يعني أنه لغالب قهار متكبر فيها وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ يعني من المجاوزين الحد لأنه كان عبدا فادعى الربوبية وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل. [سورة يونس (10): الآيات 84 الى 88] وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) وَقالَ مُوسى يعني لقومه يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا يعني. فيه فثقوا ولأمره فسلموا فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يعني إن كنتم مستسلمين لأمره قيل إنما أعيد قوله إن كنتم مسلمين بعد قوله إن كنتم آمنتم بالله لإرادة إن كنتم موصوفين بالإيمان القلبي وبالإسلام الظاهري ودلت الآية على أن التوكل على الله والتفويض لأمره من كمال الإيمان وأن من كان يؤمن بالله فلا يتوكل إلا على الله لا على غيره فَقالُوا يعني قال قوم موسى مجيبين له عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا يعني عليه اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا ربهم فقالوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانا وكفرا وقال مجاهد: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك وقيل معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني وخلصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة قوله عز وجل: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ هارون أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يعني اتخذا لقومكما بمصر بيوتا للصلاة فيها يقال تبوأ فلان لنفسه بيتا إذا اتخذه مباءة أي وطنا والمعنى اجعلا بمصر لقومكما بيوتا ترجعون إليها للصلاة والعبادة وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً اختلف أهل التفسير في معنى هذه البيوت والقبلة فمنهم من قال أراد بالبيوت المساجد التي يصلى فيها وفسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة فعلى هذا يكون معنى الكلام واجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقيل معناه اجعلوا بيوتكم إلى القبلة. واختلفوا في هذه القبلة، وظاهر القرآن لا يدل على تعيينها إلا أنه قد نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة لموسى وهارون، وهو قول مجاهد أيضا قال ابن عباس: قالت بنو إسرائيل لموسى لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقيل كانت القبلة إلى جهة المقدس. وقيل: أراد مطلق البيوت وعلى هذا يكون معنى قوله واجعلوا بيوتكم قبلة أي مقابلة يعني يقابل بعضها بعضا وقيل معناه واجعلوا في بيوتكم قبلة تصلون إليها.

فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى خص موسى وهارون بالخطاب في أول الآية بقوله سبحانه وتعالى: وأخيه أن تبوآ لقومكما ثم إنه عم بهذا الخطاب فقال تعالى: واجعلوا بيوتكم قبلة فما السبب فيه. قلت: إنه سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون بأن يتبوءا لقومهما بيوتا للعبادة وذلك مما يخص به الأنبياء فخصا بالخطاب لذلك. ثم لما كانت العبادة عامة تجب على الكافة عمّ بالخطاب الجميع فقال تعالى: واجعلوا بيوتكم قبلة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني في بيوتكم وذلك حين خاف موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل من فرعون وقومه إذا صلوا في الكنائس والبيع الجامعة أن يؤذهم فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يصلوا في بيوتهم خفية من فرعون وقومه، وقيل: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في الكنائس الجامعة وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريب تلك الكنائس ومنعهم من الصلاة فيها فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون. وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون وأظهرهما على فرعون أمرهم باتخاذ المساجد ظاهرة على رغم الأعداء وتكفل لهم بصونهم من شرهم وهو قوله سبحانه وتعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني بأنه لا يصل إليهم مكروه. قوله سبحانه وتعالى: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لما أتى موسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات ورأى أن القوم مصرون على الكفر والعناد والإنكار لما جاء به أخذ في الدعاء عليهم ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولا سبب إقدامه على الجرائم التي كانت سبب إصراره على ما يوجب الدعاء عليه. ولما كان سبب كفرهم وعنادهم هو حب الدنيا وزينتها لا جرم أن موسى لما أخذ في الدعاء قدم هذه المقالة فقال رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والزينة عبارة عما يتزين به اللباس والدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه ثم قال تبارك وتعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ اختلفوا في هذه اللام فقال الفراء: هي لام كي فعلى هذا يكون المعنى ربنا إنك جعلت هذه الأموال سببا لضلالهم لأنهم بطروا وطغوا في الأرض واستكبروا عن الإيمان. وقال الأخفش: إنما هي لما يؤول إليه الأمر والمعنى إنك أتيت فرعون وملأه زينة في الحياة الدنيا فضلوا فعلى هذا هي لام العاقبة يعني فكان عاقبتهم الضلال، وقال ابن الأنباري: هي لام الدعاء وهي لام مكسورة تحزم المستقبل ويفتتح بها الكلام فيكون المعنى ربنا إنك ابتليتهم بالضلال عن سبيلك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ الطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو. ومعنى اطمس على أموالهم أزل صورها وهيئاتها. وقال مجاهد: أهلكها وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئتها، قال قتادة: بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة، وقال محمد بن كعب القرظي: صارت صورهم حجارة وكان الرجل مع أهله في فراشه فصارا حجرين والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا وهذا فيه ضعف لأن موسى عليه السلام دعا على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ. وقال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة. قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة النخل والثمار والدقيق والأطعمة وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني اربط على قلوبهم واطبع عليها

[سورة يونس (10): الآيات 89 إلى 90]

وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لمن يشاء ولولا ذلك لما جسر موسى عليه السلام على هذا السؤال فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ يعني الغرق قاله ابن عباس وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه: قال موسى قبل أن يأتي فرعون ربنا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فاستجاب الله له دعاءه فحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان. قال بعض العلماء: إنما دعا عليهم موسى بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون وذلك أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم في الأزل أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم. [سورة يونس (10): الآيات 89 الى 90] قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) قالَ الله عز وجل لموسى وهارون قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما إنما نسب الدعاء إليهما وأن الداعي هو موسى وحده لأن هارون عليه السلام كان يؤمن والتأمين دعاء لأنه طلب وسؤال أيضا ومعناه اللهم استجب فصار بذلك شريك موسى في الدعاء فلذلك قال تعالى قد أجيب دعوتكما فَاسْتَقِيما يعني على تبليغ الرسالة وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فإن وعدي لا خلف فيه ووعيدي نازل بفرعون وقومه فلا تستعجلا. قيل: كان بين دعاء موسى عليه السلام وبين الإجابة أربعون سنة. قال الإمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله لئن أشركت ليحبطن عملك لا يدل على صدور الشرك منه. قوله عز وجل: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي: وقطعنا ببني إسرائيل البحر وعبرناهم إياه حتى جاوزوه وعبروه فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ يعني لحقهم وأدركهم بَغْياً وَعَدْواً أي ظلما وعدوانا وقيل البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم وقيل بغيا في القول وعدوا في الفعل. قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وسبعون وخرجوا مع موسى من مصر وهم ستمائة ألف وذلك أنه لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر في الوقت الذي أمرهما أن يخرجا فيه بهم ويسر لهم أسباب الخروج وكان فرعون غافلا فلما سمع بخروجهم ومفارقتهم مملكته خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى أين المخلص والمخرج البحر أمامنا وفرعون وراءنا وقد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وكشف الله عن وجه الأرض وأيبس لهم البحر فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان وكان مقدمهم جبريل وكان على فرس أنثى وديق وميكائيل بسوقهم حتى لا يشد منهم أحد فلما خرج آخر بني إسرائيل من البحر دنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئا فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعا في البحر وهمّ أولهم بالخروج التطم البحر عليهم فلما أدرك فرعون الغرق أتى بكلمة الإخلاص

[سورة يونس (10): الآيات 91 إلى 93]

ظنا منه أنها تنجيه من الهلاك وهو قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ يعني فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل. قال العلماء: إيمانه غير مقبول وذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين ويدل عليه قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا. وقيل: إنه قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده بها الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية لا جرم لم ينفعه ما قال في ذلك الوقت. وقيل: إن فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى، فلهذا قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه ولما رجع فرعون إلى الإيمان والتوبة حين أغلق بابهما بحضور الموت ومعاينة الملائكة قيل له. [سورة يونس (10): الآيات 91 الى 93] آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يعني آلآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، والمخاطب لفرعون بهذا هو جبريل عليه السلام وقيل الملائكة. وقيل: إن القائل لذلك هو الله تعالى عرف فرعون قبح صنعه وما كان عليه من الفساد في الأرض ويدل على هذا القول قوله سبحانه وتعالى فاليوم ننجيك ببدنك، والقول الأول أشهر ويعضده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما أغرق الله فرعون قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. ((فصل: في الكلام على هذا الحديث)) لأنه في الظاهر مشكل فيحتاج إلى بيان وإيضاح فنقول قد ورد هذا الحديث على طريقين مختلفين عن ابن عباس، ففي الطريق الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو وإن كان قد ضعفه يحيى بن معين وغيره فإنه كان شيخا نبيلا صدوقا ولكنه كان سيئ الحفظ ويغلط وقد احتمل الناس حديثه وإنما يخشى من حديثه إذا لم يتابع عليه أو خالفه فيه الثقات وكلاهما منتف في هذا الحديث لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير وهذا الإسناد على شرط البخاري، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير وعطاء بن السائب ثقة قد أخرج له مسلم فهو على شرط مسلم وإن كان عطاء قد تكلم فيه من قبل اختلاطه فإنما يخاف منه ما انفرد به أو خولف فيه وكلاهما منتف فقد علم بهذا أن لهذا الحديث أصلا وأن رواته ثقات ليس فيهم متهم وإن كان فيهم من هو سيئ الحفظ فقد تابعه عليه غيره.

فإن قلت ففي الحديث الثاني شك في رفعه إنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه وشك شعبة في تعيينه هل هو عطاء بن السائب أو عدي بن ثابت وكلاهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث وقوله من حال البحر أي من طين البحر كما في الرواية الأخرى. ((فصل)) ووجه إشكاله ما اعترض به الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره فقال: هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين لئلا يتوب غضبا عليه والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة، إما أن يقال: التكليف هل كان ثابتا أم لا فإن كان ثابتا لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة وإن كان التكليف زائلا عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضا فكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان. ولو قيل: إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فهذا يبطله قول جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك فهذا وجه الإشكال الذي أورده الإمام على هذا الحديث في كلام أكثر من هذا، والجواب عن هذا الاعتراض أن الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اعتراض عليه لأحد. وأما قول الإمام: إن التكليف هل كان ثابتا في تلك الحالة أم لا فإن كان ثابتا لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة فإن هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر، فإنهم يقولون إن الله يحول بين الكافر والإيمان ويدل على ذلك قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وقوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ وقال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه قلب أفئدتهم مثل تركهم الإيمان به أول مرة، وهكذا فعل بفرعون منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أولا فدس الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه وذلك جزاء على كفره السابق وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله. ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضا أن الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق فيحسن منه أن يضله ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان. فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب فإن غاية ما يقال فيه إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده للإيمان لما جاءه. وأما فعل جبريل من دس الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه. فأما قول الإمام لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا يجب عليه ما يجب علينا. وأما إذا كان جبريل إنما يفعل ما أمره الله به والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان. وقد يقال: إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به وإما أن يفعل ما يشاء

من تلقاء نفسه لا بأمر الله وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ولا يحرم عليه منعه منها لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا. وقوله وإن كان التكليف زائلا عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نسب إلى جبريل فائدة فجوابه أن يقال إن للناس في تعليل أفعال الله قولين أحدهما أن أفعاله لا تعلل وعلى هذا التقدير فلا يريد هذا السؤال أصلا وقد زال الإشكال. والقول الثاني: إن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح لأجلها فعلها وكذا أوامره ونواهيه لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب وأن إيمانه لا ينفعه دس الطين في فيه لتحقق معاينته للموت فلا تكون تلك الكلمة نافعة له وأنه وإن كان قالها في وقت لا ينفعه فدس الطين في فيه تحقيقا لهذا المنع والفائدة فيه تعجيل ما قد قضي عليه وسد الباب عند سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان فإن موسى عليه السلام لما دعا ربه بأن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع أجاب الله دعاءه. فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة وتتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله قد أجيبت دعوتكما فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله فيكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى منفذا لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون. وأما قوله: لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر، فجوابه ما تقدم من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وجبريل إنما يتصرف بأمر الله ولا يفعل إلا ما أمره الله به وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به فأي كفر يكون هنا وأيضا فإن الرضا بالكفر إنما يكون كفرا في حقنا لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا في حقنا لمخالفتنا ما أمرنا به. وأما من ليس مأمورا كأمرنا ولا مكلفا كتكليفنا بل يفعل ما يأمره به ربه فإنه إذا نفذ ما أمره به لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا في حقه وعلى هذا التقدير فإن جبريل لما دس الطين في في فرعون كان ساخطا لكفره غير راض به والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها وهو غير راض بالكفر فغاية أمر جبريل مع فرعون أن يكون منفذا لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر وهو ساخط له غير راض به وقوله كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان فجوابه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما قوله وإن قيل إن جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فجوابه أنه إنما فعل ذلك بأمر الله منفذا لأمر الله والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. قوله سبحانه وتعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. قال أهل التفسير: لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه فقالت بنو إسرائيل ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله فأمر الله عز وجل البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فعرفوه فمن ذلك الوقت لا يقبل

[سورة يونس (10): الآيات 94 إلى 98]

الماء ميتا أبدا، ومعنى قوله ببدنك يعني نلقيك وأنت جسد لا روح فيه وقيل هذا الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء كأنه قيل له ننجيك ولكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك. وقيل: أراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر، يعرف به فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني عبرة وموعظة، وذلك أنهم ادعوا أن مثل فرعون لا يموت أبدا فأظهره الله لهم حتى يشاهدوه وهو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم ويعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة والذلة ملقى على الأرض لا يهابه أحد وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ قوله عز وجل: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ يعني أسكناهم مكان صدق وأنزلناهم منزل صدق بعد خروجهم من البحر وإغراق عدوهم فرعون. والمعنى: أنزلناهم منزلا محمودا صالحا وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق والسبب فيه أن الشيء إذا كان كاملا صالحا، لا بد أن يصدق الظن فيه وفي المراد بالمكان الذي بوءوا قولان أحدهما أنه مصر فيكون المراد: إن الله أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره. والقول الثاني: إنه أرض الشام والقدس والأردن لأنها بلاد الخصب والخير والبركة وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني تلك المنافع والخيرات التي رزقهم الله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوبا عندهم فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكفر به بعضهم بغيا وحسدا. فعلى هذا المعنى يكون المراد من العلم المعلوم والمعنى فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه حقا فوضع العلم مكان العلوم وقيل المراد من العلم القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه علما لأنه سبب العلم وتسمية السبب بالمسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان: الأول: أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا وإيثارا لبقاء الرياسة لهم فآمن به طائفة قليلة وكفر به غالبهم. والوجه الثاني: أن اليهود كانوا على دين واحد قبل نزول القرآن فلما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم آمن به طائفة وكفر به آخرون. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يعني يا محمد يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني من أمرك وأمر نبوتك في الدنيا فيدخل من آمن بك الجنة ومن كفر بك وجحد نبوتك النار. [سورة يونس (10): الآيات 94 الى 98] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الشك في موضع اللغة خلاف اليقين والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه فكل شك جهل وليس كل جهل شكا فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه وظاهر هذا الخطاب في قوله فإن كنت في شك أنه للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فإن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به وأنزلناه يعني القرآن فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكا في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه. قلت: الجواب عن هذا السؤال والاعتراض ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفاء فإنه أورد هذا السؤال، ثم قال: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه فإنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم جملة بل قال ابن عباس: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري. وحكي عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أشك ولا أسأل» وعامة المفسرين على هذا، ثم كلام القاضي عياض رحمه الله ثم اختلفوا في معنى الآية ومن المخاطب بهذا الخطاب على قولين أحدهما أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره فهو كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرك فثبت أن المراد به غيره ومن أمثلة العرب: إياك أعني واسمعي يا جارة. فعلى هذا يكون معنى الآية قل يا محمد، يا أيها الإنسان الشاك إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فاسأل الذين يقرءون الكتاب يخبروك بصحته ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر هذه السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني الآية فبين أن المذكور في هذه الآية على سبيل الرمز هو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح وأيضا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكا في بنوته لكان غيره أولى بالشك في نبوته وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية معاذ الله من ذلك وقيل إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك قط فيكون المراد بهذا التهييج فإنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذا الكلام يقول لا أشك يا رب ولا أسأل أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة. وقال الزجاج: إن الله خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله فإن كنت في شك وهو شامل للخلق فهو كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا وجه حسن لكن فيه بعد وهو أن يقال متى كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلا في هذا الخطاب كان الاعتراض موجودا والسؤال واردا، وقيل: إن لفظة إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك موجودا والسؤال واردا وقيل إن لفظه إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك مما أنزلنا إليك حتى تسأل فلا تسأل ولئن سألت لازددت يقينا. والقول الثاني: إن هذا الخطاب ليس هو للنبي صلى الله عليه وسلم البتة ووجه هذا القول إن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق فرقة له مصدقون وبه مؤمنون وفرقة على الضد من ذلك والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله عز وجل بهذا الخطاب، فقال: تمجد وتعالى: فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله الضمير في قوله فإن كنت وهو يريد الجمع لأنه خطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لم يرد في الآية إنسانا بعينه بل أراد الجمع واختلفوا في المسؤول عنه في قوله تعالى: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ من هم فقال المحققون من أهل التفسير: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم هم الموثوق بأخبارهم.

وقيل: المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقا وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني بدلائله وبراهينه الواضحة فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين خسروا أنفسهم. واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ يعني وجبت عليهم كَلِمَتُ رَبِّكَ يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى: وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة: سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فإنهم لا يؤمنون بها حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى: فَلَوْلا يعني فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية آمَنَتْ يعني عند معاينة العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها يعني في حال اليأس إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله لَمَّا آمَنُوا يعني لما أخلصوا الإيمان كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عيانا أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه. ((ذكر القصة في ذلك)) على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا: إن قوم يونس كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذبا قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس: إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك. وقال مقاتل: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر، وقال وهب: غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسوح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعا إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.

[سورة يونس (10): الآيات 99 إلى 101]

قال ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي إلى الحجر وقد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه فيرده. وروى الطبري بسنده عن أبي الجلد خيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى قال قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ومتعوا إلى حين. وقال الفضيل بن عياض: إنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، قال: وخرج يونس وجعل ينتظر العذاب فلم ير شيئا فقيل له ارجع إلى قومك قال وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا وكان من كذب ولا بينة له قال فانصرف عنهم مغاضبا فالتقمه الحوت وستأتي القصة في سورة والصافات إن شاء الله تعالى فإن قلت كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم وقبل توبتهم ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن ولم يقبل توبته. قلت: أجاب العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها: أن ذلك كان خاصا بقوم يونس والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. الجواب الثاني: أن فرعون ما آمن إلا بعد ما باشر العذاب وهو وقت اليأس من الحياة وقوم يونس دنا منهم العذاب ولم ينزل بهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية. الجواب الثالث: أن الله عز وجل علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه ما صدق في إيمانهم ولا أخلص فلم يقبل منه إيمانه والله أعلم. [سورة يونس (10): الآيات 99 الى 101] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو شاء ربك يا محمد لآمن بك وصدقك من في الأرض كلهم جميعا ولكن لم يشأ أن يصدقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله عز وجل أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له من السعادة في الذكر الأول ولم يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصا على إيمانهم كلهم فأخبره الله أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له العناية الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم وهو قوله سبحانه وتعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه أو تحرص عليه إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئتنا وقضائنا وقدرنا ليس ذلك لأحد سوانا وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وما كان ينبغي لنفس خلقها الله تعالى أن تؤمن وتصدق إلا بقضاء الله لها بالإيمان فإن هدايتها إلى الله وهو الهادي المضل. وقال ابن عباس: معنى بإذن الله، بأمر الله، وقال عطاء: بمشيئة الله قوله تعالى: وَيَجْعَلُ قرئ بالنون على سبيل التعظيم أي ونجعل نحن وقرئ بالياء ومعناه ويجعل الله الرِّجْسَ يعني العذاب، وقال ابن عباس:

[سورة يونس (10): الآيات 102 إلى 106]

يعني السخط عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه. قوله عز وجل: قُلِ انْظُرُوا أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات انظروا يعني انظروا بقلوبكم نظر اعتبار وتفكر وتدبر ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: ماذا خلق الله في السموات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته ففي السموات الشمس والقمر وهما دليلان على النهار والليل والنجوم سخرها طالعة وغاربة وإنزال المطر من السماء وفي الأرض الجبال والبحار والمعادن والأنهار والأشجار والنبات كل ذلك آية دالة على وحدانية الله تعالى وأنه خالقها كما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ يعني الرسل عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ وهذا في حق أقوام علم الله أنهم لا يؤمنون لما سبق لهم في الأزل من الشقاء. [سورة يونس (10): الآيات 102 الى 106] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ يعني مشركي مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من مضى من قبلهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود. والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما كقوله تعالى وذكرهم بأيام الله والمعنى فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا يوما يعاينون فيه العذاب مثل ما فعلنا بالأمم السالفة المكذبة أهلكناهم جميعا فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب ف قُلْ فَانْتَظِرُوا يعني: قل لهم يا محمد فانتظروا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يعني: هلاككم، قال الربيع بن أنس: خوفهم عذابه ونقمته ثم أخبرهم أنه إذا وقع ذلك بهم أنجى الله رسله والذين آمنوا معهم من ذلك العذاب وهو قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني من العذاب والهلاك كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ يعني كما أنجينا رسلنا، والذين آمنوا معهم من الهلاك كذلك ننجيك يا محمد والذين آمنوا معك وصدقوك من الهلاك والعذاب. قال بعض المتكلمين: المراد بقوله حقا علينا الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب واجب وأجيب عن هذا بأنه حق واجب من حيث الوعد والحكم لا أنه واجب بسبب الاستحقاق لأنه قد ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا. قوله سبحانه وتعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي يعني الذي أدعوكم إليه وإنما حصل الشك لبعضهم في أمره صلى الله عليه وسلم لما رأى الآيات التي كانت تظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم فحصل له الاضطراب والشك فقال إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه لأنه دين إبراهيم عليه السلام وأنتم من ذريته وتعرفونه ولا تشكون فيه وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في عبادتكم لهذه الأصنام التي لا أصل لها البتة فإن أصررتم

[سورة يونس (10): الآيات 107 إلى 109]

على ما أنتم عليه فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني هذه الأوثان وإنما وجب تقديم هذا النفي لأن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا تليق لأخس الأشياء وهي الحجارة التي لا تنفع لمن عبدها ولا تضر لمن تركها ولكن تليق العبادة لمن بيده النفع والضر وهو قادر على الإماتة والإحياء وهو قوله سبحانه وتعالى: وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ والحكمة في وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام بهذه الصفة أن المراد أن الذي يستحق العبادة أعبده أنا وأنتم هو الذي خلقكم أولا ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثانيا ثم يحييكم بعد الموت ثالثا، فاكتفى بذكر الوفاة تنبيها على الباقي، وقيل: لما كان الموت أشد الأشياء على النفس ذكر في هذ المقام ليكون أقوى في الزجر والردع وقيل إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني وأمرني ربي أن أكون من المصدقين بما جاء من عنده قيل لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً الواو في قوله وأن أقم واو عطف معناه وأمرت أن أقيم وجهي يعني أقم نفسك على دين الإسلام حنيفا يعني مستقيما عليه غير معوج عنه إلى دين آخر، وقيل معناه أقم عملك على الدين الحنيفي وقيل أراد بقوله وأن أقم وجهك للدين صرف نفسه بكليته إلى طلب الدين الحنيفي غير مائل عنه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه غيره فيهلك وقيل إن النهي عن عبادة الأوثان قد تقدم في الآية المتقدمة فوجب حمل هذا النهي على معنى زائد وهو أن من عرف الله عز وجل وعرف جميع أسمائه وصفاته وأنه المستحق للعبادة لا غيره فلا ينبغي له أن يلتفت إلى غيره بالكلية وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشكر الخفي وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ يعني إن عبدته ودعوته وَلا يَضُرُّكَ يعني إن تركت عبادته فَإِنْ فَعَلْتَ يعني ما نهيتك عنه فعبدت غيري أو طلبت النفع ودفع الضر من غيري فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ يعني لنفسك لأنك وضعت العبادة في غير موضعها وهذا الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدع من دون الله شيئا البتة فيكون المعنى ولا تدع أيها الإنسان من دون الله ما لا ينفعك، الآية. [سورة يونس (10): الآيات 107 الى 109] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يعني وإن يصبك الله بشدة وبلاء فَلا كاشِفَ لَهُ يعني لذلك الضر الذي أنزل بك إِلَّا هُوَ لا غيره وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يعني بسعة ورخاء فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يعني فلا دافع لرزقه يُصِيبُ بِهِ يعني: بكل واحد من الضر والخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قيل إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأوثان وبين أنها لا تقدر على نفع ولا ضر بين تعالى أنه هو القادر على ذلك كله، وأن جميع الكائنات محتاجة إليه وجميع الممكنات مستندة إليه لأنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة ولهذا المعنى ختم الآية بقوله وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وفي الآية لطيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى رجح جانب الخير على جانب الشر وذلك أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى يزيل جميع المضار ويكشفها لأن الاستثناء من النفي إثبات. ولما ذكر الخير قال فيه فلا راد لفضله يعني أن جميع الخيرات منه فلا يقدر أحد على ردها لأنه هو الذي

يفيض جميع الخيرات على عباده وعضده بقوله وهو الغفور يعني الساتر لذنوب عباده الرحيم يعني بهم. قوله سبحانه وتعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن والإسلام وقيل الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من الله عز وجل فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفع ذلك يرجع إليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي على نفسه لأن وباله راجع إليه فمن حكم الله له بالاهتداء في الأزل انتفع ومن حكم عليه بالضلال ضل ولم ينتفع بشيء أبدا وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ يعني وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وقال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بآية السيف وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ يعني الأمر الذي يوحيه الله إليك يا محمد وَاصْبِرْ يعني على أذى من خالفك من كفار مكة وهم قومك حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ يعني ينصرك عليهم بإظهار دينك وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى حكم بنصر نبيه وإظهار دينه وبقتل المشركين وأخذ الجزية من أهل الكتاب، وفيها ذلهم وصغارهم والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة هود

سورة هود وهي مكية في قول ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وابن زيد وقتادة وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية غير آية وهي قوله سبحانه وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وعن قتادة نحوه وقال مقاتل: هي مكية إلا قوله سبحانه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وقوله أولئك يؤمنون به وقوله سبحانه وتعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وهي مائة وثلاث وعشرون آية وألف وستمائة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفا عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. وفي رواية غيره قال قلت «يا رسول الله عجل إليك الشيب قال شيبتني هود وأخواتها الحاقة والواقعة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية»، قال بعض العلماء: سبب شيبه صلى الله عليه وسلم من هذه السور المذكورة في الحديث لما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) قوله عز وجل: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال ابن عباس: لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع ثُمَّ فُصِّلَتْ يعني بينت وقال الحسن: أحكمت آياته بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس، قال: أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي، وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل: أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظما رصينا محكما بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات، وقال مجاهد: فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات. قلت: إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالأحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضا لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه.

[سورة هود (11): الآيات 2 إلى 5]

وقوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله خَبِيرٍ يعني بأحوال عباده وما يصلحهم. [سورة هود (11): الآيات 2 الى 5] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي: قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله نَذِيرٌ ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه وَبَشِيرٌ يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ اختلفوا في بيان الفرق بين هذين المرتبتين فقيل معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم ارجعوا إليه لأن الاستغفار هو طلب الغفر وهو الستر والتوبة الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة وقيل معناه استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل وقال الفراء: ثم هنا بمعنى الواو لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعني إنكم إذا فعلتم ما أمرتم به من الاستغفار والتوبة وأخلصتم العبادة لله عز وجل بسط عليكم من الدنيا وأسباب الرزق ما تعيشون به في أمن وسعة وخير، قال بعضهم: المتاع الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يمتعكم متاعا حسنا إلى حين الموت ووقت انقضاء آجالكم. فإن قلت قد ورد في الحديث «إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله فكيف الجمع بين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى. قلت أما قوله صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن» فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم فإنه في سجن في الدنيا حتى يفضي إلى ذلك المعد له وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم الذي لا ينقطع فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشة حسنة لأنه راض عن الله في جميع أحواله. وقوله سبحانه وتعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة، قال أبو العالية: من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال، وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن زادت سيئاته دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته كان من الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول ابن مسعود: هلك من غلبت

[سورة هود (11): الآيات 6 إلى 7]

آحاده أعشاره وقيل معنى الآية من عمل لله وفقه الله في المستقبل لطاعته وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني وإن أعرضوا عما جئتم به من الهدى فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي: فقل لهم يا محمد إني أخاف عليكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يعني: عذاب النار في الآخرة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يعني في الآخرة فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إيصال الرزق إليكم في الدنيا وثوابكم وعقابكم في الآخرة قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فنزلت ألا إنهم يثنون صدورهم يعني يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة من ثنيت الثوب إذا طويته. وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي، وقال السدي: يثنون صدورهم أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يعني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد من الله عز وجل إن استطاعوا أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ومعنى الآية على ما قاله الأزهري: إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم في كل حال وقد نقل عن ابن عباس غير هذا التفسير وهو ما أخرجه البخاري في إفراده عن محمد بن عياش بن جعفر المخزومي أنه سمع ابن عباس يقرأ: ألا إنهم يثنون صدورهم، قال: فسألته عنها فقال كل أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم. [سورة هود (11): الآيات 6 الى 7] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وقوله سبحانه وتعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها يعني هو المتكفل برزقها فضلا منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها قال ابن عباس: مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت، وقال ابن مسعود: مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يعني قبل خلق السموات والأرض قال كعب خلق الله ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء. قال ضمرة: إن الله سبحانه وتعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما خلق وما هو خالق وما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئا من خلقه. وقال سعيد بن جبير سئل ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ على أي شيء كان الماء قال: على متن الريح، وقال وهب بن منبه: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ثم قبض الله

قبضة من صفاء الماء ثم فتح القبضة فارتفع دخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ سبحانه وتعالى طينة من الماء فوضعها مكان البيت ثم دحا الأرض منها ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين والأرض في يومين ثم فرغ آخر الخلق وفي اليوم السابع. قال بعض العلماء: وفي خلق جميع الأشياء وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم وهو العرش والسموات والأرض على الماء فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى (خ) عن عمران بن حصين قال «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتى ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله ثم قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يقطع دونها وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم» عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء» أخرجه الترمذي، وقال قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء قال أبو بكر البيهقي: في كتاب الأسماء والصفات له قوله صلى الله عليه وسلم «كان الله ولم يكن شيء قبله، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما وقوله «وكان عرشه على الماء» يعني وخلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء، وقوله في عماء وجدته في كتاب عماء مقيدا بالمد فإن كان في الأصل ممدودا فمعناه سحاب رقيق ويريد بقوله في عماء أي فوق سحاب مدبرا له وعاليا عليه كما قال سبحانه وتعالى «أأمنتم من في السماء» يعني من فوق السماء وقال تعالى: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني على جذوعها وقوله ما فوقه هواء أي ما فوق السحاب هواء وكذلك قوله وما تحته هواء أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور والعمى إذا كان مقصورا فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء فكأنه قال في جوابه كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء لأن ذلك إن كان غير شيء فليس يثبت له هواء بوجه والله أعلم وقال الهروي صاحب الغريبين: قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فحذف المضاف اختصارا كقوله واسأل القرية ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ هذا آخر كلام البيهقي، وقال ابن الأثير: العماء في اللغة السحاب الرقيق وقيل: الكثيف وقيل: هو الضباب ولا بد في الحديث من حذف مضاف، تقديره أين كان عرش ربنا فحذف ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وحكي عن بعضهم في العمى المقصور أنه قال هو كل أمر لا يدركه الفطن، وقال الأزهري: قال أبو عبيد إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وفي رواية «فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء بخمسين ألف سنة» قوله فرغ يريد إتمام خلق المقادير لا أنه كان مشغولا ففرغ منه لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. قوله سبحانه وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ يعني ليختبركم وهو أعلم بكم منكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يعني بطاعة الله وأورع عن محارم الله وَلَئِنْ قُلْتَ يعني ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ يعني للحساب والجزاء لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون القرآن.

[سورة هود (11): الآيات 8 إلى 12]

[سورة هود (11): الآيات 8 الى 12] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ يعني: أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالا بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشيء قال الله عز وجل: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ يعني العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي لا يصرفه عنهم شيء وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني ونزل بهم وبال استهزائهم. قوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً يعني: رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ يعني يظل قانطا من رحمة الله آيسا من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولا قليل الشكر لربه قال بعضهم: يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش لَيَقُولَنَّ يعني الذي أصابه الخير والسعة ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عز وجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فلهذا ذمه الله تعالى فقال إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال الفراء: هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يعني لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يعني الجنة. قوله عز وجل: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهرا فأنزل الله عز وجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئا وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من

[سورة هود (11): الآيات 13 إلى 15]

ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئا آخر سوى ما ذكره المفسرون. وللعلماء في ذلك أجوبة: أحدها: قال ابن الأنباري: قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئا مما يوحى إليه إشفاقا من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية. الثاني: أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتحريضه على أداء ما أنزل إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه. الثالث: أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه ويتهاونون به وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن تحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئا من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم أَنْ يَقُولُوا يعني مخافة أن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ يعني يستغني به وينفقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي. والمعنى أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت صادقا في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه صلى الله عليه وسلم نذير بقوله عز وجل: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة. [سورة هود (11): الآيات 13 الى 15] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) قوله سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني بل يقول كفار مكة اختلقه يعني ما أوحي إليه من القرآن قُلْ أي قل لهم يا محمد فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال صلى الله عليه وسلم هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ في مقابلة قولهم افتراه. فإن قلت قد تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور

[سورة هود (11): الآيات 16 إلى 17]

مثله مفتريات ومن عجز عن سورة واحدة فهو عن العشرة أعجز. قلت: قد قال بعضهم إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وأنه تحداهم أولا بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس وأنكر المبرد هذا القول وقال: إن سورة يونس نزلت أولا، قال: ومعنى قوله في سورة يونس فأتوا بسورة مثله يعني مثله في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد وفي قوله في سورة هود فأتوا بعشر سور مثله يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد فلما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ حتى يعينوكم على ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في قولكم إنه مفترى فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمرين وخطابين: أحدهما: أمر وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات. والثاني: أمر وخطاب للكفار وهو قوله تعالى وادعوا من استطعتم من دون الله ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها واحتمل أن يكون المراد أن من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة فلهذا السبب اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين أحدهما أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم فلما عجزوا عن المعارضة قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين فإن لم يستجيبوا لكم فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ يعني فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينا وثباتا لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله، وقيل: الخطاب في قوله فإن لم يستجيبوا لكم للنبي صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكره بلفظ الجميع تعظيما له صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أن قوله سبحانه وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم خطاب مع الكفار وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة وادعوا من استطعتم من دون الله قال الله عز وجل في هذه الآية فإن لم يستجيبوا لكم أيها الكفار ولم يعينوكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأنه ليس مفترى على الله بل هو أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني الذي أنزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو لا من تدعون من دونه فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فيه معنى الأمر أي أسلموا وأخلصوا لله العبادة وإن حملنا معنى الآية على أنه خطاب مع المؤمنين كان معنى قوله فهل أنتم مسلمون الترغيب أي دوموا على ما أنتم عليه من الإسلام. قوله عز وجل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر نزلت في كل من عمل عملا يبتغي به غير الله عز وجل: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى يوسع عليهم في الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ يعني أنهم لا ينقصون من أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفرة. [سورة هود (11): الآيات 16 الى 17] أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه لغير الله واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن الحسن مثله، وقال الضحاك: من عمل عملا صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرا في الدنيا وهو أن يصل رحما أو يعطي سائلا أو يرحم مضطرا أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدفع عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» أخرجه الترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الشرك الأصغر قال الرياء» أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاح أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير الله نعوذ بالله من الخذلان قال البغوي وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا» أخرجه البغوي بغير سند. قوله سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى: في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى أفمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو، فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين: أنه جبريل عليه السلام يريد أن جبريل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى: عنه أنت التالي؟ قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف

[سورة هود (11): الآيات 18 إلى 20]

عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفصل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويسدده وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر، وقال الحسين بن علي وابن زيد: الشاهد منه هو محمد صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون، وقال جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي صلى الله عليه وسلم والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن. وقوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم كِتابُ مُوسى يعني التوراة إِماماً وَرَحْمَةً يعني أنه كان إماما لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة وقوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله أولئك يؤمنون به يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَحْزابِ يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب الفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله عز وجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث، قال سعيد: فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إلى قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فيه قولان أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلا من عند الله فعلى هذا القول يكون متعلقا بما قبله من قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ والقول الثاني: إنه راجع إلى قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار. [سورة هود (11): الآيات 18 الى 20] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) قوله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني أي الناس أشد تعديا ممن اختلق على الله كذبا فكذب عليه وزعم أن له شريكا أو ولدا وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله

[سورة هود (11): الآيات 21 إلى 26]

تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ورد في معرض المبالغة أُولئِكَ يعني المفترين على الكذب يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، قاله مجاهد وقال ابن عباس: هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة: الأشهاد الخلق كلهم هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ يعني: في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته (ق). عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرف رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» وفي رواية «ثم تطوى صحيفة حسناته» وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية «فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعني وما كان لهؤلاء المشركين من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءا وعذابا يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ قال قتادة صموا عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به ولا يبصرون خيرا فيأخذون به. وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم. [سورة هود (11): الآيات 21 الى 26] أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم لا جَرَمَ يعني حقا وقال الفراء لا محالة أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار

[سورة هود (11): الآيات 27 إلى 30]

في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عز وجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات بالخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع أُولئِكَ يعني الذين هذه صفتهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال. قوله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلا فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئا البتة، والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها، والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني فتتعظون. قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني أن نوحا عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالف أمر الله وعبد غيره وهو قوله سبحانه وتعالى: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ يعني مؤلم موجع قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة. [سورة هود (11): الآيات 27 الى 30] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً

[سورة هود (11): الآيات 31 إلى 36]

مِثْلَنا يعني آدميا مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلا منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخبارا عن قوم نوح وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالوا ذلك جهلا منهم أيضا لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين بادِيَ الرَّأْيِ يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك، ولو تفكروا ما اتبعوك. وقيل: معناه ظاهر الرأي، يعني أنهم اتبعوك ظاهرا من غير أن تفكروا باطنا وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضا جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم قالَ يعني نوحا يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يعني هديا ومعرفة ونبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ يعني خفيت وألبست عليكم أَنُلْزِمُكُمُوها الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فلا أطردهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني فتتعظون. [سورة هود (11): الآيات 31 الى 36] وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالا والمعنى لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جوابا من نوح عليه

السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيبا لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم. ((فصل)) استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحا عليه السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وأفضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحا عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم. وقوله سبحانه وتعالى: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً يعني توفيقا وهداية وإيمانا وأجرا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ يعني من الخير والشر إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يعني إن طردتهم مكذبا لظاهرهم ومبطلا لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من الظالمين قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا يعني خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا يعني خصومتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب بكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك هُوَ رَبُّكُمْ يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي اختلقته فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام وقال مقاتل «أم يقولون» يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخا منهم جاء متكئا على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحا عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن

[سورة هود (11): الآيات 37 إلى 38]

من قومك إلا من قد آمن فَلا تَبْتَئِسْ يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحا فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا فلا يقبلون منه شيئا فشكا نوح إلى الله عز وجل فقال يا رب «إني دعوت قومي ليلا ونهارا» الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه. [سورة هود (11): الآيات 37 الى 38] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع بِأَعْيُنِنا قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا وَوَحْيِنا يعني بأمرنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحا فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجارا فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحا بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلينا وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وطولها في السماء ثلاثين ذراعا وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها، وروي عن الحسن: أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلاثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم: مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك، وقال كعب الأحبار: عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العليا للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه. قوله سبحانه وتعالى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ أي جماعة من قومه سَخِرُوا مِنْهُ يعني استهزءوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجارا وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتا يمشي

[سورة هود (11): الآيات 39 إلى 40]

على الماء فضحكوا منه قالَ يعني نوحا لقومه إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه، فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. قلت إنما سمي هذا الفعل سخرية على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه وتعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها والمعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب وهو قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 39 الى 40] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني فسترون مَنْ يَأْتِيهِ يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني يهينه وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة وعذاب النار الذي لا انقطاع له. وقوله عز وجل: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ يعني وغلى والفور الغليان وفارت القدر إذا غلت. والتنور: فارسي معرب لا تعرف له العرب اسما غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي وقيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربيا مثل الديباج ونحوه واختلفوا في المراد بهذا التنور، فقال عكرمة والزهري: هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم وقال علي: فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور، وقال الحسن ومجاهد والشعبي: إن التنور هو الذي يخبز فيه، وهو قول أكثر المفسرين ورواية عن ابن عباس، أيضا وهذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه. فإن قلت الألف واللام في لفظ التنور للعهد وليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره وهو شدة الأمر والمعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه ويقوى فانج بنفسك ومن معك. قلت: لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوما عند نوح عليه السلام، قال الحسن كان تنورا من حجارة وكانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح وقيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وكان ذلك في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، قال الشعبي: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام، وقال مقاتل: كان ذلك التنور تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند قال: والفوران الغليان قُلْنَا احْمِلْ فِيها يعني: قلنا لنوح احمل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج والمعنى من كل صنف زوجين ذكرا أو أنثى فحشر الله سبحانه وتعالى إليه الحيوان من الدواب والسباع والطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة وَأَهْلَكَ أي واحمل أهلك وولدك وعيالك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يعني بإهلاك وأراد به امرأته واعلة وولده كنعان وَمَنْ آمَنَ يعني واحمل معك من آمن بك من

[سورة هود (11): الآيات 41 إلى 43]

قومك وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين: نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين له وهم سام وحام ويافث ونساؤهم وقال الأعمش: كانوا سبعة نوحا وبنيه وثلاث كنائن له. وقال محمد بن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم وهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة نفر آمنوا بنوح وأزواجهم جميعا، وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفرا رجلا وامرأة وقال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم، قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالقلة ولم يحدد عددا بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضا بين الرجال والنساء وقصد نوحا جميع الدواب والطيور ليحملها قال ابن عباس: أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه وجعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو الله قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو الله. قال: لا بد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة، هكذا نقله البغوي وقال الإمام فخر الدين الرازي: وأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضا فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه، قال البغوي: وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحا عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه وقال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد ويبيض وأما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا. [سورة هود (11): الآيات 41 الى 43] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) قوله سبحانه وتعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها يعني وقال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني بسم الله اجراؤها وإرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم الله فتجري وكان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم الله فترسو أي تقف وهذا تعليم من الله لعباده أنه من أراد أمرا فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم الله عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سببا للنجاح والفلاح في سائر الأمور وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه سبحانه وتعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء: بالسير أرسل الله المطر أربعين يوما وليلة وخرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ يعني: صار إناء نصفين نصفا من السماء ونصفا من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعا وقيل خمسة عشر ذراعا حتى أغرق كل شيء.

[سورة هود (11): الآيات 44 إلى 46]

وروي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ يعني كنعان وكان كافرا وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يعني عن نوح لم يركب معه يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا يعني في السفينة وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ يعني فتهلك معهم قالَ يعني قال كنعان سَآوِي يعني سألتجئ وأصير إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يعني يمنعني مِنَ الْماءِ قالَ يعني قال له نوح لا عاصِمَ يعني لا مانع الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني من عذابه إِلَّا مَنْ رَحِمَ يعني إلا من رحمه الله فينجيه من الغرق وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يعني كنعان. [سورة هود (11): الآيات 44 الى 46] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) وَقِيلَ يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي اشربيه وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي وَغِيضَ الْماءُ أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب وَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح وَاسْتَوَتْ يعني واستقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل وَقِيلَ بُعْداً يعني هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال العلماء: بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحا عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعا وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكرا لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان، وقيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك. فإن قلت: كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم. قلت: ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضا إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح. والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قوله عز وجل: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي دعاه وسأله فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي يعني وقد وعدتني أن

تنجيني وأهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ يعني الصدق الذي لا خلف فيه وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ يعني أنك حكمت لقوم بالنجاة وحكمت على قوم بالهلاك قالَ يعني قال الله تعالى: يا نُوحُ إِنَّهُ يعني هذا الابن الذي سألتني نجاته لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ اختلف علماء التفسير: هل كان هذا الولد ابن نوح لصلبه أم لا فقال الحسن ومجاهد كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم به فلذلك قال إنه ليس من أهلك، وقال محمد بن جعفر الباقر: كان ابن امرأة نوح وكان يعلمه نوح ولذلك قال من أهلي ولم يقل مني. وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: إنه ابن نوح من صلبه، وهذا القول هو الصحيح والقولان الأولان ضعيفان بل باطلان ويدل على صحة هذا نقل الجمهور لما صح عن ابن عباس أنه قال: ما بغت امرأة نبي قط ولأن الله سبحانه وتعالى نص عليه بقوله سبحانه وتعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح صلى الله عليه وسلم أيضا نص عليه بقوله «يا بني اركب معنا» وهذا نص في الدلالة وصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة لا يجوز وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافرا وهذا خطأ ممن قاله لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكفار والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي وكان قابيل كافرا وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي وكان آزر كافرا فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء. فإن قلت: فعلى هذا كيف ناداه نوح فقال: اركب معنا وسأل له النجاة مع قوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا قلت: قد ذكر بعضهم أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم بكون ابنه كان كافرا فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوه ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم فينجيه الله بذلك من الغرق فأجابه الله عز وجل بقوله إنه ليس من أهلك يعني أنه ليس من أهل دينك لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما. ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر قال الله سبحانه وتعالى لنوح: إنه ليس من أهلك إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قرأ الكسائي ويعقوب: عمل بكسر الميم وفتح اللام غير بفتح الراء على عود الفعل على الابن ومعناه أنه عمل الشرك والكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح، وقرأ الباقون من القراء: عمل بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه إن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكفار بعد ما حكم عليه بالهلاك بعيد فلهذا قال سبحانه وتعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ويجوز أن يعود الضمير في إنه على ابن نوح أيضا ويكون التقدير على هذه القراءة إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح فحذف المضاف كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار. قال الواحدي، وهذا قول أبي إسحاق يعني الزجاج وأبي بكر بن الأنباري وأبي علي الفارسي قال أبو علي: ويجوز أن يكون ابن نوح عمل عملا غير صالح فجعلت نفسه ذلك العمل لكثرة ذلك منه، كما يقال الشعر زهير والعلم فلان إذا كثر منه فعلى هذا لا حذف فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وذلك أن نوحا عليه السلام سأل ربه إنجاء ولده من الغرق وهو من كمال شفقة الوالد على ولده وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصرار ولده على الكفر فنهاه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة وأعلمه أن ذلك لا يجوز فكان المعنى فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته إِنِّي أَعِظُكَ يعني أنهاك أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني لمثل هذا السؤال

[سورة هود (11): الآيات 47 إلى 50]

[سورة هود (11): الآيات 47 الى 50] قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) قالَ يعني: قال نوح رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ يعني: ألجأ إليك وأعتذر إليك أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ يعني: إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني فأعتذر إليك من مسألتي ما ليس لي به علم وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي يعني: جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم وَتَرْحَمْنِي يعني برحمتك التي وسعت كل شيء أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ. ((فصل وقد استدل بهذه الآيات من لا يرى عصمة الأنبياء)) وبيانه أن قوله إنه عمل غير صالح المراد منه السؤال وهو محظور فلهذا نهاه عنه بقوله فلا تسألن ما ليس لك به علم، وقوله سبحانه وتعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يدل على أن ذلك السؤال كان جهلا ففيه زجر وتهديد وطلب المغفرة والرحمة له يدل على صدور الذنب منه. والجواب أن الله عز وجل كان قد وعد نوحا عليه السلام بأن ينجيه وأهله فأخذ نوح ظاهر اللفظ واتبع التأويل بمقتضى هذا الظاهر ولم يعلم ما غاب عنه ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى فأقدم على هذا السؤال لهذا السبب فعاتبه الله عز وجل على سؤاله ما ليس له به علم وبين له أنه ليس من أهله الذي وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح وأعلمه الله سبحانه وتعالى أنه مغرق مع الذين ظلموا ونهاه عن مخاطبته فيهم فأشفق نوح من إقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فيه فخاف نوح من ذلك الهلاك فلجأ إلى ربه عز وجل وخشع له وعاذ به وسأل المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض بِسَلامٍ أي بأمن وسلامة مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ البركة هي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته، وقيل: المراد بالبركة هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة ولم يعقب من كان معه في السفينة غيرهم وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يعني: وعلى ذرية أمم ممن كانوا معك في السفينة، والمعنى وبركات عليك وعلى قرون تجيء من بعدك من ذرية أولادك وهم المؤمنون. قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ هذا ابتداء كلام أي وأمم كافرة يحدثون بعدك سنمتعهم يعني في الدنيا إلى منتهى آجالهم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أن هذه القصة التي أخبرناك يا محمد من قصة نوح وخبر قومه من أنباء الغيب يعني من أخبار الغيب نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا يعني من قبل نزول القرآن عليك. فإن قلت إن قصة نوح كانت مشهورة معروفة في العالم فكيف قال ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا. قلت: يحتمل أن يكون كانوا يعلمونها مجملة فنزل القرآن بتفصيلها وبيانها.

[سورة هود (11): الآيات 51 إلى 56]

وجواب آخر وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان أميّا لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يعلمها وكذلك كانت أمته فصح قوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل نزول القرآن بها فَاصْبِرْ يا محمد على أذى مشركي قومك كما صبر نوح على أذى قومه إِنَّ الْعاقِبَةَ يعني النصر والظفر على الأعداء والفوز بالسعادة الأخروية يعني للمؤمنين. قوله عز وجل: وَإِلى عادٍ يعني وأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ هُوداً يعني أخاهم في النسب لا في الدين قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله ولا تشركوا معه شيئا في العبادة ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني أنه تعالى هو إلهكم لا هذه الأصنام التي تعبدونها فإنها حجارة لا تضر ولا تنفع إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يعني ما أنتم إلا كاذبون في عبادتكم غيره. [سورة هود (11): الآيات 51 الى 56] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ يعني على تبليغ الرسالة أَجْراً يعني جعلا آخذه منكم إِنْ أَجْرِيَ يعني ما ثوابي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي يعني: خلقني فإنه هو الذي رزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني فتتعظون وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي آمنوا به فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان لأنه هو المطلوب أولا ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني من شرككم وعبادتكم غيره ومن سالف ذنوبكم يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يعني: ينزل المطر عليكم متتابعا مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه وذلك أن بلادهم كانت مخصبة كثيرة الخير والنعم فأمسك الله عنهم المطر مدة ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إن آمنوا بالله وصدقوه أرسل الله إليهم المطر فأحيا به بلادهم كما كانت أول مرة وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ يعني شدة مع شدتكم، وقيل: معناه أنكم إن آمنتم يقوّكم بالأموال والأولاد وذلك أنه سبحانه وتعالى أعقم أرحام نسائهم فلم تلد فقال لهم هود عليه السلام إن آمنتم أرسل الله المطر فتزدادون مالا ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت عليه فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد وقيل: تزدادون قوة في الدين إلى قوة الأبدان وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ يعني ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حال كونكم مشركين قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ يعني وما نترك عبادة آلهتنا لأجل قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يعني إنك يا هود لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بخبل وجنون لأنك سببتهم فانتقموا منك بذلك ولا نحمل أمرك إلا على هذا قالَ يعني قال هود مجيبا لهم إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ يعني على نفسي واشهدوا يعني واشهدوا أنتم أيضا علي: أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ يعني هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها فَكِيدُونِي جَمِيعاً يعني احتالوا في كيدي وضري أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضر ولا تنفع ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ يعني ثم لا تمهلون وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام وذلك أنه كان وحيدا في قومه فما قال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت إلا لثقته بالله عز وجل وتوكله عليه وهو قوله تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني أنه فوض أمره إلى الله واعتمد عليه ما

[سورة هود (11): الآيات 57 إلى 59]

مِنْ دَابَّةٍ يعني تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان لأنهم يدبون على الأرض إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يعني أنه تعالى هو مالكها والقادر عليها وهو يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، والناصية: مقدم الرأس وسمي الشعر الذي عليه ناصية للمجاورة قيل: إنما خصّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم فإذا وصفوا إنسانا بالذلة مع غيره يقولون ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليمنوا عليه ويعتدوا بذلك فخرا عليه فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بما يعرفون من كلامهم إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إن ربي وإن كان قادرا وأنتم في قبضته كالعبد الذليل فإنه سبحانه وتعالى لا يظلمكم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه، وقيل معناه أن دين ربي هو الصراط المستقيم وقيل فيه إضمار تقديره إن ربي يحملكم على صراط مستقيم. [سورة هود (11): الآيات 57 الى 59] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني تتولوا بمعنى تعرضوا عن الإيمان بما أرسلت به إليكم فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ يعني أني لم يقع مني تقصير في تبليغ ما أرسلت به إليكم إنما التقصير منكم في قبول ذلك وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني أنكم إن أعرضتم عن الإيمان وقبول ما أرسلت به إليكم يهلككم الله ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه فيه إشارة إلى عذاب الاستئصال فهو وعيد وتهديد وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً يعني بتوليكم إنما تضرون أنفسكم بذلك وقيل لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ لكل شيء فيحفظني من أن تنالوني بسوء. قوله سبحانه وتعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني بإهلاكهم وعذابهم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا أربعة آلاف بِرَحْمَةٍ مِنَّا وذلك أن العذاب إذا نزل قد يعم المؤمن والكافر فلما أنجى الله المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يعني الريح التي أهلكت بها عاد وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل على عاد ريحا شديدة غليظة سبع ليال وثمانية أيام حسوما وهي الأيام النحسات فأهلكتهم جميعا وأنجى الله المؤمنين جميعا فلم تضرهم شيئا، وقيل: المراد بالعذاب الغليظ هو عذاب الآخرة وهذا هو الصحيح ليحصل الفرق بين العذابين والمعنى أنه تعالى كما أنجاهم من عذاب الدنيا كذلك ينجيهم من عذاب الآخرة ووصف عذاب الآخرة بكونه غليظا لأنه أعظم من عذاب الدنيا وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ لما فرغ من ذكر قصة عاد خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال وتلك عاد رده إلى القبيلة وفيه إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا بها ثم وصف حالهم بقوله تعالى جحدوا بآيات ربهم يعني المعجزات التي أتى بها هود عليه السلام وعصوا رسله يعني هودا وحده إنما أتى به بلفظ الجمع إما للتعظيم أو لأن من كذب برسول فقد كذب كل الرسل وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني أن السفلة منهم اتبعوا الرؤساء والمراد من الجبار الرفيع في نفسه المتمرد على الله والعنيد المعاند الذي لا يقبل الحق ولا يتبعه.

[سورة هود (11): الآيات 60 إلى 63]

[سورة هود (11): الآيات 60 الى 63] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني أردفوا لعنة تتبعهم وتلحقهم وتنصرف معهم واللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يعني وفي يوم القيامة أيضا تتبعهم اللعنة كما تتبعهم في الدنيا، ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب الذي استحقوا به هذه اللعنة فقال سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي كفروا بربهم أَلا بُعْداً لِعادٍ يعني هلاكا لهم وقيل بعدا عن الرحمة. فإن قلت: اللعنة معناها الإبعاد والهلاك فما الفائدة في قوله ألا بعدا لعاد لأن الثاني هو الأول بعينه. قلت: الفائدة فيه أن التكرار بعبارتين مختلفتين يدل على نهاية التأكيد وأنهم كانوا مستحقين له قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد. فإن قلت: هذا البيان حاصل مفهوم فما الفائدة في قوله قوم هود؟ قلت: إن عادا كانوا قبيلتين عاد الأولى القديمة التي هم قوم هود وعاد الثانية وهم إرم ذات العماد وهم العماليق فأتى بقوله قوم هود ليزول الاشتباه وجواب آخر وهو أن المبالغة في التنصيص تدل على تقوية التأكيد. قوله عز وجل: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً يعني وأرسلنا إلى ثمود وهم سكان الحجر أخاهم صالحا يعني في النسب لا في الدين قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوا الله وخصوه بالعبادة ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام ثم ذكر سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني أنه هو ابتدأ خلقكم من الأرض وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها يعني وجعلكم عمارها وسكانها، وقال الضحاك: أطال أعماركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك كان قوم عاد وقال مجاهد: أعمركم من العمرى أي جعلها لكم ما عشتم فَاسْتَغْفِرُوهُ يعني: من ذنوبكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني من الشرك إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ يعني من المؤمنين مُجِيبٌ لدعائهم قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا يعني: قبل هذا القول الذي جئت به والمعنى إنا كنا نرجو أن تكون فينا سيدا لأنه كان من قبيلتهم وكان يعين ضعيفهم ويغني فقيرهم، وقيل: معناه أنا كنا نطمع أن تعود إلى ديننا فلما أظهر دعاءهم إلى الله وعاب الأصنام انقطع رجاؤهم منه أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا يعني الآلهة وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ يعني من عبادة الله مُرِيبٍ يعني انا مرتابون في قولك من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس ووقوعها في التهمة قالَ يعني قال صالح مجيبا لقومه يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني على يقين وبرهان وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً يعني نبوة وحكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ يعني إن خالفت أمره فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ قال ابن عباس معناه غير خسارة في خسارتكم وقال الحسن بن الفضل: لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إلى الخسارة.

[سورة هود (11): الآيات 64 إلى 67]

[سورة هود (11): الآيات 64 الى 67] وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وذلك أن قومه طلبوا أن يخرج لهم ناقة من صخرة كانت هناك أشاروا إليها فدعا الله عز وجل فأخرج لهم من تلك الصخرة ناقة عشراء ثم ولدت فصيلا يشبهها وقوله ناقة الله إضافة تشريف كبيت الله وعبد الله فكانت هذه الناقة لهم آية ومعجزة دالة على صدق صالح عليه السلام فَذَرُوها تَأْكُلْ يعني من العشب والنبات فِي أَرْضِ اللَّهِ يعني فليس عليكم مؤنتها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يعني يعقر فَيَأْخُذَكُمْ يعني إن قتلتموها عَذابٌ قَرِيبٌ يعني في الدنيا فَعَقَرُوها يعني فخالفوا أمر ربهم فعقروها فَقالَ يعني فقال لهم صالح تَمَتَّعُوا يعني عيشوا فِي دارِكُمْ أي في بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يعني ثم تهلكون ذلِكَ يعني العذاب الذي أوعدهم به بعد ثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي هو غير كذب روى أنه قال لهم يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة فكان كما قال وأتاهم العذاب في اليوم الرابع وهو قوله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني العذاب نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بنعمة منا بأن هديناهم إلى الإيمان فآمنوا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ يعني ونجيناهم من عذاب يومئذ سمي خزيا لأن فيه خزي الكافرين إِنَّ رَبَّكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن ربك يا محمد هُوَ الْقَوِيُّ يعني هو القادر على إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين الْعَزِيزُ يعني القاهر الذي لا يغلبه شيء ثم أخبر عن عذاب قوم صالح فقال سبحانه وتعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني أنفسهم بالكفر الصَّيْحَةُ وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعا وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يعني صرعى هلكى. [سورة هود (11): الآيات 68 الى 71] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يعني كأن لم يقيموا في تلك الديار ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال غنيت بالمكان إذا أتيته أقمت به أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وهذه القصص قد تقدمت مستوفاة في تفسير سورة الأعراف. قوله عز وجل: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أراد بالرسل الملائكة واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس وعطاء: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقال الضحاك: كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثني عشر ملكا، وقال محمد بن كعب القرظي: كان جبريل ومعه سبعة أملاك وقال السدي: كانوا أحد عشر ملكا على صور الغلمان الحسان الوجوه وقول ابن عباس: هو الأولى لأن أقل الجمع ثلاثة وقوله رسلنا جمع فيحمل على الأقل وما بعده غير مقطوع به بالبشرى يعني بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل: بإهلاك قوم لوط قالُوا سَلاماً يعني أن الملائكة سلموا سلاما قالَ يعني لهم إبراهيم سَلامٌ أي عليكم أو أمركم سلام فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ يعني: مشويا والمحنوذ هو المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض وهو من فعل أهل البادية وكان سمينا يسيل منه الودك قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر، وقيل: مكث إبراهيم عليه

السلام خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتم لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه فلما جاءت الملائكة رأى أضيافا لم ير مثلهم قط فعجل قراهم وجاءهم بعجل سمين مشوي فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ يعني أيدي الأضياف لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعني إلى العجل المشوي نَكِرَهُمْ يعني أنكرهم وأنكر حالهم وإنما أنكر حالهم لامتناعهم من الطعام وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً يعني ووقع في قلبه خوف منهم والوجوس هو رعب القلب وإنما خاف إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم لأنه كان ينزل ناحية من الناس فخاف أن ينزلوا به مكروها لامتناعهم من طعامه ولم يعرف أنهم ملائكة وقيل إن إبراهيم عرف أنهم ملائكة لما قدمه إليهم لمعلمه أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولأنه خافهم ولو عرف أنهم ملائكة وإنما خاف أن يكونوا نزلوا بعذاب قومه فخاف من ذلك والأقرب أن إبراهيم عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة في أول الأمر ويدل على صحة هذا أنه عليه السلام قدم إليهم الطعام ولو عرف أنهم ملائكة لما خافهم فلما رأت الملائكة خوف إبراهيم عليه السلام قالُوا لا تَخَفْ يا إبراهيم إِنَّا ملائكة الله أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ يعني سارة زوجة إبراهيم وهي ابنة هاران بن ناحوراء وهي ابنة عم إبراهيم قائِمَةٌ يعني من وراء الستر تسمع كلامهم، وقيل: كانت قائمة في خدمة الرسل وإبراهيم جالس معهم فَضَحِكَتْ أصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضا وللعلماء في تفسير هذا الضحك قولان أحدهما أنه الضحك المعروف وعليه أكثر المفسرين ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك فقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إلى أضيافه فلم يأكلوا خاف إبراهيم منهم فقال ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال فإن له ثمنا قالوا وما ثمنه قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة وقالت يا عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا، وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه وخواصه وقيل: ضحكت من زوال الخوف عنها وعن إبراهيم وذلك أنها خافت لخوفه فحين قالوا لا تخف ضحكت سرورا وقيل ضحكت سرورا بالبشارة، وقال ابن عباس ووهب: ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها فعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فبشّرناها بإسحاق فضحكت يعني تعجبا من ذلك وقيل إنها قالت لإبراهيم اضمم إليك ابن أخيك لوطا فإن العذاب نازل بقومه فلما جاءت الرسل وبشّرت بعذابهم سرّت سارة بذلك وضحكت لموافقة ما ظنت. القول الثاني: في معنى قوله فضحكت قال عكرمة ومجاهد أي حاضت في الوقت وأنكر بعض أهل اللغة ذلك، قال الراغب: وقول من قال حاضت ليس ذلك تفسيرا لقوله فضحكت كما تصوره بعض المفسرين فقال ضحكت بمعنى حاضت وإنما ذكر ذلك تنصيصا لحالها فإن جعل ذلك أمارة لما بشرت به بحيضها في الوقت لتعلم أن حملها ليس بمنكر لأن المرأة ما دامت تحيض فإنها تحمل وقال الفراء: ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال الزجاج: ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت، وقال ابن الأنباري: قد أنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت وقد عرفه غيرهم وأنشد: تضحك الضبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب بها يستهل قال: أراد أنها تحيض فرحا وقال الليث في هذه الآية فضحكت أي طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم في قوله فضحكت أي حاضت قال: ويقال أصله من ضحاك الطلعة إذا انشقت، قال: وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض:

[سورة هود (11): الآيات 72 إلى 73]

تضحك الضبع من دماء سليم ... إذ رأتها على الحراب تمور وقال في المحكم: ضحكت المرأة حاضت وبه فسر بعضهم قوله سبحانه وتعالى فضحكت فبشرناها بإسحاق وضحكت الأرنب ضحكا يعني حاضت حيضا قال: وضحك الأرنب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا يعني الحيض فيما زعم بعضهم وأجاب عن هذا من أنكر أن يكون الضحك بمعنى الحيض، قال: كان ابن دريد يقول من شاهد الضبع عند كشرها علم أنها تحيض وإنما أراد الشاعر تكشر الأكل اللحوم وهذا سهو منه لأنه جعل كشرها حيضا، وقيل: معناه أنها تستبشر بالقتلى فتهز بعضها على بعض فجعل هزيزها ضحكا، وقيل: لأنها تسر بهم فجعل سرورها ضحكا. فإن قلت أي القولين أصح في معنى الضحك قلت إن الله عز وجل حكى عنها أنها ضحكت وكلا القولين محتمل في معنى الضحك فالله أعلم أي ذلك كان وقوله سبحانه وتعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ يعني: ومن بعد إسحاق يعقوب وهو ولد الولد فبشرت سارة بأنها تعيش حتى ترى ولد ولدها فلما بشرت بالولد صكت وجهها أي ضربت وجهها وهو من صنيع النساء وعادتهن وإنما فعلت ذلك تعجبا. [سورة هود (11): الآيات 72 الى 73] قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) قالَتْ يا وَيْلَتى نداء ندبة وأصلها يا ويلتاه وهي كلمة يستعملها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه مثل يا عجباه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وكانت بنت تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة وَهذا بَعْلِي يعني زوجي والبعل هو المستعلي على غيره ولما كان زوج المرأة مستعليا عليها قائما بأمرها سمي بعلا لذلك شَيْخاً وكان سن إبراهيم يومئذ مائة وعشرين سنة في قول محمد بن إسحاق وقال مجاهد مائة سنة وكان بين الولادة والبشارة سنة إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ لم تنكر قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تعجبت من كون الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يولد لهما قالُوا يعني قالت الملائكة لسارة أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ معناه لا تعجبي من ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء فإذا أراد شيئا كان سريعا رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ يعني: بيت إبراهيم عليه السلام وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة وفيه دليل على أن أزواج الرجل من أهل بيته إِنَّهُ حَمِيدٌ يعني: هو المحمود الذي يحمد على أفعاله كلها وهو المستحق لأن يحمد في السراء والضراء والشدة والرخاء فهو محمود على كل حال مَجِيدٌ ومعناه المنيع الذي لا يرام، وقال الخطابي: المجيد الواسع الكرم، وأصل المجد في كلامهم: السعة يقال رجل ماجد إذا كان سخيا كريما واسع العطاء وقيل الماجد هو ذو الشرف والكرم قوله سبحانه وتعالى: [سورة هود (11): الآيات 74 الى 77] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ يعني: الفزع والخوف الذي حصل له عند امتناع الملائكة من الأكل وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يعني زال عنه الخوف بسبب البشرى التي جاءته وهي البشارة بالولد يُجادِلُنا فيه إضمار

[سورة هود (11): الآيات 78 إلى 80]

تقديره أخذ يجادلنا أو جعل يجادلنا ويخاصمنا وقيل معناه يكلمنا ويسألنا فِي قَوْمِ لُوطٍ لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وقال جمهور المفسرين: معناه يجادل رسلنا في قوم لوط وكانت مجادلة إبراهيم مع الملائكة أن قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا قال فما زال كذلك حتى بلغ خمسة قالوا لا قال أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا قال إبراهيم فإن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وقيل إنما طلب إبراهيم تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون أو يرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي، قال ابن جريج: كان في قرى قوم لوط أربعة آلاف مقاتل إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ تقدم تفسيره في سورة التوبة فعند ذلك قالت الملائكة لإبراهيم يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يعني أعرض عن هذا المقال واترك هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني: إن ربك قد حكم بعذابهم فهو نازل بهم وهو قوله سبحانه وتعالى: وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ يعني أن العذاب الذي نزل بهم غير مصروف ولا مدفوع عنهم. وقوله عز وجل: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً يعني: هؤلاء الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم وكانوا على صورة غلمان مرد حسان الوجوه سِيءَ بِهِمْ يعني أحزن لوط بمجيئهم إليه وساء ظنه بقومه وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال الأزهري: الذي يوضع موضع الطاقة والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعه من ذلك وضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة والمعنى وضاق بهم ذرعا إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا، وقال غيره: معناه ضاق بهم قلبا وصدرا ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع كناية عن الوسع، والعرب تقول: ليس هذا في يدي يعنون ليس هذا في وسعي لأن الذراع من اليد ويقال ضاق فلان ذرعا بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه وذلك أن لوطا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه وخاف أن يقصدوهم بمكروه أو فاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم وَقالَ يعني لوطا هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي: شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي تشد بها الرأس، قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطا نصف النهار وهو يعمل في أرض له وقيل أنه كان يحتطب وقد قال الله سبحانه وتعالى للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فاستضافوه فانطلق بهم فلما مشى ساعة قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرهم قال أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا يقول ذلك أربع مرات فمضوا معه حتى دخلوا منزله وقيل: إنه لما حمل الحطب ومعه الملائكة مر على جماعة من قومه فتغامزوا فيما بينهم فقال لوط إن قومي شر خلق الله تعالى، فقال جبريل: هذه واحدة فمر على جماعة أخرى فتغامزوا فقال مثله ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك وقال لوط مثل ما قال أولا حتى قال ذلك أربع مرات وكلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة اشهدوا وقيل إن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم. [سورة هود (11): الآيات 78 الى 80] وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس وقتادة يسرعون إليه وقال مجاهد يهرولون، وقال الحسن:

الإهراع هو مشي بين مشيين وقال شمر هو بين الهرولة والخبب والجمز وَمِنْ قَبْلُ يعنى ومن قبل مجيء الرسل إليهم قيل ومن قبل مجيئهم إلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم قالَ يعني: قال لوط لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي يعني أزوجكم إياهن وقى أضيافه ببناته قيل إنه كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة تزويج المرأة المسلمة بالكافر، وقال الحسن بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد ببناته نساء قومه وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته وهو كالوالد لهم وهذا القول هو الصحيح وأشبه بالصواب إن شاء الله تعالى والدليل عليه أن بنات لوط كانتا إثنتين وليستا بكافيتين للجماعة وليس من المروءة أن يعرض الرجل بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم فكيف يليق ذلك بمنصب الأنبياء أن يعرضوا بناتهم على الكفار وقيل إنما قال ذلك لوط على سبيل الدفع لقومه لا على سبيل التحقيق وفي قوله هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ سؤال وهو أن يقال أن قوله هن أطهر لكم من باب أفعل التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهرا ومعلوم أنه محرم فاسد نجس لا طهارة فيه البتة فكيف قال هن أطهر لكم والجواب عن هذا السؤال إن هذا جار مجرى قوله ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم لما قال يوم أحد اعل هبل قال الله أعلى وأجل إذ لا مماثلة بين الله عز وجل والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة. وقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني خافوه وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي يعني ولا تسوءني في أضيافي ولا تفضحوني معهم أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي صالح سديد عاقل، وقال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا الله، وقال محمد بن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ينهى عن هذا الفعل القبيح قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعني ليس لنا بهن حاجة ولا لنا فيهن شهوة وقيل معناه ليست بناتك لنا بأزواج ولا مستحقين نكاحهن وقيل معناه مالنا في بناتك من حاجة لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ولا نريد ذلك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ يعني من إتيان الرجال في أدبارهم فعند ذلك قالَ لوط عليه السلام لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لو أني أقدر أن أتقوى عليكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يعني أو أنضم إلى عشيرة يمنعوني منكم، وجواب لو محذوف تقديره لو وجدت قوة لقاتلتكم أو لوجدت عشيرة لانضممت إليهم قال أبو هريرة: ما بعث الله نبيا بعده إلا في منعة من عشيرته (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: المراد بالركن الشديد هو الله عز وجل فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها ومعنى الحديث أن لوطا عليه السلام لما خاف على أضيافه ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد خزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في تلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم وقصد لوط إظهار العذر عند أضيافه وأنه لو استطاع لدفع المكروه عنهم ومعنى باقي الحديث فيما يتعلق بيوسف عليه السلام يأتي في موضعه من سورة يوسف إن شاء الله تعالى، قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وجعل يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب وقومه يعالجون سور الدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم.

[سورة هود (11): الآيات 81 إلى 82]

[سورة هود (11): الآيات 81 الى 82] قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) قالُوا يا لُوطُ ركنك شديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ يعني بمكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فتحول إلى صورته التي يكون فيها ونشر جناحيه وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك مثل المرجان كأنه كالثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم وأعمالهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا وهم يقولون النجاء النجاء في بيت لوط أسحر قوم في الأرض قد سحرونا وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبح وسترى ما تلقى منا غدا يوعدونه بذلك فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يعني ببيتك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة من الليل، وقال الضحاك: لبقية من الليل، وقال قتادة: بعد مضي أوله وقيل أنه السحر الأول وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني ولا يلتفت منكم أحد إلى ورائه ولا ينظر إلى خلفه إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها من الملتفتات فتهلك مع من هلك من قومها وهو قوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فقال لوط: متى يكون هذا العذاب قالوا إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال لوط إنه بعيد أريد أسرع من ذلك فقالوا له أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فلما خرج لوط من قريته أخذ أهله معه وأمرهم ألا يلتفت منهم أحد فقبلوا منه إلا امرأته فإنها لما سمعت هذه العذاب وهو نازل بهم التفتت وصاحت وا قوماه فأخذتها حجارة فأهلكتها معهم فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني أمرنا بالعذاب جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس مدائن أكبرها سدوم وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة ويقال كان فيها أربعمائة ألف وقيل أربعة آلاف ألف فرفع جبريل المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها يعني على شذاذها ومن كان خارجا عنها من مسافريها وقيل بعد ما قلبها أمطر عليهم حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قال ابن عباس وسعيد بن جبير: معناه سنك كل فارسي معرب لأن العرب تكلمت بشيء من الفارسي صارت لغة للعرب ولا يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس وإستبرق ونحو ذلك فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب واستعملتها في ألفاظهم فصارت عربية، قال قتادة وعكرمة: السجيل الطين دليله قوله في موضع آخر حجارة من طين. وقال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين، وقال الحسن: أصل الحجارة طين فشدت، وقال الضحاك: يعني الآجر وقيل: السجيل اسم سماء الدنيا، وقيل: هو جبل في سماء الدنيا مَنْضُودٍ قال ابن عباس: متتابع يتبع بعضها بعضا مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض. [سورة هود (11): الآيات 83 الى 85] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ صفة للحجارة يعني معلمة قال ابن جريج: عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض، وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع وقال الحسن والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم، وقيل: كان مكتوبا عليها أي على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به وَما هِيَ يعني تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ يعني مشركي مكة بِبَعِيدٍ قال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الآمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد وفي بعض الآثار ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، وقيل: إن الحجارة

اتبعت شذاذ قوم لوط حتى إن واحدا منهم دخل الحرم فوجد الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج ذلك الرجل من الحرم فسقط عليه الحجر فأهلكه. قوله عز وجل: وَإِلى مَدْيَنَ يعني وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً مدين اسم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم صار اسما للقبيلة من أولاده وقيل هو اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم فعلى هذا يكون التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني وحّدوا الله ولا تعبدوا معه غيره كانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبدءون بالأهم فالأهم ولما كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء قال شعيب اعبدوا الله مالكم من إله غيره ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع فيما هم فيه ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل والوزن دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة وهي تطفيف الكيل والوزن فقال وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ النقص في الكيل والوزن على وجهين أحدهما: أن يكون الاستنقاص من قبلهم فيكيلون ويزنون للغير ناقصا، والوجه الآخر: هو استيفاء الكيل والوزن لأنفسهم زائدا عن حقهم فيكون نقصا في مال الغير وكلا الوجهين مذموم فلهذا نهاهم شعيب عن ذلك بقوله ولا تنقصوا المكيال والميزان إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس: كانوا موسرين في نعمة وقال مجاهد: كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحصول النقمة إن لم يتوبوا ولم يؤمنوا وهو قوله: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يعني: يحيط بكم فيهلككم جميعا وهو عذاب الاستئصال في الدنيا أو حذرهم عذاب الآخرة ومنه قوله سبحانه وتعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما ولا تطففوا فيهما بِالْقِسْطِ أي بالعدل، وقيل: بتقويم لسان الميزان وتعديل المكيال وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أي: ولا تنقصوا الناس أَشْياءَهُمْ يعني أموالهم فإن قلت قد وقع التكرار في هذه القصة من ثلاثة أوجه لأنه قال ولا تنقصوا المكيال والميزان، ثم قال: أوفوا المكيال والميزان وهذا عين الأول ثم قال ولا تبخسوا الناس أشياءهم وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرار. قلت: إن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح وهو تطفيف الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم احتيج في المنع منه إلى المبالغة في التأكيد والتكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالتأكيد فلهذا كرر ذلك ليقوى الزجر والمنع من ذلك الفعل ولأن قوله ولا تنقصوا المكيال والميزان نهى عن التنقيص وقوله أوفوا المكيال والميزان أمر بإيفاء العدل وهذا غير الأول ومغاير له ولقائل أن يقول النهي ضد الأمر فالتكرار لازم على هذا الوجه قلنا الجواب عن هذا قد يجوز أن ينهى عن التنقيص ولا يأمر بإيفاء الكيل والوزن فلهذا جمع بينهما فهو كقولك صل رحمك ولا تقطعها فتريد المبالغة في الأمر والنهي وأما قوله ثانيا ولا تبخسوا الناس أشياءهم فليس بتكرير أيضا لأنه سبحانه وتعالى لما خصص النهي عن التنقيص والأمر بإيفاء الحق في الكيل والوزن عمم الحكم في جميع الأشياء التي يجب إيفاء الحق فيها فيدخل فيه الكيل والوزن والزرع وغير ذلك فظهر بهذا البيان فائدة التكرار والله أعلم؟ وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني بتنقيص الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم.

[سورة هود (11): الآيات 86 إلى 89]

[سورة هود (11): الآيات 86 الى 89] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف وقال مجاهد بقية الله يعني طاعة الله خير لكم وقيل بقية الله يعني ما أبقاه لكم من الثواب في الآخرة خير لكم مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بما قلت لكم وأمرتكم به ونهيتكم عنه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني أحفظ أعمالكم قال بعضهم إنما قال لهم شعيب ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا يعني من الأصنام أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعني من الزيادة والنقصان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة فلذلك قالوا هذا وقيل إنهم كانوا يمرون به فيرونه يصلي فيستهزءون به ويقولون هذه المقالة، وقال الأعمش: أقراءتك لأن الصلاة تطلق على القراءة والدعاء وقيل المراد بالصلاة هنا الدين يعني أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء وذلك أنهم كانوا ينقصون الدراهم والدنانير فكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك ويخبرهم أنه محرم عليهم وإنما ذكر الصلاة لأنها من أعظم شعائر الدين إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قال ابن عباس: أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم وللفلاة المهلكة مفازة، وقيل: هو على حقيقته وإنما قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وقيل: معناه إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك وقيل هو على بابه من الصحة ومعناه إنك يا شعيب فينا حليم رشيد فلا يحمل بك شق عصا قومك ومخالفتهم في دينهم قالَ يعني قال لهم شعيب يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني: على بصيرة وهداية وبيان وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يعني حلالا قيل كان شعيب كثير المال الحلال والنعمة وقيل الرزق الحسن ما أتاه الله من العلم والهداية والنبوة والمعرفة وجواب إن الشرطية محذوف تقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال والهداية والمعرفة والنبوة فهل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم ذلك أنهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد والمعنى فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه وله عليه نعم كثيرة وقوله: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ قال صاحب الكشاف يقول خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده ويقال الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا ومنه قوله وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم. قال الإمام فخر الدين الرازي: وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا فيها بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعملوا أن الذي اخترته لنفسي هو أصوب الطرق وأصلحها وهو الدعوة إلى توحيد الله وترك البخس والنقصان فأنا مواظب عليها غير تارك لها فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرفها لا ما أنتم عليه وقال الزجاج: معناه إني لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه إنما أختار لكم لنفسي وقال ابن الأنباري بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله وترك البخس والتطفيف هو ما يرتضيه لنفسه وهو لا ينطوي إلا عليه فكان هذا محض النصيحة لهم إِنْ أُرِيدُ يعني ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلَّا الْإِصْلاحَ يعني فيما بيني وبينكم مَا اسْتَطَعْتُ يعني ما استطعت إلا الإصلاح وهو الإبلاغ والإنذار فقط ولا أستطيع إجباركم على الطاعة لأن ذلك إلى الله فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة على العبد ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فلذلك قال تعالى: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني على الله اعتمدت في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يعني وإليه أرجع فيما ينزل من النوائب

[سورة هود (11): الآيات 90 إلى 93]

وقيل إليه أرجع في معادي روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيبا قال ذلك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه. وقوله تعالى: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا يحملنكم خلافي وعداوتي أَنْ يُصِيبَكُمْ يعني عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ يعني الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ يعني الريح التي أهلكتهم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ يعني ما أصابهم من الصيحة حتى هلكوا جميعا وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم وقيل معناه وما ديار قوم لوط منكم ببعيد وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم. [سورة هود (11): الآيات 90 الى 93] وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يعني من عبادة الأصنام ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني من البخس والنقصان في الكيل والوزن إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ يعني بعباده إذا تابوا واستغفروا وَدُودٌ قال ابن عباس: الودود المحبّ لعباده المؤمنين فهو من قولهم وددت الرجل أوده إذا أحببته، وقيل: يحتمل أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه إليهم. وقال الحليمي: هو الوادّ لأهل طاعته أي الراضي عنهم بأعمالهم والمحسن إليهم لأجلها والمادح لهم بها، وقال أبو سليمان الخطابي: وقد يكون معناه من تودد إلى خلقه قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ يعني ما نفهم ما تدعونا إليه وذلك أن الله سبحانه وتعالى ختم على قلوبهم فصارت لا تعي ولا تفهم ما ينفعها وإن كانوا في الظاهر يسمعون ويفهمون وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قال ابن عباس وقتادة: كان أعمى، قال الزجاج: ويقال إن حمير كانوا يسمون المكفوف ضعيفا وقال الحسن وأبو روق ومقاتل: يعني ذليلا، قال أبو روق: إن الله سبحانه وتعالى لم يبعث نبيا أعمى ولا نبيا به زمانة، وقيل: كان ضعيف البصر وقيل المراد بالضعف العجز عن الكسب والتصرف وقيل هو الذي يتعذر عليه المنع عن نفسه ويدل على صحة هذا القول ما بعده وهو قوله وَلَوْلا رَهْطُكَ يعني جماعتك وعشيرتك قيل الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة لَرَجَمْناكَ يعني لقتلناك بالحجارة والرجم بالحجارة أسوأ القتلات وشرها، وقيل: معناه لشتمناك وأغلظنا لك القول وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ يعني بكريم وقيل بممتنع منا والمقصود من هذا الكلام وحاصله أنهم بينوا لشعيب عليه السلام أنه لا حرمة له عندهم ولا في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه ولم يسمعوه الكلام الغليظ الفاحش لأجل احترامهم رهطه وعشيرته وذلك لأنهم كانوا على دينهم وملتهم ولما قالوا لشعيب عليه السلام هذه المقالة أجابهم بقوله قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ يعني أهيب عندكم من الله وأمنع حتى تركتم قتلي لمكان رهطي عندكم فالأولى أن تحفظوني في الله ولأجل الله لا لرهطي لأن الله أعز وأعظم وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يعني ونبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوالكم جميعا لا يخفى عليه منها شيء فيجازيكم بها يوم القيامة وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني على تؤدتكم وتمكنكم من أعمالكم وقيل المكانة الحالة والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بعناية المكنة والقدرة من الشر إِنِّي عامِلٌ يعني ما أقدر عليه من الطاعة

[سورة هود (11): الآيات 94 إلى 101]

والخير وهذا الأمر في قوله اعملوا فيه وعيد وتهديد عظيم ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله. فإن قلت أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في قوله سوف تعلمون. قلت إدخال الفاء في قوله: فسوف تعلمون، وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ونزعها في قوله سوف تعلمون وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال سوف تعلمون يعني عاقبة ذلك فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه والمعنى سوف تعلمون مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني بسبب عمله السيء أو أينا الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ يعني فيما يدعيه وَارْتَقِبُوا يعني وانتظروا العاقبة ما يؤول إليه أمري وأمركم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر، والرقيب بمعنى المراقب. [سورة هود (11): الآيات 94 الى 101] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني بعذابهم وإهلاكهم نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني بفضل منا بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس الصَّيْحَةُ وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم وماتوا جميعا، وقيل: أتتهم صيحة واحدة من السماء فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يعني ميتين وهو استعارة من قولهم جثم الطير إذا قعد ولطأ بالأرض كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يعني كأن لم يقيموا بديارهم مدة من الدهر مأخوذ من قولهم غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيا به عن غيره أَلا بُعْداً يعني هلاكا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ قال ابن عباس «لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم» قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني بحججنا والبراهين التي أعطيناه الدالة على صدقه ونبوته وَسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني ومعجزة باهرة ظاهرة دالة على صدقة أيضا قال بعض المفسرين المحققين سميت الحجة سلطانا لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه كالسلطان يقهر غيره، وقال الزجاج: السلطان هو الحجة وسمي السلطان سلطانا لأنه حجة الله في الأرض إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أتباعه وأشراف قومه فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ يعني ما هو عليه من الكفر وترك الإيمان بما جاءهم به موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يعني وما طريق فرعون وما هو عليه بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ يعني كما تقدم قومه فأدخلهم البحر في الدنيا كذلك يتقدم قومه يوم القيامة فيدخلهم النار ويدخل هو أمامهم، والمعنى كما كان قدوتهم في الضلال والكفر في الدنيا فكذلك هو قدوتهم وإمامهم في النار وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ يعني: وبئس الدخل المدخول فيه وقيل شبه الله تعالى فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بمن يتقدم

[سورة هود (11): الآيات 102 إلى 106]

على الوارد إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين بعده ولما كان ورود الماء محمودا عند الواردين لأنه يكسر العطش قال في حق فرعون وأتباعه فأوردهم النار وبئس الورد المورود لأن الأصل فيه قصد الماء واستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ يعني في هذه الدنيا لَعْنَةً يعني طردا وبعدا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يعني وأتبعوا لعنة أخرى يوم القيامة مع اللعنة التي حصلت لهم في الدنيا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني بئس العون المعان وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعنة في الآخرة وقيل معناه بئس العطاء المعطى وذلك أنه ترادف عليهم لعنتان لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة. وقوله سبحانه وتعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى يعني من أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة والقرون الماضية نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يعني نخبرك به يا محمد لتخبر قومك أخبارهم لعلهم يعتبرون بهم فيرجعوا عن كفرهم أو ينزل بهم مثل ما نزل بهم من العذاب مِنْها يعني من القرى التي أهلكنا أهلها قائِمٌ وَحَصِيدٌ يعني منها عامر ومنها خراب وقيل منها قائم يعني الحيطان بغير سقوف ومنها ما قد محي أثره بالكلية شبهها الله تعالى بالزرع الذي بعضه قائم على سوقه وبعضهم قد حصد وذهب أثره والحصيد بمعنى المحصود وَما ظَلَمْناهُمْ يعني بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالكفر والمعاصي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني بعذابهم أي لم تنفعهم أصنامهم ولم تدفع عنهم العذاب وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ يعني غير تخسير وقيل غير تدمير. [سورة هود (11): الآيات 102 الى 106] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ يعني وهكذا أخذ ربك إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الضمير في وهي عائد على القرى والمراد أهلها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (ق) عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد» فالآية الكريمة في الحديث دليل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة ورد الحقوق إلى أهلها إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد ولا يظن أن هذه الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم ويعضده الحديث والله أعلم. قوله عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما ذكر من عذاب الأمم الحالية وإهلاكهم لعبرة وموعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعني أن إهلاك أولئك عبرة يعتبر بها وموعظة يتعظ بها من كان يخشى الله ويخاف عذابه في الآخرة لأنه إذا نظر ما أحل الله بأولئك الكفار في الدنيا من أليم عذابه وعظيم عقابه وهو كالأنموذج مما أعد لهم في الآخرة اعتبر به فيكون زيادة في خوفه وخشيته من الله ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يعني يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين للحساب والوقوف بين يدي رب العالمين وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يعني يشهده أهل السماء وأهل الأرض وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يعني وما نؤخر ذلك اليوم وهو يوم القيامة إلا إلى وقت معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه أحد إلا الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ يعني ذلك اليوم لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ قيل: إن جميع الخلائق يسكتون في ذلك اليوم فلا يتكلم أحد فيه إلا بإذن الله تعالى. فإن قلت كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وقوله إخبارا عن محاجة الكفار «والله ربنا ما كنا مشركين» والأخبار أيضا تدل على الكلام في ذلك اليوم.

[سورة هود (11): الآيات 107 إلى 108]

قلت: يوم القيامة يوم طويل وله أحوال مختلفة وفيه أهوال عظيمة ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الأهوال وفي بعض الأحوال يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون وفي بعضها تخفف عنهم تلك الأهوال فيحاجون ويجادلون وينكرون، وقيل: المراد من قوله لا تكلم نفس إلا بإذنه الشفاعة يعني لا تشفع نفس لنفس شيئا إلا أن يأذن الله لها في الشفاعة فَمِنْهُمْ يعني فمن أهل الموقف شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ الشقاوة خلاف السعادة والسعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها ثم السعادة على ضربين سعادة دنيوية وسعادة أخروية وهي السعادة القصوى لأن نهايتها الجنة وكذلك الشقاوة على ضربين أيضا شقاوة دنيوية وشقاوة أخروية وهي الشقاوة القصوى لأن نهايتها النار فالشقي من سبق له الشقاوة في الأزل والسعيد من سبقت له السعادة في الأزل (ق). عن علي بن أبي طالب قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى الآية. بقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم والمخصرة كالسوط والعصا ونحو ذلك مما يمسكه بيده الإنسان والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد ونحو ذلك حتى يؤثر فيه واستدل بعض العلماء بهذه الآية وهذا الحديث على أن أهل الموقف قسمان شقي وسعيد لا ثالث لهما وظاهر الآية والحديث يدل على ذلك لكن بقي قسم آخر مسكوت عنه وهو من استوت حسناته وسيئاته وهم أصحاب الأعراف في قول والأطفال والمجانين الذين لا حسنات لهم ولا سيئات فهؤلاء مسكوت عنهم فهم تحت مشيئة الله عز وجل يوم القيامة يحكم فيهم بما يشاء وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها أي في النار من العذاب والهوان زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ أصل الزفير ترديد النفس في الصدر حتى تنتفخ منه الضلوع والشهيق رد النفس إلى الصدر أو الزفير مده وإخراجه من الصدر وقال ابن عباس: الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، وقال الضحاك ومقاتل: الزفير أول صوت الحمار والشهيق آخره إذا رده إلى صدره وقال أبو العالية: الزفير في الحلق والشهيق في الجوف. [سورة هود (11): الآيات 107 الى 108] خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) خالِدِينَ فِيها يعني لابثين مقيمين في النار ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال الضحاك: يعني ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما ولا بد لأهل الجنة وأهل النار من سماء تظلهم وأرض تقلهم فكل ما علاك فأظلك فهو سماء وكل ما استقر عليه قدمك فهو أرض وقال أهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد وذلك على عادة العرب فإنهم يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض وما اختلف الليل والنهار يريدون بذلك التأبيد. وقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ اختلف العلماء في معنى هذين الاستثناءين فقال ابن عباس والضحاك: الاستثناء الأول المذكور في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون استثناء من غير الجنس لأن الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله سبحانه وتعالى يخرج

قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة» وفي رواية «إن الله يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة» أخرجه البخاري ومسلم، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يخرج من النار قوم بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين» وفي رواية «ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة لهم ثم يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته فيقال لهم الجهنميون» (خ) عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين» وأما الاستثناء الثاني المذكور في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبث هؤلاء في النار قبل دخولهم الجنة فعلى هذا القول يكون معنى الآية فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها فيدخلهم الجنة إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أن يدخله النار أولا ثم يخرجه منها فيدخله الجنة فحاصل هذا القول إن الاستثناءين يرجع كل واحد منهما إلى قوم مخصوصين هم في الحقيقة سعداء أصابوا ذنوبا استوجبوا بها عقوبة يسيرة في النار ثم يخرجون منها فيدخلون الجنة لأن إجماع الأمة على أن من دخل الجنة لا يخرج منها أبدا وقيل إن الاستثناءين يرجعان إلى الفريقين السعداء والأشقياء وهو مدة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدة وقوفهم للحساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار، وقيل: معنى إلا ما شاء ربك سوى ما شاء ربك فيكون المعنى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة على ذلك وهو كقولك لفلان علي ألف إلا ألفين أي سوى ألفين وقيل إلا بمعنى الواو بمعنى وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وخلود هؤلاء في الجنة فهو كقوله تمجد وتعالى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا أي ولا الذين ظلموا وقيل معناه ولو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لم يشأ لأنه حكم لهم بالخلود فيها، قال الفراء: هذا استثناء استثناه الله ولا يفعله كقوله والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزمه أن يضربه فهذه الأقوال في معنى الاستثناء ترجع إلى الفريقين والصحيح هو القول الأول ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ يعني من إخراج من أراد من النار وإدخالهم الجنة فهذا على الإجمال في حال الفريقين فأما على التفصيل فقوله إلا ما شاء ربك في جانب الأشقياء يرجع إلى الزفير والشهيق وتقريره أن يفيد حصول الزفير والشهيق مع خلود لأنه إذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل فيه هذا المجموع والاستثناء في جانب السعداء يكون بمعنى الزيادة يعني إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود، وقيل: إن الاستثناء الأول في جانب الأشقياء معناه إلا ما شاء ربك من أن يخرجهم من حرّ النار إلى البرد والزمهرير وفي جانب السعداء معناه إلا ما شاء ربك أن يرفع بعضهم إلى منازل أعلى منازل الجنان ودرجاتها والقول الأول هو المختار ويدل على خلود أهل الجنة في الجنة أن الأمة مجتمعة على من دخل الجنة لا يخرج منها بل هو خالد فيها. وقوله سبحانه وتعالى في جانب السعداء عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ يعني غير مقطوع قال ابن زيد: أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال تعالى عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار وروي عن ابن مسعود أنه قال «ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا» وعن أبي هريرة نحوه، وهذا إن صح عن ابن مسعود وأبي هريرة: فمحمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين وخلود الكفار فيها أو يكون محمولا على إخراج الكفار من حر النار إلى برد الزمهرير ليزدادوا عذابا فوق عذابهم والله أعلم.

[سورة هود (11): الآيات 109 إلى 111]

[سورة هود (11): الآيات 109 الى 111] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) قوله سبحانه وتعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ يعني فلا تك في شك يا محمد في هذه الأصنام التي يعبدها هؤلاء الكفار فإنها لا تضر ولا تنفع ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ يعني أنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند إلا أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فعبدوها مثلهم وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ يعني وإنا مع عبادتهم هذه الأصنام نرزقهم الرزق الذي قدرناه لهم من غير نقص فيه ويحتمل أن يكون المراد من توفية نصيبهم يعني من العذاب الذي قدر لهم في الآخرة كاملا موفرا غير ناقص. قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني في الكتاب فمنهم مصدق به ومكذب به كما فعل قومك يا محمد بالقرآن ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقونه من تعجيل العقوبة في الدنيا على كفرهم وتكذيبهم وهو قوله تبارك وتعالى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني لعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني من القرآن ونزوله عليك يا محمد مُرِيبٍ يعني أنهم قد وقعوا في الريب والتهمة وَإِنَّ كُلًّا يعني من الفريقين المختلفين المصدق والمكذب لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اللام لام القسم تقديره والله ليوفينهم جزاء أعمالهم في القيامة فيجازي المصدق على تصديقه الجنة ويجازي المكذب على تكذيبه النار إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت ففيه وعد للمحسنين المصدقين وفيه وعيد وتهديد للمكذبين الكافرين. [سورة هود (11): الآيات 112 الى 115] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) قوله سبحانه وتعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك والأمر في فاستقم للتأكيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها كقولك للقائم قم حتى آتيك أي دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك وَمَنْ تابَ مَعَكَ يعني ومن آمن معك من أمتك فليستقيموا أيضا على دين الله والعمل بطاعته قال عمر بن الخطاب: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ منه روغان الثعلب (م). عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال «قل آمنت بالله ثم استقم» وَلا تَطْغَوْا يعني ولا تجاوزوا أمري إلى غيره ولا تعصوني وقيل معناه ولا تغلوا في الدين فتجاوزوا ما أمرتكم به ونهيتكم عنه إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها قال ابن عباس: ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» قوله: إن الدين يسر، اليسر ضد العسر وأراد به التسهيل في الدين وترك التشدد فإن هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى فسددوا أي اقصدوا السداد من الأمور وهو الصواب وقاربوا أي اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير والغدوة الرواح بكرة والرواح الرجوع عشيا والمراد منه اعملوا أطراف النهار وقتا وقتا والدلجة

سير الليل والمراد منه اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضا وقوله شيء من الدلجة إشارة إلى تقليله. وقوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس: ولا تميلوا والركون هو المحبة والميل بالقلب، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم، وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة، وعن عكرمة لا تطيعوهم، وقيل: معناه ولا تسكنوا إلى الذين ظلموا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ يعني فتصيبكم النار بحرها وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعني أعوانا وأنصارا يمنعونكم من عذابه ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ يعني ثم لا تجدون لكم من ينصركم ويخلصكم من عقاب الله غدا في القيامة ففيه وعيد لمن ركن إلى الظلمة أو رضي بأعمالهم أو أحبهم فكيف حال الظلمة في أنفسهم نعوذ بالله من الظلم. قوله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر قال «أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت إن في البيت تمرا هو أطيب منه فدخلت معي فأهويت إليها فقبلتها فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا حتى أوحى الله إليه وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إلى قوله ذلك ذكرى للذاكرين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة قال بل للناس عامة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقيس بن الربيع ضعّفه وكيع وغيره وأبو اليسر هو كعب بن عمرو (ق). عن عبد الله بن مسعود «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الآية فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه الآية قال لمن عمل بها من أمتي وفي رواية فقال رجل من القوم يا نبي الله هذه له خاصة قال بل للناس كافة» عن معاذ بن جبل قال «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلا لقي امرأة وليس بينهما معرفة فليس يأتي الرجل إلى امرأته شيئا إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها قال فأنزل الله عز وجل وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي قال معاذ فقلت يا رسول الله أهي له خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة» أخرجه الترمذي وقال هذا الحديث ليس بمتصل لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ. أما التفسير فقوله سبحانه وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ يعني صلاة الغداة والعشي وقال مجاهد: طرفي النهار يعني صلاة الصبح والظهر والعصر وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني صلاة المغرب والعشاء، وقال مقاتل: صلاة الصبح والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف وزلفا من الليل يعني صلاة العشاء وقال الحسن طرفي النهار الصبح والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء وقال ابن عباس طرفي النهار الغداة والعشي يعني صلاة الصبح والمغرب قال الإمام فخر الدين الرازي: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أن الصلاة التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله تعالى وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني وأقم الصلاة في زلف من الليل وهي ساعاته واحدتها زلفة وأصل الزلفة المنزلة والمراد بها صلاة المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ويكفرنها (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن زاد في رواية ما لم تغش الكبائر» وزاد في رواية أخرى «ورمضان إلى

[سورة هود (11): الآيات 116 إلى 119]

رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (ق) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا» (خ) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات» قال الحسن وما يبقى من الدرن. قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحات مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر وأما الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب بالكلية. الثاني: الندم على فعله. الثالث: العزم التام أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى، وقال مجاهد في تفسير الحسنات إنها قول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والقول الأول أصح أنها الصلوات الخمس وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب ومجاهد في إحدى الروايتين عنه والقرظي والضحاك وجمهور المفسرين ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الاستقامة والتوبة وقيل هو إشارة إلى القرآن ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ يعني عظة للمؤمنين المطيعين وَاصْبِرْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني واصبر يا محمد على أذى قومك وما تلقاه منهم، وقيل معناه واصبر على الصلاة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني أعمالهم، قال ابن عباس: يعني المصلين. [سورة هود (11): الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) قوله سبحانه وتعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ يعني فهلا كان من القرون التي أهلكناهم مِنْ قَبْلِكُمْ يعني يا أمة محمد أُولُوا بَقِيَّةٍ يعني أولوا تمييز وطاعة وخير يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير وقيل معناه أولوا بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ يعني يقومون بالنهي عن الفساد في الأرض والآية للتقريع والتوبيخ يعني لم يكن فيهم من فيه خير ينهى عن الفساد عن الأرض فلذلك أهلكناهم إِلَّا قَلِيلًا هذا استثناء منقطع معناه لكن قليلا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ يعني من آمن الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ يعني واتبع الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ما تنعموا فيه والترف التنعم والمعنى أنهم اتبعوا ما تعودوا به من النعم وإيثار اللذات على الآخرة ونعيمها وَكانُوا مُجْرِمِينَ يعني كافرين وَما كانَ رَبُّكَ يعني وما كان ربك يا محمد لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ يعني لا يهلكهم بظلم منه وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ يعني: في أعمالهم ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات، وقيل: في معنى الآية وما كان ربك ليهلك القرى بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعني يعامل بعضهم بعضا بالصلاح والسداد والمراد من الهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا أما عذاب الآخرة فهو لازم لهم ولهذا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على التضييق والتشديد قوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يعني كلهم على دين واحد وشريعة واحدة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ يعني على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل أهل دين من

[سورة هود (11): الآيات 120 إلى 123]

هذه الأديان قد اختلفوا في دينهم أيضا اختلافا كثيرا لا ينضبط عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تفرق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى مثل ذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» أخرجه أبو داود قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم «وستفترق أمتي» فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته وقال غيره المراد بهذه الفرق أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع والأهواء والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. وقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يعني لكن من رحم ربك فمنّ عليه بالهداية والتوفيق إلى الحق، وهداه إلى الدين القويم والصراط المستقيم فهم لا يختلفون وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم. قال أشهب: سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم يعني الذين يرحمهم. وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وخلق أهل الاختلاف للاختلاف، وقيل: خلق الله عز وجل أهل الرحمة للرحمة لئلا يختلفوا وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا فحاصل الآية أن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين فحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة وهم أهل الاتفاق ومصيرهم إلى الجنة ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله تبارك وتعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا صريح بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقواما للجنة وللرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة وخلق أقواما للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية. [سورة هود (11): الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قوله سبحانه وتعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ لما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قصص الأمم الماضية والقرون الحالية وما جرى لهم مع أنبيائهم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله وكلّا نقص عليك يا محمد من أنباء الرسل يعني من أخبار الرسل وما جرى لهم مع قومهم ما نثبت به فؤادك يعني ما نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه وَجاءَكَ يا محمد فِي هذِهِ الْحَقُّ اختلفوا في هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل معناه وجاءك في هذه الدنيا الحق وفيه بعد لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير إليها وقيل في هذه الآية وقيل في هذه السورة وهو الأقرب وهو قول الأكثرين فإن قلت جاءه الحق في سورة القرآن فلم خص هذه السورة بالذكر قلت لا يلزم من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يكون قد جاءه الحق في غيرها من السور بل القرآن كله حق وصدق وإنما

خصها بالذكر تشريفا لها وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وهذه السورة موعظة يتعظ بها المؤمنون إذا تذكروا أحوال الأمم الماضية وما نزل بهم وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ فيه وعيد وتهديد يعني اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة ذلك العمل فهو كقوله: اعملوا ما شئتم إِنَّا عامِلُونَ يعني ما أمرنا به ربنا وَانْتَظِرُوا يعني ما يعدكم به الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ يعني ما يحل بكم من نقمة الله وعذابه إما في الدنيا وإما في الآخرة وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يعلم ما غاب عن العباد فيهما يعني أن علمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع الأشياء خفيها وجليها وحاضرها ومعدومها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ يعني إلى الله يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فَاعْبُدْهُ يعني أن من كان كذلك كان مستحقا للعبادة لا غيره فاعبده ولا تشتغل بعبادة غيره وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ يعني وثق به في جميع أمورك فإنه يكفيك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قال أهل التفسير هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى يحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. قال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة يوسف

سورة يوسف وهي مكية بإجماعهم وهي مائة وإحدى عشرة آية وألف وستمائة كلمة وسبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وفي سبب نزولها قولان: أحدهما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ. القول الثاني: رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف فأنزل الله عز وجل الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الآيات الكريمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) قوله عز وجل: الر تقدم تفسيره في أول سورة يونس عليه الصلاة والسلام تِلْكَ إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هذه آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وهو القرآن أي البين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وقال قتادة: مبين بينه الله ببركته وهداه ورشده فهذا من بان أي ظهر، وقال الزجاج: مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام فهذا من أبان بمعنى أظهر وقيل إنه يبين فيه قصص الأولين وشرح أحوال المتقدمين إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا أي أنزلناه بلغتكم لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه وقيل لما قالت اليهود لمشركي مكة سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن أمر يعقوب وقصة يوسف وكانت عند اليهود بالعبرانية فأنزل الله هذه السورة وذكر فيها قصة يوسف بالعربية لتفهمها العرب ويعرفوا معانيها والتقدير إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه عربيا فعلى هذا القول يجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه لأنه اسم جنس يقع على الكل والبعض واختلف العلماء هل يمكن أن يقال في القرآن شيء بغير العربية، فقال أبو عبيدة: من زعم أن في القرآن لسانا غير العربية فقد قال بغير الحق وأعظم على الله القول واحتج بهذه الآية إنا أنزلناه قرآنا عربيا. وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة: أن فيه من غير لسان العربية مثل سجيل والمشكاة واليم وإستبرق ونحو ذلك وهذا هو الصحيح المختار لأن هؤلاء أعلم من أبي عبيدة بلسان العرب وكلا القولين صواب إن شاء الله تعالى ووجه الجمع بينهما أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت

[سورة يوسف (12): الآيات 4 إلى 5]

عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة، فظهر بهذا البيان صحة القولين وأمكن الجمع بينهما لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني تفهمون أيها العرب لأنه نازل بلغتكم قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الأصل في معنى القصص اتباع الخبر بعضه بعضا والقاص هو الذي يأتي بالخبر على وجهه وأصله في اللغة من قصص الأثر إذا تتبعه وإنما سميت الحكاية قصة لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا والمعنى نحن نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان وقيل المراد منه قصة يوسف عليه الصلاة والسلام خاصة وإنما سماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك من الفوائد المذكورة في هذه السورة الشريفة. قال خالد بن معدان: سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة. قال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وقوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني بإيحائنا إليك يا محمد هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ أي وقد كنت مِنْ قَبْلِهِ يعني من قبل وحينا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ يعني عن هذه القصة وما فيها من العجائب قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فقالوا يا رسول الله لو ذكرتنا فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قوله عز وجل: [سورة يوسف (12): الآيات 4 الى 5] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ أي اذكر يا محمد لقومك قول يوسف لأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وعليهم أجمعين (خ) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويوسف اسم عبري ولذلك لا يجري فيه الصرف وقيل هو عربي سئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال الأسف أشد الحزن والأسيف العبد واجتمعا في يوسف فسمي به يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ معناه قال أهل التفسير: رأى يوسف في منامه كأن أحد عشر كوكبا نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر فسجدوا له وكانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر وكان النجوم في التأويل إخوته وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم والشمس أبوه والقمر أمه في قول قتادة، وقال السدي: القمر خالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت. وقال قتادة وابن جريج: القمر أبوه والشمس أمه لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر وكان يوسف عليه السلام ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة وقيل سبع سنين وأراد بالسجود تواضعهم له ودخولهم تحت أمره وقيل أراد به حقيقة السجود لأنه كان في ذلك الزمان التحية فيما بينهم السجود. فإن قلت: إن الكواكب جماد لا تعقل فكيف عبر عنها بكناية من يعقل في قوله رأيتهم ولم يقل رأيتها وقوله: ساجدين ولم يقل ساجدات. قلت: لما أخبرنا عنها بفعل من يعقل وهو السجود كنى عنها بكناية من يعقل فهو كقوله يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ وقيل إن الفلاسفة والمنجمين يزعمون أن الكواكب أحياء نواطق حساسة فيجوز أن يعبر عنها

بكناية من يعقل وهذا القول ليس بشيء والأول أصح فإن قلت قد قال إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أعاد لفظ الرؤيا ثانيا فقال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فما فائدة هذا التكرار. قلت: معنى الرؤيا الأولى أنه رأى أجرام الكواكب والشمس والقمر ومعنى الرؤيا الثانية أنه أخبر بسجودها له وقال بعضهم. معناه أنه لمّا قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فكأنه قيل له: وكيف رأيت؟ قال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وإنما أفرد الشمس والقمر بالذكر وإن كانا من جملة الكواكب للدلالة على فضلهما وشرفهما على سائر الكواكب قال أهل التفسير: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان شديد الحب ليوسف عليه الصلاة والسلام فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك ليعقوب، فلما رأى يوسف هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فلهذا قالَ يعقوب يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ يعني لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي: فيحتالوا في إهلاكك فأمره بكتمان رؤياه عن إخوته لأن رؤيا الأنبياء وحي وحق واللام في فيكيدوا لك كيدا تأكيدا للصلة كقولك: نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أنه بيّن العداوة، لأن عداوته قديمة فهم إن أقدموا على الكيد كان ذلك مضافا إلى تزيين الشيطان ووسوسته (ق) عن أبي قتادة قال: كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرها فإنها لن تضره» (خ). عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدّث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ومن شرّها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره» (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» عن أبي رزين العقيلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رؤيا المؤمن جزء من أربعين وفي رواية جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها سقطت قال وأحسبه قال ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا» أخرجه الترمذي، ولأبي داود نحوه قال الشيخ محيي الدين النووي قال المازري مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علما على أمور أخر يجعلها في ثاني الحال والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي يجعلها علما على ما سر بغير حضرة الشيطان فإذا خلق ما هو علم على ما يضر يكون بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازا وإن كان لا فعل له في الحقيقة فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان»، لا على أن الشيطان يفعل شيئا والرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه، وقال غيره: إضافة الرؤيا المحبوبة إلى الله تعالى إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيها ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها فيستحب إذا رأى الرجل في منامه ما يحب أن يحدث به من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها وليتفل ثلاثا وليتحول إلى جنبه الآخر فإنها لا تضره فإن الله تعالى جعل هذه الأسباب سببا لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سببا لوقاية المال وغيره من البلاء والله أعلم.

[سورة يوسف (12): الآيات 6 إلى 7]

[سورة يوسف (12): الآيات 6 الى 7] وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) قوله تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعني يقول يعقوب ليوسف عليه الصلاة والسلام أي وكما رفع منزلتك بهذه الرؤيا الشريفة العظيمة كذلك يجتبيك ربك يعني يصطفيك ربك واجتباء الله تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل له منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء أو ببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ يعني به تعبير الرؤيا سمي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه، يعني يعلمك تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتعبير الرؤيا. وقال الزجاج: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة. وقال ابن زيد: يعلمك العلم والحكمة وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يعني بالنبوة، قاله ابن عباس لأن منصب النبوة أعلى من جميع المناصب وكل الخلق دون درجة الأنبياء فهذا من إتمام النعمة عليهم، لأن جميع الخلق دونهم في الرتب والمناصب وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ المراد بآل يعقوب أولاده فإنهم كانوا أنبياء وهو المراد من إتمام النعمة عليهم كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ بأن جعلهما نبيين وهو المراد من إتمام النعمة عليهما وقيل: المراد من إتمام النعمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأن خلصه الله من النار واتخذه خليلا والمراد من إتمام النعمة على إسحاق بأن خلصه الله من الذبح وهذا على قول من يقول إن إسحاق هو الذبيح وليس بشيء والقول الأول هو الأصح بأن إتمام النعمة عليهما بالنبوة لأنه لا أعظم من منصب النبوة فهو من أعظم النعم على العبد إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ يعني بمصالح خلقه حَكِيمٌ يعني أنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بحكمة، وقيل: إنه تعالى حكم بوضع النبوة في بيت إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصر واجتماعه بأبويه وإخوته أربعون سنة وهذا قول أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه. قوله عز وجل: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ يعني في خبره وخبر إخوته وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوى ويهوذا وزبولون ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد يعقوب من سريتين اسم إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين فهؤلاء بنو ليعقوب وهم الأسباط، وعددهم اثنا عشر نفرا آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وذلك أن اليهود لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وقيل سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر ذكر قصة يوسف مع إخوته فوجدوها موافقة لما في التوراة فعجبوا منه فعلى هذا تكون هذه القصة دالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يجالس العلماء والأحبار، ولم يأخذ عن أحد منهم شيئا فدل ذلك على أن ما أتي به وحي سماوي وعلم قدسي أوحاه الله إليه وشرفه به، ومعنى آيات للسائلين أي عبرة للمعتبرين فإن هذه القصة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم ومنها رؤيا يوسف وما حقق الله فيها ومنها حسد إخوته له وما آل إليه أمرهم من الحسد ومنها صبر يوسف على إخوته وبلواه مثل إلقائه في الجب وبيعه عبدا وسجنه بعد ذلك وما آل إليه أمره من الملك ومنها ما تشتمل عليه من حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر واتعظ. [سورة يوسف (12): الآيات 8 الى 9] إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)

[سورة يوسف (12): الآيات 10 إلى 11]

إِذْ قالُوا يعني إخوة يوسف لَيُوسُفُ اللام فيه لام القسم تقديره والله ليوسف وَأَخُوهُ يعني بنيامين وهما من أم واحدة أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنما قالوا هذه المقالة حسدا منهم ليوسف وأخيه لما رأوا من ميل يعقوب إليه وكثرة شفقته عليه والعصبة الجماعة وكانوا عشرة، قال الفراء: العصبة هي العشرة فما زاد وقيل هي ما بين الواحد إلى العشرة وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقال مجاهد: هي ما بين العشرة إلى خمسة عشر وقيل إلى الأربعين وقيل الأصل فيه أن كل جماعة يتعصب بعضهم ببعض يسمون عصبة والعصبة لا واحد لها من لفظها كالرهط والنفر إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني لفي خطأ بين في إيثاره حب يوسف علينا مع صغره لا نفع فيه ونحن عصبة ننفعه ونقوم بمصالحه من أمر دنياه وإصلاح أمر مواشيه وليس المراد من ذكر هذا الضلال الضلال عن الدين إذ لو أرادوا ذلك لكفروا به ولكن أرادوا به الخطأ في أمر الدنيا وما يصلحها يقول نحن أنفع له من يوسف فهو مخطئ في صرف محبته إليه لأنا أكبر منه سنا وأشد قوة وأكثر منفعة وغاب عنهم المقصود الأعظم وهو أن يعقوب عليه الصلاة والسلام ما فضل يوسف وأخاه على سائر الإخوة إلا في المحبة المحضة ومحبة القلب ليس في وسع البشر دفعها ويحتمل أن يعقوب إنما خص يوسف بمزيد المحبة والشفقة لأن أمه ماتت وهو صغير ولأنه رأى فيه من آيات الرشد والنجابة ما لم يره في سائر إخوته فإن قلت الذي فعله إخوة يوسف بيوسف هو محض الحسد والحسد من أمهات الكبائر وكذلك نسبة أبيهم إلى الضلال هو محض العقوق وهو من الكبائر أيضا وكل ذلك قادح في عصمة الأنبياء فما الجواب عنه. قلت: هذه الأفعال إنما صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وقت حصول النبوة لا قبلها، وقيل: كانوا وقت هذه الأفعال مراهقين غير بالغين ولا تكليف عليهم قبل البلوغ فعلى هذا لم تكن هذه الأفعال قادحة في عصمة الأنبياء. قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ لما قوي الحسد وبلغ النهاية قال إخوة يوسف فيما بينهم لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين إما القتل مرة واحدة أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه بأن تفترسه الأسد والسباع أو يموت في تلك الأرض البعيدة ثم ذكروا العلة في ذلك وهي قوله يخل لكم وجه أبيكم والمعنى أنه قد شغله حب يوسف عنكم فإذا فعلتم ذلك بيوسف أقبل يعقوب بوجهه عليكم وصرف محبته إليكم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد قتل يوسف أو إبعاده عن أبيه قَوْماً صالِحِينَ يعني: تائبين فتوبوا إلى الله يعف عنكم فتكونوا قوما صالحين وذلك أنهم لما علموا أن الذي عزموا عليه من الذنوب والكبائر قالوا نتوب إلى الله من هذا الفعل ونكون من الصالحين في المستقبل، وقال مقاتل: معناه يصلح لكم أمركم فيما بينكم وبين أبيكم فإن قلت كيف يليق أن تصدر هذه الأفعال منهم وهم أنبياء. قلت: الجواب ما تقدم أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت حتى تكون هذه الأفعال قادحة في عصمة الأنبياء وإنما أقدموا على هذه الأفعال قبل النبوة وقيل إن الذي أشار بقتل يوسف كان أجنبيا شاوروه في ذلك فأشار عليهم بقتله. [سورة يوسف (12): الآيات 10 الى 11] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ يعني قال قائل من إخوة يوسف وهو يهوذا، وقال قتادة: هو روبيل وهو ابن خالته وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا فيه فنهاهم عن قتله، وقال: القتل كبيرة عظيمة والأصح أن قائل هذه

[سورة يوسف (12): الآيات 12 إلى 15]

المقالة هو يهوذا لأنه كان أقربهم إليه سنا وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يعني ألقوه في أسفل الجب وظلمته والغيابة كل موضع ستر شيئا وغيبه عن النظر والجب البئر الكبيرة غير مطوية سمي بذلك لأنه جب أي قطع ولم يطو وأفاد ذكر القيامة مع ذكر الجب أن المشير أشار بطرحه في موضع من الجب مظلم لا يراه أحد واختلفوا في مكان ذلك الجب، فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو في أرض الأردن وقال مقاتل هو في أرض الأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وذلك أن هذا الجب كان معروفا يرد عليه كثير من المسافرين، والالتقاط أخذ الشيء من الطريق أو من حيث لا يحتسب، ومنه اللقطة بعض السيارة يعني يأخذه بعض المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فتستريحون منه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فيه إشارة إلى ترك الفعل فكأنه قال لا تفعلوا شيئا من ذلك وإن عزمتم على هذا الفعل فافعلوا هذا القدر إن كنتم فاعلين ذلك. قال البغوي: كانوا يومئذ بالغين ولم يكونوا أنبياء إلا بعده وقيل لم يكونوا بالغين وليس بصحيح بدليل أنهم قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين والصغير لا ذنب له. قال محمد بن إسحاق: اشتمل فعلهم هذا على جرائم كثيرة من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد والكذب مع أبيهم وعفا الله عن ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله تعالى وقال بعض أهل العلم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ولو فعلوا ذلك لهلكوا جميعا وكل ذلك كان قبل أن نبأهم الله فلما أجمعوا على التفريق بين يوسف وبين والده بضرب من الحيل قالُوا يعني: قال إخوة يوسف ليعقوب يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ بدءوا بالإنكار عليه في ترك إرسال يوسف معهم كأنهم قالوا: أتخافنا عليه إذا أرسلته معنا وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ المراد بالنصح هنا القيام بالمصلحة، وقيل: البر والعطف والمعنى وإنا لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه، وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أنهم قالوا لأبيهم أرسله معنا فقال يعقوب إني ليحزنني أن تذهبوا به فحينئذ قالوا: مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ثم قالوا. [سورة يوسف (12): الآيات 12 الى 15] أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يعني إلى الصحراء يَرْتَعْ الرتع هو الاتساع في الملاذ يقال رتع فلان في ماله إذا أنفقه في شهواته والأصل في الرتع أكل البهائم في الخصب زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير وَيَلْعَبْ اللعب معروف وقال الراغب: يقال لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا سئل أبو عمرو بن العلاء كيف قالوا نلعب وهم الأنبياء فقال كم يكونوا يومئذ أنبياء ويحتمل أن يكون المراد باللعب هنا الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه «هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك» وأيضا فإن لعبهم كان الاستباق وهو غرض صحيح مباح لما فيه من المحاربة والإقدام على الأقران والحرب بدليل قوله نستبق وإنما سموه لعبا لأنه في صورة اللعب وقيل في معنى نرتع ونلعب نتنعم ونأكل ونلهو وننشط وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ يعني نجتهد في حفظه غاية الاجتهاد حتى نرده إليك سالما قالَ يعني قال لهم يعقوب عليه الصلاة والسلام إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي: ذهابكم به والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب ومعنى الآية أنه لما طلبوا منه أن يرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام اعتذر يعقوب عليه الصلاة والسلام بعذرين أحدهما أن

ذهابهم به ومفارقته إياه يحزنه لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة والثاني قوله وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ يعني إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم وذلك أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رأى في المنام أن ذئبا شد على يوسف عليه الصلاة والسلام فكان يعقوب يخاف عليه من ذلك وقيل كانت الذئاب في أرضهم كثيرة قالُوا يعني قال إخوة يوسف مجيبين ليعقوب لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة عشرة رجال إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ يعني عجزة ضعفاء وقيل إنهم خافوا أن يدعو عليهم يعقوب بالخسار والبوار وقيل معناه إنا إذا لم نقدر على حفظ أخينا فكيف نقدر على حفظ مواشينا فنحن إذا خاسرون. قوله عز وجل: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يعني وعزموا على أن يلقوه في غيابة الجب. (ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه الصلاة والسلام) قال وهب، وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف قالوا له أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فنصيد ونستبق قال بلى قالوا له أنسأل أباك أن يرسلك معنا، قال يوسف: افعلوا فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا فقال يعقوب: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به من عند يعقوب جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء وألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه من قتله جعل ينادي يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاء شديدا فأخذه روبيل وجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا وقال له اتق الله فيّ وحلّ بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الإخوة ورق له فقال يهوذا يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به فقالوا وما هو قال تلقونه في هذا الجبّ إما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه في البئر فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي لأستتر به في الجب فقالوا ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال إني لم أر شيئا فألقوه فيها ثم قال لهم يا إخوتاه أتدعوني فيها فريدا وحيدا وقيل جعلوه في دلو ثم أرسلوه فيها، فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها وقيل نزل عليه ملك فحل يديه وأخرج له صخرة من البئر فأجلسه عليها، وقيل إنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا من ذلك وقيل إن يعقوب لما بعثه مع أخوته أخرج له قميص إبراهيم الذي كساه الله إياه من الجنة حين ألقي في النار فجعله يعقوب في قصبة فضة وجعلها في عنق يوسف فألبسه الملك إياه حين ألقي في الجب فأضاء له الجب. وقال الحسن: لما ألقي يوسف في الجب عذب ماؤه فكان يكفيه عن الطعام والشراب ودخل عليه جبريل فأنس به فلما أمسى نهض جبريل ليذهب فقال له إنك إذا خرجت استوحشت فقال له إذا رهبت شيئا فقل يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب، وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما ألقي يوسف في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير

[سورة يوسف (12): الآيات 16 إلى 18]

مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه فما بات فيه واختلفوا في قدر عمر يوسف يوم ألقي في الجب فقال الضحاك ست سنين وقال الحسن: اثنتا عشرة سنة، وقال ابن السائب: سبع عشرة سنة، وقيل: ثمان عشرة سنة، وقيل: مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حوله وكان يهوذا يأتيه بالطعام فذلك قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا يعني لتخبرن إخوتك قال أكثر المفسرين: إن الله أوحى إليه وحيا حقيقة فبعث إليه جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج ويخبره أنه سينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه هذا قول طائفة عظيمة من المحققين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا هل كان بالغا في ذلك الوقت أو كان صبيا صغيرا فقال بعضهم إنه كان بالغا وكان عمره خمس عشرة سن وقال آخرون بل كان صغيرا إلا أن الله عز وجل أكمل عقله ورشده وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة كما قال في حق عيسى عليه الصلاة والسلام. فإن قلت كيف جعله نبيا في ذلك الوقت ولم يكن أحد يبلغه رسالة ربه لأن فائدة النبوة والرسالة تبليغها إلى من أرسل إليه. قلت: لا يمتنع أن الله يشرفه بالوحي ويكرمه بالنبوة والرسالة في ذلك الوقت، وفائدة ذلك تطييب قلبه وإزالة الهمّ والغمّ والوحشة عنه ثم بعد ذلك يأمره بتبليغ الرسالة في وقتها وقيل إن المراد من قوله وأوحينا إليه وحي إلهام كما في قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى والقول الأول أولى وقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي أنهم إذا عرفوه فربما ازداد حسدهم له. وقيل: إن الله تعالى أوحى إلى يوسف لتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون بأنك أنت يوسف والمقصود من ذلك تقوية قلب يوسف عليه الصلاة السلام وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة ويصير مستوليا عليهم ويصيرون تحت أمره وقهره قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 16 الى 18] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قال المفسرون: لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليكونوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب فلما قربوا من منزل يعقوب جعلوا يبكون ويصرخون فسمع أصواتهم ففزع من ذلك وخرج إليهم فلما رآهم قال بالله سألتكم يا بني هل أصابكم شيء في غنمكم قالوا لا قال فما أصابكم وأين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ قال ابن عباس: يعني ننتضل، وقال الزجاج: يسابق بعضنا بعضا في الرمي الأصل في السبق الرمي بالسهم وهو التناضل أيضا وسمي المتراميان بذلك يقال تسابقا واستبقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أبعد سهما. وقال السدي: يعني نشتد ونعدو والمعنى نستبق على الأقدام ليتبين أينا أسرع عدوا وأخف حركة، وقال مقاتل: نتصيد والمعنى نستبق إلى الصيد وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا يعني عند ثيابنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ يعني في حال استباقنا وغفلتنا عنه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا يعني وما أنت بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ يعني في قولنا والمعنى إنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدق لنا قولا لشدة محبتك ليوسف فإنك تتهمنا في قولنا هذا وقيل معناه إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ يعني قميص يوسف بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه قال ابن عباس: إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف ثم جاءوا أباهم وفي القصة أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه، فقال يعقوب لهم: كيف أكله الذئب ولم يشقّ قميصه فاتهمهم بذلك، وقيل إنهم أتوه بذئب وقالوا هذا أكله فقال

[سورة يوسف (12): آية 19]

يعقوب: أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله عز وجل وقال والله ما أكلته ولا رأيت ولدك قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء، فقال يعقوب فكيف وقعت بأرض كنعان فقال جئت لصلة الرحم وهي قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب ولما ذكر إخوة يوسف ليعقوب هذا الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم، قالَ يعقوب بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً يعني بل زينت لكم أنفسكم أمرا، وأصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه، وقال صاحب الكشاف: سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء أي سهلت لكم أنفسكم أمرا عظيما ركبتموه من يوسف وهوّنتموه في أنفسكم وأعينكم فعلى هذا يكون معنى قوله بل رد لقولهم فأكله الذئب كأنه قال ليس الأمر كما تقولون أكله الذئب بل سولت لكم أنفسكم أمرا آخر غير ما تصفون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فشأني صبر جميل، وقيل: معناه فصبري صبر جميل والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع. وقيل: من الصبر أن لا تتحدث بمصيبتك ولا تزكين نفسك وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يعني: من القول الكذب، وقيل: معناه والله المستعان على حمل ما تصفون. [سورة يوسف (12): آية 19] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) قوله عز وجل: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ وهم القوم المسافرون سمّوا سيارة لمسيرهم في الأرض، وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب الذي كان فيه يوسف وكان في قفرة بعيدة من العمارة ترده الرعاة والمارة وكان ماؤه ملحا فلما ألقي يوسف فيه عذب فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء فذلك قوله عز وجل: فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قال والوارد هو الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها قال فتعلق يوسف عليه الصلاة والسلام بالحبال وكان يوسف عليه السلام أحسن ما يكون من الغلمان وذكر البغوي بسند متصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعطي يوسف شطر الحسن ويقال إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن قال محمد بن إسحاق: ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار، قال: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور من ضواحكه وإذا تكلم رأيت شعاع النور في ثناياه، ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه الصلاة والسلام يوم خلقه الله وصورته قبل أن يصيب الخطيئة. قالوا فلما خرج يوسف ورآه مالك بن ذعر كأحسن ما يكون من الغلمان قال يعني الوارد وهو مالك بن ذعر يا بُشْرى يعني يقول الوارد لأصحابه أبشروا هذا غُلامٌ وقرئ يا بشرى بغير إضافة ومعناه أن الوارد نادى رجلا من أصحابه اسمه بشرى كما تقول يا زيد ويقال ان جدران البئر بكت على يوسف حين خرج منها وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً قال مجاهد أسره: مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين كانوا معهم وقالوا إنه بضاعة استبضعناه لبعض أهل المال إلى مصر وإنما قالوا ذلك خيفة أن يطلبوا منهم الشركة فيه، وقيل: إن إخوة يوسف أسروا شأن يوسف يعني أنهم أخفوا أمر يوسف وكونه أخا لهم بل قالوا هو عبد لنا أبق وصدقهم يوسف على ذلك لأنهم توعدوه بالقتل سرا من مالك ابن ذعر وأصحابه والقول الأول أصح لأن مالك بن ذعر هو الذي أسره بضاعة وأصحابه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ يعني من إرادة إهلاك يوسف فجعل ذلك سببا لنجاته وتحقيقا لرؤياه أن يصير ملك مصر بعد أن كان عبدا قال أصحاب الأخبار: إن يهوذا كان يأتي يوسف بالطعام فأتاه فلم يجده في الجب فأخبر إخوته بذلك فطلبوه فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزولا قريبا من البئر فأتوهم فإذا يوسف عندهم فقالوا لهم هذا عبدنا أبق منا ويقال إنهم هددوا يوسف

[سورة يوسف (12): الآيات 20 إلى 21]

حتى يكتم حاله ولا يعرفها وقال لهم مثل قولهم ثم إنهم باعوه منهم فذلك قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 20 الى 21] وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَشَرَوْهُ أي باعوه وقد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال شريت الشيء بمعنى بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في وشروه وفي وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى شيء واحد وذلك أن إخوته زهدوا فيه فباعوه وقيل إن الضمير في وشروه يعود على مالك بن ذعر وأصحابه فعلى هذا القول يكون لفظ الشراء على بابه بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الحسن والضحاك ومقاتل والسدي: بخس أي حرام لأن ثمن الحر حرام ويسمى الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة يعني منقوصها وقال ابن مسعود وابن عباس: بخس أي زيوف ناقصة العيار وقال قتادة: بخس أي ظلم والظلم نقصان الحق يقال ظلمه إذا نقصه حقه وقال عكرمة والشعبي: بخس أي قليل وعلى الأقوال كلها فالبخس في اللغة هو نقص الشيء على سبيل الظلم والبخس والباخس الشيء الطفيف دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ فيه إشارة إلى قلة تلك الدراهم لأنهم في ذلك الزمان ما كانوا يزنون أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عددا فإذا بلغت أربعين درهما وهي أوقية وزنوها واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: كانت عشرين درهما فاقتسموها درهمين درهمين فعلى هذا القول لم يأخذ أخوه من أمه وأبيه شيئا منها، وقال مجاهد: كانت اثنين وعشرين درهما فعلى هذا أخذ أخوه منها درهمين لأنهم كانوا أحد عشر أخا وقال عكرمة كانت أربعين درهما وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ يعني وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين وأصل الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يكن له فيه رغبة والضمير في قوله وكانوا فيه من الزاهدين إن قلنا إنه يرجع إلى أخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه وأرادوا إبعاده عنهم ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن وإن قلنا إن قوله وشروه وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى معنى واحد وهو أن الذين شروه كانوا فيه من الزاهدين كان وجه زهدهم فيه إظهار قلة الرغبة فيه ليشتروه بثمن بخس قليل. ويحتمل أن يقال: إن إخوته لما قالوا إنه عبدنا وقد أبق أظهر المشتري قلة الرغبة فيه لهذا السبب قال أصحاب الأخبار ثم إن مالك بن ذعر وأصحابه لما اشتروا يوسف انطلقوا به إلى مصر وتبعهم إخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق منكم فذهبوا به حتى قدموا مصر فعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس، وكان قطفير صاحب أمر الملك وكان على خزائن مصر وكان يسمى العزيز وكان الملك بمصر ونواحيها اسمه الريان بن الوليد بن شروان وكان من العماليق، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف واتبعه على دينه ثم مات ويوسف عليه الصلاة والسلام حي. قال ابن عباس: لما دخلوا مصر لقي قطفير مالك بن ذعر فاشترى يوسف منه بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر ودخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره يومئذ ثلاث عشرة سنة أو سبع عشرة سنة فابتاعه قطفير بهذا الثمن فذلك قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ يعني قطفير من أهل مصر لِامْرَأَتِهِ وكان اسمها راعيل وقيل زليخا أَكْرِمِي مَثْواهُ يعني أكرمي منزله ومقامه عندك والمثوى موضع الإقامة وقيل أكرميه في المطعم والملبس والمقام عَسى أَنْ يَنْفَعَنا يعني إن أردنا بيعه بعناه بربح أو يكفينا بعض أمورنا ومصالحنا إذا قوي وبلغ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يعني نتبناه وكان حصورا ليس له ولد، قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث

[سورة يوسف (12): الآيات 22 إلى 23]

قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب في موسى حيث قالت لأبيها استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر في عمر استخلفه بعده وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يعني كما مننا على يوسف بأن أنقذناه من القتل وأخرجناه من الجب كذلك مكناه في الأرض يعني أرض مصر فجعلناه على خزائنها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي مكنا له في الأرض لكي نعلمه من تأويل الأحاديث يعني عبارة الرؤيا وتفسيرها وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ قيل الكناية في أمره راجعة إلى الله تعالى ومعناه والله غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا دافع لأمره ولا راد لقضائه ولا يغلبه شيء وقيل هي راجعة إلى يوسف ومعناه أن الله مستول على أمر يوسف بالتدبير والإحاطة لا يكله إلى أحد سواه حتى يبلغ منتهى ما علمه فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني ما هو صانع بيوسف وما يريد منه. [سورة يوسف (12): الآيات 22 الى 23] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ يعني منتهى شبابه وشدته وقوته، وقال مجاهد: ثلاثة وثلاثون سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال الكلبي: الأشد ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين سنة وسئل مالك عن الأشد فقال: هو الحلم آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً يعني آتينا يوسف بعد بلوغ الأشد نبوة وفقها في الدين وقيل حكما يعني إصابة في القول وعلما بتأويل الرؤيا وقيل الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم هو الذي يعلم الأشياء بحقائقها والحكيم هو الذي يعمل بما يوجبه العلم وقيل الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي والعلم هو العلم النظري وَكَذلِكَ يعني وكما أنعمنا على يوسف بهذه النعم كلها كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: يعني المؤمنين وعنه أيضا المهتدين، وقال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ يعني أن امرأة العزيز طلبت من يوسف الفعل القبيح ودعته إلى نفسها ليواقعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أطبقتها وكانت سبعة لأن مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية أو أنها أغلقتها لشدة خوفها وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي هلم وأقبل، قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران رفعت إلى الحجاز معناها تعال، وقال عكرمة أيضا بالحورانية: هلم، وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشيء وقيل هي بالعربانية وأصلها هيتالج أي تعال فعربت فقيل هيت لك فمن قال إنها بغير لغة العرب يقول إن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وقرئ هئت لك بكسر الهاء مع الهمزة ومعناها تهيأت لك قالَ يعني يوسف مَعاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه فيما دعوتني إليه إِنَّهُ رَبِّي يعني أن العزيز قطفير سيدي أَحْسَنَ مَثْوايَ أي أكرم منزلتي فلا أخونه وقيل إن الهاء في إنه ربي راجعة إلى الله تعالى والمعنى يقول إن الله ربي أحسن مثواي يعني أنه آواني ومن بلاء الجب نجاني إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني إن فعلت هذا الفعل فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون، وقيل: معناه أنه لا يسعد الزناة. [سورة يوسف (12): آية 24] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) قوله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ الآية، هذه الآية الكريمة مما يجب

الاعتناء بها والبحث عنها والكلام عليها في مقامين الأول في ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية قال المفسرون: الهمّ هم المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، وقيل: الهم مصدر هممت بالشيء إذا أردته وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه فمعنى قوله ولقد همّت به أي أرادته وقصدته فكان همها به عزمها على المعصية والزنا، وقال الزمخشري: همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله وقوله: ولقد همّت به: معناه ولقد همت بمخالطته وهم بها أي وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها قال البغوي وأما همه بها فروي عن ابن عباس أنه قال حلّ الهميان وجلس منها مجلس الخائن، وقال مجاهد: حل سراويله وجعل يعالج ثيابه، وهذا قول أكثر المفسرين منهم سعيد بن جبير والحسن وقال الضحاك: جرى الشيطان بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف وبيده الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما، قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: وقد أنكر قوم هذا القول قال البغوي: والقول ما قاله قدماء هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم، قال السدي وابن إسحاق: لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت: يا يوسف ما أحسن شعرك، قال: هو أول ما ينتثر عن جسدي، قالت: ما أحسن عينيك، قال: هي أول ما يسيل على خدي في قبري، قالت: ما أحسن وجهك، قال: هو للتراب يأكله. وقيل: إنها قالت له إن فراش الحرير مبسوط قم فاقض حاجتي قال: إذن يذهب نصيبي من الجنة. فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل وهي امرأة حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به فهم بها ثم إن الله تدارك عبده يوسف بالبرهان الذي ذكره وسيأتي الكلام على تفسير البرهان الذي رآه يوسف عليه الصلاة والسلام فهذا ما قاله المفسرون في هذه الآية أما المقام الثاني في تنزيه يوسف عليه الصلاة والسلام عن هذه الرذيلة وبيان عصمته من هذه الخطيئة التي ينسب إليها. قال بعض المحققين: الهم همان فهم ثابت وهو ما كان معه عزم وقصد وعقيدة رضا مثل هم امرأة العزيز فالعبد مأخوذ به وهم عارض وهو الخطرة في القلب وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل به ويدل على صحة هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة واحدة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشرة لفظ مسلم وللبخاري بمعناه (ق). عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن همّ بسيئة ولم يعملها كتبها الله له عنده حسنة وإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عليه سيئة واحدة» زاد في رواية أو محاها «ولن يهلك على الله إلا هالك» قال القاضي عياض في كتابه الشفاء فعلى مذهب كثير من الفقهاء المحدثين إن هم النفس لا يؤاخذ به وليس سيئة وذكر الحديث المتقدم فلا معصية في هم يوسف إذن وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس كان سيئة وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه هذا هو الحق فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ويكون قوله وما أبرئ نفسي الآية أي ما أبرئها من هذا الهم أو يكون ذلك على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل وبرئ فكيف وحكى أبو حاتم عن عبيدة أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن أري برهان ربه لهمّ بها وقال

تعالى حاكيا عن المرأة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وقال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، وقال تعالى: وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله الآية وقيل في قوله وهم بها أي بزجرها ووعظها وقيل هم بها أي همه امتناعه وقيل هم بها أي نظر إليها وقيل هم بضربها ودفعها وقيل هذا كله كان قبل نبوته وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة زليخا حتى نبأه الله فألقى عله هيبة النبوة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسه هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله، وأما الإمام فخر الدين فذكر في هذا المقام كلاما طويلا مبسوطا وأنا أذكر بعضه ملخصا، فأقول قال الإمام فخر الدين الرازي: إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان بريئا من العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب فإن الدلائل قد دلت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا يلتفت إلى ما نقله بعض المفسرين عن الأئمة المتقدمين فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموها وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والاستغفار كما ذكر عن آدم عليه السلام في قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقال في حق داود عليه الصلاة والسلام فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فلم يحك عنه شيئا من ذلك في هذه الواقعة لأنه لو صدر منه شيء لأتبعه بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله ذلك عنه في كتابه كما ذكر عن غيره من الأنبياء وحيث لم يحك عنه شيئا علمنا براءته مما قيل فيه ولم يصدر عنه شيء كما نقله أصحاب الأخبار ويدل على ذلك أيضا أن كل من كان له تعلق بهذه الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام عما نسب إليه واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف والمرأة وزوجها والنسوة واللاتي قطعن أيديهن والمولود الذي شهد على القميص شهدوا ببراءته والله تعالى شهد ببراءته من الذنب أيضا. أما بيان أن يوسف ادعى براءته مما نسب إليه فقوله هي راودتني عن نفسي، وقوله: رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه. وأما بيان أن المرأة اعترفت ببراءة يوسف ونزاهته فقولها: أنا راودته عن نفسه فاستعصم، وقولها: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. وأما بيان أن زوج المرأة اعترف أيضا ببراءة يوسف فقوله: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. وأما شهادة المولود ببراءته فقوله: وشهد شاهد من أهلها الآية وأما شهادة الله له بذلك فقوله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ومن كان كذلك فليس للشيطان عليه سلطان بدليل قوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وبطل بهذا قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيد المرأة حتى جمع بينهما فإنه قول منكر لا يجوز لأحد أن يقول ذلك. وأما ما روي عن ابن عباس: إنه جلس منها مجلس الخائن فحاش ابن عباس أن يقول مثل هذا عن يوسف عليه الصلاة والسلام ولعل بعض أصحاب القصص وأصحاب الأخبار وضعوه عن ابن عباس، وكذلك ما روي عن مجاهد وغيره أيضا فإنه لا يكاد يصح بسند صحيح وبطل ذلك كله وثبت ما بيناه من براءة يوسف عليه الصلاة والسلام من هذه الرذيلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وما صدر من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. فإن قلت: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله عز وجل لولا أن رأى برهان ربه فائدة. قلت: فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين أحدهما: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همّ بدفعها لقتلته فأعلمه بالبرهان أن الامتناع من ضربتها أولى صونا للنفس عن الهلاك الوجه، الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه لتعلقت به فكان في ذلك أن يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله أن الشاهد يشهد بأنه ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن وإذا تمزق من خلف كانت هي الخائنة فأعلمه الله بالبرهان هذا المعنى فلم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا فأثبت بذلك الشاهد حجة له لا عليه وأما تفسير البرهان على ما ذكره المفسرون في قوله تعالى لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فقال قتادة وأكثر المفسرين: إن يوسف رأى صورة يعقوب عليه السلام وهو يقول له يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء. وقال الحسن وسعيد بن جبير

[سورة يوسف (12): الآيات 25 إلى 26]

ومجاهد وعكرمة والضحاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على إصبعه، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال السدي نودي يا يوسف أتواقعها إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق عليه وإن مثلك إن واقعتها كمثله إذا وقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئا ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ومثلك إن واقعتها كمثله إذا مات ودخل النمل في قرنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه وقيل إنه رأى معصما بلا عضد عليه مكتوب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ فولى هاربا ثم رجع فعاد المعصم وعليه مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فولى هاربا ثم عاد فرأى ذلك الكف وعليه مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية ثم عاد فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام أدرك عبدي يوسف قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عاضا على إصبعه يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله من الأنبياء وقيل إنه مسه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله قال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت فرأى كتابا في حائط فيه وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وفي رواية عن ابن عباس أنه رأى مثال ذلك الملك، وعن علي بن الحسين قال: كان في البيت صنم فقامت المرأة إليه وسترته بثوب فقال لها يوسف عليه السلام لم فعلت هذا قالت استحييت منه أن يراني على معصية فقال لها يوسف أتستحيين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئا فأنا أحق أن أستحيي من ربي فهرب فذلك قوله لولا أن رأى برهان ربه أما المحققون فقد فسروا البرهان بوجوه الأول، قال جعفر بن محمد الصادق: البرهان هو النبوة التي جعلها الله تعالى في قلبه حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل الثاني البرهان حجة الله عز وجل على العبد في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب الثالث أن الله عز وجل طهر نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأخلاق الذميمة والأفعال الرذيلة وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة تحجزهم عن فعل ما لا يليق فعله كَذلِكَ يعني كما رأيناه البرهان كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ يعني الإثم وَالْفَحْشاءَ يعني الزنا، وقيل: السوء مقدمات الفحشاء وقيل السوء الثناء القبيح فصرف الله عنه ذلك كله وجعله من عباده المخلصين وهو قوله إِنَّهُ يعني يوسف مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرئ بفتح اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين اصطفيناهم بالنبوة واخترناهم على غيرهم وقرئ بكسر اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل. [سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 26] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) قوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى البرهان قام هاربا مبادرا إلى الباب وتبعته المرأة لتمسك عليه الباب حتى لا يخرج والمسابقة طلب السبق فسبق يوسف وأدركته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه وجذبته إليها حتى لا يخرج فذلك قوله عز وجل: وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ يعني شقته من خلف فغلبها يوسف فخرج وخرجت معه وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ يعني فلما خرجا وجدا زوج المرأة قطفير وهو العزيز عند الباب جالسا مع ابن عم المرأة فلما رأته المرأة هابته وخافت التهمة فسبقت يوسف بالقول قالَتْ يعني لزوجها ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً يعني الفاحشة ثم خافت عليه أن يقتله وذلك لشدة حبها له فقالت إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي يحبس في السجن ويمنع التصرف أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط وإنما بدأت بذكر السجن دون العذاب لأن الحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن عندها يوما أو يومين

[سورة يوسف (12): الآيات 27 إلى 30]

ولم ترد السجن الطويل وهذه لطيفة فافهمها فلما سمع يوسف مقالتها أراد أن يبرهن عن نفسه قالَ يعني يوسف هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ما كان يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال هي راودتني عن نفسي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها يعني وحكم حاكم من أهل المرأة واختلفوا في ذلك الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبيا في المهد فأنطقه الله عز وجل وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة وابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم» ذكره البغوي بغير سند والذي جاء في الصحيحين «ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وابن المرأة» وقصتهم مخرجة في الصحيح قيل كان هذا الصبي شاهد يوسف ابن خال المرأة. وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: لم يكن صبيا ولكنه كان رجلا حكيما ذا رأي، وقال السدي: هو ابن عم المرأة فحكم فقال إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي من قدام فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. [سورة يوسف (12): الآيات 27 الى 30] وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ وإنما كان هذا الشاهد من أهل المرأة ليكون أقوى من نفي التهمة عن يوسف عليه الصلاة والسلام ونفي التهمة عنه من وجوه منها أنه كان في الظاهر مملوك هذه المرأة والمملوك لا يبسط يديه إلى سيدته ومنها أنهم شاهدوا يوسف يعدو هاربا منها والطالب لا يهرب ومنها أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الوجوه فكان إلحاق التهمة بها أولى ومنها أنهم عرفوا يوسف في المدة الطويلة فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة فكان مجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع شهادة الشاهد له بصدقه أيضا فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ يعني فلما رأى قطفير زوج المرأة قميص يوسف عليه الصلاة والسلام قد من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام قالَ يعني قال لها زوجها قطفير إِنَّهُ يعني هذا الصنيع مِنْ كَيْدِكُنَّ يعني من حيلكن ومكرهن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فإن قلت كيف وصف كيد النساء بالعظيم مع قوله تعالى وخلق الإنسان ضعيفا وهلا كان مكر الرجال أعظم من مكر النساء. قلت أما كون الإنسان خلق ضعيفا فهو بالنسبة إلى خلق ما هو أعظم منه كخلق الملائكة والسموات والأرض والجبال ونحو ذلك وأما عظم كيد النساء ومكرهن في هذا الباب فهو أعظم من كيد جميع البشر لأن لهن من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب، وقيل: إن قوله إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم من قول الشاهد وذلك أنه لما ثبت عنده خيانة المرأة وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام قال هذه المقالة يُوسُفُ يعني يا يوسف أَعْرِضْ عَنْ هذا يعني اترك هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يفشو ويشيع وينتشر بين الناس وقيل معناه يا يوسف لا تكترث بهذا الأمر ولا تهتم به فقد بان عذرك وبراءتك ثم التفت إلى المرأة فقال لها وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يعني توبي إلى الله مما رميت يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها وقيل إن هذا من قول الشاهد يقول للمرأة سلي زوجك أن يصفح عنك ولا يعاقبك بسبب ذنبك إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ يعني من المذنبين حين خنت زوجك ورميت يوسف بالتهمة وهو بريء وإنما قال من الخاطئين ولم

[سورة يوسف (12): آية 31]

يقل من الخاطئات تغليبا لجنس الرجال على النساء وقيل إنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد الخبر عن كل ما يفعل هذا الفعل تقديره إنك كنت من القوم الخاطئين فهو كقوله وكانت من القانتين. قوله عز وجل: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ يعني وقال جماعة من النساء وكنّ خمسا وقيل كن أربعا وذلك لما شاع خبر يوسف والمرأة في مدينة مصر وقيل هي مدينة عين الشمس وتحدثت النساء فيما بينهن بذلك وهن امرأة حاجب الملك وامرأة صاحب دوابه وامرأة خبازه وامرأة ساقيه وامرأة صاحب سجنه وقيل نسوة من أشراف مصر امرأة العزيز يعني زليخا تراود فتاها عن نفسه يعني تراود عبدها الكنعاني عن نفسه لأنها تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها والفتى الشاب الحديث السن قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعني قد علقها حبا والشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب والمعنى أن حبه دخل الجلدة حتى أصاب القلب وقيل إن حبه قد أحاط بقلبها كإحاطة الشغاف بالقلب قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل شيئا سواه إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني في خطأ بيّن ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر وأحبت فتاها. [سورة يوسف (12): آية 31] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ يعني فلما سمعت زليخا بقولهن وما تحدثن به إنما سمى قولهن ذلك مكرا لأنهن طلبن بذلك رؤية يوسف وكان وصف لهن حسنه وجماله فقصدن أن يرينه وقيل إن امرأة العزيز أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك عليها فلذلك سماه مكرا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ يعني أنها لما سمعت بأنهن يلمنها على محبتها ليوسف أرادت أن تقيم عذرها عندهن قال وهب اتخذت مائدة يعني صنعت لهن وليمة وضيافة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن هؤلاء اللاتي عيرنها وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً يعني ووضعت لهن نمارق ومساند يتكئن عليها، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد: متكئا يعني طعاما وإنما سمي الطعام متكئا لأن كل من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسائد يجلس ويتكئ عليها فسمي الطعام متكأ على الاستعارة ويقال: اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده المتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم «لا آكل متكئا» وقيل المتكأ الأترج وقيل هو كل شيء يقطع بالسكين أو يحز بها ويقال إن المرأة زينت البيت بألوان الفاكهة والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً يعني وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لتأكل بها وكان من عادتهم أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ يعني وقالت زليخا ليوسف اخرج على النسوة وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهن يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان آخر فَلَمَّا رَأَيْنَهُ يعني النسوة أَكْبَرْنَهُ يعني أعظمنه ودهشن عند رؤيته وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر» ذكره البغوي بغير سند، وقال إسحاق بن أبي فروة: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران ويقال إنه ورث حسن آدم يوم خلقه الله عز وجل قبل أن يخرج من الجنة وقال أبو العالية هالهن أمره وبهتن إليه وفي رواية عن ابن عباس قال أكبرنه أي حضن ونحوه، عن مجاهد والضحاك قال: حضن من الفرج وأنكر أكثر أهل اللغة هذا القول. قال الزجاج: هذه اللفظة ليست معروفة في اللغة والهاء في أكبرنه تمنع من هذا لأنه لا يجوز أن يقال النساء قد حضنه لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول قال الأزهري إن صحت هذه اللفظة فلها مخرج وذلك أن المرأة إذا حاضت أول

[سورة يوسف (12): الآيات 32 إلى 35]

ما تحيض فقد خرجت من حد الصغار إلى حد الكبار فيقال لها أكبرت أي حاضت على هذا المعنى فإن صحت الرواية عن ابن عباس، سلمنا له وجعلنا الهاء في قوله أكبرنه هاء الوقف لا هاء الكناية، وقيل: إن المرأة إذا خافت أو فزعت فربما أسقطت ولدها وتحيض فإن كان ثم حيض فربما كان من فزعهن وما هالهن من أمر يوسف حين رأينه قال الإمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجها آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة آثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه مهابة وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان ذلك الجمال العظيم مقرونا بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وأعظمنه ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن قال وحمل الآية على هذا الوجه أولى وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ يعني: وجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن الألم لدهشتهن وشغل قلوبهن بيوسف قال مجاهد فما أحسسن إلا بالدم، وقال قتادة: أين أيديهن حتى ألقينها والأصح أنه كان قطعا من غير إبانة، قال وهب: مات جماعة منهن وَقُلْنَ يعني النسوة حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً أي معاذ الله أن يكون هذا بشرا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ يعني على الله والمقصود من هذا إثبات الحسن العظيم المفرط ليوسف لأنه قد ركز في النفوس أن لا شيء أحسن من الملك فلذلك وصفته بكونه ملكا وقيل لما كان الملك مطهرا من بواعث الشهوة وجميع الآفات والحوادث التي تحصل للبشر وصفن يوسف بذلك. [سورة يوسف (12): الآيات 32 الى 35] قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) قوله تعالى: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ يعني قالت امرأة العزيز للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته فذلكن الذي لمتنني في محبته وإنما قالت ذلك لإقامة عذرها عندهن حين قلن إن امرأة العزيز قد شغفها فتاها الكنعاني حبا وإنما قالت فذلكن الذي إلخ بعد ما قام من المجلس وذهب وقال صاحب الكشاف قالت فذلكن ولم تقل فهذا وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتن به ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن عشقت عبدها الكنعاني تقول هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ثم إن امرأة العزيز صرحت بما فعلت فقالت وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ يعني فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبته منه وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته ثم إن امرأة العزيز قالت وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ يعني وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه لَيُسْجَنَنَّ أي ليعاقبن بالسجن والحبس وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: من الأذلاء المهانين فقال النسوة ليوسف أطع مولاتك فيما دعتك إليه فاختار يوسف السجن على المعصية حين توعدته المرأة بذلك قالَ رَبِّ أي يا رب السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ قيل: إن الدعاء كان منها خاصة وإنما أضافه إليهن جميعا خروجا من التصريح إلى التعريض، وقيل: إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن، وقيل: إنهن لما قلن له أطع مولاتك صحت إضافة الدعاء إليهن جميعا أو لأنه كان بحضرتهن قال بعضهم أو لم يقل السجن أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله العافية وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ يعني ما أردن مني أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل إليهن يقال صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني من المذنبين وقيل معناه أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، وفيه دليل على أن من ارتكب ذنبا إنما يرتكبه عن جهالة فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ يعني فأجاب الله تعالى

[سورة يوسف (12): آية 36]

دعاء يوسف فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لدعاء يوسف وغيره الْعَلِيمُ يعني بحاله وفي الآية دليل على أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بما لا يليق بحاله لجأ إلى الله وفزع إلى الدعاء رغبة إلى الله ليكشف عنه ما نزل به من ذلك الأمر مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها فدل ذلك على أنه لا يقدر أحد عن الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به. قوله عز وجل: ثُمَّ بَدا لَهُمْ يعني للعزيز وأصحابه في الرأي وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الإعراض وكتم الحال وذلك أن المرأة قالت لزوجها إن ذلك العبد العبراني قد فضحني عند الناس يخبرهم بأني قد راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إلى الناس وإما أن تحبسه فرأى حبسه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ يعني الدالة على صدق يوسف وبراءته من قد القميص وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن عند رؤيته لَيَسْجُنُنَّهُ أي ليحبسن يوسف في السجن حَتَّى حِينٍ يعني إلى مدة يرون رأيهم فيها، وقال عطاء: إلى أن تنقطع مقالة الناس، وقال عكرمة: إلى سبع سنين، وقال الكلبي: خمس سنين فحبسه، قال السدي: جعل الله ذلك الحبس تطهيرا ليوسف من همه بالمرأة. [سورة يوسف (12): آية 36] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ وهما غلامان كانا للوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما، وكان السبب في ذلك أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المرك بالملك واغتياله وقتله فضمنوا لهذين الغلامين مالا على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي اشرب فشربه فلم يضره وقال للخباز كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فحبسا مع يوسف وكان يوسف لما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الغلامين لصاحبه هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني فتراءيا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئا قال ابن مسعود ما رأيا شيئا إنما تحالما ليجربا يوسف وقال بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه ما رأياه فذلك قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب شراب الملك إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يعني عنبا سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجرا، وقيل: الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد عنب فجنيتها وكان كأس الملك في يدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه وَقالَ الْآخَرُ وهو صاحب طعام الملك إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعني من العالمين بعبارة الرؤيا والإحسان هنا بمعنى العلم، وسئل الضحاك ما كان إحسانه فقال: كان إذا مرض إنسان في الحبس عاده وقام عليه وإذا ضاق على أحد وسع عليه وإذا احتاج أحد جمع له شيئا وكان مع هذا يجتهد في العبادة يصوم النهار ويقوم الليل كله للصلاة. وقيل: إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم ويقول اصبروا وأبشروا فقالوا بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أين

[سورة يوسف (12): الآيات 37 إلى 38]

أنت قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم فقال له صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت وقيل إن الفتيين لما رأيا يوسف قالا إنا قد أحببناك منذ رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما بالله أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من ذلك بلاء وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما وأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد وقيل إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدا فيه وذلك أنهما طلبا منه علم التعبير ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن المغيبات على سبيل القطع واليقين وذلك مما يعجز الخلق عنه وإذا قدر على الإخبار عن الغيوب كان أقدر على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة لأنه علم أن أحدهما سيصلب فأراد أن يدخله في الإسلام ويخلصه من الكفر ودخول النار فأظهر له المعجزة لهذا السبب. [سورة يوسف (12): الآيات 37 الى 38] قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قيل: أراد به في النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة، وقيل: أراد به اليقظة يقول لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه يعني تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله يعني أخبرتكما بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما فيه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما يعني قبل أن يصل إليكما وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم وهذا مثل معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام حيث قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقالا ليوسف عليه الصلاة والسلام هذا من علم العرافين والكهنة فمن أين لك هذا العلم؟ فقال ما أنا بكاهن ولا عراف وإنما ذلك إشارة إلى المعجزة والعلم الذي أخبرهما به ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي يعني أن هذا الذي أخبرتكما به وحي من الله أوحاه إليّ وعلم علمنيه إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فإن قلت ظاهر قوله اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله أنه عليه الصلاة والسلام كان داخلا في هذه الملة ثم تركها وليس الأمر كذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد فما معنى هذا الترك في قوله تركت. قلت الجواب من وجهين: الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء والالتفات إليه بالمرة وليس من شرطه أن يكون قد كان داخلا فيه ثم تركه ورجع عنه. والوجه الثاني: وهو الأقرب أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما كان عند العزيز وهو كافر وجميع من عنده كذلك وقد كان بينهم وكان يوسف على التوحيد والإيمان الصحيح صح قوله إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فترك ملتهم وأعرض عنهم ولم يوافقهم على ما كانوا عليه وتكرير لفظة هم في قوله وهم بالآخرة هم كافرون للتوكيد لشدة إنكارهم للمعاد وقوله وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ لما ادعى يوسف عليه السلام النبوة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوة وأن آباءه كلهم كانوا أنبياء وقيل لما كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب مشهورين بالنبوة والرسالة ولهم الدرجة العليا في الدنيا عند الخلق والمنزلة الرفيعة في الآخرة أظهر يوسف عليه الصلاة والسلام أنه من أولادهم وأنه من أهل بيت النبوة ليسمعوا قوله

[سورة يوسف (12): الآيات 39 إلى 42]

ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ معناه أن الله سبحانه وتعالى لما اختارنا لنبوته واصطفانا لرسالته وعصمنا من الشرك فما كان ينبغي لنا أن نشرك به مع جميع هذه الاختصاصات التي اختصّنا بها. قال الواحدي: لفظة من في قوله من شيء زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد، وقال صاحب الكشاف: ما كان لنا ما صح لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء أي شيء كان من ملك أو جني أو أنسي فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني ذلك التوحيد وعدم الإشراك والعلم الذي رزقنا من فضل الله عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ يعني بما نصب لهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وبين لهم طريق الهداية إليه فكل ذلك من فضل الله على عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يعني أن أكثرهم لا يشكرون الله على هذه النعم التي أنعم بها عليهم لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: [سورة يوسف (12): الآيات 39 الى 42] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ يريد يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول يا سارق الليلة لأن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ويجوز أن يريد يا ساكني السجن كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يعني أآلهة شتى من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وغير ذلك وصغير وكبير ومتوسط متباينون في الصفة وهي مع ذلك لا تضر ولا تنفع خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني أن هذه الأصنام أعظم صفة في المدح واستحقاق اسم الإلهية والعبادة أم الله الواحد القهار، قال الخطابي: الواحد هو الفرد الذي لم يزل وحده وقيل هو المنقطع عن القرين والمعدوم الشريك والنظير وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة لأن ذلك قد يكثر بانضمام بعضها إلى بعض والواحد ليس كذلك فهو الله الواحد الذي لا مثل له ولا يشبهه شيء من خلقه القهار، قال الخطابي: القهار هو الذي قهر الجبابرة من خلقه بالعقوبة وقهر الخلق كلهم بالموت، وقال غيره: القهار هو الذي قهر كل شيء وذلله فاستسلم وانقاد وذل له، والمعنى أن هذه الأصنام التي تعبدونها ذليلة مقهورة إذ أراد الإنسان كسرها وإهانتها قدر عليه والله هو الواحد في ملكه القهار لعباده الذي لا يغلبه شيء وهو الغالب لكل شيء سبحانه وتعالى ثم بين عجز الأصنام وأنها لا شيء البتة فقال ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ يعني من دون الله وإنما قال تعبدون بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها يعني سميتموها آلهة وأربابا وهي حجارة جمادات خالية عن المعنى لا حقيقة لها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ يعني من قبلكم سموها آلة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يعني أن تسمية الأصنام آلهة لا حجة لكم بها ولا برهان ولا أمر الله بها وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله أمرنا بهذه التسمية فرد الله عليهم بقوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني أن الحكم والقضاء والأمر والنهي لله تعالى لا شريك له في ذلك أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي سميتموها آلهة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني عبادة الله هي الدين المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. ولما فرغ يوسف عليه الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله وعبادته رجع إلى تعبير رؤياهما فقال يا صاحِبَيِ

السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً يعني أن صاحب شراب الملك يرجع إلى منزلته ويسقي الملك خمرا كما كان يسقيه أولا والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقي في السجن ثم يدعو به الملك ويرده إلى منزلته التي كان عليها وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ يعني صاحب طعام الملك والسلال الثلاث ثلاثة أيام ثم يعدو به الملك فيصلبه فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قال ابن مسعود رضي الله عنه فلما سمعا قول يوسف عليه الصلاة والسلام قالا ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب قال يوسف قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يعني فرغ من الأمر الذي سألتما عنه ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به رأيتما شيئا أم لم تريا وَقالَ يعني يوسف لِلَّذِي ظَنَّ يعني علم وتحقق فالظن بمعنى العلم أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يعني ساقي الملك اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني سيدك وهو الملك الأكبر فقل له إن في السجن غلاما محبوسا مظلوما طال حبسه فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ في هاء الكناية في فأنساه إلى من تعود قولان: أحدهما: إنها ترجع إلى الساقي وهو قول عامة المفسرين والمعنى فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف. والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين أن هاء الكناية ترجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه عز وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق مثله في دفع الضرر وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف أعلى المقامات ورتبته أشرف المراتب وهي منصب النبوة والرسالة لا جرم صار يوسف مؤاخذا بهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن قلت كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه. قلت بشغل الخاطر وإلقاء الوسوسة فإن قد صح في الحديث «إن الشيطان يجري ن ابن آدم مجرى الدم» فأما النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه. وقوله سبحانه وتعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. اختلفوا في قدر البضع فقال مجاهد هو ما بين الثلاث إلى السبع وقال قتادة: هو ما بين الثلاث إلى التسع، وقال ابن عباس هو ما دون العشرة وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين وكان يوسف قد لبث قبلها في السجن خمس سنين فجملة ذلك اثنتا عشرة سنة وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قال له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال يا رب أنسى قلبي ذكرك كثرة البلوى فقلت كلمة قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث» يعني قوله اذكرني عند ربك ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس ذكره الثعلبي مرسلا وبغير سند وقيل إن جبريل دخل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه فقال له يوسف يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل يا طاهر بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك ما استحييت مني أن استغثت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين قال يوسف وهو في ذلك عني راض قال نعم قال إذن لا أبالي وقال كعب قال جبريل ليوسف يقول الله عز وجل لك من خلقك قال الله قال فمن رزقك قال الله قال فمن حببك إلى أبيك قال الله

[سورة يوسف (12): آية 43]

قال فمن نجاك من كرب البئر قال الله قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال الله قال فمن صرفك عنك السوء والفحشاء قال الله قال فكيف استغثت بآدمي مثلك قالوا فلما انقضت سبع سنين. قال الكلبي: وهذه السبع سوى الخمس سنين التي كانت قبل ذلك ودنا فرج يوسف وأراد الله عز وجل إخراجه من السجن رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته وذلك أن رأى في منامه سبع بقرات سمان قد خرجن من البحر ثم خرج عقيبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلع العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم ير منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبع سنبلات أخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتها شيء فجمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه التي رآها فذلك قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 43] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ يعني يا أيها الأشراف أخبروني بتأويل رؤياي إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ يعني: إن كنتم تحسنون علم العبارة وتفسيرها وعلم التعبير مختص بتفسير الرؤيا وسمي هذا العلم تعبيرا لأن المفسر للرؤيا عابر من ظاهرها إلى باطنها ليستخرج معناها وهذا أخص من التأويل لأن التأويل يقال فيه وفي غيره. [سورة يوسف (12): الآيات 44 الى 48] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) قالُوا يعني قال جماعة الملأ وهم السحرة والكهنة والمعبرون مجيبين للملك أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أخلاط مشتبهة واحدها ضغث وأصله الحزمة المختلطة من أنواع الحشيش والأحلام جمع حلم وهو الرؤيا التي يراها الإنسان في منامه وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ لما جعل الله هذه الرؤيا سببا لخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من السجن وذلك أن الملك لما رآها قلق واضطرب وذلك لأنه قد شاهد الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى قهره وغلبه فأراد أن يعرف تأويل ذلك فجمع سحرته وكهنته ومعبريه وأخبرهم بما رأى في منامه وسألهم عن تأويلها فأعجز الله بقدرته جماعة الكهنة والمعبرين عن تأويل هذه الرؤيا ومنعهم عن الجواب ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من السجن فذلك قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما يعني وقال الساقي الذي نجا من السجن والقتل بعد هلاك صاحبه الخباز وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يعني أنه تذكر قول يوسف اذكرني عند ربك بعد أمة يعني بعد حين وهو سبع سنين وسمي الحين من الزمان أمة لأنه جماعة الأيام والأمة الجماعة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ يعني أخبركم بِتَأْوِيلِهِ وقوله أنا أنبئكم بلفظ الجمع إما أنه أراد به الملك مع جماعة السحرة والكهنة والمعبرين أو أراد به الملك وحده وخاطبه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم وذلك أن الفتى الساقي جثا بين يدي الملك وقال إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فَأَرْسِلُونِ فيه اختصار

[سورة يوسف (12): الآيات 49 إلى 52]

تقديره فأرسلني أيها الملك فأرسله فأتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن في المدينة يُوسُفُ أي يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ إنما سماه صديقا لأنه لم يجرب عليه كذبا قط والصديق الكثير الصدق والذي ل يكذب قط وقيل سماه صديقا لأنه صدق في تعبيره رؤياه التي رآها في السجن أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ فإن الملك رأى هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يعني أرجع بتأويل هذه الرؤيا إلى الملك وجماعته لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ يعني بتأويل هذه الرؤيا وقيل لعلهم يعلمون منزلتك في العلم قالَ يعني يوسف معبرا لتلك الرؤيا أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبة وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله تعالى: تَزْرَعُونَ وهذا خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً يعني عادتكم في الزراعة والدأب العادة وقيل ازرعوا بجد واجتهاد فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إنما أمرهم بترك ما حصدوه من الحنطة في سنبله لئلا يفسد ويقع في السوس وذلك أبقى له على طول الزمان إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ يعني ادرسوا قليلا من الحنطة للأكل بقدر الحاجة وأمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضا وهو وقت السنين المجدبة وهو قوله ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد السنين المخصبة سَبْعٌ شِدادٌ يعني سبع سنين مجدبة ممحلة شديدة على الناس يَأْكُلْنَ يعني يفنين ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ يعني يؤكل فيهن كل ما أعددتم وادخرتم لهن من الطعام وإنما أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع في الكلام إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ يعني تحرزون وتدخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع. [سورة يوسف (12): الآيات 49 الى 52] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد هذه السنين المجدبة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يمطرون من الغيث الذي هو المطر، وقيل: هو من قولهم استغثت بفلان فأغاثني من الغوث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يعني يعصرون العنب خمرا والزيتون زيتا والسمسم دهنا أراد به كثرة الخير والنعم على الناس وكثرة الخصب في الزرع والثمار، وقيل يعصرون معناه ينجون من الكرب والشدة والجدب. قوله عز وجل: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بفتيا يوسف وما عبر برؤياه استحسنه الملك وعرف أن الذي قاله كائن لا محالة فقال ائتوني به حتى أبصر هذا الرجل الذي قد عبر رؤياي بهذه العبارة فرجع الساقي إلى يوسف وقال له أجب الملك فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ فأبى أن يخرج معه حتى تظهر براءته للملك ولا يراه بعين النقص قالَ يعني قال يوسف للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعني إلى سيدك وهو الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما لها (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» أخرجه الترمذي، وزاد فيه «ثم قرأ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» هذا الحديث فيه بيان فضل يوسف عليه الصلاة والسلام وبيان قوة صبره وثباته والمراد بالداعي رسول الملك الذي جاءه من عنده فلم يخرج معه مبادرا إلى الراحة ومفارقة ما هو فيه من الضيق والسجن الطويل فلبث في السجن وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه لتظهر براءته عند الملك وغيره

فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على يوسف عليه الصلاة والسلام وبين فضيلته وحسن صبره على المحنة والبلاء وقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى عالم بصنيعهن وما احتلن في هذه الواقعة من الحيل العظيمة فرجع الرسول من عند يوسف إلى الملك بهذه الرسالة فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن وقالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ أي شأنكن وأمركن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ إنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها وقيل إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وحدها وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب قُلْنَ يعني النسوة جميعا مجيبات للملك حاشَ لِلَّهِ يعني معاذ الله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ يعني من خيانة في شيء من الأشياء قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ يعني ظهر وتبين وقيل إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فعزرنها وقيل خافت أن يشهد عليها فأقرت فقالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قوله هي راودتني عن نفسي. واختلفوا في قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ على قولين: أحدهما: أنه من قول المرأة ووجه هذا القول أن هذا كلام متصل بما قبله وهو قول المرأة الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ثم قالت: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب والمعنى ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه في حال غيبته وهو في السجن ولم أكذب عليه بل قلت أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وإن كنت قد قلت فيه ما قلت في حضرته، ثم بالغت في تأكيد هذا القول فقالت وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يعني أني لما أقدمت على هذا الكيد والمكر لا جرم أني افتضحت لأن الله لا يرشد ولا يوفق كيد الخائنين. والقول الثاني: أنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام وهذا قول الأكثرين من المفسرين والعلماء ووجه هذا القول أنه لا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه فعلى هذا يكون معنى الآية أنه لما بلغ يوسف قول المرأة أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين قال يوسف ذلك أي الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه ليعلم يعني العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب يعني في حال غيبته، فيكون هذا من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين لذلك مع غموض فيه لأنه ذكر كلام إنسان ثم أتبعه بكلام إنسان آخر من غير فصل بين الكلامين ونظير هذا قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ هذا من قول الملأ، فماذا تأمرون من قول فرعون ومثله قوله تعالى: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً هذا من قول بلقيس وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ من قوله عز وجل تصديقا لها وعلى هذا القول اختلفوا أين كان يوسف حين قال هذه المقالة على قولين أحدهما أنه كان في السجن وذلك أنه لما رجع إليه رسول الملك وهو في السجن وأخبره بجواب امرأة العزيز للملك قال حينئذ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وهذه رواية أبي صالح عن ابن عباس وبه قال ابن جريج. والقول الثاني: إنه قال هذه المقالة عند حضوره عند الملك وهذه رواية عطاء عن ابن عباس فإن قلت فعلى هذا القول كيف خاطبهم بلفظة ذلك وهي إشارة للغائب مع حضوره عندهم. قلت قال ابن الأنباري قال اللغويون هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع لقرب الخبر من أصحابه فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا وقيل ذلك إشارة إلى ما فعله يقول ذلك الذي فعلته من ردي الرسول ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي لم أخن العزيز في حال غيبته ثم ختم هذا الكلام بقوله وأن الله لا يهدي كيد الخائنين يعني أني لو كنت خائنا لما خلصني الله من هذه الورطة التي وقعت فيها لأن الله لا يهدي أي لا يرشد ولا يوفق كيد الخائنين واختلفوا في قوله.

[سورة يوسف (12): الآيات 53 إلى 54]

[سورة يوسف (12): الآيات 53 الى 54] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من قول من؟ على قولين أيضا: أحدهما: أنه من قول المرأة وهذا التفسير على قول من قال إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول المرأة فعلى هذا يكون المعنى وما أبرئ نفسي من مراودتي يوسف عن نفسه وكذبي عليه. والقول الثاني: وهو الأصح وعليه أكثر المفسرين أنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي وهذه رواية عن ابن عباس أيضا وهو قول الأكثرين وقال الحسن إن يوسف لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال وما أبرئ نفسي لأن الله تعالى قال فلا تزكوا أنفسكم، ففي قوله وما أبرئ نفسي هضم للنفس وانكسار وتواضع لله عز وجل فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم فأراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ والسوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية والسيئة الفعلة القبيحة. واختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين وغيرهم أن النفس الإنسانية واحدة ولها صفات: منها الأمارة بالسوء، ومنها اللوامة، ومنها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة، وقيل: إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة. وقوله إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن عباس: معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني من طاب لكم وقيل هذا استثناء منقطع معناه لكن من رحم ربي فعصمه من متابعة النفس الأمارة بالسوء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ يعني غفور لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم. قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي وذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف وعرف أمانته وعلمه طلب حضوره إليه فقال ائتوني به يعني بيوسف أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لنفسي والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه، لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة ولا يشاركهم فيها أحد من الناس وإنما قال الملك ذلك لما عظم اعتقاده في يوسف لما علم من غزارة علم يوسف وحسن صبره وإحسانه إلى أهل السجن وحسن أدبه وثباته على المحن كلها فلهذا حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله تعالى أمرا هيأ أسبابه فألهم الملك ذلك فقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فيه اختصار تقديره فلما جاء الرسول إلى يوسف فقال له أجب الملك الآن بلا معاودة فأجابه. روي أن يوسف لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على بابه هذا بيت البلواء وقبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسنة ثم قصد باب الملك.

[سورة يوسف (12): آية 55]

قال وهب: فلما وقف بباب الملك قال: حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ثم دخل الدار فلما أبصر الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره فلما نظر إليه الملك سلم يوسف عليه بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له وما هذا اللسان أيضا قال يوسف هذا لسان آبائي قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لغة فلم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجاباه يوسف وزاد عليه بالعربية والعبرانية فلما رأى الملك منه ذلك أعجبه ما رأى مع حداثة سن يوسف عليه السلام وكان له من العمر يومئذ ثلاثون سنة فأجلسه إلى جنبه فذلك قوله تعالى فلما كلمه يعني فلما كلم الملك يوسف لأن مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبدأ بالكلام فيها وإنما يبدأ فيها بالكلام وقيل معناه فلما كلم يوسف الملك قال الساقي أيها الملك هذا الذي علم تأويل الملك رؤياك مع عجز السحرة والكهنة عنها فأقبل عليه الملك وقالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ يقال: اتخذ فلان عند فلان مكانة أي منزلة وهي الحالة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقيل: المكانة المنزلة والجاه والمعنى قد عرفت أمانتك ومنزلتك وصدقك وبراءتك مما نسبت إليه وقوله مكين أمين كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا. روي أن الملك قال ليوسف عليه الصلاة والسلام أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاها فقال: نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان غير عجاف كشف لك عنهن النيل فطلعن من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا فبينما أنت تنظر إليهن وقد أعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر ملصقات البطون ليس لهما ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع فاختلطن بالسمان فاترسن السمان فافترس السبع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن ومشمشن مخهن فبينما أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن إذ سبع سنبلات خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء وإلى جانبهن سبع أخر سود يابسات في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء فبينا أنت تقول في نفسك أي شيء هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الثرى والماء. إذ هبت الريح فذرت أوراق اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فأحرقتهن فصرن سودا فهذا ما رأيت أيها الملك ثم انتبهت مذعورا فقال الملك والله ما أخطأت منها شيئا فما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا فما هو بأعجب مما سمعت منك وما ترى في تأويل رؤياي أيها الصديق؟ قال يوسف عليه الصلاة والسلام: أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتجعل ما يتحصل من ذلك الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله فإنه أبقى له فيكون ذلك القصب والسنبل علفا للدواب وتأمر الناس فليرفعوا الخمس من زروعهم أيضا فيكفيك ذلك الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها وتأتيك الخلق من سائر النواحي للميرة ويجتمع عندك من الكنوز والأموال ما لا يجتمع لأحد قبلك فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه فعند ذلك. [سورة يوسف (12): آية 55] قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) قالَ يعني يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يعني على خزائن الطعام والأموال، وأراد بالأرض أرض مصر أي اجعلني على خزائن أرضك التي تحت يدك، وقال الربيع بن أنس اجعلني على خزائن خراج مصر ودخلها إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أي حفيظ الخزائن عليم بوجوه مصالحها وقيل معناه إني حاسب كاتب وقيل حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وقيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني، وقال الكلبي: حفيظ بتقديره في

[سورة يوسف (12): الآيات 56 إلى 57]

السنين المخصبة للسنين المجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع فقال الملك عند ذلك ومن أحق بذلك منك وولّاه ذلك، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة». فإن قلت كيف طلب يوسف علي الصلاة والسلام الإمارة والولاية مع ما ورد من النهي عنها مع كراهية طلبها لما صح من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أتيتها من غير مسألة أعنت عليها» أخرجاه في الصحيحين. قلت إنما يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها فإذا تعين عليه طلبها وجب ذلك عليه ولا كراهية فيه فأما يوسف عليه الصلاة والسلام فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من الله تعالى والرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره وإذا كان مكلفا برعاية المصالح ولا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها، وقيل إنه علم أنه سيحصل قحط وشدة إما بطريق الوحي من الله أو بغيره وربما أفضى ذلك إلى هلاك معظم الخلق، وكان في طلب الإمارة إيصال الخير والراحة إلى المستحقين وجب عليه طلب الأمارة لهذا السبب. فإن قلت كيف مدح يوسف نفسه بقوله إني حفيظ عليم والله تعالى يقول فلا تزكوا أنفسكم. قلت إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوسل به إلى غير ما يحل فهذا القدر المذموم في تزكية النفس. أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير فلا يكره ذلك ولا يحرم بل يجب عليه ذلك مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع ولا يعرف به فإنه يجب عليه أن يقول أنا عالم، ولما كان المالك قد علم من يوسف أنه عالم بمصالح الدين ولم يعلم أنه عالم بمصالح الدنيا نبهه يوسف بقوله إني حفيظ عليم على أنه عالم بما يحتاج إليه في مصالح الدنيا أيضا مع كمال علمه بمصالح الدين. [سورة يوسف (12): الآيات 56 الى 57] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) قوله عز وجل: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وكذلك إشارة إلى ما تقدم، يعني وكما أنعمنا على يوسف بأن أنجيناه من الجب وخلصناه من السجن وزيناه في عين الملك حتى قربه وأدنى منزلته كذلك مكنا له في الأرض يعني أرض مصر ومعنى التمكين هو أن لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره وإليه الإشارة بقوله يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ لأنه تفسير للتمكين. قال ابن عباس وغيره لما انقضت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وقلده بسيفه وحلاه بخاتمه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع ووضع له عليه ثلاثون فراشا وستون ماريا وضرب له عليه كلة من إستبرق وأمره أن يخرج فخرج متوجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت ليوسف الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن إسحاق قال ابن زيد وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلمها إلى يوسف وسلم له سلطانه كله وجعل أمره وقضاءه نافذا في مملكته قالوا ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه فلما دخل يوسف عليها قال لها أليس هذا خيرا مما كنت تريدين قالت له أيها الصديق لا تلمني فإني

[سورة يوسف (12): آية 58]

كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي وعصمك الله قالوا فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين ذكرين إفراثيم وميشا وهما ابنا يوسف منها واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء فلما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير فبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة وأنفق المال بالمعروف حتى خلت السنين المخصبة ودخلت السنين المجدبة بهول وشدة لم ير الناس مثله، وقيل: إنه دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار فلما دخلت سنين القحط كان أول من أصابه الجوع الملك فجاع نصف النهار فنادى يا يوسف الجوع الجوع فقال يوسف هذا أول أوان القحط فهلك في السنة الأولى من أول سنين القحط كل ما أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق بمصر درهم ولا دينار إلا أخذه منهم وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منها شيء وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي والأنعام حتى لم تبق دابة ولا ماشية إلا احتوى عليها كلها وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والجواري حتى لم يبق بأيدي الناس عبد ولا أمة وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار حتى أتى عليها كلها وباعهم في السنة السادسة بأولادهم، حتى استرقهم وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا ملكه فصاروا جميعهم عبيدا ليوسف عليه الصلاة والسلام فقال أهل مصر ما رأينا كاليوم ملكا أجمل ولا أعظم من يوسف فقال يوسف للملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء قال الملك الرأي رأيك ونحن لك تبع قال فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وقيل إن يوسف كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض فقال أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائع فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار. قال مجاهد: ولم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فذلك قوله سبحانه وتعالى: وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ يعني نختص بنعمتنا وهي النبوة من نشاء يعني من عبادنا وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس يعني الصابرين وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ يعني ولثواب الآخرة خَيْرٌ يعني أفضل من أجر الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يعني يتقون ما نهى الله عنه وفيه دليل على أن الذي أعد الله عز وجل ليوسف عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الأجر والثواب الجزيل أفضل مما أعطاه الله في الدنيا من الملك قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 58] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال العلماء: لما اشتد القحط وعظم البلاء وعم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام قصد الناس مصر من كل مكان للميرة وكان يوسف لا يعطي أحدا أكثر من حمل بعير وإن كان عظيما تقسيطا ومساواة بين الناس ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدة فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه وأرسل عشرة فذلك قوله تعالى وجاء إخوة يوسف وكانوا عشرة وكان مسكنهم بالعربات من أرض فلسطين والعربات ثغور الشام وكانوا أهل بادية وإبل وشياه فدعاهم يعقوب عليه الصلاة والسلام وقال بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا له واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام فخرجوا حتى قدموا مصر فدخلوا على يوسف فعرفهم.

[سورة يوسف (12): الآيات 59 إلى 62]

قال ابن عباس ومجاهد: بأول نظرة نظر إليهم عرفهم، وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه وهم له منكرون يعني لم يعرفوه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين أن قذفوه في الجب وبين دخولهم عليه مدة أربعين سنة فلذلك أنكروه وقال عطاء: إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وكان على رأسه تاج الملك وقيل لأنه كان قد لبس زي ملوك مصر عليه ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب وكل واحد من هذه الأسباب مانع من حصول المعرفة فكيف وقد اجتمعت فيه، وقيل إن العرفان إنما يقع في القلب بخلق الله تعالى له فيه وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق ذلك العرفان في تلك الساعة في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة ليوسف عليه الصلاة والسلام فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية كلمهم بلسانهم فقال لهم أخبروني من أنتم وما أمركم فإني قد أنكرت حالكم قالوا: نحن قوم من أرض الشام رعاة قد أصابنا من الجهد ما أصاب الناس فجئنا نمتار؟ قال يوسف لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي قالوا: لا والله ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله تعالى قال وكم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها وكان أحبنا إلى أبينا قال: فكم أنتم الآن، قالوا: عشرة قال: وأين الآخر قالوا هو عند أبينا لأنه أخو الذي هلك لأمه فأبونا يتسلى به قال فمن يعلم أن الذي تقولون حق قالوا أيها الملك إننا ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد قال فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا راض بذلك منكم قالوا إن أبانا يحزن لفراقه وسنراوده عنه قال فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده فذلك قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 59 الى 62] وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يقال: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهاز سفرهم وهو ما يحتاجون إليه في وجوههم والجهاز بفتح الجيم هي اللغة الفصيحة الجيدة وعليها الأكثرون من أهل اللغة وكسر الجيم لغة ليست بجيدة. قال ابن عباس: حمل لكل واحد منهم بعيرا من الطعام وأكرمهم في النزول وأحسن ضيافتهم وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يعني الذي خلفتموه عنده وهو بنيامين أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ يعني أني أتمّه ولا أبخس منه شيئا وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم أكرمكم بذلك وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ يعني خير المضيفين لأنه كان قد أحسن ضيافتهم مدة إقامتهم عنده قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام يضعف قول من يقول من المفسرين إنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ومن يشافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين، وأيضا يبعد من يوسف عليه الصلاة والسلام مع كونه صديقا أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون مع أنه يعرف براءتهم من هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بالصديق ثم قال يوسف فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ يعني بأخيكم الذي من أبيكم فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي يعني لست أكيل لكم طعاما وَلا تَقْرَبُونِ يعني ولا ترجعوا ولا تقربوا بلادي وهذا هو نهاية التخويف والترهيب لأنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكنهم تحصيله إلا من عنده فإذا منعهم من العود كان قد ضيق عليهم فعند ذلك قالُوا يعني إخوة يوسف سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ يعني سنجتهد ونحتال حتى ننزعه من عنده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ يعني ما أمرتنا به.

[سورة يوسف (12): الآيات 63 إلى 65]

قوله عز وجل: وَقالَ لِفِتْيانِهِ يعني: وقال يوسف لفتيانه وهم غلمانه وأتباعه اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أراد بالبضاعة ثمن الطعام الذي أعطوه ليوسف وكانت دراهم وحكى الضحاك عن ابن عباس أنها كانت النعال والأدم والرحال جمع رحل وهي الأوعية التي يحمل فيها الطعام وغيره لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يعني يعرفون بضاعتهم إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ يعني إذا رجعوا إلى أهلهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلينا واختلفوا في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم بضاعتهم فقيل إنهم إذا فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم علموا أن ذلك من كرم يوسف وسخائه فيبعثهم ذلك على الرجوع إليه سريعا وقيل إنه خاف أن لا يكون عند أبيه شيء آخر من المال لأن الزمان كان زمان قحط وشدة، وقيل: إنه رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم لشدة حاجتهم إليه وقيل أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه لوم ولا عيب، وقيل أراد أن يريهم بره وكرمه وإحسانه إليهم في رد بضاعتهم ليكون ذلك أدعى إلى العود إليه، وقيل: إنما فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على رد البضاعة إليه إذا وجدوها في رحالهم لأنهم أنبياء وأولاد أنبياء وقيل أراد برد البضاعة إليهم أن يكون ذلك عونا لأبيه ولإخوته على شدة الزمان. [سورة يوسف (12): الآيات 63 الى 65] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته فقال لهم يعقوب إذا رجعتم إلى ملك مصر فاقرؤوا عليه مني السلام وقولوا له إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا ثم قال لهم أين شمعون قالوا ارتهنه ملك مصر عنده وأخبروه بالقصة ثم قالوا يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وفيه قولان: أحدهما: أنهم لما أخبروا يوسف بأخيهم من أبيهم طلبوا منه الطعام لأبيهم وأخيهم المتخلف عند أبيهم فمنعهم من ذلك حتى يحضر فقولهم منع منا الكيل إشارة إليه وأراد بالكيل الطعام لأنه يكال. والقول الثاني: إنه سيمنع منا الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون وقال الحسن يمنع منا الكيل إن لم نحمل معنا أخانا وهو قوله تعالى إخبارا عنهم فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا يعني بنيامين نَكْتَلْ قرئ بالياء يعني يكتل لنفسه وقرئ بالنون يعني نكتل نحن جميعا وإياه معنا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ يعني نرده إليك فلما قالوا ليعقوب هذه المقالة (قال) يعني يعقوب هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يعني كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه وقلتم وإنا له لحافظون فما فعلتم فلما لم يحصل الأمان والحفظ هنالك فكيف يحصل هاهنا ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً يعني أن حفظ الله خير من حفظكم له ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وظاهر هذا الكلام يدل على أنه أرسله معهم، وإنما أرسله معهم وقد شاهد ما فعلوا بيوسف لأنه لم يشاهد فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما كان بينهم وبين يوسف أو أن يعقوب شاهد منهم الخير والصلاح لما كبروا فأرسله معهم أو أن شدة القحط وضيق الوقت أحوجه إلى ذلك. قوله تعالى: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ يعني الذي حملوه من مصر فيحتمل أن يكون المراد به الطعام أو أوعية

[سورة يوسف (12): الآيات 66 إلى 68]

الطعام وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ يعني أنهم وجدوا في متاعهم ثمن الطعام الذي كانوا قد أعطوه ليوسف قد رد عليهم ودس في متاعهم قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي يعني ماذا نبغي وأي شيء نطلب وذلك أنهم كانوا قد ذكروا ليعقوب إحسان ملك مصر إليهم وحثوا يعقوب على إرسال بنيامين معهم فلما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم قالوا أي شيء نطلب من الكلام بعد هذا العيان من الإحسان والإكرام أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن، وأرادوا بهذا الكلام تطييب قلب أبيهم هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا يقال مار أهله يميرهم ميرا إذا حمل لهم الطعام وجلبه من بلد آخر إليهم والمعنى إنا نشتري لأهلنا الطعام ونحمله إليهم وَنَحْفَظُ أَخانا يعني بنيامين مما تخاف عليه حتى نرده إليك وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يعني ونزداد لأجل أخينا على أحمالنا حمل بعير من الطعام ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ يعني إن ذلك الحمل الذي نزداد من الطعام هين على الملك لأنه قد أحسن إلينا وأكرمنا بأكثر من ذلك وقيل معناه أن الذي حملناه معنا كيل يسير قليل لا يكفينا وأهلنا. [سورة يوسف (12): الآيات 66 الى 68] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) قالَ يعني قال لهم يعقوب لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يعني لن أرسل معكم بنيامين حتى تؤتون عهد الله وميثاقه والموثق العهد المؤكد باليمين، وقيل هو المؤكد بإشهاد الله عليه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ دخلت اللام هنا لأجل اليمين وتقديره حتى تحلفوا بالله لتأتنني به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال مجاهد: إلا أن تهلكوا جميعا فيكون عذرا لكم عندي، لأن العرب تقول أحيط بفلان إن هلك أو قارب هلاكه. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا جميع فلا تقدروا على الرجوع فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ يعني فلما أعطوه عهدهم وحلفوا له قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يعني قال يعقوب الله شاهد على ما نقول كأن الشاهد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد، وقيل وكيل بمعنى حافظ. قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب «فالله خير حافظا» قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما بعد ما توكلت علي وفوضت أمرك إليّ» وذلك أنه لما اشتد بهم الأمر وضاق عليهم الوقت وجهدوا أشد الجهد لم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم فأرسله معهم متوكلا على الله ومفوضا أمره إليه. قوله عز وجل إخبارا عن يعقوب وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وذلك أنهم لما خرجوا من عند يعقوب قاصدين مصر قال لهم يا بني لا تدخلوا يعني مدينة مصر من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان لمدينة مصر يومئذ أربعة أبواب، وقال السدي: أراد الطرق لا الأبواب يعني من طرق متفرقة وإنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا قد أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة وكانوا أولاد رجل واحد فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم المدينة لئلا يصابوا بالعين فإن العين حق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين (ق). عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن العين حق» زاد البخاري «ونهى عن الوشم» (م) عن

ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا» عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين» أخرجه أبو داود. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: قال المازري: أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقال العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد عقولهم أن كل معنى يكون مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول وإذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه وإنكاره وقيل لا بد من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعيين مثبتين للعين تأثيرا أن العين تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل بالملدوغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين، قال المازري: وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أنه لا فاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئا، فإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم تقول هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضا لأنه لا يقبل الانتقال وباطل أن يكون جوهرا لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسدا لبعض بأولى من عكسه فبطل ما قالوه وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم إن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من عين العائن لتتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق الله عز وجل الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم عادة أجراها الله عز وجل وليست ضرورة ولا طبيعية ألجأ الفعل إليها قال ومذهب أهل السنة أن المعين إنما يفسد ويهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص شخصا آخر، وهل ثم جواهر أم لا فهذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول وأما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع قد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله رواه مالك في الموطأ. وأما صفة وضوء العائن فمذكور في كتب شرح الحديث ومعروف عند العلماء فيطلب من هناك فليس هذا موضعه والله أعلم. وقال وهب بن منبه: في قوله لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة حكاه ابن الجوزي عنه وقيل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لم يأذن له في إظهاره ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لهم: لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى أخيه يوسف في وقت الخلوة قبل إخوته والقول الأول أصح أنه خاف عليهم من العين ثم رجع إلى علمه وفوض أمره إلى الله تعالى بقوله: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يعني إن كان الله قد قضى عليكم بقضاء فهو يصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين فإن المقدور كائن ولا ينفع حذر من قدر إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني وما الحكم إلا لله وحده لا شريك له فيه وهذا تفويض من يعقوب في أموره كلها إلى الله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني عليه اعتمدت في أموري كلها لا على غيره وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ يعني من الأبواب المتفرقة وكان لمدينة مصر وقيل مدينة الفرماء أربعة أبواب فدخلوا من أبوابها كلها ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وهذا تصديق من الله سبحانه وتعالى ليعقوب فيما قال وما أغني عنكم من الله من شيء إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها هذا استثناء منقطع ليس من الأول في شيء ومعناه لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهو

[سورة يوسف (12): آية 69]

أنه أشفق عليهم إشفاق الآباء على الأبناء وذلك أنه خاف عليهم من العين أو خاف عليهم حسد أهل مصر أو خاف أن لا يردوا عليه فأشفق من هذا كله أو بعضه وَإِنَّهُ يعني يعقوب لَذُو عِلْمٍ يعني صاحب علم لِما عَلَّمْناهُ يعني لتعليمنا إياه ذلك العلم، وقيل: معناه وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه والمعنى أنا لما علمناه هذه الأشياء حصل له العلم بتلك الأشياء، وقيل: إنه لذو حفظ لما علمناه وقيل إنه كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، وقيل: إنه لعامل بما علمناه قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه. [سورة يوسف (12): آية 69] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف على يوسف قالوا أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي ثم أنزلهم وأكرم نزلهم ثم إنه أضافهم وأجلس كل اثنين على مائدة فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال لهم يوسف لقد بقي هذا وحده فقالوا كان له أخ فهلك قال لهم فأنا أجلسه معي فأخذه فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال كل اثنين منكم ينامان على فراش واحد فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام عندي على فراشي فنام بنيامين مع يوسف على فراشه فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح فلما أصبح قال لهم إني أرى هذا الرجل وحيدا ليس معه ثان وسأضمه إليّ فيكون معي في منزلي ثم إنه أنزلهم وأجرى عليهم الطعام فقال روبيل ما رأينا مثل هذا فذلك قوله آوى إليه أخاه يعني ضمه وأنزله معه في منزله فلما خلا به قال له يوسف ما اسمك قال بنيامين قال وما بنيامين قال ابن المشكل وذلك أنه لما ولدته أمه هلكت قال وما اسم أمك قال راحيل قال فهل لك من ولد قال عشر بنين قال فهل لك من أخ لأمك قال كان لي أخ فهلك قال يوسف أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه الصلاة والسلام وقام إليه وعانقه وقالَ له إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يعني يوسف فَلا تَبْتَئِسْ يعني لا تحزن وقال أهل اللغة تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني فلا تحزن بشيء فعلوه بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا ونجانا من الهلاك وجمع بيننا، وقيل: إن يوسف صفح عن إخوته وصفا لهم فأراد أن يجعل قلب أخيه بنيامين مثل قلبه صافيا عليهم ثم قال يوسف لأخيه بنيامين لا تعلم إخوتك بشيء مما أعلمتك به ثم إنه أوفى لإخوته الكيل وزاد لكل واحد حمل بعير ولبنيامين حمل بعير باسمه ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل أخيه بنيامين، قال السدي: وهو لا يشعر وقال كعب: لما قال له يوسف إني أنا أخوك قال بنيامين أنا لا أفارقك فقال يوسف قد علمت اغتمام والدي عليّ فإذا حبستك عندي ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك قال فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك قال فافعل ما شئت فذلك قوله عز وجل:

[سورة يوسف (12): الآيات 70 إلى 74]

[سورة يوسف (12): الآيات 70 الى 74] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وهي المشربة التي كان الملك يشرب فيها، قال ابن عباس: كانت من زبرجد، وقال ابن إسحاق كانت من فضة وقيل من ذهب، وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها والسقاية والصواع اسم لإناء واحد وجعلت في وعاء طعام أخيه بنيامين ثم ارتحلوا راجعين إلى بلادهم فأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا وقيل حتى خرجوا من العمارة ثم أرسل خلفهم من استوقفهم وحبسهم ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ يعني نادى مناد وأعلم معلم. والأذان في اللغة الإعلام أَيَّتُهَا الْعِيرُ وهي القافلة التي في الأحمال، وقال مجاهد: العير الحمير والبغال، وقال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهي عير وقول من قال إنها الإبل خاصة باطل وقيل العير الإبل التي تحمل عليها الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر ذلك في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير وقوله أيتها العير أراد أصحاب العير إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فقفوا والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء. فإن قلت هل كان هذا النداء بأمر يوسف أم لا فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف مع علو منصبه وشريف رتبته من النبوة والرسالة أن يتهم أقواما وينسبهم إلى السرقة كذبا مع علمه ببراءتهم من ذلك وإن كان ذلك النداء بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة التي نسبوا إليها. قلت ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة: أحدها: أن يوسف لما أظهر لأخيه أنه أخوه قال لست أفارقك قال لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما يليق قال رضيت بذلك فعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام بل قد رضي به فلا يكون ذنبا. الثاني: أن يكون المعنى إنكم لسارقون ليوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. الثالث: يحتمل أن يكون المنادي ربما قال ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير لا يكون كذبا. الرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف وهو الأقرب إلى ظاهر الحال لأنهم طلبوا السقاية فلم يجدوها ولم يكن هناك أحد غيرهم وغلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قال أصحاب الأخبار لما وصل الرسل إلى إخوة يوسف قالوا لهم ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم ونوف إليكم الكيل ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم قالوا بلى وما ذاك قالوا فقدنا سقاية الملك ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى قالوا وأقبلوا عليهم أي عطفوا على المؤذن وأصحابه ماذا أي ما الذي تفقدون والفقدان ضد الوجود قالُوا يعني المؤذن وأصحابه نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ الصاع الإناء الذي يكال به وجمعه أصوع والصواع لغة فيه وجمعه صيعان وَلِمَنْ جاءَ بِهِ يعني بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ يعني من الطعام وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي كفيل قال الكلبي الزعيم هو الكفيل بلسان أهل اليمن وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في قوله «الحميل غارم» والحميل الكفيل.

[سورة يوسف (12): الآيات 75 إلى 76]

فإن قلت كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئا. قلت لم يكونوا سراقا في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع فيكون جعالة أو لعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان فيحمل عليه قالُوا يعني إخوة يوسف تَاللَّهِ التاء بدل من الواو ولا تدخل إلا على اسم الله في اليمين خاصة تقديره والله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قال المفسرون: إن أخوة يوسف حلفوا على أمرين: أحدهما: أنهم ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض والثاني أنهم ما جاءوا سارقين وإنما قالوا هذه المقالة لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم وهو أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم لئلا تؤذي زرع الناس ومن كانت هذه صفته فالفساد في حقه ممتنع. وأما الثاني: وهو أنهم ما كانوا سارقين فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ولم يستحلوا أخذها ومن كانت هذه صفته فليس بسارق فلأجل ذلك قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة قالُوا يعني أصحاب يوسف وهو المنادي وأصحابه فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ يعني فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. [سورة يوسف (12): الآيات 75 الى 76] قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا يعني إخوة يوسف جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ يعني جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه فيسترقه سنة وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق فلذلك رد الحكم إليهم، والمعنى أن جزاء السارق أن يستعبد سنة جزاء له على جرمه وسرقته فَهُوَ جَزاؤُهُ يعني هذا الجزاء جزاؤه كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني مثل هذا الجزاء وهو أن يسترقّ السارق سنة نجزي الظالمين ثم قيل إن هذا الكلام من بقية كلام إخوة يوسف وقيل هو من كلام أصحاب يوسف فعلى هذا إن إخوة يوسف لما قالوا جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف كذلك نجزي الظالمين يعني السارقين. قوله عز وجل: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ قال أهل التفسير إن إخوة يوسف لما أقروا أن جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم إلى يوسف فأمر بتفتيشها بين يديه فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه لإزالة التهمة فجعل يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر وعاء إلا استغفر تأثما مما قذفهم به حتى لم يبق إلا رحل بنيامين قال ما أظن هذا أخذ شيئا قال إخوته والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه فذلك قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ إنما أنّث الكناية لأنه ردها إلى السقاية، وقيل: إن الصواع يذكر ويؤنث فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوة يوسف رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون له ما صنعت بنا فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ما زال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصواع، فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما زال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه

[سورة يوسف (12): الآيات 77 إلى 78]

في البرية إن الذي وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم قالوا فأخذ بنيامين رقيقا، وقيل: إن المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصواع من رحل بنيامين فأخذه برقبته وردوه إلى يوسف كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يعني ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وهو إشارة إلى الحكم الذي ذكره إخوة يوسف باسترقاق السارق أي مثل ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف ولفظ الكيد مستعار للحيلة والخديعة وهذا في حق الله عز وجل محال فيجب تأويل هذه اللفظة بما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى فنقول الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف بأن حكموا أن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته، وقال ابن الأعرابي: الكيد التدبير بالباطل وبحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف وقيل: صنعنا ليوسف، وقال ابن الأنباري: كدنا وقع خبرا من الله عز وجل عليّ خلاف معناه في أوصاف المخلوقين فإنه إذا أخبر به عن مخلوق كان تحته احتيال وهو في موضع فعل الله معرى من المعاني المذمومة ويخلص بأنه وقع بمن يكيده تدبير ما يريده به من حيث لا يشعر ولا يقدر على دفعه فهو من الله مشيئة بالذي يكون من أجل أن المخلوق إذا كاد المخلوق في ستر عنه ما ينويه ويضمره له من الذي يقع به من الكيد فهو من الله تعالى أستر إذ هو ما ختم به عاقبته والذي وقع بإخوة يوسف من كيد الله هو ما انتهى إليه شأن يوسف من ارتفاع المنزلة وتمام النعمة وحيث جرى الأمر على غير ما قدر من إهلاكه وخلوص أبيهم له بعده وكل ذا جرى بتدبير الله تعالى وخفي لطفه سماه كيدا لأنه أشبه كيد المخلوقين فعلى هذا يكون كيد الله عز وجل ليوسف عليه الصلاة والسلام عائدا إلى جميع ما أعطاه الله وأنعم به عليه على خلاف تدبيره وإخوته من غير أن يشعروا بذلك وقوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يعني في حكم الملك وقضائه لأنه كان في حكم الملك أن السارق يضرب ويغرم ضعفي قيمة المسروق يعني في حكم الملك وقضائه فلم يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك فالله تعالى ألهم يوسف ما دبره حتى وجد السبيل إلى ذلك إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعني بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته وفي هذه الآية دلالة على أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال ابن عباس: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم لأنه هو الغني بعلمه عن التعليم وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف كانوا علماء وكان يوسف أعلم منهم، قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه تعالى ولا يطمع نفسه في الغلبة لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. [سورة يوسف (12): الآيات 77 الى 78] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قوله تعالى: قالُوا يعني إخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ يعني بنيامين الصواع فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يعني يوسف ظاهر الآية يقتضي أن إخوة يوسف قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا وكان غرضهم من هذا الكلام أنّا لسنا على طريقته ولا على سيرته بل هذا وأخوه كان على هذه الطريقة وهذه السيرة لأنهما من أم أخرى غير أمنا.

واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقال سعيد بن جبير وقتادة: وكان لجده أبي أمه صنم وكان يعبده فأخذه يوسف وكسره وألقاه في الطريق لئلا يعبده، وقال مجاهد: إن يوسف جاءه سائل يوما فأخذ بيضة من البيت فناولها له، وقال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير الذي كان في بيت يعقوب فأعطاها سائلا، وقال وهب: كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء. وذكر محمد بن إسحاق: إن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت أمه راحيل فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا فلما ترعرع وكبر وقعت محبة يعقوب عليه فأحبه فقال لأخته يا أختاه سلمي إلي يوسف فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة واحدة فقالت لا أعطيكه فقال لها والله ما أنا بتاركه عندك فقالت دعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه ففعل ذلك فعمدت إلى منطقة كانت لإسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وكانت أكبر أولاد إسحاق فكانت عندها فشدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر ثم قالت لقد فقدت منطقة إسحاق ففتشوا أهل البيت فوجودها مع يوسف فقالت إنه لسلم لي يعني يوسف فقال يعقوب إن كان قد فعل فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت فلذلك قال إخوة يوسف إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يعنون هذه السرقة قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ولكنها تشبه السرقة فعيروه بها عند الغضب فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي بعدها وهي قوله تعالى قالَ يعني يوسف أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس والثاني أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه وهي قولهم فقد سرق أخ له من قبل وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا القول يكون المعنى فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ولم يجبهم عليها والثالث أن الضمير يرجع إلى الحجة فيكون المعنى على هذا القول فأسر يوسف الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا يعني منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة لأنه لم يكن من يوسف سرقة في الحقيقة وخيانتكم حقيقة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ يعني بحقيقة ما تقولون. قوله عز وجل: قالُوا يعني إخوة يوسف يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ يخاطبون بذلك الملك إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً قال أصحاب الأخبار والسير إن يوسف عليه الصلاة والسلام لما استخرج الصواع من رحل أخيه بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال إن صواعي هذا يخبرني أنكم اثنا عشر رجلا لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه قال بنيامين أيها الملك سل صواعك هذا من جعله في رحلي فنقره ثم قال إن صواعي غضبان وهو يقول كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت قالوا فغضب روبيل لذلك وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته وكان من هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب يسكن غضبه وكان أقوى الإخوة وأشدهم، وقيل: كانت هذه صفة شمعون بن يعقوب، وقيل: إنه قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر قالوا عشرة قال اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فدخلوا على يوسف فقال روبيل أيها الملك لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا وضعت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل حتى خرجت من ثيابه فقال يوسف لابن له صغير قم إلى جنب هذا فمسه أو خذ بيده فأتى له فلما مسه سكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم قالوا لم يصبك منا أحد فقال روبيل إن هذا بذر من بذر يعقوب وقيل إنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فوكزه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى تخليصه خضفوا وذلوا وقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا يعني في السن ويحتمل أن يكون كبيرا في القدر لأنه نبي من أولاد الأنبياء فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يعني

[سورة يوسف (12): الآيات 79 إلى 80]

بدلا عنه لأنه يحبه ويتسلى به عن أخيه الهالك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعني في أفعالك كلها وقيل من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة إلينا وقيل إن رددت بنيامين إلينا وأخذت أحدنا مكانه كنت من المحسنين. [سورة يوسف (12): الآيات 79 الى 80] قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) قالَ مَعاذَ اللَّهِ يعني: قال يوسف أعوذ بالله معاذا أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لم يقل سرق تحرزا عن الكذب لأنه يعلم أخاه ليس بسارق إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ يعني إن أخذنا بريئا بذنب غيره فإن قلت كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه وحبس أخاه أيضا عنده مع علمه بشدة وجد أبيه عليه ففيه ما فيه من العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة وكيف يجوز ليوسف مع علو منصبه من النبوة والرسالة أن يزور على إخوته ويروج عليهم مثل هذا مع ما فيه من الإيذاء لهم فكيف يليق به هذا كله قلت قد ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة كثيرة وأحسنها وأصحها أنه إنما فعل ذلك بأمر الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله بذلك ليزيد بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه الماضين ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه فهو المتصرف في خلقه بما يشاء وهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في طول هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم والله أعلم بأحوال عباده. قوله عز وجل: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يعني أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه، وقيل: أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم، وقال أبو عبيدة: استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم خَلَصُوا نَجِيًّا يعني خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم قالَ كَبِيرُهُمْ يعني في العقل والعلم لا في السن، قال ابن عباس: الكبير يهوذا وكان أعقلهم وقال مجاهد هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته، وقال قتادة والسدي والضحاك: هو روبيل وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا في يوسف لأنه نهاهم عن قتله أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ يعني يعقوب قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً يعني عهدا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ يعني قصرتم في أمر يوسف حتى ضيعتموه فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ يعني الأرض التي أنا فيها وهي أرض مصر والمعنى فلن أخرج من أرض مصر ولا أفارقها على هذه الصورة حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي يعني في الخروج من أرض مصر فيدعوني إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي برد أخي عليّ أو بخروجي معكم وترك أخي أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم حتى أسترد أخي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه يحكم بالحق والعدل والإنصاف، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه الصلاة والسلام. [سورة يوسف (12): الآيات 81 الى 83] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ يعني يقول الأخ الكبير الذي عز على الإقامة بمصر لإخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم يعقوب فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إنما قالوا هذه المقالة ونسبوه إلى السرقة لأنهم شاهدوا الصواع وقد أخرج من متاع بنيامين فغلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة

[سورة يوسف (12): الآيات 84 إلى 86]

الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا يعني ولم نقل ذلك إلا بعد أن رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى أن ابنك سرق في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة: وقرأ ابن عباس والضحاك: سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة هي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه، وقيل: معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم. وقيل: قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه. وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك. وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قال مجاهد وقتادة: يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر، وقال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمرا وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل، وقيل: معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق فَصَبْرٌ جَمِيلٌ تقدم تفسيره في أول السورة. وقوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج، وقيل: إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ يعني بحزني ووجدي عليهم الْحَكِيمُ فيما يدبره ويقضيه. [سورة يوسف (12): الآيات 84 الى 86] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)

قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرا جيدا جدد حزنه على أخيه مالك: يقول أتبكي كل قبر رأيته ... لقد ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن، وقيل: إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة، وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله يا أسفا على يوسف فقال هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله يا أسفا على يوسف معناه يا رب ارحم أسفي على يوسف وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل فلما كان قوله يا أسفا على يوسف شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه وقيل إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال يا أسفا على يوسف أي أشكو إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي عمي من شدة الحزن على يوسف قال مقاتل لم يبصر شيئا ست سنين، وقيل: إنه ضعف بصره من كثرة البكاء وذلك أن الدمع يكثر عند غلبة البكاء فتصير العين كأنها بيضاء من ذلك الماء الخارج من العين فَهُوَ كَظِيمٌ أي مكظوم وهو الممتلئ من الحزن الممسك عليه لا يبثه، قال قتادة: وهو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا، وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه. وقال ثابت البناني ووهب بن منبه والسدي: إن جبريل عليه الصلاة والسلام دخل على يوسف وهو في السجن فقال هل تعرفني أيها الصديق قال يوسف أرى صورة طاهرة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين فقال يوسف فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر الأرض بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين وأن الله قد طهر بك الأرض والسجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال يوسف كيف لي باسم الصديقين وتعدني من الصالحين المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين قال له إنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذلك سماك الله من الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف فهل لك علم من يعقوب أيها الروح الأمين قال نعم قد ذهب بصره وابتلاه الله بالحزن عليك فهو كظيم ووهب له الصبر الجميل قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلاء قال فما له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفس يوسف وقال ما أبالي مما لقيت إن رأيته. قوله عز وجل: قالُوا يعني إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لأبيهم تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ يعني لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر عن حبه يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال ولا محذوفة في جواب القسم لأن موضعها معلوم فحذفت للتخفيف كقول امرئ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي أي لا أبرح قاعدا وقوله حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قال ابن عباس يعني دنفا وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريبا من الموت، وقال ابن إسحاق: يعني فاسدا لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائبا من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعني من الأموات. فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعا؟. قلت: إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظنا منا أن الأمر يصير إلى ذلك الَ يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر، قال ابن قتيبة: البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هما فإذا ذكره لغيره كان بثا فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم. قال ابن الجوزي: روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو» وقيل: إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى وقيل إن الله أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين اصنع طعاما وادع إليه المساكين فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر مناديا ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين، وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها. فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟ قلت: لا وإنما عوقب يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى الله كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى الله فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى الله وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء

[سورة يوسف (12): الآيات 87 إلى 89]

على فقدهما وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئا مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى الله عز وجل بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام. وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذما ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا» فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحا لا حرج فيه على أحد من الناس وقوله أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه وروى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له يعقوب أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته الكريم على ربه هل قبضت روح ابني يوسف في الأرواح فقال لا فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته فلذلك قال وأعلم من الله ما لا تعلمون وقيل معناه وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره بنوه بسيرة ملك مصر وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله أحسست نفس يعقوب وطمع أن يكون هو يوسف فعند ذلك قال يعني يعقوب. [سورة يوسف (12): الآيات 87 الى 89] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه، روي عن عبد الله بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتابا إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لإخوته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه وَلا تَيْأَسُوا أي ولا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ يعني من رحمة الله وقيل من فضل الله وقيل من فرج الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ يعني أن المؤمن على خير يرجوه من الله فيصبر عند البلاء فينال به خيرا ويحمد عند الرخاء فينال به خيرا والكافر بضد ذلك. قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما

دخلوا عليه يعني على يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ يعنون يا أيها الملك والعزيز القادر الممتنع وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أي الشدة والفقر والجوع وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي ببضاعة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع. وأصل الإزجاء في اللغة: الدفع قليلا قليلا والتزجية دفع الشيء لينساق كتزجية الريح السحاب ومنه قول الشاعر: (وحاجة غير مزجاة من الحاج) يعني هي قليلة يسيرة يمكن دفعها وسوقها لقلة الاعتناء بها وإنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لمجموعهما فلذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذه البضاعة المزجاة، فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا وقيل كانت خلق الغرائر والحبال، وقيل: كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط، وقال الكلبي ومقاتل: كانت حبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال، وقال الزجاج: سميت هذه البضاعة القليلة الرديئة مزجاة من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل من العيش والمعنى جئنا ببضاعة مزجاة لندافع بها الزمان وليست مما يتسع بها، وقيل: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن يدفعها فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ يعني أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي والمعنى إنا نريد أن تقيم لنا الزائد مقام الناقص والجيد مقام الرديء وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا يعني وتفضل علينا بما بين الثمين الجيد والرديء ولا تنقصنا، هذا قول أكثر المفسرين قال ابن الأنباري: وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة وليس به واختلف العلماء هل كانت الصدقة حلالا للأنبياء قبل نبينا أم لا فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم واستدل بهذه الآية وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا إن حال الأنبياء كلهم واحد في تحريم الصدقة عليهم لأنهم ممنوعون من الخضوع للمخلوقين والأخذ منهم، والصدقة أوساخ الناس فلا تحل لهم لأنهم مستغنون بالله عمن سواه. وأجيب عن قوله وتصدق علينا أنهم طلبوا منه أن يجريهم على عادتهم من المسامحة وإيفاء الكيل ونحو ذلك مما كان يفعل بهم من الكرامة وحسن الضيافة لا نفس الصدقة وكره الحسن ومجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا لأن الصدقة لا تكون إلا ممن يبتغي الثواب وروي أن الحسن سمع رجلا يقول اللهم تصدق عليّ فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل عليّ، وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا يعني برد أخينا علينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يعني بالثواب الجزيل وقال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن قالَ يعني قال يوسف لإخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله حمل يوسف وهيجه على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته رقة على إخوته فباح بالذي كان يكتم، وقيل: إنه أخرج لهم نسخة الكتاب الذي كتبوه ببيعه من مالك وفي آخره وكتبه يهوذا فلما قرءوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا يا أيها الملك إنه كان لنا عبد فبعناه منه فغاظ ذلك يوسف وقال: إنكم تستحقون العقوبة وأمر بقتلهم فلما ذهبوا بهم ليقتلوهم قال يهوذا كان يعقوب يبكي ويحزن لفقد واحد منا فكيف إذا أتاه الخبر بقتل بنيه كلهم ثم قالوا إن كنت فاعلا ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين أدركته الرقة عليهم والرحمة فبكى وقال هذا القول، وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه لم يتمالك أن بكى وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وهذا استفهام يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه وهذا كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ولم يرد بهذا نفس الاستفهام ولكنه أراد

[سورة يوسف (12): الآيات 90 إلى 92]

تفظيع الأمر وتعظيمه ويجوز أن يكون المعنى هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه. واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فإن قلت الذي فعلوه بيوسف معلوم ظاهر فما الذي فعلوه بأخيه من المكروه حتى يقول لهم هذه المقالة فإنهم لم يسعوا في حبسه ولا أرادوا ذلك. قلت: إنهم لما فرقوا بينه وبين أخيه يوسف نغصوا عليه عيشه وكانوا يؤذونه كلما ذكر يوسف، وقيل: إنهم قالوا له لما اتهم بأخذ الصواع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ هذا يجري مجرى العذر لهم يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين وهو وقت الصبا وحالة الجهل وقيل جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف. [سورة يوسف (12): الآيات 90 الى 92] قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) قوله عز وجل: قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قرئ على سبيل الاستفهام وحجة هذه القراءة قال ابن عباس لما قال لهم هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه تبسم فرأوا ثناياه كاللؤلؤ تشبه ثنايا يوسف فشبهوه بيوسف فقالوا استفهاما أإنك لأنت يوسف؟، وقرئ على الخبر وحجته ما قال ابن عباس أيضا في رواية أخرى عنه: إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج على رأسه وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها فعرفوه بها وقالوا أنت يوسف، وقيل: قالوه على سبيل التوهم ولم يعرفوه حتى قالَ أَنَا يُوسُفُ قال بعض العلماء إنما أظهر الاسم في قوله أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيما لما نزل به من ظلم إخوته له وما عوضه الله من النصر والظفر والملك فكأنه قال أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجب ثم بعتموني بأبخس الأثمان ثم صرت إلى ما ترون فكانت تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها ولهذا قال وَهذا أَخِي وهم يعرفونه لأنه قصد به أيضا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون وهو قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع بيننا وقيل منّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة، وقيل: منّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ يعني يتقي الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس، وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن، وقيل: يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني أجر من كان هذا حاله قالُوا يعني قال إخوة يوسف معتذرين إليه مما صدر منهم في حقه تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك وفضلك علينا يقال آثرك الله إيثارا أي اختارك ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضيل والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والعقل وقال الضحاك عن ابن عباس بالملك وقال أبو صالح عنه بالصبر وقيل بالحلم والصفح علينا وقيل بالحسن وسائر الفضائل التي أعطاها الله عز وجل له دون إخوته وقيل فضله عليهم بالنبوة وأورد على هذا القول بأن إخوته كانوا أنبياء أيضا فليس له عليهم فضل في ذلك وأجيب عنه بأن يوسف فضل عليهم بالرسالة مع النبوة فكان أفضل منهم بهذا الاعتبار لأن من جمعت له النوبة والرسالة كان أفضل ممن خص بالنبوة فقط وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ يعني وما كنا في صنعنا بك إلا خاطئين ولهذا اختير لفظ الخاطئ على المخطئ والفرق بينهما أن يقال خطئ خطأ إذا تعمد وأخطأ إذا كان غير متعمد وقيل يجوز أن يكون آثر لفظ خاطئين على مخطئين لموافقة رؤوس الآي لأن خاطئين أشبه بما قبلها قالَ يعني

[سورة يوسف (12): الآيات 93 إلى 95]

يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ يعني لا تعيير ولا توبيخ عليكم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يوبخها ولا يثرب» أي لا يعيرها بالزنا بعد إقامة الحد عليها وفي محل قوله الْيَوْمَ قولان أحدهما أنه يرجع إلى ما قبله فيكون التقدير لا تثريب عليكم اليوم والمعنى أن هذا اليوم التثريب والتقريع والتوبيخ وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم اليوم ويبتدئ بقوله يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. والقول الثاني: أن اليوم متعلق بقوله يغفر الله لكم فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم ويبتدئ باليوم يغفر الله لكم كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله لا تثريب عليكم بشرهم بقوله اليوم يغفر الله لكم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن حال أبيه فقال ما حال أبي بعدي؟ قالوا ذهب بصره من كثرة البكاء عليك فأعطاهم قميصه وقال. [سورة يوسف (12): الآيات 93 الى 95] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا قال الضحاك كان هذا القميص من نسج الجنة، وقال مجاهد: أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه وكان ذلك القميص قميص إبراهيم وذلك أنه لما جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم، فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة من فضة وسد رأسها وجعلها في عنق يوسف كالتعاويذ لما كان يخاف عليه من العين وكانت لا تفارقه فلما ألقي يوسف في البئر عريانا أتاه جبريل وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه فلما كان هذا الوقت جاءه جبريل فأمره أن يرسل هذا القميص إلى أبيه لأن فيه ريح الجنة فلا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي في الوقت فدفع ذلك القميص يوسف إلى إخوته وقال اذهبوا بقميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً قال المحققون: إن علم يوسف أن إلقاء ذلك القميص على وجه يعقوب يوجب رد البصر كان بوحي الله إليه ذلك ويمكن أن يقال إن يوسف لما علم أن أباه قد عمي من كثرة البكاء عليه وضيق الصدر بعث إليه قميصه ليجد ريحه فيزول بكاؤه وينشرح صدره ويفرح قلبه فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البصر فهذا القدر تمكن معرفته من جهة العقل وقوله وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي: كانوا نحوا من سبعين إنسانا، وقال مسروق: كانوا ثلاثة وسبعين ما بين رجل وامرأة وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ يعني خرجت من مصر وقيل من عريش مصر متوجهين إلى أرض كنعان قالَ أَبُوهُمْ يعني: قال يعقوب لولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ قيل: إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، وقال مجاهد: أصابت يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام، وقال ابن عباس: من مسيرة ثمان ليال وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا، وقيل: هبت ريح فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد يعقوب ريح الجنة فعلم أنه ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فعلم بذلك أنه من ريح يوسف فلذلك قال: إني لأجد ريح يوسف لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أصل التفنيد من الفند وهو ضعيف الرأي وقال ابن الأنباري أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وقال الأصمعي: إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو الفنيد والفند فيكون المعنى لولا أن تفندوني أي تنسبوني إلى الخرف وقيل تسفهوني وقيل: تلوموني وقيل تجهلوني وهو قول ابن عباس، وقال الضحاك تهرموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله قالُوا يعني أولاد أولاد يعقوب وأهله

[سورة يوسف (12): الآيات 96 إلى 98]

الذين عنده لأن أولاده لصلبه كانوا غائبين عنه تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ يعني من ذكر يوسف ولا تنساه لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات وهلك ويرون أن يعقوب قد لهج بذكره فلذلك قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم من ذكره والضلال الذهاب عن طريق الصواب. [سورة يوسف (12): الآيات 96 الى 98] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو المبشر بخبر يوسف، قال ابن مسعود: جاء البشير بين يدي العير قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما هو يهوذا، قال السدي: قال يهوذا أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته. قال ابن عباس: حمله يهوذا وخرج به حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ يعني فألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً يعني فرجع بصيرا بعد ما كان قد عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف وسروره بعد الحزن قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا، وروي أن يعقوب قال للبشير كيف تركت يوسف قال تركته ملك مصر قال يعقوب ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة. قوله تعالى: قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا يعني قال أولاد يعقوب حين وصلوا إليه وأخذوا يعتذرون إليه مما صنعوا به وبيوسف استغفر لنا أي اطلب لنا غفر ذنوبنا من الله إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ يعني في صنيعنا قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قال أكثر المفسرين: إن يعقوب أخر الدعاء والاستغفار لهم إلى وقت السحر لأنه أشرف الأوقات وهو الوقت الذي يقول الله فيه هل من داع فأستجيب له فلما انتهى يعقوب إلى وقت السحر قام إلى الصلاة متوجها إلى الله تعالى فلما فرغ رفع يديه إلى الله تعالى وقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين قال عكرمة عن ابن عباس: إنه أخر الاستغفار لهم إلى ليلة الجمعة لأنها أشرف الأوقات قال وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة نيفا وعشرين سنة وقال طاوس أخر الاستغفار إلى وقت السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء وقال الشعبي سوف أستغفر لكم ربي قال حتى أسأل يوسف فإن كان قد عفا عنكم أستغفر لكم ربي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ يعني لذنوب عباده الرَّحِيمُ بجميع خلقه قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تثريب عليكم الآية وقول يعقوب سوف أستغفر لكم ربي، قال أصحاب الأخبار إن يوسف عليه الصلاة والسلام بعث مع إخوته إلى أبيه مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوه بيعقوب وجميع أهله إلى مصر فلما أتوه تجهز يعقوب للخروج إلى مصر فجمع أهله وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وقال مسروق كانوا ثلاثة وسبعين فلما دنا يعقوب من مصر كلم يوسف الملك الأكبر يعني ملك مصر وعرفه بمجيء أبيه وأهله فخرج يوسف ومعه الملك في أربعة آلاف من الجند وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب عليه الصلاة والسلام وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يد ابنه يهوذا فلما نظر إلى الخيل والناس قال يا يهوذا هذا فرعون مصر قال لا بل هذا ابنك يوسف فلما دنا كل واحد من صاحبه أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام فقال له جبريل لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان، وقيل: إنهما نزلا وتعانقا وفعلا كما يفعل الوالد بولده والولد بوالده وبكيا، وقيل: إن يوسف قال لأبيه يا أبت بكيت حتى

[سورة يوسف (12): الآيات 99 إلى 100]

ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 99 الى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ يعني ضم إليه أَبَوَيْهِ قال أكثر المفسرين: هو أبوه يعقوب وخالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين وقال الحسن هما أبوه وأمه وكانت حية بعد، وقيل: إن الله أحياها ونشرها من قبرها حتى تسجد ليوسف تحقيقا لرؤياه والأول أصح وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ قيل المراد بالدخول الأول في قوله فلما دخلوا على يوسف أرض مصر وذلك حين استقبلهم ثم قال ادخلوا مصر يعني البلد وقيل إنه أراد بالدخول الأول دخولهم مصر وأراد بالدخول الثاني الاستيطان بها أي أدخلوا مصر مستوطنين فيهما إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ قيل إن هذا الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وقيل إنه عائد إلى الدخول فعلى هذا يكون قد قال ذلك لهم قبل أن يدخلوا مصر، وقيل: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الاستغفار فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقيل إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم فقال لهم يوسف ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم إن شاء الله فعلى هذا يكون قوله إن شاء الله للتبرك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع علمه أنه لا حق بهم وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ يعني على السرير الذي كان يجلس عليه يوسف والرفع النقل إلى لعلو وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعني يعقوب وخالته ليا وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع ولم يرد به حقيقة السجود من وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة. فإن قلت كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يسجد له أبوه وهو أكبر منه وأعلى منصبا في النبوة والشيخوخة؟ قلت: يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك لتحقيق رؤياه، ثم في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أنه كان انحناء على سبيل التحية كما تقدم فلا إشكال فيه، والقول الثاني أنه كان حقيقة السجود وهو وضع الجبهة على الأرض وهو مشكل لأن السجود على هذه الصورة لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى، وأجيب عن هذا الإشكال بأن السجود كان في الحقيقة لله تعالى على سبيل الشكر له وإنما كان يوسف كالقبلة كما سجد الملائكة لآدم ويدل على صحة هذا التأويل قوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وظاهر هذا يدل على أنهم لما صعدوا على السرير خروا سجدا لله تعالى ولو كان ليوسف لكان قبل الصعود لأن ذلك أبلغ في التواضع. فإن قلت يدفع صحة هذا التأويل قوله «رأيتهم لي ساجدين» وقوله «خروا له سجدا» فإن الضمير يرجع إلى أقرب المذكورات وهو يوسف عليه الصلاة والسلام. قلت: يحتمل أن يكون المعنى وخروا لله سجدا لأجل يوسف واجتماعهم به وقيل يحتمل أن الله أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية وهي أن إخوة يوسف ربما احتملتهم الأنفة والتكبر عن السجود ليوسف فلما رأوا أن أباهم قد سجد له سجدوا له أيضا فتكون هذه السجدة على سبيل التحية والتواضع لا على سبيل العبادة وكان ذلك جائزا في ذلك الزمان فلما جاء الإسلام نسخت هذه الفعلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وَقالَ

يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة، وقال أبو صالح عن ابن عباس: اثنتان وعشرون سنة، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي: ست وثلاثون سنة، وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة، وقال عبد الله بن سودون: سبعون سنة، وقال الفضيل بن عياض: ثمانون سنة، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن: أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله وَقَدْ أَحْسَنَ بِي يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالا للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سببا لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سببا لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يعني من البادية وأصل البدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لافساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة «قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها. قال صاحب المفردات: وقد يعبر باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفة بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم، وقوله: إن ربي لطيف لما يشاء، أي حسن الاستخراج تنبيها على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب. وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ يعني بمصالح عباده الْحَكِيمُ في جميع أفعاله. قال أصحاب الأخبار والتواريخ: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام عند يوسف بمصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليه السلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر. قالوا لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة فقال:

[سورة يوسف (12): آية 101]

[سورة يوسف (12): آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) رَبِّ أي يا رب قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ يعني من ملك مصر ومن هنا للتبعيض لأنه لم يؤت ملك مصر كله بل كان فوقه ملك آخر والملك عبارة عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ يعني تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. وأصل الفطر الشق يقال فطر ناب البعير إذا شق وظهر وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه أَنْتَ وَلِيِّي يعني معيني ومتولي أمري فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً أي اقبضني إليك مسلما. واختلفوا هل هو طلب للوفاة في الحال أم لا على قولين: أحدهما: أنه سأل الله الوفاة في الحال، قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف قال أصحاب هذا القول وإنه لم يأت عليه أسبوع حتى توفي. والقول الثاني: أنه سأل الوفاة على الإسلام ولم يتمن الموت في الحال قال الحسن إنه عاش بعد هذه سنين كثيرة فعلى هذا القول يكون معنى الآية توفني إذا توفيتني على الإسلام فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال، قال بعض العلماء وكلا القولين محتمل لأن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاذ له ولا زوال ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وسلم «لا يتمن أحدكم الموت لضر نزل به» فإن تمني الموت عند وجود الضر ونزول البلاء مكروه والصبر عليه أولى وقوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أراد به بدرجة آبائه وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام قال علماء التاريخ عاش يوسف مائة وعشرين سنة وفي التوراة مائة وعشر سنين وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب وقيل عاش بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر. ولما مات يوسف عليه الصلاة والسلام دفنوه في النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر وذلك أنه لما مات يوسف تشاحن الناس فيه فطلب كل أهل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا أن يقتتلوا ثم رأوا أن يدفنوه في النيل بحيث يجري الماء عليه ويتفرق عنه وتصل بركته إلى جميعهم وقال عكرمة إنه دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب وأجدب الجانب الأيمن فدفنوه في وسط النيل وقدروه بسلسلة فأخصب الجانبان فبقي إلى أن أخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة. [سورة يوسف (12): الآيات 102 الى 106] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) قوله عز وجل: ذلِكَ يعني الذي ذكرت لك يا محمد من قصة يوسف وما جرى له مع إخوته، ثم إنه صار إلى الملك بعد الرق مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ يعني الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك يا محمد وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان رجلا أميا لم

[سورة يوسف (12): الآيات 107 إلى 109]

يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي أنشأ فيه صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ بين أمة أمية مثله، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب وأبين معان وأفصح عبارة فعلم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر. وقوله تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يعني وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ يعني حين عزموا على إلقاء يوسف صلى الله عليه وسلم في الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ يعني بيوسف وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وما أكثر الناس يا محمد لو حرصت على إيمانهم بمؤمنين وذلك أن اليهود وقريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم بها على وفق ما عندهم في التوراة لم يسلموا فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقيل له إنهم لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم ففيه تسلية له وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ يعني على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله من أجر يعني أجرا وجعلا على ذلك إِنْ هُوَ أي ما هو يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ يعني عظة وتذكيرا لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ يعني وكم من آية دالة على التوحيد فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها يعني لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ أي لا يلتفتون إليها والمعنى ليس إعراضهم عن هذه الآيات الظاهرة الدالة على وحدانية الله تعالى بأعجب من إعراضهم عنك يا محمد وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ يعني أن من إيمانهم أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله وإذا قيل لهم من ينزل المطر قالوا الله وهم مع ذلك يعبدون الأصنام. وفي رواية عن ابن عباس: إنهم يقرون أن الله خالقهم فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره فذلك شركهم، وفي رواية أخرى عنه أيضا أنها نزلت في تلبية مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال عطاء هذا في الدعاء وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء. [سورة يوسف (12): الآيات 107 الى 109] أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ يعني عقوبة مجللة تعمهم وقال مجاهد عذاب يغشاهم، وقال قتادة: وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يعني فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني بقيامها قال ابن عباس: تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم قُلْ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين هذِهِ سَبِيلِي يعني طريقي التي أَدْعُوا إليها وهي توحيد الله عز وجل ودين الإسلام وسمي الدين سبيلا لأنه الطريق المؤدي إلى الله عز وجل وإلى الثواب والجنة إِلَى اللَّهِ يعني إلى توحيد الله والإيمان به عَلى بَصِيرَةٍ يعني على يقين ومعرفة والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني من آمن بي وصدق بما جئت به أيضا يدعو إلى الله، وهذا قول الكلبي وابن زيد قال: حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن وقيل تم الكلام عند قوله أدعو إلى الله ثم استأنف على بصيرة أنا ومن اتبعني بعدي أنا على بصيرة ومن اتبعني أيضا على بصيرة قال ابن عباس إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن.

[سورة يوسف (12): الآيات 110 إلى 111]

وقال ابن مسعود: ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم. وقوله سُبْحانَ اللَّهِ أي وقل سبحان الله يعني تنزيها له عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء الأضداد والأنداد وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني وقل يا محمد وما أنا من المشركين الذين أشركوا بالله غيره. قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا يعني وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا مثلك ولم يكونوا ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ هذا جواب لأهل مكة حيث قالوا هلا بعث الله ملكا والمعنى كيف تعجبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أهل الأمصار والمدن لا من أهل البوادي لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلا من أهل البوادي، قال الحسن: لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء، وقيل: إنما لم يبعث الله نبيا من البادية لغلظهم وجفائهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني هؤلاء المشركين المكذبين فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كانت عاقبتهم الهلاك لما كذبوا رسلنا فليعتبر هؤلاء بهم وما حل بهم من عذابنا وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يعني فعلنا هذا بأوليائنا وأهل طاعتنا إذ أنجيناهم عند نزول العذاب بالأمم المكذبة وما في الدار الآخرة خير لهم يعني الجنة لأنها خير من الدنيا وإنما أضاف الدار إلى الآخرة وإن كانت في الآخرة لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم حق اليقين والحق هو اليقين نفسه أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنون. [سورة يوسف (12): الآيات 110 الى 111] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) قوله عز وجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ قال صاحب الكشاف: حتى متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فتراخى نصرهم حتى إذا استيأس الرسل عن النصر، وقال الواحدي: حتى هنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها والمعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرأ أهل الكوفة وهم عاصم وحمزة والكسائي كذبوا بالتخفيف ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي أن معناه ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد، وقال أهل المعاني كذبوا من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك ومنه قوله تعالى وقعد الذين كذبوا الله ورسوله قال أبو علي والضمير في قوله وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم والتقدير وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس إنهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من امهال الله إياهم ولا يمتنع حمل الضمير في ظنوا على المرسل إليهم وإن لم يتقدم لهم ذكر لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي مكذبي الرسل والظن هنا على معنى التوهم والحسبان وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم وقيل معناه وتيقن الرسل أنهم قد كذبوا في وعد قومهم إياهم الإيمان أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا

وقال صاحب الكشاف وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حتى حدثتهم بأنهم لا ينصرون أو رجاؤهم كقولهم رجاء صادق ورجاء كاذب والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة وانتظار النصر من الله تعالى وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب، وعن ابن عباس: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر قال وكانوا بشرا وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. قال صاحب الكشاف: فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلف الميعاد وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال هذا غير معول عليه من جهتين إحداهما أن التفسير ليس عن ابن عباس لكنه من متأول تأول عليه والأخرى أن قوله جاءهم نصرنا دال على أن أهل الكفر ظنوا ما لا يجوز مثله واستضعفوا رسل الله ونصر الله للرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيما ولا يستحقون ظفرا ولا نصرا وتبرئة الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلا وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبوا بالتشديد ووجه ظاهر وهو أن معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا يعني وأيقنوا يعني الرسل أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم فالظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء واستبطئوا النصر أتاهم النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم يعني وظنوا بالرسل ظن حسبان أن ربهم قد كذبهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخره عنهم ولطول البلاء بهم لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلا وقيل إن هذا التكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى اليقين والتكذيب المتيقن هو من جهة الكفار وعلى القولين جميعا فالكناية في وظنوا للرسل (خ) عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة عن قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أو كذبوا، قالت: بل كذبهم قومهم فقلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت يا عروة أجل لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها قد كذبوا فقالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك من ربهم قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وفي رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: قال ابن عباس حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا خفيفة قال ذهب لها هنالك وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب قال فلقيت عروة بن الزبير وذكرت ذلك له فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله ورسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم فكانت تقرؤها وظنوا أنهم قد كذبوا مثقلة. وقوله تعالى: جاءَهُمْ نَصْرُنا يعني جاء نصر الله النبيين فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ من عبادنا يعني عند نزول العذاب بالكافرين فننجي المؤمنين المطيعين وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا يعني عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين قوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ يعني في خبر يوسف وإخوته عِبْرَةٌ أي موعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني يتعظ بها أولو الألباب والعقول الصحيحة ومعناه الاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد والمراد من التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه وإخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد

المدة الطويلة واليأس من الاجتماع لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب فكانت معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله تعالى قال في أول هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص وقال في آخرها لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فدل على هذه القصة من أحسن القصص وإن فيها عبرة لمن اعتبرها ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى يعني ما كان هذا القرآن حديثا يفتري ويختلق لأن الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه أو يختلقه لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخلط العلماء ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز فدل ذلك على صدقه وأنه ليس بمفتر وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة من السماء من التوراة والإنجيل وفيه إشارة إلى أن هذه القصة وردت على وجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يعني أن هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم وَهُدىً يعني إلى كل خير وَرَحْمَةً يعني أنزلناه رحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم الذين ينتفعون به والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الثالث من تفسير الخازن ويليه الجزء الرابع وأوله: تفسير سورة الرعد

سورة الرعد

الجزء الثالث سورة الرعد قال ابن الجوزي: اختلفوا في نزولها على قولين: أحدهما أنها مكية، رواه أبو طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتين إحداهما قوله وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ والأخرى قوله وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا. والقول الثاني أنها مدنية رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد وروي عن ابن عباس أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة، وهما قوله وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ إلى آخر الآيتين وقال بعضهم: المدني منها قوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ إلى قوله دَعْوَةُ الْحَقِّ وهي ثلاث وقيل خمس وأربعون آية وثمانمائة وخمس وخمسون كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الرعد (13): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) قوله عز وجل المر قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه أنا الله أعلم وأرى. وروى عطاء عنه أنه قال: إن معناه أنا الله الملك الرحمن تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الإشارة بتلك إلى آيات السورة المسماة بالمر، والمراد بالكتاب السورة أي آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ثم قال تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه، وقيل المراد بالإشارة في قوله: تلك الأخبار والقصص أي الأخبار والقصص التي قصصتها عليك يا محمد هي آيات التوراة والإنجيل والكتب الإلهية القديمة المنزلة، والذي أنزل إليك يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك الحق أي هو الحق فاعتصم به وقال ابن عباس وقتادة: أراد بآيات الكتاب القرآن، والمعنى: هذه آيات الكتاب الذي هو القرآن ثم قال: والذي أنزل إليك من ربك الحق، يعني: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق لا شك فيه ولا تناقض وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ يعني مشركي مكة نزلت هذه الآية في الرد عليهم حين قالوا إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه، ثم ذكر من دلائل ربوبيته وعجائب قدرته ما يدل على وحدانيته فقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عمود وهي الأساطين والدعائم التي تكون تحت السقف وفي قوله: تَرَوْنَها قولان أحدهما أن الرؤية ترجع إلى السماء يعني: وأنتم ترون السموات مرفوعة بغير عمد من تحتها يعني ليس من دونهما دعامة تدعمها ولا من فوقها علاقة تمسكها، والمراد نفي العمد بالكلية. قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة، وهذا قول الحسن وقتادة وجمهور المفسرين، وإحدى الروايتين عن ابن عباس. والقول الثاني: إن الرؤية ترجع

[سورة الرعد (13): الآيات 3 إلى 7]

إلى العمد، والمعنى أن لها عمدا ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: إن عمدها على جبل قاف، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة، وهذا قول مجاهد وعكرمة والرواية الأخرى عن ابن عباس، والقول الأول أصح، وقوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تقدم تفسيره والكلام عليه في سورة الأعراف بما فيه كفاية وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران، يجريان على ما يريد كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى وقت معلوم، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما يعني أنهما يجريان في منازلهما ودرجاتهما إلى غاية ينتهيان إليها ولا يجاوزانها، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيرا خاصا إلى جهة بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يعني أنه تعالى يدبر أمر العالم العلوي والسفلي، ويصرفه ويقضيه بمشيئته، وحكمته، على أكمل الأحوال لا يشغله شأن عن شأن، وقيل: يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، ففيه دليل على كمال القدرة والرحمة، لأن جميع العالم محتاجون إلى تدبيره ورحمته، داخلون تحت قهره وقضائه وقدرته يُفَصِّلُ الْآياتِ يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته. وقيل: إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السموات والأرض وما فيهما من العجائب وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم وهذا قد تقدم ذكره. والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا، وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه استيقن وأيقن بمعنى علم. قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 3 الى 7] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ لما ذكر الدلالة على وحدانيته وكمال قدرته وهي رفع السموات بغير عمد، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية، فقال: وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء، وقيل: كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة: الأرض كرة، ويمكن أن يقال: إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فكل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلا وأبين دليلا من أصحاب الهيئة وَجَعَلَ فِيها. يعني في الأرض رَواسِيَ يعني جبالا ثابتة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس:

كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض وَأَنْهاراً، يعني وجعل في الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلوا وحامضا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته لَآياتٍ أي دلالات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء، وقال صاحب المفردات: الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» إذ كان الله منزلها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها. قوله عز وجل وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ يعني متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع وَجَنَّاتٌ يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في عمه العباس «عم الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ يعني أشجار الجنات وزروعها، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل: في حده جوهر سيال به قوام الأرواح وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله تعالى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قال: الدقل والنرسيان والحلو والحامض» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. قال مجاهد: هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد، وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلا. قيل: إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو، ولا تسمع. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته. قوله تعالى وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة، وقيل: العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل: العجب في حق الله محال لأنه تعالى علّام الغيوب لا تخفى عليه خافية، والخطاب في الآية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم، وقيل: معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السموات والأرض، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم. وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم، وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله، وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم أَإِذا كُنَّا تُراباً يعني بعد الموت أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني نعاد خلقا جديدا بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وفيه دليل على

[سورة الرعد (13): الآيات 8 إلى 11]

أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة، وأن الله على كل شيء قدير، ومن أنكر ذلك فهو كافر وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يعني يوم القيامة، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلا بالغل وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني أنهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم، وهو قولهم «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلا ليرتدع غيره به، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال ابن عباس: معناه إنه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه. وقال مجاهد: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من أهل مكة لَوْلا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد صلّى الله عليه وسلّم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف، وليس لك من الآيات شيء وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال ابن عباس: الهادي هو الله، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو الله يهدي من يشاء. وقال عكرمة في رواية أخرى عنه وأبو الضحى: الهادي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعنى: إنما أنت منذر وأنت هاد، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية: الهادي هو العمل الصالح. وقال أبو صالح: الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر. قوله عز وجل: [سورة الرعد (13): الآيات 8 الى 11] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآيات أخبرهم الله عز وجل عن عظيم قدرته، وكمال علمه وأنه عالم بما تحمل كل أنثى يعني من ذكر أو أنثى سويّ الخلق أو ناقص الخلق واحدا أو اثنين أو أكثر وَما تَغِيضُ يعني وما تنقص الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ قال أهل التفسير: غيض الأرحام الحيض على الحمل فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصانا في الولد لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم، فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم، وقيل: إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة فإن رأت خمسة أيام دما، وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل. وقيل: النقصان السقط والزيادة تمام الخلق. وقال الحسن: غيضها نقصانها من تسعة أشهر والزيادة زيادتها على تسعة أشهر فأقل مدة الحمل ستة أشهر وقد يولد لهذه المدة ويعيش. واختلفوا في أكثره فقال قوم: أكثر مدة الحمل سنتان، وهو قول عائشة، وبه قال أبو حنيفة وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين. وقال جماعة:

أكثرها أربع سنين وإليه ذهب الشافعي. وقال حماد بن أبي سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين، وعند مالك أن أكثر مدة الحمل خمس سنين وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ يعني بتقدير واحد لا يجاوزه، ولا ينقص منه. وقيل: إنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه. وقيل: معناه إنه تعالى خصص كل حادثة من الحوادث بوقت معين وحالة معينة وذلك بمشيئته الأزلية وإرادته وتقديره الذي لا يقدر عليه غيره عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى يعلم ما غاب عن خلقه، وما يشاهدونه. وقيل: الغيب هو المعدوم والشاهد هو الموجود. وقيل: الغيب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر في الحس الْكَبِيرُ أي العظيم الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه فهو يعود إلى معنى كبر قدرته، وأنه تعالى المستحق لصفات الكمال الْمُتَعالِ يعني المنزه عن صفات النقص المتعالي عن الخلق، وفيه دليل على أنه تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامة وتنزيهه عن جميع النقائص. قوله تعالى سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي مستو منكم من أخفى القول وكتمه ومن أظهره وأعلنه، والمعنى أنه قد استوى في علم الله تعالى المسرّ بالقول والجاهر به وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي مستتر بظلمته وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ذاهب بالنهار في سربه ظاهر. والسرب بفتح السين وسكون الراء الطريق. وقال القتيبي: السارب المتصرف في حوائجه. قال ابن عباس في هذه الآية: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وقيل: مستخف بالليل ظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا كتمته وسارب بالنهار أي متوار دخل في السرب مستخفيا، ومعنى الآية: سواء ما أضمرت به القلوب أو نطقت به الألسن، وسواء من أقدم على القبائح مستترا في ظلمات الليل أو أتى بها ظاهرا في النهار فان علمه تعالى محيط بالكل لَهُ مُعَقِّباتٌ يعني: لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل عقبتها ملائكة النهار والتعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر معقبات بلفظ التأنيث، وإن كان الملائكة ذكورا لأن واحدها معقب، وجمعها معقبة ثم جمع المعقبة معقبات. كما قيل أبناوات سعد ورجالات بكر (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون. وقيل: إن مع كل واحد من بني آدم ملكين ملك عن يمينه، وهو صاحب الحسنات وملك عن شمال وهو كاتب السيئات وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل العبد حسنة كتبها له بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة قال صاحب الشمال لصاحب اليمين أكتبها عليه فيقول: انظره لعله يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات، فإن هو تاب منها وإلا قال: اكتبها عليه سيئة واحدة وملك موكل بناصية العبد فإذا تواضع العبد لله عز وجل رفعه بها، وإن تجبر على الله عز وجل وضعه بها وملك موكل بعينيه يحفظهما من الأذى وملك موكل بفيه لا يدعه يدخل فيه شيء من الهوام يؤذيه فهؤلاء خمسة أملاك موكلون بالعبد في ليله وخمسة غيرهم في نهاره، فانظر إلى عظمة الله تعالى وقدرته وكمال شفقته عليك أيها العبد المسكين. وهو قوله تعالى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني: يحفظون العبد من بين يديه ومن وراء ظهره، ومعنى من أمر الله بأمر الله وإذنه ما لم يجيء القدر فإذا جاء خلوا عنه. وقيل: معناه إنهم يحفظونه، بما أمر الله به من الحفظ له. قال مجاهد: ما من عبد إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه يؤذيه إلا قال له الملك وراءك، إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. وقال كعب الأحبار: لولا أن الله تعالى وكلّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وقال ابن جريج: معنى يحفظونه أي يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وهذا على قول من يقول: إن الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات، وقال عكرمة: الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم، ومن خلفهم والضمير في قوله له راجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس في

[سورة الرعد (13): الآيات 12 إلى 13]

معنى هذه الآية: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من شر الجن وطوارق الليل والنهار. وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، وهما من بني عامر بن زيد وكانت قصتهما على ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال: «أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة وهما من بني عامر بن زيد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه فدخل المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان من أجمل الناس وكان أعور فقال: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: دعه فان يرد الله به خيرا يهده فأقبل حتى قام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين. قال: تجعل الأمر لي بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما ذلك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: لا قال: فما تجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أو ليس ذلك لي اليوم قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عامر قد أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل عامر يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويراجعه ودار أربد من خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضربه، فاخترط شبرا من سيفه ثم حبسه الله تعالى عليه فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال: اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته فولى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلا جردا وشبابا مردا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يمنعني الله من ذلك وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج، فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه، فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية، ثم ركب فرسه وجعل يركض في الصحراء، ويقول: ادن يا ملك الموت وجعل يقول الشعر، ويقول لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله إليه ملكا فلطمه، فأرداه في التراب ثم عاد فركب جواده حتى مات على ظهره، وأجاب الله عز وجل دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عامر بن الطفيل فمات بالطعن، وأربد بن ربيعة مات بالصاعقة وأنزل الله عز وجل في شأن هذه القصة سواء منكم من أسر القول، ومن جهر به إلى قوله له معقبات من بين يديه، ومن خلفه يعني لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم معقبات يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه من أمر الله أي بأمر الله وقيل: إن تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديم وتأخير تقديره له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ خطاب لهذين عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، يعني لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة التي أنعم بها عليهم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ يعني: من الحالة الجميلة فيعصون ربهم، ويجحدون نعمه عليهم فعند ذلك تحل نقمته بهم، وهو قوله تعالى وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً يعني هلاكا وعذابا فَلا مَرَدَّ لَهُ يعني لا يقدر أحد أن يرد ما أنزل الله بهم من قضائه وقدره وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ يعني وليس لهم من دون الله من وال يلي أمرهم ونصرهم ويمنع العذاب عنهم قوله عز وجل: [سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 13] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً لما خوف الله عز وجل عباده بقوله: وإذا أراد الله بقوم سوءا ذكر في هذه الآية من عظيم قدرته ما يشبه النعم من وجه يشبه العذاب من وجه، فقال تعالى: هو الذي يعني هو الذي يريكم البرق والبرق معروف، وهو لمعان يظهر من خلال السحاب وفي كونه خوفا وطمعا وجوه: الأول إن عند

لمعان البرق يخاف من الصواعق، ويطمع في نزول المطر. الثاني: أنه يخاف من البرق من يتضرر بالمطر كالمسافر ومن في جرينه يعني بيدره التمر والزبيب والقمح ونحو ذلك، ويطمع فيه من له في نزول المطر نفع كالزارع ونحوه. الثالث: أن المطر يخاف منه إذا كان في غير مكانه وزمانه، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وزمانه فان من البلاد ما إذا أمطرت قحطت وإذا لم تمطر أخصبت وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ يعني المطر. يقال: أنشأ الله السحابة فنشأت أي أبداها فبدت والسحاب جمع سحابة، والسحاب غربال الماء، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: السحاب الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء. ولهذا قيل: سحاب جهام وهو الخالي من الماء وأصل السحب الجر وسمي السحاب سحابا إما لجر الريح له أو لجره الماء أو لانجراره في سيره وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أكثر المفسرين على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب، والصوت المسموع منه تسبيحه. وأورد على هذا القول ما عطف عليه. وهو قوله وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وإذا كان المعطوف مغايرا للمعطوف عليه وجب أن يكون غيره. وأجيب عنه أنه لا يبعد أن يكون الرعد اسما لملك من الملائكة وإنما أفرده بالذكر تشريفا له على غيره من الملائكة، فهو كقوله: وملائكته وجبريل وميكال. قال ابن عباس: أقبلت يهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا أخبرنا عن الرعد ما هو قال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث يشاء الله» قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: «زجره السحاب حتى تنتهي حيث أمرت» قالوا صدقت. أخرجه الترمذي مع زيادة فيه. المخاريق: جمع مخراق، وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، وأراد به هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وقد جاء تفسيره في حديث آخر وهو صوت «1» من نور تزجر الملائكة به السحاب، قال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير. فإن أصابه صاعقة فعلي ديته، وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته وكان يقول إن الوعيد لأهل الأرض شديد. وفي بعض الأخبار أن الله تعالى يقول: «لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد» وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وإن بحور الماء في نقرة إبهامه، وإنه يسبح الله فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر، وقيل: إن الرعد اسم لصوت الملك الموكل بالسحاب، ومع ذلك فإن صوت الرعد يسبح الله عز وجل لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه لله عز وجل عن جميع النقائص، ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن جميع النقائص، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة تسبيحا ومنه قوله: وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقيل المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبح الله فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه، وقوله والملائكة من خيفته يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وهيبته وخشيته، وقيل: المراد بهذه الملائكة أعوان السحاب جعل الله عز وجل مع الملك الموكل بالسحاب أعوانا من الملائكة، وهم خائفون خاضعون طائعون. وقيل: المراد بهم جميع الملائكة وحمله على العموم أولى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة، وهي العذاب النازل من البرق فيحترق من تصيبه وقيل: هي الصوت الشديد النازل من الجو ثم يكون فيه نار أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء الثلاثة تنشأ منها فَيُصِيبُ بِها يعني بالصواعق مَنْ يَشاءُ يعني فيهلك بها كما أصاب أربد بن ربيعة. قال محمد الباقر: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يعني يخاصمون في الله. وقيل: المجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله

_ (1). قوله صوت لعله سوط كما يقتضيه السياق اهـ مصححة.

[سورة الرعد (13): الآيات 14 إلى 17]

نزلت في شأن أربد بن ربيعة حين قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: مم ربك أمن در أم من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته. وسئل الحسن عن قوله: ويرسل الصواعق الآية فقال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا من أصحابه يدعونه إلى الله، وإلى رسوله فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه، هل هو من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم كلامه فانصرفوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه. فقال: ارجعوا إليه فرجعوا فلم يزدهم على مقالته الأولى شيئا بل قال: أأجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى شيئا بل أخبث. فقال: ارجعوا إليه فرجعوا إليه فبينما هم عنده يدعونه وينازعونه، وهو لا يزيدهم على مقالته شيئا إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر، وهم جلوس عنده فرجعوا ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما رجعوا استقبلهم نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لهم: احترق صاحبكم قالوا: من أين علمتم ذلك؟ قالوا قد أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله. واختلفوا في هذه الواو، فقيل: واو الحال فيكون المعنى فيصيب بها من يشاء في حال جداله في الله وذلك إن أريد لما جادل في الله، أهلكه الله بالصاعقة، وقيل: إنها واو الاستئناف فيكون المعنى أنه تعالى لما تمم ذكر الدلائل قال: بعد ذلك وهم يجادلون في الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي شديد الأخذ بالعقوبة، من قولهم يمحل به محلا إذا أراد به سوءا، وقيل: هو من قولهم يمحل به إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل إذا تكلف استعمال الحيلة، واجتهد فيه فيكون المعنى أنه سبحانه وتعالى شديد المحال بأعدائه حتى يهلكهم بطريق لا يعرفونه ولا يتوقعونه. وقيل: المحل من المحول وهو الحيلة، والميم زائدة ثم اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله شديد المحال فقال الحسن: معناه شديد النقمة. وقال مجاهد وقتادة: شديد القوة. وقال ابن عباس: شديد الحول. وقيل شديد العقوبة وقيل معناه شديد الجدال. وذلك أنه لما أخبر عنهم أنهم يجادلون في الله أخبر أنه أشد جدالا منهم. قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 14 الى 17] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ يعني لله دعوة الصدق، قال على دعوة الحق التوحيد، وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. قال صاحب الكشاف دعوة الحق فيها وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إليه في قولك كلمة الحق. للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل والمعنى أن الله تعالى يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله إن كان مصلحة له فكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقا بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا نفع فيه ولا جدوى فيرد دعاءه. الثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب، وعن

الحسن: الله هو الحق وكل دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت: ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبلهما. قلت: أما على قصة أربد فظاهر لأن إصابته بالصاعقة كانت بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه دعا عليه وعلى صاحبه عامر بن الطفيل فأجيب فيهما فكانت الدعوة دعوة حق، وأما على قوله وهم يجادلون في الله فوعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإجابة دعائه إن دعا عليهم. وقيل في معنى الآية: الدعاء بالإخلاص، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني والذين يدعونهم آلهة من دون الله، وهي الأصنام التي يعبدونها لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يعني لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرر إن دعوهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ يعني إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب دعاءه أو يبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطهما ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا، ولم يبلغ طلبته من شربه وقيل إن القابض على الماء ناشرا أصابعه لا يكون في يده منه شيء، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء كذلك الذي يدعو الأصنام لأنها لا تضر ولا تنفع ولا يفيده منها شيء. وقيل شبه: بالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد بعينيه، فهو يشير بكفيه إلى الماء ويدعوه بلسانه فلا يأتيه أبدا هذا معنى قول مجاهد، وعن عطاء كالعطشان الجالس على شفير البئر وهو يمد يديه إلى البئر فلا هو يبلغ إلى قعر البئر ليخرج الماء، ولا الماء يرتفع إليه فلا ينفعه بسطه الكف إلى الماء ودعاؤه له، ولا هو يبلغ فاه كذلك الذي يدعون الأصنام لا ينفعهم ذلك. وقال ابن عباس: كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما من الماء ولا يبلغ الماء فاه مادام باسط كفيه، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ودعائهم الأصنام حين لا ينفعهم البتة ثم ختم هذا بقوله وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ يعني أصنامهم إِلَّا فِي ضَلالٍ يعني يضل عنهم إذا احتاجوا إليه، قال ابن عباس في هذه الآية أصواتهم محجوبة عن الله تعالى. قوله عز وجل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد منه السجود على الحقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض، ثم على هذا القول ففي معنى الآية وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد منه الخصوص، فقوله: ولله يسجد من في السموات يعني الملائكة ومن في الأرض من الإنس يعني المؤمنين طوعا وكرها، يعني من المؤمنين من يسجد لله طوعا وهم المؤمنون المخلصون لله العبادة، وكرها يعني المنافقين الداخلين في المؤمنين وليسوا منهم فان سجودهم لله على كره منهم، لأنهم لا يرجون على سجودهم ثوابا ولا يخافون على تركه عقابا بل سجودهم وعبادتهم خوف من المؤمنين. الوجه الثاني: هو حمل اللفظ على العموم، وعلى هذا ففي اللفظ إشكال، وهو أن جميع الملائكة والمؤمنين من الجن والإنس يسجدون لله طوعا، ومنهم من يسجد كرها كما تقدم وأما الكفار من الجن والإنس، فلا يسجدون لله البتة فهذا وجه الإشكال. والجواب عنه أن المعنى أنه يجب على كل من في السموات ومن في الأرض أن يسجد لله، فعبر بالوجوب عن الوقوع والحصول. وجواب آخر وهو أن يكون المراد من هذا السجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية، وكل من في السموات من ملك ومن في الأرض من إنس وجن، فإنهم يقرون لله بالعبودية والتعظيم ويدل عليه قوله تعالى «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله». والقول الثاني: في معنى هذا السجود هو الانقياد والخضوع وترك الامتناع فكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى، وهذا الاعتبار لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل فهم خاضعون مناقدون له. وقوله تعالى وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ الغدوة والغداة أول النهار، وقيل: إلى نصف النهار والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصل، وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. قال المفسرون: إن ظل كل شخص يسجد لله ظل المؤمن والكافر. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعا وهو طائع وظل

(فصل)

الكافر يسجد لله كرها، وهو كاره. وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولا وأفهاما تسجد بها وتخشع كما جعل للجبال أفهاما حتى سبحت لله مع داود، وقيل: المراد بسجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب آخر، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال تعظم، وتكثر في هذين الوقتين، وقيل: لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما. (فصل) وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة والله أعلم. قوله تعالى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله من رب السموات والأرض، يعني من مالك السموات والأرض، ومن مدبرهما وخالقهما فسيقولون: الله لأنهم مقرون بأن الله خالق السموات وما فيها، والأرض، وما فيها فإن أجابوك بذلك فقل: أنت يا محمد الله رب السموات والأرض. وقيل: لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه وقالوا أجب أنت فأمره الله أن يجيبهم بقوله قُلِ اللَّهُ أي قل يا محمد اللَّهُ وقيل: إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله الله فكأنهم قالوا ذلك أيضا ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله قُلْ أي قل يا محمد للمشركين أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ يعني من دون الله أَوْلِياءَ يعني الأصنام والولي الناصر، والمعنى توليتم غير رب السموات والأرض واتخذتموهم أنصارا يعني الأصنام لا يَمْلِكُونَ يعني وهم لا يملكون لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا فكيف لغيرهم. ثم ضرب الله مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام وللمؤمنين الذين يعبدون الله. فقال تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ قال ابن عباس: يعني المشرك والمؤمن أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ يعني الشرك والإيمان والمعنى كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن وكما لا تستوي الظلمات والنور كذلك لا يستوي الكفر والإيمان، وإنما شبه الكافر بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي سبيلا، كذلك الكافر لا يهتدي سبيلا أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ هذا استفهام إنكار يعني جعلوا لله شركاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ يعني خلقوا سموات وأرضين وشمسا وقمرا وجبالا وبحارا وجنا وإنسا فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ من هذا الوجه، والمعنى هل رأوا غير الله خلق شيئا فاشتبه عليهم خلق الله بخلق غيره، وقيل: إنه تعالى وبخهم بقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا خلقا مثل خلقه فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، وهذا استفهام إنكاري أي ليس الأمر كذلك حتى يشتبه عليهم الأمر، بل إذا تفكروا بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء والشركاء مخلوقون له أيضا لا يخلقون شيئا حتى يشتبه خلق الله بخلق الشركاء، وإذا كان الأمر كذلك فقد لزمتهم الحجة، وهو قوله تعالى قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الله خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقا، وقوله الله خالق كل شيء من العموم الذي يراد به الخصوص لأن الله تعالى خلق كل شيء وهو غير مخلوق وَهُوَ الْواحِدُ يعني والله تعالى هو الواحد المنفرد بخلق الأشياء كلها الْقَهَّارُ لعباده حتى يدخلهم تحت قضائه وقدره وإرادته. وقوله عز وجل: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لما شبه الله عز وجل الكافر بالأعمى والمؤمن بالبصير وشبه الكفر بالظلمات، والإيمان بالنور ضرب لذلك مثلا فقال تعالى: أنزل من السماء ماء يعني المطر فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أودية جمع واد وهو المفرج بين الجبلين يسيل فيها الماء وقوله: فسالت أودية فيه اتساع، وحذف تقديره فسال في الوادي فهو كما يقال جري النهر والمراد جرى الماء في النهر فحذف في لدلالة الكلام عليه بقدرها. قال مجاهد بمثلها وقال ابن جريج: الصغير بقدره والكبير بقدره، وقيل: بمقدار مائها وإنما نكر أودية لأن المطر إذا نزل لا يعم جميع

الأرض، ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون واد. فلهذا السبب جاء هذا بالتنكير. وقال ابن عباس: أنزل من السماء ماء يعني قرآنا وهذا مثل ضربه الله تعالى فسالت أودية بقدرها يريد بالأودية القلوب شبه نزول القرآن الجامع للهدى والنور، والبيان بنزول المطر لأن المطر إذا نزل عمّ نفعه وكذلك نزول القرآن وشبه القلوب بالأودية، لأن الأودية يستكن فيها الماء وكذلك القلوب يستكن فيها الإيمان والعرفان ببركة نزول القرآن فيها، وهذا خاص بالمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بنزول القرآن (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فتعلم، وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله، وغيره في معنى هذا الحديث وشرحه أما الكلأ فباغمز يقع على الرطب واليابس من الحشيش، وأما قوله وكان منها أجادب فالجيم والدال المهملة والباء الموحدة كذا في الصحيحين، وهي الأرض التي لا تنبت الكلأ جمع جدب على غير قياس وقياسه أجدب، والجدب ضد الخصب. وقال الخطابي: هي التي تمسك الماء ولم يسرع فيه النضوب وفي رواية الهروي أخاذات بالخاء المعجمة والذال المعجمة جمع أخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء، وقوله: ورعوا كذا هو في صحيح مسلم من الرعي، ووقع في صحيح البخاري وزرعوا بزيادة زاي من الزرع والقيعان بكسر القاف جمع قاع وهو المستوي من الأرض، وقوله: فذلك مثل من فقه في دين الله يروى بضم القاف وهو المشهور وروي بكسرها ومعناه فهم الأحكام وأما معنى الحديث ومقصوده فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب مثلا لما جاء به من الهدى، والعلم بالأرض التي أصابها المطر. قال العلماء: والأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس لأنهم منها خلقوا، فالنوع الأول من أنواع الأرض الطيبة التي تنتفع بالمطر فتنبت به العشب فينتفع الناس به والدواب بالشرب والرعي وغير ذلك وكذلك النوع الأول من الناس من يبلغه الهدى من غير ذلك من العلم فيحيا به قلبه ويحفظه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع به وينفع غيره. قال مسروق: صحبت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدتهم كالأخاذات لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم. النوع الثاني من أنواع الأرض: أرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة لغيرها، وهي إمساك الماء لغيرها لينتفع به الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة فيبقى ما عندهم من العلم حتى يجيء المحتاج إليه المتعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به هو وغيره، النوع الثالث: من أنواع الأرض أرض سبخة لا تنبت مرعى ولا تمسك ماء كذلك النوع الثالث من الناس ليس لهم قلوب حافظة، ولا أفهام ثاقبة فإذا بلغهم شيء من العلم لا ينتفعون به في أنفسهم ولا ينفعون غيرهم والله أعلم. وقوله تعالى فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة، كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا رابِياً يعني عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليه، وها هنا تم المثل ثم ابتدأ بمثل آخر فقال تعالى وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ الإيقاد جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء ليذوب ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ يعني لطلب زينة، والضمير في قوله عليه يعود على الذهب والفضة، وإن لم يكونا مذكورين لأن الحلية لا تطلب إلا منهما أَوْ مَتاعٍ يعني أو لطلب متاع آخر مما ينتفع به كالحديد والنحاس والرصاص ونحوه مما يذاب وتتخذ منه الأواني وغيرها مما ينتفع له، والمتاع كل ما ويتمتع به. ويقال لكل ما ينتفع به في البيت كالطبق والقدر ونحو ذلك من الأواني: متاع زَبَدٌ مِثْلُهُ يعني أن ذلك الذي يوقد عليه في النار إذا أذيب، فله أيضا زبد مثل زبد الماء فالصافي من الماء ومن هذه الجواهر هو الذي ينتفع به وهو مثل الحق. والزبد من الماء ومن هذه الجواهر هو

[سورة الرعد (13): الآيات 18 إلى 21]

الذي لا ينتفع به، وهو مثل الباطل وهو قوله تعالى كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فالحق هو الجوهر الصافي الثابت، والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به وهو قوله فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يعني ضائعا باطلا والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه. وقيل: الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح الغيم إذا فرقته والمعنى أن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام التي تذاب فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يعني يثبت ويبقى ولا يذهب كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ قال أهل التفسير والمعاني: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل. فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء فيذهب الزبد ويبقى الماء الصافي الذي ينتفع به، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ويذهب العلو الذي هو الكدر، وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. فالباطل وإن علا في وقت فإنه يذهب هو وأهله، والحق يظهر هو وأهله. وقيل: هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ومثل الكافر وخبث اعتقاده كالزبد الذي لا ينتفع به البتة. وقيل: هذا مثل ضربه الله للنور الذي يحصل في قلوب العباد على ما قسم لها في الأزل لأن الوادي إذا سال كنس كل شيء فيه من النجاسات والمستقذرات، كذلك إذا سال وادي قلب العبد بالنور الذي قسم له على قدر إيمانه ومعرفته كنس كل ظلمة وغفلة فيه، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض يعني يذهب البواطل وهي الأخلاق المذمومة، وتبقى الحقائق وهي الأخلاق الحميدة كذلك يضرب الله الأمثال. وقوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 18 الى 21] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى قيل: اللام في للذين متعلقة بيضرب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذي استجابوا لربهم يعني أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده والإيمان به وبرسوله وللكافرين الذين لم يستجيبوا، فعلى هذا يكون قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم للفريقين من المؤمنين والكافرين وقيل تم الكلام عند قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم استأنف بقوله للذين استجابوا لربهم الحسنى. قال ابن عباس وجمهور المفسرين: يعني الجنة. وقيل: الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ يعني الكبار الذين استمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يعني لبذلوا ذلك كله فداء لأنفسهم من عذاب النار يوم القيامة أُولئِكَ يعني الذين لم يستجيبوا لربهم لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ قال إبراهيم النخعي: سوء الحساب أن يحاسب الرجل بذنبه كله ولا يغفر له منه شيء وَمَأْواهُمْ يعني في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني وبئس ما مهد لهم في الآخرة، وقيل: المهاد الفراش يعني وبئس الفراش يفرش لهم في جهنم. قوله تعالى أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني فيؤمن به ويعمل بما فيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعني أعمى البصيرة، لا أعمى البصر وهو الكافر فلا يؤمن بالقرآن ولا يعمل بما فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي جهل بن هشام. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل فالأول هو حمزة أو عمار والثاني هو أبو جهل وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصا، والمعنى: لا يستوي من

[سورة الرعد (13): الآيات 22 إلى 28]

يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي لرشد، وربما وقع في مهلكة وكذلك الكافر والجاهل لا يهتديان للرشد وهما واقعان في المهلكة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني إنما يتعظ ذوو العقول السليمة الصحيحة، وهم الذين ينتفعون بالمواعظ والأذكار. قوله عز وجل الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يعني الذي عاهدهم عليه وهو القيام بما أمرهم به، وفرضه عليهم وأصل العهد حفظ الشيء، ومراعاته حالا بعد حال وقيل أراد بالعهد ما أخذه على أولاد آدم حين أخرجهم من صلبه، وأخذ عليهم العهد والميثاق وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ بل يوفون به فهو توكيد لقوله الذين يوفون بعهد الله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قال ابن عباس: يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصل بينهم بالإيمان ولا يفرق بين أحد منهم والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم عن عبد الرحمن بن عوف. قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته أو قال بتتّه» أخرجه أبو داود والترمذي (ق). عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» صلة الرحم مبرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم وضده القطع، قوله: وان ينسأ له في أثره الأثر هنا الأجل سمي الأجل أثرا لأنه تابع للحياة وسابقها. ومعنى ينسأ: يؤخر والمراد به تأخير الأجل. وهو على وجهين: أحدهما أن يبارك الله في عمره فكأنما قد زاد فيه. والثاني أن يزيده في عمره زيادة حقيقية والله يفعل ما يشاء (ق) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يدخل الجنة قاطع» في رواية سفيان يعني «قاطع رحم» (خ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ليس الواصل بالمكافئ الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فان صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يعني أنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم، والخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ تقدم معناه. [سورة الرعد (13): الآيات 22 الى 28] وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) وَالَّذِينَ صَبَرُوا يعني على طاعة الله وقال ابن عباس: على أمر الله. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: صبروا عن الشهوات وعن المعاصي وقيل: حمله على العموم أولى فيدخل فيه الصبر على جميع النوائب والمأمورات من سائر العبادات والطاعات، وجميع أعمال البر وترك جميع المنهيات فيدخل فيه ترك جميع المعاصي من الحسد والحقد والغيبة، وغير ذلك من المنهيات، ويدخل فيه الصبر عن المباحات مثل

جميع الشهوات والصبر على ما نزل به من الأمراض والمصائب، وأصل الصبر حبس النفس عما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام يدخل تحته جميع ما ذكر، وإنما قيّد الصبر بقوله ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لأن الصبر ينقسم إلى نوعين: الأول الصبر المذموم وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر فليس ذلك داخلا تحت قوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لأنها لغير الله تعالى. النوع الثاني: الصبر المحمود وهو أن يكون الإنسان صابرا لله تعالى راضيا بما نزل به من الله طالبا في ذلك الصبر ثواب الله محتسبا أجره على الله فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله ابتغاء وجه ربهم يعني صبروا على ما نزل بهم تعظيما لله وطلب رضوانه وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني الصلاة المفروضة. وقيل: حمله على العموم أولى فيدخل صلاة الفرض والنفل والمراد بإقامتها إتمام أركانها وهيئاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً قال الحسن: المراد به الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها سرا، وإن كان متهما بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها علانية. وقيل: إن المراد بالسر ما يخرج من الزكاة بنفسه والمراد بالعلانية ما يؤديه إلى الإمام. وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع والمراد بالعلانية الزكاة الواجبة وحمله على العموم أولى وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، وهو معنى قوله: «إن الحسنات يذهبن السيئات» ويدل على صحة هذا التأويل ما جاء في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى خرج إلى الأرض» وقال ابن كيسان: يدفعون الذنب بالتوبة وقيل: لا يكافئون الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير وقال القتيبي معناه إذا سفه عليهم حلموا والسفه السيئة والحلم الحسنة، وقال قتادة: ردوا عليهم ردا معروفا. وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك: هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية قلت إنما هي تسع خلال فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة ولما ذكر الله عز وجل هذه الخلال من أعمال البر، ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب فقال تعالى أُولئِكَ يعني من أتى بهذه الأعمال لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ يعني الجنة والمعنى إن عاقبتهم دار الثواب جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار يعني بساتين إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به يَدْخُلُونَها يعني الدار التي تقدم وصفها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به، وإن لم يعمل بأعمالهم قاله ابن عباس. وقال الزجاج: إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة فعلى قول ابن عباس: معنى صلح صدق وآمن ووحد، وعلى قول الزجاج معناه أصلح في عمله قال الواحدي والصحيح: ما قاله ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخوله الجنة مع هؤلاء، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة، لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان صالحا في عمله، فهو يدخل الجنة. قال الإمام فخر الدين الرازي: قوله تعالى وأزواجهم ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وروي أنه لما كبرت سودة أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم طلاقها فسألته أن لا يفعل، ووهبت يومها لعائشة فأمسكها رجاء أن تحشر في جملة أزواجه فهو كالدليل على ما ذكرناه. وقوله تعالى وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ يعني من أبواب الجنة. وقيل من أبواب القصور، قال ابن عباس: يريد به التحية من الله والتحف والهدايا سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني يقولون: سلام عليكم فأضمر القول هاهنا لدلالة الكلام عليه بِما صَبَرْتُمْ يعني يقولون لهم: سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها في الدنيا وأدخلكم بما صبرتم في دار الدنيا على الطاعات، وترك

[سورة الرعد (13): الآيات 29 إلى 31]

المحرمات الجنة وقيل: إن السلام قول والصبر فعل ولا يكون القول ثوابا للفعل، فعلى هذا يكون قوله: سلام عليكم دعاء من الملائكة لهم يعني سلمكم الله بما صبرتم. قال مقاتل: إن الملائكة يدخلون عليهم في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف من الله تعالى. يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة موقوفا عليه قال: «إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك من ملائكة الله يستأذن فيقوم أدنى الخدم إلى الباب فإذا بالملك يستأذن فيقول: للذي يليه ملك يستأذن. ويقول الآخر: كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول ائذنوا له فيقول أقربهم إلى المؤمن ائذنوا له ويقول الذي يليه ائذنوا له وكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف» فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ يعني فنعم العقبى عقبى الدار. وقيل: معناه فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ لما ذكر الله أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات ذكر بعده أحوال الأشقياء، وما لهم من العقوبات فقال تعالى وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ونقض العهد ضد الوفاء به، وهذا من صفة الكفار لأنهم هم الذين نقضوا عهد الله يعني خالفوا أمره، ومعنى من بعد ميثاقه من بعد ما أوثقوه على أنفسهم بالاعتراف والقبول وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني ما بينهم وبين المؤمنين من الرحم والقرابة وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعني بالكفر والمعاصي أُولئِكَ يعني من هذه صفته لَهُمُ اللَّعْنَةُ يعني الطرد عن رحمة الله يوم القيامة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني النار لأن منقلب الناس في العرف إلى دورهم، ومنازلهم، فالمؤمنون لهم عقبى الدار وهي الجنة، والكفار لهم سوء الدار وهي النار. قوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يعني يوسع على من يشاء من عباده فيغنيه من فضله، ويضيق على من يشاء من عباده فيفقره ويقتر عليه، وهذا أمر اقتضته حكمة الله وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يعني مشركي مكة لما بسط الله عليهم الرزق أشروا وبطروا، والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المشتهى. وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ يعني بالنسبة إلى الآخرة إِلَّا مَتاعٌ أي قليل ذاهب. قال الكلبي: المتاع مثل السكرجة والقصعة والقدر ينتفع بها في الدنيا ثم تذهب كذلك الحياة لأنها ذاهبة لا بقاء لها وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني هلا أنزل على محمد آية ومعجزة مثل معجزة موسى وعيسى قُلْ أي قل لهم يا محمد: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ فلا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عز وجل وهو قوله وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ يعني ويرشد إلى دينه والإيمان به من أناب بقلبه ورجع إليه بكليته الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله من أناب وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ يعني وتسكن قلوبهم بِذِكْرِ اللَّهِ قال مقاتل: بالقرآن لأنه طمأنينة لقلوب المؤمنين والطمأنينة والسكون إنما تكون بقوة اليقين، والاضطراب إنما يكون بالشك أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ يعني بذكره تسكن قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها. وقال ابن عباس: هذا في الحلف وذلك أن المسلم إذا حلف بالله على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه. فإن قلت أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والوجل استشعار الخوف، وحصول الاضطراب وهو ضد الطمأنينة فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحد. قلت: إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة، إنما تكون عند الوعد والثواب فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه وعقابه وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه. [سورة الرعد (13): الآيات 29 الى 31] الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ اختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس: فرح لهم وقرة أعين. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال قتادة: حسن لهم وفي رواية أخرى، عنه إن هذه الكلمة عربية يقول الرجل للرجل: طوبى لك أي أصبت خيرا. وقال إبراهيم النخعي خير لهم وكرامة. وقال الزجاج: طوبى من الطيب وقيل تأويلها الحال المستطابة لهم وهو كل ما استطابه هؤلاء في الجنة من بقاء بلا فناء وعز بلا ذل وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم. قال الأزهري: تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين. وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنة بالحبشية وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى اسم شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها. وقال عبيد ابن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي كل دار وغرفة في الجنة منها غصن لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان: الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل: كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح وروي عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن طوبى فقال: «هي شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه. قال: «طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» هكذا ذكر البغوي هذين الحديثين بغير سند، وروي بسنده موقوفا عن أبي هريرة قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرءوا إن شئتم وظل ممدود» فبلغ ذلك كعب الأحبار فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى والقرآن على محمد لو أن رجلا ركب فرسا أو حقة أو جذعة، ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما إن الله غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. فقال البغوي وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: «إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله لها تفتقي لعبدي عما يشاء فتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء وعن الثياب» (ق) عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (ق) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها» (ق) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة» زاد البخاري في روايته «واقرءوا إن شئتم وظل ممدود». وقوله تعالى وَحُسْنُ مَآبٍ يعني ولهم حسن منقلب ومرجع ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهي الجنة. قوله عز وجل: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ يعني كما أرسلناك يا محمد إلى هذه الأمة كذلك أرسلنا أنبياء قبلك إلى أمم قد خلت ومضت لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني لتقرأ على أمتك الذي أوحينا إليك من القرآن وشرائع الدين وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قال قتادة ومقاتل وابن جريج: هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقالوا: لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما نكتب باسمك اللهم فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمن يعني أنهم ينكرونه ويجحدونه والمعروف أن الآية مكية. وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الحجر يدعو ويقول في دعائه: «يا

الله يا رحمن» فرجع أبو جهل إلى المشركين وقال: إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم «اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن» فقال الله تعالى قُلْ أي قل يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني عليه اعتمدت في أموري كلها وَإِلَيْهِ مَتابِ يعني وإليه توبتي ورجوعي. قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآية نزلت في نفر من مشركي قريش منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم وقيل: إنه مر بهم وهم جلوس فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له عبد الله بن أبي أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تتفتح فإنها أرض ضيقة لمزارعنا واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار، ونزرع ونتخذ البساتين فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود، حيث سخر له الجبال تسير معه أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان أو أحي لنا جدك قصيا أو من شئت من موتانا لنسأله عن أمرك أحق أو باطل فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله من عيسى فأنزل الله هذه الآية وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ فأذهبت عن وجه الأرض أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ يعني شققت فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فأحياها واختلفوا في جواب لو فقال قوم جواب لو محذوف، وإنما حذف اكتفاء بمعرفة السامع مراده وتقديره ولو أن قرآنا فعل به كذا وكذا لكان هذا القرآن فهو كقول الشاعر: فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا أراد: لو شيء أتانا رسوله سواك لرددناه، وهذا معنى قول قتادة فإنه قال معناه لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم وقال آخرون: جواب لو تقدم تقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا به لما سبق في علمنا فيهم كما قال: «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» ثم قال تعالى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً يعني في هذه الأشياء، وفي غيرها إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا قال أكثر المفسرين: معناه أفلم يعلم؟ قال الكلبي: هذه لغة النخع وقيل هي لغة هوازن واختلف أهل اللغة في هذه اللفظة فقال الليث وأبو عبيد ألم ييأس ألم يعلم واستدلوا لهذه اللغة بقول الشاعر: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم يعني ألم تعلموا. واستدلوا عليه أيضا بقول شاعر آخر: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا يعني ألم يعلم الأقوام. قال قطرب: يئس بمعنى علم لغة للعرب. قالوا: ووجه هذه اللغة أنه إنما وقع اليأس في مكان العلم لأن علمك بالشيء ويقينك به ييئسك من غيره. وقيل: لم يرد أن اليأس في موضع كلام العرب للعلم وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل العلم بانتفائه فإذن معنى يأسهم يقتضي حصول العلم. وقال الكسائي ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت قال وهذا الحرف في القرآن من اليأس المعروف لا من العلم وذلك أن المشركين لما طالبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآيات اشرأبّ المسلمون لذلك وأرادوا أن يظهر لهم آية ليجتمعوا على الإيمان، فقال الله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء ويعلموا علما

[سورة الرعد (13): الآيات 32 إلى 36]

يقينا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً يعني من غير ظهور آية. وقال الزجاج: القول عندي أن معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو يشاء لهدى الناس جميعا. وحاصله أن في معنى الآية قولين: أحدهما أن يئس بمعنى علم. والقول الثاني: أنه من اليأس المعروف وتقدير القولين ما تقدم وتمسك أهل السنة بقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا يعني من الكفر والأعمال الخبيثة قارِعَةٌ أي نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا أحيانا مرة بالجدب، ومرة بالسلب ومرة بالقتل والأسر. وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعثها إليهم أَوْ تَحُلُّ يعني السرايا أو البلية قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ وقيل معناه أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ يعني النصر والفتح وظهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودينه وقيل أراد بوعد الله يوم القيامة لأن الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ والغرض منه تشجيع قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه لعلمه بأن الله لا يخلف الميعاد. قوله عز وجل: [سورة الرعد (13): الآيات 32 الى 36] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ وذلك أن كفار مكة إنما سألوا هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء، فأنزل الله هذه الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى أنهم إنما طلبوا منك هذه الآيات على سبيل الاستهزاء، وكذلك قد استهزئ برسل من قبلك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني فأمهلتهم وأطلت لهم المدة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ يعني بالعذاب بعد الإمهال فعذبتهم في الدنيا بالقحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار فَكَيْفَ كانَ عِقابِ يعني فكيف كان عقابي لهم أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت، ويعاقبها إن أساءت وجوابه محذوف، وتقديره كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه ومن كان عاجزا عن نفسه فهو عن غيره أعجز وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يعني وهو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي جعلوها لله شركاء قُلْ سَمُّوهُمْ يعني له. وقيل: صفوهم بما يستحقون ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد أَمْ تُنَبِّئُونَهُ يعني أم تخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ يعني أنه لا يعلم أن لنفسه شريكا من خلقه وكيف يكون المخلوق شريكا للخالق وهو العالم بما في السموات والأرض ولو كان لعلمه والمراد من ذلك نفي العلم بأن يكون له شريك أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ يعني أنهم يتعلقون بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له وقيل: معناه بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الكفر وإنما فسر المكر بالكفر لأن مكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر منهم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق

لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا الله تعالى ويدل على هذا سياق الآية وهو قوله: ومن يضلل الله فما له من هاد، وقوله وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرئ بضم الصاد ومعناه صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية ومنعوا من ذلك والصاد المانع لهم هو الله تعالى، وقرئ وصدوا بفتح الصاد ومعناه أنهم صدوا عن سبيل الله غيرهم أي عن الإيمان وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ الوقف عليه بسكون الدال وحذف الياء في قراءة أكثر القراء لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني بالقتل والأسر ونحو ذلك مما فيه غيظهم وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ يعني أشد وأغلظ لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ يعني من عذاب الله مِنْ واقٍ يعني من مانع يمنعهم من عذابه قوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي صفة الجنة التي وعد المتقون تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع أبدا وَظِلُّها يعني أنه دائم لا ينقطع أبدا وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون: إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم. كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد. قال: ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله: أكلها دائم يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة، ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد. والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين: إحداهما: قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه، والأخرى قوله: أكلها دائم وظلها، فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة. منها قوله تعالى: وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. وقوله تعالى تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ يعني في الآخرة. قوله عز وجل وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في المراد بالكتاب هنا قولان: أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار واليهود والنصارى مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهذا قول الحسن وقتادة. فإن قلت: إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه. قلت: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالّات على توحيد الله وإثبات قدرته وعلمه وحكمته، وهم لا ينكرون ذلك أبدا والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلا أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه. وقيل: كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظة الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل الله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمّا كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن قُلْ أي قل يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ يعني وحده

[سورة الرعد (13): الآيات 37 إلى 39]

وَلا أُشْرِكَ بِهِ شيئا إِلَيْهِ أَدْعُوا أي إلى الله وإلى الإيمان به أدعو الناس وَإِلَيْهِ مَآبِ يعني مرجعي يوم القيامة. [سورة الرعد (13): الآيات 37 الى 39] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب وهو القرآن عربيا بلسانك ولسان قومك. وإنما سمي القرآن حكما لأن فيه جميع التكاليف والأحكام والحلال والحرام والنقض والإبرام، فلما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وقيل إن الله لما حكم على جميع الخلق بقبول القرآن والعمل بمقتضاه سماه حكما لذلك المعنى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ قال جمهور المفسرين: إن المشركين دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ملة آبائهم فتوعده الله على اتباع أهوائهم في ذلك. وقال ابن السائب: المراد به متابعة آبائهم في الصلاة لبيت المقدس بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني بأنك على الحق، وأن قبلتك الكعبة هي الحق. وقيل: ظاهر الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره وقيل: هو حث للنبي صلّى الله عليه وسلّم على تبليغ الرسالة والقيام بما أمر به ويتضمن ذلك تحذير غيره من المكلفين لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدرا وأعلى مرتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ يعني من ناصر ولا حافظ قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ روي أن اليهود، وقيل المشركين، قالوا: إن هذا الرجل يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليس له همة إلا في النساء فعابوا عليه ذلك وقالوا لو كان كما يزعم أنه رسول الله لكان مشتغلا بالزهد وترك الدنيا فأجاب الله عز وجل عن هذه الشبهة، وعما عابوه به بقوله عز وجل ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يا محمد وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً فإنه قد كان لسليمان عليه الصلاة والسلام ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة امرأة سرية فلم يقدح ذلك في نبوته وكان لأبيه داود عليه الصلاة والسلام مائة امرأة فلم يقدح ذلك أيضا في نبوته فكيف يعيبون عليك ذلك، ويجعلونه قادحا في نبوتك والمعنى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يأكلون ويشربون وينكحون، وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هذا جواب لعبد الله بن أبي أمية، وغيره من المشركين الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الآيات واقترحوا عليه أن يريهم المعجزات، وتقدير هذا الجواب أن المعجزة الواحدة كافية في إثبات النبوة وقد أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعجزات كثيرة يعجز عن مثلها البشر، فما لهم أن يقترحوا عليه شيئا، وإتيان الرسول بمعجزات ليس إليه بل هو مفوض إلى مشيئة الله عز وجل فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم فلما استبطئوا ذلك، وقد كانوا يستعجلون نزوله أخبر الله عز وجل أن لكل قضاء قضاه كتابا قد كتبه فيه ووقتا يقع فيه لا يتقدم ولا يتأخر. والمعنى: أن لكل أجل أجله الله كتابا قد أثبته فيه، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أجل ومدة والمعنى أن الكتب المنزلة لكل كتاب منها وقت ينزل فيه يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وذلك أنهم لما اعترضوا على رسول الله فقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم ثم يأمرهم بخلافه غدا، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، أجاب الله عن هذا الاعتراض بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت. قال سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما شاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء من ذلك فلا ينسخه ولا يبدله، وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول

«إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورهما وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء فيكتب الملك، ثم يقول يا رب أجله فيقول: ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول: الملك يا رب رزقه فيقول: ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة، فلا يزيد على أمر ولا ينقص» أخرجه مسلم (ق) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فإن قلت: هذا الحديث والذي قبله صريح بأن الآجال والأرزاق مقدرة، وكذا السعادة والشقاوة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصانها، وكذلك يستحيل أن ينقلب السعيد شقيا أو الشقي سعيدا، وقد صح في فضل صلة الرحم أن صلة الرحم تزيد في العمر فكيف الجمع بين هذه الأحاديث، وبين قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت؟. قلت: قد تكرر بالدلائل القطعية أن الله عالم الآجال والأرزاق وغيرها. وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله أن زيدا يموت في وقت معين استحال أن يموت قبله أو بعده وهو قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فدل ذلك على أن الآجال لا تزيد ولا تنقص. وأجاب العلماء عما ورد في الحديث في فضل صلة الرحم من أنها تزيد في العمر بأجوبة الصحيح منها: أن هذه الزيادة تكون بالبركة في عمره بالتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع وغير ذلك. والجواب الثاني: منها أنها بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ أن عمر زيد مثلا ستون سنة، إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون سنة، وقد علم الله في الأزل ما سيقع من ذلك، وهو معنى قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت أي بالنسبة لما يظهر للمخلوقين من تصوير الزيادة. وأما انقلاب الشقي سعيدا أو السعيد شقيا فيتصور في الظاهر أيضا لأن الكافر قد يسلم فينقلب من الشقاوة إلى السعادة، وكذا العاصي ونحوه وقد يتوب فينقلب من الشقاوة إلى السعادة وقد يرتد المسلم، والعياذ بالله تعالى، فيموت على ردته فينقلب من السعادة إلى الشقاوة، والأصل في هذا الاعتبار بالخاتمة عند الموت وما يختم الله به له وهو المراد من علم الله الأزلي الذي لا يتغير ولا يتبدل. والله أعلم. وأصل المحو: إذهاب أثر الكتابة وضده الإثبات فمن العلماء من حمل الآية على ظاهرها فجعلها عامة في كل شيء يقتضيه ظاهر اللفظ، فيزيد الله ما يشاء في الرزق والأجل. وكذا القول في السعادة والشقاوة والإيمان بالله والكفر. ونقل نحو هذا عن عمر وابن مسعود فإنهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء. وروي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة والمغفرة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة فامحني منها وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب وروي مثله عن ابن مسعود وقد ورد في بعض الآثار «أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة» هكذا ذكر البغوي بغير سند. وروي بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ينزل الله تبارك وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» ومن العلماء من حمل معنى الآية على الخصوص في بعض الأشياء دون بعض فقال: المراد بالمحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر عوضا عن الحكم المتقدم، وقيل: إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب، ولا عقاب مثل قول القائل أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحو ذلك من الكلام، وهو صادق فيه ويثبت ما فيه

[سورة الرعد (13): الآيات 40 إلى 43]

ثواب وعقاب. وهذا قول الضحاك. وقال الكلبي: يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. وقال ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يموت، وهو في طاعته فهو الذي يثبت، وقال الحسن: يمحو الله ما يشاء يعني من جاء أجله فيذهبه ويثبت من لم يجيء أجله وقال سعيد بن جبير يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء منها فلا يغفرها. وقال عكرمة: يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات. وقال السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت الشمس. وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم فمن أراد موته محاه وأمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، وقيل: إن الله يثبت في أول كل سنة حكمها فإذا مضت السنة محاه وأثبت حكما آخر للسنة المستقبلة وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة. وقيل: هو في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ثم يمحوها بالدعاء والصدقة. وقيل: إن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لا اعتراض لأحد عليه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فان قلت مذهب أهل السنة أن المقادير سابقة وقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فكيف يستقيم مع هذا المحو والإثبات. قلت: المحو والإثبات مما جف به القلم وسبق به القدر فلا يمحو شيئا ولا يثبت شيئا إلا ما سبق به علمه في الأزل وعليه يترتب القضاء والقدر. مسألة: استدلت الرافضة على مذهبهم في البداء بهذه الآية: قالوا: إن البداء جائز على الله وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له خلاف ما اعتقده وتمسكوا بقوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ والجواب عن هذه المسألة أن هذا مذهب باطل ظاهر الفساد لأن علم الله قديم أزلي، وهو من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالا كذا ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يعني أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل، وسمي اللوح المحفوظ أم الكتاب لأن جميع الأشياء مثبتة فيه ومنه تنسخ الكتب المنزلة، وقيل: إن العلوم كلها تنسب إليه وتتولد منه، قال ابن عباس: هما كتابان كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وأم الكتاب الذي لا يغير شيء منها وروى عطية عن ابن عباس قال: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وسأل ابن عباس كعبا عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه وما هم عاملون. [سورة الرعد (13): الآيات 40 الى 43] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ يعني يا محمد بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ يعني من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يعني قبل أن نريك ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ يعني وعلينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم. قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني أو لم ير كفار مكة الذين سألوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الآيات أنا نأتي الأرض يعني أرض الشرك ننقصها من أطرافها. قال أكثر المفسرين: المراد منه فتح دار الشرك فإن ما زاد في دار الإسلام فقد نقص في دار الشرك والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنفتحها لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أرضا بعد أرض حوالى أراضيهم أفلا يعتبرون،

فيتعظون وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين: وذلك أن المسلمين إذا استولوا على بلاد الكفار قهرا وتخريبا كان ذلك نقصانا في ديارهم، وزيادة في ديار المسلمين، وقوتهم وكان ذلك من أقوى الدلائل على أن الله تعالى ينصر عبده ويعز جنده ويظهر دينه، وينجز له ما وعده. وقيل: هو خراب الأرض والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها أفلا يخافون أن نفعل بهم مثل ذلك، وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة والشعبي نحوه وهذا القول قريب من الأول وقال عطاء وجماعة من المفسرين نقصانها موت العلماء وذهب الفقهاء (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وفي رواية من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» قال الحسن قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار، وقال عبد الله أيضا: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر فإذا هلك الأول ولم يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك العلماء. فعلى هذا القول فالمراد بالأطراف العلماء، والأشراف من الناس: حكى الجوهري عن ثعلب قال: الأطراف الأشراف. واستدل الواحدي لهذه اللغة بقول الفرزدق: واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ... أطراف كل قبيلة من يتبع قال: يريد أشراف كل قبيلة. قال الواحدي: والتفسير على القول الأول أولى لأن هذا وإن صح فلا يليق بهذا الموضع. قال الإمام فخر الدين الرازي: ويمكن أن يقال أيضا إن هذا الوجه لا يليق بهذا الموضع وتقديره أن يقال: أو لم يروا أن كل ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغييرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة، فيجعلهم ذليلين بعد ما كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه أيضا يجوز إيصال الكلام بما قبله. وقوله تعالى وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يعني لا رادّ لحكمه ولا ناقض لقضائه، والمعقب هو الذي يعقب غيره بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب والمعنى: والله يحكم نافذا حكمه خاليا من المدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب حكمه أحد غيره بتغيير، ولا نقض وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام ممن حاسبه للمجازاة بالخير والشر فمجازاة الكفار بالانتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدم بسط الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل مشركي مكة من الأمم الماضية، الذين مكروا بأنبيائهم والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر مثل ما مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني عند الله جزاء مكرهم. وقال الواحدي: يعني جميع مكر الماكرين له ومنه أي هو من خلقه وإرادته فالمكر جميعا مخلوق له بيده الخير والشر وإليه النفع والضر. والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمان له من مكرهم كأنه قيل: قد فعل من كان قبلهم من الكفار مثل فعلهم وصنعوا مثل صنيعهم، فلم يضروا إلا من أراد الله ضره، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله لا من أحد من المخلوقين يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يعني أن جميع اكتساب العباد وتأثيراتها معلومة لله هو خالقها أو خلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله ولا يحصل ضررا إلا بإذنه وإرادته، وفيه وعيد للكفار الماكرين وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ على التوحيد وقرئ وسيعلم الكفار على الجمع. قال ابن عباس: يعني أبا جهل. وقيل: أراد المستهزئين وهم خمسة نفر من كفار مكة لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ

والمعنى أنهم وإن كانوا جهالا بالعواقب فسيعلمون أن العاقبة الحميدة للمؤمنين، ولهم العاقبة المذمومة في الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون الجنة قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا لما أنكر الكفار كون محمد رسولا من عند الله أمره الله بقوله قُلْ أي قل: يا محمد لهؤلاء الكفار الذين أنكروا نبوتك كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ المراد بشهادة الله على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ما أظهر على يديه من المعجزات الباهرات والآيات القاهرات الدالة على صدقه، وكونه نبيا مرسلا من عند الله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يعني ومن عنده علم الكتاب أيضا يشهد على نبوتك يا محمد وصحتها. واختلفوا في الذي عنده علم الكتاب من هو فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، والمعنى أن كل من كان عالما من اليهود بالتوراة ومن النصارى بالإنجيل علم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مرسل من الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوته فيهما شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم، وقيل: إنهم مؤمنوا أهل الكتاب يشهدون أيضا على نبوته. قال قتادة: هو عبد الله بن سلام، وأنكر الشعبي هذا وقال: هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة المنورة وقال يونس لسعيد بن جبير ومن عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟ وقال الحسن ومجاهد ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى. وعلى هذا القول يكون المعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيدا بيني وبينكم. قال الزجاج: الأشبه أن الله لا يشهد على صحة حكمه لغيره. وهذا قول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزا إلا أنه خلاف الأصل. فلا يقال شهد بهذا زيد والفقيه. بل يقال: شهد بهذا زيد الفقيه لكن يشهد لصحة هذا القول قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب بكسر الميم والدال، وهي قراءة ابن عباس وغيره على البناء للمفعول والمعنى ومن عند الله علم الكتاب ودليل هذه القراءة قوله وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وقيل: معناه إن من علم أن القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب، وعن الأمم الماضية فمن علم بهذه الصفة كان شهيدا بيني وبينكم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة ابراهيم

سورة ابراهيم هي مكية سوى آيتين، وهما قوله سبحانه وتعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً إلى آخر الآيتين وهي إحدى وقيل: اثنتان وخمسون آية وثمانمائة وإحدى وستون كلمة وثلاثة ألاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) قوله عز وجل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يعني هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد والكتاب هو القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني بهذا القرآن والمراد من الظلمات الكفر والضلالة والجهل، والمراد بالنور: الإيمان. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: وفيه دليل على أن طرق الكفر والبدع كثيرة وطريق الحق ليس إلا واحدا لأنه تعالى قال: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهدى بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا واحد بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يعني بأمر ربهم وقيل: بعلم ربهم إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يعني إلى دين الإسلام وهو دينه الذي أمر به عباده، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحميد المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد اللَّهِ قرئ بالرفع على الاستئناف وخبره ما بعده وقرئ بالجر نعتا للعزيز الحميد فقال أبو عمرو قراءة الخفض على التقديم والتأخير تقديره إلى صراط الله العزيز الحميد الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني ملكا وما فيهما عبيده وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ يعني الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئا البتة بل هو مملوك لله لأنه من جملة خلق الله، ومن جملة ما في السموات وما في الأرض مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ يعني معد لهم في الآخرة ثم وصفهم فقال تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 3 الى 14] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يعني يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون الناس عن قبول دين الله وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني ويطلبون لها زيغا وميلا، فحذف الجار وأوصل الفعل. وقيل: معناه يطلبون سبيل الله حائدين عن القصد وقيل الهاء في ويبغونها راجعة إلى الدنيا ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق والميل إلى الحرام أُولئِكَ يعني من هذه صفته فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني عن الحق وقيل يجوز أن يراد في ضلال بعيد ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال يبعد عن الطريق. قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ يعني بلغة قومه ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه وهو قوله تعالى لِيُبَيِّنَ لَهُمْ يعني ما يأتون وما يذرون. فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا بدليل قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى وقوله بلسان قومه وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة فكيف يمكن الجمع؟ قلت: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العرب وبلسانهم والناس تبع للعرب فكان مبعوثا إلى جميع الخلق، لأنهم تبع للعرب ثم إنه يبعث الرسل إلى الأطراف، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم. وقيل: يحتمل أنه أراد بقومه أهل بلده، وفيهم العرب وغير العرب فيدخل معهم من غير جنسهم في عموم الدعوى وقيل: إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه وكانت دعوته خاصة وكان كتابه بلسان قومه كان أقرب لفهمهم عنه وقيام الحجة عليهم في ذلك، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله، وإذا كان الكتاب بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه، وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه وجميع حدوده وأحكامه وقوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني أن الرسول ليس

عليه إلا التبليغ والتبيين والله هو الهادي المضل يفعل ما يشاء وَهُوَ الْعَزِيزُ يعني الذي يغلب ولا يغلب الْحَكِيمُ في جميع أفعاله. قوله عز وجل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا المراد بالآيات المعجزات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام، مثل العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات العظيمة الباهرة أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي أن أخرج قومك بالدعوة من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: يعني بنعم الله. وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم بما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والنقمة، فأخبر بذكر الأيام عن ذلك لأن ذلك كان معلوما عندهم وعلى هذا يكون المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. والترغيب والوعد أن يذكرهم بما أنعم الله عليهم به من النعمة، وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما مضى من الأيام، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله، وشدة انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله، وقيل: بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والشدة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب فخلصهم الله من ذلك، وجعلهم ملوكا بعد أن كانوا مملوكين إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ الصبّار: الكثير الصبر، والشكور: الكثير الشكر، وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله «وهدى للمتقين» ولأن الانتفاع بالآيات لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابرا شاكرا أما من لم يكن كذلك فلا ينتفع بها البتة وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لما أمر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكر قومه بأيام الله امتثل ذلك الأمر، وذكرهم بأيام الله فقال «اذكروا نعمة الله عليكم» إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت الذي أنجاكم فيه من آل فرعون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ. فإن قلت قال في سورة البقرة: يذبحون بغير واو وقال هنا ويذبحون بزيادة واو فما الفرق؟ قلت: إنما حذفت الواو في سورة البقرة لأن قوله يذبحون تفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو كما تقول جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم وأما دخول الواو هنا في هذه السورة فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح أيضا فقوله: ويذبحون نوع آخر من العذاب لأنه تفسير العذاب وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني يتركونهن أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. فان قلت كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا ما فعلوا بلاء من الله ووجه آخر وهو أذن لكم إشارة إلى الإنجاء، وهو بلاء عظيم لأن البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا ومنه قوله: «ونبلوكم بالشر والخير فتنة» وهذا الوجه أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله اذكروا نعمة الله عليكم. فإن قلت: هب أن تذبيح الأبناء فيه بلاء فكيف يكون استحياء النساء فيه بلاء. قلت: كانوا يستحيونهن ويتركونهن تحت أيديهم كالإماء فكان ذلك بلاء وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هذا من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم، ومعنى تأذن: آذن، أي أعلم ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وأذن ربكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ يعني يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ يعني نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما أتيتكم قيل شكر الموجود صيد المفقود. وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب وأصل الشكر تصور النعمة، وإظهارها وحقيقته الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وتوطين النفس على هذه الطريقة وهاهنا دقيقة وهي أن العبد إذا اشتغل بمطالعة أقسام نعم الله عز وجل عليه، وأنواع فضله وكرمه وإحسانه إليه اشتغل بشكر تلك النعمة، وذلك يوجب المزيد وبذلك تتأكد محبة العبد لله عز وجل وهو مقام شريف ومقام أعلى منه وهو أن يشغله حب المنعم عن الالتفات إلى النعم، وهذا مقام الصدّيقين نسأل الله القيام بواجب شكر

النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه وإنعامه. وقوله وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ المراد بالكفر هاهنا كفران النعمة، وهو جحودها لأنه مذكور في مقابلة الشكر إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ يعني لمن كفر نعمتي ولا يشكرها وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا يعني يا بني إسرائيل أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني والناس كلهم جميعا فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم بحرمانها الخير كله فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ يعني عن جميع خلقه حَمِيدٌ أي محمود في جميع أفعاله لأنه متفضل وعادل أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا يعني خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ قال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، والمقصود منه أنه عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأمر القرون الماضية والأمم الخالية والمقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هؤلاء الأمم الثلاثة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ يعني لا يعلم كنه مقاديرهم وعددهم إلا الله لأن علمه محيط بكل شيء «ألا يعلم من خلق» وقيل: المراد بقوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أقوام وأمم ما بلغنا خبرهم أصلا ومنه قوله: «وقرونا بين ذلك كثيرا» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول: كذب النسابون. يعني أنهم يدعون علم النسب إلى آدم، وقد نفى الله علم ذلك عن العباد. وعن عبد الله بن عباس أنه قال: بين إبراهيم وعدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبا أبا إلى آدم، لأنه لا يعلم أولئك إلا الله. وقوله تعالى جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ. وفي معنى الأيدي والأفواه قولان: أحدهما أن المراد بهما هاتان الجارحتان المعلومتان ثم في معنى ذلك وجوه. قال ابن مسعود: عضوا أيديهم غيظا. وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما جاءوا به. يقال: رددت قول فلان في فيه أي كذبته. وقال الكلبي: يعني أن الأمم ردوا أيديهم إلى أفواه أنفسهم، يعني أنهم وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة منهم إلى الرسل أن اسكتوا. وقال مقاتل: ردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك وقيل: إن الأمم لما سمعوا كلام الرسل عجبوا منه. وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل الذي غلبه الضحك. القول الثاني: أن المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال لفلان عندي يد أي نعمة، والمراد بالأفواه وتكذيبهم الرسل والمعنى كذبوهم بأفواههم وردوا قولهم وقيل إنهم كفوا عن قبول ما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال فلان رد يده إلى فيه إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وهذا القول فيه بعد لأنهم قد أجابوا بالتكذيب وهو أن الأمم ردوا على رسلهم وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به لأنهم لم يقروا بأنهم أرسلوا إليهم لأنهم لو أقروا بأن الرسل أرسلوا إليهم لكانوا مؤمنين وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ يعني يوجب الريبة أو يوقع في الريبة والتهمة، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قلت: إنهم قالوا أولا إنا كفرنا بما أرسلتم به فكيف يقولون ثانيا وإنا لفي شك والشك دون الكفر أو داخل فيه. قلت: إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل فكأنهم حصل لهم شبهة توجب لهم الشك فقالوا: إن لم تدع الجزم في كفرنا فلا أقل من أن نكون شاكّين مرتابين في ذلك قالَتْ رُسُلُهُمْ يعني مجيبين لأممهم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ يعني وهل تشكون في الله وهو استفهام إنكار ونفي لما اعتقدوه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني وهل تشكون في كونه خالق السموات والأرض وخالق جميع ما فيهما يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يعني ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم وحرف (من) صلة وقيل: إنها أصل ليست بصلة، وعلى هذا إنه يغفر لهم ما بينهم وبينه من الكفر والمعاصي دون مظالم العباد وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى حين انقضاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب قالُوا يعني الأمم مجيبين للرسل إِنْ أَنْتُمْ يعني ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يعني في الصورة الظاهرة لستم ملائكة تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا يعني ما تريدون بقولكم: هذا إلا صدنا عن آلهتنا

[سورة إبراهيم (14): الآيات 15 إلى 22]

التي كان آباؤنا يعبدونها فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني حجة بينة واضحة على صحة دعواكم قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم: هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وليس لنا مع ما خصنا الله به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن الله لنا في ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ يعني أن الأنبياء قالوا أيضا قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء الله وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا يعني وقد عرفنا طريق النجاة، وبين لنا الرشد وَلَنَصْبِرَنَّ اللام لام القسم تقديره والله لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا يعني به من قول أو فعل وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. فإن قلت: كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت: نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين. قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا. فإن قلت: هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت: معاذ الله ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب، وفيه وجه آخر، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى الله فقالوا لهم: لتعودن في ملتنا ظنا منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشئوا على التوحيد لا يعرفون غيره فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يعني أن الله تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هلاكهم ذلِكَ يعني ذلك الإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم: ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله وَخافَ وَعِيدِ أي وخاف عذابي. قوله عز وجل: [سورة إبراهيم (14): الآيات 15 الى 22] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

وَاسْتَفْتَحُوا يعني واستنصروا. قال ابن عباس: يعني الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة: واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب وَخابَ يعني وخسر وقيل: هلك كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان، وقيل: الجبار الذي لا يرى فوقه أحدا، وقيل: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله. وقيل: العنيد هو المعجب بما عنده. وقيل العنيد الذي يعاند ويخالف مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني هي أمامه وهو صائر إليها قال أبو عبيدة: هو من الأضداد يعني أنه يقال: وراء بمعنى خلف وبمعنى أمام وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك يعني أنه سيأتيك وَيُسْقى يعني في جهنم مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ وهو ما سال من الجلد واللحم من القيح جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر وهو قوله يَتَجَرَّعُهُ أي يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقدر على ابتلاعه. يقال: ساغ الشراب في الحلق إذا سهل انحداره فيه. قال بعض المفسرين: إن يكاد صلة والمعنى يتجرعه ولا يسيغه وقال صاحب الكشاف: دخلت يكاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة وقال بعضهم ولا يكاد يسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء فعلى هذا كاد على أصلها وليست بصلة، وقال ابن عباس: معناه لا يجيزه. وقيل: معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه. عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى «ويسقى من ماء صديد يتجرعه» قال: «يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره قال وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. قوله: وقعت فروة رأسه أي جلدة رأسه وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها. وقوله تعالى وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ يعني أن الكافر يجد ألم الموت وشدته من كل مكان من أعضائه. وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده وقيل يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة وَمِنْ وَرائِهِ يعني أمامه عَذابٌ غَلِيظٌ أي شديد قيل: هو الخلود في النار. قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ هذا كلام مستأنف منقطع عما قبله وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره فيما نقص، أو فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة، وقوله: أعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم فقال أعمالهم كرماد. وقال المفسرون والفراء: مثل أعمال الذين كفروا بربهم فحذف المضاف اعتمادا على ما ذكره بعد المضاف إليه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد كقولك في صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول والرماد معروف وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار، اشتدت به الريح يعني فنسفته وطيرته ولم تبق منه شيئا في يوم عاصف، وصف اليوم بالعصوف والعصوف من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه كقولك: يوم بارد وحار وليلة ماطرة لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وقيل: معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنه قد تقدم ذكرها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفوا بها، ووجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتذهب به وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى منها شيء وكذلك أعمال الكفار تبطل، وتذهب بسبب كفرهم وشركهم حتى لا يبقى منها شيء ثم اختلفوا

في هذه الأعمال ما هي فقيل: هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام، وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل: المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم. وقيل: أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير الله فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا يعني في الدنيا عَلى شَيْءٍ يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لا يجدون ثواب أعمالهم في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يعني ذلك: الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني لم يخلقهما باطلا ولا عبثا وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني أيها الناس وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: سواكم أطوع لله منكم. والمعنى: أن الذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء. وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار، ويخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على الله، وإن جلت وعظمت. قوله عز وجل وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً يعني وخرجوا من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه، فهو حق وصدق. وكائن لا محالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة والرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً يعني في الدين والاعتقاد فَهَلْ أَنْتُمْ يعني في هذا اليوم مُغْنُونَ عَنَّا يعني دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب الله الذي حل بنا قالُوا يعني الرؤساء والقادة، والمتبوعين للتابعين لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ يعني لو أرشدنا الله لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا يعني مستويان علينا الجزع والصبر. والجزع، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني من مهرب، ولا منجاة مما نحن فيه من العذاب. قال مقاتل: يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون: تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال الله وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فردت الخزنة عليهم وقالوا ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فردت الخزنة وقالوا ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلما يئسوا مما عند الخزنة، نادوا يا مالك ليقض علينا ربك سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله: إنكم ماكثون فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض: تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. قوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، وتوبيخه، فيقوم فيها خطيبا قال مقاتل: يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم: ما أخبر الله عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فيه إضمار تقديره فصدق في وعده وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ يعني الوعد. وقيل يقول: لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ

[سورة إبراهيم (14): الآيات 23 إلى 27]

سُلْطانٍ يعني من ولاية وقهر، وقيل: لم آتيكم بحجة فيما وعدتكم به إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ هذا استثناء منقطع معناه لكن دعوتكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، وقد سمعتم دلائل الله وجاءتكم الرسل فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفوا إليّ ولا تسمعوا قولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي، ومتابعتي من غير حجة ولا دليل ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ يعني بمغيثكم ولا منقذكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ يعني بمغيثيّ ولا منقذيّ مما أنا فيه إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ يعني كفرت بجعلكم إياي شريكا له في عبادته وتبرأت من ذلك والمعنى أن إبليس جحد ما يعتقده الكفار فيه، من كونه شريكا لله وتبرأ من ذلك إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ روى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة، وذكر الحديث إلى قوله «فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نورا من رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه، فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم، ويقول عند ذلك: إن الله وعدكم وعد الحق الآية. وقوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 23 الى 27] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لما شرح الله عز وجل حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة، شرح أحوال المؤمنين السعداء، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم الجزيل، وذلك أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم والمنفعة الخالصة إليها الإشارة دائمة بقوله: وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، وكونها دائمة أشير إليه بقوله خالِدِينَ فِيها والتعظيم حصل من وجهين أحدهما قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لأن تلك المنافع إنما كانت تفضلا من الله بإنعامه الثاني قوله تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيحتمل أن بعضهم يحيي بعضا بهذا الكلمة أو الملائكة تحييهم بها أو الرب سبحانه وتعالى يحييهم، ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع الآفات لأن السلام مشتق من السلامة. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لما شرح الله عز وجل أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ضرب مثلا فيه حكم هذين القسمين فقال تعالى: ألم تر أي بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويدخل معه غيره فيه ويحتمل أن يكون الخطاب فيه لكل فرد من الناس، فيكون المعنى ألم تر أيها الإنسان كيف ضرب الله مثلا يعني بين شبها، والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويتصور. وقيل: هو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر كَلِمَةً طَيِّبَةً هي قول لا إله إلا الله في قول ابن عباس وجمهور المفسرين: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ يعني كشجرة طيبة الثمرة وقال ابن عباس: هي النخلة. وبه قال ابن مسعود وأنس ومجاهد وعكرمة والضحاك (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أخبروني عن شجرة شبه الرجل أو قال كالرجل المسلم لا يتحات ورقها تؤتي أكلها كل حين» قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا

يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هي النخلة» قال: فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا فقال عمر لأن تكون قلته أحب إلي من كذا وكذا وفي رواية: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال «هي النخلة» وفي رواية عن ابن عباس، أنها شجرة في الجنة وفي رواية أخرى عنه أنها المؤمن. وقوله أَصْلُها ثابِتٌ يعني في الأرض وَفَرْعُها يعني أعلاها فِي السَّماءِ يعني ذاهبة في السماء تُؤْتِي أُكُلَها يعني ثمرها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها يعني بأمر ربها والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هذا وقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر يعني أن مدة حملها باطنا وظاهرا ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس: كل حين يعني غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارا وصيفا وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت. قال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل هذه الكلمة التي هي كلمة الإخلاص وأصل الإيمان بالنخلة حاصل من أوجه: أحدها: أن كلمة الإخلاص شديدة الثبوت في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض. الوجه الثاني: أن هذه الكلمة ترفع عمل المؤمن إلى السماء. كما قال تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وكذلك فرع النخلة الذي هو عال في السماء. الوجه الثالث: أن ثمر النخلة يأتي في كل حين ووقت وكذلك ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كل وقت وحين ببركة هذه الكلمة، فالمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءته بركتها وثوابها وخيرها ومنفعتها. الوجه الرابع: أن النخلة شبيهة بالإنسان في غالب الأمر لأنها خلقت من فضلة طينة آدم وأنها إذا قطع رأسها تموت كالآدمي بخلاف سائر الشجر فإنه إذا قطع نبت، وأنها لا تحمل حتى تلقح بطلع الذكر. الوجه الخامس: في وجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق لأن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل ثابت، وفرع قائم، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان، وقوله سبحانه وتعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني أن في ضرب الأمثال زيادة في الأفهام وتصويرا للمعاني وتذكيرا ومواعظ لمن تذكر واتعظ. قوله تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهو الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعني الحنظل قاله أنس بن مالك ومجاهد: وفي رواية عن ابن عباس إنها الكشوت وعنه أيضا أنها الثوم وعنه أيضا أنها الكافر لأنه لا يقبل عمله فليس له أصل ثابت ولا يصعد إلى السماء اجْتُثَّتْ يعني استؤصلت وقطعت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له. قول طيب ولا عمل صالح ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة. عن أنس قال أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقناع عليه رطب فقال: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال: هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي الحنظلة» أخرجه الترمذي. مرفوعا وموقوفا، وقال الموقوف أصح. قوله سبحانه وتعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ والقول الثابت: هي الكلمة الطيبة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، في قول جمهور المفسرين. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بكلمة الشرك قال: في هذه الآية ويضل الله

الظالمين يعني بالكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك في قول جميع المفسرين وقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني في القبر عند السؤال وَفِي الْآخِرَةِ يعني يوم القيامة عند البعث والحساب وهذا القول واضح ويدل عليه ما روي عن البراء بن عازب. قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: نزلت في عذاب القبر زاد في رواية يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فيراهما جميعا» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» لفظ البخاري ولمسلم بمعناه زاد في رواية «أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون» وأخرجه أبو داود عن أنس قال: وهذا لفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المؤمن إذا وضع قبره آتاه ملك فيقول: ما كنت تعبد؟ فإن هداه الله، قال: كنت أعبد الله فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله فلا يسأل عن شيء بعدها فينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا كان مقعدك ولكن عصمك الله فأبدلك به بيتا في الجنة فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي. فيقال له: اسكن. وإن الكافر والمنافق إذا وضع في قبره، آتاه ملك فينهضه فيقول ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيه فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين» وأخرجه النسائي. أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قبر الميت أو قال إذا قبر أحدكم آتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: كنت أقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ثم ينور له فيه ثم يقال له: ثم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه، ذلك وإن كان منافقا فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثلهم لا أدري فيقولان: قد كنا نعلم أنك كنت تقول ذلك. فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» أخرجه الترمذي. عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهت إلى القبر، ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه صلّى الله عليه وسلّم فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا زاد في رواية قال: إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك وما دينك ومن نبيك وفي رواية يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله فيقولان له وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت، زاد في رواية فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم لقناه قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره وإن كان الكافر فذكر موته قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن

[سورة إبراهيم (14): الآيات 28 إلى 31]

قد كذب عبدي فافرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا في النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه في رواية ثم يقيض له أعمى أبكم أصم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبلا لصار ترابا فيضربه بها ضربة، يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح» أخرجه أبو داود. عن عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» أخرجه أبو داود. عن عبد الرحمن بن ثمامة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى بكاء طويلا، وحول وجهه إلى الجدر وجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا وكذا فأقبل بوجهه وقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذكر الحديث بطوله وفيه فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي». أخرجه مسلم بزيادة طويلة فيه قيل المراد من التثبيت بالقول الثابت هو أن الله تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب كثرة مواظبتهم على شهادة الحق في الحياة الدنيا وحبهم لها، فمن كانت مواظبته على شهادة الإخلاص أكثر كان رسوخها في قلبه أعظم فينبغي للعبد المسلم أن يكثر من قول لا إله إلا لله محمد رسول الله في جميع حالاته، من قيامه وقعوده ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته، فلعل الله عز وجل أن يرزقه ببركة مواظبته على شهادة الإخلاص التثبيت في القبر، ويسهل عليه جواب الملكين بما فيه خلاصه من عذاب الآخرة، نسأل الله التثبيت في القبر، وحسن الجواب وتسهيله بفضله ومنه وكرمه وإحسانه، إنه على كل شيء قدير وقوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني أن الله تعالى لا يهدي المشركين إلى الجواب الصواب في القبر وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ يعني من التوفيق، والخذلان والهداية والإضلال والتثبيت، وتركة لا اعتراض عليه في جميع أفعاله لا يسئل عما يفعل وهم يسألون. قوله عز وجل: [سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 31] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً (خ) عن ابن عباس في قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا؟ قال: هم كفار مكة وفي رواية هم والله كفار قريش. قال عمر: هم قريش ونعمة الله هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قال البوار: يوم بدر وعن علي رضي الله عنه قال هم كفار قريش فجروا يوم بدر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فقد كفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فقد متعوا إلى حين فقوله بدلوا نعمة الله كفرا معناه أن الله تعالى لما أنعم على قريش بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فأرسله إليهم وأنزل عليه كتابه ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان اختاروا الكفر على الإيمان، وغيروا نعمة الله عليهم. وقيل: يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله عليهم كفرا لأنهم لما وجب عليهم الشكر بسبب هذه النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر، وبدلوه بالكفر وأحلوا قومهم، يعني ومن تبعهم على دينهم وكفرهم دار البوار يعني دار الهلاك ثم فسرها بقوله جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ يعني المستقر وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً يعني أمثالا وأشباها من الأصنام، وليس لله تعالى ند ولا شبيه، ولا مثيل تعالى الله عن الند والتشبيه والمثيل علوا كبيرا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعني ليضلوا الناس عن طريق الهدى ودين الحق قُلْ تَمَتَّعُوا أي قل: يا محمد لهؤلاء الكفار تمتعوا في الدنيا أياما قلائل فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ يعني في الآخرة. قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ

[سورة إبراهيم (14): الآيات 32 إلى 37]

آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ يعني يقيموا الصلاة الواجبة، وإقامتها إتمام أركانها وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ قيل أراد بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة، وقيل: أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر وحمله على العموم أولى ليدخل فيه إخراج الزكاة، والإنفاق في جميع وجوه البر سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني ينفقون أموالهم في حال السر وحال العلانية، وقيل: أراد بالسر صدقة التطوع وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ قال أبو عبيدة: البيع هنا الفداء يعني لا فداء في ذلك اليوم وَلا خِلالٌ يعني ولا خلة، وهي المودة والصداقة التي تكون مخاللة بين اثنين. وقال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخاللة ولا قرابة، إنما هي الأعمال إما أن يثاب بها أو يعاقب عليها. فإن قلت: كيف نفى الخلة في هذه الآية، وفي الآية التي في سورة البقرة وأثبتها في قوله «الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين»؟ قلت: الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفي الخلة الحاصلة، بسبب ميل الطبيعة، ورعونة النفس، والآية الدالة على حصول الخلة وثباتها محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله ألا تراه أثبتها للمتقين فقط، ونفاها عن غيرهم. وقيل: إن ليوم القيامة أحوالا مختلفة، ففي بعضها يشتغل كل خليله عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض. إذا كانت تلك المخالة لله في محبته. قوله عز وجل: [سورة إبراهيم (14): الآيات 32 الى 37] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ اعلم أنه تقدم تفسير هذه الآية في مواضع كثيرة، ونذكر هاهنا بعض فوائد هذه الآية الدالة على وجود الصانع المختار القادر الذي لا يعجزه شيء أراده، فقوله تعالى: الله خلق السموات والأرض، إنما بدأ بذكر خلق السموات والأرض، لأنها أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار وأنزل من السماء ماء يعني من السحاب سمي السحاب سماء لارتفاعه مشتق من السمو، وهو الارتفاع وقيل إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقا لكم، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر. وقد يقع على الزرع أيضا بدليل قوله: كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده وقوله: من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقا هو الثمرات وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر، وإخراج الثمر لأجل الرزق والانتفاع به ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء، لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات، وغيرها من بلد إلى بلد آخر. فهي من تمام نعمة الله على عباده وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ يعني ذللها لكم تجرونها حيث شئتم، ولما كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب أيضا ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون لأجل هذه الحاجة، فهو من أعظم نعم الله على عباده وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ الدأب العادة

المستمرة دائما على حالة واحدة ودأب في السير داوم عليه، والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر، يجريان دائما فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها. قال ابن عباس: دؤبها في طاعة الله عز وجل. وقال بعضهم: معناه يدأبان في طاعة الله أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير الله عز وجل، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان، والزيادة وذلك من إنعام الله على عباده وتسخيره لهم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ لما ذكر الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر. والمعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا فحذف شيئا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض، وقيل: هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني أن نعم الله كثيرة على عباده، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها إِنَّ الْإِنْسانَ قال ابن عباس: يريد أبا جهل، وقال الزجاج: هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر لَظَلُومٌ كَفَّارٌ يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه، وقيل: الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم الله عليه. وقيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة. فإن قلت: أي فرق بين قوله اجعل هذا بلدا آمنا وبين قوله اجعل هذا البلد آمنا؟ قلت: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام. فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها. الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها. الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضا أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام. قلت: الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه: فالجواب على الوجه الأول: من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» أخرجاه في الصحيحين. وأجيب عنه بأن قوله: اجعل هذا البلد آمنا يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين. الوجه الثاني: أن يكون المراد اجعل أهل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: ويتخطف الناس من حولهم، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني: فمن وجوه أيضا: الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة والتثبيت، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك. الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام، وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا

بهذا الدعاء، هضما للنفس وإظهارا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدا لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد أحد منهم صنما قط. الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم. الوجه الثالث قال الواحدي: دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص. الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: فمن تبعني فإنه مني، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ يعني الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات، وحجارة لا تعقل شيئا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر: إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني أراد ولست من المتمسكين بحبلي، وقيل: معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص وَمَنْ عَصانِي يعني في غير الدين فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال السدي: ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم. وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال: ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلما وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه، وهو يقول أن ذلك غير محظور، فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما، والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان، والإسلام وتهديه إلى الصواب. قوله عز وجل إخبارا عن إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (خ) عن ابن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه فقال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتا أيضا فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول: بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف

وفي رواية قدر ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا. فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي، وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته أخرجه البخاري بأطول من هذا، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرما لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره، وقيل: لأن الله حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به، وبحرمته وجعل ما حوله محرما لمكانه، وشرفه وقيل: لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل: سمي محرما لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقا أيضا لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان. فإن قلت: كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ، وإنما بناه إبراهم بعد ذلك. قلت: يحتمل أن الله عز وجل أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتا قد كان في سالف الزمان، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بينك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعني أسكنت قوما من ذريتي، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو لكي يقيموا الصلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ قال البغوي جمع الموفد تَهْوِي إِلَيْهِمْ تحن وتشتاق إليهم. قال السدي رحمه الله: أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري: وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين. وقال الجوهري: الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض، قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي: يقال هوى يهوي هويا إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول: رأيت فلانا يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضا تهوي تسرع إليهم، وقال ابن الأنباري: معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس: يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم. وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس لزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ يعني لعلهم

[سورة إبراهيم (14): الآيات 38 إلى 43]

يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم، وقيل: معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات. [سورة إبراهيم (14): الآيات 38 الى 43] رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه والمعنى أنك تعلم أحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء، والطلب إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك وتذللا لعزتك وافتقارا إلى ما عندك، وقيل: معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء، وقيل: ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام إلى من تكلنا قال: إلى الله قالت إذا لا يضيعنا وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فقيل: هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون: إنه من قول الله تعالى تصديقا لإبراهيم فيما قال: فهو كقوله وكذلك يفعلون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، ومعنى قوله: على الكبر مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد فلهذا شكر الله على هذه المنة. فقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق. فإن قلت: كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر بإسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عند ما بشر بإسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر والله أعلم بحقيقة الحال إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ كان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله «رب هب لي من الصالحين» فلما استجاب الله دعاءه ووهبه ما سأل شكر الله على ما أكرمه به من إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام الله إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب الله لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه وكرمه رَبَّنَا اغْفِرْ لِي فان قلت طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة

[سورة إبراهيم (14): آية 44]

له؟ قلت: المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية لله تعالى والاتكال على رحمته وَلِوالِدَيَّ. فإن قلت: كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وَلِلْمُؤْمِنِينَ يعني واغفر للمؤمنين كلهم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوما عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق الله محال فلا بد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلا قال سفيان بن عيينة: فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت: تعالى الله عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غافلا وهو أعلم الناس به أنه لم غافلا حتى قيل له ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون. قلت: إذا كان المخاطب به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففيه وجهان: أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا فهو كقوله «ولا تكونن من المشركين- ولا تدع مع الله إلها آخر» وكقوله سبحانه وتعالى «يا أيها الذين آمنوا آمنوا» أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلا الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى: ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله فمن جوز أن يحسبه غافلا فلجهله بصفاته إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم مُهْطِعِينَ قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا باهتا فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية. قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئا ولا تعقل من شدة الخوف. وقال سعيد بن جبير: وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه، ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته. [سورة إبراهيم (14): آية 44] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ

[سورة إبراهيم (14): الآيات 45 إلى 48]

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم: طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فأجيبوا بقوله أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ يعني ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور. [سورة إبراهيم (14): الآيات 45 الى 48] وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ يعني الأمثال التي ضربها الله عز وجل في القرآن ليتدبروها، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم، ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك. قوله سبحانه وتعالى وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل: إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومكرهم ما ذكره الله تعالى بقوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك. وقوله تعالى وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند الله ليجازيهم به يوم القيامة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل: معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قولا آخر: وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرود: إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت، واتخذ تابوتا من خشب وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعا في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحما أحمر وقعد هو في التابوت، وأقعد معه رجلا آخر، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه، وطارت إليه فطارت النسور يوما أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له: افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان. قال: فطارت النسور يوما آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخا بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائرا أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم ملطخا بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل، وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها،

فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال: إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب ذُو انتِقامٍ يعني من أعدائه قوله عز وجل يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبديل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء: ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقي، وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله: ليس بها علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني: هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل: بأن تصير الأرض نيرانا والسماء جنانا وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث: أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء. وقال أهل اللغة: هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة، وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاما نزلا لأهل الجنة والله على كل شيء قدير. فإن قلت: إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وهو أن تحدث أخبارها، وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها، قلت: وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولا صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلا ثانيا، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضا ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال: «على الصراط» أخرجه مسلم وروى ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال: «هم في الظلمة دون الجسر» ذكره البغوي بغير سند، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى وَبَرَزُوا يعني وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ يعني لحكم الله، والوقوف بين يديه للحساب الْواحِدِ الْقَهَّارِ صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له، ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قوله تعالى:

[سورة إبراهيم (14): الآيات 49 إلى 52]

[سورة إبراهيم (14): الآيات 49 الى 52] وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ يعني مشدودين بعضهم إلى بعض يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا شددته معه في رباط واحد فِي الْأَصْفادِ يعني في القيود والأغلال. قال ابن عباس: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال أبو زيد: تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي القيود. وقال ابن قتيبة: يقرن بعضهم إلى بعض سَرابِيلُهُمْ يعني قمصهم واحدها سربال وقيل السربال كل ما لبس مِنْ قَطِرانٍ القطران دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت، وهو الهناء يقال هنأت البعير أهنؤه بالهناء وهو القطران قال الزجاج: وإنما جعل لهم القطران سرابيل لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم مما يعرفون وقرأ عكرمة، ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين فالقطر النحاس المذاب والآن الذي انتهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ يعني تعلوها وتجللها لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ يعني هذا القرآن فيه تبليغ وموعظة للناس وَلِيُنْذَرُوا يعني وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعني وليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ، أولو العقول والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية بإجماعهم وهي تسع وتسعون آية وستمائة، وأربع وخمسون كلمة وألفان وسبعمائة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) قوله سبحانه وتعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب وبالقرآن المبين: الكتاب الذي وعد به الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وتنكير القرآن للتفخيم، والتعظيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا وأي قرآن كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان وقيل: أراد بالكتاب التوراة والإنجيل، لأن عطف القرآن على الكتاب والمعطوف غير المعطوف عليه وهذا القول ليس بالقوي، لأنه لم يجر للتوراة والإنجيل ذكر حتى يشار إليهما. وقيل: المراد بالكتاب القرآن وإنما جمعهما بوصفين، وإن كان الموصوف واحدا لما في ذلك من الفائدة وهي التفخيم والتعظيم، والمبين الذي يبين الحلال من الحرام، والحق من الباطل رُبَما قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان ورب للتقليل وكم للتكثير، وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء كأنك قلت رب شيء فتكون المعنى رب شيء يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقيل: ما في ربما بمعنى حين أي رب حين يود يعني يتمنى الذين كفروا لأن التمني هو: تشهي حصول ما يوده، واختلف المفسرون في الوقت الذي يتمنى الذين كفروا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ على قولين أحدهما: أن ذلك يكون عند معاينة العذاب وقت الموت فحينئذ يعلم الكافر أنه كان على الضلال، فيتمنى لو كان مسلما، وذلك حين لا ينفعه ذلك التمني. قال الضحاك: هو عند حالة المعاينة والقول الثاني: إن هذا التمني يكون في الآخرة، وذلك حين يعاينون أهوال يوم القيامة وشدائده وما يصيرون عليه من العذاب، فحينئذ يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقال الزجاج: أن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ولو كان مسلما وقيل إذا رأى الكافر أن الله تعالى يرحم المسلمين، ويشفع بعضهم في بعض حين يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين والقول المشهور أن ذلك التمني حين يخرج الله المؤمنين من النار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قال إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغفرها الله لهم بفضل رحمته فيأمر الله بكل من كان من أهل القبلة في النار، فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» ذكره البغوي بغير سند، وكذا ذكره ابن الجوزي وقال: وإليه ذهب ابن عباس في رواية عنه عن أنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم يعني النخعي.

[سورة الحجر (15): الآيات 4 إلى 17]

فإن قلت: رب إنما وضعت للتقليل، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قلت: قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على فعله، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا الفعل. فكيف بكثيره؟ وقيل: إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم. فإن قلت: رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال: ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال: ربما ود. قوله سبحانه وتعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني إذا وردوا القيامة، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عز وجل، وقال بعض أهل العلم: ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. قال علي بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل، ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق. [سورة الحجر (15): الآيات 4 الى 17] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل مضروب، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها من زائدة، في قوله: من أمة كقولك ما جاءني من أحد. وقيل: هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو قوله سبحانه وتعالى: وَما يَسْتَأْخِرُونَ وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادة الرجال. قوله عز وجل وَقالُوا يعني مشركي مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعني القرآن وأرادوا به محمدا صلّى الله عليه وسلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلّى الله عليه وسلّم، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي، فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون، وقيل: إن الرجل إذا سمع كلاما مستغربا من غيره فربما نسبه إلى الجنون، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولا من عند الله، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون، وإنما قالوا: يا

أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء وقيل: معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة لَوْ ما قال الزجاج والفراء: لو ما ولولا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قولك وادعائك الرسالة ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعني بالعذاب أو وقت الموت، وهو قوله تعالى وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنزال الملائكة عيانا فأجابهم الله عز وجل بهذا، والمعنى لو نزلوا عيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد، وإنما قال سبحانه وتعالى: إنا نحن نزلنا الذكر جوابا لقولهم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر فأخبر الله عز وجل أنه هو الذي نزل الذكر على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه، أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد محروسا من الزيادة والنقصان، وقال ابن السائب ومقاتل: الكناية في له راجعة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو كقوله تعالى «والله يعصمك من الناس» ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمرا معلوما إلا أن القول الأول أصح، وأشهر، وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى، وهو الذكر وإذا قلنا: إن الكناية عائدة إلى القرآن، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ الله عز وجل للقرآن فقال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزا باقيا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن، وقال آخرون: إن الله حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه. وقال آخرون: بل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم: إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يا محمد، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه، وقوله تعالى في شيع الأولين: الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء: الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه. وقيل: الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. وقوله في شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ السلوك النفاذ في الطريق، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا: أضاف الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه، وقال الإمام فخر الدين الرازي: احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل، والضلال في

قلوب الكفار فقالوا قوله: كذلك نسلكه أي كذلك نسلك الباطل، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال: ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا: إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، أنه الكفر والضلال. قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل بالقرآن وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فيه وعيد وتهديد لكفار مكة، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل، والمعنى وقد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا: لو ما تأتينا بالملائكة بابا من السماء فظلوا. يقال: ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون، والمعارج المصاعد وفي المشار إليه بقوله: فظلوا به يعرجون قولان: أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك، والمعنى: لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار فرأوا بابا من السماء مفتوحا والملائكة تصعد فيه لما آمنوا. والقول الثاني: أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى: فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم، ولقالوا إنا سحرنا وهو قوله تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قال ابن عباس: سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس، ومنع من الجري وقيل: هو من سكر الشراب والمعنى أن أبصارهم حارت، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للرجل السكران من تغيير العقل، وفساد النظر وقيل سكرت يعني غشيت أبصارنا وسكنت عن النظر، وأصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت، وسكنت عن النظر بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ يعني سحرنا محمد، وعمل فينا سحره. وحاصل الآية أن الكفار لما طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أن ينزل عليهم الملائكة فيروهم عيانا، ويشهدوا بصدقه أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لو حصل لهم هذا وشاهدوه عيانا لما أمنوا ولقالوا سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني البروج التي تنزلها الشمس في مسيرها واحدها برج، وهي بروج الفلك الاثنا عشر برجا وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلا لكل برج منزلان وثلث منزل، وقد تقدم ذكر منازل القمر في تفسير سورة يونس، وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما، قال ابن عباس في هذه الآية يريد بروج الشمس والقمر، يعني منازلهما وقال ابن عطية: هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق يريدون نجوم هذه البروج، وهي نجوم على ما صورت به. وسميت وأصل هذا كله من الظهور وَزَيَّنَّاها يعني السماء بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ يعني المعتبرين المستدلين بها على وحيد خالقها، وصانعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره وَحَفِظْناها يعني السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي مرجوم فعيل بمعنى مفعول، وقيل: ملعون مطرود من رحمة الله. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة فيلقونها إليهم، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم، منعوا من السموات أجمع فما منهم من أحد يريد أن يسترق السمع إلا رمي بشهاب فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن فقالوا: هذا والله حدث.

[سورة الحجر (15): الآيات 18 إلى 22]

[سورة الحجر (15): الآيات 18 الى 22] إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ هذا استثناء منقطع، معناه لكن من استرق السمع فَأَتْبَعَهُ أي لحقه شِهابٌ مُبِينٌ والشهاب شعلة من نار ساطع سمي الكوكب شهابا لأجل ما فيه من البريق شبه بشهاب النار، قال ابن عباس في قوله إلا من استرق السمع: يريد الخطفة اليسيرة، وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب، فلا تخطئ أبدا فمنهم من تقتله، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده، أو حيث يشاء الله ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي (خ) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحذفها، وبدد أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب، قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال له: أليس قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء». اختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم لا على قولين: أحدهما أنها لم تكن ترمى بالنجوم، قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما ظهر ذلك في بدء أمره فكان ذلك أساسا لنبوته صلّى الله عليه وسلّم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب. أخرجاه في الصحيحين. فظاهر هذا الحديث يدل على أن هذا الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث حدث هذا الرمي. ويعضده ما روي أن يعقوب بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أهدى العرب فقالوا له: ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم؟ فقال: بلى. ولكن انظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك الخلق الذين فيها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله من الخلق قال الزجاج: ويدل على أنها كانت بعد مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن شعراء العرب الذين ذكروا البرق، والأشياء المسرعة لم يوجد في شعرهم ذكر الكواكب المنقضة فما حدثت بعد مولده صلّى الله عليه وسلّم، استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة: كأنه كوكب في أثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب والقول الثاني: إن ذلك كان موجودا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن لما بعث شدد وغلظ عليهم. قال معمر: قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال أخبرني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا، قالوا كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء، ثم قال: الذين

يلون حملة العرش لحملة العرش، ماذا قال ربكم فيخبرونهم بما قال، فيستخبر بعض أهل السماء بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع فيقذفونه إلى أوليائهم، ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون» أخرجه مسلم وقال ابن قتيبة: أن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة مثل بعد مبعثه، قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن أبي حازم وهو جاهلي: فالعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب وقال أوس بن حجر وهو جاهلي: فانقض كالدر يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا والجمع بين هذين القولين: أن الرمي بالنجوم كان موجودا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صونا لأخبار الغيوب والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها يعني بسطناها على وجه الماء كما يقال: إنها دحيت من تحت الكعبة ثم بسطت هذا قول أهل التفسير، وزعم أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء، وبعضها خارج عن الماء، وهو الجزء المغمور منها واعتذروا عن قوله تعالى: والأرض مددناها بأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها، كالسطح العظيم فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة وأنها كرة، ورد هذا أصحاب التفسير بأن الله أخبر في كتابه بأنها ممدودة، وأنها مبسوطة ولو كانت كرة لأخبر بذلك والله أعلم بمراده، وكيف مد الأرض وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ يعني جبالا ثوابت وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرض على الماء مادت ورجفت فأثبتها بالجبال وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض، لأن أنواع النبات المنتفع به تكون في الأرض، وقيل: الضمير يرجع إلى الجبال لأنها أقرب مذكور لقوله تعالى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وإنما يوزن ما تولد في الجبال من المعادن، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: موزون أي معلوم، وقال مجاهد وعكرمة أي مقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر عند الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى يعلم القدر الذي يحتاج إليه الناس في معايشهم وأرزاقهم فيكون إطلاق الوزن عليه مجازا، لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن، وقال الحسن وعكرمة وابن زيد: أنه عنى به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن، لأن هذه الأشياء كلها توزن وقيل: معنى موزون متناسب في الحسن والهيئة والشكل، تقول العرب فلان موزون الحركات إذا كانت حركاته متناسبة حسنة، وكلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا من الخطأ والسخف وقيل إن جميع ما ينبت في الأرض والجبال نوعان: أحدهما ما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات وبعضه موزون أيضا: وبعضه مكيل وهو يرجع إلى الوزن لأن الصاع والمدّ مقدران بالوزن وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة. وهو ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ يعني الدواب والوحش والطير أنتم منتفعون بها، ولستم لها برازقين لأن رزق جميع الخلق على الله ومنه قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وتكون من في قوله تعالى: ومن لستم بمعنى ما لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل، وقيل: يجوز إطلاق لفظة من على من لا يعقل كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وقيل أراد بهم العبيد والخدم فتكون من على أصلها، ويدخل معهم ما لا يعقل من الدواب والوحش وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ الخزائن جمع خزانة هي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء للحفظ يقال: خزن الشيء إذا أحرزه. فقيل أراد مفاتيح الخزائن وقيل: أراد بالخزائن المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش لبني آدم والدواب والوحش والطير ومعنى عندنا أنه في حكمه وتصرفه وأمره وتدبيره قوله تعالى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ يعني بقدر الكفاية. وقيل: إن لكل أرض حدا ومقدار من المطر. يقال: لا تنزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك

[سورة الحجر (15): الآيات 23 إلى 30]

يسوقها إلى حيث يشاء الله تعالى. وقيل: إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص ولكن الله يمطر قوما، ويحرم آخرين وقيل: إذا أراد الله بقوم خيرا أنزل عليهم المطر والرحمة وإذا أراد بقوم شرا صرف المطر عنهم إلى حيث لا ينتفع به، كالبراري والقفار والرمال والبحار ونحو ذلك. وحكى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده أنه قال في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قال ابن عباس يعني للشجر، وهو قول الحسن وقتادة وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء، فحملته فكذلك الرياح كالفحل للسحاب وقال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: يرسل الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة، وقال عبيد بن عمير: يرسل الله الريح المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاما، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر والأظهر في هذه الآية إلقاحها السحاب لقوله بعده فأنزلنا من السماء ماء قال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه. وقال أبو عبيد: لواقح هنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة حذفت الميم وردت إلى الأصل. وقال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألقحت غيرها، لأن معناها النسبة كما يقال: درهم وازن أي ذو وزن واعترض الواحدي على هذا. فقال هذا ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات لقح حتى يوافق قول المفسرين، وأجاب الرازي عنه بأن قال: هذا ليس بشيء. لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غير اللقحة فله نسبة إلى اللقحة وقال صاحب المفردات لواقح أي ذات لقاح وقيل إن الريح في نفسها لاقح لأنها حاملة للسحاب والدليل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثقالا، أي حملت فعلى هذا تكون الريح لاقحة بمعنى حاملة تحمل السحاب. وقال الزجاج: ويجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير، وورد في بعض الأخبار أن الملقح الرياح الجنوب، وفي بعض الآثار ما هبت رياح الجنوب إلا واتبعت عينا غدقة (ق) عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» وروى البغوي بسنده إلى الشافعي إلى ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه، وقال: «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» قال ابن عباس في كتاب الله عز وجل إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ وقال يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وقوله سبحانه وتعالى فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَسْقَيْناكُمُوهُ يعني جعلنا لكم المطر سقيا يقال أسقى فلان فلانا إذا جعل له سقيا، وسقاه إذا أعطاه ما يشرب، وتقول العرب: سقيت الرجل ماء، ولبنا إذا كان لسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته يقال: أسقيناه وَما أَنْتُمْ لَهُ يعني للمطر بِخازِنِينَ يعني: إن المطر في خزائننا لا في خزائنكم. وقيل: وما أنتم له بمانعين. [سورة الحجر (15): الآيات 23 الى 30] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ يعني بيدنا إحياء الخلق وإماتتهم لا يقدر على ذلك أحد إلا الله سبحانه

وتعالى، لأن قوله تعالى: وإنا لنحن يفيد الحصر يعني لا يقدر على ذلك سوانا وَنَحْنُ الْوارِثُونَ وذلك بأن نميت جميع الخلق، فلا يبقى أحد سوانا فيزول ملك كل مالك ويبقى جميع ملك المالكين لنا والوارث هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد فناء خلقه الذين أمتعهم بما آتاهم في الحياة الدنيا لأن وجود الخلق. وما آتاهم كان ابتداؤه منه تعالى فإذا فني جميع الخلائق رجع الذي كانوا يملكونه في الدنيا على المجاز إلى مالكه على الحقيقة، وهو الله تعالى. وقيل مصير الخلق إليه. قوله عز وجل وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن الناس فكان بعض الناس يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها. ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله عز وجل ولقد علمنا المستقدمين منكم، ولقد علمنا المستأخرين أخرجه النسائي وأخرجه الترمذي وقال فيه وقد روي عن ابن الجوزي نحوه. ولم يذكر فيه عن ابن عباس وهذا أشبه أن يكون أصح قال البغوي وذلك أن النساء كن يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال، ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال فنزلت هذه الآية فعند ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها. وشرها أولها» أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وقال ابن عباس: أراد بالمستقدمين من خلق الله وبالمستأخرين من لم يخلق الله تعالى بعد. وقال مجاهد: المستقدمون القرون الأولى والمستأخرون أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الحسن: المستقدمون يعني في الطاعة والخير والمستأخرون يعني فيهما. وقال الأوزاعي: أراد بالمستقدمين المصلين في أول الوقت وبالمستأخرين المؤخرين لها إلى آخره. وقال مقاتل: أراد بالمستقدمين وبالمستأخرين في صف القتال. وقال ابن عيينة: أراد من يسلم أولا ومن يسلم آخرا. وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرض على الصف الأول فازدحموا عليه، وقال قوم كانت بيوتهم قاصة عن المسجد: لنبيعن دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم. فنزلت هذه الآية، ومعناها إنما تجزون على النيات فاطمأنوا وسكنوا فيكون معنى الآية على القول الأول المستقدم للتقوى والمستأخر للنظر، وعلى القول الأخير المستقدم لطلب الفضيلة والمستأخر للعذر، ومعنى الآية أن علمه سبحانه وتعالى محيط بجميع خلقه مقدمهم ومتأخرهم طائعهم وعاصيهم، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يعني على ما علم منهم، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى يميت الكل ثم يحشرهم الأولين والآخرين على ما ماتوا عليه (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم عليه السلام في قول جميع المفسرين سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي من صَلْصالٍ يعني من اليابس، إذا نقرته سمعت له صلصلة يعني صوتا، وقال ابن عباس: هو الطين الحر الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع. وقال مجاهد: هو الطين المنتن. واختاره الكسائي وقال: هو من صل اللحم إذا أنتن مِنْ حَمَإٍ يعني من الطين الأسود مَسْنُونٍ أي متغير قال مجاهد وقتادة: هو المنتن المتغير. وقال أبو عبيدة: هو المصبوب. تقول العرب: سننت الماء إذا أصببته قال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن جعل صلصالا كالفخار، والجمع بين هذه الأقاويل على ما ذكره بعضهم أن الله سبحانه وتعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام، قبض قبضة من تراب الأرض فبلها بالماء حتى اسودت وأنتن ريحها، وتغيرت وإليه الإشارة بقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثم إن ذلك التراب بله بالماء وخمره حتى اسودت، وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله: من حمأ مسنون ثم ذلك الطين الأسود المتغير صوره صورة إنسان أجوف، فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فتسمع له صلصلة يعني صوتا، وإليه الإشارة بقوله من صلصال كالفخار وهو الطين اليابس، إذا تفخّر في الشمس

[سورة الحجر (15): الآيات 31 إلى 41]

ثم نفخ فيه الروح فكان بشرا سويا قوله تعالى وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل آدم عليه السلام. قال ابن عباس: الجان أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة: هو إبليس. وقيل: الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين، وفي الجن مسلمون وكافرون يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم. وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون، ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين والأصح أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سموا جنا لتواريهم واستتارهم عن الأعين من قولهم: جن الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر مِنْ نارِ السَّمُومِ يعني من ريح حارة تدخل مسام الإنسان من لطفها، وقوة حرارتها فتقتله. ويقال للريح الحارة التي تكون بالنهار: السموم. وللريح الحارة التي تكون بالليل: الحرور، وقال أبو صالح: السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء والحجاب، فإذا حدث أمر خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدة التي تسمعون من خرق ذلك الحجاب وهذا على قول أصحاب الهيئة أن الكرة الرابعة تسمى كرة النار، وقيل: من نار السموم يعني من نار جهنم. وقال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. وقال ابن عباس: كان إبليس من حي من الملائكة يسمون الجان خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وخلقت الملائكة من النور. قوله عز وجل وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أي واذكر يا محمد: إذ قال ربك للملائكة إِنِّي خالِقٌ بَشَراً سمي الآدمي بشرا، لأنه جسم كثيف ظاهر البشرة ظاهر الجلد مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تقدم تفسيره فَإِذا سَوَّيْتُهُ يعني عدلت صورته، وأتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفخ عبارة عن إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى، وهو المراد من قوله: ونفخت فيه من روحي وأضاف الله عز وجل روح آدم إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم لها كما يقال بيت الله وناقة الله وعبد الله وسيأتي الكلام على الروح في تفسير سورة الإسراء عند قوله: «ويسألونك عن الروح» إن شاء الله تعالى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ الخطاب للملائكة، الذين قال الله لهم: إني خالق بشرا أمرهم بالسجود لآدم بقوله فقعوا له ساجدين. وكان هذا السجود تحية لا سجود عبادة فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ يعني الذين أمروا بالسجود لآدم أَجْمَعُونَ قال سيبويه: هذا توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة لاحتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم لزم إزالة ذلك الاحتمال فظهر بهذا أنهم سجدوا بأسرهم ثم عند هذا بقي احتمال آخر، وهو أنهم سجدوا في أوقات متفرقة، أو في دعة واحدة فلما قال: أجمعون ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال: قول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا تكون حالا. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله سبحانه وتعالى أمر جماعة من الملائكة، بالسجود لآدم فلم يفعلوا فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم قال لجماعة أخرى: اسجدوا لآدم فسجدوا. [سورة الحجر (15): الآيات 31 الى 41] إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)

[سورة الحجر (15): الآيات 42 إلى 45]

إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يعني مع الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم فسجدوا قالَ يعني قال الله يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يعني إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أراد إبليس أنه أفضل من آدم لأن آدم طيني الأصل وإبليس ناري الأصل. والنار أفضل من الطين فيكون إبليس في قياسه أفضل من آدم، ولم يدر الخبيث أن الفضل فيما فضله الله تعالى قالَ فَاخْرُجْ مِنْها يعني من الجنة وقيل من السماء فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي طريد وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قيل: إن أهل السموات يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض، فهو ملعون في السموات والأرض فإن قلت: إن حرف إلى لانتهاء الغاية فهل ينقطع اللعن عنه يوم الدين الذي هو يوم القيامة؟ قلت: لا بل يزداد عذابا إلى اللعنة التي عليه كأنه قال تعالى، وإن عليك اللعنة فقط إلى يوم الدين. ثم تزداد معها بعد ذلك عذابا دائما مستمرا لا انقطاع له قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي يعني أخّرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني يوم القيامة وأراد بهذا السؤال أنه لا يموت أبدا لأنه إذا أمهل إلى يوم القيامة، ويوم القيامة لا يموت فيه أحد لزم من ذلك أنه لا يموت أبدا، فلهذا السبب سأل الإنظار إلى يوم يبعثون، فأجابه الله سبحانه وتعالى بقوله: قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني الوقت الذي يموت فيه جميع الخلائق وهو النفخة الأولى فيقال: إن مدة موت إبليس أربعون سنة، وهو ما بين النفختين، ولم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكراما له بل كان ذلك الإمهال زيادة له في بلائه وشقائه وعذابه. وإنما سمي يوم القيامة بيوم الوقت المعلوم، لأن ذلك اليوم لا يعلمه أحد إلا الله تعالى فهو معلوم عنده وقيل: إن جميع الخلائق يموتون فيه فهو معلوم بهذا الاعتبار وقيل لما سأل إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون، أجابه الله بقوله: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يعني اليوم الذي عينت وسألت الإنظار إليه قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم في قوله بما وما ومصدرية، وجواب القسم لَأُزَيِّنَنَّ والمعنى فبإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض، وقيل هي باء السبب. يعني بسبب كوني غاويا لأزينن لَهُمْ فِي الْأَرْضِ يعني لأزينن لهم حب الدنيا ومعاصيك وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور له حرص على إضلال الخلق بالكفر، وإغوائهم ثم استثنى فقال إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يعني المؤمنين الذين أخلصوا لك التوحيد والطاعة والعبادة، ومن فتح اللام من المخلصين يكون المعنى إلا من أخلصته واصطفيته لتوحيدك وعبادتك. وإنما استثنى إبليس المخلصين، لأنه علم أن كيده ووسوسته لا تعمل فيهم، ولا يقبلون منه وحقيقة الإخلاص فعل الشيء خالصا لله عن شائبة الغير فكل من أتى بعمل من أعمال الطاعات فلا يخلو، إما أن مراده بتلك الطاعات وجه الله فقط، أو غير الله أو مجموع الأمرين. أما ما كان لله تعالى فهو الخالص المقبول، وأما ما كان لغير الله فهو الباطل المردود، وأما من كان مراده مجموع الأمرين فإن ترجح جانب الله تعالى كان من المخلصين الناجحين، وإن ترجح الجانب الآخر كان من الهالكين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد، وإلى أي الجانبين رجح أخذ به قالَ يعني قال الله تبارك وتعالى هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قال الحسن معناه هذا صراط إلي مستقيم. وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج إلى شيء. وقال الأخفش: معناه على الدلالة على الصراط المستقيم. وقال الكسائي: هذا على طريق التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقك علي، أي لا تنفلت مني. وقيل: معناه علي استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية. وقيل: هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي يؤدي إلى كرامتي ورضواني. [سورة الحجر (15): الآيات 42 الى 45] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)

[سورة الحجر (15): الآيات 46 إلى 60]

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قوة وقدرة وذلك أن إبليس لما قال: لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، أوهم بهذا الكلام أن له سلطانا على غير المخلصين فبين الله سبحانه وتعالى، أنه ليس له سلطان على أحد من عبيده سواء كان من المخلصين، أو لم يكن من المخلصين. قال أهل المعاني: ليس لك عليهم سلطان على قلوبهم، وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء خاصته أي الذين هداهم، واجتباهم من عباده إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ يعني إلا من اتبع إبليس من الغاوين، فإن له عليهم سلطانا بسبب كونهم منقادين له فيما يأمرهم به وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني موعد إبليس وأتباعه وأشياعه لَها يعني لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ يعني سبع طبقات. قال علي بن أبي طالب: تدرون كيف أبواب جهنم هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى أي سبعة أبواب بعضها فوق بعض. قال ابن جريج: النار سبع دركات أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ يعني لكل دركة قوم يسكنونها والجزء بعض الشيء، وجزأته جعلته أجزاء، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة أجزاء فيدخل كل قسم منهم في النار دركة من النار والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة فلذلك اختلفت مراتبهم في النار. قال الضحاك: في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها، وفي الثانية النصارى، وفي الثالثة اليهود، وفي الرابعة الصابئون، وفي الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون فذلك، قوله سبحانه وتعالى «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب قوله سبحانه وتعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك في قول جمهور المفسرين وقيل: هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والجنات والبساتين والعيون والأنهار الجارية في الجنات، وقيل: يحتمل أن تكون هذه العيون غير الأنهار الكبار التي في الجنة، وعلى هذا فهل يختص كل واحد من أهل الجنة بعيون أو تجري هذه العيون من بعضهم إلى بعض؟ وكلا الأمرين محتمل فيحتمل أن كل واحد من أهل الجنة يختص بعيون تجري في جناته، وقصوره ودوره فينتفع بها هو ومن يختص به من حوره وولدانه، ويحتمل أنها تجري من جنات بعضهم إلى جنات بعض لأنهم قد طهروا من الحسد والحقد. [سورة الحجر (15): الآيات 46 الى 60] ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) ادْخُلُوها أي يقال لهم: ادخلوها والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته بِسَلامٍ آمِنِينَ يعني ادخلوا الجنة مع السلامة والأمن من الموت ومن جميع الآفات وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الغل الحقد الكامن في القلب. ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد، وكل هذه الخصال المذمومة داخلة في

الغل لأنها كامنة في القلب يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة، وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد إِخْواناً يعني في المحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد منه إخوة النسب عَلى سُرُرٍ جمع سرير. قال بعض أهل المعاني: السرير مجلس رفيع عال مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل صنعاء إلى الجابية مُتَقابِلِينَ يعني يقابل بعضهم بعضا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه، وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان لا يَمَسُّهُمْ فِيها يعني في الجنة نَصَبٌ أي تعب ولا إعياء وَما هُمْ مِنْها يعني من الجنة بِمُخْرَجِينَ هذا نص من الله في كتابه على خلود أهل الجنة في الجنة، والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء، وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان. قوله سبحانه وتعالى نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قال ابن عباس: يعني لمن تاب منهم وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون وبين أيديكم النار فنزل جبريل بهذه الآية وقال: يقول لك ربك يا محمد مم تقنط عبادي» ذكره البغوي بغير سند وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ قال قتادة بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم العبد قدر عذابه لبخع نفسه» يعني لقتل نفسه (خ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» وفي الآية لطائف منها أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه بقوله نبىء عبادي وهذا تشريف وتعظيم لهم، ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لم يزد على قوله «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا» فكل من اعترف على نفسه بالعبودية لله تعالى فهو داخل في هذا التشريف العظيم، ومنها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله: أني وثانيها أنا وثالثها إدخال الألف واللام في الغفور الرحيم، وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة. ولما ذكر العذاب لم يقل إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك. بل قال: وأن عذابي هو العذاب الأليم على سبيل الإخبار، ومنها أنه سبحانه وتعالى أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلغ عباده هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. قوله سبحانه وتعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هذا معطوف على ما قبله أي وأخبر يا محمد عبادي عن ضيف إبراهيم. وأصل الضيف الميل يقال ضفت إلى كذا إذا ملت إليه والضيف من مال إليك نزولا بك وصارت الضيافة متعارفة في القرى وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى، ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ يعني إذ دخل الأضياف على إبراهيم عليه السلام فَقالُوا سَلاماً أي نسلم سلاما قالَ يعني إبراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون وإنما خاف إبراهيم منهم لأنهم لم يأكلوا طعامه قالُوا لا تَوْجَلْ يعني لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يعني أنهم بشروه بولد ذكر غلام في صغره عليم في كبره، وقيل عليم بالأحكام والشرائع والمراد به إسحاق عليه السلام فلما بشروه بالولد عجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي يعني بالولد عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ يعني على حالة الكبر، قاله على طريق التعجب فَبِمَ تُبَشِّرُونَ يعني فبأي شيء تبشرون، وهو استفهام بمعنى التعجب كأنه عجب من حصول الولد على الكبر قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ يعني بالصدق الذي قضاه الله بأن يخرج منك ولدا ذكرا، تكثر ذريته وهو إسحاق فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ يعني فلا تكن من الآيسين من الخير. والقنوط: هو الإياس من الخير قالَ يعني إبراهيم وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ يعني من ييأس من رحمة ربه إلا المكذبون، وفيه

[سورة الحجر (15): الآيات 61 إلى 70]

دليل على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن من القانطين، ولكنه استبعد حصول الولد على الكبر فظنت الملائكة أن به قنوطا فنفى ذلك عن نفسه، وأخبر أن القانط من رحمة الله تعالى من الضالين لأن القنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكر الله ولا يحصل إلا عند من يجهل كون الله تعالى قادرا على ما يريد، ومن يجهل كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات فكل هذه الأمور سبب للضلالة قالَ يعني إبراهيم فَما خَطْبُكُمْ يعني فما شأنكم وما الأمر الذي جئتم فيه أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ والمعنى ما الأمر الذي جئتم به سوى ما بشرتموني به من الولد قالُوا يعني الملائكة إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني لهلاك قوم مجرمين إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني أشياعه وأتباعه من أهل دينه إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ يعني امرأة لوط قَدَّرْنا يعني قضينا وإنما أسند الملائكة القدر إلى أنفسهم وإن كان ذلك لله عز وجل، لاختصاصهم بالله وقربهم منه كما تقول خاصة الملك نحن أمرنا، ونحن فعلنا وإن كان قد فعلوه بأمر الملك إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ يعني لمن الباقين في العذاب والاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين. [سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 70] فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وذلك أن الملائكة عليهم السلام لما بشروا إبراهيم بالولد، وعرفوه بما أرسلوا به ساروا إلى لوط وقومه فلما دخلوا على لوط قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وإنما قال هذه المقالة لوط لأنهم دخلوا عليه وهم في زي شبان مردان حسان الوجوه، فخاف أن يهجم عليهم قومه فلهذا السبب قال هذه المقالة. وقيل: إن النكرة ضد المعرفة فقوله: إنكم قوم منكرون يعني لا أعرفكم ولا أعرف من أي الأقوام أنتم، ولا لأي غرض دخلتم فعند ذلك قالُوا يعني الملائكة بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ يعني جئناك بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ يعني باليقين الذي لا شك فيه وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني فيما أخبرناك به من إهلاكهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع من الليل يعني آخر الليل، والقطع القطعة من الشيء وبعضه وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ يعني واتبع آثار أهلك وسر خلفهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني حتى لا يرى ما نزل بقومه من العذاب فيرتاع بذلك، وقيل: المراد الإسراع في السير وترك الالتفات إلى ورائه، والاهتمام بما خلفه كما تقول امض لشأنك ولا تعرج على شيء وقيل جعل ترك الالتفات علامة لمن ينجو من آل لوط، ولئلا يتخلف أحد منهم فيناله العذاب وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قال ابن عباس: يعني إلى الشام وقيل: الأردن، وقيل إلى حيث يأمركم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة، ما عمل أهلها عمل قوم لوط وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ يعني وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه، وفرغنا منه ثم إنه سبحانه وتعالى فسر ذلك الأمر الذي قضاه بقوله أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ يعني أن هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم بالعذاب وقت الصبح وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولا، وفسر ثانيا تفخيما له وتعظيما لشأنه وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يعني مدينة سدوم وهي مدينة قوم لوط يَسْتَبْشِرُونَ يعني يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط والاستبشار: إظهار الفرح والسرور، وذلك أن الملائكة لما نزلوا على لوط ظهر أمرهم في المدينة، وقيل إن امرأته أخبرتهم بذلك، وكانوا شبانا مردا في غاية الحسن ونهاية الجمال فجاء قوم لوط إلى داره طمعا منهم في ركوب الفاحشة قالَ يعني

[سورة الحجر (15): الآيات 71 إلى 80]

قال لوط لقومه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي وحق على الرجل إكرام ضيفه فَلا تَفْضَحُونِ يعني فيهم يقال فضحه يفضحه إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني خافوا الله في أمرهم وَلا تُخْزُونِ يعني ولا تخجلون قالُوا يعني: قوم لوط الذين جاءوا إليه أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ يعني أولم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين. وقيل: معناه أو لم ننهك أن تدخل الغرباء إلى بيتك، فانا نريد أن نركب منهم الفاحشة: وقيل: معناه ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من العالمين إذا قصدناه بالفاحشة. [سورة الحجر (15): الآيات 71 الى 80] قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) قالَ يعني قال لوط لقومه الذين قصدوا أضيافه هؤُلاءِ بَناتِي أزوجكم إياهن إن أسلمتم فأتوا الحلال ودعوا الحرام وقيل: أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ يعني ما آمركم به لَعَمْرُكَ الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: معناه وحياتك يا محمد وقال ما خلق الله نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته والعمر واحد وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وبقائه مدة حياته. قال النحويون: ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي فحذف الخبر لأن في الكلام دلالة عليه. إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يعني في حيرتهم وضلالتهم وقيل غفلتهم يَعْمَهُونَ يعني يترددون متحيرين وقال قتادة: يلعبون فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ يعني حين أضاءت الشمس فكان ابتداء العذاب الذي نزل بهم وقت الصبح وتمامه وانتهاؤه حين أشرقت الشمس فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ تقدم تفسيره في سورة هود إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي نزل بهم من العذاب لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عباس: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مقاتل: للمتفكرين. وقال مجاهد: للمتفرسين ويعضد هذا التأويل ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست في فلان الخير. وهي على نوعين: أحدهما ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بذلك أحوال الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت، والنوع الثاني ما يحصل بدلائل التجارب والخلق والأخلاق تعرف بذلك أحوال الناس أيضا وللناس في علم الفراسة تصانيف قديمة وحديثة. قال الزجاج: حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتين في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته فالمتوسم الناظر في سمة الدلائل، تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته وَإِنَّها يعني قرى قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يعني بطريق واضح. قال مجاهد: بطريق معلم ليس بخفي ولا زائل والمعنى: أن آثار ما أنزل الله بهذه القرى من عذابه وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يدثر ولم يخف، والذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون ذلك ويرون أثره إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من عذاب قوم لوط، وما أنزل بهم لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يعني المصدقين لما أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ يعني كان أصحاب الأيكة وهي الغيضة، واللام في قوله لظالمين للتأكيد وهم قوم شعيب عليه السلام كانوا أصحاب غياض، وشجر ملتف وكان عامة شجرهم المقل وكانوا قوما كافرين فبعث الله عز وجل إليهم شعيبا رسولا فكذبوه فأهلكهم الله فهو قوله تعالى فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعني بالعذاب، وذلك أن الله سبحانه وتعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ

[سورة الحجر (15): الآيات 81 إلى 88]

بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه وتعالى سحابة كالظلة فالتجؤوا إليها، واجتمعوا تحتها يلتمسون الروح فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم جميعا وَإِنَّهُما يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ يعني طريق واضح مستبين لمن مر بهما، وقيل: الضمير راجع إلى الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما وإنما سمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع، ولأن المسافر يأتمّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. قوله عز وجل وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ قال المفسرون: الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود وهو معروف بين المدينة النبوية والشام وآثاره موجودة باقية يمر عليها ركب الشام إلى الحجاز، وأهل الحجاز إلى الشام وأراد بالمرسلين صالحا وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع للتعظيم أو لأنهم كذبوه، وكذبوا من قبله من الرسل. [سورة الحجر (15): الآيات 81 الى 88] وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني الناقة وولدها والآيات التي كانت في الناقة خروجها من الصخرة، وعظم جثتها وقرب ولادها وغزارة لبنها، وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لصالح، لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات فَكانُوا عَنْها يعني عن الآيات مُعْرِضِينَ يعني تاركين لها غير ملتفتين إليها وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ خوفا من الخراب أو أن يقع عليهم الجبل أو السقف فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني العذاب مُصْبِحِينَ يعني وقت الصبح فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني من الشرك والأعمال الخبيثة (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي» قوله سبحانه وتعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ يعني لإظهار الحق والعذاب، وهو أن يثاب المؤمن المصدق ويعاقب الجاحد الكافر الكاذب وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ يعني: وإن القيامة لتأتي ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي فأعرض عنهم يا محمد واعف عنهم عفوا حسنا. واحتمل ما تلقى من أذى قومك وهذا الصفح والإعراض منسوخ بآية القتال، وقيل فيه بعد لأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم، أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يعني أنه سبحانه وتعالى خلق خلقه، وعلم ما هم فاعلوه وما يصلحهم. قوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال ابن الجوزي: سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله هذه الآية. وقال: قد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية قال الحسن بن الفضل قلت وهذا القول ضعيف، أو لا يصح لأن هذه السورة مكية، بإجماع أهل التفسير وليس فيها من المدني شيء. ويهود قريظة والنضير، كانوا بالمدينة وكيف يصح أن يقال إن سبع قوافل جاءت في يوم واحد، فيها أموال عظيمة حتى تمناها المسلمون فأنزل الله هذه الآية، وأخبرهم أن هذه السبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل والله أعلم، وفي المراد بالسبع المثاني أقوال أحدها

أنها فاتحة الكتاب، وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وفي رواية عنه وابن عباس، وفي رواية الأكثرين عنه وأبي هريرة والحسن، وسعيد بن جبير وفي رواية عنه ومجاهد وعطاء وقتادة في آخرين. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني» أخرجه أبو داود والترمذي (ق) عن أبي سعيد ابن المعلى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» أخرجه البخاري. وفيه زيادة أما السبب في تسمية فاتحة الكتاب بالسبع المثاني، فلأنها سبع آيات بإجماع أهل العلم واختلفوا في سبب تسميتها بالمثاني. فقال ابن عباس والحسن وقتادة: لأنها تثنى في الصلاة تقرأ في كل ركعة. وقيل: لأنها مقسومة بين العبد وبين الله نصفين: فنصفها الأول ثناء على الله. ونصفها الثاني: دعاء ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» الحديث مذكور في فضل الفاتحة. وقيل سميت مثاني لأن كلماتها مثناة مثل قوله: «الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين» فكل هذه ألفاظ مثناة. وقال الحسن بن الفضل: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ومعها سبعون ألف ملك. وقال مجاهد: لأن الله سبحانه وتعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم. وقال أبو زيد البلخي: لأنها تثني أهل الشرك عن الشر من قول العرب ثنيت عناني. وقال ابن الزجاج: سميت فاتحة الكتاب مثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده، وملكه وإذا ثبت كون الفاتحة هي السبع المثاني دل ذلك على فضلها وشرفها وأنها من أفضل سور القرآن، لأن إفرادها بالذكر في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مع أنها جزء من أجزاء القرآن وإحدى سوره لا بد. وأن يكون لاختصاصها بالشرف، والفضيلة. القول الثاني في تفسير قوله سبعا من المثاني أنها السبع الطوال، وهذا قول ابن عمر وابن مسعود في رواية عنه وابن عباس وفي رواية عنه وسعيد بن جبير وفي رواية عنه السبع الطوال هي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. واختلفوا في السابعة فقيل الأنفال مع براءة لأنهما كالسورة الواحدة، ولهذا لم يكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل السابعة هي سورة يونس ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه وتعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المائتين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل» أخرجه البغوي بإسناد الثعلبي قال ابن عباس: إنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود، والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها، وأورد على هذا القول أن هذه السور الطوال غالبها مدنيات فكيف يمكن تفسير هذه الآية بها، وهي مكية وأجيب عن هذا الإيراد بأن الله سبحانه وتعالى، حكم في سابق علمه بإنزال هذه السورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وإذا كان الأمر كذلك صح أن تفسر هذه الآية بهذه السورة، القول الثالث: أن السبع المثاني هي السور التي هي دون الطوال، وفوق المفصل وهي المئين، وحجة هذا القول الحديث المتقدم وأعطاني مكان الزبور المثاني، والقول الرابع: أن السبع المثاني هي القرآن كله وهذا قول طاوس وحجة هذا القول أن الله سبحانه وتعالى قال «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» وسمي القرآن كله مثاني لأن الأخبار والقصص والأمثال ثنيت فيه فإن قلت: كيف يصح عطف القرآن في قوله «والقرآن العظيم» على قوله «سبعا من المثاني» وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عني بالسبع المثاني فاتحة الكتاب أو السبع الطوال فما وراءهن ينطلق عليه القرآن لأن القرآن اسم يقع على البعض كما يقع على الكل ألا ترى إلى قوله بما أوحينا إليك هذا القرآن يعني سورة يوسف عليه السلام. وإذا عنى بالسبع المثاني القرآن كله كان المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني، وهي القرآن العظيم وإنما سمي القرآن عظيما، لأنه كلام الله ووحيه أنزله على خير خلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم. قوله لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي لا تمدن عينيك يا محمد إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً يعني أصنافا مِنْهُمْ يعني من

[سورة الحجر (15): الآيات 89 إلى 95]

الكفار متمنيا لها نهى الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن الرغبة في الدنيا، ومزاحمة أهله عليها والمعنى أنك قد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء، فلا تشغل قلبك وسرك بالالتفات إلى الدنيا والرغبة فيها. روي أن سفيان بن عيينة تأول قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» يعني من لم يستغن بالقرآن فتأول هذه الآية. قيل: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النظر إليه مستحسنا له فيحصل من ذلك تمني ذلك الشيء المستحسن، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينظر إلى شيء من متاع الدنيا ولا يلتفت إليه ولا يستحسنه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يعني ولا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا وقيل ولا تحزن على إيمانهم إذا لم يؤمنوا ففيه النهي عن الالتفات إلى أموال الكفار، والالتفات إليهم أيضا وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تغبطن فاجرا بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلا لا يموت قيل: وما هو؟ قال: النار» (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه» لفظ البخاري ولمسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» قال عوف بن عبد الله بن عتبة: كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني كنت أرى دابة خيرا من دابتي وثوبا خيرا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت. وقوله سبحانه وتعالى وَاخْفِضْ جَناحَكَ يعني ليّن جانبك لِلْمُؤْمِنِينَ وارفق بهم لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع واللين والرفق بفقراء المسلمين وغيرهم من المؤمنين. [سورة الحجر (15): الآيات 89 الى 95] وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) وَقُلْ أي وقل لهم يا محمد إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لما أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالزهد في الدنيا، والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم، والنذارة تبليغ مع تخويف والمعنى: إني أنا النذير بالعقاب لمن عصاني المبين النذارة كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يعني أنذركم عذابا كعذاب أنزلناه بالمقتسمين، قال ابن عباس: أراد بالمقتسمين اليهود والنصارى. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة: سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه، فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به، وقال عكرمة: إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد منهم هذه السورة لي وقال: آخر هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به، وقال مجاهد: إنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، وكفر آخرون منهم بما آمن به غيرهم. وقال قتادة وابن السائب: أراد بالمقتسمين كفار قريش سموا بذلك لأن أقوالهم تقسمت في القرآن. فقال بعضهم: إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم إنه أساطير الأولين وقال ابن السائب: سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا عقاب مكة وطرقها، وذلك أن الوليد بن المغيرة بعث رهطا من أهل مكة. قيل ستة عشر. وقيل: أربعين. فقال لهم: انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة وطرقها حيث يمر بكم أهل الموسم، فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم إنه كاهن وليقل بعضكم إنه شاعر، وليقل بعضكم إنه ساحر فإذا جاءوا إلي صدقتكم فذهبوا وقعدوا على عقاب مكة وطرقها يقولون لمن مر بهم من حجاج العرب: لا تغتروا بهذا الخارج الذي يدعي النبوة منا فإنه مجنون كاهن، وشاعر. وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام فإذا جاءوا وسألوه عما قال: أولئك المقتسمون. قال: صدقوا. وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (خ) عن ابن عباس في قوله تعالى الذين جعلوا

القرآن عضين. قال: هم اليهود والنصارى جزءوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، قيل: هو جمع عضة من قولهم عضيت الشيء إذا فرقته، وجعلته أجزاء وذلك لأنهم جعلوا القرآن أجزاء مفرقة. فقال بعضهم: هو سحر. وقال بعضهم: هو كهانة. وقال بعضهم: هو أساطير الأولين. وقيل: هو جمع عضة. وهو الكذب والبهتان وقيل: المراد به العضة وهو السحر يعني أنهم جعلوا القرآن عضين عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني عما كانوا يقولونه في القرآن. وقيل: عما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي. وقيل: يرجع الضمير في لنسألنهم إلى جميع الخلق المؤمن والكافر لأن اللفظ عام فحمله على العموم أولى قال جماعة من أهل العلم عن لا إله إلا الله عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال: «عن قول لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب وقال أبو العالية: يسأل العباد عن خلتين عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله لنسألنهم أجمعين وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟ قلت: قال ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم لأنه أعلم به منهم، ولكن يقول لم عملتم كذا واعتمده قطرب فقال: السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقال تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ يعني سؤال استعلام وقوله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ وتقريع وجواب آخر، وهو يروى عن ابن عباس أيضا أنه قال في الآيتين: أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله سبحانه وتعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وقال تعالى في آية أخرى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قوله سبحانه وتعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال ابن عباس: أظهر. ويروى عنه أمضه. وقال الضحاك: أعلم وأصل الصدع الشق والفرق أي أفرق بالقرآن بين الحق والباطل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية بإظهار الدعوة وتبليغ الرسالة إلى من أرسل إليهم قال عبد الله بن عبيدة. ما زال النبي صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية، فخرج هو وأصحابه وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي اكفف عنهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار دينك، وتبليغ رسالة ربك وقيل أعرض عن الاهتمام باستهزائهم، وهو قوله سبحانه وتعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أكثر المفسرين على أن هذا الإعراض منسوخ بآية القتال. وقال بعضهم: ما للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم، والالتفات إليهم، فلا يكون منسوخا، وقوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين يقول الله تعالى عز وجل لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فاصدع بما أمرتك به ولا تخف أحدا غيري فإني أنا كافيك، وحافظك ممن عاداك فإنا كفيناك المستهزئين وكانوا خمسة نفر من رؤساء كفار قريش، كانوا يستهزئون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دعا عليه فقال: اللهم أعم بصره وأثكله بولده. والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة كذا ذكره البغوي. وقال ابن الجوزي: الحارث بن قيس ابن عيطلة وقال الزهري: عيطلة أمة وقيس أبوه فهو منسوب إلى أبيه وأمة قال المفسرون: أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمستهزئون يطوفون بالبيت فقام جبريل، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال جبريل: يا محمد كيف تجد هذا قال بئس عبد الله فقال: قد كفيته وأومأ إلى ساق الوليد فمرّ الوليد برجل من خزاعة نبال بريش نبلا له، وعليه برد يماني وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من النبل بإزار الوليد، فمنعه الكبر أن يطأطئ رأسه فينزعها وجعلت تضربه في ساقه، فخذشته فمرض فمات، ومر بهما العاص بن وائل السهمي فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال: بئس عبد الله، فأشار جبريل إلى أخمص قدمه وقال: قد كفيته. فخرج العاص على راحلة يتنزه، ومعه ابناه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ شبرقة فدخل منها شوكة في أخمص رجله، فقال: لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئا وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. ومر بهما الأسود بن المطلب فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال: عبد سوء فأشار جبريل بيده إلى عينيه. وقال: قد كفيته فعمي. قال ابن

[سورة الحجر (15): الآيات 96 إلى 99]

عباس: رماه جبريل بورقة خضراء فألهب بصره ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار، حتى هلك وفي رواية الكلبي قال: أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له وفي رواية فجعل ينطح رأسه في الشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه، فقال له غلامه: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا غيرك فمات، وهو يقول قتلني محمد ومر بهما الأسود ابن عبد يغوث فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال: بئس عبد الله على أنه خالي. فقال جبريل: قد كفيته وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات. وفي رواية الكلبي أنه خرج من أهله. فأصابه سموم فاسود وجهه حتى صار حبشيا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب فمات، وهو يقول: قتلني رب محمد. ومر بهما الحارث بن قيس فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال: عبد سوء فأومأ جبريل إلى رأسه. وقال قد كفيته فامتخط قيحا فقتله. وقال ابن عباس: إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى أنقد بطنه فمات. فذلك قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ يعني بك وبالقرآن. [سورة الحجر (15): الآيات 96 الى 99] الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني إذا نزل بهم العذاب ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ يعني بسبب ما يقولون، وهو ما كانوا يسمعونه من الاستهزاء به، والقول الفاحش والجبلة البشرية تأبى ذلك فيحصل عند سماع ذلك ضيق الصدر، فعند ذلك أمره بالتسبيح والعبادة وهو قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال ابن عباس: فصلّ بأمر ربك وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يعني من المتواضعين لله، وقال الضحاك فسبح بحمد ربك قل سبحان الله وبحمده وكن من الساجدين يعني من المصلين روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، قال بعض العارفين من المحققين: أن السبب في زوال الحزن عن القلب، إذا أتى العبد بهذه العبادات أنه يتنور باطنه ويشرق قلبه، وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها، ولا يتأسف على فواتها فيزول الهم والغم والحزن عن قلبه. وقال بعض العلماء: إذا نزل بالعبد مكروه ففزع إلى الصلاة فكأنه يقول: يا رب إنما يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني ما أحب أو كفيتني ما أكره، فأنا عبدك وبين يديك فافعل بي ما تشاء. قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يعني الموت الموقن به الذي لا يشك فيه أحد، والمعنى واعبد ربك في جميع أوقاتك، ومدة حياتك حتى يأتيك الموت وأنت في عبادة ربك، وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا روى البغوي بسنده عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» وعن عمر قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها، أو قال: شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله، وحب رسوله إلى ما ترون» ذكره البغوي بغير سند والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة النحل

سورة النحل مكية إلا قوله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ. إلى آخر السورة فإنها نزلت بالمدينة في قتل حمزة قاله ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات. نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله تَعْلَمُونَ وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا وقوله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخر السورة زاد مقاتل وقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه الآية وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية وقيل كان يقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة تعداد النعم فيها، وهي مائة وثمان وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وسبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) قوله سبحانه وتعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب: أتاك الأمر وهو متوقع المجيء، بعد ما أتى، ومعنى الآية أتى أمر الله وعدا فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ يعني وقوعا بالمراد به مجيء القيامة. قال ابن عباس: لما نزل قوله سبحانه وتعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال الكفار: بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئا فنزل قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فأشفقوا فلما امتدت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفع الناس رؤوسهم، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بإصبعيه يمدهما» أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد (ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السبابة إلى الوسطى» وفي رواية «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قال ابن عباس: كان مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: الله أكبر قامت الساعة قال قوم: المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبرا سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون. قوله سبحانه وتعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ يعني بالوحي مِنْ أَمْرِهِ وإنما سمي الأمر روحا لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء: بالنبوة. وقال قتادة: بالرحمة. وقيل: الروح هو جبريل والباء

[سورة النحل (16): الآيات 3 إلى 12]

بمعنى مع يعني ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق أَنْ أَنْذِرُوا يعني بأن اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ أي فخافون. وقيل: معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن. [سورة النحل (16): الآيات 3 الى 12] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: تزعم أن الله يحيي هذا بعد ما رم فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضا قوله تعالى «قال من يحيي العظام وهي رميم» والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة، وحملها على العموم أولى، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جبارا كثيرا لخصومة، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم. قوله عز وجل وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام. فقال تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ قال: ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى: فيها دفء. قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى: لكم فيها دفء وهو ما يستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم وَمَنافِعُ يعني النسل والدر والركوب، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني من لحومها. فإن قلت: قوله تعالى وَمِنْها تَأْكُلُونَ يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب: وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت: منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة

فصل

الأكل فلهذا قدم على الأكل. وقوله سبحانه وتعالى وَلَكُمْ فِيها أي في الأنعام جَمالٌ أي زينة حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه بالليل. وقال: سرح القوم إبلهم تسريحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة: وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجمل بها فيه كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضا، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه. وقوله سبحانه وتعالى وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر إِلى بَلَدٍ يعني غير بلدكم قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس: هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة وأكثر تجاراتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع. قوله سبحانه وتعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء وَزِينَةً يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها. فصل احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله، واستدلوا أيضا بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال: لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير: وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه» أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن جابر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود، قالوا: ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل، وقال البغوي: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته،

والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتا عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، فأخذنا بها جمعا بين النصين والله أعلم وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته، وضرورياته على سبيل التفضيل، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان في الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه، فلهذا ذكرها على الإجمال، وقال بعضهم: ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله: ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكه. قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل: معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين وَمِنْها جائِرٌ يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام، والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله: قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم. قوله عز وجل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة: عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال: هو الذي أنزل من السماء. يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر لَكُمْ مِنْهُ يعني من ذلك الماء شَرابٌ يعني تشربونه وَمِنْهُ يعني ومن ذلك الماء شَجَرٌ الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا: الشجر أصناف ما جل وعظم، وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء، وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول، وقال أبو إسحاق: كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد: نطعمها اللحم إذا عز الشجر أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة: في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر فِيهِ يعني في الشجر تُسِيمُونَ يعني ترعون مواشيكم. يقال: أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت يُنْبِتُ لَكُمْ أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم بِهِ أي بذلك الماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لما ذكر الله في الحيوان تفصيلا وإجمالا ذكر في الثمار تفصيلا وإجمالا فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكه، والتغذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالا لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من أنواع الثمار لَآيَةً يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ تقدم تفسيره في سورة الأعراف مُسَخَّراتٌ يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادته، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات

[سورة النحل (16): الآيات 13 إلى 23]

بِأَمْرِهِ يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلا عن غيرها، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته، وقهره وتسخيره لما أراده منهم. [سورة النحل (16): الآيات 13 الى 23] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني وما خلق لكم في الأرض، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها، حتى لا يشبه بعضها بعضا من كل الوجوه، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك، من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى: وهو الذي سخر البحر لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحا لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ يعني السفن مَواخِرَ فِيهِ يعني جواري فيه قال قتادة: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة، وأصل المخر في اللغة الشق يقال: مخرت السفينة مخرا إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد: تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة: يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن: مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعا وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني الأرباح بالتجارة في البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ يعني جبالا ثقالا أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلا تميل وتضطرب

بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب: لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وَأَنْهاراً يعني وجعل فيها أنهارا لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى: وأنهارا معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال وَسُبُلًا يعني وجعل فيها طرقا مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون وَعَلاماتٍ يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: وعلامات ثم ابتدأ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال محمد بن كعب والكلبي: أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل. وقال مجاهد: أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي: أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوما للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به. قوله سبحانه وتعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جميعا قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء أَفَمَنْ يَخْلُقُ يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئا البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني أن هذا القدر ظاهر غير خاف على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤالان: الأول: قوله: كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله: بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم. السؤال الثاني: قوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئا البتة والله أعلم. وقوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتعبتم نفوسكم لا تقدرون عليه إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ يعني لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم رَحِيمٌ يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا

[سورة النحل (16): الآيات 24 إلى 32]

يمكرون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، وقيل: إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالما بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئا فقوله سبحانه وتعالى: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئا فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئا وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار أَمْواتٌ أي جمادات ميتة لا حياة فيها غَيْرُ أَحْياءٍ يعني كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها. وقوله وَما يَشْعُرُونَ يعني هذه الأصنام أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل: معناه ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون. قوله سبحانه وتعالى إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ يعني جاحدة لهذا المعنى وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبرا لا جَرَمَ يعني حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يعني عن اتباع الحق (م) عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده، وعبادته باطلا وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقا، وقيل: البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله: وغمط الناس يقال: غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئا وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته. قوله عز وجل: [سورة النحل (16): الآيات 24 الى 32] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني أحاديثهم وأباطيلهم لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام في ليحملوا لام العاقبة وذلك أنهم لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى: كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئا يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين: وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. وقوله سبحانه وتعالى وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساويا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، وقوله تعالى: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى». قال الواحدي: ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»، ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله: بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وكان من مكره أنه بنى صرحا ببابل ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه. قال ابن عباس: وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحا عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عربا منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم. وقيل: حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير، وقوله سبحانه وتعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه، هذا إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني: وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنيانا وثيقا شديدا ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة

الناس: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه. وقوله تعالى فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله: من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم. وقيل: يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم علم أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني في مأمنهم، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ يعني يهينهم بالعذاب، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان وَيَقُولُ يعني ويقول: الله لهم يوم القيامة أَيْنَ شُرَكائِيَ يعني في زعمكم واعتقادكم الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه، والمعنى: ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني المؤمنين وقيل الملائكة إِنَّ الْخِزْيَ يعني الهوان الْيَوْمَ يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة وَالسُّوءَ يعني العذاب عَلَى الْكافِرِينَ وإنما يقول المؤمنون: هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان، والخزي قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تقبض أرواحهم الملائكة، وهم ملك الموت وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يعني بالكفر فَأَلْقَوُا السَّلَمَ يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ يعني شركا وإنما قالوا: ذلك من شدة الخوف بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم. قال عكرمة: عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر فَادْخُلُوا أي فيقال لهم ادخلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فيها لا يخرجون منها. وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذابا من بعض فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني عن الإيمان قوله عز وجل وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار، فيقولون: هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك. فيقول الوافد: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل، فذلك قوله سبحانه وتعالى: وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرا يعني أنزل خيرا فان قلت لم رفع الأول وهو قوله: أساطير الأولين ونصب الثاني، وهو قوله قالوا خيرا قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلا، ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّنا مكشوفا معقولا للإنزال فقالوا: خيرا أي أنزل خيرا، وتم الكلام عند قوله خيرا فهو، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني للذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وقال الضحاك: هي النصر والفتح. وقال مجاهد: هي الرزق الحسن. فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة، وهي النصر والفتح والرزق الحسن، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ يعني الجنة وقال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى

[سورة النحل (16): الآيات 33 إلى 38]

يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى وهو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يعني بساتين إقامة من قولهم: عدن بالمكان، أي أقام به يَدْخُلُونَها يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم لَهُمْ فِيها يعني في الجنات ما يَشاؤُنَ يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاءون لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي هكذا يكون جزاء المتقين، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يعني مؤمنين طاهرين من الشرك. قال مجاهد: زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل: إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات، واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة يَقُولُونَ يعني الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة. فإن قلت : كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله: صلّى الله عليه وسلّم «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؟ قلت: قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم. اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان ذلك عدلا منه، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلا، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلا منه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع. وفي ظاهر هذا الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله سبحانه وتعالى: «ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون- وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون» ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة، فلا تعارض بينها، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات: أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والفضل والمنة والله أعلم بمراده قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 33 الى 38] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)

ْ يَنْظُرُونَ يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمدلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني لقبض أرواحهم وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال. وقيل: المراد به يوم القيامةذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من الكفر والتكذيب ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ يعني بتعذيبه إياهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني باكتسابهم المعاصي، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء. والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة، فقالوا: لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجيء ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجيء. وإذا كان كذلك فالكل من الله، فلا فائدة في بعثة رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا: إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثا كان هذا اعتراضا على الله تعالى، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله، ولا يجوز لأحد أن يقول له لم فعلت هذا، ولم لم تفعل هذا وكان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر. ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان، ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه. ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلا منهم، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد. وأما قوله تعالى وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعني الوصيلة والسائبة والحام. والمعنى: فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديما في الأمم الخالية فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يعني كما بعثنا فيكم محمدا صلّى الله عليه وسلّم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله فَمِنْهُمْ يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل مَنْ هَدَى اللَّهُ يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم. قوله سبحانه وتعالى إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل: معناه لا يهتدي من

[سورة النحل (16): الآيات 39 إلى 50]

أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين يمنعونهم من العذاب وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن الجوزي: سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم: والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية. وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى بَلى يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي. والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئا فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء. [سورة النحل (16): الآيات 39 الى 50] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ يعني في قولهم لا بعث بعد الموت إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولدا، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني» وفي رواية «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» وقوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى

الكفر، وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال: يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطوهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم. وقال قتادة: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصارا من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين، وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية. وقيل: معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قيل: الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل: إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين الَّذِينَ صَبَرُوا يعني في الله على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ نزلت هذه الآية جوابا لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا الله أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلا منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك. والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة،

لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقه، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني: وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكرا لأن فيه مواعظ، وتنبيها للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب من السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال بعضهم: متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبينا والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيما أنزل إليهم فيعملوا به أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل: المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. وقيل: المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ يعني كما خسف بقرون من قبلهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ يعني في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، قادر على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ قال ابن عباس ومجاهد: يعني على تنقص. قال ابن قتيبة: التخوف التنقص ومثله التخون. يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه، ويقال: هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أنه ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولا، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحكاك والكلبي: هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات، تحدث قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى، ختم الآية بقوله فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه سبحانه وتعالى، لا يعجل بالعقوبة والعذاب. قوله سبحانه وتعالى أَوَلَمْ يَرَوْا قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني من جسم قائم له ظل، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله، ويتفكر فيه فيعتبر به يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل يكون بالغداة، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال، وهو جمع مفرد وهو قوله: من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك. وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان

فصل

المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع سُجَّداً لِلَّهِ في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى. فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت: لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله: ولله يسجد ما في السموات، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد، وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض، ولهذا أفرد الملائكة في قوله وَالْمَلائِكَةُ لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل: أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني الملائكة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وكقوله «وهو القاهر فوق عباده» وقد تقدم تفسيره وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ عن أبي ذر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجدا والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر: لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفا. فصل وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها. قوله سبحانه وتعالى: [سورة النحل (16): الآيات 51 الى 60] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين» قال الزجاج: ذكر الاثنين توكيدا لقوله إلهين وقال صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلها، ولكن اتخذوا إلها واحدا، وهو قوله تبارك وتعالى إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدرة والإرادة، فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لا يجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن، واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي فارهبون يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيدا له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيدا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائما ثابتا والواصب: الدائم. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبة أبدا، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائما أبدا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الإنكار قوله عز وجل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل به على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي الشدة والأمراض والأسقام فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر. والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا يدعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ يعني طائفة وجماعة منكم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى ثم قال تعالى لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قيل: إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل: إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما

آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء فَتَمَتَّعُوا لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد. يعني: فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم. قوله سبحانه وتعالى وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً قيل الضمير في قوله: لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون. وقيل: إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئا البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، ولأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجح القول الثاني. قال: لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا فيه إلى إضمار فيكون المعنى: ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيبا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الإضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيبا من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام تَاللَّهِ أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيبا من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم سُبْحانَهُ نزه الله نفسه عن الولد والبنات وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا يعني متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ. وقوله سبحانه وتعالى وَهُوَ كَظِيمٌ يعني أنه ظل ممتلئا غما وحزنا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولدا ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياما حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير: إن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها: زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها: انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم «1» الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك:

_ (1). قوله صعصعة عم كذا بالنسخ التي بأيدينا والصواب جد وكذا قوله (وعمي الذي) الصواب وجدي الذي كما هو مقرر في كتب الأدب اهـ.

[سورة النحل (16): الآيات 61 إلى 67]

وعمي الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الوائدة والموءودة في النار» أخرجه أبو داود. وقوله تعالى أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله الذي خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى «ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمه ضيزي» وقيل: معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر، وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الممتنع في كبريائه وجلاله الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله قوله: [سورة النحل (16): الآيات 61 الى 67] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم. فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى «فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات»، فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسما واحدا من ثلاثة. قلت: قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم، وقيل: أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقوله ما تَرَكَ عَلَيْها يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأرض مِنْ دَابَّةٍ يعني أن الله سبحانه وتعالى، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. قال قتادة: وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالا بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا» وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لا نقطع النسل، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ يعني يمهلهم بفضله، وكرمه وحلمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه. وقيل: أراد بالأجل المسمى يوم القيامة، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يعني لأنفسهم وهي البنات وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى

يعني ويقولون: إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله. وقيل: أراد بالحسنى الجنة، والمعنى أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ يعني في الآخرة لا الجنة وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني مسرفون وقرئ بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل: متروكون. وقال قتادة: معجلون إلى النار. وقال الفراء: مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحدا أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي ناصرهم الْيَوْمَ ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه وليا لهم لطاعتهم إياه وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل والحلال من الحرام وَهُدىً وَرَحْمَةً يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانا وهدى ورحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَحْيا بِهِ يعني بالماء الْأَرْضَ يعني بالنبات والزروع بَعْدَ مَوْتِها يعني يبسها وجدوبتها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضمير عائد إلى الأنعام، وكان حقه أن يقال مما في بطونها، واختلف النحويون في الجواب، فقيل: إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين: مما في بطونها. وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي: إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو سائِغاً لِلشَّارِبِينَ يعني هنيئا سهلا يجري في الحلق بسهولة. قيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك، فقال: ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل على الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا، وما رأى أحد في كرشها دما ولا لبنا بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما وهو الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما

[سورة النحل (16): الآيات 68 إلى 71]

السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبنا فهذا صورة تكوّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن تولد أولا من الفرث ثم من الدم ثانيا ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبنا خالصا من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقبا صغيرا ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفا من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفا احتبس في البدن، وهو المراد بقوله خالصا هنيئا مريئا. قوله عز وجل وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ يعني ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الضمير في منه يرجع إلى ما تقديره ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة: السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكرا، وسكرا والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك. فإن قلت: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل: إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضا، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسنا يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم: السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكرا منسوخ. سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر: ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت: القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية: السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره: السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده لَآيَةً يعني دلالة وحجة واضحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن من كان عاقلا استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقا، ومدبرا قادرا على ما يريد. قوله سبحانه وتعالى: [سورة النحل (16): الآيات 68 الى 71] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته من إخراج اللبن من بين فرث، ودم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل، والأعناب ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة، وهي النحلة فقال سبحانه وتعالى وأوحى ربك إلى النحل الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل، وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته، وقدرته وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي وإلى أوليائه إلهام وتسخير الطير لما خلق له ومنه قوله تعالى «وأوحى ربك إلى النحل» يعني أنه سخرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة، أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلل ولما حصل المقصود فألهمها الله سبحانه وتعالى، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة وألهمها الله تعالى أيضا أن تجعل عليها أميرا كبيرا نافذ الحكم فيها وهي تطيعه، وتمتثل أمره ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها كذا حكاه الجوهري وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضا أنها تخرج من بيوتها، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها، ولا تضل عنها. ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي فكان ذلك شبيها بالوحي، فلذلك قال تبارك وتعالى: وأوحى ربك إلى النحل، والنحل زنبور العسل ويسمى الدبر أيضا، قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلا لأن الله سبحانه وتعالى، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها بمعنى أعطاهم. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، وكذا أنثها الله تعالى فقال أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يعني يبنون ويثقفون وذلك أن النحل منه وحشي، وهو الذي يسكن الجبال والشجر ويأوي إلى الكهوف ومنه أهلي وهو الذي يأوي إلى البيوت، ويربيه الناس وقد جرت العادة أن الناس يبنون للنحل الأماكن حتى تأوي إليها، وقال ابن زيد: أراد بالذي يعرشون الكروم ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني من بعض الثمرات لأنها لا تأكل من جميع الثمار فلفظة كل هاهنا ليست للعموم فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعني الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لأجل طلب الثمرات ذُلُلًا قيل إنها نعت للسبل يعني أنها مذللة لك الطرق مسهلة لك مسالكها. قال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان تسلكه. وقيل: الذلل نعت للنحل يعني أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا! وأرادوا لا تستعصي عليهم يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعني ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل. وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب، أن العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار، وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها للتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضا فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل وأجاب عن قوله تعالى: يخرج من بطونها بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنا، فقوله: يخرج من بطونها يعني من أفواهها، وقول أهل الظاهر أولى وأصح لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل، وكذلك يوجد لونها وريحها وطعمها فيه أيضا، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة

عسل. قالت: جرست نحلة العرفط. العرفط شجر الطلح، وله صمغ يقال له المغافير كريه الرائحة فمعنى جرست نحلة العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا الدليل صحة قول أهل الظاهر من المفسرين، وأنه يوجد في طعم العسل، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلّا لكان على لون واحد وطبيعة واحدة. وقوله: إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر، لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة، وهو ألطف من السكر ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية فبينهما فرق كبير. وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنا فيه نظر، لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان، وغيره والله أعلم. وقوله تعالى فِيهِ يعني في الشراب الذي يخرج من بطون النحل شِفاءٌ لِلنَّاسِ وهذا قول ابن عباس وابن مسعود إذ الضمير في قوله فيه شفاء للناس، يرجع إلى العسل، وقد اختلفوا في هذا الشفاء هل هو على العموم لكل مرض، أو على الخصوص لمرض دون مرض، على قولين: أحدهما أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض. قال ابن مسعود: «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» وفي رواية أخرى عنه «عليك بالشفاءين القرآن والعسل» وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ويقرأ «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس» (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال: إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا فقال له: ثلاث مرات ثم جاء الرابعة. فقال: اسقه عسلا، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ» وقد اعترض بعض الملحدين، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث. فقال: إن الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخم، والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فمضر عندهم، واستعجال مرض فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه أو تقويته فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العسل فزاده إسهالا، فزاده عسلا إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال ويكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلّى الله عليه وسلّم لهذا الرجل بشرب العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء: بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب، دفعا لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها والله أعلم وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم، علم بالوحي الإلهي أن العسل، الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال: صدق الله يعني فيما وعد به من أن فيه شفاء وكذب بطن أخيك يعني باستعجالك للشفاء في أول مرة والله أعلم بمراده، وأسرار رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ويضر بالشباب المحرورين ويعطش، قلنا: في الجواب عن هذا الاعتراض أيضا: إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة أنه خرج مخرج الأغلب، وأنه في الأغلب فيه شفاء، ولم يقل: إنه شفاء لكل الناس لكل داء ولكنه في الجملة دواء، وإن نفعه أكثر من مضرته، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به. والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم والشيوخ المبرودين، ومنافعه كثيرة جدا. والقول الثاني: أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه وهذا قول السدي وقال مجاهد: في قوله فيه شفاء للناس يعني القرآن لأنه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة وهو هدى ورحمة للناس، والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقربها قوله تعالى يخرج

من بطونها شراب وهو العسل فهو أولى أن يرجع الضمير إليه لأنه أقرب مذكور. وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا. قوله عز وجل وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ يعني أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يعني عند انقضاء آجالكم إما صبيانا وإما شبانا وإما كهولا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعني أردأه وأضعفه وهو الهرم قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب أولها من النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد ثم المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو غاية القوة وكمال العقل ثم المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص لكنه يكون نقصا خفيا لا يظهر ثم المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر، وفيها يتبين النقص، ويكون الهرم والخرف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقيل: ثمانون سنة وقال قتادة تسعون سنة (ق) عن أنس قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات». وفي رواية أخرى عنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» وقوله تعالى: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً يعني الإنسان يرجع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر، وقال ابن عباس: لكي يصير كالصبي لا عقل له. وقال ابن قتيبة: معناه حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا فيصير بعد أن كان عالما جاهلا، ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل هكذا، وجدته منقولا عنه ولو قال: ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ليكون ذلك دليلا على صحة هذا البعث، بعد الموت لكان أجود. قال ابن عباس: ليس هذا في المسلمين لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلا ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئا. وقال في قوله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الذين قرءوا القرآن وقال ابن عباس في قوله تعالى: ثم رددناه أسفل سافلين يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعني بما صنع بأوليائه وأعدائه قَدِيرٌ يعني على ما يريد قوله تعالى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ يعني أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد، وضيق وقتر على واحد وكثر لواحد وقلل على آخر، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن والقبح والعلم والجهل وغير ذلك. فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني يلزم بهذه الحجة المشركين حيث جعلوا الأصنام شركاء لله قال قتادة: هذا مثل ضربه الله عز وجل. يقول: هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده، وقيل: في معنى الآية أن الموالي والمماليك الله رازقهم جميعا فَهُمْ فِيهِ يعني في رزقه سَواءٌ فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك، والمقصود منه بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء وأن المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمماليك والمالك هو الله سبحانه وتعالى. وقوله أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره. قوله عز وجل:

[سورة النحل (16): الآيات 72 إلى 73]

[سورة النحل (16): الآيات 72 الى 73] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني النساء فخلق من آدم حواء زوجته، وقيل: جعل لكم من جنسكم أزواجا لأنه خطاب عام يعم الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً الحفدة جمع حافد، وهو المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة ومنه قوله في الدعاء «وإليك نسعى ونحفد» أي نسرع إلى طاعتك، فهذا أصله في اللغة ثم اختلفت أقوال المفسرين فيهم فقال ابن مسعود والنخعي: الحفدة أختان الرجل على بناته وعن ابن مسعود أيضا، أنهم أصهاره فهو بمعنى الأول فعلى هذا القول، يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات، فزوجوهم فيجعل لكم بسببهم الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك قد حفدك، وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه وقيل: هم أهل المهنة الذين يمتهنون ويخدمون من الأولاد وقال مقاتل والكلبي: البنين هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينون الرجل على عمله، وقال ابن عباس: هم ولد الولد. وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو امرأة الرجل الذين ليسوا منه وكل هذه الأقوال متقاربة لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك، وبالجملة فإن الحفدة هم غير البنين، لأن الله سبحانه وتعالى قال: بنين وحفدة فجعل بينهما مغايرة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني النعم التي أنعم عليكم من أنواع الثمار والحبوب والحيوان، والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ يعني بالأصنام وقيل: بالشيطان يؤمنون وقيل: معناه يصدقون أن لي شريكا وصاحبة وولدا وهذا استفهام إنكار أي ليس لهم ذلك وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يعني أنهم يضيفون ما أنعم الله به عليهم إلى غيره، وقيل معناه إنهم يجحدون ما أحل الله لهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الأصنام التي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه، ولا يقدرون على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه شَيْئاً يعني لا يملك من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا، وقيل معناه يعبدون ما لا يرزق شيئا وَلا يَسْتَطِيعُونَ يعني ولا يقدرون على شيء يذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر. [سورة النحل (16): الآيات 74 الى 77] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يعني لا تشبهوا الله بخلقه فإنه لا مثل له، ولا شبيه ولا شريك من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، أو الرازق بالمرزوق، أو القادر بالعاجز إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ يعني ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ خطأ ما تضربون له من الأمثال. قوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن

ضرب الأمثال، لقلة علمهم ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلا، فقال تعالى: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر كريم مالك قادر، قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال، فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة البشرية، فكيف يجوز للعقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة؟ وقيل: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر والمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، لأنه لما كان محروما من عبادة الله وطاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز الذي لا يقدر على شيء، وقيل: إن الكافر لما رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا صار كالعبد الذي لا يملك شيئا، والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا، المؤمن لأنه لما اشتغل بطاعة الله، وعبوديته والإنفاق في وجوه البر والخير صار كالحر المالك الذي ينفق سرا وجهرا في طاعة الله، وابتغاء مرضاته وهو قوله سبحانه وتعالى فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً فأثابه الله الجنة على ذلك. فإن قلت: لم قال عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وكل عبد هو مملوك وهو غير قادر على التصرف؟ قلت: إنما ذكر المملوك ليتميز من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا لأنهما من عباد الله، وقوله: لا يقدر على شيء احترز به عن المملوك المكاتب والمأذون له في التصرف، لأنهما يقدران على التصرف واحتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل هل يستويان يعني هل يستوي الأحرار والعبيد، والمعنى كما لا يستوي هذا الفقير البخيل، والغني السخي كذلك لا يستوي الكافر العاصي، والمؤمن الطائع، وقال عطاء في قوله: عبدا مملوكا هو أبو جهل بن هشام ومن رزقناه منا رزقا حسنا، هو أبو بكر الصديق ثم قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ حمد الله نفسه لأنه المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم المتفضل على عباده، وهو الخالق الرازق لا هذه الأصنام التي عبدها هؤلاء، فإنها لا تستحق الحمد لأنها جماد عاجز، لا يد لها على أحد ولا معروف، فتحمد عليه إنما الحمد الكامل لله لا لغيره فيجب على جميع العباد، حمد الله لأنه أهل الحمد والثناء الحسن بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني الكفار لا يَعْلَمُونَ يعني أن الحمد لله لا لهذه الأصنام وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ هو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، والأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي ثقيل على من يلي أمره ويعوله وقيل أصله من الغلظ وهو نقيض الحدة، يقال كل السكين إذا غلظت شفرته وكل اللسان إذا غلظ فلم يقدر على النطق، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فقوله وهو كل على مولاه أي غليظ ثقيل على مولاه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ أي حيثما يرسله ويصرفه في طلب حاجة أو كفاية مهم لا يَأْتِ بِخَيْرٍ يعني لا يأت بجنح لأنه أخرس عاجز لا يحسن ولا يفهم هَلْ يَسْتَوِي يعني من هذه صفته هُوَ يعني صاحب هذه الصفات المذمومة وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات ذو رشد وديانة يأمر الناس بالعدل والخير وَهُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني على سيرة صالحة ودين قويم، فيجب أن يكون الآمر بالعدل، عالما قادرا مستقيما في نفسه حتى يتمكن من الأمر بالعدل، وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه ويشملهم به من آثار رحمته وألطافه وللأصنام التي هي أموات جماد، لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كل على عابديها، لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة. وقيل: كلا المثلين للمؤمن والكافر، والمؤمن: هو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. والكافر: هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر. وقيل: هي على الخصوص فالذي يأمر بالعدل هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على صراط مستقيم، والذي يأمر بالظلم وهو أبكم أبو جهل. وقيل: الذي يأمر بالعدل عثمان بن عفان، وكان له مولى يأمره بالإسلام وذلك المولى يأمر عثمان بالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، فهو الذي لا يأت بخير.

[سورة النحل (16): الآيات 78 إلى 80]

وقيل: المراد بالأبكم الذي لا يأت بخير أبي بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخبر الله عز وجل في الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل الغيب هنا هو علم قيام الساعة وهو قوله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ يعني في قيامها، والساعة هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ يعني في السرعة، ولمح البصر هو انطبقا جفن العين وفتحه وهو طرف العين أيضا أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يعني أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون في أسرع من لمح البصر وهو قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه دليل على كمال قدرة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى مهما أراد شيئا كان أسرع ما يكون. قال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه سبحانه وتعالى وصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء، لا يعجزه شيء. قوله عز وجل: [سورة النحل (16): الآيات 78 الى 80] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً تم الكلام هنا لأن الإنسان خلق في أول الفطرة، ومبدئها خاليا عن العلم والمعرفة لا يهتدي سبيلا ثم ابتدأ فقال تعالى وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب، والسنة وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وجعل لكم الأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته، وغرائب مخلوقاته، فتستدلوا بها على وحدانيته. وجعل لكم الأفئدة لتعقلوا بها، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته، وقال ابن عباس: في هذه الآية يريد لتسمعوا مواعظ الله وتبصروا ما أنعم الله به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم، إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمة الله، وقيل في معنى الآية: والله خلقكم في بطون أمهاتكم وسواكم وصوركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة، وجعل لكم الحواس آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم به في الآخرة. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن جعل الحواس الثلاث بعد الإخراج من البطون، وإنما خلقت هذه الحواس للإنسان من جملة خلقه، وهو في بطن أمه. قلت: ذكر العلماء أن تقديم الإخراج، وتأخير ذكر هذه الحواس لا يدل على أن خلقها كان بعد الإخراج لأن الواو لا توجب الترتيب ولأن العرب تقدم وتؤخر في بعض كلامها. وأقول لما كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه وإن كانت قد خلقت قبل ذلك. وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ يعني مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ الجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض وهو الهواء. قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلا ولا ترتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ يعني في حال قبض أجنحتها، وبسطها واصطفاقها في الهواء، وفي هذا حث على الاستدلال بها على أن لها مسخرا سخرها، ومذللا ذللها، وممسكا أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء، وهو الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إنما خص المؤمنين بالذكر، لأنهم هم الذين يعتبرون بالآيات ويتفكرون فيها وينتفعون بها دون غيرهم. قوله

[سورة النحل (16): الآيات 81 إلى 88]

سبحانه وتعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ يعني التي هي من الحجر والمدر سَكَناً يعني مسكنا تسكنونه، والسكن ما سكنت إليه وفيه من ألف أو بيت وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الخيام والقباب والأخبية، والفساطيط المتخذة من الأدم والأنطاع. واعلم أن المساكن على قسمين: أحدهما: ما لم يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما، والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله تعالى تَسْتَخِفُّونَها يعني يخف عليكم حملها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ يعني في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم وظعن البادية هو لطلب ماء أو مرعى، ونحو ذلك وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ يعني وتخف عليكم أيضا في إقامتكم وحضركم، والمعنى: لا تثقل عليكم في الحالتين وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها الكناية عائدة إلى الأنعام، يعني ومن أصواف الضأن، وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً يعني تتخذون أثاثا. الأثاث. متاع البيت الكبير، وأصله من أث إذا كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر. قال ابن عباس: أثاثا يعني مالا: وقال مجاهد: متاعا. وقال القتيبي: الأثاث المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد والمتاع. وقال غيره الأثاث هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحو ذلك وَمَتاعاً يعني وبلاغا وهو ما يتمتعون به إِلى حِينٍ يعني إلى حين يبلى ذلك الأثاث، وقيل: إلى حين الموت. فإن قلت: أي فرق بين الأثاث والمتاع حتى ذكره بواو العطف، والعطف يوجب المغايرة فهل من فرق؟. قلت: الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه وغير ذلك فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظتين والله أعلم. [سورة النحل (16): الآيات 81 الى 88] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا يعني جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع كن وهو ما يستكن فيه من شدة الحر والبرد، كالأسراب والغيران ونحوها وذلك لأن الإنسان إما أن يكون غنيا أو فقيرا، فإذا سافر احتاج في سفره ما يقيه من شدة الحر والبرد فأما الغني فيستصحب معه الخيام في سفره، ليستكن فيها وإليه الإشارة بقوله وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وأما الفقير فيستكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف ونحوها، وإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا ولأن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظلال وما يدفع شدته وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها، لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ يعني وجعل لكم قمصا وثيابا من القطن والكتان والصوف وغير ذلك، تمنعكم من شدة الحر قال أهل المعاني والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ

بَأْسَكُمْ يعني الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح، والبأس الحرب يعني تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم. قال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم فقال تعالى وجعل لكم من الجبال أكنانا، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وما جعل لهم من القطن والكتان أكثر، ولكن كانوا أصحاب صوف ووبر وشعر، وكما قال تعالى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وما أنزل من الثلج أكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تقيكم الحر وما جعل لهم مما يقي من البرد أكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر. وقوله سبحانه وتعالى كَذلِكَ يعني كما أنعم عليكم بهذه النعم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ يعني نعم الدنيا والدين لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يعني لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الوحدانية والربوبية والعبادة والطاعة وتعلمون، أنه لا يقدر على هذه الإنعامات إلا الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك وتصديقك يا محمد وآثروا ما هم فيه من الكفر واللذات الدنيوية، فإنما وبال ذلك عليهم لا عليك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني ليس عليك في ذلك عتب، ولا سمة تقصير إنما عليك البلاغ، وقد فعلت ذلك ثم ذمهم الله تعالى بقوله يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها قال السدي: نعمة الله يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ثم إن كفار مكة أنكروه وجحدوه، وقال مجاهد وقتادة: نعمة الله ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم يقرون بأنها من الله، ثم إذا قيل لهم: صدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ينكرونها ويقولون ورثناها عن آبائنا. وقال الكلبي: إنه لما ذكر هذه النعم قالوا: هذه نعم كلها من الله تعالى لكنها بشفاعة آلهتنا وقيل هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ولولا فلان لما كان كذا وقيل إنهم يعترفون بأن الله أنعم بهذه النعم، ولكنهم لا يستعملونها في طلب رضوانه ولا يشكرونه عليها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ إنما قال الله سبحانه وتعالى أكثرهم الكافرون مع أنهم كانوا كلهم كافرين، لأنه كان فيهم من لم يبلغ بعد حد التكليف فعبر بالأكثر عن البالغين، وقيل: أراد بالأكثر الكافرين الحاضرين المعاندين، وقد كان فيهم من ليس بمعاند وإن كان كافرا وقيل إنه عبر بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر، ويراد به الجمع قوله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون، أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولا وذلك اليوم، هو يوم القيامة والمراد بالشهداء: الأنبياء يشهدون على أممهم بإنكار نعم الله عليهم وبالكفر ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني في الاعتذار وقيل لا يؤذن لهم في الكلام أصلا. وقيل: لا يؤذن لهم بالرجوع إلى دار الدنيا فيعتذروا ويتوبوا وقيل: لا يؤذن لهم في معارضة الشهود بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الاستعتاب: طلب العتاب، والمعتبة: هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه وإذا لم يطلب العتاب منه دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، ومعنى الآية: أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم، لأن الآخرة ليست دار غضبه عليه، ومعنى الآية أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم لأن الآخرة ليست دار تكليف ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبوا ويرجعوا يرضوا ربهم فالاستعتاب: التعرض لطلب الرضا، وهذا باب مسند على الكفار في الآخرة وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي الْعَذابَ يعني عذاب جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ يعني العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يعني لا يؤخرون ولا يمهلون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ يعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ يعني أربابا وكنا نعبدهم ونتخذهم آلهة فَأَلْقَوْا يعني الأصنام إِلَيْهِمُ يعني إلى عابديها الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني أن الأصنام قالت للكفار: إنكم لكاذبون يعني في تسميتنا آلهة وما دعوناكم إلى عبادتنا. فإن

[سورة النحل (16): الآيات 89 إلى 97]

قلت: الأصنام جماد لا تتكلم فكيف يصح منها الكلام؟. قلت: لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى لما بعثها، وأعادها في الآخرة، خلق فيها الحياة والنطق والعقل حتى قالت ذلك. والمقصود من إعادتها وبعثها، أن تكذب الكفار ويراها الكفار وهي في غاية الذلة والحقارة، فيزدادون بذلك غما وحسرة وَأَلْقَوْا يعني المشركين إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ يعني أنهم استسلموا له، وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني وزال عن المشركين ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني ما كانوا يكذبون في الدنيا في قولهم، إن الأصنام تشفع لهم الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله ورسوله زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ يعني زدناهم هذه الزيادة بسبب صدهم عن سبيل الله مع ما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي، واختلفوا في هذه الزيادة ما هي فقال عبد الله بن مسعود: عقارب لها أنياب، كأمثال النخل الطوال. وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفا. وقال ابن عباس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار، وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها وقيل: يضاعف لهم العذاب ضعفا بسبب كفرهم وضعفا بسبب صدهم الناس عن سبيل الله بِما كانُوا يُفْسِدُونَ يعني أن الزيادة إنما حصلت لهم بسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب ما كانوا يفسدون مع ما يستحقونه من العذاب على الكفر. [سورة النحل (16): الآيات 89 الى 97] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد الأنبياء. قال المفسرون: كل نبي شاهد على أمته وهو أعدل شاهد عليها مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني منهم لأن كل نبي إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم وبما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يعني على قومك وأمتك وتم الكلام هنا ثم قال تبارك وتعالى وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ اسم من البيان قال مجاهد: يعني لما أمر به وما نهى عنه. وقال أهل المعاني: تبيانا لكل شيء يعني من أمور الدين إما

بالنص عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن ما في القرآن من الأحكام والحدود والحلال والحرام، وجميع المأمورات والمنهيات، وإجماع الأمة فهو أيضا أصل ومفتاح لعلوم الدين وَهُدىً يعني من الضلالة وَرَحْمَةً يعني لمن آمن به وصدقه وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ يعني وفيه بشرى للمسلمين من الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ قال ابن عباس: العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان أداء الفرائض. وفي رواية عنه قال: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك إن كان مؤمنا تحب أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وقال في رواية أخرى عنه: العدل التوحيد والإحسان الإخلاص، وأصل العدل في اللغة المساواة في كل شيء من غير زيادة في شيء ولا غلو ولا نقصان فيه، ولا تقصير فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشر بأن تعفو عنه: وقيل: العدل الإنصاف ولا إنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وقيل يأمر بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يعني ويأمر بصلة الرحم وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودد وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قال ابن عباس: يعني الزنا. وقال غيره الفحشاء، ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة وَالْمُنْكَرِ قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وَالْبَغْيِ يعني الكبر والظلم. وقيل: البغي هو التطاول على الغير على سبيل الظلم والعدوان. قال بعضهم: إن أعجل المعاصي البغي ولو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. وقال ابن عيينة في هذه الآية: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي، أن تكون علانيته أحسن من سريرته، وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر: العدل وهو الإنصاف، والمساواة في الأقوال والأفعال وذكر في مقابلته الفحشاء، وهي ما قبح من الأقوال والأفعال وذكر الإحسان، وهو أن تعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك وذكر في مقابلته المنكر، وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودد إليهم، والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي، وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم ثم قال تعالى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني إنما أمركم بما أمركم به ونهاكم عما نهاكم عنه، لكي تتعظوا وتتذكروا فتعملوا، بما فيه رضا الله تعالى. قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم، مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية وروى عكرمة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قرأ على الوليد بن المغيرة أنّ الله يأمر بالعدل إلى آخر الآية، فقال له: «يا ابن أخي أعد عليّ» فأعادها عليه فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. قوله عز وجل وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، لأنه آكد الحقوق فقال تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة، وقيل: المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد أيضا لأن الوعد من العهد، وقيل: العهد هاهنا اليمين. قال القتيبي: العهد يمين وكفارته كفارة يمين فعلى هذا يجب الوفاء به إذا كان فيه صلاح أما إذا لم يكن فيه صلاح، فلا يجب الوفاء به لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير،

وليكفّر عن يمينه» فيكون قوله وأوفوا بعهد الله من العام الذي خصصته السنة. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، ويشهد لهذا التأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم «كل حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة» وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يعني تشديدها فتحنثوا فيها وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا يعني شهيدا بالوفاء بالعهد إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعني من وفاء العهد ونقضه ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا لنقض العهد فقال تعالى وَلا تَكُونُوا يعني في نقض العهد كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ يعني من بعد إبرامه وإحكامه. قال الكلبي ومقاتل: هذه امرأة من قريش يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر أو الوبر وتأمر جواريها بالغزل فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها. والمعنى: أن هذه المرأة، لم تكف عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفي به أَنْكاثاً جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد الفتل تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ يعني دغلا وخيانة وخديعة، والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه أَنْ تَكُونَ يعني لأن تكون أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ يعني أكثر وأعلى من أمة. قال مجاهد: وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر من أولئك وأعز نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر. والمعنى: أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة أي جماعة أكثر من جماعة فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا، إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يعني يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد وهو أعلم بكم وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا فيثيب الطائع المحق، ويعاقب المسيء الخالف قوله سبحانه وتعالى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني على ملة واحدة ودين واحد، وهو دين الإسلام وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعني بخذلانه إياه عدلا منه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بتوفيقه إياه فضلا منه وذلك مما اقتضته الحكمة الإلهية لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهو قوله تعالى وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته أو يغفر له. قوله عز وجل وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ يعني خديعة وفسادا بينكم فتغروا بها الناس فيسكنوا إلى أيمانكم، ويأمنوا إليكم ثم تنقضونها. وإنما كرر هذا المعنى تأكيدا عليهم وإظهارا لعظم أمر نقض العهد. قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام نهاهم عن نقض عهده، لأن الوعيد الذي بعده وهو قوله سبحانه وتعالى: فنزل قدم بعد ثبوتها لا يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإيمان به وبشريعته وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مثل يذكر لكل من وقع في بلاء ومحنة بعد عافية ونعمة أو سقط في ورطة بعد سلامة. تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية: زلت قدمه، والمعنى: فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام، بعد ثبوتها عليها وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعني العذاب بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني بسبب صدكم غيركم عن دين الله وذلك لأن من نقض العهد، فقد علّم غيره نقض العهد فيكون هو أقدمه على ذلك وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني بنقضكم العهد وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تنقضوا عهودكم وتطلبوا بنقضها عوضا من الدنيا قليلا، ولكن أوفوا بها إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ يعني فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني من عاجل الدنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك فقال تبارك وتعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ يعني من متاع الدنيا، ولذاتها يفنى ويذهب وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ يعني من ثواب الآخرة ونعيم الجنة وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا يعني على الوفاء بالعهد على السراء والضراء أَجْرَهُمْ يعني ثواب صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب دنياه أضر

[سورة النحل (16): الآيات 98 إلى 102]

بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» وقوله سبحانه وتعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فإن قلت: من عمل صالحا يفيد العموم فما فائدة الذكر والأنثى؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين، ليعلم الوعد للنوعين جميعا وجواب آخر وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتا للتأكد، وإزالة لوهم التخصيص، وقوله: وهو مؤمن، جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال سعيد بن جبير وعطاء: هي الرزق الحلال، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة، وقيل: هي حلاوة الطاعة. وقال الحسن هي القناعة وقيل رزق يوم بيوم، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا، وإن كان فقيرا أطيب من عيش الكافر وإن كان غنيا لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله، وذلك بتقديره وتدبيره وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب، فكان المؤمن راضيا عن الله وراضيا بما قدره الله له ورزقه إياه، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه فاستراحت نفسه من الكد والحرص فطاب عيشه بذلك وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق فيكون أبدا في حزن وتعب وعناء وحرص وكد ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة: في قوله فلنحيينه حياة طيبة هي الجنة. وروى العوفي عن الحسن، قال: لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاة، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولقوله في سياق الآية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة. قوله عز وجل: [سورة النحل (16): الآيات 98 الى 102] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه غيره من أمته، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان غير محتاج إلى الاستعاذة، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك، ولما كان الشيطان ساعيا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك، فلهذا السبب أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي صلاة، قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي. قال: الله أكبر كبيرا ثلاثا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته. قال: نفخته الكبر ونفثته السحر وهمزته المونة أخرجه أبو داود. المونة الجنون والفاء في قوله فاستعذ بالله للتعقيب. فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري. قالوا: لأن قارئ القرآن يستحق ثوابا عظيما وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعد القراءة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصا فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ بالله ومثله قوله سبحانه وتعالى «إذا قمتم إلى

[سورة النحل (16): الآيات 103 إلى 105]

الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم» إلخ ومثله من الكلام إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله وإذا أردت أن تسافر فتأهب، وأيضا فإن الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة، لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها، ومذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة سنة في الصلاة وغيرها، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها في أول سورة الفاتحة، والاستعاذة: الاعتصام بالله والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته. والمراد من الشيطان إبليس. وقيل: هو اسم جنس يطلق على المردة من الشياطين، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إياهم على ذلك إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة من الشيطان فكأن ذلك أوهم أن له سلطان يعني ليس له قدرة، ولا ولاية على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون. قال سفيان ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر ويظهر من هذا «1» أن الاستعاذة، إنما تفيد إذا حضر بقلب الإنسان كونه ضعيفا، وأنه لا يمكنه التحفظ من وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ثم قال تعالى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يعني يطيعونه ويدخلون في ولايته، يقال: توليته إذا أطعته وتوليت عنه إذا أعرضت عنه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ يعني بالله، وقيل: الضمير في به راجع إلى الشيطان، والمعنى هم من أهله مشركون بالله قوله سبحانه وتعالى وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمدا إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمره بغيره لما يرى فيه من المصلحة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ قُلْ أي قل لهم يا محمد نَزَّلَهُ يعني القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل صلّى الله عليه وسلّم أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير، والمعنى الروح المقدس المطهر مِنْ رَبِّكَ يعني أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيمانا ويقينا وَهُدىً وَبُشْرى يعني وهو هدى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ قوله عز وجل: [سورة النحل (16): الآيات 103 الى 105] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)

_ (1). قوله ويظهر من هذا، اسم الإشارة راجع لما ذكره قبل قول سفيان كما يعلم من الفخر فإنه لم يذكر في هذا المحل قول سفيان وذكر ما قبله وما بعده وعبارته صحيحة بخلاف ما هنا فإنه يوهم رجوع اسم الإشارة لقول سفيان وهو غير ظاهر اهـ.

[سورة النحل (16): الآيات 106 إلى 117]

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله كما يزعم فأجابهم الله بقوله ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر واختلفوا في ذلك البشر من هو فقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا أعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه ويخرج من عنده، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام. وقال عكرمة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش فكان يقرأ الكتب؟ فقالت قريش: إنما يعلمه يعيش، وقال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي يقال له: جبر وكان يقرأ الكتب. وقال عبيد الله بن مسلمة: كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما: يسار ويكنى أبا فكيهة، ويقال للآخر: جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل بمكة فربما مر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وهما يقرآن فيقف ويستمع قال الضحاك: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما فيتروح بكلامهما، فقال المشركون إنما يتعلم محمد منهما. وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم محمد من عائش المملوك كان لحويطب بن عبد العزى كان نصرانيا، وقد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجميا، وقيل: هو عداس غلام عتبة بن ربيعة. والحاصل أن الكفار اتهموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إنما يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يضيفها لنفسه، ويزعم أنه وحي من الله عز وجل وهو كاذب في ذلك فأجاب الله عنه، وأنزل هذه الآية تكذيبا لهم فيما رموا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكذب فقال تعالى لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يعني يميلون، ويشيرون إليه أَعْجَمِيٌّ يعني هو أعجمي والأعجمي هو الذي لا يفصح في كلامه، وإن كان يسكن البادية ومنه سمي زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان من العرب، والعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحا بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب وهو منسوب إلى العرب وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ يعني بين الفصاحة والبلاغة ووجه الجواب، هو أن الذي يشيرون إليه رجل أعجمي في لسانه عجمة تمنعه من الإتيان بفصيح الكلام ومحمد صلّى الله عليه وسلّم جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم أنتم عنه، وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة، فكيف يقدر من هو أعجمي على مثله وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي يشيرون إليه، فثبت بهذا البرهان، أن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وحي أوحاه الله إليه وليس هو من تعليم الذي يشيرون إليه ولا هو أتى به من تلقاء نفسه بل هو وحي من الله عز وجل إليه وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني لا يصدقون أنها من عند الله لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ يعني لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله فهو رد لقول كفار قريش إنما أنت مفتر وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ يعني في قولهم، إنما يعلمه بشر لا محمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت: قد قال تبارك وتعالى إنما يفتري الكذب فما معنى قوله تعالى وأولئك هم الكاذبون والثاني هو الأول؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى إنما يفتري الكذب إخبار عن حال قولهم، وقوله: وأولئك الكاذبون نعت لازم لهم كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب، أي كذبت في هذا القول ومن عادتك الكذب، وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار لأن الكذاب المفتري، هو الذي لا يؤمن بآيات الله. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك قلت: المؤمن يكذب قال: لا قال الله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله». قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 106 الى 117] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)

فصل في حكم الآية

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ نزلت في عمار بن ياسر وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية، وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام، فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قلبها بحربة، فقتلت، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرها. قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له: اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عمارا كفر. فقال «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما وراءك قال: شر يا رسول الله نلت منك وذكرت. فقال: كيف وجدت قلبك قال: مطمئنا بالإيمان فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه. وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين، وهذا القول ضعيف لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، فكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإن كان السبب خاصا. فإن قلت: المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء فيه إلا من أكره. قلت: المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا صح هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم. فصل في حكم الآية قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية، مثل التحريق بالنار ونحوه. قال العلماء: أول من

أظهر الإسلام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعة: أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية فأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب وأما أبو بكر، فمنعه قومه وعشيرته وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه وقتل ياسر وسمية كما تقدم. وقال خباب: لقد أوقدوا لي نارا ما أطفأها إلا ودك ظهري. وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحا بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل لأن ياسرا وسمية قتلا ولم يتلفظا بكلمة الكفر، ولأن بلالا صبر على العذاب ولم يلم على ذلك. قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها، جاز له ذلك لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وقيل: لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه واختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه وأكثر العلماء: لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة: يقع. حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته، لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به، وقوله تعالى وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً يعني فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يعني يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر، لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل به أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ تقدم تفسيره وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني عما يراد بهم من العذاب في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا، ليربح في الآخرة فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه لأنه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر. قوله عز وجل ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا يعني عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الإيمان والهجرة والجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني من بعد الفتنة التي فتنوها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة، وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل كان أخاه لأمه وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا. وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فاستزله الشيطان، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله فاستجاره عثمان، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وحسن إسلامه وهذا القول إنما يصح إذا قلنا: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات، والله أعلم بحقيقة ذلك قوله سبحانه وتعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها يعني تخاصم وتحتج عن نفسها أي بما أسلفت من خير وشر، واشتغلت بالمجادلة لا تتفرغ إلى غيرها. فإن قلت: النفس هي نفس واحدة، وليس لها نفس أخرى فما معنى قوله كل نفس تجادل عن نفسها؟ قلت: إن النفس قد يراد بها بدن الإنسان، وقد يراد بها مجموع ذاته وحقيقته فالنفس الأولى هي مجموع ذات الإنسان وحقيقته والنفس الثانية، هي بدنه فهي عينها وذاتها أيضا، والمعنى: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه غيره ومعنى هذه المجادلة الاعتذار بما لا يقبل منه كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين،

ونحو ذلك من الاعتذارات وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ يعني جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا، بل يوفون ذلك كاملا من غير زيادة ولا نقصان. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوفنا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: يا رب لم تكن لي أيد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد: يا رب خلقتني كالخشبة، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي فضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد دخلا حائطا، يعني بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب. قوله عز وجل وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، وقيل: هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، قال الإمام فخر الدين الرازي: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء، كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا مفروضا، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثر من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة ومثل مكة يكون غير مكة، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف: وضرب الله مثلا قرية أي جعل القرية التي هذه حالها، مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها وقال الواحدي: ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن، والنعمة بتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فتقدير الآية ضرب الله مثلا لقريتكم أي بين الله لها شبها ثم قال: قرية فيجوز أن تكون القرية بدلا من مثلا لأنها هي الممثل بها، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلا، مثل قرية فحذف المضاف هذا قول الزجاج والمفسرون كلهم قالوا: أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر. وقال ابن الجوزي: في هذه القرية قولان: أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع، قاله الحسن. وأقول: هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين، وهو الصحيح لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة، فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبعثها في قول جميع المفسرين لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بالقتال، وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده، وأما تفسير قوله تعالى: وضرب الله مثلا قرية يعني مكة كانَتْ آمِنَةً يعني ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم مُطْمَئِنَّةً يعني قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً يعني واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ يعني يحمل إليها الرزق

والميرة من البر والبحر . نظيره قوله سبحانه وتعالى تجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله «وارزق أهله من الثمرات» فَكَفَرَتْ يعني هذه القرية والمراد أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب والميتة والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، وقالوا: ما هذا هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حمل الطعام إليهم، وهم بعد مشركون. والخوف يعني خوف بعوث النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم. فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس، فيقال كساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع قلت: قال صاحب الكشاف: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر، والألم بما يدرك من طعم المر البشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان، والتلبس به من بعض الحوادث وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال. وقال الإمام فخر الدين الرازي: جوابه من وجوه، الأول، أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان: أحدهما أن المذوق هو الطعام فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني، أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، الوجه الثاني: أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فوضع موضع التعرف، وهو الاختبار تقول ناظر فلانا وذاق ما عنده: ومن يذق الدنيا فاني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون ونهكة البدن وتغيير الحال وكسوف البال، كما تقول: تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان، كذلك يجوز أن تقول: ذقت لباس الجوع والخوف على فلان. الوجه الثالث: أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة، فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ثم قال تعالى بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ولم يقل بما صنعت لأنه أراد أهل القرية، والمعنى: فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصنعون، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة وهي إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو منهم فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه، وأرادوا قتله فأخرجه الله من بينهم وأمره بالهجرة إلى المدينة وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخروجه من بين أظهرهم. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يعرفون نسبه، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ يعني الجوع والخوف وقيل القتل يوم بدر، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية وَهُمْ ظالِمُونَ يعني كافرون فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في المخاطبين بهذا قولان: أحدهما، أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني، أنهم هم المشركون من أهل مكة. قال الكلبي: لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم

[سورة النحل (16): الآيات 118 إلى 123]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنك إنما عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الواحدي وغيره والقول الأول هو الصحيح. قال ابن عباس فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله يريد الغنائم حَلالًا طَيِّباً يعني أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم ولم تحل لأحد قبلهم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ يعني التي أنعم بها عليكم إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا، وقوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ يعني ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ يعني أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك. قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة. وقال ابن عباس: يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الله تعالى وهو قوله تعالى لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعني لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ يعني: لا ينجون من العذاب، وقيل: لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب فقال تعالى مَتاعٌ قَلِيلٌ يعني متاعهم في الدنيا متاع قليل فإنه لا بقاء له وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. [سورة النحل (16): الآيات 118 الى 123] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الآية وَما ظَلَمْناهُمْ يعني بتحريم ذلك عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وقوله تعالى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءا بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك، يعني من بعد عمل ذلك السوء وَأَصْلَحُوا يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه لَغَفُورٌ يعني لمن تاب وآمن رَحِيمٌ يعني بجميع المؤمنين والتائبين. قوله سبحانه وتعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به. والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك

[سورة النحل (16): الآيات 124 إلى 128]

وتعالى «فنادته الملائكة» وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة. ومنه قول الشاعر: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ثم للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال أحدها: قول ابن مسعود: الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلما للخير يأتمّ به أهل الدنيا. الثاني قال مجاهد: إنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في زيد بن عمرو بن نفيل «يبعثه الله أمة وحده» وإنما قال فيه هذه المقالة لأنه كان قد فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. الثالث قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل: الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماما يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله قانِتاً لِلَّهِ يعني مطيعا لله وقيل هو القائم بأوامر الله حَنِيفاً مسلما يعني مقيما على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول. وهو أول من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره شاكِراً لِأَنْعُمِهِ يعني أنه كان شاكرا لله على أنعمه التي أنعم بها عليه اجْتَباهُ أي اختاره لنبوته واصطفاه لخلته وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الرسالة والخلة. وقيل: هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل: هو قول المصلي في التشهد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل إنه آتاه أولادا أبرارا على الكبر وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل: معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباعه فقال تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد. قال أهل الأصول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعا له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله حَنِيفاً مسلما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقدم تفسيره وقوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 124 الى 128] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه وقالوا

لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضا بيوم الجمعة. فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها، فبورك لهم فيها (ق) عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» وفي رواية لمسلم «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة» وفي رواية أخرى له قال «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا، الأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: قال العلماء في معنى الحديث: نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم. وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم. وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال: القاضي عياض الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبينا، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال: يعني القاضي عياضا- وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل. فقيل له دعهم. قال القاضي: ولو كان منصوصا عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول: خالفوا فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي: ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحا ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه، وغلطوا في إبداله. قال الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى «على الذين اختلفوا فيه» يعني على نبيهم موسى، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا، فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك. وزاد الواحدي على هذا فقال: وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال: هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى، ابتدأ فيه بخلق الأشياء، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل. فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ بالخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى: إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيدا لنا، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيدا؟ قلت: يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيدا بهذا الوجه وهو أولى. ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم، ولم يختاروا لأنفسهم شيئا، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم، وقال بعض العلماء : بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء. وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة: الذين اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه، وهم

اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه، فلم يصطد فيه شيئا وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة. وقوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحققين بالثواب والمبطلين بالعقاب. قوله عز وجل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعني ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقيل: إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام: القسم الأول هم العلماء الكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة» يعني ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني: هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله: والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه. وقيل: المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل: المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد. ووقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبدا حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالا للخيرات، وصولا للرحم ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك». فأنزل الله عز وجل: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه» عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين» فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كفوا عن القوم إلا أربعة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية

فصل

فقوله تعالى «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق. يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيرا من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين. فصل اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين: أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، القول الثاني: أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري. قال بعضهم: الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم. قوله عز وجل وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل: معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضلوا إلى رحمة الله ورضوانه وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يعني: ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم. قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان. وقال أبو عمر: والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيد الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكن وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى: ولا تك في أمر ضيق من مكرهم. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة فكان المعنى فلا يكن الضيق حاصلا فيك إلا أن الفائدة في قوله: ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص. فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الإسراء

سورة الإسراء فصل في نزولها قال ابن الجوزي: هي مكية في قول الجماعة إلا أن بعضهم يقول فيها مدني فروي عن ابن عباس أنه قال هي مكية إلا ثمان آيات من قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله نَصِيراً وهذا قول قتادة وقال مقاتل فيها من المدني وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ- الآية وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ- وقوله إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ- وقوله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- وقوله تعالى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ والتي تليها- وهي مائة وعشر آيات وقيل وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الإسراء (17): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) قوله عز وجل سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا روى ابن الجوزي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن تفسير سبحان الله فقال: تنزيه الله عن كل شيء. هكذا ذكره بغير سند وقال النحويون: سبحان اسم علم على التسبيح يقال سبحت الله تسبيحا فالتسبيح هو المصدر وسبحان الله علم للتسبيح وتفسير سبحان الله، تنزيه الله عن كل سوء ونقيصة وأصله في اللغة التباعد فمعنى سبحان الله بعده ونزاهته عن كل ما لا ينبغي «الذي أسرى» يقال سري به وأسري به لغتان «بعبده» أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون، أن المراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك، وقوله بعبده إضافة تشريف وتعظيم وتبجيل وتفخيم وتكريم ومنه قول بعضهم. لا تدعني إلا بياعبدها ... فإنه أشرف أسمائي قيل: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والرتب الرفيعة ليلة المعراج، أوحى الله عز وجل إليه يا محمد بم شرفتك؟ قال: رب حيث نسبتني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل الله سبحانه وتعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا. فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل. قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض ليلة من مكة إلى الشام مسيرة شهر أو أكثر، فدل تنكير الليل على البعضية مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل كان الإسراء من نفس مسجد مكة وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر» وذكر حديث المعراج، وسيأتي بكماله فيما بعد وقيل عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب وهي بنت عمه أخت علي رضي الله تعالى عنه، فعلى هذا أراد بالمسجد الحرام الحرم إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعني إلى بيت المقدس سمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام أو لأنه

فصل

لم يكن حينئذ وراءه مسجد الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ يعني بالأنهار والأشجار والثمار، وقيل سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط؟ قلت: قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلّى الله عليه وسلّم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولا لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء. وقوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام. فإن قلت لفظة من في قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا قائل به فما وجهه. قلت: ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضا ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمدا صلّى الله عليه وسلّم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلّى الله عليه وسلّم على إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقواله ودعائه الْبَصِيرُ لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس الْبَصِيرُ بما ردوا عليه من التكذيب. وقيل: إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله. وحمله على العموم أولى. فصل في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام، وما قال العلماء فيه (ق) حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم حدثهم عن ليلة أسري به قال: «بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعا، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته وسمعته يقول من قصته إلى شعرته، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود: أهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح. قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت، فإذا إدريس قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل

مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى، قال: بم أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت: ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال: فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» زاد في رواية أخرى «وأجزي بالحسنة عشرا» وفي رواية أخرى «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيمانا وحكمة، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى» (ق) «عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال: نعم معي محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، قال: ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح. قال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال: فلما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال: ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قال: فقلت من هذا قال: هذا موسى. قال ثم مررت بعيسى فقال مرحبا

بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال: هذا عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال: فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال لي موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها. قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فقال: هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال: ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» (ق) عن شريك بن أبي نمر «أنه سمع أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشوا إيمانا، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا: ومن معك قال معي محمد قالوا: وقد بعث إليه قال نعم قالوا: مرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال: مرحبا وأهلا يا بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا، بنهرين يطردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا: ومن معك قال محمد قالوا: وقد بعث إليه قال: نعم قالوا: مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة. وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة. فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال: وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل عليه

السلام ليشير عليه، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا. فقال الجبار: يا محمد. قال: لبيك وسعديك قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال: فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ قال: خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام» هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك عن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند، فذكر من أول حديث شريك طرفا ثم قال: وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه، قال قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا با بني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل، قيل ومن معك قال محمد، قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، قال: فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير. قال الله تعالى ورفعناه مكانا عليا ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، فقيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: قد حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»

فصل

هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصرا وفيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بالبراق ليلة أسرى به ملجما مسرجا، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقا» وأخرجه النسائي مختصرا، والمعنى واحد وفي آخره قال: فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع. فصل قال البغوي: قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام. قال البغوي: وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي، وقبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقها سنة ثمان، ونزل قوله سبحانه وتعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم: قد جاء من رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر شهرا. وقال الحربي: كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: أسري به صلّى الله عليه وسلّم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل. قال الشيخ محيي الدين: وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها. فصل في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقيل: إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال: كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما أسري بروحه. وحكي هذا القول عن عائشة

أيضا وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلف والله أعلم قوله صلّى الله عليه وسلّم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة بإسكان اللام، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلا طيبا سائغا للشاربين وأنه سليم العاقبة، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر. قوله: ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت قال: جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول: أنا فلان ولا يقول: أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبوابا وبوابين وأن عليها حرسا وقول بواب السماء وقد أرسل إليه، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعجاب، وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة، وتحويل ظهره إليها. وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا، وقع في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين: سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها. ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن مسعود: سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي. قال الشيخ محيي الدين النووي: معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولا فناجيته فيه ثانيا وقوله: فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل. قلت: وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة والنجم، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشرا وفي الأخرى خمسا ليس بين هذه الرواية منافاة، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس، وليس المراد منه التنصيف، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمسا إلى آخره ثم قال: هي خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، وقد شق أيضا في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج. وقوله: أتيت بطست من ذهب، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلئ إيمانا وحكمة فأفرغها في صدري. فان قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الأجسام، فما معنى ذلك؟ قلت: يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما وهذا من أحسن المجاز. وقوله في صفة آدم عليه السلام: فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار، تعرض على آدم عليه السلام، وهو في السماء فوافق وقت عرضها

فصل

على آدم مرور النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبر بما رأى. وقوله: فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم، وحزنه على سوء حال الكفار منهم. وقوله في إدريس مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على أن إدريس، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أن إبراهيم جده، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام: فالجواب عن هذا أنه قيل: إن إدريس المذكور هنا هو إلياس، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض. قال الشيخ محيي الدين: ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أبا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا، وهو أخ وإن كان أبا لأن الأنبياء إخوة والمؤمنين إخوة والله أعلم. فصل في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي روي أنه لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال: يا جبريل إن قومي لا يصدقون. قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق. قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ هل استفدت من شيء؟ قال: نعم أسري بي الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال: أبو جهل: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم. فلم ير أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، ولكن قال: أتحدث قومك بما حدثتني به. قال: نعم قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فانقضت المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال: حدث قومك بما حدثتني قال: نعم أسري بي الله قالوا إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجبا وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال: أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا: أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق. قال: وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى. قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال: نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه، فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا: هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان، فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال: نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية. ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت. وقال آخر: وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال: فلم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر مبين (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

[سورة الإسراء (17): الآيات 2 إلى 4]

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط. قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعدا كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلّى الله عليه وسلّم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه فالتفّت إليه فبدأني بالسلام» (ق) عن جابر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية: لما كذبني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس» وذكر الحديث (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، فإذا هو قائم يصلي في قبره. عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بإصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق» أخرجه الترمذي. فإن قلت: كيف رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت، وهم في الدار الآخرة؟ قلت أما صلاته صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه رآهم يلبون، ويحجون، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 4] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا يعني وقلنا لهم: لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يعني ربا كفيلا ذُرِّيَّةَ يعني يا ذرية مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يعني أن نوحا كان كثير الشكر، وذلك أنه كان إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال: الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا لذلك. قوله عز وجل وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ: يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وقال ابن عباس: وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام، وبيت المقدس وَلَتَعْلُنَّ يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولى المرتين قيل: إفسادهم في المرة الأولى هو ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا من المحارم وقيل: إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي

ذكر القصة في هذه الآية

بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتله داود وقيل: هو سنحاريب وهو من أهل نينوى وقيل هو بختنصر البابلي وهو الأصح أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني ذوي بطش وقوة في الحرب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يعني طافوا بين الديار وسطها يطلبونكم ليقتلوكم وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعني قضاء كائنا لازما لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، حين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً يعني أكثر عددا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ يعني لها ثوابها وجزاء إحسانها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها يعني فعليها إساءتها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعني ليحزنوكم وقرئ بالنون أي ليسوء الله وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني وقت إفسادهم الأول وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكا. ذكر القصة في هذه الآية قال محمد بن إسحاق: كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ومحسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أن ملكا منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبيا ليسدده ويرشده، ولا ينزل عليهم كتابا إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير. فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فلم يزل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعياء النبي إليه، وقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده؟ بستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء: لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي، أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص: اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك. فاستجاب الله له وكان عبدا صالحا فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا لله وقال: إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا. قال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك

عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر. فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمس نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجدا لله تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة: الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة: القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفا لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكرة وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن ابنه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله لشعياء: - قم في قومك حتى أوحي على لسانك. فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين. إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كانت خرابا زمانا لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو يقال: ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّما ذا رأي وهمة حفيظا قويا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا. فقالوا: بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا، لا عمران فيها قال الله تعالى: قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح

الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزكّ صدقتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما استمع قول المستضعف المستكين، وان من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي: إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلّاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبيا أميا ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا بي وإخلاصا لي يصلون قياما وقعودا، وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير، والتوحيد والتسبيح والتحميد والتهليل والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف يطهرون لي، الوجوه والأطراف ويعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء أنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة، فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال: ناشة بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنه وهي تهتز خضراء فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى

[سورة الإسراء (17): الآيات 5 إلى 7]

الله إلى أرمياء، أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمي وعرفهم بأحداثهم. فقال أرمياء: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت إني معك، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم، ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية وقال في آخرها: عن الله عز وجل حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثا أقرهم بالشام وثلثا سباهم وثلثا قتلهم وذهب باناث بيت المقدس، وبالصبيان السبعين ألفا حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله عز وجل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 5 الى 7] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا عجيبة إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال: ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا: رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال: صدقتم قالوا: فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال: صدقتم فما تأويلها قالوا: تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكا، وبعضهم، كان أحسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء، فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا: يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر

منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله تعالى هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكا فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا: ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد. كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره. قال: أفتحب أن يرد إليك قال: نعم قال: ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزيز فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حبا لم يحبوا حبه شيئا قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليه الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره. فقالوا: هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال: ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا. وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا: يحيى بن زكريا قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ باذن

[سورة الإسراء (17): الآيات 8 إلى 19]

ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره. وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم، ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم واليونانيين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس ابن أسبيانيوس الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصّغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام: أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت: رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا. قالت: ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول: لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفا حتى سكن دمه قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 8 الى 19] عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم وَإِنْ عُدْتُمْ أي إلى المعصية عُدْنا أي إلى العقوبة. قال قتادة فعادوا فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم: فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي سجنا ومحبسا من الحصر الذي هو مجلس الحبس، وقيل: فراشا من الحصير الذي يبسط ويفترش. قوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله وَيُبَشِّرُ يعني القرآن الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً يعني الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار في الآخرة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ أي على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ يعني قوله عند الغضب: اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس: ضجرا لا صبر له على سرّاء ولا ضراء. قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبرا يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب. والقول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة. قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا أي باختلاف الليل والنهار عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة. واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بيانا شافيا واضحا غير ملتبس قيل: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلا قوله عز وجل وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس: عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان. وقيل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقيل: ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وقيل: هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما

يزين أو يشين فإن كان عمله خيرا كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شرا كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه ويخرج له بقول تبارك وتعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قيل: بسطت للإنسان صحيفتان ووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته. فإذا مات طويت الصحيفتان، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة اقْرَأْ كِتابَكَ أي يقال له: اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئا كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي محاسبا قال الحسن: لقد عدل عليك «1» من جعلك حسيب نفسك، وقيل: يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي. فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. قوله سبحانه وتعالى مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضا، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لإقامة الحجة وقطعا للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل. قوله سبحانه وتعالى وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها في معنى الآية قولان: أحدهما: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين: معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا. والقول الثاني: أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها. يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذا قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل. والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُوا فِيها أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي وجب عليها العقاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب (ق)، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها». قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث» قوله: ويل للعرب. ويل كلمة تقال: لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أي المكذبة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش. قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره. وقيل: القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» قال محمد ابن القاسم: ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات. وقيل: القرن ثمانون سنة. وقيل: أربعون وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات، لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. قوله عز وجل مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة يعني الدنيا عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ أي من البسط أو التقتير لِمَنْ نُرِيدُ أن نفعل به ذلك أو إهلاكه، وقيل في معنى الآية. عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئا، قدرناه له وهذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ أي في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً أي مطرودا مباعدا. قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي مقبولا قيل: في الآية ثلاث

_ (1). قوله عدل عليك هكذا في الأصل الطبع وفي بعض النسخ إليك سيدل عليك وفي الخطيب عدل والله في خلقك من إلخ وفي الكشاف: يا ابن آدم أنصفك والله من إلخ اهـ.

[سورة الإسراء (17): الآيات 20 إلى 25]

شرائط في كون السعي مشكورا إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت، وعن بعض السلف الصالح. من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 25] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أي نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا، ومن يريد الآخرة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يعني يرزقهما جميعا ثم يختلف الحال بهما في المآل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا عن عباده والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا إذ لا حظ للكافر في الآخرة انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى، لأنها دار المقامة. قوله تعالى لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر وهذا أولى فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً أي من غير حمد مَخْذُولًا أي بغير ناصر. قوله سبحانه وتعالى: وَقَضى رَبُّكَ أي وأمر ربك. قاله ابن عباس: وقيل معناه وأوجب ربك. وقيل: معناه الحكم والجزم. وقيل: ووصى ربك. وحكي عن الضحاك أنه قرأها ووصى ربك وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافا وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فيه وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالوالدين إحسانا أي برا بهما وعطفا عليهما وإحسانا إليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء: الأول قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وهي كلمة تضجّر وكراهية، وقيل: إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد، ونفخت فيه تزيله تقول: أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم. والثاني: قوله وَلا تَنْهَرْهُما أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال: نهره وانتهره بمعنى. فإن قلت: المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت: المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله ولا تنهرهما، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها. الثالث: قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي حسنا جميلا لينا كما

فصل

يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل: هو يا أماه يا أبتاه وقيل: لا يكنيهما وقيل: هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ. الرابع: قوله عز وجل وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه مِنَ الرَّحْمَةِ أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما كنت في حال الصغر مفتقرا إليهما. الخامس: قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وقيل: يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما. وقيل في معنى هذه الآية: إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما. فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين، (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك» (م) عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: رغم أنفه، رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» (م) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك قال: نعم قال ففيهما فجاهد» وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين» أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا قال: وهو أصح عن أبي الدرداء قال «فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه» أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح (م) «عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى». قوله سبحانه وتعالى رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، عدم عقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي أبرارا مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، أو غيرهما أو قيل فرط منكم في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله، واستغفرتم مما فرط منكم فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوابين غَفُوراً قال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما. وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس: الأوّاب الرجاع إلى الله فيما يحزنه، وينوبه وعنه أنهم المسبحون. وقيل: هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم. قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم قوله: إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها. والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الصغار وقيل: الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين. قوله سبحانه وتعالى:

[سورة الإسراء (17): الآيات 26 إلى 38]

[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 38] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل: إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل: أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي لا تنفق مالك في المعصية. وقيل: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق درهما أو مدا في باطل كان مبذرا. وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقيل: هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل: إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل: أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم: هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي جحودا للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله. قوله عز وجل وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية. والمعنى: وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرت أن تؤتيهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي لينا جميلا أي عدهم وعدا طيبا، تطيب به قلوبهم. وقيل: هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال جابر: أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها وَلا تَبْسُطْها أي بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ أي فتعطي جميع ما عندك. وقيل: هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء

المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوما عند نفسك وأصحابك أيضا يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل: يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم مَحْسُوراً أي منقطعا لا شيء عندك تنفقه وقيل: محسورا أي نادما على ما فرط منك. ثم سلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ أي يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي فاقة وفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي إثما كبيرا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي قبيحة زائدة على حد القبح وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل: إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منها المعصية وإيجاب الحد على نفسه، ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة». أخرجاه في الصحيحين وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل: سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي الولي قال ابن عباس: لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه. وقيل معناه إذا كان القتيل واحدا فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً قيل الضمير راجع للمقتول ظلما يعني أنه منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله، وقيل: الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه: إنه كان منصورا على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله: فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ أي الإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهي عنه وقيل: أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي عنه وقيل مطلوبا وقيل: العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموءودة تسأل فيم قتلت. قوله عز وجل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ المراد منه إتمام الكيل وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قيل هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل: هو القبان قيل هو رومي وقيل: سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل، أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم،

[سورة الإسراء (17): الآيات 39 إلى 46]

فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال على أربابها ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْفُ أي ولا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم. وقيل: معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع والبصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها. عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به قال: فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال حديث حسن غريب. قوله: وشر منيي يعني ماءه وذكره. قوله عز وجل وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي بطرا وكبرا وخيلاء إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. وقيل: إن الذي يمشي مختالا يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له: إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. عن علي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب. أخرجه الترمذي في الشمائل. قوله تكفؤا: التكفؤ التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفؤ أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا. وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي. قوله: لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم. فإن قلت: كيف قيل: سيئة مع قوله مكروها؟ قلت: قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروها سيئة عند ربك وقوله: مكروها على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروها وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 39 الى 46] ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال

فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار. وقيل: إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة. قيل: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: ولا تجعل مع الله إلها آخر. قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى: افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر فيه التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا وقال في هذه الآية وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموما فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموما ثم يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير. قوله سبحانه وتعالى أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة بِالْبَنِينَ يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا ويعتبروا وَما يَزِيدُهُمْ أي تصريفنا وتذكيرنا إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقيل: معناه لتقربوا إليه. وقيل: معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال عز وجل سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه. قوله عز وجل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ يعني الملائكة والإنس والجن وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: وإن من شيء حي إلا يسبح. وقيل: جميع الحيوانات والنباتات. قيل: إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح. وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح. وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل: كل الأشياء تسبح الله حيوانا كان أو جمادا وتسبيحها: سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فقل الماء فقال: «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله». فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري (م) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن» (خ) عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان

[سورة الإسراء (17): الآيات 47 إلى 57]

الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأول أصح كما دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف. واعلم أن لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه. وقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح. قوله عز وجل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل: معناه مستورا عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: «لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله. قال: لا لم يزل ملك بيني وبينها» وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا لئلا يسمعوه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً جمع نافر. [سورة الإسراء (17): الآيات 47 الى 57] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل: معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي وأنت تقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي وبما يتناجون به في أمرك، وقيل: معناه ذوو نجوى بعضهم يقول: هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي مطبوبا وقيل مخدوعا وقيل: معناه أنه سحر فجن. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسخر بالطعام وبالشراب أي يغذى بهما انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه فقالوا: ساحر شاعر كاهن مجنون فُضِّلُوا أي في جميع ذلك وحاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي إلى طريق الحق وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً أي بعد الموت وَرُفاتاً أي ترابا وقيل: الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فيه أنهم استبعدوا الإعادة بعد الموت والبلى. فقال سبحانه وتعالى ردا عليهم قُلْ أي قل يا محمد كُونُوا حِجارَةً

أي في الشدة أَوْ حَدِيداً أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم، أنكم حجارة أو حديد في القوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قيل: يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات. وقيل: يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا أي من يبعثنا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أي خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يعني البعث والقيامة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي هو قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي من قبوركم إلى موقف القيامة فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وقيل: هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي في الدنيا وقيل في القبور إِلَّا قَلِيلًا وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفا من السنين، عد ذلك قليلا بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة، وقيل: إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة. قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل. وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو. وقيل: أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويلقي العداوة بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة. قوله عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي يميتكم على الشرك فتعذبوا، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا قيل: نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل: معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما، وقال لعيسى: كن فكان وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا وذلك قوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسين سورة، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام. فإن قلت: لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء؟ قلت: فيه وجوه: أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى: وآتينا داود زبورا وذلك أن داود أعطي مع النبوة الملك، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيها على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر. الوجه الثالث: أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله: وآتينا داود زبورا ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة، وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أن يفضل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قوله عز وجل قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فقال الله عز وجل: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي الجوع والقحط وَلا تَحْوِيلًا أي إلى

[سورة الإسراء (17): الآيات 58 إلى 64]

غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومقصود الآية الرد على المشركين، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن نعبد المقربين إليه، وهم الملائكة. ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم ثم قال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يدعون المشركون آلهة يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي القربة والدرجة العليا. قال ابن عباس: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم. وقال عبد الله بن مسعود: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية. قوله تعالى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ معناه، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ أي جنته وَيَخافُونَ عَذابَهُ وقيل: معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب، ونبي مرسل فضلا عن غيرهم من الخلائق. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 64] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي بالموت والخراب أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا، وقيل: الإهلاك في حق المؤمنين الإماته وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي مكتوبا مثبتا. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: ما أكتب قال: القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد» أخرجه الترمذي. قوله سبحانه وتعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ قال ابن عباس «سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بل تستأني بهم» فأنزل الله عز وجل وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي التي سألها الكفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى وَآتَيْنا

ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم فَظَلَمُوا بِها أي جحدوا أنها من عند الله. وقيل: فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفا من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. وقيل: معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفا أي إنذارا بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون. قوله عز وجل وَإِذْ قُلْنا لَكَ أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ الأكثرون من المفسرين على أن المراد منها ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري. وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم. والعرب تقول: رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيمانا. وقال قوم: أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف. وقال قوم كان له معراجان: معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام. وقيل: أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعد ما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك. فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون، والفتنة فيها أن أبا جهل قال: إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر. وقيل: إن عبد الله بن الزبعري قال: إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل: يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ الآيات. فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ قلت: لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس: في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي تمردا وعتوا عظيما قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي قالَ يعني إبليس أَرَأَيْتَكَ الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي أمهلتني إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإضلال. وقيل: معناه لأقودنهم كيف شئت. وقيل: لأستولين عليهم بالإغواء إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قالَ الله تعالى اذْهَبْ أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء فَمَنْ

[سورة الإسراء (17): الآيات 65 إلى 69]

تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا. قوله سبحانه وتعالى وَاسْتَفْزِزْ أي استخف واستزل واستعجل وأزعج مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس. وقيل: أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل: معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. يقال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس. وقيل: المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل: هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموءودة، وقيل: أولاد الزنا. وعن ابن عباس أيضا هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل: هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها. وقيل: إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال: وما المغربون قال: الذين شارك فيهم الجن. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال: ذلك من وطء الجن وَعِدْهُمْ أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل: قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد أن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعلها البتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وهو أنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها. وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل. فإن قلت: كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يأمر بالفحشاء؟ قلت: هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم. وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله سبحانه وتعالى وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال: وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غرورا. [سورة الإسراء (17): الآيات 65 الى 69] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يعني بعبادة الأنبياء وأهل الفضل والصلاح لأنه لا يقدر على إغوائهم

[سورة الإسراء (17): الآيات 70 إلى 71]

وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي حافظا. والمعنى: أنه سبحانه وتعالى لما أمكن إبليس أن يأتي بما يقدر عليه من الوسوسة كان ذلك سببا لحصول الخوف في قلب الإنسان، قال تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي فالله سبحانه وتعالى أقدر منه وأرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان ووساوسه، ويعصمهم من إغوائه وإضلاله. وفي بعض الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني. قال: استفزز من استطعت منهم الآية. فقال آدم: يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال رب زدني قال: التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد قال رب زدني فقال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية. وفي الخبر قال إبليس: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا فما قراءتي؟ قال: الشعر. قال: فما كتابتي؟ قال: الوشم، قال: ومن رسلي؟ قال الكهنة. قال: أي شيء مطعمي؟ قال ما لم يذكر عليه اسمي قال فما شرابي قال كل مسكر قال: وأين مسكني؟ قال الحمامات- قال- وأين مجلسي؟ قال في الأسواق قال: وما حبائلي قال: النساء قال: وما أذاني؟ قال المزمار. قوله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي أي يسوق ويجري لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي حيث يسر لكم هذه المنافع، والمصالح وسهلها عليكم وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي الشدة وخوف الغرق في البحر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها إِلَّا إِيَّاهُ أي إلا الله وحده فإنكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم فَلَمَّا نَجَّاكُمْ أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي جحودا أَفَأَمِنْتُمْ أي بعد إنجائكم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي تغوره. والمعنى: أن الجهات كلها له، وفي قدرته برا كان أو بحرا بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي نمطر عليكم حجارة من السماء، كما أمطرناها على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي مانعا وناصرا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أي مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال ابن عباس: أي عاصفا وهي الريح الشديدة. وقيل: الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً التبيع المطالب. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا لكم ودركا للثأر من جهتنا. وقيل: معناه من يتبعنا بالإنكار علينا. قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 70 الى 71] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال ابن عباس: هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وقال أيضا بالعقل وقيل بالنطق والتمييز والخط والفهم، وقيل باعتدال القامة وامتدادها وقيل بحسن الصورة وقيل: الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل: بتسليطهم على جميع ما في الأرض وتسخيره لهم وقيل: بحسن تدبيرهم أمر المعاش والمعاد. وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أي على الإبل

[سورة الإسراء (17): الآيات 72 إلى 76]

والخيل والحمير وَالْبَحْرِ أي وحملناهم في البحر على السفن، وهذا من مؤكدات التكريم لأن الله تعالى سخر لهم هذه الأشياء لينتفعوا بها، ويستعينوا بها على مصالحهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب وقيل الزبد والتمر والحلواء، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل: إن جميع الأغذية إما نباتية وإما حيوانية ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا واعلم أن الله تعالى قال في أول الآية: ولقد كرمنا بني آدم وفي آخرها وفضلناهم، ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل والإلزام التكرار والأقرب أن يقال: إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية، مثل العقل والنطق والخط وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل. ثم قال سبحانه وتعالى: على كثير ممن خلقنا تفضيلا. ظاهر الآية يدل على أنه فضل بني آدم على كثير ممن خلق لا على الكل فقال: قوم فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة وهذا مذهب المعتزلة. وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم. وقيل: فضلوا على جميع الخلائق وعلى الملائكة كلهم. فإن قلت: كيف تصنع بكثير؟ قلت: يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أراد كلهم وفي الحديث عن جابر يرفعه قال: «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة فقال: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وقيل بالتفضيل وهو الأولى والراجح أن خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر من بني آدم، وهذا التفضيل إنما هو بين الملائكة والمؤمنين من بني آدم لأن الكفار لا حرمة لهم قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده. قوله عز وجل يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر. وقيل: بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أن أصحاب الشمال يقرءونه أيضا. قلت: الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملا على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء. [سورة الإسراء (17): الآيات 72 الى 76] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى المراد عمى القلب والبصيرة لا عمى البصر. والمعنى: ومن كان في هذه الدنيا أعمى، أي عن هذه النعم التي قد عدها في هذه الآيات المتقدمة فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أي التي لم تعاين ولم تر

[سورة الإسراء (17): الآيات 77 إلى 79]

أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا قاله ابن عباس: وقيل معناه ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي أشد عمى وأضل سبيلا، أي أخطأ طريقا. وقيل: معناه ومن كان في الدنيا كافرا ضالا، فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل توبته. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قيل في سبب نزولها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر. وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: قد وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. قال: وما هن؟ قالوا: لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها قالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا- أي هموا- ليفتنونك- أي ليصرفونك- عن الذي أوحينا إليك لِتَفْتَرِيَ أي لتختلق وتبتعث عَلَيْنا غَيْرَهُ ما لم تقله وَإِذاً أي لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك ووافوك وصافوك وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ أي تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي قربت من الفعل. فإن قلت كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه. قلت: كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول بعد ذلك «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي ناصرا يمنعك من عذابنا. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها قيل: هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة، وذلك حسدا فأتوه فقالوا: يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض أنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى: همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية. وقيل: همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الإزعاج وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى يهلكوا. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 77 الى 79] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن

فصل

يهلكهم وأن لا يعذبهم مادام نبيهم بينهم فإذا خرج من بين أظهرهم عذبهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا. قوله سبحانه وتعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ روي عن ابن مسعود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي. قال ابن عباس وابن عمر وجابر: هو زوال الشمس. وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين. ومعنى اللفظ: يجمعهما، لأن أصل الدلوك الميل والشمس: تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين: لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس: بدو الليل وهذا يتناول المغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار (خ). عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهودا. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل. قوله سبحانه وتعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم. والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وبقي الوجوب ثابتا في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» وقيل: إن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة: فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال: نافلة لك ولم يقل عليك. فإن قلت: ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلّى الله عليه وسلّم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات. فصل في الأحاديث الواردة في قيام الليل (ق) عن المغيرة بن شعبة قال: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا» (م) عن زيد بن خالد الجهني: قال لأرمقن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود (ق)، «عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة: إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي» (ق) عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيما بين أن يفرغ من

صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» (خ) عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه. سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة النساء» أخرجه أبو داود النسائي. «عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة» أخرجه الترمذي (ق) عن الأسود قال: «سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج» عن أنس قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليل مصليا إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه» أخرجه النسائي. زاد في رواية غيره قال: «وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا». وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظة عسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم أحرمه كان ذلك عارا عليه والله أكرم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه. والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (م) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (ق) عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته، وقعت ساجدا فيدعني ما شاء فيقال: يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع يا محمد رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود» وفي رواية للبخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال وهذا المقام المحمود

الذي وعده نبيكم صلّى الله عليه وسلّم زاد في رواية «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال: هيا، فقلنا: لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم، ثم قال: ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال: ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قوله: وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي. عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول: إني أذنبت ذنبا عظيما فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول: إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم» قال: ابن جدعان: قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخرج ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. قال سفيان: ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال: من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون: مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد» أخرجه الترمذي. قوله: ما حل المماحلة: المخاصمة والمجادلة. والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه. قوله: فاقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي: وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» زاد الترمذي، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري. عنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده فيه أهل الجمع كلهم (م) عن يزيد بن صهيب قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت يا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هذا الذي تحدثونه والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته وكلما أرادوا أن

[سورة الإسراء (17): الآيات 80 إلى 81]

يخرجوا منها أعيدوا فيها، فما هذا الذي تقولون قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ ما قبله إنه في الكفار ثم قال فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه قلت: نعم قال فإن مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال غيره أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فيخرجون منه كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجعنا فلا والله ما خرج غير رجل واحد أو كما قال، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو ابن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة. وروى أبو وائل عن ابن مسعود أنه قال: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق عليه. ثم قرأ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال يقعده على العرش. وعن مجاهد مثله وعن عبد الله بن سلام قال يقعد على الكرسي. قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 80 الى 81] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس: معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة. وقيل: معناه أخرجني من مكة آمنا من المشركين، وأدخلني مكة ظاهرا عليها بالفتح، وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا عند الله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة بينة وقيل: ملكا قويا تنصرني به على من عاداني وعزا ظاهرا أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس، وقال يظهره على الدين كله وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية. قوله تعالى وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني الإسلام والقرآن وَزَهَقَ الْباطِلُ أي الشرك والشيطان إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال (ق). عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد- قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 82 الى 84] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس. والمعنى: ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها. وقيل: هو شفاء للأمراض

[سورة الإسراء (17): الآيات 85 إلى 88]

الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين «1» أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادا والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع. وأما النوع الثاني: وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. يدل عليه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في فاتحة الكتاب، «وما يدريك أنها رقية»: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخسارا للظالمين، وقيل: لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة: لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي بالصحة والسعة أَعْرَضَ أي عن ذكرنا ودعائنا وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل: معناه تكبر وتعظم وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والضر كانَ أي يائسا قنوطا، وقيل: معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة. قوله عز وجل قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قال ابن عباس: على ناحيته. وقيل: الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أوضح طريقا وأحسن مذهبا واتباعا للحق قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 85 الى 88] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه، وفي رواية، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت وفي رواية، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر الوحي، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وفي رواية، وما أوتوا من العلم إلا قليلا. قال الأعمش هكذا في قراءتنا. العسيب: جريد النخل وسعفه. وقال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن

_ (1). قوله لأنها تنقسم إلى نوعين أي الأمراض الغير الجسمانية بدليل قوله بعد وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية والعبارة في الفخر الرازي بغاية التهذيب فليراجع.

اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبركم بما سألتم غدا، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثني عشر يوما وقيل: خمسة عشر يوما وقيل أربعين يوما وأهل مكة يقولون: قد وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ونزل في الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب، قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ونزل في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل: الروح هو القرآن لأن الله سماه روحا ولأن به حياة القلوب. وقيل: هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال. وتكلم قوم في ماهية الروح فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: هو عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان. وقيل: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل. وأقاويل الحكماء والصوفية في ماهية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بدليل قوله: قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ من علم ربي إِلَّا قَلِيلًا أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام. وقيل: هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علما لنبوته. والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح. قوله عز وجل وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل؟ قلت: المراد منه محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود: «اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال: يسرى عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا، ولا يجدون مما في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل. له

[سورة الإسراء (17): الآيات 89 إلى 93]

دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب: ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي» إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود. قوله سبحانه وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لا يقدرون على ذلك وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي عونا. نزلت حين قال المشركون: لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 89 الى 93] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقيل: معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا. قوله سبحانه وتعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا: لن نؤمن لك. روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إليّ محمدا فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى. قالوا: فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك

[سورة الإسراء (17): الآيات 94 إلى 97]

جنات وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال: ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل. فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فو الله ما أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك. فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا من مباعدتهم فأنزل الله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يعني أرض مكة يَنْبُوعاً أي عيونا أو أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي بستان فيه نخيل وعنب فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أي تشقيقا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا قال ابن عباس: كفيلا أي يكفلون بما تقول. وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول. وقيل: معناه تراهم مقابلة عيانا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب وأصله الزينة أَوْ تَرْقى أي تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية قُلْ أي قل يا محمد سُبْحانَ رَبِّي أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طوق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتين، ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 94 الى 97] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي الوحي. والمعنى: وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم هي إنكارهم أن يرسل الله البشر وهو قوله تعالى إِلَّا أَنْ قالُوا أي جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وذلك أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا فأجابهم الله بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي مستوطنين مقيمين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي على أني رسوله إليكم وأني قد بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ يعني المنذرين والمنذرين خَبِيراً بَصِيراً أي عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكفار وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أي يهدونهم وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو

[سورة الإسراء (17): الآيات 98 إلى 101]

أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ (ق) «عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم. قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون. فإن قلت: كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وقال سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع. قلت فيه أوجه: أحدها قال ابن عباس معناه عميا لا يبصرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون ما يسرهم. الوجه الثاني: قيل: معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى: ثم تعاد إليهم هذه الأشياء. الوجه الثالث: قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها. وقيل: ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى قال: لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو زِدْناهُمْ سَعِيراً أي وقودا وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه، وزيد في سعير النار لتحرقهم. [سورة الإسراء (17): الآيات 98 الى 101] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا لما ذكر الوعيد المتقدم قال: ذلك جزاؤهم بما كفروا يعني ذلك العذاب جزاؤهم بسبب كفرهم بآياتنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أجابهم الله ورد عليهم بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في عظمها وشدتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي في صغرهم وضعفهم وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت، وقيل يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وعنادا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن نعمه ورزقه وقيل: إن خزائن الله غير متناهية. والمعنى: لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي ممسكا بخيلا. فان قلت: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم، فكيف وصفه بالبخل؟ قلت: الأصل في الإنسان البخل، لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلالات واضحات. قال ابن عباس: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه، فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وقيل عوض فلق البحر، واليد والسنون ونقص من الثمرات وقيل: الطمس والبحر بدل السنين

[سورة الإسراء (17): الآيات 102 إلى 104]

والنقص. قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز، وقد صارت حجرا وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر: هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه. فإذا فيه بيض مكسر نصفين، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة. وقيل: التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر: لا تقل نبي. فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين، فأتياه فسألاه عن هذه الآية. ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا: نشهد إنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود فَسْئَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم إِذْ جاءَهُمْ يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قال ابن عباس: مخدوعا وقيل: مطبوبا أي سحروك وقيل معناه ساحرا معطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك. [سورة الإسراء (17): الآيات 102 الى 104] قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) قالَ موسى لَقَدْ عَلِمْتَ خطابا لفرعون. قال ابن عباس: علمه فرعون ولكنه عانده ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الآيات التسع بَصائِرَ أي بينات يبصر بها وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: ملعونا. وقيل: هالكا. وقيل: مصروفا عن الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ معناه أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني أرض مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جميعا إلى موقف القيامة، واللفيف: الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل: أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء قوله سبحانه وتعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 105 الى 109] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل. وقيل: معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً يعني بالجنة للمطيعين وَنَذِيراً أي مخوفا بالنار للعاصين. قوله عز وجل وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق والباطل، وقيل: معناه أنزلنا نجوما لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على تؤدة وترسل في ثلاث

[سورة الإسراء (17): الآيات 110 إلى 111]

وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي على حسب الحوادث قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فيه وعيد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ قيل: هم مؤمنو أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ قال ابن عباس: أراد بها الوجوه سُجَّداً أي يقعون على الوجوه سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تعظيما لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، من بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي كائنا واقعا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي خضوعا لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جهنم» أخرجه الترمذي والنسائي. وزاد النسائي «في منخري مسلم أبدا» الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» أخرجه الترمذي قوله عز وجل: [سورة الإسراء (17): الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية ومعناه أنهما اسمان لله تعالى فسموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم أَيًّا ما تَدْعُوا ما صلة ومعناه أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم، أو من جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني إذا حسنت أسماؤه كلها فهذان الاسمان منها ومعنى كونها حسنى أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم والتمجيد وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (ق) عن ابن عباس في قوله: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلا زاد في رواية وابتغ بين ذلك سبيلا أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن وقيل نزلت الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول. (ق) عن عائشة «ولا تجهور بصلاتك ولا تخافت بها» قالت: نزل ذلك في الدعاء. وقيل: كان أعراب من بني تميم إذا سلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: اللهم ارزقنا مالا وولدا يجهرون بذلك فأنزل الله عز وجل «ولا تجهر بصلاتك أي لا ترفع صوتك بقراءتك ودعائك ولا تخافت بها» المخافتة خفض الصوت، والسكوت وَابْتَغِ أي اطلب بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا وسطا بين الجهر والإخفاء. عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك فقال إني أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلا وقال لعمر مررت بك، وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال: اخفض قليلا» أخرجه الترمذي وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يحمده على وحدانيته. وقيل: معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده. وقيل: إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ

والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك، لم يكن مستحقا للحمد والشكر وكذا قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي. وقيل: إذا كان منزها عن الولد والشريك والولي كان مستوجبا لجميع أنواع المحامد. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أحب الكلام إلى الله أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت» أخرجه مسلم. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الكهف

سورة الكهف وهي مكية وآياتها مائة وإحدى عشرة آية، وكلماتها ألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وحروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الكهف (18): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل له شيئا من العوج قط والعوج في المعاني، كالعوج في الأعيان والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وقيل معناه لم يجعله مخلوقا روي عن ابن عباس في قوله تعالى: «قرآنا عربيا غير ذي عوج» قال غير مخلوق. [سورة الكهف (18): الآيات 2 الى 10] قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) قَيِّماً أي مستقيما وقال ابن عباس: عدلا، وقيل قيما على الكتب كلّها مصدقا لها وناسخا لشرائعها لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً معناه لينذر الذين كفروا بأسا شديدا وهو قوله سبحانه وتعالى بعذاب بئيس مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً يعني الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين فيه أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي بالولد وباتخاذه يعني أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل مفرط. فإن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم. قلت انتفاء العلم يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به وَلا لِآبائِهِمْ أي ولا لأسلافهم من قبل كَبُرَتْ أي عظمت كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي هذا الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم

ذكر قصة الكهف وسبب خروجهم إليه

وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا قيل حقيقة الكذب أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر قولهم عنه وزاد بعضهم مع علم قائله أنه غير مطابق وهذا القيل باطل لأن الله سبحانه وتعالى وصف قولهم بإثبات الولد بكونه كذبا مع أن الكثير منهم يقولون ذلك ولا يعلمون كونه باطلا فعلمنا أن كل خبر لا تطابق الخبر عنه فهو كذب والكذب خلاف الصدق، وقيل: هو الانصراف عن الحق إلى الباطل ورجل كذاب وكذوب إذا كان كثير الكذب. قوله عز وجل فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً أي حزنا وقيل غيظا إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها أي مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، وقيل يعني النبات والشجر والأنهار، وقيل أراد به الرجال خاصة فهم زينة الأرض، وقيل أراد به العلماء والصلحاء وقيل جميع ما في الأرض هو زينة لها. فإن قلت أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين. قلت زينتها كونها تدل على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، وقيل إن جميع ما في الأرض ثلاثة معدن ونبات وحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان، قيل الأولى أن لا يدخل في هذه الزينة المكلف، بدليل قوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ فمن يبلو يجب أن لا يدخل في ذلك ومعنى لنبلوهم نختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصلح عملا وقيل أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها أي من الزينة، صَعِيداً جُرُزاً يعني مثل أرض لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة والصعيد وجه الأرض وقيل هو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا ينبت فيه شيء، قوله سبحانه وتعالى أَمْ حَسِبْتَ أي أظننت يا محمد أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي هم عجب من آياتنا وقيل معناه أنهم ليسوا بأعجب آياتنا، فإن خلقنا من السموات والأرض وما فيهم من العجائب أعجب منهم والكهف الغار الواسع في الجبل، والرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم ثم وضع على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة، وعن ابن عباس أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقال كعب الأحبار: هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف ثم ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف فقال عز وجل من قائل إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي صاروا إليه، وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى وهو الطري من الشباب فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهب لنا الهداية والنصر والأمن من الأعداء وَهَيِّئْ لَنا أي أصلح لنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي حتى نكون بسببه راشدين مهديين وقيل معناه واجعل أمرنا رشدا كله. ذكر قصة الكهف وسبب خروجهم إليه: قال محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار مرج أمر أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكون بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله. فلما نزل مدينة أصحاب الكهف واسمها أفسوس استخفى منه أهل الإيمان وهربوا في كل وجه فاتخذ شرطا من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم بين القتل وبين عبادة الأصنام، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ويجعل ما قطع من أجسادهم على أسوار المدينة وأبوابها فلما عظمت الفتنة وكثرت ورأى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء، وكانوا من أشراف الروم وهم ثمانية نفر وبكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وجعلوا يقولون: «ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا» اكشف عن عبادك

المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلاهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجودا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل فقال لهم الشرط ما خلفكم عن أمر الملك، ثم انطلقوا إلى الملك فأخبروه خبر الفتية فبعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة، وجوههم بالتراب فقال لهم ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة أهل مدينتكم اختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم، فقال مكسلينا وهو أكبرهم: إن لنا إلها ملء السموات والأرض عظمته لن ندعوا من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبدا اصنع بنا ما بدا لك. وقال أصحابه مثل ذلك فلما سمع الملك كلامهم أمر بنزع ثيابهم وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة وقال سأفرغ لكم وأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبانا حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه فترجعون إلى عقولكم. ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة أخرى قريبة منه لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا وخافوا إذا قدم أن يذكرهم، فأتمروا بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس «1»، فيمكثوا فيه ويعبدوا الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فيصنع بهم ما يشاء فلما اتفقوا على ذلك عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم، وأتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فمكثوا فيه. وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم الكلب: ما تريدون مني لا تخشوا مني أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس: هربوا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم الكلب فخرجوا من البلد إلى الكهف. قال ابن عباس: فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد ابتغاء لوجه الله عز وجل وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم اسمه تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة لبس ثيابا رثة كثياب المسلمين ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا. ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل فأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة فقال لهم تمليخا: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم وأطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع وذلك عند غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويذكر بعضهم بعضا فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان من الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد ظنوا أن بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة، قد كنت أجلت لهم أجلا ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا، فلما قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا: أما نحن لم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا إلى جبل يدعى ينجلوس فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يصنع

_ (1). قوله ينجلوس هكذا في بعض النسخ وفي بعضها مخلوس وفي حياة الحيوان منحلوس اهـ. [.....]

بالفتية فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يأمر بسد باب الكهف عليهم وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقيانوس بالكهف فسد عليهم وقال دعوهم كما هم في كهفهم يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله عز وجل أرواحهم وفاة نوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال. ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس واسم الآخر روناس اهتما أن يكتبا شأن هؤلاء الفتية، وأسماءهم وأنسابهم وأخبارهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه، وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وكان معهم كلب صيد لهم، وكان أحدهم وزير الملك فقذف الله سبحانه وتعالى الإيمان في قلوبهم فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه وقال في نفسه أخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لئلا يصيبني عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره وجلس إليه من غير أن يظهره على أمره ثم خرج آخر فخرجوا جميعا فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا ليخرج كل فتيين فيخلوا ويفشي كل واحد سره إلى صاحبه ففعلوا ذلك فإذا هم جميعا على الإيمان وإذا الكهف في جبل عظيم قريب منهم فقال بعضهم لبعض فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته. فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيد فناموا ثلاثمائة سنين وازداد تسعا، وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان الملك ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكون لهؤلاء شأن ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن. قال محمد بن إسحاق: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدروس فلما ملك بقي ملكه ثماني وستين سنة، فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح وتضرع إلى الله وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا الحياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد. وجعل بيدروس الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيرا وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلق بابه عليه، ولبس مسحا وجعل تحته رمادا فجلس عليه فدأب ليله ونهاره يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه. ثم إن الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية فيها، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه ذلك الكهف وكان اسمه أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ويبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما كان على باب الكهف، وفتحا باب الكهف وحجبهم الله تعالى عن الناس بالرعب فلما فتح باب الكهف أذن الله سبحانه وتعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا

يستيقظون منها إذا أصبحوا من ليلتهم. ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كما كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه وأنهم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: أنبئنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار، وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا: قد التمستم في المدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله، ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر فينا عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحدا، وابتع لنا طعاما فأتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعا، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع، فانطلق تمليخا خارجا فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه، ولا يشعر أن دقيانوس وأهله هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة كانت لأهل الإيمان. إذ كان أمر الإيمان ظاهرا فيهما فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها يمينا وشمالا ثم ترك ذلك الباب ومضى إلى باب آخر فرأى مثل ذلك فخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى أشخاصا كثيرة محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول يا ليت شعري ما هذا أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة في هذه المدينة ويستخفون بها واليوم ظاهرة لعلي نائم حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي في أسواقها فسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم، فزاده ذلك تعجبا ورأى أنه حيران فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدران المدينة وهو يقول في نفسه والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس كان على الأرض من يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ابن مريم لا يخاف، ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له ما اسم هذه المدينة يا فتى فقال اسمها أفسوس، فقال في نفسه لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج قبل أن يصيبني فيها شر فأهلك. فمضى إلى الذين يبتاعون الطعام فأخرج لهم الورق التي كانت معه وأعطاها رجلا منهم وقال له بعني بهذه الورق طعاما، فأخذها الرجل ونظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها فناولها رجلا آخر من أصحابه فنظر ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ويتشاورون بينهم، ويقول بعضهم لبعض: إن هذا أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان طويل فلما رآهم تمليخا يتحدثون فيه فرق فرقا شديدا وخاف وجعل يرعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس يأتونه ويتعرفونه فلا يعرفونه فقال لهم وهو شديد الخوف منهم: أفضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامك فلا حاجة لي به، فقالوا له يا فتى من أنت وما شأنك والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا انطلق معنا وأرناه وشاركنا فيه نخفف عليك ما وجدت، وإنك إن لم تفعل نحملك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال والله قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه، فقالوا له يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت وجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وخاف حتى لم يجر على لسانه إليهم شيء، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه وجعلوا يسحبونه في سكك المدينة حتى سمع به من فيها، وقيل قد أخذ رجل معه كنز فاجتمع عليه أهل المدينة وجعلوا

ينظرون إليه ويقولون والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، وجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم، وكان متيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها، اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وهو يبكي والناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علي اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل يقول في نفسه فرقوا بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتونني فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار فإنا قد كنا تواثقنا على الإيمان بالله وأن لا نشرك به أحدا أبدا ولا نفترق في حياة ولا موت فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وطنطيوس ورأى أنه لم يذهب إلى دقيانوس، أفاق وذهب عنه البكاء وأخذ أريوس وطنطيوس الورقة ونظرا إليها وعجبا منها وقال أين الكنز الذي وجدت يا فتى فقال تمليخا: ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال له أحدهما: ممن أنت فقال تمليخا أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة فقيل له: ومن أبوك ومن يعرفك بها فأخبرهم باسم أبيه، فلم يوجد من يعرفه ولا أباه فقال له أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول غير أنه نكث بصره إلى الأرض فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون، وقال بعضهم ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم، فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا أتظن إنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه المدينة وضربها ولهذه الورقة أكثر من ثلاث مائة سنة وأنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ شمط وحولك سراة هذه المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار، وإنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته. فقال لهم تمليخا: أخبروني عما أسألكم عنه فإن أنتم فعلتم صدقتكم عما عندي، فقالوا له سل لا نكتمك شيئا، قال: فما فعل الملك دقيانوس فقال: ما نعرف على وجه الأرض من اسمه دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك في الزمان الأول وله دهر طويل وهلك بعده قرون كثيرة، فقال تمليخا: إني إذا لحيران وما يصدقني أحد من الناس فيما أقول لقد كنا فتية على دين الواحد وأن الملك أكرهنا على عبادة الأصنام والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس، فأتينا إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس فنمنا فيه فلما انتهينا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا معكم كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فلما سمع أريوس قول تمليخا قال يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله عز وجل لكم على يد هذا الفتى فانطلقوا بنا معه حتى يرينا أصحابه. فانطلق أريوس وطنطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه ظنوا أنه أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث بهم إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضا وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه. فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذ هم بأريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمن الطويل وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها. ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم فضة فوقف على الباب ودعا جماعة من عظماء أهل المدينة وأمر بفتح التابوت بحضرتهم

[سورة الكهف (18): الآيات 11 إلى 17]

فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومرطونس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوس وقالوس والكلب اسمه قطمير. كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر بهم فلما قرءوه عجبوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية تدلهم على البعث ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجدا لله وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا وأخبرهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس ثم أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك للناس آية لتكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث، وذلك أن فتية بعثهم الله وقد كان توفاهم منذ ثلاث مائة سنة وأكثر، فلما أتى الملك الخبر رجع عقله إليه وذهب همه وقال: أحمدك اللهم رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني ولم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح بيدروس الملك ثم أخبر بذلك أهل مدينته فركب وركبوا معه حتى أتوا مدينة أفسوس، فتلقاهم أهلها وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية بيدروس فرح بهم وخر ساجدا على وجهه وقام بيدروس الملك قدامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه. ثم قال الفتية لبيدروس الملك نستودعك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن. فبينما الملك قائم إذا هم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم، فقام الملك إليهم وجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في منامه فقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه، فأمر الملك عند ذلك بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، ولم يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر الملك أن يتخذوا على باب الكهف مسجدا يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما وأمر أن يؤتى كل سنة. وقيل إن تمليخا حمل إلى الملك الصالح فقال له الملك من أنت قال أنا رجل من أهل هذه المدينة، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وإن أسماءهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا: هم أصحابي فلما سمع الملك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل تمليخا فبشرهم فقبض الله روحه وأرواحهم وأعمى على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فذلك قوله عز وجل إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي صاروا إلى الكهف واسمه خيرم فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هداية في الدين وَهَيِّئْ لَنا أي يسر لنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي ما نلتمس منه رضاك وما فيه رشدنا، وقال ابن عباس: أي مخرجا من الغار في سلامة. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 11 الى 17] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)

[سورة الكهف (18): الآيات 18 إلى 20]

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ألقينا عليهم النوم، وقيل منعنا نفوذ الأصوات إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي من نومهم لِنَعْلَمَ أي علم مشاهدة وذلك أن الله عز وجل لم يزل عالما، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي الطائفتين أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف. قوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي شبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً أي إيمانا وبصيرة وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف إِذْ قامُوا يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا أي الفتية رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأصنام لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً قال ابن عباس: يعني جورا وقيل كذبا يعني إن دعونا غير الله هؤُلاءِ قَوْمُنَا يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً يعني أصناما يعبدونها لَوْلا أي هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على عبادة الأصنام بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وزعم أنه له شريكا أو ولدا ثم قال بعضهم لبعض وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وذلك أنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي الجؤوا إليه يَنْشُرْ لَكُمْ أي يبسط لكم رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ أي يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم. قوله سبحانه وتعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ أي تميل وتعدل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ أي تتركهم وتعدل عنهم ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي متسع من الكهف ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصا لهم بالكرامة، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبدا لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها، ولكن اختار الله لهم مضجعا في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات الله أي إن شأنهم وحديثهم من آيات الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يضلله الله ولم يرشده فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا أي معينا مُرْشِداً أي يرشده. قوله سبحانه وتعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 18 الى 20] وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

[سورة الكهف (18): الآيات 21 إلى 25]

وَتَحْسَبُهُمْ خطاب لكل أحد أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم مفتحة وَهُمْ رُقُودٌ أي نيام وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ قال ابن عباس: كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، قيل كانوا يقلبون في يوم عاشوراء وقيل كانوا لهم في السنة تقلبتان وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قال ابن عباس: كان كلبا أغر وعنه أنه كان فوق القلطي ودون الكرزي. والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل كان شديد الصفرة يضرب إلى حمرة، وقال ابن عباس: كان اسمه قطمير وقيل ريان وقيل صهبان قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام بِالْوَصِيدِ أي فناء الكهف، وقيل عتبة الباب وكان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم، قيل كان ينقلب مع أصحابه فإذا انقلبوا ذات اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها، وإذا انقلبوا ذات الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ يا محمد لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا من وحشة المكان. وقيل لأن أعينهم مفتحة كالمتيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام وقيل لكثرة شعورهم، وطول أظفارهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار وقيل إن الله سبحانه وتعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد. قال ابن عباس: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف الله عن هؤلاء لنظرنا إليهم، فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك فقيل له لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا. فبعث معاوية ناسا فقال اذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقهم. قوله سبحانه وتعالى وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ يعني كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان بعثناهم من النومة التي تشبه الموت لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو رئيسهم وكبيرهم مكسلمينا كَمْ لَبِثْتُمْ أي في نومكم وذلك، أنهم استنكروا طول نومهم وقيل إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك قالُوا لَبِثْنا يَوْماً ثم نظروا فوجدوا الشمس قد بقي منها بقية فقالوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وقيل إن مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ يعني تمليخا بِوَرِقِكُمْ هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قيل هي ترسوس وكان اسمها في الزمن الأول قبل الإسلام أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل طعاما وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن، ولا تكون من ذبح من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقيل أطيب طعاما وأجود وقيل أكثر طعاما وأرخصه فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي قوت وطعام تأكلونه وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان وَلا يُشْعِرَنَّ أي ولا يعلمن بِكُمْ أَحَداً أي من الناس إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يعلموا بمكانكم يَرْجُمُوكُمْ قيل معناه يشتموكم ويؤذوكم بالقول وقيل يقتلوكم، وكان من عادتهم القتل بالحجارة وهو أخبث القتل وقيل يعذبوكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي الكفر وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن عدتم إليه. قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 21 الى 25] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)

وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك فيها أنها آتية إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ. قال ابن عباس: في البنيان فقال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني بنيانا لأنهم على ملتنا وقيل كان تنازعهم في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال قوم تبعث الأرواح فأراهم الله آية وأن البعث للأرواح والأجساد وقيل تنازعوا في مدة لبثهم وقيل في عددهم فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ يعني بيدروس وأصحابه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران كانوا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف عندهم فقال السيد وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي وقال العاقب وكان نسطوريا خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ وقال المسلمون سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على لسان جبريل صلّى الله عليه وسلّم بعد ما حكى قول النصارى أولا، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى رجما بالغيب أي ظنا وحدسا من غير يقين ولم يقل ذلك في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن هو قول النصارى وأن يكون قول المسلمين مخالفا لقول النصارى في كونه رجما بالغيب وظنا، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ هذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أو من أخبره الله سبحانه وتعالى بذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة وهم مكسلمينا «1» وتمليخا ومرطونس وبينونس وسارينوس ودنوانس وكشفيططنونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير فَلا تُمارِ فِيهِمْ. أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي إلا بظاهر ما قصصنا عليك فقف عنده ولا تزد عليه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أي في أصحاب الكهف مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب أَحَداً أي لا ترجع إلى قول أحد منهم بعد أن أخبرناك قصتهم. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني إذا عزمت على فعل شيء غدا فقل إن شاء الله ولا تقله بغير استثناء، وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال أخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية وقد تقدمت القصة في سورة بني إسرائيل وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع، وإن كان بعد سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان، فإن بعد لم يصح ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام متصلا بالاستثناء وقيل في معنى الآية واذكر ربك إذا غضبت قال وهب مكتوب في التوراة والإنجيل ابن آدم «اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب»، وقيل الآية في الصلاة يدل عليه ما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من نسي صلاة فليصلها إذ ذكرها» قال تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي متفق عليه زاد مسلم أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، وقيل إن الله سبحانه وتعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يذكره أو يهديه لما هو خير له من أن يذكر ما نسي وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله سبحانه

_ (1). قوله مكسلمينا وقع اختلاف كبير في أسمائهم وذكر في القاموس في ذلك ثلاثة أقوال فليراجع.

[سورة الكهف (18): الآيات 26 إلى 29]

وتعالى أن يخبرهم أن الله سبحانه وتعالى سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث آتاه من علم غيب المرسلين وقصصهم مما هو أوضح وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل هذا شيء أمره الله أن يقوله مع قوله إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان قوله إن شاء الله فتوبته من ذلك أن يقول مع قوله إن شاء الله عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا. قوله عز وجل وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قيل هذا خبر عن قول أهل الكتاب ولو كان خبرا من الله عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله أعلم بما لبثوا وجه ولكن الله رد قولهم بقوله: [سورة الكهف (18): الآيات 26 الى 29] قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا والأصح أنه إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ويكون معنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا، يعني إن نازعوك في مدة لبثهم في الكهف فقل أنت الله أعلم بما لبثوا أي هو أعلم منكم وقد أخبر بمدة لبثهم وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثمائة وتسع سنين فرد الله عليهم بذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله. فإن قلت لم قال سنين ولم يقل سنة، قلت قيل لما نزل قوله سبحانه وتعالى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا أياما أو شهورا أو سنين فنزلت سنين على وفق قولهم وقيل هو تفسير لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وازدادوا تسعا وقيل قالت نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت قل الله أعلم بما لبثوا. وقيل إن عند أهل الكتاب لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية والتفاوت بين القمرية والشمسية في كل مائة سنة ثلاث سنين فتكون الثلاثمائة الشمسية ثلاث مائة وتسع سنين قمرية لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها فإنه العالم وحده به فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ معناه ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع لا يغيب عن سمعه وبصره شيء يدرك البواطن كما يدرك الظواهر والقريب والبعيد والمحجوب وغيره لا تخفى عليه خافية ما لَهُمْ أي ما لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ أي من دون الله مِنْ وَلِيٍّ أي ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً قيل معناه لا يشرك الله في علم غيبه أحدا وقيل في قضائه. قوله تعالى وَاتْلُ أي واقرأ يا محمد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ يعني القرآن واتبع ما فيه واعمل به لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا مغير للقرآن ولا يقدر أحد على التطرق إليه بتغيير أو تبديل. فإن قلت موجب هذا أن لا يتطرق النسخ إليه. قلت النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا. وقيل معناه لا مغير لما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إن لم تتبع القرآن مُلْتَحَداً أي ملجأ وحرزا تعدل إليه. قوله عز وجل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من

[سورة الكهف (18): الآيات 30 إلى 33]

الفقراء ومنهم سلمان وعليه صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك أي احبس يا محمد نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يعني طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون وجه الله لا يريدون عرض الدنيا، وقيل نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يرجعون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» وَلا تَعْدُ أي لا تصرف ولا تجاوز عَيْناكَ عَنْهُمْ إلى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف وَاتَّبَعَ هَواهُ أي في طلب الشهوات وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ضياعا ضيع أمره وعطل أيامه، وقيل ندما وقيل سرفا وباطلا وقيل مخالفا للحق وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلي من ذلك شيء فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله «اعملوا ما شئتم» وقيل معنى الآية وقل الحق من ربكم أي لست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم نارا وإن آمنتم فلكم ما وصف الله لأهل طاعته، وعن ابن عباس في معنى الآية: من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا من العتاد وهو العدة لِلظَّالِمِينَ أي الكافرين ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها السرادق الحجزة التي تطيف بالفساطيط عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «قال سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة» أخرجه الترمذي قال ابن عباس: هو حائط نار وقيل هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة وقيل هو دخان يحيط بالكفار وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي من شدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال ابن عباس: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله سبحانه وتعالى بماء كالمهل قال: «كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه منه» أخرجه الترمذي. وقال رشدين أحد رواة الحديث قد تكلم بفيه من قبل حفظة الفروة جلدة الوجه وقيل المهل الدم والقيح وقيل هو الرصاص والصفر المذاب يَشْوِي الْوُجُوهَ أي ينضج الوجوه من حره بِئْسَ الشَّرابُ أي ذلك الذي يغاثون به وَساءَتْ أي النار مُرْتَفَقاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: منزلا وقيل مجتمعا وأصل المرتفق المتكأ وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا متكأ. قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 33] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي لا نترك أعمالهم الصالحة وقيل إن قوله إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا كلام معترض وتقديره إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي دار إقامة سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وذلك لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل يحلى كل إنسان منهم ثلاثة أساور سوار

[سورة الكهف (18): الآيات 34 إلى 44]

من ذهب لهذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى «وحلوا أساور من فضة» وسوار من لؤلؤ لقوله «ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير» وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ هو الديباج الرقيق وَإِسْتَبْرَقٍ هو الديباج الصفيق الغليظ وقيل السندس المنسوج بالذهب مُتَّكِئِينَ خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولما وصف الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء قال نِعْمَ الثَّوابُ أي نعم الجزاء وَحَسُنَتْ أي الجنات مُرْتَفَقاً أي مقرا ومجلسا، والمراد بقوله وحسنت مرتفقا مقابلة ما تقدم ذكره من قوله سبحانه وتعالى وساءت مرتفقا. قوله عز وجل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ قيل نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم وهما أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل وكان مؤمنا وأخوه الأسود بن عبد الأسود وكان كافرا وقيل هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه وسلمان وأصحابه وشبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه قطروس وهما اللذان وصفهما الله سبحانه وتعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما ذكره عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف وإني قد اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا اللهم إني أشتري منك خدما ومتاعا بألف دينار في الجنة فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في خدمه وحشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه فقال فلان، قال نعم قال ما شأنك قال أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال فما فعلت بمالك وقد قاسمتك مالا وأخذت شطره، فنص عليه قصته فقال وإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده، فقضي لهما فتوفيا فنزل فيهما قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أمواله فنزل فيهما «واضرب لهم مثلا رجلين» جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ أي وجعلنا بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما أي أطفناهما من جوانبهما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أي بين النخل والأعناب الزرع وقيل بينهما أي بين الجنتين، يعني لم يكن بين الجنتين خراب بغير زرع كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أي أعطت كل واحدة من الجنتين أُكُلَها أي ثمرها تماما وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي ولم تنقص منه شيئا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما شققنا وسطهما نَهَراً. [سورة الكهف (18): الآيات 34 الى 44] وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)

[سورة الكهف (18): الآيات 45 إلى 48]

وَكانَ لَهُ أي لصاحب البستان ثَمَرٌ قرئ بالفتح جمع ثمرة وقرئ بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما فَقالَ يعني صاحب البستان لِصاحِبِهِ يعني المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يخاطبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي عشيرة ورهطا وقيل خدما وحشما وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يعني الكافر آخذا بيد أخيه المؤمن يطوف به فيها ويريه إياها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بكفره فتوهم أنها لا تفنى أبدا وأنكر البعث فقال وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي فإن قلت كيف قال ولئن رددت إلى ربي وهو منكر للبعث قلت معناه ولئن رددت إلى ربي على ما نزعم من أن الساعة آتية لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي يعطيني هناك خيرا منها لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك من تراب لأن خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقا له ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي عداك بشرا سويا وكملك إنسانا ذكرا بالغ مبلغ الرجال لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي مجازه لكن أنا هو الله ربي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا أي هلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها ما شاء الله اعترافا بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله تعالى وفضله وأن أمرها بيده وأنه إن شاء تركها عامرة وإن شاء تركها خرابا لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي وقلت لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها بمعونة الله وتأييده ولا أقدر على حفظ مالي ودفع شيء عنه إلا بالله. روي عن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء لا قوة إلا بالله الحائط البستان إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً أي لأجل ذلك تكبرت علي وتعظمت فَعَسى رَبِّي أي فلعل ربي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ يعني في الآخرة وَيُرْسِلَ عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً قال ابن عباس: نارا، وقيل مرامي مِنَ السَّماءِ وهي الصواعق فتهلكها فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها وقيل تزلق فيها الأقدام وقيل رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا ذاهبا لا تناله الأيدي ولا الدلاء فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً يعني إن طلبته لم تجده وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ يعني أحاط العذاب بثمر جنته وذلك أن الله تعالى أرسل عليها من السماء نارا فأهلكها وغار ماؤها فَأَصْبَحَ يعني صاحبها الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ يصفق بكف على كف ويقلب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها المعنى فأصبح يندم على ما أنفق في عمارتها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة سقوفها وقيل إن كرومها المعرشة سقطت عروشها في الأرض وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يمنعونه من عذاب الله وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا لا يقدر على الانتصار لنفسه وقيل معناه لا يقدر على رد ما ذهب منه. قوله سبحانه وتعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ قرئ بكسر الواو يعني السلطان في القيامة لِلَّهِ الْحَقِّ وقرئ بفتحها من الموالاة والنصرة، يعني أنهم يتولونه يومئذ ويتبرؤون مما كانوا يعبدون من دونه في الدنيا هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب وَخَيْرٌ عُقْباً يعني عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير إثابة وعاقبة قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 45 الى 48] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)

[سورة الكهف (18): الآيات 49 إلى 51]

وَاضْرِبْ لَهُمْ أي اضرب يا محمد لقومك مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ يعني المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي خرج منه كل لون وزهرة فَأَصْبَحَ أي عن قريب هَشِيماً قال ابن عباس: يابسا تَذْرُوهُ الرِّياحُ قال ابن عباس: تذريه تفرقه وتنسفه وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي قادرا قوله سبحانه وتعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ يعني التي يفتخر بها عيينة وأصحابه الأغنياء زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني ليست من زاد الآخرة، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة وقد يجمعهما لأقوام وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قال ابن عباس: هي قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس». عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «استكثروا من قول الباقيات الصالحات. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله». عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتفعوا. قلت: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قلت: وما الرتع؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب عن سعيد بن المسيب أن الباقيات الصالحات هي قول العبد الله أكبر وسبحان الله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله أخرجه مالك في الموطأ موقوفا عليه وعن ابن عباس أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس وعنه أنها الأعمال الصالحة خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وَخَيْرٌ أَمَلًا أي ما يؤمله الإنسان. قوله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نذهب بها وذلك أن تجعل هباء منثورا كما يسير السحاب وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي ظاهرة ليس عليها شجر ولا جبل ولا بناء وقيل هو بروز ما في بطنها من الموتى وغيرهم فيصير باطن الأرض ظاهرها وَحَشَرْناهُمْ يعني جميعا إلى موقف الحساب فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك منهم أحدا عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا أي صفا صفا وفوجا فوجا لأنهم صف واحد وقيل قياما كل أمة وزمرة صف ثم يقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني أحياء وقيل حفاة عراة غرلالْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً يعني القيامة يقول ذلك لمنكر البعث (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم قال: فيقال لي إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. زاد في رواية فأقول سحقا سحقا» قوله غرلا أي قلفا والغرلة القلفة التي تقع من جلد الذكر وهو موضع الختان، وقوله سحقا أي بعدا، قال بعض العلماء: إن المراد بهؤلاء أصحاب الردة الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة بعده (ق) عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلا». قالت عائشة: فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال: «الأمر أشد من أن يهمهم ذلك». زاد النسائي في رواية «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه». قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 49 الى 51] وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)

وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني صحائف أعمال العباد توضع في أيدي الناس في أيمانهم وشمائلهم، وقيل توضع بين يدي الله تعالى فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ أي خائفين مِمَّا فِيهِ يعني من الأعمال السيئة وَيَقُولُونَ يعني إذا رأوها يا وَيْلَتَنا أي يا هلاكنا وكل من وقع في هلكة دعا بالويل مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً أي من ذنوبنا الصغيرة إِلَّا أَحْصاها أي عدها وكتبها وأثبتها فيه وحفظها، قال ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم واللمس والقبلة والكبيرة الزنا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا في بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فانضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات» الحقير الشيء الصغير التافه وقوله لموبقات أي مهلكات. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي مكتوبا أي مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا ولا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» أخرجه الترمذي. وقال لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قُلْنا أي واذكر يا محمد إذ قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ قال ابن عباس: كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم وقال الحسن: كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله سبحانه وتعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا، وذلك أن قريشا قالت الملائكة بنات الله، فهذا يدل على أن الملك يسمى جنا ويعضده اللغة لأن الجن مأخوذ من الاجتنان، وهو الستر فعلى هذا تدخل الملائكة فيه فكل الملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة، ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه وتعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل ويصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة ووجه من قال إنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة قوله كان من الجن والجن جنس مخالف للملائكة قوله أفتتخذونه وذريته فأثبت له ذرية والملائكة لا ذرية لهم، وأجيب عن الاستثناء أنه استثناء منقطع وهو مشهور في كلام العرب قال الله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وقال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً قيل إنه كان من الملائكة فلما خالف الأمر مسخ وغير وطرد ولعن. وقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعة ربه أَفَتَتَّخِذُونَهُ يعني يا بني آدم أفتتخذون إبليس وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ يعني أعداء روى مجاهد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل رجل فقال أخبرني هل لإبليس زوجة قلت إن ذلك العرس ما شهدته ثم ذكرت قول الله عز وجل أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم، قيل يتوالدون كما يتوالد ابن آدم. وقيل إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. قال مجاهد: من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف ومره وبه يكنى، وزلنبور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع وبتر وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجيزة المرأة، ومطموس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحسن موضعه وإذا أكل ولم يسم أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه

[سورة الكهف (18): الآيات 52 إلى 60]

وخاصمتهم ثم أذكر فأقول داسم داسم أعوذ بالله منه، روى أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» أخرجه الترمذي. (م) عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت» قال الأعمش أراه قال فيلتزمه. وقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا يعني بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم وطاعته. قوله سبحانه وتعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرتهم يعني إبليس وذريته وقيل الكفار وقيل الملائكة خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ والمعنى ما أشهدتهم خلقها فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ يعني الشياطين الذين يضلون الناس عَضُداً يعني أنصارا وأعوانا. قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 52 الى 60] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا يعني يقول الله تعالى يوم القيامة نادوا شُرَكائِيَ يعني الأصنام الَّذِينَ زَعَمْتُمْ يعني أنهم شركائي فَدَعَوْهُمْ أي فاستغاثوا بهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يجيبوهم ولم ينصروهم وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يعني بين الأصنام وعبدتها وقيل بين أهل الهدى وبين أهل الضلال مَوْبِقاً يعني مهلكا قال ابن عباس: هو واد في النار وقيل نهر تسيل منه نار وعلى حافتيه حيات مثل البغال الدهم وقيل كل حاجز بين شيئين فهو موبق وأصله الهلاك وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ أي المشركون النَّارَ فَظَنُّوا أي أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي داخلوها وواقعون فيها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا لأنها أحاطت بهم من كل جانب وقيل لأن الملائكة تسوقهم إليها. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي ليتذكروا ويتعظوا وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي خصومة في الباطل قال ابن عباس: أراد النضر بن الحارث وجداله في القرآن وقيل أراد به أبي بن خلف وقيل أراد به جميع الكفار وقيل الآية على العموم وهو الأصح (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصليان». فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله تعالى فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئا ثم سمعته

يقول وهو مول يضرب فخذه بيده «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» قوله عز وجل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى يعني القرآن وأحكام الإسلام والبيان من الله تعالى وقيل إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ والمعنى أنه لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان والاستغفار إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يعني سنتنا بإهلاك الأولين إن لم يؤمنوا وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قال ابن عباس: أي عيانا من المقابلة وقيل فجأة. قوله سبحانه وتعالى وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي بالثواب على الطاعة وَمُنْذِرِينَ بالعقاب لمن عصى وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ هو قولهم «أبعث الله بشرا رسولا» وقولهم للرسل «ما أنتم إلا بشر مثلنا» وشبه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليبطلوا بِهِ الْحَقَّ ويزيلوه وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً فيه إضمار يعني اتخذوا ما أنذروا به وهو القرآن استهزاء. قوله عز وجل وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ أي وعظ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها أي تولى عنها وتركها ولم يؤمن بها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي ما عمل من المعاصي من قبل إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ يريد لئلا يفهموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا وصما وَإِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد إِلَى الْهُدى أي الدين فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا يؤمنون وَرَبُّكَ الْغَفُورُ أي البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ أي الموصوف بالرحمة لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي يعاقب الكفار بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ أي في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يعني البعث والحساب لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي ملجأ وَتِلْكَ الْقُرى قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أي كفروا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي أجلا لإهلاكهم. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ الآيات أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران من سبط لاوي بن يعقوب صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة. وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا من أولاد يوسف بن يعقوب وكان قد تنبأ قبل موسى بن عمران. والقول الأول أصح بدليل أن الله سبحانه وتعالى في كتابه لم يذكر العزيز موسى إلا أراد به صاحب التوراة فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ولو أراد شخصا آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران صاحب التوراة وأما فتاه فالأصح أنه يوشع ابن نون بن أفرا ثم ابن يوسف وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته، وقيل إنه أخو يوشع وقيل فتاة يعني بده بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقل أحدكم عبده وأمتي وليقل فتاي وفتاتي». (ق) عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس أن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسأل أي الناس أعلم فقال أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به قال: فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما، فاضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به. فقال له فتاه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قال فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا فقال موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال رجعا فقصا آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب أبيض فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام فقال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني ما علمت رشدا، قال: إنك لن تستطيع

[سورة الكهف (18): الآيات 61 إلى 62]

معي صبرا، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله لا أعلمه فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها «لقد جئت شيئا إمرا قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا: قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كانت الأولى من موسى نسيانا قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى: «أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» قال وهذه أشد من الأولى قال «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من ولدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض» أي مائلا فقال الخضر بيده هكذا فأقامه فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا «لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يرحم الله موسى، لوددت أنه صبر يقص علينا من أخبارهما» قال سعيد بن جبير فكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين. وفي رواية عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام موسى عليه السلام ذكر الناس يوما حتى إذا ما فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله تعالى. فقال بلى قال أي رب وأين هو قال بمجمع البحرين قال خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح. وفي رواية تزود حوتا مالحا فإنه حيث يفقد الحوت زاد في رواية وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ورجعنا إلى التفسير. قوله سبحانه وتعالى لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قيل أراد بحر فارس والروم ما يلي المشرق وقيل طنجة وقيل إفريقية أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً يعني أو أسير دهرا طويلا. والحقب ثمانون سنة فحمل خبزا وسمكة مالحة في المكتل وهو الزنبيل الذي يسع خمسة عشر صاعا ومضيا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين وعندها عين تسمى عين الحياة لا تصيب شيئا إلا حيي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وهاجت ودخلت في البحر. [سورة الكهف (18): الآيات 61 الى 62] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) فَلَمَّا بَلَغا يعني موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي بين البحرين نَسِيا أي تركا حُوتَهُما. وإنما كان الحوت مع يوشع بن نون، وهو الذي نسيه وإنما أضاف النسيان إليهما تزواده لسفرهما وقيل المراد من قوله نسيا حوتهما أي نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول للمطلوب. فَاتَّخَذَ أي الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي مسلكا. وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لم يلتئم فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر». قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى صار صخرة، وقد روينا أنهما لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله

[سورة الكهف (18): الآيات 63 إلى 71]

عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره فانطلقا حتى إذا كان من الضد وهو قوله سبحانه وتعالى فَلَمَّا جاوَزا يعني ذلك الموضع وهو مجمع البحرين قالَ يعني موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي طعامنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا وشدة وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع في طلبه. [سورة الكهف (18): الآيات 63 الى 71] قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ يعني يوشع أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ وهي صخرة كانت بالموضع الموعود فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي تركته وفقدته، وذلك أن يوشع حين رأى من الحوت ذلك قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره، فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد ثم قال وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان، قيل المراد من النسيان شغل قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي فعله دون النسيان الذي يضاد الفكر لأن ذلك لا يصح إلا من قبل الله تعالى وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قيل هذا من قول يوشع بن نون يعني وقع الحوت في البحر فاتخذ سبيله فيه مسلكا. وروي في الخبر كان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا وقيل أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه دهرا ثم صار حيا بعد ما أكل بعضه. قوله عز وجل قالَ يعني موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ نطلب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا يقصان الذي جاءا منه ويتبعانه فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا قيل كان ملكا من الملائكة والصحيح الذي ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء في التواريخ أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل كان من بني إسرائيل وقيل كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا والخضر لقب له، سمي به لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت. (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء»، الفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة وقيل سمي خضرا لأنه كان إذا صلّى اخضر ما حوله. وروينا أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام قال: أنا موسى أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. ومعنى مسجى بثوب أي مغطى بثوب وقوله وأنى بأرضك السلام معناه من أين بأرضك التي أنت فيها الآن السلام. وروي أنه لقيه على طنفسة خضراء على جانب البحر فذلك قوله سبحانه وتعالى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً أي نعمة مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علم الباطن إلهاما ولم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم. فإن قلت ظاهر الآيات يدل على أن الخضر كان أعلى شأنا من موسى وكان موسى يظهر التواضع له والتأدب معه. قلت لا يخلو إما أن يكون الخضر من بني إسرائيل أو من غيرهم فإن كان من بني إسرائيل فهو من أمة موسى، ولا جائز أن يكون أحد الأمة أفضل من نبيها أو أعلى شأنا منه، وإن كان من غير بني إسرائيل فقد قال الله تعالى لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانكم قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ معناه جئت لأصحبك وأتبعك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي صوابا وقيل علما ترشدني به. وفي بعض

[سورة الكهف (18): الآيات 72 إلى 77]

الأخبار قال الخضر لموسى: كفى بالتوراة علما وبني إسرائيل شغلا، فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فحينئذ قالَ الخضر لموسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى أمورا منكرة ولا يجوز للأنبياء الصبر مع المنكرات ثم بين عذره في ترك الصبر فقال وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي علما قالَ موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً إنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي أخالفك فيما تأمرني به قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أي فإن صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه شرط عليه ثم شرطا فقال فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أي مما أعمله مما تنكره ولا تعترض عليه حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً معناه حتى أبتدئ بذكره فأبين لك شأنه. قوله سبحانه وتعالى فَانْطَلَقا أي يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة هؤلاء لصوص، وأمروهما بالخروج فقال صاحب السفينة ما هم بلصوص ولكن أرى وجوه الأنبياء. وروينا عن أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، أي بغير عوض ولا عطاء، فلما لججوا في البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة فذلك» قوله تعالى حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ يعني موسى له أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي أتيت شيئا عظيما منكرا. روي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق. [سورة الكهف (18): الآيات 72 الى 77] قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ العالم وهو الخضر أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ يعني موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ. قال ابن عباس: لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئا آخر. وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك وقال أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا» وَلا تُرْهِقْنِي أي لا تغشني مِنْ أَمْرِي عُسْراً والمعنى لا تعسر علي متابعتك وسيرها بالاغضاء وترك المناقشة وقيل لا تكلفني مشقة ولا تضيق علي أمري. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان، يلعبون فأخذ الخضر غلاما ظريفا وضيء الوجه كان وجهه يتوقد حسنا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه. وروى عبد الرزاق هذا الخبر وفيه أشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه. وروي أنه رضخ رأسه بحجر وقيل ضرب رأسه بالجدار فقتله. قال ابن عباس: كان غلاما لم يبلغ الحنث ولم يكن نبي الله موسى يقول أقتلت نفسا زاكية، إلا وهو صبي لم يبلغ الحنث، وقيل كان رجلا وقيل كان اسمه حيسور وقيل كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه. وقيل كان غلاما يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه. (ق) عن أبي بن كعب قال: قال رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا» لفظ مسلم قالَ يعني موسى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي لم تذنب قط وقرئ زكية وهي التي أذنبت ثم تابت بِغَيْرِ نَفْسٍ أي لم تقتل نفسا حتى يجب عليها القتل لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا عظيما، وقيل النكر أعظم من الأمر لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة خوف الهلاك، وقيل الأمر أعظم لأن فيه تغريق جمع كثير، وقيل معناه لقد جئت شيئا أنكر من الأول لأن ذاك كان خرقا

[سورة الكهف (18): الآيات 78 إلى 82]

يمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه قالَ يعني الخضر أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قيل زاد في هذه الآية قوله لك لأنه نقض العهد مرتين، وقيل إن هذه اللفظة توكيد للتوبيخ فعند هذا قالَ موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قيل إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه، قال موسى إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني، أي فارقني لا تصاحبني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قال ابن عباس: أي قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقيل معناه اتضح لك العذر في مفارقتي والمعنى أنه مدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرتين أولا وثانيا مع قرب المدة (ق) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رحمة الله علينا وعلى موسى وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فلو صبر لرأى العجب» قوله ذمامة هو بذال معجمة أي حياء وإشفاق من الذم واللوم، يقال ذممته ذمامة يعني لمته ملامة ويشهد له قول الخضر هذا فراق بيني وبينك. قوله سبحانه وتعالى فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس: يعني أنطاكية وقيل الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء وقيل هي بلدة بالأندلس اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما قال أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجلس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما». وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم فلم يضيفوهما. وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم. وعن قتادة قال: شر القرى التي لا تضيف الضيف فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يسقط وهذا من مجاز الكلام لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها، فاستعير لها النظر كما أستعير للجدار الإرادة. فَأَقامَهُ أي سواه، وفي حديث أبي بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال الخضر بيده هكذا فأقامه وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه. قالَ يعني موسى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على إصلاح الجدار جعلا والمعنى أنك قد علمت أنا جياع، وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو اتخذت على عملك أجرا. [سورة الكهف (18): الآيات 78 الى 82] قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) قالَ يعني الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل إن هذا الإنكار على ترك أخذ الأجر هو المفرق بيننا سَأُنَبِّئُكَ أي سوف أخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً وقيل إن موسى أخذ بثوب الخضر وقال أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال الخضر أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ قيل كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر، أي يؤجرونها ويكتسبون بها، وفيه دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئا لا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملكه بكفايته، وإن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين، لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وقيل خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي كل سفينة صالحة فخرقتها وعبتها حتى لا يأخذها

الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي والأزدي وكان كافرا وقيل اسمه هدد بن بدد، روي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال أردت إذا هي تمر به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها وانتفعوا بها. قوله عز وجل وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أي خفنا والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه، وقيل معناه فعلمنا أَنْ يُرْهِقَهُما أي يغشيهما وقيل يكلفهما طُغْياناً وَكُفْراً قيل معناه فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه على دينه فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما الإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وتقوى، وقيل هو في مقابلة قوله تعالى «أقتلت نفسا زاكية» فقال الخضر أردنا أن يرزقهما الله خيرا منه زكاة وَأَقْرَبَ رُحْماً أي ويكون المبدل منه أقرب عطفا ورحمة لأبويه، بأن يبرهما ويشفق عليهما قيل أبدلهما جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه أمة من الأمم وقيل ولدت سبعين نبيا، وقيل أبدلهما بغلام مسلم وقيل إن الغلام الذي قتل فرح به أبواه حين ولد وحزن عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله سبحانه وتعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. قوله سبحانه وتعالى وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قيل كان اسمهما أصرم وصريم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كان الكنز ذهبا وفضة» أخرجه الترمذي. وقيل كان الكنز صحفا فيها علم. وقال ابن عباس: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالقدر كيف يغضب، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه. وقيل الكنز إذا أطلق يراد به المال ومع التقييد يراد به غيره، يقال عند فلان كنز علم وكان هذا اللوح جامعا لهما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل إن اسمه كاشح وكان من الأتقياء، قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، وقيل كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله سبحانه وتعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم وقال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي يدركا ويعقلا قوتهما، وهو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة. فإن قلت كيف قال في الأولى فأردت وفي الثانية فأردنا وفي الثالثة فأراد ربك وما وجه كل واحدة في هذه الألفاظ. قلت إنه لما ذكر العيب أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع الله تعالى، فقال فأردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنه من العلماء العظماء في علم الباطن وعلوم الحكمة، وأنه لم يقدم على مثل هذا القتل إلا بحكمة عالية، ولما ذكر رعاية المصالح في مال اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله سبحانه وتعالى لأن حفظ الأبناء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله سبحانه وتعالى، فلأجل ذلك أضافه إلى الله تعالى وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما يعني إذا بلغا وعقلا وقويا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي نعمة من ربك وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه إياي لأن تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أصولهم، لا يكون إلا بالنص وأمر الله تعالى. واستدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري على أنه الخضر كان نبيا لأن هذا يدل على الوحي وذلك للأنبياء، والصحيح أنه ولي لله وليس بنبي. وأجيب عن قوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري إنه إلهام من الله سبحانه وتعالى له بذلك، وهذه درجة الأولياء. وقيل معناه إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنها بأسرها ترجع إلى معنى واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي لم تطق أن تصبر عليه. روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن

[سورة الكهف (18): الآيات 83 إلى 91]

يفارق الخضر قال: أوصني قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلب العلم لتعمل به. واختلف العلماء في أن الخضر حي أم ميت فقيل إنه حي وهو قول الأكثرين من العلماء وهو متفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة والحكايات في رؤيته والاجتماع به، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة. هذا آخر كلامه، وقيل إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان السبب في حياة الخضر فيما حكي أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذو القرنين دخل الظلمة لطلب عين الحياة، وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فاغتسل وشرب منها وصلى شكرا لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، فرجع وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله سبحانه وتعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما صلى العشاء ليلة «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده». [سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 91] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) وقوله عز وجل وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قيل اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح وقيل اسمه الإسكندر بن فيلفوس كذا صح الرومي، وكان ولد عجوز ليس لها ولد غيره ونقل الإمام فخر الدين في تفسيره عن أبي الريحان السروري المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أنه من حمير واسمه أبو كرب سمي ابن عير بن أبي أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول: قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم مرشد فرآى مآب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأطة حرمد قوله فرأى مآب الشمس، أي ذهاب الشمس وقوله في عين ذي خلب أي حمأة، والثأطة الحمأة أيضا والجمع ثأط والحرمد الطين الأسود. وقيل سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقيل لأنه ملك فارس والروم وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس وقيل لأنه كان له ذؤابتان حسنتان، وقيل كان له قرنان تواريهما العمامة، وروي عن علي أنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله. واختلفوا في نبوته فقيل كان نبيا ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى قلنا يا ذا القرنين وخطاب الله لا يكون إلا مع الأنبياء وقيل لم يكن نبيا. قال أبو الطفيل: سئل علي عن ذي القرنين أكان نبيا فقال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله وناصح الله، فناصحه الله. وروي أن عمر سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال تسميتم بأسماء الأنبياء، فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة والأصح الذي عليه الأكثرون أنه كان ملكا صالحا عادلا وأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب وهذا هو القدر المعمور من الأرض، وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن دان له طوائف ثم مضى إلى ملوك العرب وقهرهم، ومضى حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم رجع إلى مصر وبنى الإسكندرية، وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بيت المقدس وقرب فيه

[سورة الكهف (18): الآيات 92 إلى 94]

القربان، ثم انعطف إلى أرمينية وبوب الأبواب وبنى السد ودانت له ملوك العراق والنبط والبربر. واستولى على ممالك الفرس ثم مضى إلى الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ثم رجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها وحمل إلى حيث هو مدفون وقيل إن عمره كان ألفا وثلاثين سنة ومثل هذا الملك البسيط الذي هو على خلاف العادات وجب أن يبقى ذكره مخلدا على وجه الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي خبرا يتضمن حاله. قوله سبحانه وتعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي وطأنا له والتمكين تمهيد الأسباب، قال علي سخر الله له السحاب فحمل عليه ومد له في الأسباب، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طريقها. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ما يحتاج إليه الخلق وكل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء سَبَباً أي علما يتسبب به إلى كل ما يريده ويسير به في أقطار الأرض وقيل بلاغا إلى حيث أراد، وقيل قربنا له أقطار الأرض فَأَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حماة وهي الطينة السوداء، وقرئ حامية أي حارة، وسأل معاوية كعبا: كيف تجد في التوراة تغرب الشمس وأين تغرب؟ قال: نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين. وقيل يجوز أن يكون معنى في عين حمئة أي عندها عين حمئة، أو في رأي العين، وذلك أنه بلغ موضعا من المغرب لم يبق بعده شيء من العمران فوجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة. كما أن راكب البحر يرى أن الشمس كأنها تغيب في البحر وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أي عند العين أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب يقال إنها الجاسوس واسمها بالسريانية حريحسا سكنها قوم من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح لولا ضجيج أهلها، لسمع الناس وجبة الشمس حين تجب أي تغيب قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ يستدل بهذا من يزعم أنه كان نبيا فإن الله خاطبه ومن قال إنه لم يكن نبيا قال المراد منه الإلهام وقيل يحتمل أن يكون الخطاب على لسان غيره إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ يعني تقتل من لم يدخل في الإسلام. وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يعني تعفو وتصفح وقيل تأسرهم فتعلمهم الهدى، خيره الله سبحانه وتعالى بين الأمرين قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي كفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي نقتله ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أي في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي منكرا يعني بالنار لأنها أنكر من القتل وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى أي جزاء أعماله الصالحة وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا ومنازل حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً قيل إنهم كانوا في مكان ليس بينهم وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر عليهم بناء، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم تحت الأرض، فإذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقيل إنهم كانوا إذا طلعت الشمس نزلوا في الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، وقيل هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقيل إنهم قوم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم جابلق واسمها بالسريانية مرقيسيا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج. قوله سبحانه وتعالى كَذلِكَ أي كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، وقيل معناه أنه حكم في القوم الذين هم عند مطلع الشمس كما حكم في القوم الذين عند مغربها وهو الأصح. وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي علما بما عنده ومن معه من الجند والعدة وآلات الحرب، وقيل معناه وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية بذلك الملك والاستقلال به والقيام بأمره. قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 92 الى 94] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هما هنا جبلان في ناحية الشمال في منقطع أرض الترك حكي أن الواثق بعث بعض من يثق به من أتباعه إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً أي أمام السدين قيل هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قال ابن عباس: لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فإن قلت كيف أثبت لهم القول وهم لا يفهمون. قلت تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم، وقيل معناه لا يكادون يفقهون قولا إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم الخرس إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم، وهم من أولاد يافث بن نوح والترك منهم قيل إن طائفة منهم خرجت تغير فضرب ذو القرنين السد فبقوا خارجه فسموا الترك لذلك لأنهم تركوا خارجين. قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس «هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء» وروى حذيفة مرفوعا «أن يأجوج ومأجوج أمة، وكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه قد حمل السلاح، وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا، وقال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية. وعن علي: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول. وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم «1» ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز. فلما بلغ كان عبدا صالحا قال الله سبحانه وتعالى إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس. يقال له ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال ذو القرنين بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم؟ فقال الله تعالى إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك، فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك. فانطلق حتى أتى مغرب الشمس، فوجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد، فدعاهم إلى الله تعالى وعبادته فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جندا عظيما وانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم، حتى أتى هاويل ففعل فيهم كفعله في ناسك ثم مضى حتى أتى منسك ففعل فيهم كفعله في الأمتين، وجند منهم جندا عظيما ثم أخذ ناحية اليسرى فأتى تأويل ففعل بهم كفعله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض. فلما كان فيما يلي منقطع الترك مما يلي المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض، وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا شك أنهم يتملكون الأرض ويظهرون عليها

_ (1). قوله. احتلم، هذا مردود فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الشيطان، والاحتلام من الشيطان اهـ من هامش.

[سورة الكهف (18): الآيات 95 إلى 98]

ويفسدون فيها فهل نجعل لك خرجا، على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ قال: «ما مكّنّي فيه ربي خير» وقال أعدو إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم. فانطلق حتى توسط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخالب وأضراس كالسباع، ولهم هدب شعر يواري أجسادهم، ويتقون به من الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى، يصيف في واحدة ويشتي في واحدة، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا فلما عاين ذو القرنين ذلك انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما وحفر له الأساس حتى بلغ الماء فذلك قوله تعالى قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه وأدخلوه أرضهم، فلقوا منهم أذى شديدا وقيل فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل معناه أنهم سيفسدون عند خروجهم فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا وأجرا من الأموال عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي حاجزا فلا يصلون إلينا. [سورة الكهف (18): الآيات 95 الى 98] قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) قالَ لهم ذو القرنين ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما قواني به ربي خير من جعلكم فَأَعِينُونِي يعني لا أريد منكم المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي سدا قالوا وما تلك القوة؟ قال فعلة وصناع يحسنون البناء والآلة. قالوا وما تلك الآلة؟ قال: آتُونِي أي أعطوني وقيل جيئوني «1» زُبَرَ الْحَدِيدِ أي قطع الحديد فأتوه بها، وبالحطب فجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين طرفي الجبلين قالَ انْفُخُوا يعني في النار حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي صار نارا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ أي أصيب عليه قِطْراً أي نحاسا مذابا فجعلت النار تأكل الحطب وجعل النحاس يسيل مكانه حتى لزم الحديد النحاس قيل إن السد كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، وقيل إن عرضه خمسون ذراعا وارتفاعه مائة ذراع وطوله فرسخ، واعلم أن هذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها، والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها. فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلو عليه لعلوه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي من أسفله لشدته وصلابته قالَ يعني ذو القرنين هذا أي السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي نعمة من ربي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي قيل يعني القيامة وقيل وقت خروجهم جَعَلَهُ دَكَّاءَ أي أرضا ملساء وقيل مدكوكا مستويا مع الأرض وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده تسعين» قوله وعقد بيده تسعين هو من موضوعات الحساب، وهو أن تجعل رأس إصبعك السبابة في وسط الإبهام من باطنها شبه الحلقة، لكن لا يتبين لها إلا خلل يسير وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا قال فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا، إن شاء الله تعالى، واستثنى قال فيرجعون فيجدونه

_ (1). قوله وقيل جيئوني ظاهر أنه تفسير لآتوني مقطوع الهمزة ولا يصح إنما يصح إذا كان تفسيرا لآتوني موصولها فليتأمل اهـ.

[سورة الكهف (18): الآيات 99 إلى 105]

على هيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه وتفر منهم الناس» وفي رواية «تتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهام إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء فيزدادون قسوة وعتوا، فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيهلكون، فو الذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا» أخرج الترمذي. وقوله قسوة وعتوا أي غلظة وفظاظة وتكبرا، والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم وقوله وتشكر يقال شكرت الشاة تشكر شكرا، إذا امتلأ ضرعها لبنا، والمعنى أنها تمتلي أجسامها لحما وتسمن. (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج». قوله عز وجل: [سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 105] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قيل هذا عند فتح السد، يقول تركنا يأجوج ومأجوج يموج أي يدخل بعضهم في بعض كموج الماء، ويختلط بعضهم في بعض لكثرتهم، وقيل هذا عند قيام الساعة يدخل الخلق بعضهم في بعض لكثرتهم ويختلط إنسهم بجنهم حيارى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فيه دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي في صعيد واحد وَعَرَضْنا أي أبرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ليشاهدوها عيانا الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ أي غشاء وستر عَنْ ذِكْرِي أي عن الإيمان والقرآن والهدى والبيان وقيل عن رؤية الدلائل وتبصرها وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي سمع قبول للإيمان والقرآن لغلبة الشقاء عليهم، وقيل معناه لا يستطيعون أن يسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لشدة عداوتهم له. قوله تعالى أَفَحَسِبَ أي أفظن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ يعني أربابا يريد عيسى والملائكة، بل هم لهم أعداء يتبرؤون منهم. وقال ابن عباس: يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله، والمعنى أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء وإني لا أغضب لنفسي فلا أعاقبهم وقيل معناه أفظنوا أنه ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي منزلا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مثواهم وقيل معدة لهم عندنا كالنزل للضيف. قوله تعالى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا فنالوا هلاكا وبوارا، قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وقيل هم الرهبان الذي حبسوا أنفسهم في الصوامع، وقال علي بن أبي طالب: هم أهل حوراء يعني الخوارج الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي بطل عملهم واجتهادهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أي يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي عملا ثم وصفهم فقال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ يعني أنهم جحدوا دلائل توحيده وقدرته، وكفروا بالبعث والثواب والعقاب، وذلك لأنهم كفروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن فصاروا كافرين بهذه الأشياء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. قيل لا تقيم لهم ميزانا، لأن الميزان إنما توضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميزوا مقدار الطاعات ومقدار السيئات. قال أبو سعيد الخدري «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم من العظم كجبال

[سورة الكهف (18): الآيات 106 إلى 110]

تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا شيئا فذلك قوله تعالى «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا حظ ولا قدر ولا وزن (ق) عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا». [سورة الكهف (18): الآيات 106 الى 110] ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من حبوط أعمالهم وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال تعالى جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً يعني سخرية واستهزاء. قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة». قال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقيل: الفردوس هو البستان الذي فيه الأعناب. وقيل: هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروبا من النبات. وقيل: الفردوس البستان بالرومية. وقيل: بلسان الحبش منقولا إلى العربية نزولا هو ما يهيأ للنازل على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمها نزلا. وقيل في معنى كانت لهم أي في علم الله تعالى قبل أن يخلقوا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ أي لا يطلبون عَنْها حِوَلًا أي تحولا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. قوله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» ثم تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل لما نزل «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» قالت اليهود أوتينا علم التوراة وفيها علم كل شيء. فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ما يستمده الكاتب ويكتب به، وأصله من الزيادة قال مجاهد: لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب قيل والخلائق يكتبون لَنَفِدَ الْبَحْرُ أي لنفد ماؤه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي علمه وحكمه وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً والمعنى ولو كان الخلائق يكتبون والبحر يمدهم لفني ماء البحر ولم تفن كلمات ربي، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مددا وزيادة. قوله تعالى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قال ابن عباس: علم الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر فيقول آنا آدمي مثلكم إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به وهو قوله تعالى يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له في ملكه فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يخاف المصير إليه وقيل يؤمل رؤية ربه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء الله تعالى والمصير إليه فليستعمل نفسه في العمل الصالح وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي لا يرائي بعمله ولما كان العمل الصالح قد يراد به وجه الله سبحانه وتعالى وقد يراد به الرياء والسمعة اعتبر فيه قيدان، أحدهما: يراد به سبحانه وتعالى والثاني: أن يكون مبرأ من جهات الشرك جميعها (ق)

عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به» قوله من سمع سمع الله به أي من عمل عملا مراءاة للناس يشتهر بذلك شهرة الله يوم القيامة، وقيل سمع الله به أي أسمعه المكروه (م) عن أبي هريرة قال «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ولغير مسلم فأنا منه بريء هو والذي عمله». عن سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه منه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؟ قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء». (م) عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» وفي رواية من آخرها والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة مريم

سورة مريم مكية وهي ثمان وتسعون آية وثمانون وسبعمائة كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة حرف بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة مريم (19): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) كهيعص قال ابن عباس رضي الله عنهما هو اسم من أسماء الله تعالى، وقيل اسم للقرآن، وقيل للسورة وقيل هو قسم أقسم الله تعالى به. وعن ابن عباس قال الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، وقيل معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده. ذِكْرُ أي هذا الذي نتلو عليك ذكر رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا قيل معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته إِذْ نادى أي دعا رَبَّهُ في المحراب نِداءً خَفِيًّا أي دعاء سرا من قيامه في جوف الليل، وقيل راعى سنة الله في إخفاء دعائه لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيان، ولكن الإخفاء أولى، وقيل خفت صوته لضعفه وهرمه يدل عليه قوله تعالى قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ أي رق وضعف الْعَظْمُ مِنِّي أي من الكبر وقيل اشتكى سقوط الأضراس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ أي ابيض الشعر شَيْباً أي شمطا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبني، وقيل معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي أي من بعد موتي والموالي هم بنو العم وقيل العصبة وقيل الكلالة وقيل جميع الورثة وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي أعطني من عندك ولدا مرضيا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أي وليا ذا رشاد، وقيل أراد به يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم، وقيل أراد به الحبورة، لأن زكريا كان رأس الأحبار، والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأن الأنبياء لم يورثوا المال وإنما يورثون العلم، ويبعد عن زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يشفق على ماله أن يرثه بنو عمه، وإنما خاف أن يضيع بنو عمه

[سورة مريم (19): الآيات 11 إلى 22]

دين الله ويغيروا أحكامه، وذلك لما أن شاهد من بني إسرائيل تبديل الدين وقتل الأنبياء. فسأل ربه ولدا صالحا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع وهذا قول ابن عباس وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي برا تقيا مرضيا. قوله تعالى يا زَكَرِيَّا المعنى فاستجاب الله له دعائه فقال يا زكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ أي بولد ذكر اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي لم يسم أحد قبله يحيى وقيل معناه لم نجعل له شبها ومثلا، وذلك لأنه لم يعص الله ولم يهم بمعصية قط وقال ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدا، قيل لم يرد الله تعالى بذلك اجتماع الفضائل كلها ليحيى، وإنما أراد بعضها لأن الخليل والكليم كانا قبله وهما أفضل منه قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي أي من أين يكون لي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي وامرأتي عاقر وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي يأسا يريد بذلك نحول الجسم ودقة العظم ونحول الجلد قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي يسير وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل يحيى وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي دلالة على حمل امرأتي قالَ آيَتُكَ أي علامتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي صحيحا سليما من غير بأس ولا خرس، وقيل ثلاث ليال متتابعات والأول أصح قيل إنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله انطلق لسانه. قوله عز وجل: [سورة مريم (19): الآيات 11 الى 22] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من الموضع الذي كان يصلي فيه وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه حتى يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون، إذ خرج إليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروا ذلك عليه، وقالوا له ما لك فَأَوْحى أي فأومأ وأشار إِلَيْهِمْ وقيل كتب لهم في الأرض أَنْ سَبِّحُوا أي صلوا لله بُكْرَةً وَعَشِيًّا المعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة. قوله عز وجل يا يَحْيى فيه إضمار ومعناه وهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ قال ابن عباس: يعني النبوة صَبِيًّا وهو ابن ثلاث سنين وذلك أن الله تعالى أحكم عقله وأوحى إليه، فإن قلت كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا. قلت لأن أصل النبوة مبني على خرق العادات، إذا ثبت هذا فلا تمنع صيرورة الصبي نبيا، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو من أوتي الحكم صبيا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمة من عندنا قال الحطيئة يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا أي ترحم علي وَزَكاةً قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقيل هي العمل الصالح، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملا صالحا في إخلاصه وَكانَ تَقِيًّا أي

مسلما مخلصا مطيعا، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي بارا لطيفا بهما محسنا إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الآية وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد عَصِيًّا قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا معناه وأمان له من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حيا من عذاب يوم القيامة، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجا من مكان قد كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوما ما شاهدهم قط، ويوم يبعث لأنه يرى مشهدا عظيما فأكرم الله تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ أي تنحت واعتزلت مِنْ أَهْلِها أي من قومها مَكاناً شَرْقِيًّا أي مكانا في الدار ما يلي المشرق، وكان ذلك اليوم شاتيا شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارى المشرق قبلة فَاتَّخَذَتْ أي فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً قال ابن عباس أي سترا وقيل جلست وراء جدار، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك. قوله تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئا، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به والقول الأول أصح، فلما رأت مريم جبريل عليه السلام يقصد نحوها بادرته من بعيد قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي مؤمنا مطيعا لله تعالى، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها. فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقيا. قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمنا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم، كذلك ها هنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور قالَ لها جبريل عليه السلام إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من الله تعالى لأنه أرسل به لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قال ابن عباس ولدا صالحا طاهرا من الذنوب قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي أي من أين يكون لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي ولم يقربني زوج وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن ها هنا واحد منهما قالَ جبريل كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ أي هكذا قال ربك هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي خلق ولدك بلا أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا وَرَحْمَةً مِنَّا أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي محكوما مفروغا من لا يرد ولا يبدل. قوله عز وجل فَحَمَلَتْهُ قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع، وقيل مد جيب درعها بإصبعه ثم نفخ في الجيب، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها، وقيل في فيها، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا من أهلها. قال ابن عباس: أقصى الوادي، وهو بيت لحم فرارا من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.

[سورة مريم (19): الآيات 23 إلى 28]

قال ابن عباس: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر الحوامل من النساء، وقيل كانت مدة حملها ثمانية أشهر، وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدة وعاش، وقيل ولد لستة أشهر وهي بنت عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل ست عشرة سنة وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى، وقال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي يمنة جبل صهيون، وكانا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم من أهل زمانها أحد أشد عبادة واجتهادا منها وأول من علم بحمل مريم يوسف، فبقي متحيرا في أمرها كلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها وصلاحها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر منها من الحمل فأول ما تكلم به أن قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن أتكلم به أشفي صدري، فقالت: قل قولا جميلا، قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل ينبت شجر بغير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تر أن الله أنبت الشجرة بالقدرة من غير غيث أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها قال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على كل شيء يقول له كن فيكون، قالت له مريم: ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى. فعند ذلك زال ما عنده من التهمة وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل. فلما دنت ولادتها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك فذلك قوله تعالى فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا قوله عز وجل: [سورة مريم (19): الآيات 23 الى 28] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي ألجأها وجاء بها والمخاض وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وكانت نخلة يبست في الصحراء في شدة البرد ولم يكن لها سعف، وقيل التجأت إليها تستند إليها وتستمسك بها من شدة الطلق، ووجع الولادة قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا تمنت الموت استحياء من الناس وخوفا من الفضيحة وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا يعني شيئا حقيرا متروكا لم يذكر، ولم يعرف لحقارته وقيل جيفة ملقاة، وقيل معناه أنها تمنت أنها لم تخلق فَناداها مِنْ تَحْتِها قيل إن مريم كانت على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها، وقيل ناداها من سفح الجبل وقيل هو عيسى وذلك أنه لما خرج من بطن أمه ناداها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي نهرا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضرب جبريل عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام برجله في الأرض فظهرت عين ماء عذبة، وجرت وقيل كان هناك نهر يابس فجرى فيه الماء بقدرة الله سبحانه وتعالى وجنت النخلة اليابسة، فأورقت وأثمرت وأرطبت وقيل معنى تحتك تحت أمرك إن أمرته أن يجري جرى، وإن أمرته بالإمساك أمسك وقيل معنى سريا أي عيسى وكان عبدا سريا رفيعا وَهُزِّي إِلَيْكِ أي حركي إليك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا قيل الجنى الذي بلغ الغاية وجاء أوان اجتنائه. قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل فَكُلِي وَاشْرَبِي أي مريم كلي من الرطب واشربي من النهر وَقَرِّي عَيْناً

[سورة مريم (19): الآيات 29 إلى 37]

أي طيبي نفسا، وقيل قري عينا بولدك عيسى، يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينيك عن النظر إلى غيره فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً معناه يسألك عن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا، قيل كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسي، وقيل إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة وقيل أمرها أن تقول هذا القول نطقا ثم تمسك عن الكلام بعده وإنما منعت من الكلام لأمرين أحدهما: أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها وفيه دلالة على أن تفويض الكلام إلى الأفضل أولى. الثاني: كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا يقال إنها كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس. قوله تعالى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قيل إنها لما ولدت عيسى عليه السلام حملته في الحال إلى قومها وقيل إن يوسف النجار احتمل مريم وابنها عيسى إلى غار فمكث فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي عظيما منكرا وقيل معناه جئت بأمر عجيب بديع يا أُخْتَ هارُونَ أي شبيهة هارون قيل كان رجلا صالحا في بني إسرائيل شبهت به في عفتها وصلاحها وليس المراد الأخوة في النسب، قيل إنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس (م) عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت خراسان سألوني فقالوا إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم». وقيل كان هارون أخا مريم لأبيها، وقيل كان من أمثل رجل في بني إسرائيل وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وقيل كان هارون في بني إسرائيل فاسقا أعظم الفسق فشبهوها به ما كانَ أَبُوكِ يعني عمران امْرَأَ سَوْءٍ قال ابن عباس: زانيا وَما كانَتْ أُمُّكِ يعني حنة بَغِيًّا أي زانية فمن أين لك هذا الولد. [سورة مريم (19): الآيات 29 الى 37] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أشارت مريم إلى عيسى أن كلمهم، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل لما أشارت إليه غضب القوم وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قيل أراد بالمهد الحجر وهو حجرها، وقيل هو المهد بعينه قيل لما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم، وقيل لما أشارت إليه ترك الرضاع واتكأ على يساره وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قال وهب: أتاها زكرياء عند مناظرتها اليهود، فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوما، وقيل: بل يوم ولد إني عبد الله أقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم لئلا يتخذ إلها. فإن قلت إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت نفي التهمة عن أمه وأن عيسى لم

[سورة مريم (19): الآيات 38 إلى 46]

ينص على ذلك، وإنما نص على إثبات عبوديته لله تعالى. قلت كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن أمه، فلهذا أول ما تكلم باعترافه على نفسه بالعبودية لتحصل إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في زنا، والتكلم بإزالة التهمة عن أمه لا يفيد إزالة التهمة عن الله سبحانه وتعالى فكان الاشتغال بذلك أو آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا قيل معناه سيجعلني نبيا ويؤتيني الكتاب وهو الإنجيل وهذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم متى كنت نبيا قال: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» وقال الأكثرون إنه أوتي الإنجيل، وهو صغير وكان يعقل عقل الرجال الكمل وعن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ معناه أني نفاع أينما توجهت، وقيل معلما للخير أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وقيل مباركا على من يتبعني وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما وكلفني فعلهما. فإن قلت كيف يؤمر بالصلاة والزكاة، في حال طفوليته وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ» الحديث ... قلت إن قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل المراد أوصاه بأدائهما في الوقت المعين لهما وهو البلوغ، وقيل إن الله تعالى صيره حين انفصل عن أمه بالغا عاقلا وهذا القول أظهر في سياق قوله ما دُمْتُ حَيًّا فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه إليه في زمان جميع حياته حين كان في الأرض، وحين رفع إلى السماء وحين ينزل الأرض بعد رفعه وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي جعلني برا بوالدتي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي عاصيا لربي متكبرا على الحق بل، وأنا خاضع متواضع وروي أنه قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي، قال بعض العلماء لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا هذه الآية، وقيل الشقي الذي يذنب ولا يتوب. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ أي السلامة عند الولادة من طعن الشيطان وَيَوْمَ أَمُوتُ أي عند الموت من الشرك وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي من أهوال يوم القيامة فلما كلمهم عيسى بذلك علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الأطفال ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي ذلك الذي قال إني عبد الله هو عيسى بن مريم قَوْلَ الْحَقِّ أي هذا الكلام هو القول الحق أضاف القول إلى الحق، وقيل هو نعت لعيسى يعني بذلك عيسى بن مريم كلمة الله الحق والحق هو الله الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكون ويختلفون فقائل يقول هو ابن الله وقائل يقول ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي ما كان من صفاته اتخاذ الولد ولا ينبغي له ذلك سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد أن يحدث أمرا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي لا يتعذر عليه اتخاذه على الوجه الذي أراده وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك يعني لأن الله ربي وربكم لا رب للمخلوقات سواه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أخبرتكم به أن الله أمرني به هو الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ يعني النصارى سموا أحزابا لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة حين. [سورة مريم (19): الآيات 38 الى 46] أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا، وقيل معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع ويصدع قلوبهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي يوم القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل أراد باليوم الدنيا، يعني أنهم في الدنيا في خطأ بين وفي الآخرة يعرفون الحق، وقيل: معناه لكن الظالمون في الآخرة في ضلال عن طريق الجنة بخلاف المؤمنين. قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يعني خوف يا محمد كفار مكة يوم الحسرة، سمي بذلك لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان، يدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا ما ندمه يا رسول الله قال: إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع» أخرجه الترمذي. قوله أن لا يكون نزع النزع عن الشيء: الكف عنه، وقال أكثر المفسرين يعني بيوم الحسرة حين يذبح الموت. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي مناد آخر يا أهل النار فيشرفون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ثم قرأ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده إلى الدنيا وزاد الترمذي فيه «فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار» قوله كهيئة كبش أملح الأملح: المختلط بالبياض والسواد، قوله فيشرفون يقال أشرف إلى الشيء إذا تطلع ينظر إليه ومالت نحوه نفسه. قوله فيذبح بين الجنة والنار اعلم أن الموت عرض ليس بجسم في صورة كبش أو غيره فعلى هذا يتأول الحديث، على أن الله تعالى يخلق هذا الجسم وهو حيوان فيذبح فيموت فلا يبقى يرجى له حياة ولا وجود، وكذلك حال أهل الجنة والنار بعد الاستقرار فيهما لا زوال لهما ولا انتقال (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم». عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة أحد إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ولا يدخل النار أحد إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة» أخرجه البخاري. وقوله تعالى إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي عما يراد بهم في الآخرة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أي نميت سكان الأرض جميعا ويبقى الله سبحانه وتعالى وحده فيرثهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فنجزيهم بأعمالهم. قوله عز وجل ويبقى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أي كثير الصدق وهو مبالغة في كونه صديقا، وقيل الصدّيق الكثير التصديق قيل من صدق الله في وحدانيته وصدق أنبياءه ورسله وصدق بالبعث بعد الموت وقام بالأوامر فعمل بها فهو صديق، ولما قربت رتبة الصديق من رتبة النبي انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيا، والنبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه وأي رتبة أعلى من رتبة من جعله الله تعالى واسطة بينه

[سورة مريم (19): الآيات 47 إلى 57]

وبين عباده إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يعني آزر وهو يعبد الأصنام يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ يعني صوتا وَلا يُبْصِرُ لا ينظر شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ أي يكفيك شَيْئاً وصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية، وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا يستحقها إلا من له ولاية الإنعام وله أوصاف الكمال وهو الله تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ يعني بالله والمعرفة ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أي على ديني أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي لا تطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي عاصيا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أي أعلم، وقيل هو على ظاهره لأنه يمكن أن يؤمن فيكون من أهل الجنة، أو يصر على الكفر فيكون من أهل النار فحمل الخوف على ظاهره أولى. واعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن مقرونا بالتلطف والرفق، فإن قوله في مقدمة كلامه يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صرفه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأصنام ثم أمره باتباعه في الإيمان، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي بقوله إني أخاف أَنْ يَمَسَّكَ أي يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ أي إن أقمت على الكفر فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا في النار، وقيل صديقا له في النار، وإنما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا مع أبيه لأمور أحدها: لشدة تعلق قلبه بصلاحية أبيه وأداء حق الأبوة والرفق به، وثانيها: أن النبيّ الهادي إلى الحق لا بد أن يكون رفيقا لطيفا حتى يقبل منه كلامه، وثالثها: النصح لكل أحد فالأب أولى قالَ يعني أباه مجيبا له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ أي أتاركها أنت وتارك عبادتها لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ أي ترجع وتسكت عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها لَأَرْجُمَنَّكَ قال ابن عباس: معناه لأضربنك، وقيل لأقتلنك بالحجارة، وقيل لأشتمنك، وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح والقول الأول هو الصحيح وَاهْجُرْنِي أي اجتنبني قال ابن عباس: اعتزلني سالما لا يصيبنك مني معرة مَلِيًّا أي دهرا طويلا. [سورة مريم (19): الآيات 47 الى 57] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) قالَ يعني إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه وذلك لأنه لم يؤمن بقتاله على كفره، وقيل هذا سلام هجران ومفارقة، وقيل هو سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، قيل إنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله فيه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له، وقيل معناه سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي برا لطيفا والمراد أنه يستجيب لي إذا دعوته لأنه عودني الإجابة لدعائي وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أفارقكم وأفارق ما تعبدون من دون الله وذلك أنه فارقهم وهاجر إلى الأرض المقدسة وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبد ربي الذي خلقني وأنعم علي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي أرجو أن لا أشقى بدعاء ربي وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام، ففيه التواضع له مع التعريض بشقاوتهم. قوله عز وجل فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ذهب مهاجرا وَهَبْنا لَهُ أي بعد الهجرة

إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد أكرم على الله من أبيه وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي أنعمنا عليهما بالنبوة وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أي مع ما وهبنا لهم من النبوة وهبنا لهم المال والولد وذلك أنه بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق وكثرة الأولاد وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا يعني ثناء حسنا رفيعا في أهل كل دين حتى دعا لهم أهل الأديان كلهم فهم يتولونهم ويثنون عليهم. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرئ بكسر اللام أي أخلص العبادة، والطاعة لله تعالى ولم يراء وقرئ بالفتح أي مختارا اختاره الله تعالى ثم استخلصه واصطفاه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا فهذان وصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي من ناحية يمين موسى، والطور جبل معروف بين مصر ومدين ويقال إن اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إني أنا رب العالمين وَقَرَّبْناهُ قال ابن عباس: قربه وكلمه ومعنى التقريب إسماعه كلامه وقيل رفعه على الحجب حتى سمع صرير الأقلام، وقيل معناه رفع قدره ومنزلته أي وشرفناه بالمناجاة وهو قوله تعالى نَجِيًّا أي مناجيا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وذلك أن موسى دعا ربه فقال واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي فأجاب الله دعوته، وأرسل إلى هارون ولذلك سماه هبة له وكان هارون أكبر من موسى. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ هو إسماعيل بن إبراهيم وهو جد النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ قيل إنه لم يعد شيئا إلا وفي به وقيل إنه وعد رجلا أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد، حتى رجع إليه الرجل وقيل إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد ميعادا إلى أي وقت ينتظر فقال إن وعده نهارا فكل النهار وإن وعده ليلا فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى وَكانَ رَسُولًا إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم إسماعيل بوادي مكة حين خلفهم إبراهيم، وجرهم هو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ وقحطان أبو قبائل اليمن نَبِيًّا أي مخبرا عن الله تعالى وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أي قومه وجميع أمته بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قال ابن عباس: يريد الصلاة المفروضة عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا، وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاة والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي قائما لله بطاعته وقيل رضيه لنبوته ورسالته وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو جد أبي نوح واسمه أخنوخ، سمي إدريس لكثرة دراسة الكتب وكان خياطا وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط وكانوا من قبل يلبسون الجلود وهو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وذلك أن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قيل هي الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا، وقيل إنه رفع إلى السماء. وهو الأصح يدل عليه ما روى أنس بن مالك بن صعصعة «عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج» متفق عليه وكان سبب رفع إدريس إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره: أنه سار يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوما فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال يا رب خلقتني لحر الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فأجبته قال يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس، فكان إدريس يسأله فكان ما سأله أن قال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي لعلي ازداد شكرا وعبادة فقال الملك لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها

[سورة مريم (19): الآيات 58 إلى 62]

وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا. قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتا وقال وهب: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي. فأوحى الله إليه أن اقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعدادا له. ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى. قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكا أن يرفع أبوابها فأراها. ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة، وقال ما أخرج منها فبعث الله إليه ملكا حكما بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن الله تعالى قال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وقد ذقته ثم قال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فأنا وردتها وقال وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت. فقال قوم هو ميت واستدل بالأول. وقال قوم هو حي واستدل بهذا. وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس. واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى. قوله عز وجل: [سورة مريم (19): الآيات 58 الى 62] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم الله عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعني إدريس ونوحا وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب وَإِسْرائِيلَ أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فرتب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد وَبُكِيًّا جمع باك، أخبر الله تعالى أن

(فصل)

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعا وخشوعا وخوفا وحذرا. والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن. (فصل) وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعوا بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك. وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك. وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. قوله تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد النبيين المذكورين خَلْفٌ أي قوم سواء أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وتابعهم وقيل هم في هذه الأمة أَضاعُوا الصَّلاةَ أي تركوا الصلاة المفروضة. وقيل أخروها عن وقتها وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تأتي المغرب وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أي آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله وقيل اتبعوا المعاصي وشرب الخمور، وقيل هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بضع في الأسواق والأزقة فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال ابن عباس: الغي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن له ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق، ولشاهد الزور وقيل هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه يسيل قيحا ودما، وقيل: واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر تسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتستعر بها جهنم وقيل معنى غيا خسرانا وقيل هلاكا وعذابا، وليس معنى يلقون يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً يعني إلا من تاب من التقصير في الصلوات والمعاصي وآمن من الكفر وعمل صالحا بطاعة الله تعالى فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون شيئا ثم وصف الجنة فقال تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي إنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم وهم غائبون عنها إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي آتيا وقيل معنى وعده موعود وهو الجنة مأتيا أي يأتيه أولياء الله وأهل طاعته لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي باطلا وفحشا وهو فضول الكلام إِلَّا سَلاماً يعني بل يسمعون فيها سلاما والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن معنى السلامة، وذلك أن أهل الجنة لا يسمعون فيها ما يؤلمهم، إنما يسمعون تسليمهم، وقيل هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم، وقيل هو تسليم الله عليهم وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال أهل التفسير: يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار كعادتهم في الدنيا، وقيل إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب، وقيل المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق ولا تقتير، وقيل: كانت العرب لا تعرف أفضل من الرزق الذي يؤتى به البكرة والعشي، فوصف الله تعالى الجنة بذلك. وقوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 63 الى 71] تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا أي نعطي وننزل وقيل يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي المتقين من عباده عز وجل وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا فنزلت وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا» الآية قال فكان هذا جواب جبريل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم «وقيل احتبس جبريل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين سأله اليهود عن أمر الروح وأصحاب الكهف، ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك، فقال له جبريل وإني كنت أشوق إليك، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا أحبست احتبست» فأنزل الله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك وأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وقوله لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا أي له علم ما بين أيدينا وما خلفنا، وقيل أكد ذلك بقوله ما بين أيدينا وما خلفنا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل، وقيل معناه له ما بين أيدينا من أمر الآخرة والثواب والعقاب وما خلفنا أي ما مضى من الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي من هذا الوقت إلى أن تقوم الساعة، وقيل ما بين ذلك أي ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة، وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما بقي منها وما بين ذلك أي مدة حياتنا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا أي ما نسيك ربك وما تركك رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي من يكون كذلك لا يجوز عليه النسيان لأنه لا بد أن يدبر أحوالها كلها، وفيه دليل على أن فعل العبد خلق لله لأنه حاصل بين السموات والأرض فكان لله تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي اصبر على أمره ونهيه هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قال ابن عباس: مثلا وقيل هل تعلم أحدا يسمى الله غير الله. قوله تعالى وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أي جنس الإنسان والمراد به الكفار الذين أنكروا البعث، وقيل هو أبي بن خلف الجمحي وكان منكرا للبعث أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا قاله استهزاء وتكذيبا للبعث قال الله تعالى أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أي يتذكر ويتفكر يعني منكر البعث أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والمعنى أولا يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة. قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أن الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أولا ثم أقسم بنفسه فقال تعالى فَوَ رَبِّكَ وفيه تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لنجمعنهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ أي مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا قال ابن عباس: جماعات وقيل جاثين على الركب لضيق المكان، وقيل إن البارك على ركبتيه صورته كصورة الذليل. فإن قلت هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً. قلت وصفوا بالجثو على العادة المعهودة في مواقف المقالات والمناقلات، وذلك لما فيه من القلق مما يدهمهم من شدة الأمور التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ أي لنخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي من كل أمة وأهل دين من الكفار أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا قال ابن عباس: يعني جرأة وقيل فجورا وتمردا، وقيل قائدهم رئيسهم في الشرك، والمعنى أنه يقدم في إدخال النار الأعتى ممن هو أكبر جرما وأشد كفرا. وفي بعض الأخبار أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين، ثم يقدم الأكفر فالأكفر فمن كان أشد منهم تمردا في كفره خص بعذاب أعظم وأشد لأن عذاب الضال المضل واجب أن يكون فوق عذاب الضال التابع لغيره في الضلال. وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل

[سورة مريم (19): آية 72]

العذاب فلذلك قال في جميعهم ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب وقيل معنى الآية أنهم أحق بدخول النار. قوله عز وجل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي وما منكم إلا واردها وقيل القسم فيه مضمر أي والله ما منكم من أحد إلا واردها والورود هو موافاة المكان، واختلفوا في معنى الورود ها هنا وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله واردها فقال ابن عباس والأكثرون: معنى الورود هنا الدخول، والكناية راجعة إلى النار، فيدخلها البر والفاجر ثم ينجي الله الذين اتقوا منها، يدل عليه ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول فقال نافع: ليس الورود الدخول فقرأ ابن عباس إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أدخلها هؤلاء أم لا ثم قال يا نافع والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله أن يخرجك منها بتكذيبك فمن قال بدخول المؤمنين النار يقول من غير خوف ولا ضرر ولا عذاب البتة بل مع الغبطة والسرور لأن الله تعالى أخبر عنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر. فإن قلت كيف يدفع عن المؤمنين حر النار وعذابها، قلت يحتمل أن الله تعالى يخمد النار فتعبرها المؤمنون، ويحتمل أن الله تعالى يجعل الأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار من النار محرقة والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين تكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت في حق إبراهيم عليه السلام، وكما أن الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها فإن قلت إذا لم يكن على المؤمنين عذاب فما فائدة دخولهم النار. قلت فيه وجوه، أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه، وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار، حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها، وثالثها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب الذي على الكفار صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وقال قوم ليس المراد من الورود الدخول، وقالوا لا يدخل النار مؤمن أبدا لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها فعلى هذا يكون المراد من الورود الحضور والرؤية، لا الدخول كما قال تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أراد به الحضور، وقال عكرمة الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها وروي عن ابن مسعود أنه قال وإن منكم إلا واردها، يعني القيامة والكناية راجعة إليها، والقول الأول أصح وعليه أهل السنة فإنهم جميعا يدخلون النار ثم يخرج الله منها أهل الإيمان بدليل قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك وهم المؤمنون والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه، يدل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يموت لأحد من المؤمنين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» وفي رواية «فيلج النار إلا تحلة القسم» أخرجاه في الصحيحين، أراد بالقسم قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (م) عن أم مبشر الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عند حفصة «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها قالت بلى يا رسول الله فانتهزها فقالت حفصة وإن منكم إلا واردها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قال الله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا. وقال خالد بن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة وفي الحديث «تقول النار للمؤمنين جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي». وروي عن مجاهد في قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال من حم من المسلمين فقد وردها» وفي الخبر «الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار» (ق) عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» قوله فيح جهنم وهجها وحرها. وقوله تعالى كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي كان ورود جهنم قضاء لازما قضاه الله تعالى عليكم وأوجبه. [سورة مريم (19): آية 72] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي جميعا، وقيل جاثين على الركب قالت المعتزلة في الآية دليل على صحة مذهبهم، في أن صاحب الكبيرة والفاسق يخلد في النار بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها، وهم المتقون والفاسق لا يكون متقيا فبقي في النار أبدا. وأجيب عنه بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك بقول لا إله إلا الله ويشهد لصحة ذلك أن من آمن بالله ورسوله، صح أن يقول إنه متق من الشرك ومن صدق عليه أنه متق من الشرك صح أنه متق، لأن المتقي جزء من المتقي من الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار بعموم قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا فصارت الآية التي توهموها دليلا لهم من أقوى الدلائل على فساد قولهم، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار (خ) عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان». (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا. يا رسول الله. قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا. يا رسول الله. قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة، فيقول الله من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم. قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من ينجدل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجوهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أعضاء السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فيقول هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق. فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها سكت ما شاء الله تعالى أن يسكت، ثم يقول يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت المواثيق والعهود أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت أن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره فيقول وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول يا رب أدخلني الجنة. فيقول الله تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول له تمن فيتمنى. حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تمن كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله لك ذلك ومثله معه». قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة «وعشرة أمثاله» قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قوله لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد رضي الله عنه: سمعته يقول «لك ذلك وعشرة أمثاله». وفي رواية للبخاري قال فيأتيهم الله في غير الصورة التي

[سورة مريم (19): الآيات 73 إلى 77]

يعرفونها فيقول أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا عرفناه. فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه». قلت أما ما يتعلق بمعاني الحديث والكلام على الرؤية فسيأتي في تفسير سورة ن والقيامة ونتكلم ها هنا على شرح غريب ألفاظه، قوله مثل شوك السعدان هو نبت ذو شوك معقف وهو من أجود مراعي الإبل. وقوله فمنهم من يوبق بعمله يقال أوبقته الذنوب أي أهلكته. والمنجدل المرمى المصورع وقيل هو المقطع. والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يقع في النار. قوله وقد امتحشوا أي احترقوا، وقيل هو أن تذهب النار الجلد وتبدي العظم. قوله كما تنبت الحبة في حميل السيل، الحبة بكسر الحاء وهي البذورات جميعا وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه، قوله قشبني ريحها أي آذاني والقشب السم فكأنه قال قد سمني ريحها. قوله وأحرقني ذكاؤها أي اشتعالها ولهبها قوله رأى زهرتها الزهرة الحسن والنضارة والبهجة. (ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى. فيقول الله تعالى له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي أضراسه وأنيابه، وقيل هي آخر الأسنان. عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة، قال فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة، قال فيرش عليهم أهل الجنة من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حمالة السيل» أخرجه الترمذي الحمم الفحم والحمالة كل ما جاء به السيل، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار ودلت الآية الثانية والأحاديث أن الله تعالى أخرج منها المتقين وجميع الموحدين وترك فيها الظالمين وهم المشركون. قوله تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 73 الى 77] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي دلائل واضحات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحارث ومن دونه من كفار قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني فقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون أفخر ثيابهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أي منزلا ومسكنا وهو موضع الإقامة وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا فأجابهم الله تعالى بقوله وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا وأموالا وقيل أحسن ثيابا ولباسا وَرِءْياً أي منظرا من الرؤية قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا هذا أمر بمعنى الخبر معناه يدعه في طغيانه ويمهله في كفره حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ أي الأسر والقتل في الدنيا وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني القيامة فيدخلون النار فَسَيَعْلَمُونَ أي عند ذلك مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا وَأَضْعَفُ جُنْداً أي أقل ناصرا والمعنى فسيعلمون أهم خير وهم

[سورة مريم (19): الآيات 78 إلى 91]

في النار أم المؤمنون وهم في الجنة وهذا رد عليهم في قولهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، قوله تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي إيمانا وإيقانا على يقينهم وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي عاقبة ومرجعا. قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا الآية، (ق) عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين فأتيته أتقاضاه، وفي رواية فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقلت لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث. قال وإني لميت ثم مبعوث. قلت بلى قال دعني حتى أموت وأبعث فسأوتي مالا وولدا فأقضيك. فنزلت أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا. [سورة مريم (19): الآيات 78 الى 91] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل يعني عمل عملا صالحا قدمه، وقيل عهد إليه أنه يدخله الجنة كَلَّا رد عليه يعني لم يفعل ذلك سَنَكْتُبُ سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه به في الآخرة، وقيل يأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيده عذابا فوق العذاب، وقيل نطيل مدة عذابه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ معناه أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه، وقيل يزول عنه ما عنده من مال وولد فيعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك بقي فردا فذلك قوله وَيَأْتِينا يعني يوم القيامة فَرْداً بلا مال ولا ولد فلا يصح أن يبعث في الآخرة بمال وولد. قوله تعالى وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني مشركي قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي منعة يعني يكونوا شفعاء يمنعوهم من العذاب كَلَّا أي ليس الأمر كما زعموا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ يعني تجحد الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها عبادة المشركين ويتبرؤون منهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي أعوانا عليهم يكذبونهم ويلعنونهم وقيل أعداء لهم وكانوا أولياءهم في الدنيا. قوله عز وجل أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي سلطناهم عليهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية والمعنى تحثهم وتحرضهم على المعاصي تحريضا شديدا وفي الآية دليل على أن الله تعالى مدبر لجميع الكائنات فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي لا تعجل بطلب عقوبتهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام، وقيل الأنفاس التي يتنفسونها في الدنيا إلى الأجل الذي أجل لعذابهم. قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجتمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى جنته وفدا أي جماعات. قال ابن عباس: ركبانا قال أبو هريرة: على الإبل. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي مشاة عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء ولا يرد أحد إلا بعد العطش وقيل يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء (ق) عن أبي هريرة

[سورة مريم (19): الآيات 92 إلى 98]

رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمضي معهم حيث أمسوا». قول تقيل معهم حيث قالوا من القيلولة وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم. قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي. قوله عز وجل لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني لا إله إلا الله وقيل لا يشفع الشافعون إلا للمؤمنين، وقيل لا يشفع إلا لمن قال لا إله إلا الله، أي لا يشفع إلا للمؤمنين وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله من العرب لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قال ابن عباس منكرا، وقيل معناه لقد قلتم قولا عظيما تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ من الانفطار وهو الشق وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي تخسف بهم وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أي تسقط وتنطبق عليهم أَنْ دَعَوْا أي من أجل أن جعلوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً فإن قلت ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ومن أين تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات. قلت فيه وجهان أحدهما: أن الله تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة. الثاني: أن يكون استعظاما للكلمة وتهويلا من فظاعتها وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده. قال ابن عباس فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولدا ثم نزه الله نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى: [سورة مريم (19): الآيات 92 الى 98] وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي ما يليق به اتخاذ الولد ولا يوصف به لأن الولد لا بد أن يكون شبيها بالوالد، ولا شبيه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله تعالى من سرور به واستعانة وذكر جميل بعده وكل ذلك لا يليق بالله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي آتية يوم القيامة عبدا ذليلا خاضعا، والمعنى أن الخلائق كلهم عبيده لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي عد أنفاسهم وأيامهم وآثارهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وكلهم تحت تدبيره وقهره وقدرته وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي وحيدا ليس معه من أحوال الدنيا شيء. قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي محبة قيل يحبهم الله تعالى ويحببهم إلى عباده المؤمنين (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدا دعا جبريل عليه السلام إن الله تعالى يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وفي رواية لمسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض الله

عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» قال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم. وقال: كعب مكتوب في التوراة لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن «سيجعل لهم الرحمن ودا». قوله تعالى فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن بِلِسانِكَ يا محمد لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين وَتُنْذِرَ بِهِ أي القرآن قَوْماً لُدًّا أي شدادا في الخصومة. وقيل صما عن الحق، وقيل الألد الظالم الذي لا يستقيم ولا يقبل الحق ويدعي الباطل وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ختم الله تعالى هذه السورة بموعظة بليغة لأنهم إذا علموا وأيقنوا أنه لا بد من زوال الدنيا بالموت خافوا ذلك وخافوا سوء العاقبة في الآية فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك فقال تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ أي هل ترى، تجد منهم أي من القرون مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيا قال الحسن: بادوا جميعا لم يبق منهم عين ولا أثر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة طه

سورة طه وهي مكية وهي مائة وأربعة، وقيل خمس وثلاثون آية وألف وستمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا. عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أعطيت السورة التي فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» النافلة: الزيادة وفقنا الله لفهم ذلك. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة طه (20): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) قوله عز وجل طه قيل هو قسم أقسم الله بطوله وهدايته، وقيل هو من أسماء الله فالطاء افتتاح اسمه طاهر والهاء افتتاح اسمه هاد. وقيل معناه يا رجل والمراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكذلك يا إنسان، وقيل هو بالسريانية، وقيل بالقبطية، فعلى هذا يكون قد وافقت لغة العرب هذه اللغات في هذه الكلمة، وقيل هو يا إنسان بلغة عك وعك قبيلة من قبائل العرب، وقيل معناه طا الأرض بقدميك يريد به في التهجد وذلك لما نزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه، وكان يصلي الليل كله فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. وقيل لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي لتتعنى وتتعب إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لكن أنزلنا عظة لمن يخشى وإنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم هم المنتفعون بها تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أي من الله الذي خلق الأرض والسموات العلية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمتها وعلوها إلا الله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى تقدم الكلام عليه في سورة الأعراف مستوفى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني الهواء وَما تَحْتَ الثَّرى أي إنه مالك لجميع ما في الأربعة الأقسام، والثرى هو التراب الندي وقيل معناه ما وراء الثرى من شيء. وقال ابن عباس: إن الأرضين على ظهور النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش، والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في قصة لقمان، والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت ذلك الثرى إلا الله تعالى، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست. قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 7 الى 14] وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي تعلن به فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قال ابن عباس: السر ما تسر في نفسك وأخفى من السر ما يلقيه الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك لا تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا والله يعلم ما أسررت به اليوم وما تسر به غدا، وعنه أن السر ما أسر به ابن آدم في نفسه وأخفى ما هو فاعله قبل أن يعلمه، وقيل السر ما أسره الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسره في نفسه، وقيل السر هو العمل الذي يسر من الناس وأخفى هو الوسوسة، وقيل السر أن يعلم الله تعالى أسرار العباد وأخفى هو سره من عباده فلا يعلم أحد سره، وقيل: مقصود الآية زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والإخفاء على ما فيه ثواب أو عقاب، فالسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والإخفاء هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ثم وحد نفسه فقال تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تأنيث الأحسن والذي فضلت به أسماؤه في الحسن دون سائر الأسماء، دلالتها على معنى التقديس والتحميد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن. قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وقد أتاك لما قدم ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفاه بقصة موسى عليه الصلاة والسلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود إِذْ رَأى ناراً وذلك أن موسى استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر ليزور والدته وأخاه فأذن له، فخرج بأهله وماله وكانت أيام الشتاء فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته حامل في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهارا، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، وذلك في ليلة مظلمة مثلجة شاتية شديدة البرد لما أراد الله من كرامته فأخذ امرأته الطلق فأخذ زنده فجعل يقدح فلا يورى فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت نارا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي شعلة من نار في طرف عود أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي أجد عند النار من يدلني على الطريق فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار ورأى شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها أطافت بها نارا بيضاء تتقد كأضوء ما يكون، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار، قيل كانت الشجرة ثمرة خضراء وقيل كانت من العوسج، وقيل كانت من العليق وقيل كانت شجرة من العناب، روي ذلك عن ابن عباس وقال أهل التفسير لم يكن الذي رآه موسى نارا بل كان نورا ذكر بلفظ النار لأن موسى عليه الصلاة والسلام حسبه نارا. قال ابن عباس: هو من نور الرب سبحانه وتعالى، وقيل هي النار بعينها وهي إحدى حجب الرب تبارك وتعالى، يدل عليه ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حجابه النار لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» أخرجه مسلم قيل إن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كلما دنا نأت عنه، وإذا نأى دنت منه، فوقف متحيرا وسمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة فعند ذلك نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ قال وهب: نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به، وقيل إنه سمعه بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا وقوله

[سورة طه (20): الآيات 15 إلى 23]

فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ كان السبب فيه ما روي عن ابن مسعود مرفوعا في قوله فاخلع نعليك قال كانتا من جلد حمار ميت. ويروى غير مدبوغ وإنما أمر بخلعها صيانة للوادي المقدس، وقيل أمر بخلعهما ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة لتناله بركتها فإنها قدست مرتين فخلعها موسى فألقاهما من وراء الوادي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً اسم للوادي الذي حصل فيه وقيل طوى واد مستدير عميق مثل المطوي في استدارته وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك برسالاتي وبكلامي فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى فيه نهاية الهيبة والجلال له فكأنه قال له لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ولا تعبد غيري وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي لتذكرني فيها وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي ولا ترائي فيها ولا تقصد بها غرضا آخر، وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها، (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» وتلا قتادة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وفي رواية: «إذا رقد أحدكم في الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. [سورة طه (20): الآيات 15 الى 23] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها قال أكثر المفسرين: معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق وكيف أظهرها لكم، ذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في الكتمان للشيء يقولون كتمت سرك في نفسي، أي أخفيته غاية الإخفاء، والله تعالى لا يخفى عليه شيء. والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان لأنه إذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب من ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت الموت، وأنه إذا لم يعرف وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت مخافة معاجلة الأجل. قوله تعالى لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي بما تعمل من خير وشر فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها أي فلا يصرفك عن الإيمان بالساعة ومجيئها من لا يؤمن بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي مراده وخالف أمر الله فَتَرْدى أي فتهلك. قوله عز وجل وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سؤال تقرير والحكمة فيه تنبيهه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة قالَ هِيَ عَصايَ قيل كان لها شعبتان وفي أسفلها سنان ولها محجن واسمها نبعة أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها إذا مشيت وإذا عييت وعند الوثبة وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي أضرب بها الشجرة اليابسة ليسقط ورقها فترعاه الغنم وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي حاجة ومنافع أخرى، وأراد بالمآرب ما كان يستعمل فيه العصا في السفر فكان يحمل بها الزاد ويشد بها الحبل ويستقي بها الماء من البئر ويقتل بها الحيات ويحارب بها السباع ويستظل بها إذا قعد، وروي عن ابن عباس أن موسى كان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه وتحدثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج له ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء وكان إذا اشتهى ثمرة ركزها فتصير غصن تلك الشجرة وتورق وتثمر، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كدلو حتى يستقي، وكانت تضيء بالليل كالسراج وإذا ظهر له

[سورة طه (20): الآيات 24 إلى 40]

عدو كانت تحارب وتناضل عنه قالَ الله تعالى أَلْقِها يا مُوسى أي انبذها واطرحها. قال وهب: ظن موسى أنه يقول ارفضها فَأَلْقاها أي فطرحها على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تَسْعى أي تمشي بسرعة على بطنها وقال في موضع آخر كأنها جان، وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى فالجان عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حية على قدر العصا، ثم كانت تتورم وتنتفخ حتى صارت ثعبانا وهو انتهاء حالها، وقيل إنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان، قال محمد بن إسحاق: نظر موسى فإذا العصا حية من أعظم ما يكون من الحيات، وصارت شعبتاها شدقين لها، والمحجن عنقا وعرفا يهتز كالنيازك، وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخفة من الإبل، فتلقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفا عظيما، فلما عاين ذلك موسى ولّى مدبرا وهرب، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أقبل وارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف قالَ خُذْها يعني بيمينك وَلا تَخَفْ قيل كان خوفه لما عرف ما لقي آدم من الحية، وقيل لما قال له ربه لا تخف بلغ من طمأنينة نفسه وذهاب الخوف عنه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى هيئتها فنردها عصا كما كانت، وقيل كان على موسى مدرعة صوف قد خللها بعود فلما قال الله تعالى خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله تعالى أن يكشف يده فكشفها. وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له ملك أرأيت لو أمر الله بما تحاذره أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟؟ قال: لا ولكني ضعيف من ضعف خلقت. قال فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ. قال المفسرون: أراد الله تعالى أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق ولئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون قوله تعالى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يعني إلى إبطك وقيل تحت عضدك تَخْرُجْ بَيْضاءَ يعني نيرة مشرقة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني من غير عيب والسوء ها هنا بمعنى البرص قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر آيَةً أُخْرى أي دلالة أخر على صدقك سوى العصا لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى قال ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته. قوله عز وجل: [سورة طه (20): الآيات 24 الى 40] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى يعني جاوز الحد في العصيان والتمرد وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى كان مبعوثا إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر متبوعا فكان ذكره الأولى قال وهب: قال الله تعالى لموسى اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي وإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبسك حلة من

سلطاني تستكمل بها القوة في أمري بعثتك بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لا يغتر بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ولا يتنفس إلا بعلمي قال فسكت موسى فجاء ملك وقال له أجب ربك قالَ. يعني موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي يعني وسعه للحق، قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك، وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفا شديدا لشدة شوكته وكثرة جنوده، فكان يضيق بما كلف من مقاومة فرعون وحده، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحدا لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى، وإذا علم ذلك لم يخف من فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي وذلك أن موسى كان في حجرة فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته، فقال فرعون لامرأته آسية إن هذا عدوي وأراد أن يقتله، فقالت له آسية إنه صبي لا يعقل، وقيل إن أم موسى لما فطمته ردته إلى فرعون فنشأ في حجره وحجر امرأته يربيانه واتخذاه ولدا، فبينما هو يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب إذ رفعه فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير منه حتى همّ بقتله، فقالت آسية: أيها الملك إنه صبي لا يعقل جربه إن شئت، فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فوضعهما بين يدي موسى، فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى فوضعها على الجمر فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت فيه عقدة يَفْقَهُوا قَوْلِي يعني احلل العقدة كي يفهموا قولي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي يعني معينا وظهيرا، والوزير من يوازرك ويحتمل عنك بعض ثقل عملك ثم بين من هو فقال هارُونَ أَخِي وكان هارون أكبر من موسى وأفصح لسانا وأجمل وأوسم وكان أبيض اللون وكان موسى آدم أقنى جعدا اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي يعني قو به ظهري وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي يعني في أمر النبوة وتبليغ الرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً يعني نصلي كثيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً يعني نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من جميل نعمك إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً يعني خبيرا عليما قالَ الله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي أعطيت جميع ما سألته وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى يعني قيل هذه المرة ثم بين تلك المنة بقوله تعالى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى يعني ما يلهم ثم فسر ذلك الإلهام وعدد نعمه عليه فقال أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ يعني ألهمناها أن اجعليه في التابوت فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعني نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يعني شاطئ البحر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني فرعون. فأخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وشقوقه ثم ألقته في النيل. وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون. فبينما فرعون جالس على البركة مع امرأته آسية، إذ هو بتابوت يجيء به الماء فأمر الغلمان والجواري بإخراجه، فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا بصبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك نفسه وعقله فذلك قوله تعالى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قال ابن عباس: أحبه وحببه إلى خلقه، قيل ما رآه أحد إلا أحبه لملاحة كانت في عيني موسى وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ونظر إليه إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ واسمها مريم متعرفة خبره فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي على امرأة ترضعه وتضمه إليها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا نعم. فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله تعالى فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي بلقائك ورؤيتك وَلا تَحْزَنَ أي وليذهب عنها الحزن وَقَتَلْتَ نَفْساً. قال ابن عباس: كان قتل قبطيا كافرا قيل كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي من غم القتل وكربه وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً قال ابن عباس: اختبرناك اختبارا وقيل ابتليناك ابتلاء، قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى، منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم

[سورة طه (20): الآيات 41 إلى 48]

إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم قتله، ثم ناوله الجمرة بدل الجوهرة، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفا فَلَبِثْتَ أي مكثت سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ هي بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر، هرب إليها موسى قال وهب: لبث موسى عند شعيب. ثمانيا وعشرين سنة عشر سنين منها يرعى الغنم مهر زوجته صفوراء ابنة شعيب وثمان عشرة سنة أقام عنده بعد ذلك حتى ولد له وخرج من مصر ابن اثنتي عشرة سنة هاربا ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي جئت على القدر الذي قدرت أن تجيء فيه. قيل على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى إلى الأنبياء فيه. [سورة طه (20): الآيات 41 الى 48] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك واصطفيتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي. وذلك أن قيامه بأداء الرسالة تصرف على إرادة الله ومحبته. وقيل معناه اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي أي بدلائلي. قال ابن عباس: يعني الآيات التسع الذي بعث بها موسى عليه السلام وَلا تَنِيا أي لا تضعفا وقيل لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي أي لا تقصرا في ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما ومن ذكر النعمة شكرها اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي دارياه وارفقا به. قال ابن عباس: لا تعنفا في قولكما، وقيل كنياه فقولا له يا أبا العباس وقيل يا أبا الوليد وقيل أراد بالقول اللين قوله هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقيل الآية إنما أمرهما باللطافة لماله من حق تربية موسى، وقيل عداه على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وتبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وإذا مات دخل الجنة فلما أتاه موسى ووعده بذلك أعجبه وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أن لك عقلا ورأيا، أنت رب تريد أن تكون مربوبا، وأنت تعبد تريد أن تعبد، فقال فرعون صواب ما قلت فغلبه على رأيه. وكان هارون بمصر فأمر الله موسى أن يأتي هارون وأوحى الله إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه. وقوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي يتعظ ويخاف ويسلم فإن قلت كيف قال لعله يتذكر وقد سبق في علمه أنه لا يتذكر ولا يسلم. قلت معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع وقضاء الله وراء أمركما، وقيل هو إلزام الحجة وقطع المعذرة كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، وقيل هو ينصرف إلى غير فرعون مجازه لعله يتذكر متذكرا ويخشى خاش إذا رأى بري وإلطافي بمن خلقته وأنعمت عليه ثم ادعى الربوبية، وقيل لعل من الله واجب ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية وذلك حين ألجمه الغرق وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ الرازي فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً الآية فبكى يحيى وقال إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله قالا يعني موسى وهارون رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا. قال ابن عباس: يعجل علينا بالقتل والعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يجاوز الحد في الإساءة إلينا قالَ الله تعالى لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست

[سورة طه (20): الآيات 49 إلى 61]

بغافل عنكما فلا تهتما فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي أرسلنا إليك ربك فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي خل عنهم وأطلقهم من أعمالك وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي لا تتعبهم في العمل، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء وقطع الصخور مع قتل الولدان وغير ذلك قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قال فرعون وما هي فأخرج موسى يده لها شعاع كشعاع الشمس، وقيل معناه قد جئناك بمعجزة وبرهان يدل على صدقنا على ما ادعيناه من الرسالة وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ليس المراد منه سلام التحية بل إنما معناه سلم من العذاب من أسلم إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه. [سورة طه (20): الآيات 49 الى 61] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) قالَ يعني فرعون فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي فمن إلهكما الذي أرسلكما قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، وقيل أعطى كل شيء صلاحه وهداه، وقيل أعطى كل شيء صورته فخلق اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح، وقيل يعني جعل زوجة الرجل المرأة والبعير الناقة والفرس الرمكة وهي الحجرة والحمار الأتان ثم هدى ألهمه كيف يأتي الذكر الأنثى قالَ يعني فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي فما حال القرون الماضية والأمم الخالية مثل قوم نوح وعاد وثمود فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث، وإنما قال فرعون ذلك لموسى حين خوفهم مصارع الأمم الخالية فحينئذ قال فرعون فما بال القرون الأولى قالَ يعني موسى عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها، وقيل إنما رد موسى علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لم يعلم ذلك لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وقومه فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ لا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يخطئ وقيل لا يغيب عنه شيء وَلا يَنْسى أي فيتذكر وقيل لا ينسى ما كان من أعمالهم حتى يجازيهم بها الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا وقيل مهدها لكم وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي أدخل في الأرض لأجلكم طرقا وسهلها لكم لتسلكوها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر ثم الأخبار عن موسى ثم قال الله تعالى فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أَزْواجاً أي أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي مختلف الألوان والطعوم والمنافع فمنها ما هو للناس ومنها ما هو للدواب كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ أي أخرجنا أصناف النبات للانتفاع بالأكل والرعي إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، قيل هم الذين ينتهون عما حرم الله عليهم مِنْها خَلَقْناكُمْ أي من الأرض خلقنا آدم، وقيل إن الملك ينطلق فيأخذ من التراب الذي يدفن فيه فيذره في النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة وَفِيها نُعِيدُكُمْ أي عند الموت والدفن وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي يوم القيامة للبعث والحساب. قوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ يعني فرعون آياتِنا كُلَّها يعني الآيات التسع التي أعطاها الله موسى فَكَذَّبَ

[سورة طه (20): الآيات 62 إلى 64]

وَأَبى يعني فرعون وزعم أنها سحر وأبى أن يسلم قالَ يعني فرعون أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا يعني مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى يريد أن تغلب على ديارنا فيكون لك الملك وتخرجنا منها فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي اضرب أجلا وميقاتا لا نُخْلِفُهُ لا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي مكانا عدلا وقال ابن عباس: نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه وقيل معناه سوى هذا المكان قالَ يعني موسى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قيل كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة وقيل هو يوم النيروز وقال ابن عباس يوم عاشوراء وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي وقت الضحوة نهارا جهارا ليكون أبعد من الريبة فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ يعني فرعون كَيْدَهُ يعني مكره وسحره وحيله ثُمَّ أَتى يوم المعاد قالَ لَهُمْ مُوسى يعني للسحرة الذين جمعهم فرعون وكانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل ساحر حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل كانوا اثني عشر ألفا وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ أي فيهلكنكم ويستأصلكم وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي خسر من ادعى مع الله إلها آخر وقيل معناه خسر من كذب على الله تعالى. قوله تعالى: [سورة طه (20): الآيات 62 الى 64] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي تناظروا وتشاوروا، يعني السحرة في أمر موسى سرا من فرعون وقالوا إن غلبنا موسى اتبعناه، معناه لما قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا. قال بعضهم لبعض ما هذا بقول ساحر وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي المناجاة قالُوا قال بعضهم لبعض سرا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يعني موسى وهارون يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يعني من مصر بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى قال ابن عباس: يعني بسراة قومكم وأشرافكم، وقيل معناه يصرفان وجوه الناس عنكم، وقيل أراد أهل طريقتكم المثلى وهم بنو إسرائيل يعني يريد أن يذهبا بهم لأنفسهما، وقيل معناه يذهبا بسنتكم وبدينكم الذي أنتم عليه فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي لا تدعو شيئا من كيدكم إلا جئتم به، وقيل معناه اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له ولا تختلفوا فيختل أمركم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي جمعا مصطفين ليكون أشد لهيبتكم وقيل معناه ثم ائتوا المكان الموعود به وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاز من غلب. [سورة طه (20): الآيات 65 الى 75] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) قالُوا يعني السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي عصينا

[سورة طه (20): الآيات 76 إلى 86]

قالَ يعني موسى بَلْ أَلْقُوا يعني أنتم أولا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إضمار أي فألقوا فإذا حبالهم وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى قيل إنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى كأن الأرض امتلأت حيات وكانت قد أخذت ميلا في ميل من كل جانب ورآها كأنها تسعى فَأَوْجَسَ أي أضمر وقيل وجد فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قيل هو طبع البشرية وذلك أنه ظن أنها تقصده، وقيل خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره فلا يتبعوه قُلْنا لا تَخَفْ أي قال الله تعالى لموسى لا تخف إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب عليهم ولك الغلبة عليهم والظفر وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي عصاك والمعنى لا يخيفنك كثرة حبالهم وعصيهم فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها تَلْقَفْ أي تلقم وتبتلع ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي حيلة ساحر وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي من الأرض. وقال ابن عباس لا يسعد حيث كان فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قال صاحب الكشاف سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقائين. وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وقيل إنهم لما سجدوا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة قالَ يعني فرعون آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أي لرئيسكم وعظيمكم يعني أنه أسحركم وأعلاكم في صناعة السحر ومعلمكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني على جذوع النخل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً يعني على إيمانكم به أنا أو رب موسى على ترك الإيمان به وَأَبْقى يعني أدوم قالُوا يعني السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ يعني لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعني الدلالات الواضحات، قيل هي اليد البيضاء والعصا وقيل كان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحر فأين حبالنا وعصينا. وقيل إنهم لما سجدوا رأوا الجنة والنار ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وَالَّذِي فَطَرَنا قيل هو قسم، وقيل معناه لن نؤثرك على الله الذي فطرنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ يعني فاصنع ما أنت صانع إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني إنما أمرك وسلطانك في الدنيا سيزول عن قريب إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فإن قلت كيف قالوا هذا وقد جاءوا مختارين غير مكرهين. قلت كان فرعون أكرههم في الابتداء على تعلمهم السحر لكي لا يذهب أصله. وقيل كانت السحرة اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل، وكان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر. وقيل قال السحرة لفرعون أرنا موسى إذا هو نام فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون هذا ليس بساحر إن الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى عليهم فأكرههم على أن يعملوا فذلك قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني خير منك ثوابا وأبقى عقابا وقيل خير منك إن أطيع وأبقى عذابا إن عصي وهذا جواب لقوله وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً قيل هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل هو من تمام قول السحرة معناه من مات على الشرك فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً يعني من مات على الإيمان قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى يعني الرفيعة العلية ثم فسر الدرجات بقوله [سورة طه (20): الآيات 76 الى 86] جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى يعني تطهر من الذنوب، وقيل أعطى زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» أخرجه الترمذي. قوله وأنعما يقال أحسن فلان إلى فلان وأنعم يعني أفضل وزاد في الإحسان، والمعنى أنهما منهم وزادوا تناهيا إلى غايته. قوله تعالى وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعني أسر بهم ليلا من أرض مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً يعني اجعل لهم طريقا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا يَبَساً يعني يابسا ليس فيه ماء ولا طين وذلك أن الله تعالى أيبس لهم الطريق في البحر لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى يعني لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك فَأَتْبَعَهُمْ يعني فلحقهم فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ يعني أصابهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وهو الغرق وقيل علاهم وسترهم من اليم ما لم يعلم كنهه إلا الله تعالى فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى يعني وما أرشدهم وهو تكذيب لفرعون في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. قوله عز وجل يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ذكرهم الله النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم وفيما وعد موسى من المناجاة بجانب الطور وكتب التوراة في الألواح. وإنما قال وواعدناكم لأنها اتصلت بهم حيث كانت لنبيهم، ورجعت منافعها إليهم وبها قوام دينهم وشريعتهم وفيها أفاض الله عليهم من سائر نعمه وأرزاقه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس لا تظلموا، وقيل لا تكفروا النعمة فتكونوا طاغين، وقيل لا تتقووا بنعمتي على المعاصي، وقيل لا تدخروا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي يعني يجب عليكم غضبي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى يعني هلك وسقط في النار وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ قال ابن عباس تاب عن الشرك وَآمَنَ يعني وحد الله وصدق رسوله وَعَمِلَ صالِحاً يعني أدى الفرائض ثُمَّ اهْتَدى قال ابن عباس علم أن ذلك توفيق من الله تعالى، وقيل لزم الإسلام حتى مات عليه، وقيل علم أن لذلك ثوابا، وقيل أقام على السنة. قوله عز وجل وَما أَعْجَلَكَ يعني وما حملك على العجلة عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلا يذهبون معه إلى الطور ليأخذوا التوراة. فسار بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه، وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال الله له وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ فأجاب ربه ف قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم بالقرب مني يأتون على أثري من بعدي. فإن قلت لم يطابق السؤال الجواب فإنه سأله عن سبب العجلة فعدل عن الجواب، فقال هم أولاء بأنه لم يوجد منه إلا تقدم سيره ثم أعقبه بجواب السؤال فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي لتزداد رضا قالَ فَإِنَّا قَدْ

[سورة طه (20): الآيات 87 إلى 96]

فَتَنَّا قَوْمَكَ أي فإنا ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا مِنْ بَعْدِكَ أي من بعد انطلاقك إلى الجبل وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي دعاهم وصرفهم إلى الضلال وهو عبادة العجل، وإنما أضاف الضلال إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه وقيل إن جميع المنشآت تضاف إلى منشئها في الظاهر، وإن كان الموجد لها في الأصل هو الله تعالى فذلك قوله هنا وأضلهم السامري، قيل كان السامري من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة، وقيل كان من القبط وكان جارا لموسى وآمن به، وقيل كان علجا من علوج كرمان رفع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا جزعا قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي صدقا يعطيكم التوراة أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي مدة مفارقتي إياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم الغضب من ربكم بسببه فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي يعني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع. [سورة طه (20): الآيات 87 الى 96] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي بملك أمرنا، وقيل باختيارنا وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي حملنا مع أنفسنا ما كنا قد استعرناه من قوم فرعون، والأوزار الأثقال سميت أوزارا لكثرتها وثقلها وقيل الأوزار الآثام، أي حملنا آثاما وذلك أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط ولم يردوها وبقيت معهم إلى حين خروجهم من مصر وقيل إن الله لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذها بنو إسرائيل فكانت غنيمة ولم تكن الغنائم تحل لهم فَقَذَفْناها أي ألقيناها قيل إن السامري قال لهم احفروا حفيرة وألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه فيها. وقيل إن هارون أمرهم بذلك ففعلوا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ما كان معه من الحلي فيها، قال ابن عباس: أوقد هارون نارا وقال اقذفوا ما معكم فيها، وقيل إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال هارون اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه. فألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل في فم العجل وقال كن عجلا يخور فكان كذلك. بدعوة هارون فذلك قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ اختلفوا هل كان الجسد حيا أم لا على قولين أحدهما لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل فيها الريح صوت كصوت العجل. الثاني: أنه صار حيا وخار كما يخور العجل فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى يعني قال ذلك السامري ومن تابعه من افتتن به. وقيل عكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط مثله فَنَسِيَ قيل هو إخبار عن قول السامري أي إن موسى نسي إلهه وتركه ها هنا وذهب يطلبه. وقيل معناه أن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر فأخطأ الطريق وضل. وقيل هو من كلام الله تعالى وكأنه أخبر عن السامري أنه نسي

[سورة طه (20): الآيات 97 إلى 108]

الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء. ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي إن العجل لا يرد لهم جوابا إذا دعوه ولا يكلمهم وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هذا توبيخ لهم إذ عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبده وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل. قوله عز وجل وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل رجوع موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي ابتليتم بالعجل وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي على ديني في عبادة الله وَأَطِيعُوا أَمْرِي يعني في ترك عبادة العجل. اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولا عن الباطل بقوله إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله وَأَطِيعُوا أَمْرِي فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة. وإنما قال وإن ربكم الرحمن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود قالُوا لَنْ نَبْرَحَ يعني لن نزال عَلَيْهِ يعني على عبادة العجل عاكِفِينَ يعني مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل. فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وقالَ له يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أي أشركوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما أتوه أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي يعني خالفت أمري الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا فتقول رَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزابا فيتقاتلون، فتقول فرقت بني إسرائيل لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري قالَ فَما خَطْبُكَ يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت يا سامِرِيُّ قالَ يعني السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ يعني من تراب حافر فرس جبريل فَنَبَذْتُها يعني فقذفتها في فم العجل فخار. فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار. قلت ذكروا فيه وجهين. أحدهما: أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذرا عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة. الوجه الثاني: أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس، فلما رآه قال إن لهذا لشأنا فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه، فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد. وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ يعني زينت لِي نَفْسِي وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعلة غيري واتبعت فيه هواي. [سورة طه (20): الآيات 97 الى 108] قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)

قالَ يعني موسى للسامري فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ يعني ما دمت حيا أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ يعني لا تخالط أحدا ولا يخالطك أحد فعوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أوحش منها ولا أعظم وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا مساس لك ولولدك. فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحد وقيل كان إذا مس أحدا. أو مسه أحد حما جميعا فتحامى الناس وتحاموه وكان لا مساس حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وَإِنَّ لَكَ يا سامري مَوْعِداً يعني بعذابك في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ قرئ بكسر اللام ومعناه لن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة، وقرئ بالفتح أي لن تكذبه ولم يخلفكه الله بل يكافئك على فعلك وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ يعني الذي تزعم الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً يعني دمت عليه مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي لنذرينه فِي الْيَمِّ يعني في البحر نَسْفاً روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم وحرقه في النار ثم ذراه في البحر وقيل معناه لنحرقنه أي لنبردنه فعلى هذا التأويل لم ينقلب لحما ودما فإن ذلك لا يمكن أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال صار لحما ودما ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها في البحر فلما فرغ موسى من أمر العجل وإبطال ما ذهب إليه السامري رجع إلى بيان الدين الحق فقال مخاطبا لبني إسرائيل إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ يعني المستحق للعبادة والتعظيم هو الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني وسع علمه كل شيء وقيل يعلم من يعبده. قوله عز وجل: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ يعني من أخبار ما قَدْ سَبَقَ يعني الأمم الخالية وقيل ما سبق من الأمور وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وهو القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ يعني عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً يعني حملا ثقيلا من الإثم خالِدِينَ فِيهِ يعني مقيمين في عذاب الوزر وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يعني بئس ما حملوا أنفسهم من الإثم يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قيل هو قرن ينفخ فيه يدعي به الناس للمحشر والمراد بهذه النفخة النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يعني نحشر المجرمين زرق العيون سود الوجوه وقيل عميا وقيل عطاشا يَتَخافَتُونَ يعني يتشاورون بَيْنَهُمْ ويتكلمون خفية إِنْ لَبِثْتُمْ يعني مكثتم في الدنيا إِلَّا عَشْراً يعني عشر ليال وقيل في القبور وقيل بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة وذلك أن العذاب رفع عنهم بين النفختين فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا فقال الله تعالى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني يتشاورون فيما بينهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أوفاهم وأعدلهم قولا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة وقيل نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم قوله عز وجل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. قال ابن عباس: سأل رجل من ثقيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال كيف تكون الجبال يوم القيامة فأنزل الله تعالى هذه الآية والنسف هو القلع أي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثورا فَيَذَرُها أي يدع أماكن الجبال من الأرض قاعاً صَفْصَفاً أي أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يعني لا انخفاضا ولا

[سورة طه (20): الآيات 109 إلى 119]

ارتفاعا يعني لا ترى واديا ولا رابية يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي صوت الداعي ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن لا عِوَجَ لَهُ أي لا عوج لهم عن دعائه ولا يزيعون عنه يمينا ولا شمالا بل يتبعونه سراعا وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ يعني سكنت وذلت وخضعت وضعفت والمراد به أصحاب الأصوات وقيل خضعت الأصوات من شدة الفزع فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وهو الصوت الخفي قال ابن عباس: هو تحريك الشفاه من غير نطق وقيل أراد بالهمس صوت وطء الأقدام إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل. [سورة طه (20): الآيات 109 الى 119] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ لأحد من الناس إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يعني إلا من أذن له أن يشفع وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قال ابن عباس: يعني قال لا إله إلا الله، وفيه دليل على أنه لا يشفع غير المؤمن، وقيل إن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن يأذن الله له فيها وكان عند الله مرضيا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قيل الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي، أي يعلم الله ما قدموا من الأعمال وما خلفوا من الدنيا وقيل الضمير يرجع إلى من أذن له الرحمن وهو الشافع، والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع ثم قال يعلم ما بين أيديهم أي أيدي الشافعين وما خلفهم وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً قيل الكناية ترجع إلى ما أي هو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهم لا يعلمونه، والمعنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما وقيل الكناية راجعة إلى الله تعالى أي ولا يحيطون بالله علما وَعَنَتِ الْوُجُوهُ يعني ذلت وخضعت في ذلك اليوم ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره وذكر الوجوه وأراد بها المكلفين لأن عنت من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وفيها يظهر وقوله تعالى لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ تقدم تفسيره وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. قال ابن عباس خسر من أشرك بالله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً قال ابن عباس معناه لا يخاف أن يزاد على سيئاته ولا ينقص من حسناته، وقيل لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها قوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي كما بينا في هذه السورة أو هذه الآية المتضمنة للوحيد أنزلنا القرآن كله كذلك وقوله قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلسان العرب ليفهمون ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا وفصلنا القول فيه بذكر الوعيد ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد بهما يتعلق فتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يجتنبون الشرك والمحارم وترك الواجبات أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي إنما أنزلنا القرآن ليصبروا متقين مجتنبين ما لا ينبغي ويحدث لهم القرآن ذكرا يرغبهم في الطاعات وفعل ما ينبغي، وقيل معناه يجدد لهم القرآن عبرة وعظة

[سورة طه (20): الآيات 120 إلى 129]

فيعتبرون ويتعظون بذكر عقاب الله الأمم قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي جل الله وعظم عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون والجاحدون وقيل فيه تنبيه على ما يلزم خلقه من تعظيمه وتمجيده، وقيل إنما وصف نفسه بالملك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره وأولى به منه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادره فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل مما يريده من التلاوة مخافة الانفلات أو النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك فقال تعالى وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي ولا تعجل بقراءته مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ وقيل معناه لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معناه وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فيه التواضع والشكر لله والمعنى زدني علما إلى ما علمت فإن لك في كل شيء علما وحكمة، قيل ما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول اللهم زدني علما وإيمانا ويقينا قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ يعني أمرناه وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي من هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَنَسِيَ أي فترك ما عهدنا إليه من الاحتراز عن أكل هذه الشجرة وأكل منها، وقيل أراد النسيان الذي هو ضد الذكر وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي صبرا عما نهي عنه وحفظا لما أمر به، وقيل معناه لم نجد له رأيا معزوما حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له، وقيل معناه لم نجد له عزما على المقام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب قوله عز وجل وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أن يسجد فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا أي إبليس عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ أي حواء وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدوا له فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أسند الخروج إليه، وإن كان الله تعالى هو المخرج لأنه لما كان بوسوسته وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك. ومعنى تشقى تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك، وهو الحرث والزرع والحصد والطحن والخبز قيل أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فكان ذلك شقاءه. فإن قلت لم أسند الشقاء إلى آدم دون حواء. قلت فيه وجهان أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم. الثاني: إنه أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها يعني الجنة وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها أي تعطش وَلا تَضْحى أي تبرز للشمس فيؤذيك حرها لأنه ليس في الجنة شمس وأهلها في ظل ممدود والمعنى أن الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة وإنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إليه أهل الدنيا. [سورة طه (20): الآيات 120 الى 129] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)

(الكلام على معنى الحديث وشرحه)

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدا وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبه إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه. وقوله تعالى فَأَكَلا مِنْها يعني أكل آدم وحواء من الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ أي بأكل الشجرة فَغَوى أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مرارا ويعتاده. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما فحج آدم موسى». وفي رواية لمسلم «قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى. قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى». (الكلام على معنى الحديث وشرحه) قوله احتج آدم وموسى: المحاجة المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلانا فحججته أي جادلته فغلبته. قال أبو سليمان الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها شرها. والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختيار. فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء. فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وإنما كان تناوله الشجرة سببا لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي من قبل أن يخلقني. (فصل: في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك) قال الإمام فخر الدين الرازي: اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة،

أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم. الثاني: ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض. وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ومن الناس من جوز ذلك سهوا قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن. الثالث: ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو. الرابع: ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال. أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر. الثاني: قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث: لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي. الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ. الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة. واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة. الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة. الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة. قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جاءتهم النبوة. ويدل عليه وجوه أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف. الثاني: لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالا من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضا لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل. الثالث: لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال. الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ. الخامس: قال الله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. السادس: قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ وقال تعالى في حق موسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه. قال وأما المخالف فقد تمسك بآيات منها قصة آدم هذه، والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيا وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة. وقال القاضي عياض وأما قصة آدم وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه. وقبل لم يقصد المخالفة استحلالا لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذلك قال ولم نجد له عزما أي قصدا للمخالفة، وقيل بل أكل من الشجرة متأولا

وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأول أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم. فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه. قلت إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا، وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أو خذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى. قوله عز وجل: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره واصطفاه فَتابَ عَلَيْهِ أي عاد بالعفو والمغفرة وَهَدى أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة، وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس، ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدوا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي الكتاب والرسول فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أنهم قالوا هو عذاب القبر. قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تختلف أضلاعه. وفي بعض المسانيد مرفوعا يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل هو الزقوم والضريع والغسلين في النار، وقيل الحرام والكسب الخبيث. وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة. وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى. وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً يعني بصيرا العين أو بصير بالحجة قالَ كَذلِكَ يعني كما أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها يعني فطردتها وأعرضت عنها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر وَأَبْقى يعني وأدوم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني في ديارهم ومنازلهم إذا سافروا وذلك أن قريشا كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازما لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.

[سورة طه (20): الآيات 130 إلى 135]

[سورة طه (20): الآيات 130 الى 135] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ نسختها آية السيف وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل بأمر ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي صلاة العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي ومن ساعاته فَسَبِّحْ يعني فصل المغرب والعشاء قال ابن عباس يريد أول الليل وَأَطْرافَ النَّهارِ يعني صلاة الظهر سمي وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء لَعَلَّكَ تَرْضى أي ترضى ثوابه في المعاد، وقيل معناه لعلك ترضى بالشفاعة، وقرئ ترضى بضم التاء أي تعطى ثوابه، وقيل يرضاك ربك (ق) عن جرير بن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» قوله لا تضامون بتخفيف الميم من الضيم، وهو الظلم والمعنى أنكم ترونه جميعا لا يظلم بعضكم بعضا في رؤيته وروي بتشديد الميم من الانضمام والازدحام، أي لا يزدحم ولا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته والكاف في قوله كما ترون هذا القمر كاف التشبيه للرؤية لا للمرئي وهي فعل الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم هذا القمر ليلة البدر ولا ترتابون فيه ولا تشكون قوله عز وجل: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ قال أبو رافع نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال قل له إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق أو سلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته إني لأمين في السماء وأمين في الأرض أذهب بدرعي الحديد إليه» فنزلت هذه الآية: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر نظرا تكاد تردده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به وتمنيا له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أي أعطينا أَزْواجاً أي أصنافا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنجعل ذلك فتنة بأن تزيد النعمة فيزيدوا كفرا وطغيانا وَرِزْقُ رَبِّكَ أي في المعاد في الجنة خَيْرٌ وَأَبْقى أي أدوم وقال أبي بن كعب من لم يعتز بالله تقطعت نفسه حسرات، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه. ف قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي قومك وقيل من كان على دينك بِالصَّلاةِ يعني بالمحافظة عليها وَاصْطَبِرْ عَلَيْها يعني اصبر على الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وقيل اصبر عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا ولا أن ترزق نفسك بل نكلفك عملا نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي بل نحن نرزقك ونرزق أهلك وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي الخصلة المحمودة لأهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوك وآمنوا بك وفي بعض المسانيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية قوله تعالى وَقالُوا يعني المشركين لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي الآية المقترحة فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي بيان ما فيها وهو القرآن لأنه أقوى

دلالة وأوضح آية وقيل معنى ما في الصحف ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من أخبار الأمم أنهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم لم يؤمنوا فعجلنا لهم العذاب والهلاك فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك وقيل بينة ما في الصحف الأولى هي البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته وبعثته وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي لقالوا يوم القيامة أولا أرسلت إلينا رسولا يدعونا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى بالعذاب والهوان والافتضاح قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أي منتظر دوائر الزمان وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون وحوادث الدهر فإذا مات تخلصنا قال الله تعالى: فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ أي إذا جاء أمر الله وقامت القيامة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ يعني المستقيم وَمَنِ اهْتَدى يعني من الضلالة نحن أم أنتم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء وهي مكية وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية وألف ومائة وثمان وستون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة وتسعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) قوله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة. نزلت في منكري البعث وإنما ذكر الله هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين، فيكونون أقرب إلى التأهب له، والمراد بالناس المحاسبون وهم المكلفون دون غيرهم، وقيل هم المشركون وهذا من باب إطلاق اسم الجنس على بعضه وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أي عن التأهب له وقيل معناه أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء ثم إذا نبهوا من سنة الغفلة بما يتلى من الآيات والنذر أعرضوا عنه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني ما يحدث الله من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به وقيل معناه إن الله يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وقيل الذكر المحدث ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافه إليه لأن الله تعالى قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ساهية معرضة غافلة عن ذكر الله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالغوا في إخفاء التناجي وهم الذين أشركوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به، فقال تعالى مخبرا عنهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أنهم أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة والأولى إرسال البشر إلى البشر لأن الإنسان إلى القبول من أشكاله أقرب أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ يعني أتحضرون السحر وتقبلونه وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ يعني تعلمون أنه سحر قالَ لهم محمد رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ

[سورة الأنبياء (21): الآيات 11 إلى 23]

يعني لا يخفى عليه شيء وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأفعالهم. قوله عز وجل: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم بَلِ افْتَراهُ يعني اختلقه بَلْ هُوَ شاعِرٌ وذلك أن المشركين اقتسموا القول في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما يقوله، فقال بعضهم أضغاث أحلام وقال بعضهم بل هو فرية وقال بعضهم هو شاعر وما جاءكم به شعر فَلْيَأْتِنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم بِآيَةٍ يعني بحجة إن كان صادقا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي من الرسل بالآيات قال الله تعالى مجيبا لهم ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية أتتهم الآيات أَهْلَكْناها يعني بالتكذيب أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ يعني إن جاءتهم آية والمعنى أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما جاءتهم أفيؤمن هؤلاء. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم، والمعنى إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا يوحى إليهم مثلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل التوراة والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أمر الله المشركين بسؤال أهل الكتاب لأن المشركين أقرب إلى تصديقهم من تصديق من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل أراد بالذكر القرآن يعني فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قوله عز وجل: وَما جَعَلْناهُمْ أي الرسل جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ هذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام، والمعنى لم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام وَما كانُوا خالِدِينَ يعني في الدنيا بل يموتون كغيرهم ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني من المؤمنين الذين صدقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين لأن المشرك مسرف على نفسه. قوله عز وجل: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا معشر قريش كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ يعني شرفكم وفخركم وهو شرف لمن آمن به، وقيل معناه فيه حديثكم، وقيل فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه بعث على التدبر لأن الخوف من لوازم العقل. قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 11 الى 23] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) وَكَمْ قَصَمْنا يعني أهلكنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً يعني كافرة والمراد أهل القرية وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي أحدثنا بعد هلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي عذابنا بحاسة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يعني يسرعون هاربين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب لا تَرْكُضُوا يعني قيل لهم لا تهربوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ يعني تنعمتم فيه من العيش وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قال ابن عباس عن قتل نبيكم، قيل نزلت هذه الآية في أهل حضر موت قرية باليمن، وكان أهلها عربا فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم، فلما استمر فيهم القتل هربوا فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا، أي لا تهربوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمنعون من

شئتم، فإنكم أهل ثروة ونعمة فأتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جو السماء يا لثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك، أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني لأنفسنا حين كذبنا الرسل وذلك أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب، وقالوا ذلك على سبيل الندامة ولم ينفعهم الندم فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ يعني تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً يعني بالسيوف كما يحصد الزرع خامِدِينَ يعني ميتين. قوله عز وجل: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ معناه ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب للعب واللهو، سويناهما لفوائد منها التفكر في خلقهما وما فيهما من العجائب والمنافع التي لا تعد ولا تحصى لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال ابن عباس: اللهو المرأة وعنه أنه الولد لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا يعني من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض، وقيل معناه لو كان ذلك جائزا في حقنا لم نتخذه بحيث يظهر لكم بل نستر، ذلك حتى لا تتطلعوا عليه، وذلك أن النصارى لما قالوا، في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بقوله لاتخذناه من لدنا لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يعني ما كنا فاعلين، وقيل ما كنا ممن يفعل ذلك لأنه لا يليق بالربوبية بَلْ يعني دع ذلك الذي قالوه فإنه كذب وباطل نَقْذِفُ يعني نرمي ونسلط بِالْحَقِّ يعني بالإيمان عَلَى الْباطِلِ يعني على الكفر، وقيل الحق قول الله أنه لا ولد له والباطل قولهم اتخذ الله ولدا فَيَدْمَغُهُ فيهلكه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ يعني ذاهب والمعنى أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يذهب ويضمحل، ثم أوعدهم على كذبهم فقال تعالى (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) يا معشر الكفار (مِمَّا تَصِفُونَ) الله بما لا يليق من الصاحبة والولد وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة وإنما خص الملائكة وإن كانوا داخلين في جملة من في السموات لكرامتهم ومزيد الاعتناء بهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يعني لا يتكبرون ولا يتعظمون عنها وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يعني لا يعيون ولا يتعبون، وقيل لا ينقطعون عن العبادة ثم وصفهم الله تعالى يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ يعني لا يضعفون ولا يسأمون، وذلك أن تسبيحهم متصل دائم لا يفتر في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو شغل أخر قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني الأصنام من الحجارة والخشب وغيرهما من المعادن وهي من الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ يعني يحيون الأموات، إذ لا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم، وهو الله عز وجل لَوْ كانَ فِيهِما يعني في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ يعني غير الله (لفسدتا) يعني لخربتا وهلك من فيهما الوجود والتمانع من الآلهة لأن كل أمر صدر عن الاثنين فأكثر لم يجر على النظام وقال الإمام فخر الدين الرازي قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا، وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرا على تحريك زيد وتسكينه. لو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه وأراد تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعن معا لوجدا معا وذلك محال أو يقع مراد أحدهما: دون الثاني وذلك أيضا محال لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر، بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح. وثانيهما: أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص، وهو على الإله محال. ولو فرضنا إلهين، لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد،

[سورة الأنبياء (21): الآيات 24 إلى 33]

وهو محال لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا، فيلزم استغناؤه عنهما معا واحتياجه إليهما معا، وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا، أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما، وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الثاني والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات. واعلم أنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية الله تعالى. وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن، واعلم أن كل من طعن في دلالة التمانع ففسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام، لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم في قوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وأما قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ففيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يعني لا يسأل عما يفعله ويقضيه في خلقه وَهُمْ يُسْئَلُونَ يعني والناس عن أعمالهم، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال وهدى وإضلال وإسعاد وإشقاء، لأنه الرب مالك الأعيان والخلق يسألون سؤال توبيخ. يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته قوله عز وجل: [سورة الأنبياء (21): الآيات 24 الى 33] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لما أبطل الله تعالى أن تكون آلهة سواه، بقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا أنكر عليهم اتخاذهم الآلهة فقال أم اتخذوا من دونه آلهة وهو استفهام إنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على ذلك ثم قال مستأنفا هذا يعني القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ يعني خبر مَنْ قَبْلِي أي من الأمم السالفة وما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وقال ابن عباس ذكر من معي القرآن وذكر من قبلي التوراة والإنجيل، والمعنى راجعوا القرآن والتوراة

والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا أو كان معه آلهة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أي فوحدوني، وقيل لما توجهت الحجة عليهم، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق، فقال بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون، أي عن التأمل والتفكر وما يجب عليهم من الإيمان بأنه لا إله إلا هو. قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ نزه نفسه عما قالوا. بَلْ عِبادٌ أي هم عباد يعني الملائكة مُكْرَمُونَ أي أكرمهم الله واصطفاهم لا يَسْبِقُونَهُ أي لا يتقدمونه بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ المعنى أنهم لا يخالفونه قولا ولا عملا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما عملوا وما هم عاملون وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قال ابن عباس إلا لمن قال لا إله إلا الله وقيل إلا لمن رضى الله تعالى عنه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وجلون لا يأمنون مكره وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ قيل عنى به إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. قوله عزّ وجلّ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألم يعلم الذين كفروا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قال ابن عباس كانتا شيئا واحدا ملتزقتين فَفَتَقْناهُما أي فصلنا بينهما بالهواء. قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحا بوسطهما ففتحهما بها، وقيل كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة، ففتقها وجعلها سبع سموات وكذلك الأرض، وقيل كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء، من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر، وذلك لأنه سبب لحياة كل شيء، وقال المفسرون: معناه أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء وقيل يعني النطفة. فإن قلت قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة والجان. قلت خرج هذا الأمر مخرج الأغلب والأكثر يعني أن أكثر ما على وجه الأرض مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تميد بهم، قيل إن الأرض بسطت على الماء فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء فأرساها الله فأثبتها بالجبال وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي فِجاجاً أي طرقا ومسالك والفج الطريق الواسع بين الجبلين سُبُلًا هو تفسير الفجاج لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى مقاصدهم وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي من أن يسقط ويقع وقيل محفوظا من الشياطين بالشهب وَهُمْ يعني الكفار عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي عما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم، وكيفية حركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة القاهرة، لا يتفكرون ولا يعتبرون بها وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. وإنما قال يسبحون ولم يقل تسبح، على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها فعل العقلاء، وهو السباحة والجري. والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك وقيل الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الرحى، وقيل الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، وقيل الفلك استدارة السماء، وقيل الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم، وقال أصحاب الهيئة الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلا بأخبار الصادق فسبحان الخالق المدبر لخلقه بالحكمة والقدرة الباهرة غير المتناهية. قوله عزّ وجلّ:

[سورة الأنبياء (21): الآيات 34 إلى 43]

[سورة الأنبياء (21): الآيات 34 الى 43] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعني الدوام والبقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون نشمت بموته، فنفى الله الشماتة عنه بهذا والمعنى أن الله تعالى قضى أن لا يخلد في الدنيا بشرا لا أنت ولا هم فإن مت أنت أفيبقى هؤلاء وفي معناه قول القائل: فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ هذا العموم مخصوص بقوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك فإن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت. والذوق ها هنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله وَنَبْلُوكُمْ أي نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ أي بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر، وقيل مما تحبون وما تكرهون فِتْنَةً أي ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون وصبركم فيما تكرهون وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أي ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي سخريا قيل نزلت في أبي جهل مر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فضحك وقال هذا نبي بني عبد مناف أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي يعيب ألهتكم والذكر يطلق على المدح والذم مع القرينة وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب قوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، قيل معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، وقيل لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل وأورث بنيه العجلة وقيل معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه، لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، وقيل خلق بسرعة وتعجيل على غير قياس خلق بنيه لأنهم خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أطوارا أطوارا طورا بعد طور وقيل خلق الإنسان من عجل أي من طين قال الشاعر: والنخل ينبت بين الماء والعجل أي بين الماء والطين. وقيل أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه قوله سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وذلك أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب، وقيل نزلت في النضر بن الحرث، ومعنى سأريكم آياتي أي مواعيدي فلا تطلبوا العذاب قبل وقته فأراهم يوم بدر، وقيل كانوا يستعجلون القيامة فلذلك قال تعالى وَيَقُولُونَ يعني المشركين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على

[سورة الأنبياء (21): الآيات 44 إلى 57]

سبيل الاستهزاء فبين تعالى أنهم إنما يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم بين ما لهؤلاء المستهزئين فقال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ يعني لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ قيل السياط وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب والمعنى لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا بالعذاب ولما قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني الساعة بَغْتَةً أي فجأة فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي صرفها ودفعها عنهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون للتوبة والمعذرة وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي يا محمد كما استهزأ بك قومك فَحاقَ أي نزل وأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقوبة استهزائهم وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم. قوله تعالى قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا انصرفتم في معايشكم مِنَ الرَّحْمنِ قال ابن عباس معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي عن القرآن ومواعظه مُعْرِضُونَ أي لا يتأملون في شيء منها أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا معناه ألهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أي لا يقدرون على نصر أنفسهم فكيف ينصرون من عبدهم وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال ابن عباس يمنعون وقيل يجارون وقيل ينصرون وقيل معناه لا يصبحون من الله بخير. [سورة الأنبياء (21): الآيات 44 الى 57] بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ يعني الكفار وَآباءَهُمْ أي في الدنيا بأن أنعمنا عليهم وأمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي امتد بهم الزمان فاغتروا أَفَلا يَرَوْنَ يعني هؤلاء المشركين أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني ننقص من أطراف المشركين، ونزيد من أطراف المؤمنين يريد بذلك ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا وقرية فقرية، والمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد، بعد الواحد وفتح البلاد والقرى مما حول مكة وإدخالها في ملك محمد صلّى الله عليه وسلّم، وموت رؤوس المشركين المتنعمين بالدنيا، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع منا ومن إرادتنا فيهم ثم قال أَفَهُمُ الْغالِبُونَ استفهام بمعنى التقريع معناه بل نحن الغالبون وهم المغلوبون قُلْ يا محمد إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي أخوفكم بالقرآن وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما

يُنْذَرُونَ أي يخوفون وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي أصابتهم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ قال ابن عباس طرف وقيل شيء قليل لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. قوله عزّ وجلّ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل ومعنى وضعها إحضارها لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي لأهل يوم القيامة قيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال، فمن أحاطت حسناته بسيئاته فاز ونجا وبالعكس ذل وخسر، والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد، وقال الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وأكثر الأقوال أنه ميزان واحد وإنما جمع لاعتبار تعدد الأعمال الموزونة به. وروي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه عزّ وجلّ أن يريه الميزان فأراه كل كفته ما بين المشرق والمغرب فلما رآه غشي عليه، ثم فاق فقال إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ قال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. فعلى هذا ففي كيفية وزن الأعمال مع أنها أعراض طريقان: أحدهما: أن توضع صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة، وصحائف السيئات في كفة. والثاني: أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. فإن قلت كيف تصنع بقوله ونضع الموازين القسط مع قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. قلت هذه في حق الكفار لأنهم ليس لهم أعمال توزن مع الكفر. وقوله تعالى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يعني لا تبخس مما لها وما عليها من خير وشر شيئا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها معناه أنه لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءه مسيء، وأراد بالحبة الجزء اليسير من الخردل، ومعنى أتينا بها يعني أحضرناها لنجازي بها. عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئا، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول لا يا رب، فيقول أفلك عذر، فيقول لا يا رب. فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي. السجل الكتاب الكبير، وأصله من التسجيل لأنه يجمع أحكاما، والبطاقة ورقة صغيرة تجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه، والطيش الخفة، قلت في الحديث دليل على أن صحائف الأعمال هي التي توزن، لا أن الأعمال تتجسد جواهر فتوزن والله أعلم. قوله تعالى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال ابن عباس معناه كفى بنا عالمين حافظين لأن من حسب شيئا فقد علمه وحفظه، والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون بأشد الخوف منه ويروى عن الشبلي أنه رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال: حاسبونا فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا هكذا سيمة الملوك ... بالمماليك يرفقوا قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل وهو التوراة، وقيل الفرقان النصر على الأعداء فعلى هذا يكون وَضِياءً يعني التوراة ومن قال الفرقان هو التوراة جعل الواو زائدة في وضياء والمعنى آتينا موسى التوراة ضياء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ يعني يتذكرون بمواعظها ويعملون بما فيها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه، وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أي كما آتينا موسى التوراة، فكذلك أنزلنا

[سورة الأنبياء (21): الآيات 58 إلى 68]

القرآن ذكرا مباركا، أي هو ذكر لمن آمن به مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي صلاحه وهداه مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ وهو حين خرج من السرب وهو صغير وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي إنه من أهل الهداية والنبوة إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني الصور والأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي مقيمون على عبادتها قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي فاقتدينا بهم قالَ يعني إبراهيم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في خطأ بين بعبادتكم إياها قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالصدق أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ يعنون أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي على أنه الإله الذي يستحق العبادة، وقيل شاهد على أنه خالق السموات والأرض وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأمكرن بها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين إلى عيدكم، قيل إنما قال إبراهيم هذا القول سرا في نفسه، ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه فأفشاه عليه، وهو القائل إنا سمعنا فتى يذكرهم، وقيل كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم رجعوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، فنادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم، ومستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام جنبها إلى جنب بعض كل صنم الذي يليه أصغر منه وهكذا إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي الآلهة وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء «ألا تأكلون» فلما لم يجيبوه قال «ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين» وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم، علق الفأس في عنقه، وقيل في يده ثم خرج فذلك قوله تعالى. [سورة الأنبياء (21): الآيات 58 الى 68] فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي كسرا وقطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي تركه ولم يكسره ووضع الفأس في عنقه، ثم خرج وقيل ربطه على يده وكانت اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من نحاس ورصاص وحجر وخشب وكان الصنم الكبير من الذهب مكللا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان وقوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قيل معناه يرجعون إلى إبراهيم وإلى دينه وما يدعوهم إليه، إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها، وقيل معناه لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه ما لهؤلاء تكسروا وأنت صحيح والفأس في عنقك، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم مكسرة قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ

ذكر القصة في ذلك

أي في تكسيرها واجترائه عليها قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يسبهم ويعيبهم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي هو الذي نظن أنه صنع هذا فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي جيئوا به ظاهرا بمرأى الناس وإنما قاله نمرود لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي عليه بأنه الذي فعل ذلك كرهوا أن يأخذوه بغير بينة وقيل معناه لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به فلما أتوا به قالُوا له أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ يعني إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبدون معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم فذلك قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي حتى يخبروا بمن فعل ذلك بهم، وقيل: معناه إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هذه أختي» لفظ الترمذي قيل في قوله إني سقيم أي: سأسقم وقيل: سقيم القلب مغتم بضلالتكم. وأما قوله بل فعله كبيرهم هذا فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال: إن كان ينطق فهو على طريق التبكيت لقومه وقوله لسارة: هذه أختي، أي في الدين والإيمان قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فكل هذه الألفاظ صدق في نفسها ليس فيها كذب. فإن قلت: قد سماها النبي صلّى الله عليه وسلّم كذبات بقوله: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة ويذكر كذباته. قلت: معناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها بمؤاخذته بها قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم والأولى هو الأول للحديث، ويجوز أن يكون الله أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال: أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا قال الإمام فخر الدين الرازي: وهذا القول مرغوب عنه، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذب لمصلحة ويأذن الله فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبر الأنبياء عنه، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ويطرق التهمة إلى كلها، والحديث محمول على المعاريض، فإنه فيها مندوحة عن الكذب. وقوله: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يعني تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فَقالُوا ما نراه إلا كما قال إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ يعني بعبادتكم ما لا يتكلم وقيل معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ قال أهل التفسيسر أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم ثم أدركتهم الشقاوة فرجعوا إلى حالهم الأولى وهو قوله: ثم نكسوا على رؤوسهم أي ردوا إلى الكفر وقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ يعني فكيف نسألهم، فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم قالَ لهم أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً يعني إن عبدتموه وَلا يَضُرُّكُمْ يعني إن تركتم عبادته أُفٍّ لَكُمْ يعني تبا لكم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى أنه حقرهم وحقر معبودهم أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أليس لكم عقل تعقلون به أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ يعني أنكم لا تنصرونها إلا بتحريق إبراهيم لأنه يعيبها ويطعن فيها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ يعني ناصرين آلهتكم. قال ابن عمر: الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. ذكر القصة في ذلك فلما اجتمع نمرود وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى ثم

[سورة الأنبياء (21): الآيات 69 إلى 71]

جمعوا له صلاب الحطب وأصناف الخشب مدة شهر حتى كان الرجل يمرض فيقول: لئن عوفيت لأجمعن حطبا لإبراهيم وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتسابا في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم، فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب نارا فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطير ليمر بها فتحرق من شدة وهجها وحرها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه، فقيل إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا، فصاحت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة: أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره، فأذن لنا في نصرته فقال الله تعالى: إنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري، فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه وقال: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الهواء وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم حسبي الله حسبي الله ونعم الوكيل. وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة فقال: أما إليك فلا قال جبريل فاسأل ربك فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي (خ) عن ابن عباس في قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال: قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ قال كعب الأحبار: جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار (ق) عن أم شريك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أمر بقتل الأوزاغ- زاد البخاري- وقال كان ينفخ على إبراهيم» (قلنا) يعني قال عز وجل. [سورة الأنبياء (21): الآيات 69 الى 71] قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: لو لم يقل سلاما لمات إبراهيم من بردها، وفي بعض الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبدا، وقيل: أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام، قاله المنهال بن عمرو وقال إبراهيم: ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت في النار. قيل: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه. قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين النار يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم. قال: هل تخشى إن قمت أن تضرك قال لا. قال: فقم فاخرج منها فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها فلما وصل إليه قال له يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك مثلك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها فقال نمرود

[سورة الأنبياء (21): الآيات 72 إلى 79]

يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة. قال إبراهيم: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها، فذبحها نمرود، وكف عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومنعه الله عز وجل منه قوله عز وجل وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً يعني أرادوا أن يكيدوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ قيل: معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم. وقيل: إن الله تعالى أرسل على نمرود وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة فأهلكته. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً يعني من نمرود وقومه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني إلى أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار. وقال أبي بن كعب: بارك الله فيها وسماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وقيل: لأن أكثر الأنبياء منها (ق) عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لكعب: ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره فقال كعب: إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنز من عباده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود، أراد بالهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لأهل الشام فقلت وما ذاك يا رسول الله قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ قال ها هنا ونحا بيده نحو الشام» أخرجه الترمذي. قال محمد بن إسحاق: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله تعالى به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئهم وآمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وتبعه لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران وهو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور فثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر، فخرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج مهاجرا حتى قدم مصر، ثم خرج ورجع إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله نبيا إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21): الآيات 72 الى 79] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً يعني عطية من عطاء الله. قال ابن عباس: النافلة هو يعقوب لأن الله

تعالى أعطى إبراهيم إسحاق بدعائه حيث قال: رب هب لي من الصالحين وزاده يعقوب نافلة وهو ولد الولد وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يعني قدوة يهتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يعني يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ يعنى العمل بالشرائع وَإِقامَ الصَّلاةِ يعني المحافظة عليها وَإِيتاءَ الزَّكاةِ يعني الواجبة وخصهما لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر الله والزكاة أفضل العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَكانُوا لَنا عابِدِينَ يعني موحدين قوله عز وجل وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي الفصل بين الخصوم بالحق وقيل أراد الحكمة والنبوة وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني قرية سدوم وأراد أهلها وأراد بالخبائث إتيان الذكور في أدبارهم، وكانوا يتضارطون في مجالسهم مع أشياء أخرى كانوا يعلمونها من المنكرات إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا قيل: أراد بالرحمة النبوة وقيل أراد بها الثواب إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الأنبياء. قوله تعالى: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه له، وقيل: إنه كان أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء. والكرب أشد الغم وَنَصَرْناهُ أي منعناه مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من أن يصلوا إليه بسوء وقيل من بمعنى على إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. قوله عز وجل وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان الحرث كرما قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعا وهو أشبه بالعرف إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا فأفسدته وكان بلا راع وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه. وفيه دليل لمن يقول بأن أقل الجمع اثنان لقوله وكنا لحكمهم والمراد به داود وسليمان قال ابن عباس وغيره. إن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن غنم هذا دخلت زرعي ليلا فوقعت فيه فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأعطاه رقاب الغنم بالزرع، فخرجا فمرا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي ويروى أنه قال له بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك، فقيل: كان لسليمان يوم حكم بذلك من العمر إحدى عشر سنة. وحكم الإسلام في هذه المسألة أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير بالنهار فلا ضمان على ربها وما أفسدته بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح. ويدل على هذه المسألة ما روى حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وزاد في رواية: وإن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل، أخرجه أبو داود مرسلا. وذهب أصحاب الرأي أن المالك إذا لم يكن مع ماشيته فلا ضمان عليه فيما أتلفت ليلا كان أو نهارا، فذلك قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي علمناه وألهمناه حكم القضية وَكُلًّا أي داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. واختلف العلماء في أن حكم داود كان باجتهاده أم بنص، وكذلك حكم سليمان فقال بعضهم: حكما

[سورة الأنبياء (21): الآيات 80 إلى 81]

بالاجتهاد. قال: ويجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين والعلماء لهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطئوا فلا إثم عليهم (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ومن قال بهذا يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عنه بالوحي، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية وبالحديث حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ، وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه، ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهدا، ووجه الاجتهاد في هذا الحكم أن داود قوم قدر الضرر في الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم، وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر في الحرث قيمة المثل، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه. وأما سليمان فإن اجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الحرث فحكم به. ومن أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ أي يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، قيل: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقيل معنى يسبحن يصلين معه إذا صلى وقيل كان داود إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وَكُنَّا فاعِلِينَ يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير. [سورة الأنبياء (21): الآيات 80 الى 81] وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي صنعة الدروع التي تلبس في الحرب قيل أول من صنع الدروع وسردها واتخذها حلقا داود وكانت من قبل صفائح قالوا إن الله ألان الحديد لداود بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين والدرع يجمع بين الخفة والحصانة وهو قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ أي تمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ أي حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم وقيل ليحصنكم الله به فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي يقول ذلك لداود وأهل بيته. قوله عز وجل وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح وهو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحسن بحركته ويخفى عن البصر بلطفه عاصِفَةً أي شديدة الهبوب. فإن قلت: قد وصفها الله بالرخاء وهي الريح اللينة قلت: كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك لأنها كانت تجري بسليمان وأصحابه حيث يشاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي بصحة التدبير فيه وعلمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قال وهب: كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه حلقت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره، وكان امرأ غزاء، قلما كان يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من

[سورة الأنبياء (21): الآيات 82 إلى 83]

الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد. وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا. قال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الإنس أو من الجن نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فنازلون بالشام وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه شمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، وقال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان الخيل حتى فاتته، صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل. وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض السند وجاوزها وخرج منها إلى مكران وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام. وكان مستقره بمدينة تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأصفر والأبيض، وفي ذلك يقول النابغة: إلا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد [سورة الأنبياء (21): الآيات 82 الى 83] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) قوله عز وجل وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي دون الغوص وهو اختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية، ويتجاوزون في ذلك إلى أعمال المدن والقصور والصناعات كاتخاذ النورة والقوارير والصابون وغير ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ يعني حتى لا يخرجوا عن أمره، وقيل: حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وذلك أنهم كانوا إذا عملوا عملا في النهار وفرغ قبل الليل أفسدوه وخربوه. قيل: إن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه. قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ يعني دعا ربه. ذكر قصة أيوب عليه السلام قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلا من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله

من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة، وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو أربع أو خمس وفوق ذلك، وكان الله تعالى قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرا لأنعم الله، مؤديا لحق الله قد امتنع عن عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه: رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير، ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما تلدد والآخر صافر وكان لهؤلاء مال، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع. فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسد والبغي، فصعد سريعا حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال. فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس: اذهب فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة: الحمد لله هو أعطانيها وهو أخذها، وإنها مال الله أعارنيها وهو أولى بها، إذا شاء نزعها. قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى التراب وعريانا أحشر إلى الله عز وجل، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قلبه. قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتا من عند آخرها ومات رعاتها، فجاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه. قال: فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأول، فرد عليه أيوب مثل رده الأول، وجعل إبليس يصف ماله مالا مالا حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه، ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال.

فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على ولده. فانقض عدو الله حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده، وجعل جدره يضرب بعضها بعضا يرميهم بالخشب والحجارة، فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم، وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: يا ليت أمي لم تلدني. فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئا ذليلا وقال: إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال الله عز وجل: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، وكان الله أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب. فانقض عدو الله إبليس سريعا إليه فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة. فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا: تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به. قال: وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى: إنكم تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه الله بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا. فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم، ولا لهوانهم عليه، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول، وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لأمر الله

وإجلالا، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء. قال أيوب عليه السلام: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فإذا نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من الله سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم. وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي. ثم أعرض عنهم أيوب، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، وللفتنة نصيبا، وقد وقع عليّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي. وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه. فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي يا أيوب إن الله يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي. لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا، ما يبلغ لمثله مثلك. أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت أي مقدار قدرتها، أم على أي شيء وضعت أكنافها. أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ وشق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب: صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليّ إلهي. قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء هو الذي أنطقني. ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك. ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك. إنما تكلمت حين تكلمت بعذري، وسكت حين سكت

لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي، أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعينك عن أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني. قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزا للصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فمنه تناول وقرب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. روي عن أنس يرفعه أن أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة، وقال وهب: ثلاث سنين لم يزد يوما، وقال كعب: سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدود، لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بالطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما أحزنك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالا ولا ولدا ولم يزدد إلا صبرا، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا تقربه إلا امرأته، فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له: فأين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا عليّ قالوا: من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امرأة أيوب وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل وقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الديدان في جسده. فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدا، فصرخت فعلم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك الحسن؟ اذبح هذه السخلة واسترح. قال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟ قالت الله قال كم متعنا به قالت ثمانين سنة. قال فمنذ كم ابتلانا قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله. طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام أن أذوق منه شيئا اعزبي عني فلا أراك، فطردها، فذهبت. فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا لله وقارب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين ماء، فاغتسل منها فلم يبق عليه من درنه ودائه شيء ظاهر إلا سقط، وعاد شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا وكسي حلة فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان عليه وما كان له. من أهل ومال إلا وقد ضعفه الله له وذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراد من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها؟ قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا؟ ويضيع فتأكله السباع؟ لأرجعن إليه. فرجعت إليه فلا الكناسة رأت، ولا تلك الحالة التي كانت تعرف، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعيني أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عن أيوب، فدعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري

[سورة الأنبياء (21): آية 84]

أضاع أم ما فعل به؟ فقال أيوب: ما كان منك فبكت وقالت بعلي. فقال هل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت وهل يخفى على أحد رآه ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت: أما إنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا. قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله فرد عليّ ما ترين. وقال وهب: لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء. فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم. قال: هل تعرفيني؟ قالت لا. قال: أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياه ببطن الوادي الذي لقيها فيه. وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها. قال: لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة جلدة وقال عند ذلك: مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. ثم إن الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها، وأراد أن يبر يمين أيوب، فأمره أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغير فيضربها به ضربة واحدة. وقيل: لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء: أحدها: ما قيل في حقه: لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا، والثاني: أن امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها فأتته بطعام، والثالث: قول إبليس: إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني. وقيل مسني الضر أي من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له بعد ما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. فإن قلت كيف سماه الله صابرا وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله مسني الضر وقوله مسني الشيطان بنصب وعذاب؟ قلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء بدليل. [سورة الأنبياء (21): آية 84] فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ والشكوى إنما تكون إلى الخلق لا إلى الخالق بدليل قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقال سفيان بن عيينة: من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعا كما «روي أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فقال كيف تجدك؟ قال: أجدني مغموما وأجدني مكروبا. وقال لعائشة حين قالت: وا رأساه بل أنا وا رأساه» قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وذلك أنه قال له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله فنبعت عين ماء فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل، فنبعت عين ماء بارد، فأمره أن يشرب منها، فشرب، فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما كان وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين: رد الله إليه أهله وأولاده بأعيانهم وأحياهم الله وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن، وعن ابن عباس رواية أخرى أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا. وقيل كان له سبع بنين وسبع بنات. وعن أنس يرفعه أن كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضا. وروى أن الله تعالى بعث إليه ملكا وقال له: إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك، فخرج إليه فأرسل الله عليه جرادا من ذهب فذهبت واحدة

[سورة الأنبياء (21): الآيات 85 إلى 87]

فاتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك ما يكفيك ما في أندرك؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركاته (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكني لا غنى لي عن بركتك». وقيل: آتى الله أيوب مثل أهله الذين هلكوا. قال عكرمة: قيل لأيوب إن أهلك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال: بل يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا. فعلى هذا يكون معنى الآية وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي نعمة وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ يعني عظة وعبرة لهم. قوله عز وجل: [سورة الأنبياء (21): الآيات 85 الى 87] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) وَإِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وَإِدْرِيسَ هو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ لما ذكر الله أمر أيوب وصبره على البلاء أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضا. أما إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فإنه صبر على الانقياد إلى الذبح. وأما إدريس فقد تقدمت قصته. وأما ذو الكفل فاختلفوا فيه فقيل نبيا من بني إسرائيل وكان ملكا أوحى الله إليه إني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل أنه يصلي الليل ولا يفتر ويصوم النهار ولا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل. وقيل: لما كبر اليسع قال إني أستخلف رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي أنظر كيف يعمل قال: فجمع الناس وقال: من يتقبل مني ثلاثا أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا، فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام من الليل والنهار إلا تلك النومة: فدق الباب فقال: من هذا، فقال: شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا، وجعل يطول عليه حتى ذهبت القائلة فقال: إذا رحت فائتني حتى آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلم يره، فلما رجع إلى القائلة وقال وأخذ مضجعه دق الباب فقال: من هذا فقال: الشيخ المظلوم ففتح له وقال له: ألم أقل إذا قعدت فائتني؟ قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك إذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا جلست فائتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النعاس فلما كانت تلك الساعة نام فجاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت فدق الباب من داخل فاستيقظ فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فقال: أتنام والخصوم ببابك، فنظر إليه فعرفه فقال: أعدو الله؟ قال نعم أعييتني وفعلت ما فعلت لأغضبك فعصمك الله فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، واختلف في نبوته فقيل كان نبيا، وهو إلياس وقيل هو زكريا، وقيل إنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعني ما أنعم به عليهم من النبوة وصبرهم إليه في الجنة من الثواب إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 88 إلى 92]

قوله عز وجل: وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت أضيف إلى الحوت لابتلاعه إياه وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن عباس في رواية عنه: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منها تسعة أسباط ونصفا وبقي منهم سبطان ونصف، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك: فمن ترى، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء. قال: يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس: وأمره أن يخرج فقال يونس هل الله أمرك بإخراجي؟ قال لا. قال فهل سماني الله لك؟ قال لا. قال ها هنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك وقومه وأتى بحر الروم فركب وقيل ذهب عن قومه مغاضبا لربه لما كشف عنهم العذاب بعد ما أوعدهم وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب عنهم به فكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذابا لا كراهية لحكم الله. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أنهم يقتلون من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه ما لم يأتهم العذاب للميعاد فذهب مغاضبا. قال ابن عباس: أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم فقال: ألتمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة. وقال وهب: إن يونس كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وقال وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نقضي عليه العقوبة. قاله ابن عباس في رواية عنه وقيل معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس وقيل معناه فظن أنه يعجر ربه فلا يقدر عليه، قيل لما انطلق يونس مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه وكان له سلف وعبادة أبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين ما بين يوم وليلة. وقيل سبعة أيام وقيام ثلاثة. وقيل: إن الحوت ذهب به حتى بلغ تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه وراجع نفسه في بطن الحوت فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي حيث عصيتك وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته وروى أبو هريرة مرفوعا قال أوحى الله تعال إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح هو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول فقال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذلك. [سورة الأنبياء (21): الآيات 88 الى 92] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)

[سورة الأنبياء (21): الآيات 93 إلى 100]

قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي تلك الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا. فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ومنها فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومنها قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت قبل الرسالة أم لا؟ فقال ابن عباس: كانت رسالته بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح. وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضبا فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج. وإن الله تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله، أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلما. وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل والله أعلم. قوله عز وجل وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعا ربه فقال رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ هو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى أي ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما وقيل كانت سيئة الخلق فأصلحها الله تعالى له بأن رزقها حسن الخلق إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وقيل زكريا وأهل بيته، والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله عز وجل وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً يعني أنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين: أحدهما: الفزغ إلى الله لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه. والثاني: الخشوع وهو قوله تعالى وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الوقوع في الإثم. قوله تعالى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وهي مريم بنت عمران فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً أي دلالة لِلْعالَمِينَ على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب، فان قلت هما آيتان فكيف قال آية؟. قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياه من غير أب آية. قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم ودينكم أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني. [سورة الأنبياء (21): الآيات 93 الى 100] وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا حتى لعن بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجزيهم بأعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي لعمله وحافظون له. وقيل: الشكر من الله المجازاة، والكفران ترك المجازاة. قوله عز وجل وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ قال ابن عباس: ومعناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك، وقيل: معناه وحرام على أهل قرية حكمنا بهلاكهم أن نقبل أعمالهم لأنهم لا يتوبون. قوله عز وجل حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يريد فتح السد وذلك أن الله يفتحه أخبر عن يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان، يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يسرعون النزول من كل الآكام والتلال. وفي هذه الكناية وجهان: أحدهما أن المراد بهم يأجوج ومأجوج وهو الأصح بدليل ما روي عن النواس بن سمعان قال «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظننا أنه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر لهم السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأصبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه». قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم «ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى عليه السلام إلى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله فيهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم

شرح غريب ألفاظ الحديث

فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة. ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة» أخرجه مسلم. شرح غريب ألفاظ الحديث قوله حتى ظنناه في طائفة النخل أي ناحية النخل وجانبه والطائفة القطعة من الشيء، وقوله فخفض فيه ورفع خفض صوته ورفعه من شدة ما تكلم به في أمره. وقيل إنه خفض من أمره تهوينا له ورفع من شدة فتنته والتخويف من أمره. قوله إنه شاب قطط أي جعد الشعر وقوله طافئة أي خارجة عن حدها قوله إنه خارج خلة أي إنه يخرج قصدا وطريقا بين جهتين والتخلل الدخول في الشيء. قوله فعاث أي أفسد. قوله اقدروا له قدره أي قدروا قدر يوم من أيامكم المعهودة وصلوا فيه بقدر أوقاته، وقوله فتروح عليهم سارحتهم أي مواشيهم، وقوله فيصبحون ممحلين أي مقحطين قد أجدبت أرضهم وغلت أسعارهم. قوله كيعاسيب النحل جمع يعسوب وهو فحل النحل ورئيسها. قوله فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى بالنشاب. قوله بين مهرودتين رويت بالدال المهملة وبالمعجمة أي شقتين وقيل حلتين وقيل الهرد الصبغ الأصفر بالورس والزعفران. قوله لا يدان لأحد بقتالهم أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم فرسي جمع فريس وهو القتيل. قوله زهمهم أي ريحهم النتنة. قوله كالزلفة أي كالمرآة وجمعها زلف ويروى بالقاف وأراد به استواءها ونظافتها. قوله تأكل العصابة أي الجماعة قيل يبلغون أربعين وقحف الرمانة في الحديث قشرها، والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة الناقة ذات اللبن، والفئام الجماعة من الناس، والفخذ دون القبيلة، وقوله يتهارجون أي يختلفون والتهارج الاختلاف، وأصله القتل. الوجه في تفسير قوله تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قيل جميع الخلائق يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب (م) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلّى الله عليه وسلّم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذكرون قالوا؟ نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم». قوله عز وجل وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي القيامة قال حذيفة لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. الفلو المهر فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل معنى الآية أن القيامة إذا قامت شخص أبصار الذين كفروا من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف هول ذلك اليوم ويقولون يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا يعني في الدنيا حيث كذبنا به وقلنا إنه غير كائن بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي في وضعنا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل إِنَّكُمْ الخطاب للمشركين وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها ووقودها وقيل يرمي بهم في النار كما يرمي بالحصباء وأصل الحصب الرمي أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني الأصنام آلِهَةً أي على الحقيقة ما وَرَدُوها أي ما دخل الأصنام النار وعبدوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني العابدين والمعبودين لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قيل الزفير هو أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس وقيل هو شدة ما ينالهم من العذاب وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر

[سورة الأنبياء (21): الآيات 101 إلى 107]

ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره. [سورة الأنبياء (21): الآيات 101 الى 107] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قال العلماء: إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة أُولئِكَ عَنْها أي عن النار مُبْعَدُونَ قيل: الآية عامة من كل من سبقت له من الله السعادة، وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أفحمه ثم تلا عليه إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآيات الثلاث ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يعني عزيرا والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون الله، ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ أي من النعيم والكرامة خالِدُونَ أي مقيمون. قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قال ابن عباس: يعني النفخة الأخيرة، وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي في الدنيا. قوله عز وجل يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قال ابن عباس: السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر. وقيل: السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل الطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة (ق) عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده» قوله غرلا أي قلفا. وقوله تعالى وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني الإعادة والبعث بعد الموت. قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قيل: الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس: الزبور

[سورة الأنبياء (21): الآيات 108 إلى 112]

والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقيل الزبور: كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمعنى أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء: أن الجنة يرثها من كان صالحا من عباده عاملا بطاعته. وقال ابن عباس: أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها إِنَّ فِي هذا أي في القرآن لَبَلاغاً أي وصولا إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى لِقَوْمٍ عابِدِينَ يعني مؤمنين لا يعبدون أحدا من دون الله تعالى وقيل هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. وقال ابن عباس: عالمين وقيل: هم العالمون العاملون. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل: كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق، وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس: هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن، فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا رحمة مهداة». [سورة الأنبياء (21): الآيات 108 الى 112] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني منقادون لما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله والمراد بهذا الاستفهام الأمر أي أسلموا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا ولم يسلموا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا عَلى سَواءٍ أي إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبد أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم والمعنى آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل معناه لتستووا في الإيمان به وأعلمتكم بما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره وَإِنْ أَدْرِي أي وما أعلم أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يعني يوم القيامة لا يعلمه إلا الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي لا يغيب عن علمه شيء منكم في علانيتكم وسركم وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم بكم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم قالَ رَبِّ احْكُمْ أي افصل بيني وبين من كذبني بِالْحَقِّ أي بالعذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر. وقيل: معناه افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق من الجميع وهو أن تنصرني عليهم والله يحكم بالحق طلب ولم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي من الشرك والكفر والكذب والأباطيل، كأنه سبحانه وتعالى قال قل داعيا إلى رب احكم بالحق، وقل متوعدا للكفار وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الرابع من تفسير الخازن ويليه الجزء الخامس وأوله: تفسير سورة الحج

سورة الحج

سورة الحج وهي مكية غير ست آيات من قوله عزّ وجلّ هذانِ خَصْمانِ إلى قوله وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ وهي ثمان وسبعون آية وألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) قوله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني احذروا عقابه واعملوا بطاعته إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى. قيل: هي من أشراط الساعة قبل قيامها. وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها يَوْمَ تَرَوْنَها أي الساعة وقيل الزلزلة تَذْهَلُ قال ابن عباس تشغل وقيل تنسي كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي كل امرأة معها ولد ترضعه وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام. فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته وَتَرَى النَّاسَ سُكارى على التشبيه وَما هُمْ بِسُكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك». زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار قال رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذ تضع الحوامل، ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» زاد في رواية قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار وأني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا» لفظ البخاري. وفي حديث عمران بن حصين وغيره أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلّى الله

[سورة الحج (22): الآيات 3 إلى 5]

عليه وسلّم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا والناس من بين باك وجالس حزين متفكر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي يوم ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعث النار» وذكر نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال «يدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال: نعم قال ومع كل واحد سبعون ألفا». قوله عزّ وجلّ: [سورة الحج (22): الآيات 3 الى 5] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول للملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا وَيَتَّبِعُ يعني في جداله في الله بغير علم كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ يعني المتمرد المستمر في الشر وفيه وجهان أحدهما: أنهم شياطين الإنس وهم رؤساء الكفر الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أنه إبليس وجنوده كُتِبَ عَلَيْهِ يعني قضى على الشيطان أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ يعني اتبعه فَأَنَّهُ يعني الشيطان يُضِلُّهُ يعني يضل من تولاه عن طريق الجنة وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ وفي الآية زجر عن اتباعه والمعنى كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ يعني شك مِنَ الْبَعْثِ يعني بعد الموت فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذريته من المني وأصلها الماء القليل ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ يعني من دم جامد غليظ وذلك أنّ النطفة تصير دما غليظا ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. قال ابن عباس: أي تامة الخلق وغير تامة الخلق وقيل مصورة وغير مصورة وهو السقط. وقيل: المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط فكأنه سبحانه وتعالى قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تام الصورة والحواس والتخطيط، والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها. وروي عن علقمة عن ابن مسعود موقوفا عليه قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها في الرحم دما ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض يموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه بعمل

[سورة الحج (22): الآيات 6 إلى 13]

أهل الجنة فيدخلها» وقوله تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة وقيل لنبين لكم أنّ تغير المضغة إلى الخلقة هو اختيار الفاعل المختار فإنّ القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أي لا تسقطه ولا تمجه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت خروجه من الرحم تام الخلق ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي وقت الولادة من بطون أمهاتكم طِفْلًا أي صغارا وإنّما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمال القوة والعقل والتمييز وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي قبل بلوغ الكبر وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي الهرم والخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي يبلغ من السن ما يتغير به عقله فلا يعقل شيئا فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال تعالى وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي يابسة لا نبات فيها فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ يعني المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي ارتفعت وذلك أنّ الأرض ترتفع بالنبات وَأَنْبَتَتْ هو مجاز لأن الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل صنف حسن نضير والبهيج هو المبهج وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنّ الله تعالى لمّا ذكر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب فقال تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 6 الى 13] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) ذلِكَ أي ذكرنا ذلك لتعلموا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وإن هذه الأشياء دالة على وجود الصانع وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي إنه إذا لم يستبعد منه إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من كان كذلك كان قادرا على جميع الممكنات وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي ما ذكر من الدلائل لتعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها وأنّها حق وأنّ البعث بعد الموت حق قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني النضر بن الحرث وَلا هُدىً أي ليس معه من الله بيان ولا رشاد وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي ولا كتاب من الله له نور ثانِيَ عِطْفِهِ أي لاوي جنبه وعنقه متبخترا لتكبّره معرضا عما يدعى إليه من الحق تكبّرا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عذاب وهوان وهو أنه قتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ أي يقال له ذلك بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فيعذبهم بغير ذنب والله تعالى على أي وجه أراد يتصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم. قوله عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله، قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد

[سورة الحج (22): الآيات 14 إلى 18]

فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلّا شرا فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائط الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي صحة في جسمه وسعة في معيشته اطْمَأَنَّ بِهِ أي رضي به وسكن إليه وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصونا. وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الظاهر يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ إن عصاه ولم يعبده وَما لا يَنْفَعُهُ أي إن أطاعه وعبده ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والرشد يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فإن قلت قد قال الله تعالى في الآية الأولى يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ وقال في هذه الآية يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما. قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى: ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل: إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل: إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جمادا لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي الناصر والمصاحب المعاشر. قوله عزّ وجلّ: [سورة الحج (22): الآيات 14 الى 18] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ يعني نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم فِي الدُّنْيا أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه وَالْآخِرَةِ أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي بحبل إِلَى السَّماءِ أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي صنيعه وحيلته ما يَغِيظُ أي فليختنق غيظا. وليس هذا على سبيل

(فصل)

الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولكنه كما يقال للحاسد مت غيظا وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سببا يصل به إلى السماء، ثم ليقطع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة. وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه. روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق. ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقا تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشياطين وهو ما عدا الإسلام إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يحكم بينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إنه عالم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلّا وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح: وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه. فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصا من غير فائدة. قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عاما في حق الكل إلّا أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضا فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول: بمعنى الانقياد، والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة. فإن قلت قوله من في السموات ومن في الأرض لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال وكثير من الناس. قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعا دون بعض وهم الذين قال فيهم وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم من السجود تسجد ظلالهم لله عزّ وجلّ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي من يذله الله فلا يكرمه أحد إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. (فصل) هذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها. قوله عزّ وجلّ:

[سورة الحج (22): الآيات 19 إلى 24]

[سورة الحج (22): الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي جادلوا في دينه وأمره واختلفوا في هذين الخصمين فروي عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحين (خ) عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس بن عبادة فيهم نزلت «هذان خصمان اختصموا في ربهم» قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة. قال محمد بن إسحاق: خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم فذكروا أنفسهم قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد ابن عتبة فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل. فلما أتوا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ألست شهيدا يا رسول الله قال: بلى فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول: ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وقال ابن عباس: نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم حسدا فهذه خصومتهم في ربهم وقيل هم المؤمنون والكافرون من أي ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم وقيل الخصمان الجنة والنار (ق) عن أبي هريرة قال قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم» زاد في رواية «وغزاتهم فقال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنّما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم ربك من خلقه أحدا. وأما الجنة فإنّ الله تعالى ينشئ لها خلقا» وللبخاري «اختصمت الجنة والنار» وهذا القول ضعيف والأقوال الأولى أولى بالصحة لأن حمل الكلام على ظاهره أولى وقوله هذان كالإشارة إلى سبب تقدم ذكره وهو أهل الأديان الستة وأيضا فإنه ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته وذكر مآل الخصمين فقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وسمي باسم الثياب. لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب وقيل يلبس أهل النار مقطعات من نار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ

[سورة الحج (22): الآيات 25 إلى 28]

رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار الذي انتهت حرارته يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم والأحشاء وَالْجُلُودُ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوف أحدهم، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يعني سياط من حديد وهي الجزر من الحديد. وفي الخبر «لو وقع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ يعني كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم أُعِيدُوا فِيها يعني ردوا إليها بالمقامع. قيل إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفا وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ يعني تقول لهم الملائكة ذلك والحريق بمعنى المحرق فهذا وصف حال أحد الخصمين وهم الكفار وقال تعالى في وصف الخصم الآخر وهم المؤمنون إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وهو الإبريسم الذي حرم لبسه على الرجال في الدنيا. عن معاوية هو جد بهز بن حكيم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد». أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة». قوله تعالى وَهُدُوا من الهداية يعني أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلّا الله. وقيل هو لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله وقيل إلى القرآن وقيل هو قول أهل الجنة «والحمد لله الذي صدقنا وعده» وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ يعني إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله. قوله عزّ وجلّ: [سورة الحج (22): الآيات 25 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني ويصدون عن المسجد الحرام الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ قال بعضهم ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه وَالْبادِ أي الطارئ المنتاب إليه من غيره واختلفوا في معنى الآية فقيل سواء العاكف فيه والبادي في تعظيم حرامته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة قالوا: والمراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

«يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقيل: المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أنّ المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يزعج أحد أحدا إذا كان قد سبق إلى منزله وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل قال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم فعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها قالوا: إنّ أرض مكة لا تملك لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد وإليه ذهب أبو حنيفة. قالوا: والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم وعلى القول الأول الأقرب إلى الصواب أنه يجوز بيع دور مكة وإجارتها وهو قول طاوس وعمرو بن دينار. وإليه ذهب الشافعي احتج الشافعي في ذلك قوله تعالى: «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق». أضاف الديار إلى مالكيها وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف درهم فدلت هذه النصوص على جواز بيعها وقوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي في المسجد الحرام بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي يميل إلى الظلم قيل الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله. وقيل: هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد وقطع شجر. وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقيل: احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه». أخرجه أبو داود وقال عبد الله بن مسعود في قوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال لو أنّ رجلا همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أنّ رجلا همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. قال السدي: إلّا أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمرو أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله. قوله تعالى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ قال ابن عباس: جعلنا وقيل وطأنا وقيل بينا وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمن الطوفان فلما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء البيت لم يدر أي جهة يبني فبعث الله تعالى ريحا خجوجا «1» فكنست له ما حول البيت عن الأساس وقيل بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فبنى عليه أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له: لا تشرك بي شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ أي من الشرك والأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ أي الذين يطوفون بالبيت وَالْقائِمِينَ أي المقيمين فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي المصلين. قوله عزّ وجلّ وَأَذِّنْ أي أعلم وناد، والأذان في اللغة الإعلام فِي النَّاسِ قال ابن عباس: أراد بالناس أهل القبلة بِالْحَجِّ فقال إبراهيم عليه السلام وما يبلغ صوتي فقال الله عليك الأذان وعلينا الإبلاغ فقام إبراهيم على المقام حتى صار كأطول الجبال وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال يا أيّها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا وروي أنّ إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وزعم الحسن أن المأمور بالتأذين هو محمد صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع (م) عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحج

_ (1). الخجوج للريح الشديد، المراد الملتوية في هبوبها كالخجوجات. اهـ قاموس.

[سورة الحج (22): الآيات 29 إلى 30]

فحجوا» يَأْتُوكَ رِجالًا أي مشاة على أرجلهم جمع راجل وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي ركبانا على الإبل المهزولة من كثرة السير وبدأ بذكر المشاة تشريفا لهم يَأْتِينَ أي جماعة الإبل مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي من كل طريق بعيد فمن أتى مكة حاجا فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه. قوله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قيل العفو والمغفرة وقيل: التجارة وقال ابن عباس: الأسواق وقيل ما يرضى به الله من أمر الدنيا والآخرة وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص عليها من أجل وقت الحج في آخرها. وعن ابن عباس أنها أيام عرفة والنحر وأيام التشريق وقيل: إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني الهدايا والضحايا من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وفيه دليل على أنّ الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأنه التسمية على بهيمة الأنعام عند نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة ليس بواجب وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا فأمر الله بمخالفتهم. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة تطوعا يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال «وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين بدنة ونحر علي ما غبر وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم قوله ما غبر أي ما بقي قوله ببضعة أي بقطعة. واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئا قال الشافعي: لا يأكل منه شيئا وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلّا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند أصحاب الرأي أنه يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما. وقوله تعالى وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ يعني الزمن الذي لا شيء له وقوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 29 الى 30] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد ولبس الثياب والحاج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ. وقال ابن عمر وابن عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها. وقيل المراد منه الوفاء بما نذر وهو على ظاهره وقيل: أراد به الخروج عمّا وجب عليه نذره أو لم ينذره وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أراد به طواف الواجب وهو طواف الإفاضة ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والطواف ثلاثة طواف القدوم وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه (ق) عن عائشة: «إن أول شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حجّ أبو بكر وعمر مثله» (ق) عن ابن عمر «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا». زاد في رواية «ثم يصلي ركعتين يعني بعد الطواف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة». ولفظ أبي داود «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا طاف في الحج أو

[سورة الحج (22): الآيات 31 إلى 34]

العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين». والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق (ق) عن عائشة قالت: «حاضت صفية ليلة النفر فقالت: ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري». قوله عقرى وحلقى معناه عقرها الله أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم: لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر. الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال «أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض» متفق عليه. الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله «بالبيت العتيق» قال ابن عباس وغيره سمي عتيقا لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط، وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي ما نهى الله عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل: حرمات الله ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل: الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجسا لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يعني الكذب والبهتان. وقال ابن عباس: هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك. قوله تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 31 الى 34] حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) حُنَفاءَ لِلَّهِ يعني مخلصين له غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص لله بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت «حنفاء لله غير مشركين به» أي حجوا لله مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ يعني تسلبه وتذهب به أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ يعني تميل وتذهب به فِي مَكانٍ سَحِيقٍ يعني بعيد. ومعنى الآية أنّ من أشرك بالله بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي

[سورة الحج (22): الآيات 35 إلى 40]

من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة. إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق. وقيل معنى الآية من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وقيل شبه الإيمان بالسماء في علوه والذي ترك الإيمان بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس وقول الزور وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعني تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال ابن عباس: شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار، وهو العلامة التي يعرف بها أنها هدى وتعظيمها استسمانها واستحسانها وقيل شعائر الله أعلام دينه وتعظيمها من تقوى القلوب لَكُمْ فِيها أي في البدن مَنافِعُ قيل هي درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها. وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك ورواية عن ابن عباس وقيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء. واختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يجوز ركوبها والحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها فقال يا رسول الله إنّها بدنة فقال: اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة». أخرجاه في الصحيحين. وكذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها. وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلّا أن يضطر إليه وقيل أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة والأسواق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الخروج من مكة وقيل لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعني بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم. وروي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم» ومن قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة. قوله تعالى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرئ بكسر السين يعني مذبحا وهو موضع القربان منسكا بفتح السين وهو إراقة الدم وذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني عند ذبحها ونحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين وإن جاز أكله. قوله عزّ وجلّ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني سموا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُوا يعني أخلصوا وانقادوا وأطيعوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال ابن عباس: المتواضعين وقيل المطمئنين إلى الله وقيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم وقيل هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم فقال تعالى: [سورة الحج (22): الآيات 35 الى 40] الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني خافت من عقاب الله فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ يعني من البلاء والمرض والمصائب ونحو ذلك مما كان من الله تعالى وما كان من غير الله فله أن يصبر عليه وله أن ينتصر لنفسه وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ يعني في أوقاتها محافظة عليها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يتصدّقون. قوله تعالى وَالْبُدْنَ جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها، يريد الإبل الصحاح الأجسام والبقر ولا تسمى الغنم بدنة لصغرها جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يعني من أعلام دينه قيل لأنها تشعر وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي لَكُمْ فِيها خَيْرٌ يعني نفع في الدنيا وثواب في العقبى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها يعني عند نحرها صَوافَّ يعني قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فينحرها كذلك (ق) عن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياما مقيدة سنّة محمد صلّى الله عليه وسلّم» فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يعني سقطت بعد النحر ووقع جنبها على الأرض فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر هو الذي يسأل وعن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل ولا يتعرض. وقيل: القانع هو الذي يسأل والمعتر هو الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم كَذلِكَ يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ يعني لتتمكنوا من نحرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنعام الله عليكم لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى الله تعالى فأنزل الله لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها يعني لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ يعني ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص وهو ما أريد به وجه الله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ يعني البدن لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وهو أن يقول الله: أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس الموحدين. قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم منهم وينصرهم عليهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته. قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا منه شريكا وكفروا نعمه. وقيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته وسمى غير الله عليها فهو خوان كفور. قوله عزّ وجلّ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي أذن الله لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال. وقيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم. فقال تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتعظيم والتمكين لا موجب الإخراج وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي بالجهاد وإقامة الحدود لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء وَبِيَعٌ هي معابد النصارى في البلد وقيل الصوامع للصابئين والبيع للنصارى وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتا

[سورة الحج (22): الآيات 41 إلى 47]

وَمَساجِدُ يعني مساجد المسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يعني في المساجد. ومعنى الآية ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم المساجد وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه ونبيه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ أي على نصر من ينصر دينه عَزِيزٌ أي لا يضام ولا يمنع مما يريده. قوله عزّ وجلّ: [سورة الحج (22): الآيات 41 الى 47] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ هذا وصف أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هم جميع هذه الأمة وقيل هم المهاجرون وهو الأصح لأنه قوله «الذين إن مكناهم» صفة لمن تقدم ذكرهم وهو قوله «الذين أخرجوا من ديارهم» وهم المهاجرون وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه وذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا منازع. قوله تعالى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فيه تسلية وتعزية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى وإن كذبك قومك فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فإن قلت لم قال وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى؟. قلت فيه وجهان أحدهما: أن موسى لم يكذبه قومه وهم بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهو القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم وأخرت العقوبة عنهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبه. قوله عزّ وجلّ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وقرئ أهلكناها على التعظيم وَهِيَ ظالِمَةٌ أي وأهلها ظالمون فَهِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة عَلى عُرُوشِها أي على سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي رفيع طويل عال وقيل مجصص وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن. أما القصر فعلى قمة جبل والبئر في سفحه ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي البئر والقصر خاليين. وقيل إن هذه البئر كانت بحضر موت في بلدة يقال لها: حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضر موت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضر موت. لذلك ولما مات صالح بنو حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا منهم فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله تعالى إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان. وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخرب قصرهم. قوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني ما يذكر لهم من أخبار

[سورة الحج (22): الآيات 48 إلى 52]

القرون الماضية فيعتبرون بها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلوب النافع وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي إنه أنجز ذلك يوم بدر وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس: يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقيل يوما من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود بزيادة فيه وأخرج الترمذي نحوه ومعنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل إن يوما من أيام العذاب في الثقل والاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه وقيل معناه أن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره وهذا معنى قول ابن عباس. [سورة الحج (22): الآيات 48 الى 52] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها يعني أمهلتها وَهِيَ ظالِمَةٌ يعني مع استمرار أهلها على الظلم ثُمَّ أَخَذْتُها يعني أنزلت بهم العذاب وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد وتهديد. قوله عزّ وجلّ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أمر رسول الله أن يديم لهم التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت لكم منذرا فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لما أمر الله الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول «إنما أنا نذير مبين» أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن ووعيد من عصى فقال «فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة» يعني ستر لصغائر ذنوبهم وقيل للكبائر أيضا مع التوبة ورزق كريم يعني لا ينقطع أبدا وقيل هو الجنة وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني عملوا في إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ يعني مثبطين الناس عن الإيمان وقرئ معاجزين يعني معاندين مشاقين وقيل معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قال ابن عباس وغيره من المفسرين: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله عزّ وجلّ سورة والنجم فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه

جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حزنا شديدا وخاف من الله تعالى خوفا كبيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيما وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلّا بجوار أو مستخفيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وَلا نَبِيٍّ النبي هو الذي تكون نبوته إلهاما، أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني في مراده وقال ابن عباس: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا. والمعنى ما من نبي «إلا تمنى» أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقي الشيطان. وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وآخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا». أخرجه البخاري ومسلم وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة. فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني: وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إله غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلّى الله عليه وسلّم قال الله عزّ وجلّ «ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين». الآية الجواب الثالث: في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلا ويفصل الآي تفصيلا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا لصوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذم الأوثان وعيبها وإنهم كانوا يحفظون السورة كما

[سورة الحج (22): الآيات 54 إلى 58]

أولها الله عزّ وجلّ الجواب الرابع: في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول: يكون معنى قوله إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني: وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله «إلا إذا تمنى» أي تلا وهو ما يقع للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا كذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا» وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم. قوله عزّ وجلّ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قوله عزّ وجلّ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف شديد. [سورة الحج (22): الآيات 54 الى 58] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي التوحيد والقرآن والتصديق ينسخ الله ما يشاء أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي أحكم الله من آيات القرآن هو الحق من ربك فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يعتقدوا أنه من الله عزّ وجلّ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي تسكن إليه وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق قويم وهو الإسلام. قوله عزّ وجلّ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة لِلَّهِ وحده من غير منازع ولا مشارك فيه يَحْكُمُ أي يفصل بَيْنَهُمْ ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. قوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي لا ينقطع أبدا وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عزّ وجلّ لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين. قلت قد يسمى غير الله رازقا على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره. [سورة الحج (22): الآيات 59 الى 71] لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنياتهم حَلِيمٌ بالعفو عنهم. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ يعني جازى الظالم بمثل ظلمه وقيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصرهم الله عليهم فذلك قوله تعالى لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يعني عن مساوي المؤمنين غَفُورٌ يعني لذنوبهم ذلِكَ يعني ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ في معنى هذا الإيلاج قولان، أحدهما: أنه يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار وذلك بغيبوبة الشمس ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. القول الثاني: هو ما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر من الساعات وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذو الحق في قوله وفعله، ودينه حق وعبادته حق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ يعني المشركين مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ يعني الأصنام التي ليس عندها ضر ولا نفع وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ أي العالي على كل شيء الْكَبِيرُ أي العظيم في قدرته وسلطانه. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعني بالنبات إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يعني باستخراج النبات من الأرض رزقا للعباد والحيوان خَبِيرٌ يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يعني الدواب التي تركب في البر وَالْفُلْكَ أي وسخر لكم السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ يعني سخر لها الماء والرياح ولولا ذلك ما جرت وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ أي لكيلا تسقط عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا والدين وقد بلغ الغاية في الإنعام والإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أي أنشأكم ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي يوم البعث للثواب والعقاب إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي لجحود

[سورة الحج (22): الآيات 72 إلى 77]

لنعم الله عزّ وجلّ. قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قال ابن عباس شريعة هُمْ ناسِكُوهُ هم عاملون بها وعنه أنه قال عيدا وقيل موضع قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ وقيل معناه لا تنازعهم أنت. قوله تعالى وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى الإيمان به وإلى دينه إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين واضح قويم وَإِنْ جادَلُوكَ يعني خاصموك في أمر الذبح وغيره فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي من التكذيب اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني فتعلمون حينئذ الحق من الباطل وقيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأبى. قوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه الأمة أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعني علمه بجميعه عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي هين وقيل: إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على الله يسير وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم ولا دليل عقلي وَما لِلظَّالِمِينَ يعني المشركين مِنْ نَصِيرٍ يعني مانع يمنعهم من العذاب. [سورة الحج (22): الآيات 72 الى 77] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يعني الإنكار والكراهية يتبين ذلك في وجوههم يَكادُونَ يَسْطُونَ يعني يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء وقيل يبطشوه بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ قُلْ يعني قل لهم يا محمد أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ يعني بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون النَّارُ يعني هي النار وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا. قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلا. وقال في الكشاف قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة فَاسْتَمِعُوا لَهُ يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع والمعنى جعل لي شبيه وشبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً يعني واحدا في صغره وضعفه وقلته لأنها لا تقدر على ذلك وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ يعني لخلقه، والمعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها وصغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا له وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ قال ابن عباس: كانوا يطلون

فصل: في حكم سجود التلاوة هنا

الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه. وقيل: كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه ويأكل منه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم والمطلوب هو الصنم وقيل الطالب الصنم والمطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أو يخلق الذباب لعجز عنه وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ يعني غالب لا يقهر. قوله عزّ وجلّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ يعني يختار من الملائكة رُسُلًا جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم وَمِنَ النَّاسِ يعني يختار الله من الناس رسلا مثل إبراهيم وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل صلّى الله عليهم أجمعين. نزلت حين قال المشركون أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني بأقوالهم بَصِيرٌ يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: ما قدموا وَما خَلْفَهُمْ يعني ما خلفوا وقيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون وقيل يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني في الآخرة. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ يعني وحدوه وقيل أخلصوا له العبادة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وقيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة وحسن القول وغير ذلك من أعمال البر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة. فصل: في حكم سجود التلاوة هنا لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة واختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله في الحج سجدتان قال: «نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص. وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود وقال إسناده واه. ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقرأ وإذا السماء انشقت». أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب. قوله عزّ وجلّ:

[سورة الحج (22): آية 78]

[سورة الحج (22): آية 78] وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قاله ابن عباس: وعنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل الله ولا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهدة النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس هُوَ اجْتَباكُمْ يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرّجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق. وقيل: معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا. وقيل: معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده، قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدا غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج. وقال ابن عباس: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ لأنها داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها فكيف سماه أبا في قوله «ملة أبيكم إبراهيم». قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب لكل المسلمين فهو أبو المسلمين. والمعنى وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله «وأزواجه أمهاتهم» وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما أنا لكم كالوالد» وفي قوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قولان أحدهما: أن الكناية ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن القول الثاني: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فاستجاب الله دعاءه فينا وَفِي هذا أي وفي القرآن سماكم المسلمين لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أن قد بلغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ يعني ثقوا به وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله. وقال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه. وقيل: الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة هُوَ مَوْلاكُمْ يعني وليكم وناصركم وحافظكم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي الناصر لكم والله تعالى أعلم.

سورة المؤمنين

سورة المؤمنين وهي مكية وهي مائة وثمان عشرة آية وألف وثمانمائة وأربعون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. وقال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وارض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عزّ وجلّ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال ابن عباس: مخبتون أذلّاء خاضعون. وقيل خائفون وقيل: متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر. وقيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده. وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله (ق) عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه». وفي رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود والنسائي. وقيل الخشوع هو أن لا يرفع بصره إلى السماء (خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون» رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه». ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر. قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 3 الى 10] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10)

[سورة المؤمنون (23): الآيات 11 إلى 18]

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو وما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا هي العمل الصالح والأول أولى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ على بمعنى من أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال: مكروه سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكرارا وصفهم أولا بالخشوع في الصلاة وآخرا بالمحافظة عليها. قوله عزّ وجلّ أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة هُمُ الْوارِثُونَ يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث. [سورة المؤمنون (23): الآيات 11 الى 18] الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة

ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل: المراد من الإنسان هو آدم، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي حريز وهو الرحم وسمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة له. قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوما ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي مباينا للخلق الأول قال ابن عباس: هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيوانا بعد ما كان جمادا وناطقا بعد ما كان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها فَتَبارَكَ اللَّهُ أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟. قلت الخلق له معان: منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلّا الله تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين. وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيرا وسمّى نفسه خالقا بقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فقال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من تمام الخلق لَمَيِّتُونَ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم. وعن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير

[سورة المؤمنون (23): الآيات 19 إلى 29]

الدين والدنيا وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره. وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندراني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر ما أنبت بالماء فقال تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 19 الى 29] فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بالماء جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي شتاء وصيفا وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشية وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار. وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وأيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ الصبغ الإدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدما وهو الزيتون ودهنا وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة. قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي آية تعتبرون بها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء، وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل عَلَيْها أي وعلى الإبل عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر. قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي ما لكم معبودا سواه أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عقابه إذا عبدتم غيره فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعا وأنتم له تبع وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يعني بإبلاغ الوحي ما سَمِعْنا بِهذا يعني الذي يدعونا إليه نوح فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ يعني جنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ يعني إلى

[سورة المؤمنون (23): الآيات 30 إلى 44]

الموت فتستريحوا منه قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا يعني بمرأى منا قاله ابن عباس. وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله وَوَحْيِنا قيل: إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا يعني عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة، وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور فَاسْلُكْ فِيها يعني فأدخل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني من كل حيوان ذكر وأنثى وَأَهْلَكَ يعني وسائر من آمن بك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يعني وجب عليه العذاب مِنْهُمْ يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قوله عزّ وجلّ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ يعني اعتدلت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ يعني في السفينة فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب. وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك. [سورة المؤمنون (23): الآيات 30 الى 44] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله لَآياتٍ يعني دلالات على قدرتنا وَإِنْ كُنَّا يعني وما كنا لَمُبْتَلِينَ يعني إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد إهلاكهم قَرْناً آخَرِينَ يعني عادا فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني هودا قاله أكثر المفسرين وقيل القرن ثمود والرسول صالح والأول أصح أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ يعني هذه الطريقة التي أنتم عليها مخافة العذاب وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني بالمصير إليها وَأَتْرَفْناهُمْ يعني نعمناهم ووسعنا عليهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ يعني من مشربكم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ يعني لمغبونون أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ يعني من قبوركم أحياء هَيْهاتَ هَيْهاتَ قال ابن عباس أي بعيد بعيد لِما تُوعَدُونَ استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم

[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 إلى 60]

للتفكر في بدء أمرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا قيل معناه نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل معناه يموت قوم ويحيا قوم وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ يعني بعد الموت إِنْ هُوَ يعنون رسولهم إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين بالبعث بعد الموت قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ يعني ليصيرن نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ يعني صيحة العذاب وقيل صاح بهم جبريل فتصدعت قلوبهم وقيل أراد بالصيحة الهلاك فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً هو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان شجر، والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض فَبُعْداً يعني ألزمنا بعدا من الرحمة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قوله عز وجل ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ يعني أقواما آخرين ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها يعني وقت هلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ يعني عن وقت هلاكهم ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا يعني مترادفين يتبع بعضهم بعضا غير متواصلين لأن بين كل رسولين زمنا طويلا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً يعني بالهلاك فأهلكنا بعضهم في أثر بعض وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يعني سمرا وقصصا يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 60] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني بحجة بينة كالعصا واليد وغيرهما إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا يعني تعظموا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً عالِينَ يعني متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم فَقالُوا يعني فرعون وقومه أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا يعنون موسى وهارون وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ يعني مطيعون متذللون فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ يعني بالغرق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني لكي يهتدي به قومه. قوله عزّ وجلّ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً يعني دلالة على قدرتنا لأنه خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد. فإن قلت لم قال آية ولم يقل آيتين. قلت معناه جعلنا شأنهما آية لأن عيسى ولد من غير ذكر وكذلك مريم ولدته من غير ذكر فاشتركا في هذه الآية فكانت آية واحدة وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ يعني مكان مرتفع قيل هي دمشق وقيل هي الرملة وقيل أرض فلسطين وقال ابن عباس هي بيت المقدس. قال كعب بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل هي مصر وسبب الإيواء أنها فرت بابنها إليها. وقوله ذاتِ قَرارٍ يعني منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها وَمَعِينٍ هو الماء الجاري الذي تراه العيون. قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قيل أراد بالرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم وحده وقيل أراد به عيسى عليه السلام وقيل أراد جميع الرسل وأراد بالطيبات الحلال وَاعْمَلُوا صالِحاً أي استقيموا على ما يوجبه الشرع إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيه

[سورة المؤمنون (23): الآيات 61 إلى 71]

تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك فلأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطمعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فإنّى يستجاب لذلك» أخرجه مسلم. قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة وهي الإسلام وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أي فاحذرون وقيل معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم فأمركم واحد وأنا ربكم فاتقون فَتَقَطَّعُوا أي تفرقوا فصاروا فرقا يهودا ونصارى ومجوسا وغير ذلك من الأديان المختلفة أَمْرَهُمْ أي دينهم بَيْنَهُمْ زُبُراً أي فرقا وقطعا مختلفة وقيل معنى زبرا أي كتبا، والمعنى تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي مسرورون معجبون بما عندهم من الدين فَذَرْهُمْ الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في عمايتهم وغفلتهم حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يموتوا أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ أي ما نعطيهم ونجعله لهم مددا من المال والبنين في الدنيا نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي نعجل لهم ذلك في الخيرات ونقدمه ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي إن ذلك استدراج لهم ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي خائفون، والمعنى أنّ المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه. قال الحسن البصري المؤمن جمع إحسانا وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات. وقيل معناه يعملون ما عملوا من أعمال البر وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأنّ أعمالهم لا تقبل منهم أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي إنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون. قال الحسن عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم. عن عائشة قالت: «قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصدّيق ولكن هم الذين يصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات» أخرجه الترمذي، وقوله: [سورة المؤمنون (23): الآيات 61 الى 71] أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي إليها وقال ابن عباس سبقت لهم من الله السعادة وقيل سبقوا الأمم إلى الخيرات. قوله عزّ وجلّ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها من الأعمال، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع الصوم فليفطر وَلَدَيْنا

[سورة المؤمنون (23): الآيات 72 إلى 88]

كِتابٌ هو اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يبين الصدق والمعنى قد أثبتنا عمل كل عامل في اللوح المحفوظ فهو ينطق به ويبينه وقيل هو كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ثم ذكر الكفار فقال تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ أي غفلة وجهالة مِنْ هذا يعني القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم مِنْ دُونِ ذلِكَ يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في قوله إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ هُمْ يعني الكفار لَها أي لتلك الأعمال الخبيثة عامِلُونَ أي لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي رؤساءهم وأغنياءهم بِالْعَذابِ قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر وقيل هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف» إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يصيحون ويستغيثون ويجزعون لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ يعني لا تجزعوا ولا تضجوا اليوم إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ يعني لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ يعني ترجعون القهقرى وتتأخرون عن الإيمان مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال ابن عباس: أي بالبيت الحرام كناية عن غير مذكور أي مستعظمين بالبيت وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدا فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف. وقيل مستكبرين به أي بالقرآن فلم يؤمنوا به والقول الأول أظهر سامِراً يعني أنهم يسمرون بالليل حول البيت وكان عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا أو شعرا ونحو ذلك من القول فيه وفي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تَهْجُرُونَ من الإهجار وهو الإفحاش في القول وقيل معنى تهجرون تعرضون عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن الإيمان به وبالقرآن وقيل هو من الهجر وهو القول القبيح أي تهذون وتقولون ما لا تعلمون أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني أفلم يتدبروا ما جاءهم من القرآن فيعتبرون بما فيه من الدلالات الواضحة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ يعني فأنكروا يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم فكذلك بعثنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون وليس هو كذلك بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ. قوله عزّ وجلّ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ قيل الحق هو الله تعالى والمعنى ولو اتبع الله مرادهم فيما يفعل. وقيل: لو سمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون وقيل: الحق هو القرآن أي لو نزل القرآن بما يحبون وما يعتقدون لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي لفسد العالم بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قال ابن عباس بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ أي شرفهم مُعْرِضُونَ. [سورة المؤمنون (23): الآيات 72 الى 88] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

[سورة المؤمنون (23): الآيات 89 إلى 101]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أي على ما جئتهم به خَرْجاً أي أجرا وجعلا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تقدم تفسيره وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الإسلام وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ أي عن دين الحق لَناكِبُونَ أي لعادلون عنه ومائلون وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي قحط وجدوبة لَلَجُّوا أي لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لم ينزعوا عنه وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا على قريش أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط. فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال: إنهم قد أكلوا القد والعظام وشكا إليه الضر فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ ما خضعوا وما ذلوا لربهم وَما يَتَضَرَّعُونَ أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل هو الموت وقيل هو قيام الساعة إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير. قوله عزّ وجلّ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي لتسمعوا بها وتبصروا وتعقلوا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي لم تشكروا هذه النعم وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تبعثون وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان وقيل جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ما ترون من صنعه فتعتبروا بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي كذبوا كما كذب الأولون، وقيل معناه أنكروا البعث مثل ما أنكر الأولون مع وضوح الأدلة قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي لمحشورون قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ أي هذا الوعد وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي وعد آباؤنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأولين. قوله تعالى قُلْ أي يا محمد لأهل مكة لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من الخلق إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي خالقها ومالكها سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله قُلْ أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي عبادة غيره وقيل معناه أفلا تحذرون عقابه قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي ملك كل شيء وَهُوَ يُجِيرُ أي يؤمن من يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يؤمن من أخافه الله وقيل يمنع هو من يشاء من السوء ولا يمتنع منه من أراده بسوء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي فأجيبوا. [سورة المؤمنون (23): الآيات 89 الى 101] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي فإنّى تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته وكيف يخيل لكم الحق باطلا بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أي بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما يدعون من الشريك والولد مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي من شريك إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم وإذا كان كذلك فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ويقدر على كل شيء ثم نزه نفسه تعالى فقال سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي من إثبات الولد والشريك عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعظم من أن يوصف بما لا يليق به. قوله عزّ وجلّ قُلْ رَبِّ أي يا رب إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي ما وعدتهم من العذاب رَبِّ أي يا رب فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي تهلكني بهلاكهم وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ أي من العذاب لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بالخلة التي هي أحسن وهي الصفح والإعراض والصبر السَّيِّئَةَ يعني أذاهم أمر بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ثم نسخها الله بآية السيف نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي يكذبون ويقولون من الشرك. قوله عزّ وجلّ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أي أمتنع وأعتصم بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي في شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه. قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة». أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحا قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق. قوله ونفخه الكبر وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ. وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عزّ وجلّ أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ قيل المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم. وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أنه استغاث بالله أولا ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلّا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب كَلَّا كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها إِنَّها يعني مسألته الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا ينالها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ معناه أن بينهم وبين الرجعة حجابا ومانعا عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ قال ابن عباس إنها النفخة الأولى نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ

[سورة المؤمنون (23): الآيات 102 إلى 114]

ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية. قال: «يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع. فإن قلت قد قال ها هنا ولا يتساءلون وقال في موضع آخر وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون. قوله عزّ وجلّ: [سورة المؤمنون (23): الآيات 102 الى 114] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أي غبنوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ أي تسفح وقيل تحرق وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته». أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي التي كتبت علينا فلم نهتد وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي عن الهدى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي من النار فَإِنْ عُدْنا أي لما تكره فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها أي أبعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج. قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وروي عن عبد الله بن عمرو «إن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين عاما يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسئوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق». ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعني المؤمنين يَقُولُونَ رَبَّنا

[سورة المؤمنون (23): الآيات 115 إلى 118]

آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي تسخرون منهم وتستهزءون بهم حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي على أذاكم واستتهزائكم في الدنيا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة قالَ يعني أن الله قال للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا وفي القبور عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب فَسْئَلِ الْعادِّينَ يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني قدر لبثكم في الدنيا قوله عزّ وجلّ: [سورة المؤمنون (23): الآيات 115 الى 118] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لعبا وباطلا لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزّ وجلّ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي في دار الآخرة للجزاء. روى البغوي بسنده عن الحسن: «أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بماذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على الجبل لزال» ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزّ وجلّ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك فَإِنَّما حِسابُهُ أي جزاؤه عِنْدَ رَبِّهِ أي هو مجازيه بعلمه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ يعني لا يسعد من جحد وكذب وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.

سورة النور

سورة النور وهي مدنية وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النور (24): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) قوله عزّ وجلّ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدرنا ما فيها من الحدود وقيل أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم، إلى قيام الساعة وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني تتعظون. قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 2 الى 3] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الزنا هو من الكبائر وموجب للحد وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. والشروط المعتبرة في وجوب الحد العقل والبلوغ ويشترط الإحصان في الرجم ويجب على العبد والأمة نصف الحد ولا رجم عليهما لأنه لا يتنصف وقوله فاجلدوا أي فاضربوا يقال جلده إذا ضرب جلده ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم كل واحد منهما أي الزانية والزاني مائة جلدة. وقد وردت السنة بجلد مائة وتغريب عام وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة التغريب إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل مائة جلدة ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب وإن كان الزاني محصنا فعليه الرحم وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقيل معنى الرأفة أن تحفظوا الضرب بل أوجعوهما ضربا وهو قول سعيد بن المسيب والحسن. قال الزهري يجتهد في حد الزنا والفرية أي القذف ويخفف في حد الشرب وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد الفرية دون ذلك في حد الشرب فِي دِينِ اللَّهِ أي في حكم الله. وروي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله وقيل هو من باب التهييج، والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه ومعناه إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود وَلْيَشْهَدْ يعني وليحضر عَذابَهُما أي حدهما إذا أقيم عليهما طائِفَةٌ يعني نفر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قيل أقله رجل واحد فصاعدا وقيل رجلان وقيل ثلاثة وقيل أربعة بعدد شهود الزنا. قوله عزّ وجلّ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ اختلف العلماء في معنى

[سورة النور (24): الآيات 4 إلى 7]

الآية وحكمها فقال قوم قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدينة نساء بغايا هنّ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فنزلت هذه الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهنّ كن مشركات. وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس. وقال عكرمة نزلت في نساء كن بمكة والمدينة لهن رايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي. وكان في الجاهلية ينكح الزانية يتخذها مأكله فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد بن مرثد الغنوي وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له في الجاهلية فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها. فقال مرثد إن الله حرم الزنا قالت فانكحني فقال حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد شيئا فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها». أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة المعنى فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم المراد من النكاح هو الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك. وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ورواية عن ابن عباس قال يزيد بن هارون إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان وقال سعيد بن المسيب وجماعة إن حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في هذا العموم واحتج من جوز نكاح الزانية بما روي عن جابر: «أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها وهي جميلة قال استمتع بها» وفي رواية غيره فأمسكها إذا وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس ولم يرفعه بعضهم قال وهذا الحديث ليس بثابت. وروي أنّ عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام «1» وقيل في معنى الآية إن الفاجر الخبيث لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء وإنما يرغب في نكاح فاجرة خبيثة مثله أو مشركة والفاسقة الخبيثة لا ترغب في نكاح الصلحاء من الرجال وإنما ترغب في نكاح فاسق خبيث مثلها أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين أي صرف الرغبة بالكلية إلى نكاح الزواني وترك الرغبة في الصالحات العفائف محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا حرمة التزوج بالزانية. قوله: [سورة النور (24): الآيات 4 الى 7] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون بالزنا الْمُحْصَناتِ يعني المسلمات الحرائر العفائف ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي يشهدون على الزنا فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً بيان حكم الآية أن من قذف محصنا أو محصنة بالزنا فقال له: يا زاني أو يا زانية أو زنيت فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حرا وإن كان عبدا يجلد أربعين وإن

_ (1). ظن أن المراد بالغلام هنا الشاب الذي قد زنى بها أبى الزواج منها بعد إقامة الحد عليهما اهـ مصححه.

كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. وشرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى لو زنى في عمره مرة واحدة ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك ثم قذفه قاذف فلا حد عليه فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة يشهدون عليه بالزنا سقط الحد عن القاذف لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية. وقد ثبت صدقه وأما الكنايات مثل أن يقول يا فاسق أو يا فاجر أو يا خبيث أو يا مؤاجر أو قال امرأتي لا ترديد لا مس فهذا ونحوه لا يكون قذفا إلا أن يريد ذلك. وأما التعريض مثل أن يقول أما أنا فما زنيت أو ليست امرأتي زانية فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك يجب فيه الحد وقال أحمد هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا. قوله تعالى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه دليل على أنّ القذف من الكبائر لأن اسم الفاسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء فذهب قوم إلى أنّ القاذف ترد شهادته بنفس القذف وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته بعد التوبة قبلت شهادته سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله لقول تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وقالوا هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق وإذا تاب تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق. يروى ذلك عن عمر وابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنّ شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب وقالوا الاستثناء يرجع إلى قوله «وأولئك هم الفاسقون» وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي قالوا بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد قال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه. وذهب الشافعي إلى أنّ حد القذف يسقط بالتوبة. وقال: الاستثناء يرجع إلى الكل وعامة العلماء على أنه لا يسقط الحد بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة. فإن قلت إذا قبلت شهادته بعد التوبة فما معنى قوله أبدا. قلت معنى أبدا ما دام مصرّا على القذف لأنه أبد كل إنسان مدته على ما يليق به كما يقال شهادة الكافر لا تقبل أبدا يراد بذلك ما دام على كفره فإذا أسلم قبلت شهادته. قوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أي يشهدون على صحة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي غير أنفسهم فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ سبب نزول هذه الآية ما روي عن سهل بن الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال لعاصم: أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأل عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة التي سألت عنها فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فجاء عويمر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال مالك قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين». أخرجاه في الصحيحين زاد في رواية ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انظروا إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا وقد صدق عليها. وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه قوله أسحم أي أسود الأدعج الشديد سواد العين مع سعتها وقوله خدلج الساقين أي ممتلئ الساقين غليظهما وقوله، كأنه وحرة بفتح الحاء دويبة كالعظاءة

تلصق بالأرض وأراد بها في الحديث المبالغة في قصره (خ) عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: البينة والحد في ظهرك فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين فانصرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأرسل إليهما. فجاء فقام هلال بن أمية فشهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول الله يعلم إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفها وقال: إنها موجبة قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن». وفي رواية غير البخاري عن ابن عباس قال «لما نزلت والذين يرمون المحصنات» الآية قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ حاجته ويذهب وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. فقال سعد يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا أعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبر الله فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فإنّ الله يأبى إلّا ذلك فقال صدق الله ورسوله قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع أصحابه فقال يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أتاه به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به والله يعلم إني لصادق. وما قلت إلا حقا وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربه قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد بجلد هلال وتبطل شهادته فبينما هم كذلك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ فأنزل الله والذين يرمون أزوجهم إلى آخر الآيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبشر يا هلال فإنّ الله تعالى قد جعل لك فرجا. فقال: كنت أرجو ذلك من الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل فكذبت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال يا رسول الله قد صدقت وما قلت إلّا حقا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاعنوا بينهما فقيل لهلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فقال له عند الخامسة: يا هلال اتق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يحدني عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثم قال للمرأة اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فقال لها عند الخامسة ووقفها اتقى الله إن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما. وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق على الشبه المكروه، وكان أميرا بمصر لا يدرى من أبوه» الأورق هو الأبيض وروى ابن عباس «أن عويمرا لما لاعن زوجته خولة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نودي

بيان حكم الآية

الصلاة جامعة فصلّى العصر ثم قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها لحبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود فقعد. ثم قال لخولة قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة: عضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ثم قال: تحينوا الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق بشريك. بيان حكم الآية إن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية وجوب الحد عليه إن كانت محصنة أو التعزير إن كانت غير محصنة غير أن المخرج منهما مختلف، فإذا قذف أجنبيا أو أجنبية يقام عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة يشهدون بالزنا أو يقر المقذوف بالزنا فيسقط عنه الحد. وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن سقط عنه الحد فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة لأنه الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا بما لا يمكنه إقامة البينة ولا يمكنه الصبر على العار، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه فقال تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وإذا أقام الزوج بينة على زناها أو اعترفت هي بالزنا سقط عنه الحد واللعان إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما بدأ بالرجل فيقيمه ويلقنه كلمات اللعان فيقول: قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه في اللعان ويقول كما يلقنه الإمام. وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول وإن هذا الولد أو هذا الحمل لمن الزنا ما هو مني. ويقول في الخامسة علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإمام لا تحسب فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة وحرمت عليه على التأبيد وانتفى عنه النسب وسقط عنه الحد ووجب على المرأة حد الزنا، فهذه خمسة أحكام تتعلق بلعان الزوج. قوله عزّ وجلّ: [سورة النور (24): الآيات 8 الى 9] وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَيَدْرَؤُا أي يدفع عَنْهَا الْعَذابَ أي الحد أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ حكم الآية أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد وهو إسقاط الحد عنها. ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان. وعند أصحاب الرأي لا حد على من قذف زوجته بل موجبه اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان حبست حتى تلاعن. وعند الآخرين اللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس بل

[سورة النور (24): الآيات 10 إلى 11]

يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة. وعن أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين وبه قال الشافعي وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيما له فيلزمه الحد ويلحقه الولد لكن لا يرتفع تأبيد التحريم. وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب نفسه جاز له أن ينكحها وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل وكل من صح يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا. وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين فإن كان أحد الزوجين رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما وظاهر القرآن حجة لمن قال: يجري اللعان بينهما لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه ويغلظ اللعان بأربعة أشياء بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان وأن يكون بمحضر جماعة من الناس، أما تعدد الألفاظ فيجب ولا يجوز الإخلال بشيء منها، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن فإن كان بمكة فبين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر، وأما الزمان فهو أن يكون بعد العصر، وأما الجمع فأقله أربعة والتغليظ بالجمع مستحب فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان. قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 10 الى 11] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لعاجلكم بالعقوبة ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ أي يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة حَكِيمٌ أي فيما فرضه من الحدود. قوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات سبب نزولها ما روي عن ابن شهاب قال حدّثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا. وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا قالوا: قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت عائشة: أقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه

كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين». وفي رواية «موغرين في نحر الظهيرة قالت فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ثم ينصرف فذلك الذي يريبني منه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت: أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: يا هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كيف تيكم قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيت أبوي قالت فقلت لأمي يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به فقالت: يا بنية هوني على نفسك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت: فقلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي قالت: ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال أسامة هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت له بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله قالت: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي وفي رواية في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي قالت: فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: أنا أعذرتك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج. أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت فتشهّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى

حل غريب ألفاظ هذا الحديث

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال: قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وإن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم والله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قال فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله وفي رواية قال أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت: فأنزل الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات في براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط زاد في رواية قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط قالت: ثم قتل بعد في سبيل الله شهيدا». هذا حديث متفق على صحته أخرجاه في الصحيحين زاد البخاري في رواية عن عروة: عن عائشة «والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول وقال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقرره ويشيعه ويستوشيه قال عروة لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى. قال عروة كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال: فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء أخرجاه من حديث مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان ينشدها شعرا ببيت من أبياته فقال: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت عائشة: لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها: تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قالت وأي عذاب أشد من العمى. وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حل غريب ألفاظ هذا الحديث قوله: وكلهم حدثني طائفة أي قطعة من حديثها، قوله كان أوعى أي أحفظ له، قولها آذن أي أعلم

بالرحيل، قولها فإذا عقد لي من جزع أظفار وهو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، قولها لم يهبلن أي يكثر لحمهن فيثقلن، قولها إنما يأكلن العلقة من الطعام هو بضم العين أي البلغة من الطعام وهو قدر ما يمسك الرمق، قولها وليس بها منهم داع ولا مجيب أي ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جوابا، قولها فتيممت أي قصدت قولها قد عرس من وراء الجيش فأدلج، التعريس نزول المسافر في آخر الليل للراحة والإدلاج بالتشديد سير آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، قولها باسترجاعه هو قوله «إنا لله وإنا إليه راجعون» قولها فخمرت أي غطيت وجهي بجلبابي أي إزاري، قولها موغرين في نحر الظهيرة الوغرة شدة الحر وكذا نحر الظهيرة أي أولها، قولها والناس يفيضون أي يخوضون ويتحدثون، قولها وهو يريبني يقال رابني الشيء يريبني أي شككت فيه، قولها ولا أرى من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللطف أي الرفق بها واللطف في الأفعال الرفق وفي الأقوال لين الكلام، قولها حتى نقهت أي أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضي فيها الحاجة من غائط وبول وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أو خز، قولها تعس مسطح أي عثر وهو من الدعاء على الإنسان أي سقط لوجهه، قولها يا هنتاه أي بلهاء كأنها تنسبها إلى البله وقلة المعرفة، قولها لا يرقأ لي دمع أي لا ينقطع وقول بريرة إن رأيت بمعنى النفي أي ما رأيت منها أمرا أغمصه بالصاد المهملة أي أعيب والداجن الشاة التي تألف البيت وتقيم به: قوله صلّى الله عليه وسلّم: من يعذرني أي من يقوم بعذري إن أنا كافأته على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت فلا تلوموني على ذلك قولها وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه أي من قبيلته قولها ولكن احتملته الحمية أي حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة، قولها فتثاور الحيان أي ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة، قولها فلم يزل يخفضهم أي يهون عليهم ويسكن، قوله صلّى الله عليه وسلّم إن كنت ألممت قيل هو من اللمم وهو صغائر الذنوب وقيل معناه مقارفة الذنب من غير فعل، قولها قلص دمعي أي انقطع جريانه، قولها ما رام أي ما برح من مكانه والبرحاء الشدة والكرب والجمانة وجمعها جمان فسري عنه أي كشف عنه وقول زينب أحمي سمعي وبصري أي أمنعهما أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر، قولها وهي التي كانت تساميني من السمو وهو العلو والغلبة فعصها الله أي منعها من الوقوع في الشر بالورع وقول الرجل ما كشفت من كنف أي من ستر أنثى قوله ويستوشيه أي يستخرجه بالبحث عنه والاستقصاء فيه وقول حسان في عائشة حصان بفتح الحاء يقال امرأة حصان أي متعففة رزان أي ثابتة ما تزن أي ترمي ولا تتهم بريبة أي بأمر يريب الناس حيية وتصبح غرثى أي جائعة والغرث الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة، والمعنى أنها لا تغتاب أحدا مما هو غافل عن مثل هذا الفعل وقول عائشة في حسان إنه كان ينافح أي يناضل ويخاصم عن الله ورسوله: وأما التفسير فقوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بالكذب والإفك أسوأ الكذب لكونه مصروفا عن الحق وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء والمدح بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والعلم والديانة فمن رماها بالسوء فقد قلب الحق بالباطل وجاء بالإفك، عصبة أي جماعة منكم أي عبد الله بن أبي ابن سلول ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش زوجة طلحة ابن عبيد الله. فإن قلت عبد الله بن أبي ابن سلول كان رأس المنافقين فكيف قال منكم. قلت كان ينسب إلى الإيمان في الظاهر وقيل قوله منكم خرج مخرج الأغلب فإنّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة كانوا من المؤمنين المخلصين لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ يعني الإفك الخطاب لعائشة وصفوان وقيل لعائشة ولأبويها وللنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أن الله آجركم على ذلك وأظهر براءتكم وشهد بكذب العصبة وأوجب لهم الذم وهذا غاية الشرف والفضل لكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ يعني تحمل معظمه وبدأ بالخوض فيه وأقام بإشاعته وهو عبد الله بن أبي ابن سلول مِنْهُمْ من العصبة لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني عذاب النار في الآخرة روي «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا جميعا ثمانين ثمانين». قوله عزّ وجلّ:

[سورة النور (24): الآيات 12 إلى 21]

[سورة النور (24): الآيات 12 الى 21] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ يعني الحديث الكذب وهو قول أهل الإفك ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ بإخوانهم وأهل دينهم خَيْراً والمعنى كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظن ولا يسرعوا في التهمة وقول الزور فيمن عرفوا عفته وطهارته وفيه معاتبة للمؤمنين وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ يعني كذب بين لا حقيقة له لَوْلا يعني هلا جاؤُ عَلَيْهِ يعني على ما زعموا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يعني يشهدون بذلك فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ يعني في حكم الله هُمُ الْكاذِبُونَ وهذا من باب الزواجر. فإن قلت كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت. قلت قيل هذا في حق الذين رموا عائشة خاصة ومعناه فأولئك هم الكاذبون في غيبي. وعلمي وقيل معناه فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب والقاذف إذا لم يأت بالشهود يجب زجره. قوله تعالى لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ معناه لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم به من حديث الإفك والخطاب للقذفة وهذا الفضل هو تأخير العذاب وقبول التوبة ممن تاب إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا فيتلقونه تلقيا يلقيه بعضهم إلى بعض وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي من غير أن تعلموا أنه حق وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي وتظنون أنه سهل لا إثم فيه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي في الوزر وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ قيل هو للتعجب وقيل هو للتنزيه هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي كذب عظيم يبهت ويحير من عظمه. روي أن أم أيوب الأنصاري قالت لأبي أيوب الأنصاري: ما بلغك ما يقول الناس في عائشة فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس يحرم الله عليكم وقيل ينهاكم الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي في الأمر والنهي وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأمر عائشة وصفوان حَكِيمٌ أي حكم ببراءتهما. قوله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي يظهر الزنا ويذيع فِي الَّذِينَ آمَنُوا قيل الآية مخصوصة بمن قذف عائشة والمراد بالذين آمنوا جميع المؤمنين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا يعني الحد والذم على فعله وَالْآخِرَةِ أي وفي الآخرة لهم النار وَاللَّهُ يَعْلَمُ أي كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله وَأَنْتُمْ

[سورة النور (24): الآيات 22 إلى 26]

لا تَعْلَمُونَ وقيل معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه على ذلك وأنتم لا تعلمون ذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني لولا إنعامه عليكم لعاجلكم بالعقوبة قال ابن عباس يريد مسطحا وحسان بن ثابت وحمنة وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني آثاره ومسالكه وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ يعني بالقبائح من الأقوال والأفعال وكل ما يكره الله عزّ وجلّ والآية عامة في حق كل أحد لأن كل مكلف ممنوع من ذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً يعني ما طهر ولا صلح والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا أخبر الله تعالى أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد وقيل الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل. وهذا قول ابن عباس قال معناه ما قبل توبة أحد منكم أبدا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يعني يطهر مَنْ يَشاءُ من الذنب بالرحمة والمغفرة وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالكم عَلِيمٌ يعني بما في قلوبكم قوله: [سورة النور (24): الآيات 22 الى 26] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) وَلا يَأْتَلِ يعني ولا يحلف من الألية وهي القسم أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يعني الغنى يعني أبا بكر الصديق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني مسطحا وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر الصديق حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله هذه الآية وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا يعني عن خوض مسطح في أمر عائشة أَلا تُحِبُّونَ يخاطب أبا بكر أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلما قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر قال بل أنا أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها عنه أبدا. وفي الآية أدلة على فضل أبي بكر الصديق لأن الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح وذكره بلفظ الجمع في قوله أولوا الفضل وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم وهذا يدل على علو شأنه ومرتبته منها أنه احتمل الأذى من ذوي القربى ورجع عليه بما كان ينفقه عليه وهذا من أشد الجهاد لأنه جهاد النفس. ومنها أنه تعالى قال في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فاعف عنهم واصفح» وقال في حق أبي بكر: «وليعفوا وليصفحوا» فدل أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأخلاق. وفي الآية دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ويكفّر عن يمينه ومنه الحديث الصحيح «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه». قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني العفائف الْغافِلاتِ يعني عن الفواحش والغافلة، عن الفاحشة هي التي لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها الْمُؤْمِناتِ وصفها بالمؤمنات لعلو شأنها لُعِنُوا يعني عذبوا فِي الدُّنْيا بالحد وَالْآخِرَةِ يعني وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهذا في حق عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وروي عن حصيف قال قلت لسعيد بن جبير من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة قال ذاك لعائشة وأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة دون سائر المؤمنات ليس في ذلك توبة ومن قذف امرأة مؤمنة

[سورة النور (24): الآيات 27 إلى 30]

فقد جعل الله له توبة ثم قرأ «والذين يرمون المحصنات» إلى قوله تابوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة وقيل بل لهم توبة أيضا للآية يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ هذا قبل أن يختم على أفواههم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ يروي أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا وهو قوله بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ يعني جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يعني الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء وقيل معناه يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا وقال ابن عباس وذلك أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين. قوله عزّ وجلّ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ قال أكثر المفسرين معنى الخبيثات الكلمات والقول للخبيثين من الناس ومثله وَالْخَبِيثُونَ أي من الناس لِلْخَبِيثاتِ من القول وَالطَّيِّباتُ أي من القول ومعنى الآية أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس. والطيب من القول لا يليق إلا بالطيب من الناس وعائشة لا يليق بها. الخبيث من القول لأنها طيبة فيضاف إليها طيب القول من الثناء والمدح وما يليق بها وقيل معناه لا يتكلم بالخبيث إلا الخبيث من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ولا يتكلم بالطيب من القول إلا الطيب من الرجال والنساء. وهذا مدح للذين يرونها بالطاهر والمدح لها وقيل معنى الآية الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء أمثال عبد الله بن أبي المنافق والشاكين في الدين والطيبات من النساء لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ يريد عائشة طيبها الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ يعني عائشة وصفوان ذكرهما الله بلفظ الجمع منزهون مِمَّا يَقُولُونَ يعني أصحاب الإفك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي عفو لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة روي أنّ عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سفرة حرير وقال هذه: زوجتك. وروي أنه أتى بصورتها في راحته. ومنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج بكرا غيرها وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف ونزلت براءتها من السماء وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول حدثتني الصديقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرأة من السماء. قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 27 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ويقول تستأنسوا خطأ من الكاتب وفي هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر والاستئناس في اللغة الاستئذان. وقيل الاستئناس طلب الإنس وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنه إني داخل وقيل هو من آنست أي أبصرت وقيل هو أن يتكلم بتسبيحة أو يتنحنح حتى يعرف أهل البيت وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها بيان حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد الاستئذان والسلام. واختلفوا في أيهما يقدم فقيل يقدم الاستئذان فيقول أدخل سلام عليكم كما في الآية من تقديم الاستئذان قبل السلام. وقال الأكثرون يقدم السلام فيقول سلام عليكم أأدخل

وتقدير الآية حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكذا هو في مصحف ابن مسعود وروي عن كند بن حنبل قال: «دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ولم أسلّم ولم أستأذن فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل» أخرجه أبو داود والترمذي وعن ربعي بن حراش قال «جاء رجل من بني عامر فاستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في البيت فقال ألج فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخادمه اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». أخرجه أبو داود (ق) عن أبي سعيد وأبيّ ابن كعب عن أبي موسى قال أبو سعيد: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت قال ما منعك قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال أبي بن كعب فو الله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك. قال الحسن الأول إعلام والثاني مؤامرة والثالث استئذان بالرجوع عن عبد الله بن بسر قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن» أخرجه أبو داود وقيل إذا وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلّا قدم الاستئذان ثم يسلم. وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم يدل عليه ما روي «عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أستأذن على أمي؟ قال نعم فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها» أخرجه مالك في الموطأ مرسلا وقوله تعالى ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي فعل الاستئذان خير لكم وأولى بكم من التهجم بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي هذه الآداب فتعملوا بها. قوله عزّ وجلّ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي البيوت أَحَداً أي يأذن لكم في دخولها فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي في الدخول وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا يعني إذا كان في البيت قوم وكرهوا دخول الداخل عليهم فقالوا ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازما هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي الرجوع هو أطهر وأصلح لكم فإنّ للناس أحوالا وحاجات يكرهون الدخول عليهم في تلك الأحوال وإذا حضر إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا جاز. كان ابن عباس يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف على الباب فلا ينظر من شقه إذا كان الباب مردودا (ق) «عن سهل بن سعد قال «اطلع رجل من جحر في باب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدرى يرجل وفي رواية يحك به رأسه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر» (ق) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه» وفي رواية النسائي قال «لو أن أمرأ أطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك حرج» وقال مرة أخرى جناح وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من الدخول بالإذن ولما نزلت آية الاستئذان قالوا كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ يعني إثم أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يعني بغير استئذان فِيها مَتاعٌ لَكُمْ يعني منفعة لكم قيل إن هذه البيوت هي الخانات والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم فيها فيجوز دخولها بغير استئذان ولمنفعة النزول بها واتقاء الحر والبرد وإيواء الأمتعة بها.

[سورة النور (24): آية 31]

وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو منفعتها فليس فيها استئذان. وقيل هي جميع البيوت التي لا ساكن فيها لأن الاستئذان إنما جعل لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك جاز له الدخول بغير استئذان وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يعني عما لا يحل النظر إليه قيل معناه يغضوا أبصارهم. وقيل من هنا للتبعيض لأنه لا يجب الغض عما يحل إليه النظر وإنما أمروا أن يغضوا عما لا يحل النظر إليه (م) عن جرير قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة قال: «اصرف بصرك» عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي (م) عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وقوله تعالى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ يعني عما لا يحل. قال أبو العالية كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا في هذا الموضع فإن أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه. فإن قلت كيف أدخل من على غض البصر دون حفظ الفرج. قلت فيه دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وثديهن وأعضادهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات في البيع والأجنبية يجوز النظر إلى وجهها وكفيها للحاجة إلى ذلك وأما أمر الفروج فمضيق وكفاك أن أبيح النظر إلّا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه. فإن قلت كيف قدم غض البصر على حفظ الفرج. قلت لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد ولا يكاد أحد يقدر على الاحتراس منه ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ يعني غض البصر وحفظ الفرج إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم قوله عزّ وجلّ: [سورة النور (24): آية 31] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يعني عما لا يحل لهن. روي عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجبا منه فقلنا: يا رسول الله أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه» أخرجه الترمذي وأبو داود. قوله تعالى وَلا يُبْدِينَ يعني لا يظهرن زِينَتَهُنَّ يعني لغير المحرم وأراد بالزينة الخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها والمراد من الزينة النظر إلى مواضعها من البدن إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها يعني من الزينة قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي الوجه والكفان. وقال ابن مسعود هي الثياب. وقال ابن عباس هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليه للضرورة مثل تحمل الشهادة ونحوه من الضرورات إذا لم يخف فتنة وشهوة فإن خاف شيئا من ذلك غض البصر وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة وسائر بدنها عورة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ يعني ليلقين بمقانعهن عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني موضع الجيب

وهو النحر والصدر يعني ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وأقراطهن وصدورهن (خ) عن عائشة قالت: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله «وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها» المرط كساء من صوف أو خز أو كتان وقيل هو الإزار وقيل هو الدرع وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال ابن عباس لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن أو آبائهن أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنية ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة. ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته غير أنه يكره له النظر إلى فرجها أَوْ نِسائِهِنَّ يعني المؤمنات من أهل دينهن أراد به أن يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة ما بين السرة والركبة ولا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتجرد من ثيابها عند الذمية أو الكافرة لأن الله تعالى قال أو نسائهن والذمية أو الكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين فكانت أبعد من الرجل الأجنبي كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات. وقيل يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قيل هو عبد المرأة فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا وأن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم. وهو ظاهر القرآن يروى ذلك عن عائشة وأم سلمة: وروى أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم «أتى إلى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وقيل: هو كالأجنبي معها وهو قول سعيد بن المسيب. قال والمراد من الآية الإماء دون العبيد أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قرئ غير بنصب الراء وقيل هو بمعنى الاستثناء ومعناه يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة وقرئ غير بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب الحاجة والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء وقال ابن عباس هو الأحمق العنين وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب والخصي وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنث (م) عن عائشة رضي الله عنها: «قالت كان يدخل على أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل عليكن هذا فاحجبوه زاد أبو داود في رواية وأخرجوه إلى البيداء يدخل كل جمعة فيستطعم» قوله أقبلت بأربع أي أن لها في بطنها أربع عكن فهي تقبل إذا أقبلت بها وأراد بالثمان أطراف العكن الأربع من الجانبين وذلك صفة لها بالسنون أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر وقيل لم يطيقوا أمر النساء وقيل لم يبلغوا حد الشهوة وقيل الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قيل كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها فنهين عن ذلك وقيل إن الرجل تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن وقد علل ذلك بقوله تعالى: لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم به ما عليهن من الحلي وغيره وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أي من التقصير الواقع في أمره ونهيه وراجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة قيل إن أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد فلا ينفك عن تقصير يقع منه فلذلك وصى المؤمنين بالتوبة والاستغفار ووعد بالفلاح إذا تابوا واستغفروا فذلك قوله تعالى

[سورة النور (24): آية 32]

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (م) عن الأغر أغر مزينة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «توبوا إلى ربكم فو الله إني لأتوب إلى ربي تبارك وتعالى مائة مرة في اليوم» عن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المجلس يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة» أخرجه عبد الرحمن بن حميد الكشي (ق) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» (م) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه». قوله عزّ وجلّ: [سورة النور (24): آية 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ جمع الأيم يطلق على الذكر والأنثى وهو من لا زوج له من رجالكم ونسائكم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ أي من عبيدكم وَإِمائِكُمْ بيان حكم الآية الأمر المذكور في الآية أمر ندب واستحباب لإجماع السلف عليه فيستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبته أن يتزوج وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». الباءة النكاح ويكنى به عن الجماع أيضا والوجاء بكسر الواو رض الأنثيين وهو نوع من الخصاء شبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» أخرجه أبو داود والنسائي (م) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة أفضل له من النكاح عند الشافعي وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل. قال الشافعي: قد ذكر الله عبدا أكرمه فقال وسيدا حصورا وهو الذي لا يأتي النساء وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح وفي الآية دليل على أن تزويج الأيامى إلى الأولياء لأن الله خاطبهم به كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات. وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم روي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وجوز أصحاب الرأي للمرأة تزويج نفسها وقال مالك إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها وإن كانت شريفة فلا والدليل على أن الولي شرط في النكاح ما روي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» أخرجه أبو داود والترمذي ولهما عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن تشاحوا فالسلطان ولي من لا ولي له». وقوله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قيل الغنى هنا القناعة وقيل: هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة وقال عمر بن الخطاب. عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح والله تعالى يقول إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال بعضهم إن الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله» وقال «وإن يتفرقا يغني كلا من سعته» وَاللَّهُ واسِعٌ يعني أنه ذو الإفضال والجود عَلِيمٌ أي بما يصلح خلقه من الرزق قوله تعالى:

[سورة النور (24): آية 33]

[سورة النور (24): آية 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً يعني ليطلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من الصدق والنفقة حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني يوسع عليهم من رزقه وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ يعني يطلبون المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ سبب نزول هذه الآية أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها وقتل يوم حنين في الحرب، بيان حكم الآية وكيفية المكاتبة وذلك أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال ويسمى مالا معلوما تؤدي ذلك في نجمين أو في نجوم معلومة في كل نجم كذا فإذا أديت ذلك فأنت حر ويقبل العبد ذلك، فإذا أدى العبد ذلك المال عتق ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة وإذا عتق بأداء المال فما فضل في يده من المال فهو له ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق وما في يده من المال فهو لسيده لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» أخرجه أبو داود وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ أمر إيجاب يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرا إذا سأل العبد ذلك على قيمته أو على أكثر من قيمته وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه وكان كثير المال فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه فدعاه عمر فقال له: كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا فكاتبوهم إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فكاتبه وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي لأنه عقد جوز إرفاقا بالعبد ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل فيحصل المقصود. وجوز أبو حنيفة الكتابة إلى نجم وحالة واحدة واختلفوا في معنى قوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فقال ابن عمر قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقيل مالا، روي أن عبدا لسلمان الفارسي قال له: كاتبني قال ألك مال قال لا قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه قيل لو أراد به المال لقال أن علمتم لهم خيرا وقيل صدقا وأمانة. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمنع من المكاتبة إذا كان هكذا وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله». أخرجه الترمذي والنسائي وقيل معنى الخير أن يكون العبد عاقلا بالغا فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق وقوله تعالى وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قيل هو خطاب للموالي فيجب على السيد أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئا وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة. وبه قال الشافعي ثم اختلفوا في قدر ما يحط فقيل يحط الربع وهو قول علي ورواه بعضهم مرفوعا. وقال ابن عباس: يحط الثلث وقال الآخرون: ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وبه قال الشافعي قال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم أخرجه مالك في الموطأ. وقال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ويضع عنه من آخر كتابته ما أحب وقال بعضهم هو أمر استحباب والوجوب أظهر وقيل أراد بقوله وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات وهو قوله وفي الرقاب أراد به المكاتب وهو قول الحسن وزيد بن أسلم. وقيل: هو حث لجميع الناس على مؤنتهم واختلف العلماء فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقا وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال عمر بن عبد العزيز

[سورة النور (24): الآيات 34 إلى 35]

والزهري وقتادة وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقال قوم: إن ترك وفاء ما بقي عليه من مال الكتابة كان حرا وإن فضل له مال كان لأولاده الأحرار. وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء وقد وجد وتتبعه أولاده وأكسابه كما في الكتابة الصحيحة لأن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم. وقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي إماءكم عَلَى الْبِغاءِ أي الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً الآية (م) عن جابر قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا قال فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وفي رواية أخرى أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال المفسرون: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان يقال لهما مسيكة ومعاذة وكان يكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه فأنزل الله هذه الآية وروي أن إحدى الجاريتين جاءت ببرد، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاء الإسلام، وحرم الزنا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكتا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف العلماء في معنى قوله إن أردن تحصنا على أقوال أحدها: أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطا فيه الثاني: إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأمّا إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا الثالث: أن إن بمعنى إذا أي إذا أردن وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنا، كقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذا كنتم القول الرابع: أن في هذه الآية تقديما وتأخيرا تقديره وأنكحوا الأيامى منكم إن أردتم تحصنا، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا أي لتطلبوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي من أموال الدنيا يريد كسبهن، وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ يعني على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني للمكرهات والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن والله لهن والله. قوله تعالى: [سورة النور (24): الآيات 34 الى 35] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي من الحلال والحرام وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي شبها من حالكم بحالهم أيها المكذبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من كان قبلهم من المكذبين وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي المؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر. قوله عزّ وجلّ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: معناه الله هادي السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون وقيل معناه الله منور السموات والأرض، نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء وقيل: معناه مزين السموات والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال: زين الأرض

فصل في بيان التمثيل المذكور في الآية

بالنبات والأشجار، وقيل: معناه إن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر: إذا سار عبد الله عن مرو ليلة ... فقد سار عنها نورها وجمالها مَثَلُ نُورِهِ أي مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدي به وقال ابن عباس مثل نوره الذي أعطى المؤمن، وقيل الكناية عائدة إلى المؤمن أي مثل نور قلب المؤمن وقيل أراد بالنور القرآن وقيل هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو الطاعة سمي طاعة الله نورا، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفا وتفصيلا كَمِشْكاةٍ هي الكوة التي لا منفذ لها قيل: هي بلغة الحبشة فِيها مِصْباحٌ أي سراج وأصله من الضوء الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يعني القنديل وإنما ذأر الزجاجة لأن النور، وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج ثم وصف الزجاجة، فقال تعالى الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ من درأ الكوكب إذا اندفع منقضا، فيتضاعف نوره في تلك الحال، وفي ذلك الوقت وقيل هو من درأ النجم إذا طلع، وارتفع وقيل دري أي شديد الإنارة نسب إلى الدر، في صفائه وحسنه وإن كان الكوكب أضوأ من الدر لكنه يفضل الكوكب بصفائه كما يفضل الدر على سائر اللؤلؤ وقيل الكوكب الدري أحد الكواكب الخمسة السيارة، التي هي زحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد، قيل: شبهه بالكواكب ولم يشبهه بالشمس والقمر، لأنهما يلحقهما الكسوف بخلاف الكواكب يُوقَدُ أي اتقد المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي من زيت شجرة مباركة كثيرة البركة، وفيها منافع كثيرة لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو إدام وهو أصفى الأدهان وأضوأها، وقيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقيل: أراد به زيتون الشام لأنها هي الأرض المباركة، وهي شجرة لا يسقط ورقها، عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» أخرجه الترمذي. وقوله لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي ليست شرقية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة، إذا طلعت بل مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها، وعند غروبها فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا معنى قول ابن عباس وقيل معناه أنها ليست في مقنأة لا تصيبها الشمس، ولا في مضحاة لا يصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل وقيل معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد وقيل معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض، لا شرقي ولا غربي وقيل ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أي من صفائه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي قبل أن تمسه النار نُورٌ عَلى نُورٍ أي نور المصباح على نور الزجاجة. فصل في بيان التمثيل المذكور في الآية اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل، فقيل: المراد به الهدى ومعناه أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، والرقة والبياض فإذا كان كذلك كان كاملا في صفائه، وصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى وقيل وقع هذا التمثيل لنور محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم به أنه نبيّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار وروي عن ابن عمر في هذه الآية قال المشكاة: جوف محمد صلّى الله عليه وسلّم والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي جعله الله فيه لا شرقية ولا غربية، لا يهودي ولا نصراني توقد من شجرة مباركة إبراهيم نور على نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم: وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم،

[سورة النور (24): آية 36]

والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين سمى الله محمدا مصباحا، كما سماه سراجا منيرا والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام لأن أكثر الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية، يعني إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما لأن اليهود تصلّي إلى الغرب، والنصارى تصلّي إلى الشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلّى الله عليه وسلّم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم، وقيل وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن قال أبيّ بن كعب، هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن توقد من شجرة مباركة هي شجرة الإخلاص لله وجده فمثله مثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة نضرة، لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن، قد احترس أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق يكاد زيتها يضيء أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه، نور على نور قال أبي: فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور، وعمله نور ومدخله نور، ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونور على نور، وقال الكلبي: نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله. وقيل نور الإيمان ونور القرآن وقيل هذا مثل القرآن فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح فكذلك يهتدى بالقرآن والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة المعرفة في قلبه، يكاد زيتها يضيء أي نور المعرفة يشرق في قلب المؤمن، ولو لم يمسسه النار وقيل تكاد حجة القرآن تتضح، وإن لم يقرأ نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور. قوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس: لدين الإسلام وهو نور البصيرة وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي يبين الله الأشياء للناس تقريبا إلى الأفهام، وتسهيلا لسبيل الإدراك وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قوله عزّ وجلّ: [سورة النور (24): آية 36] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) فِي بُيُوتٍ أي ذلك المصباح يوقد في بيوت والمراد بالبيوت جميع المساجد، قال ابن عباس: المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض وقيل: المراد بالبيوت أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ومسجد المدينة بناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومسجد قباء أسس على التقوى وبناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي تبنى وقيل: تعظم فلا يذكر فيها الخنى من القول وتطهر عن الأنجاس والأقذار وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قال ابن عباس يتلى فيها كتابه يُسَبِّحُ لَهُ فِيها أي يصلي له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بالغداة والعشي قال أهل التفسير: أراد به الصلاة المفروضة فالتي تؤدّى بالغداة صلاة الفجر والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت كله وقيل: أراد به الصبح والعصر. عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «من صلى صلاة البردين دخل الجنة أراد بالبردين صلاة الصبح، وصلاة العصر» وقال ابن عباس: التسبيح بالغدو صلاة الضحى والآصال صلاة العصر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يعنيه إلا ذاك كان أجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» أخرجه أبو داوود.

[سورة النور (24): الآيات 37 إلى 40]

[سورة النور (24): الآيات 37 الى 40] رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) رِجالٌ قيل خص الرجال بالذكر في هذه المساجد، لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا جماعة لا تُلْهِيهِمْ أي لا تشغلهم تِجارَةٌ وقيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل الإنسان به عن الصلوات، والطاعات وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا، لأنه ذكر البيع بعده وقيل التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يده وَلا بَيْعٌ أي ولا يشغلهم بيع عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي حضور المساجد لإقامة الصلوات وَإِقامِ الصَّلاةِ يعني إقامة الصلاة في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وروي عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت هذه الآية «رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة» وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يعني المفروضة قال ابن عباس إذا حضر، وقت أداء الزكاة لا يحبسونها يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ يعني أن هؤلاء الرجال، وإن بالغوا في ذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. قيل: إن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار. وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وترفع عن الأبصار الأغطية. وقيل: تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء فتخشى الهلاك وتطمع في النجاة، وتتقلب الأبصار من هول ذلك اليوم، من أي ناحية يؤخذ بهم أمن ذات اليمين، أم من ذات الشمال ومن أي يؤتون كتبهم أمن اليمين أم من قبل الشمال؟ وقيل: يتقلب القلب في الجوف، فيرتفع إلى الحنجرة فلا ينزل ولا يخرج ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا والمراد بالأحسن الحسنات كلها وهي الطاعات فرضها ونفلها، وذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم وقيل: إنه سبحانه وتعالى يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم، على الواحد من عشرة إلى سبعمائة ضعف وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني أنه سبحانه وتعالى يجزيهم بأحسن أعمالهم ولا يقتصر على ذلك بل يزيدهم من فضله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فيه تنبيه على كمال قدرته وكمال جوده وسعة إحسانه وفضله. قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ لما ضرب مثلا لحال المؤمن وأنه في الدنيا والآخرة في نور، وأنه فائز بالنعيم المقيم، أتبعه بضرب مثل لأعمال الكفار، وشبهه بالسراب وهو شبه ماء يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري يظنه من رآه ماء، فإذا قرب منه لم ير شيئا. والقيعة القاع وهو المنبسط من الأرض وفيه يكون السراب يَحْسَبُهُ أي يتوهمه الظَّمْآنُ أي العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ أي جاء ما قدر أنه ماء وقيل: جاء إلى موضع السراب لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي لم يجده على ما قدره وظنه ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر، يعتقد أنه له ثوابا عند الله وليس كذلك فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته، وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه به فإذا جاءه لم يجده شيئا فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله، نافعة فإذا احتاج إلى عمله لم يجده أغنى عنه شيئا ولا نفعه وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجد الله بالمرصاد وقيل: قدم

[سورة النور (24): الآيات 41 إلى 45]

على الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي جزاء عمله وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ معناه أنه عالم بجميع المعلومات فلا تشغله محاسبة واحد عن واحد. ثم ضرب للكفار مثلا آخر فقال تعالى أَوْ كَظُلُماتٍ أعلم الله سبحانه وتعالى أن أعمال الكفار إن كانت حسنة، فهي كسراب بقيعة وإن كانت قبيحة فهي كظلمات، وقيل: معناه إن مثل أعمالهم في فسادها، وجهالتهم فيها كظلمات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء ولجة البحر معظمه يَغْشاهُ أي يعلوه مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي متراكم مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غمورة الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة وقيل: معناه لم يرها إلا بعد الجهد وقيل: لما كانت اليد من أقرب شيء يراه الإنسان قال: لم يكد يراها، ووجه التشبيه أن الله ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات: ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب، وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل وقيل: شبه بالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه. قال أبيّ بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ قال ابن عباس من لم يجعل الله له دينا وإيمانا، فلا دين له وقيل من لم يهده الله فلا هادي له قيل نزلت هذا الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر وعاند، والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار. قوله عزّ وجلّ: [سورة النور (24): الآيات 41 الى 45] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الهواء قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قيل: الصلاة لبني آدم والتسبيح لسائر الخلق وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وقيل: معناه إن كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه وقيل معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن جميع الموجودات ملكه وفي تصرفه وعنه نشأت ومنه بدأت فهو واجد الوجود وقيل معناه أن خزائن المطر والرزق بيده ولا يملكها أحد سواه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإلى الله مرجع العباد بعد الموت. قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً بأمره إلى حيث يشاء من أرضه وبلاده ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من وسطه وهو مخارج القطر وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل معناه وينزل من جبال من السماء وتلك الجبال من برد. قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالا من برد وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال في الكثرة من برد. فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة. قلت: من الأولى لابتداء الغاية لأن

[سورة النور (24): الآيات 46 إلى 55]

ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي البرد مَنْ يَشاءُ فيهلكه وأمواله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أي فلا يضره يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي من شدة ضوئه وبريقه يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما فيأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمن أقلب الليل والنهار». معنى هذا الحديث: أن العرب كانوا يقولون عند النوازل والشدائد أصابنا الدهر ويذمونه في أشعارهم فقيل لهم: لا تسبوا الدهر فإن فاعل ذلك هو الله عز وجل والدهر مصرف تقع فيه التأثيرات كما تقع بكم، وقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر من هذه الأشياء لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده. قوله عز وجل وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أي من نطفة وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة والجن، لأنا لا نشاهدهم وقيل: إن أصل جميع الخلق من الماء وذلك أن الله خلق ماء فجعل بعضه ريحا ونورا فخلق منه الملائكة وجعل بعضه نارا فخلق منه الجن، وجعل بعضه طينا فخلق منه آدم فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ أي كالحيات والحيتان والديدان ونحو ذلك وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ يعني مثل بني آدم والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يعني كالبهائم والسباع. فإن قلت كيف قال: خلق كل دابة من ماء مع أن كثيرا من الحيوانات يتولد من غير نطفة. قلت ذلك المخلق من غير نطفة، لا بد أن يتكون من شيء، وذلك الشيء أصله من الماء فكان من الماء. فإن قلت: فمنهم من يمشي ضمير العقلاء، فلم يستعمل في غير العقلاء. قلت ذكر الله تعالى ما لا يعقل مع من يعقل لأن جعل الشريف أصلا، والخسيس تبعا أولى. فإن قلت: لم قدم ما يمشي على بطنه على غيره من المخلوقات. قلت قدم الأعجب، والأعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة المشي، وهي الأرجل والقوائم ثم ذكر ما يمشي على رجلين ثم ما يمشي على أربع. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الأربع وفي الحيوانات ما يمشي على أكثر من أربع، كالعناكب والعقارب والرتيلا وما له أربع وأربعون رجلا ونحو ذلك. قلت هذا القسم كالنادر فكان ملحقا بالأغلب وقيل: إن هذه الحيوانات اعتمادها على أربع في المشي والباقي تبع لها يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما لا يعقل ولا يعلم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو القادر على الكل العالم بالكل المطلع على الكل، يخلق ما يشاء كما يشاء لا يمنعه مانع ولا دافع. [سورة النور (24): الآيات 46 الى 55] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعني القرآن هو المبين للهدى والأحكام والحلال والحرام وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته. قوله تعالى وَيَقُولُونَ يعني المنافقين آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا أي يقولونه: بألسنتهم من غير اعتقاد ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض عن طاعة الله ورسوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد قولهم آمنا، ويدعو إلى غير حكم الله قال الله تعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ نزلت هذا الآية في بشر المنافق، كان بينه وبين يهودي خصومة في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمدا يحيف فأنزل الله هذه الآية وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي الرسول يحكم بحكم الله بينهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن الحكم وقيل عن الإجابة وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي مطيعين منقادين لحكمه أي إذا كان الحكم لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم أنه، كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي كفر ونفاق أَمِ ارْتابُوا أي شكوا وهذا استفهام ذم وتوبيخ، والمعنى هم كذلك أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي بظلم بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لأنفسهم بإعراضهم عن الحق. قوله عزّ وجلّ إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ هذا تعليم أدب الشرع على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا وهو أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أي الدعاء وَأَطَعْنا أي بالإجابة وَأُولئِكَ أي من هذه صفته هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس فيما ساءه وسره وَيَخْشَ اللَّهَ أي على ما عمل من الذنوب وَيَتَّقْهِ أي فيما بعد فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يعني الناجون. قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قيل: جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئا لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا، ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقيل لما نزل بيان كراهتهم لحكم الله ورسوله قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا، وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى بحكمك فقال الله تعالى قُلْ لهم لا تُقْسِمُوا يعني لا تحلفوا، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ يعني هذه طاعة القول باللسان دون الاعتقاد بالقلب، وهي معروفة يعني أمر عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون وقيل: معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يعني بقلوبكم وصدق نياتكم فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ أي ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما كلفتم من الإجابة والطاعة وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أي تصيبوا الحق والرشد في طاعته وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح البين. قوله عزّ وجلّ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ قيل مكث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم: سلاحه فقال رجل منهم أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية، ومعنى ليستخلفنهم والله ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فجعلهم ملوكها وساستها وسكانها كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما استخلف داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء، وكما استخلف بني إسرائيل وأهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى أي اختاره لَهُمْ قال

ابن عباس يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي آمنين لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فأنجز الله وعده وأظهر دينه ونصر أولياءه وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض (خ) عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال: «يا عدي هل رأيت الحيرة قلت: لم أرها ولقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي، فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم القيامة، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن ألم أبعث إليك رسولا، فيبلغك فيقول بلى يا رب، ألم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم» قال عدي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة» قال عدي: فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم: يخرج الرجل ملء كفه ذهبا إلخ. وفي الآية دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين بعده، لأن في أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى وغيره من الملوك، وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين عن سفينة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا» ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وعلي ستا قال علي: قلت لحماد القائل لسعيد أمسك سفينة قال نعم» أخرجه أبو داود والترمذي بنحو هذا اللفظ. قلت: كذا ورد هذا الحديث بهذا التفصيل، وفيه إجمال وتفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة كما ذكر في الحديث، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر ولهذا جاء في بعض روايات الحديث على كذا، ولم يبين تعيين مدته فعلى هذا التفصيل تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر، وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن كانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم، وقوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أراد به كفران النعمة ولم يرد الكفران بالله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي العاصون قال أهل التفسير: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتلون بعد أن كانوا إخوانا. عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: «لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال عثمان: ما جاء بك قال: جئت في نصرك قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجا خير لي منك داخلا، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: أيّها الناس إن لله سيفا مغمودا وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فو الله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة، وليسلن الله سيفه المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان» أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي «فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا». قوله تعالى:

[سورة النور (24): الآيات 56 إلى 58]

[سورة النور (24): الآيات 56 الى 58] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي افعلوا هذه الأشياء على رجاء الرحمة لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ أي فائتين عنا فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال ابن عباس وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلاما من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك فأنزل الله هذه الآية وقيل: نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ واللام لام الأمر وفيه قولان أحدهما: أنه على الندب والاستحباب والثاني: أنه على الوجوب وهو الأولى الذين ملكت أيمانكم يعني العبيد والإماء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يعني الأحرار وليس المراد منهم الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء ولكنهم لم يبلغوا الحلم وهو سن التمييز والعقل وغيرهما، واتفق العلماء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة، ولم يحتمل فقال أبو حنيفة لا يكون بالغا حتى يبلغ ثمان عشرة سنة ويستكملها والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمسة عشرة سنة يصير مكلفا، وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي وقت المقيل وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وإنما خص هذه الثلاثة الأوقات، لأنها ساعات الخلوات ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ يعني العبيد والخدم والصبيان جُناحٌ أي حرج في الدخول عليكم بغير استئذان بَعْدَهُنَّ أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي العبيد والخدم يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالكم بغير إذن بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي يطوف بعضكم على بعض كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل: إنها منسوخة حكي ذلك عن سعيد بن المسيب، روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا يا ابن العباس كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بها، ولا يعمل بها أحد قول الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية فقال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجاب فربما دخل الخدم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير» فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد. أخرجه أبو داود في رواية عنه نحوه وزاد فرأيي أن ذلك أغنى عن الاستئذان في تلك العورات، وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: «سألت الشعبي عن هذه الآية ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أمنسوخة هي؟ قال: لا والله قلت إن الناس لا يعملون بها قال الله تعالى المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية أن ناسا يقولون: نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قيل ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن هذه الآية وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ والناس يقولون أعظمكم بيتا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. وقوله عزّ وجلّ:

[سورة النور (24): الآيات 59 إلى 61]

[سورة النور (24): الآيات 59 الى 61] وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي الاحتلام يريد الأحرار الذين بلغوا فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي دلالته وقيل أحكامه وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأمور خلقه حَكِيمٌ بما دبر وشرع قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك، وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره قوله وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر فلا يلدن ولا يحضن اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يردن الأزواج لكبرهن، وقيل: هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن فأما من كانت فيها بقية جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي عند الرجال والمعنى بعض ثيابهن وهو الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار فأما الخمار فلا يجوز وضعه غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي من غير أن يردن بوضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن. والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما يجب عليها أن تستره وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي فلا يلقين الجلباب ولا الرداء خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قوله عز وجل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ اختلف العلماء في هذه الآية فقال ابن عباس: لما أنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، والزمنى والعمى والعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله عز وجل عن أكل الأموال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي من الطعام حقه فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في أي ليس في الأعمى، والمعنى ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج وقيل كان العميان والعرجان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان الأعمى يقول ربما آكل أكثر من ذلك ويقول الأعرج والأعمى ربما أجلس مكان اثنين فنزلت هذه الآية، وقيل: نزلت ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سماهم الله في باقي الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن عنده شيء، ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه أو بعض من سمى الله تعالى فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته فأنزل الله هذا الآية وقيل: كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وأصحابها غيب فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام عند قوله وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وقوله تعالى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ كلام مستأنف قيل لما نزلت وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل من

[سورة النور (24): الآيات 62 إلى 63]

أحد فأنزل الله تعالى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، قيل أراد من أموال عيالكم وبيوت أزواجكم لأن بيت المرأة كبيت الزوج، وقيل بيوت أولادكم ونسب بيوت الأولاد إلى الآباء لما جاء في الحديث «أنت ومالك لأبيك» أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس: عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر، وقيل يعني بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منزل عبده، والمفاتح الخزائن ويجوز أن يكون المفتاح الذي يفتح به، وإذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يأكل الشيء اليسير، وقيل: ما ملكتم مفاتحه أي ما خزنتموه عندكم وما ملكتموه أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق هو الذي صدقك في المودة قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، ربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل وقال ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير فنزلت هذه الآية وقيل: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا أنزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا، أي مجتمعين أو أشتاتا أي متفرقين فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله، ومن في بيته قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته، حدثنا أن الملائكة ترد عليه وقال ابن عباس إذا لم يكن في البيت أحد، فليقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته وعن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً قال ابن عباس حسنة جميلة وقيل ذكر البركة والطيب هاهنا لما فيه من الثواب والأجر كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي عن الله أمره ونهيه وآدابه. قوله عز وجل: [سورة النور (24): الآيات 62 الى 63] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي يجمعهم من حرب أو صلاة حضرت، أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل لَمْ يَذْهَبُوا أي لم

[سورة النور (24): آية 64]

يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قال المفسرون «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم» قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه إلا بإذن وإذا استأذن الإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن وهذا إذا لم يكن حدث سبب يمنعه من المقام فإن حدث سبب يمنعه من المقام، بأن يكون في المسجد فتحيض امرأة منهم أو يجنب رجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي أمرهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي في الانصراف والمعنى إن شئت فأذن إن شئت فلا تأذن وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي إن رأيت لهم عذرا في الخروتج عن الجماعة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قوله عز وجل لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول احذروا دعاء الرسول إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره وقيل معناه لا تدعوه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله، ولكن فخموه وعظموه وشرفوه وقولوا يا نبيّ الله يا رسول الله في لين وتواضع قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي يخرجون مِنْكُمْ لِواذاً أي يستتر بعضهم ببعض ويروغ في خفية فيذهب قيل كانوا في حفر الخندق فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختفين وقال ابن عباس لواذا أي يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يلوذون ببعض أصحابه، فيخرجون من المسجد في استتار وقوله قد يعلم فيه التهديد بالمجازاة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي لئلا تصيبهم فتنة أي بلاء في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع في الآخرة، ثم عظم الله نفسه فقال تعالى: [سورة النور (24): آية 64] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ملكا وعبيدا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي من الإيمان والنفاق وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي من الخير والشر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور» أخرجه أبو عبد الله بن السبع في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية وهي سبع وسبعون آية وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) قوله عزّ وجلّ تَبارَكَ تفاعل من البركة قيل: معناه جاء بكل بركة وخير وقيل معناه تعظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن سماه فرقانا لأنه فرق بين الحق، والباطل والحلال والحرام وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ أي للإنس والجن نَذِيراً قيل هو القرآن وقيل النذير هو محمد صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو المتصرف فيهما كيف يشاء وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي هو الفرد في وحدانيته، وفيه رد على النصارى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ يعني هو المنفرد بالإلهية، وفيه رد على الثنوية وعباد الأصنام وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مما تطلق عليه صفة المخلوق فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي سواه وهيأه لما يصلح له لا خلل فيه ولا تفاوت، وقيل: قدر كل شيء تقديرا من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق. قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 3 الى 8] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) وَاتَّخَذُوا يعني عبدة الأوثان مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني دفع ضر ولا جر نفع وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي إماتة وَلا حَياةً أي إحياء وَلا نُشُوراً أي بعثا بعد الموت وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحارث وأصحابه إِنْ هَذا أي ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي كذب افْتَراهُ أي اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قيل: هم اليهود وقيل عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن، وقيل جبر ويسار وعداس بن عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب، فزعم المشركون أن

[سورة الفرقان (25): الآيات 9 إلى 17]

محمدا صلّى الله عليه وسلّم يأخذ منهم قال الله تعالى فَقَدْ جاؤُ يعني قائلي هذه المقالة ظُلْماً وَزُوراً أي بظلم وزور، وهو تسميتهم كلام الله بالإفك والافتراء وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها يعني النضر بن الحارث كان يقول: إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار ومعنى اكتتبها انتسخها محمد صلّى الله عليه وسلّم من جبر ويسار وعداس وطلب أن تكتب له لأنه كان لا يكتب فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه ليحفظها لأنه لا يكتب بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني غدوة وعشية قال الله تعالى ردا عليهم قُلْ يا محمد أَنْزَلَهُ يعني القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي الغيب فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لولا ذلك لعاجلهم بعذابه وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كما نأكل نحن وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يلتمس المعاش كما نمشي نحن وإذا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا، ولا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة وكانوا يقولون له لست بملك لأنك بشر مثلنا، والملك لا يأكل ولا يملك لأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق وتبتذل وما قالوه فاسد لأن أكله الطعام لكونه آدميا، ولم يدع أنه ملك ومشيه في الأسواق لتواضعه وكان ذلك صفته في التوراة ولم يكن سخابا في الأسواق وليس شيء من ذلك ينافي النبوة ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أي يصدقه ويشهد له فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي داعيا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى التصرف في طلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يعني بستان يَأْكُلُ مِنْها أي هو فلا أقل من ذلك إن لم يكن له كنز وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعني مخدوعا وقيل مصروفا عن الحق. [سورة الفرقان (25): الآيات 9 الى 17] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه التي لا فائدة لها فقالوا مسحور محتاج فَضَلُّوا أي عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة. قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي من الذي قالوا: وأفضل من البستان الذي ذكروا وقال ابن عباس يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش ثم بين ذلك الخير فقال جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي بيوتا مشيدة عن أبي أمامة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما أو قال ثلاثا أو نحو هذا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهبا جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا قالت فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول: أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» ذكر هذين الحديثين البغوي بسنده. قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي القيامة وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي نارا مسعرة إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قيل: من مسيرة عام وقيل من

[سورة الفرقان (25): الآيات 18 إلى 23]

مسيرة مائة عام. فإن قلت: كيف تتصور الرؤية من النار وهو قوله إذا رأتهم. قلت يجوز أن يخلق الله لها حياة وعقلا ورؤية وقيل: معناه رأتهم زبانيتها سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي غليانا كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب وَزَفِيراً أي صوتا فإن قلت كيف يسمع التغليظ. قلت: معناه رأوا وعلموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا، وقيل: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد، وقال عبيد بن عمير: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قال ابن عباس تضيق عليه كما يضيق الزج في الرمح مُقَرَّنِينَ أي مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قال ابن عباس: ويلا وقيل هلاكا وفي الحديث «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً هكذا ذكره البغوي بغير سند، وقيل معناه هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة. قوله عز وجل قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أي الذي ذكرت من صفة النار وأهلها أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي ثوابا ومرجعا لهم قال تعالى لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أي أن جميع المرادات لا تحصل إلا في الجنة، لا في غيرها. فإن قلت: قد يشتهي الإنسان شيئا، وهو لا يحصل في الجنة كأن يشتهي الولد ونحوه وليس هو في الجنة قلت إنّ الله يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة، بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيه من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيره خالِدِينَ أي في نعيم الجنة ومن تمام النعيم أن يكون دائما، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم وأنشد في المعنى: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي مطلوبا، وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة» وقالوا «ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك» يقول كان إعطاء الله المؤمنين جنة وعدا، وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك الوعد وقيل الطلبة من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من الملائكة والإنس والجن مثل عيسى والعزير، وقيل يعني الأصنام ثم يخاطبهم فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أخطئوا الطريق. [سورة الفرقان (25): الآيات 18 الى 23] قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)

قالُوا يعني المعبودين سُبْحانَكَ نزهوا الله سبحانه وتعالى من أن يكون معه آلهة ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ يعني ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك، بل أنت ولينا من دونهم وقيل معناه، ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك ونحن عبيدك وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي بطول العمر والصحة والنعمة في الدنيا حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ معناه تركوا المواعظ والإيمان بالقرآن وقيل تركوا ذكرك وغفلوا عنه وَكانُوا قَوْماً بُوراً معناه هلكى أي غلب عليهم الشقاء والخذلان فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ هذا خطاب مع المشركين أي كذبكم المعبودون بِما تَقُولُونَ يعني أنهم آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ أي الآلهة صَرْفاً أي صرف العذاب عن أنفسهم وَلا نَصْراً يعني ولا نصر أنفسهم وقيل لا ينصرونكم أيها العابدون بدفع العذاب عنكم وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يعني يشرك نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ أي يا محمد مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أنزل الله تعالى على هذه الآية والمعنى أن هذه عادة مستمرة من الله تعالى على رسله فلا وجه لهذا الطعن وما أنا إلا رسول ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وهم كانوا بشرا مثلي، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي بلية قال ابن عباس أي جعلنا بعضكم بلاء بعض، لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا أنتم الهدى، قيل: نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأى الوضيع، قد أسلم قبله فأنف وقال: أسلم بعده فيكون له السابقة والفضل علي فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض وقيل: نزلت في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر وبلالا، وصهيبا وعامر بن فهيرة وذويهم، قد أسلموا قبلهم فقالوا: نسلم فنكون مثل هؤلاء وقيل: نزلت في ابتلاء فقراء المسلمين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم من موالينا وأراذلنا فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ أي على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى وقيل إن الغني فتنة الفقير يقول ما لي لم أكن مثله والصحيح فتنة المريض والشريف فتنة الوضيع وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي بمن صبر وبمن جزع (ق) عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم» لفظ البخاري ولمسلم «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم». قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي يخافون البعث والرجاء، بمعنى الخوف لغة تهامة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فتخبرنا أن محمدا صادق أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا فِي أَنْفُسِهِمْ بهذه المقالة وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي طغوا وقيل عتوا في القول وهو أشد الكفر والفحش وعتوهم، طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به. قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي عند الموت وقيل يوم القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين، يوم القيامة ويقولون للكفار: لا بشرى لكم وقيل: لا بشارة لهم بالجنة كما بشر المؤمن وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قال ابن عباس تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة، إلا من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم أن تكون لكم البشرى وقيل هذا قول: الكفار للملائكة وذلك أن العرب كانت إذا نزلت بهم شدة ورأوا ما يكرهون قالوا حجرا محجورا فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة. قوله عز وجل وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ يعني من أعمال البر التي عملوها في حال الكفر فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي باطلا لا ثواب له

[سورة الفرقان (25): الآيات 24 إلى 29]

لأنهم لم يعملوه لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد والهباء هو ما يرى في الكوة كالغبار، إذا وقعت الشمس فيها فلا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل والمنثور المفرق قال ابن عباس هو ما تسقيه الرياح، وتذريه من التراب كحطام الشجر وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير من الغبار. قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 24 الى 29] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي من هؤلاء المشركين المستكبرين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي موضع القائلة، وذلك أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر من أول النهار إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة قال ابن مسعود لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم لأن الله تعالى قال وَأَحْسَنُ مَقِيلًا والجنة لا نوم فيها قال ابن عباس الحساب في ذلك اليوم في أوله، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون، كما بين العصر إلى غروب الشمس. قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي عن الغمام وهو غمام أبيض مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قال ابن عباس تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الإنس والجن ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ثم كذلك حتى تتشق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي تليها ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة، قال ابن عباس: يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي شديد وفيه دليل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا وجاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا». قوله تعالى وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه كان لا يقدم من سفر، إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقدم ذات يوم من سفر، فصنع طعاما ودعا الناس إليه ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما قرب الطعام، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طعامه. وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف، فلما أخبر أبيّ بن خلف، قال له: يا عقبة صبأت، قال لا والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي، ولم يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة فقال عليه الصلاة والسلام، لا أراك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فقتل عقبة يوم بدر صبرا وأما أبيّ بن خلف فقتله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيده يوم أحد، وقيل: لما بزق عقبة في وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عاد بزاقه في وجهه، فاحترق خداه فكان أثر ذلك في وجهه، حتى قتل وقيل كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف، فأسلم عقبة فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر وارتد، فأنزل الله فيه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ يعني عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، على يديه، أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه

[سورة الفرقان (25): الآيات 30 إلى 40]

بالمعصية والكفر لطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه، قال عطاء: يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم ينبتان، ثم يأكلهما هكذا كلما نبتت يده أكلها على ما فعل، تحسرا وندامة يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ أي في الدنيا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي ليتني اتبعت محمدا صلّى الله عليه وسلّم واتخذت معه طريقا إلى الهداية يا وَيْلَتى دعا على نفسه بالويل لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا قيل يعني أبي بن خلف لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي عن الإيمان والقرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي يعني الذكر مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَكانَ الشَّيْطانُ وهو كل متمرد عات صد عن سبيل الله من الجن والإنس لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي كثير الخذلان يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب به وحكم الآية عام في كل خليلين، ومتحابين اجتمعا على معصية الله (ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أبو داود والترمذي. ولهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي». قوله عز وجل: [سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 40] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَقالَ الرَّسُولُ يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا وأعرضوا عنه، ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه وقيل جعلوه بمنزلة الهجر وهو السيئ من القول فزعموا أنه سحر وشعر، والمعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، يشكو قومه إلى الله عز وجل يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، فعزاه الله تعالى فقال وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلت لك أعداء من مشركي مكة، وهم قومك كذلك جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين والمعنى لا يكبرن عليك ذلك فإن الأنبياء قبلك قد لقوا هذا من قومهم، فصبروا فاصبر أنت كما صبروا فإني ناصرك، وهاديك وهو قوله تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود صلوات الله عليهم أجمعين قال الله كَذلِكَ فعلنا ذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه مفرقا لنقوي به قلبك، فتعيه وتحفظه فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء، يكتبون ويقرءون وأنزلنا القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور تحدث في أوقات مختلفة ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأيسر على العامل به وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا.

[سورة الفرقان (25): الآيات 41 إلى 48]

قال ابن عباس: وبيناه بيانا والترتيل التبيين في ترسل وتثبت وقيل فرقناه تفريقا آية بعد آية وَلا يَأْتُونَكَ يعني يا محمد هؤلاء المشركون بِمَثَلٍ يعني يضربونه لك في إبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي بما ترد به ما جاءوا به من ما يوردون المثل، وتبطله فسمي ما يوردون من الشبه مثلا، وسمي ما يدفع به الشبه حقا وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً يعني أحسن بيانا وتفصيلا ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين فقال تعالى الَّذِينَ يعني هم الذين يُحْشَرُونَ أي يساقون ويجرون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني منزلا ومصيرا وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معينا وظهيرا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القبط فَدَمَّرْناهُمْ فيه إضمار أي فكذبوهما فدمرناهم تَدْمِيراً يعني أهلكناهم إهلاكا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني رسولهم ومن كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل فلذلك ذكره بلفظ الجمع أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة لمن بعدهم وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ في الآخرة عَذاباً أَلِيماً يعني سيرى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا وَعاداً وَثَمُودَ أي أهلكنا عادا وثمود وَأَصْحابَ الرَّسِّ قال وهب بن منبه كان أهل بئر الرس نزولا عليها، وكانوا أصحاب مواش يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا، يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وآذوا شعيبا فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت البئر وخسف بهم وبديارهم ورباعهم وقيل: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله. وقال سعيد بن جبير: كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار هم الذين ذكرهم الله في سورة «يس» وقيل هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد وثمود وأصحاب الرس وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا قوله تعالى وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني الحجارة وهي قريات قوم لوط، وهي خمس قرى أهلك الله منها أربعا ونجت واحدة. وهي أصغرها وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها يعني إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبروا ويتعظوا لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم في ممرهم إلى الشأم بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعني لا يخافون بعثا. قوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 48] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً نزلت في أبي جهل كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزئا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا يعني قد قارب أن يضلنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعني على عبادتها والمعنى لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي في الآخرة عيانا مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد حجرا، فإذا رأى حجرا أحسن منه رماه وأخذ الأحسن منه وعبده وقال ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة الله خالقه، ثم هوى

حجرا فعبده ما حاله عندي وقيل الهوى إله يعبد أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حافظا تحفظه من اتباع الهوى وعبادة ما يهواه من دون الله والمعنى لست كذلك وقال الكلبي نسختها آية القتال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أي ما تقول سماع طالب الإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ يعني ما يعاينون من الحجج والأعلام وهذه المذمة أعظم من التي تقدمت، لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنهم لا سمع لهم ولا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام فقال تعالى إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكير ثم قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعاهدونها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم لأن الأنعام تسجد وتسبح والكفار لا يفعلون ذلك. قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا، لأنه ظل لا شمس معه وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بضدها ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني بالشمس التي تأتي عليه والمعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزأ فجزأ قبضا خفيفا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني سترا تسترون به والمعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس، الذي يشتمل على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً يعني راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً يعني يقظة وزمانا تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم وطلب الاشتغال وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. وأراد به المطهر والماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور وهو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل والريق ونحوها، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير، وهو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضئ به مرة، وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه، كالطين والتراب وأوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره، وكذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة، وإن كان شيئا يمكن صون الماء عنه، ومخالطته كالخل والزعفران ونحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به وإن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئا طاهرا لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلا أو كثيرا، وإن كان الواقع شيئا نجسا نظر فيه فإن كان الماء، أقل من قلتين نجس الماء وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة، ترده السباع والذئاب فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» أخرجه أبو داود والترمذي. وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه، وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «قيل يا رسول الله إنه يستقى لك من بئر بضاعة ويلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر النساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الماء طهور لا ينجسه شيء» وفي رواية قال «قلت يا رسول الله أيتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والنتن

[سورة الفرقان (25): الآيات 49 إلى 57]

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الماء طهور لا ينجسه شيء» وقوله تعالى: [سورة الفرقان (25): الآيات 49 الى 57] لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قيل: أراد به موضع البلدة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أي نسقي من ذلك الماء أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي بشرا كثيرا والأناسي جمع إنسي وقيل جمع إنسان قوله عز وجل وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ يعني المطر مرة ببلدة ومرة ببلدة أخرى وقال ابن عباس ما عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض وقرأ هذه الآية، وهذا كما روي مرفوعا «ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء» وروي عن ابن مسعود يرفعه، قال: ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى ولكن الله عزّ وجلّ قسم هذه الأرزاق فجعلها في هذه السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ووزن معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار، وقيل: المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطشا ورذاذا ونحوها وقيل التصريف راجع إلى الريح لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا في كفرهم هو أنهم إذا مطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا (ق) عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال «هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح عن عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي رسولا ينذرهم ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة لتستوجب بصبرك ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي شديدا. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلطهما وأفاض أحدهما على الآخر وقيل أرسلهما في مجاريهما هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة يميل إلى الحلاوة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة وقيل مر وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا بقدرته فلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب وَحِجْراً مَحْجُوراً أي سترا ممنوعا فلا يبغي أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي جعله ذا نسب وصهر وقيل النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه والنسب ما يوجب الحرمة والصهر ما لا يوجبها وقيل النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح وقد حرم الله بالنسب سبعا وبالسبب سبعا ويجمعها قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية وقد تقدم تفسير ذلك وبيانه في تفسير سورة النساء وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني هؤلاء المشركين ما لا يَنْفَعُهُمْ أي إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ أي

[سورة الفرقان (25): الآيات 58 إلى 64]

إن تركوه وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا أعان الشيطان على ربه بالمعاصي لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان وقيل معنى ظهيرا هينا ذليلا من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه وقيل أراد بالكافر أبا جهل والأصح أنه عام في كل كافر. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً أي بالثواب على الإيمان والطاعة وَنَذِيراً منذرا بالعقاب على الكفر والمعصية قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ فتقولون إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا معناه لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلا إلى ربه فعلى هذا يكون المعنى لا أسألكم لنفسي أجرا، ولكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة الله، واتخاذ السبيل إلى جنته. قوله عز وجل: [سورة الفرقان (25): الآيات 58 الى 64] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ معناه أنه سبحانه وتعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره أن يتوكل عليه في جميع أموره، وإنما قال على الحي الذي لا يموت لأن من توكل على حي يموت انقطع توكله عليه بموته، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا ينقطع توكل من توكل عليه، ولا يضيع البتة وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي صل له شكرا على نعمه وقيل: معناه قل سبحان الله والحمد لله وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني أنه تعالى عالم بجميع ذنوب عباده فيجازيهم بها. وقيل: معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قادر على مكافأتهم وفيه وعيد شديد، كأنه إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة. قوله عز وجل الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي فاسأل الخبير بذلك، يعني بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش. وقيل: معناه أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم، بهذا إلى غيري وقيل معناه فاسأل عنه خبيرا وهو الله تعالى وقيل: هو جبريل عليه السلام وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب كانوا يسمونه رحمان اليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد وَزادَهُمْ يعني قول القائل اسجدوا للرحمن نُفُوراً يعني عن الإيمان والسجود. فصل وهذه السجدة من عزائم السجدات فيسن للقارئ، والمستمع أن يسجدا عند سماعها وقراءتها. قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل: البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها، وقيل: البروج قصور فيها الحرس. وقال ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة، وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت سميت بالبروج، التي هي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل لسكانها وَجَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قال ابن عباس معناه خلفا، وعوضا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن

[سورة الفرقان (25): الآيات 65 إلى 77]

فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. قال فاتتني الصلاة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإنّ الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر. وقيل جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض وقيل يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب هذا جاء هذا فهما يتعقبان في الضياء، والظلمة والزيادة والنقصان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتذكر ويتعظ أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني شكر نعمة ربه عليه فيهما. قوله عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ قيل هذه الإضافة للتخصيص، والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين بل علماء حكماء، أصحاب وقار وعفة وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء بما يكرهونه قالُوا سَلاماً يعني سدادا من القول يسلمون فيه لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا ولم يجهلوا وليس المراد منه السلام المعروف وقيل هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال ويروى عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قال هذا وصف ليلهم، والمعنى يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجدا على وجوههم وقياما على أقدامهم. قال ابن عباس، من صلّى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا وقائما (م) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» قوله عز وجل: [سورة الفرقان (25): الآيات 65 الى 77] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي ملحا دائما لازما غير مفارق من عذب من الكفار. قال محمد بن كعب القرظي: سأل الله الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوه فأغرمهم فبقوا في النار، وقال كل غريم مفارق غريمه إلا جهنم: وقيل: الغرام الشر اللازم والهلاك الدائم إِنَّها يعني جهنم ساءَتْ بئست مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قيل الإسراف النفقة في معصية الله، وإن قلت والإقتار منع حقوق الله تعالى وهو قول ابن عباس. وقيل: الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق، حتى يدخل في حد التبذير والإقتار التقصير عما لا بد منه وهو أن لا يجيع عياله ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي قصدا وسطا بين الإسراف والإقتار وحسنة بين السيئتين قيل: هذه الآية في صفة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم واللذة لا يلبسون ثوبا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يسترون به العورة، ويقيهم من الحر والبرد. قال عمر بن الخطاب كفى سرفا أن لا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ (ق) عن ابن عباس «أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن الذي تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ونزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل «يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله قال: تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي قال أن تزاني حليلة

[سورة الفرقان (25): الآيات 71 إلى 77]

جارك، فأنزل الله تعالى تصديقه، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي ومن يفعل شيئا من ذلك يلق أثاما قال ابن عباس إنما يريد جزاء الإثم، وقيل عقوبة وقيل: الأثام واد في جهنم ويروى في الحديث «أن الغي والأثام بئران في جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وسبب تضعيف العذاب، أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا. قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ذنبه وَآمَنَ يعني بربه وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً أي فيما بينه وبين ربه روي عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال: قرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنين والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرح بشيء قط مثل ما فرح بها وفرحه بإنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر». وقوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن عباس: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا وقيل يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه وقيل إن الله تعالى يمحو بالندم جميع السيئات ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة. [سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 77] وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً قيل هذا في التوبة من غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ومعناه، ومن تاب من الشرك وعمل صالحا يعني أدّى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يعود إليه بعد الموت مَتاباً أي حسنا يفضل على غيره ممن قتل وزنا فالآية الأولى وهي قوله: ومن تاب رجوع عن الشرك والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة. وقيل: هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات ومعناه ومن أراد التوبة، وعزم عليها فليتب إلى الله فقوله يتوب إلى الله خبر بمعنى الأمر أي تب إلى الله وقيل معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله تعالى. قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني الشرك وقيل هي شهادة الزور (ق) عن أبي بكر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه ويطوف به في الأسواق وقيل: لا يشهدون الزور يعني أعياد المشركين وقيل: الكذب وقيل: النوح وقيل لا يساعد أهل الباطل على باطلهم وقيل الزور اللهو واللعب والغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وأصل الزور

حقيقة تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ هو كل ما يجب أن يلغى ويترك مَرُّوا كِراماً يعني إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا فعلى هذا التفسير، تكون الآية منسوخة بآية القتال. وقيل: اللغو المعاصي كلها، والمعنى إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراما أي مسرعين معرضين، وهو أن ينزه المرء نفسه ويكرمها عن هذه المجالس السيئة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قيل: معناه أنه ليس فيه نفي الخرور إنما هو إثبات له ونفي الصمم والعمى والمعنى إذا ذكروا بها أكبوا على استماعها بأذان واعية وأقبلوا على المذكر بها بعيون مبصرة راعية. وقيل: معناه لم يخروا أي لم يسقطوا ولم يقعوا عليها صما وعميانا، كأنهم بآذانهم صمم وبأعينهم عمى بل يسمعون ما يذكرون به، فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه. قوله عز وجل وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني أبرارا أتقياء فيقرون أعيننا بذلك قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته، وأولاده مطيعين لله عز وجل فيطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره، وتقر عينه بذلك وقيل: إن العرب تذكر قرة العين عند السرور والفرح وسخنة العين عند الغم والحزن. ويقال: دمع العين عند السرور والفرح بارد وعند الحزن حار وقيل معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني يقتدون في الخير بنا. وقيل: معناه نقتدي بالمتقين وتقتدي بنا المتقون وقال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى وقيل: معناه أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعات المبلغ الذي يشار إليهم فيه ويقتدي بهم. قال بعضهم: فيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها وقيل هذا من المقلوب معناه، واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ أي يثابون الْغُرْفَةَ الدرجة العالية الرفيعة في الجنة وقيل: يريد غرف الدر والزبرجد واللؤلؤ والياقوت في الجنة بِما صَبَرُوا يعني على طاعة الله تعالى وأوامره وعلى أذى المشركين وقيل: بما صبروا عن الشهوات وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً أي ملكا وقيل بقاء دائما وَسَلاماً أي يسلم بعضهم على بعض أو يرسل الرب عز وجل إليهم السلام وقيل سلاما أي سلامة من الآفات. قوله تعالى خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة. قوله تعالى قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي ما يصنع ما يفعل بكم فوجودكم وعدمكم سواء، وقيل: معناه أي وزن ومقدار لكم عنده لَوْلا دُعاؤُكُمْ إياه. قيل معناه لولا عبادتكم إياه وقيل: لولا إيمانكم وقيل لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر. وقيل: معناه ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاقتكم، والمعنى أنه خلقكم لطاعته وعبادته وهذا قول ابن عباس وقيل: معنى ما يعبأ أي ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة. وقيل معناه ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني، فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون يخاطب أهل مكة يعني أن الله دعاكم إلى توحيده وعبادته على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبتم الرسول ولم تجيبوه إلى الإيمان فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً هذا تهديد لهم أي يكون تكذيبهم لزاما قال ابن عباس: موتا وقيل هلاكا وقيل: قتالا والمعنى يكون التكذيب لازما لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقيل: معناه عذابا دائما وهلاكا لازما لمن كذب مفنيا يلحق بعضكم بعضا وقيل: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، يعني أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر وفي رواية الدخان والقمر والروم واللزام والبطشة» والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الشعراء

سورة الشعراء وهي مكية إلا أربع آيات من آخر السورة من قوله تعالى وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وهي مائتان وسبع وعشرون آية وألف ومائتان وتسع وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وأربعون حرفا، روي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه الصلاة والسلام». بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) قوله عز وجل طسم قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها وفي رواية أخرى عنه أنه قسم، وهو من أسماء الله تعالى وقيل اسم من أسماء القرآن، وقيل اسم السورة وقيل أقسم بطوله وسنائه وملكه تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات آيات الْكِتابِ الْمُبِينِ قيل لما كان القرآن فيه دلائل التوحيد، والإعجاز الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودلائل الأحكام أجمع ثبت بذلك أن آيات القرآن كافية مبينة لجميع الأحكام. [سورة الشعراء (26): الآيات 3 الى 8] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إن لم يؤمنوا وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون منها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله سبحانه وتعالى. وقيل: معناه لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق. قلت أصل الكلام فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان الخضوع وترك الكلام على أصله أو لما، وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين. وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم أي فظلت كبراؤهم لها خاضعين وقيل أراد بالأعناق الجماعات، يقال جاء عنق من الناس أي جماعة قوله تعالى وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ أي وعظ وتذكير مُحْدَثٍ أي محدث إنزاله فهو محدث التنزيل وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي عن الإيمان به فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أي فسوف يأتيهم أَنْبؤُا أي أخبار وعواقب ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المشركين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها أي بعد أن لم يكن فيها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي جنس ونوع وصنف حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام، قال الشعبي: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن

[سورة الشعراء (26): الآيات 9 إلى 22]

دخل النار فهو لئيم إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر لَآيَةً تدل على أنه واحد أي دلالة على كمال قدرتنا وتوحيدنا كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ووَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون ولا يصدقون. [سورة الشعراء (26): الآيات 9 الى 22] وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ ذو الرحمة لأوليائه. قوله تعالى وَإِذْ نادى أي واذكر يا محمد إذ نادى رَبُّكَ مُوسى أي حين رأى الشجرة والنار أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب قَوْمَ فِرْعَوْنَ يعني القبط أَلا يَتَّقُونَ أي يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته والإيمان به قالَ يعني موسى رَبِّ أي يا رب إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي أي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي للعقدة التي كانت على لسانه فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليوازرني ويعينني على تبليغ الرسالة وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي دعوى ذنب وهو قتله القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي به قالَ الله تعالى كَلَّا أي لن يقتلوك فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما تقولون وما يقال لكم. فإن قلت: كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما اثنان. قلت: أجراهما مجرى الجماعة، وهو جائز في لغة العرب أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله: فائتياه فقولا إنا رسولا ربك. قلت: الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه، إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بشيء ولا أرسلتهم برسول أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة، والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا، فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك، وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا، وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن الله قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى الله تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه، قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون، وقالوا: من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين

[سورة الشعراء (26): الآيات 23 إلى 41]

فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول، ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون: ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة الله تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف قالَ له أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً يعني صبيا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتلت القبطي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسا، وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكفر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة، ولا بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته قالَ يعني موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً يعني النبوة وقيل العلم والفهم وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اتخذتهم عبيدا قيل: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل فيكون معنى الآية، وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني فلم تستعبدني، وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام، فحذف الألف كما قال عمر بن عبد الله بن ربيعة: لم أنس يوم الرحيل وقفتها ... وطرفها من دموعها غرق وقولها والركاب واقفة ... تتركني هكذا وتنطلق أي أتتركني، والمعنى أتمن علي أن ربيتني، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية، وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي، ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك حتى تربيني وتكلفني، ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم. [سورة الشعراء (26): الآيات 23 الى 41] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ يقول أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، وهو سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية فلهذا عدل موسى عن جوابه، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما

[سورة الشعراء (26): الآيات 42 إلى 61]

بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أنه خالقهما فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفة إلا بما ذكرته لكم، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب، وقال أهل المعاني أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله تعالى الذي خلقها وأوجدها فلما قال ذلك موسى تحير فرعون في جواب موسى قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أي من أشراف قومه قال ابن عباس: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة أَلا تَسْتَمِعُونَ وإنما قال فرعون: ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أني إنما أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بأفعاله وآثاره وقيل: إنهم كانوا يعتقدون إن آلهتهم ملوكهم ثم زادهم موسى في البيان قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني أن موسى ذكر ما هو أقرب فقال ربكم يعني أنه خالقكم وخالق آبائكم الأولين قالَ يعني فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من السؤال طلب الماهية، وهو يجيب بالآثار الخارجة وهذا لا يفيد البتة فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه، ويتكلم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحته، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل فزاد في البيان قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، ومعنى إن كنتم تعقلون قد عرفتم أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت قالَ فرعون حين لزمته الحجة، وانقطع عنه الجواب تكبرا عن الحق لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قيل كان سجن فرعون أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان يهوي فيه إلى الأرض وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه قالَ له موسى حين توعده بالسجن أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي بآية بينة والمعنى أتفعل ذلك، ولو جئتك بحجة بينة وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بالبيان قالَ يعني فرعون فَأْتِ بِهِ أي إنا لن نسجنك حينئذنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قيل إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء، قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون فقال: بالذي أرسلك ألا أخذتها فأخذها موسى، فعادت عصا كما كانت فقال وهل غيرها قال نعم وأراه يده ثم أدخلها في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس وهو قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ فعند ذلك قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا يعني موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قومه ثم قال يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ قال هذا القول على سبيل التنفير لئلا يقبلوا قول موسى فَماذا تَأْمُرُونَ يعني ما رأيكم فيه وما الذي أعمله فعند ذلك قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخره وأخاه وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ قيل إن فرعون أراد قتل موسى فقالوا لا تفعل فإنك إن قتلته دخلت الناس شبهة في أمره ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا تثبت له عليك حجة. قوله تعالى فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني يوم الزينة قال ابن عباس وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لموسى قيل أراد بالسحرة موسى وهارون وقالوا: ذلك على طريقة الاستهزاء فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ طلبوا من فرعون الجزاء، وهو بذل المال والجاه فبذل لهم ذلك كله، وأكده بقوله: [سورة الشعراء (26): الآيات 42 الى 61] قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بعظمة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم قيل: إن عصى موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قيل إنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر، ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين ثم إنهم قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وإنما قالوا رب موسى وهارون، لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد مطلق وتهديد شديد ثم بين ذلك الوعيد فقال لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنا ننقلب ونصير إلى ربنا في الآخرة مؤمنين مؤملين غفرانه وهو قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي الكفر والسحر أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من أهل زماننا وقيل أول المؤمنين أي من الجماعة الذين حضروا ذلك الجمع. قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج، قيل: أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل، كل أهل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وآمرهم أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، ثم اخبزوا فطيرا فإنه أسرع لكم ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري ففعل ذلك موسى، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدا فاستعاروا منهم حليهم، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جهة البحر فلما سمع فرعون ذلك، قال: هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأخذوا أموالنا فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرط يحشرون الجيش قيل: كانت المدائن ألف مدينة واثني عشر ألف قرية، فأرسل فرعون في أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف، وخرج فرعون في الكرسي العظيم في مائتي ألف ملك مسورين مع كل ملك ألف فلذلك قال إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قال أهل التفسير كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل، لم يعدوا دون العشرين وفوق الستين سنة وقال ابن مسعود كانت ستمائة ألف وسبعين ألفا، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ الغيظ الغضب يعني أنهم أغضبونا بمخالفتهم فينا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي خائفون من شرهم وقرئ حذرون، أي ذوو قوة وأداة شاكو السلاح وقيل الحاذر الذي يحذرك الآن بالتحقيق من المتلبس بحمل السلاح، والحذر الذي لا تلقاه إلا خائفا فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ قيل: كانت البساتين ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية وَكُنُوزٍ يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة، وسماها كنوزا لأنه لم يؤد حق الله منها وكل مال لم يعط، ولم يؤد حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرا قيل كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب قال الله تعالى وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس حسن قيل: أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم وقيل إنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس

[سورة الشعراء (26): الآيات 62 إلى 81]

عليها الأشراف من قومه والأمراء وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب والمعنى أنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها العيون وأموالهم ومجالسهم الحسنة كَذلِكَ أي كما وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون، وقومه، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون، وقومه من الأموال والأماكن الحسنة فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي لحق فرعون وقومه موسى، وأصحابه وقت شروق الشمس وهو إضاءتها فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ يعني تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيدركنا فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم. [سورة الشعراء (26): الآيات 62 الى 81] قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) قالَ أي موسى لثقته وعد الله تعالى إياه كَلَّا أي لن يدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ يعني يدلني على طريق النجاة فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أي فضربه فانشق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي قطعة من الماء كَالطَّوْدِ أي الجبل الْعَظِيمِ قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح فصار البحر يرمي بموج كالجبال، قال يوشع: يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا، والبحر أمامنا قال موسى، ها هنا فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته، وقال: الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال: ها هنا فكبح فرسه فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني قربنا فرعون وجنوده إلى البحر وقدمناهم إلى الهلاك وقيل إن جبريل كان بين بني إسرائيل، وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم، ويقول للقبط رويدا ليلحق آخركم أولكم، فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان قوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني أنه تعالى جعل البحر يبسا حتى خرج موسى وقومه، منه وأغرق فرعون وقومه، وذلك أنهم لما تكاملوا في البحر انطبق عليهم فأغرقهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما حدث في البحر من انفلاقه آية من الآيات العظام الدالة على قدرته ومعجزة لموسى عليه السلام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أهل مصر قيل: لم يؤمن منهم إلا آسية امرأة فرعون، وحزقيل مؤمن آل فرعون، ومريم ابنة مامويا التي دلت على قبر يوسف حين أخرجه موسى من البحر وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ يعني أي شيء تعبدون وإنما قال إبراهيم ذلك مع علمه بأنهم عبدة لأصنام، ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ يعني نقيم على عبادتها وإنما قالوا: نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يعني يسمعون دعاءكم إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ

[سورة الشعراء (26): الآيات 82 إلى 102]

يعني بالرزق أَوْ يَضُرُّونَ يعني إن تركتم عبادتهم وإذا كان كذلك، فكيف يستحقون العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة القاطعة قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ المعنى أنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ولكن اقتدينا بآبائنا في ذلك، وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه ومدح الأخذ بالاستدلال قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أي الأولون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي أعداء لي وإنما وحده على إرادة الجنس. فإن قلت: كيف وصف الأصنام بالعداوة؟ وهي جمادات لا تعقل. قلت: معناه فإنهم عدو لي يوم القيامة لو عبدتهم في الدنيا وقيل: إن الكفار لما عبدوها ونزلوها منزلة الأحياء العقلاء أطلق إبراهيم لفظ العداوة عليها وقيل: هو من المقلوب أراد فإني عدو لهم لأن من عاديته فقد عاداك إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي ولكن رب العالمين، فإنه ربي وولي وقيل إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله تعالى فقال إبراهيم كل ما تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين ثم وصف معبوده الذي يستحق العبادة فقال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى طريق النجاة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب وَإِذا مَرِضْتُ أصابني مرض أضاف المرض إلى نفسه استعمالا للأدب وإن كان المرض والشفاء من الله فَهُوَ يَشْفِينِ أي يبرئني ويعافيني من المرض وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي يميتني في الدنيا ثم يحييني في الآخرة. [سورة الشعراء (26): الآيات 82 الى 102] وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) وَالَّذِي أَطْمَعُ أي أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي يوم الجزاء والحساب قيل: خطيئته كذباته الثلاث وتقدم الكلام عليها (م) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال «لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه، أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً قال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه وقيل: العلم والفهم وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي بمن سلف قبلي من الأنبياء في المنزلة والدرجة العالية وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء حسنا وذكرا جميلا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله ذلك وجعل كل الأديان يتولونه، ويثنون عليه وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي ممن تعطيه جنة النعيم لأنها السعادة الكبرى وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ قيل دعا لأبيه على رجاء أن يسلم فيغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وَلا تُخْزِنِي أي ولا تفضحني يَوْمَ يُبْعَثُونَ وهو يوم القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فلا يسلم منها أحد قال سعيد بن المسيب القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل: القلب السليم هو الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي أظهرت لِلْغاوِينَ أي للكافرين وَقِيلَ لَهُمْ يعني يوم القيامة أَيْنَ ما كُنْتُمْ

[سورة الشعراء (26): الآيات 103 إلى 129]

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي يمنعونكم من عذاب الله أَوْ يَنْتَصِرُونَ لأنفسهم فَكُبْكِبُوا قال ابن عباس جمعوا وقيل قذفوا وطرحوا بعضهم على بعض وقيل: ألقوا على رؤوسهم فِيها أي في جهنم هُمْ وَالْغاوُونَ يعني الآلهة والعابدين وقيل: الجن والكافرين وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ يعني أتباعه ومن أطاعه من الإنس والجن وقيل ذريته قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني العابدين والمعبودين تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي نعدلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدكم وَما أَضَلَّنا يعني دعانا إلى الضلال إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس، وقيل: الأولون الذين اقتدينا بهم وقيل يعني إبليس وابن آدم الأول وهو قابيل، وهو أول من سن القتل وأنواع المعاصي فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يعني من يشفع لنا يعني كما أن للمؤمنين شافعين من الملائكة والأنبياء وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب يشفع لنا، يقول ذلك الكفار حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق هو الصادق في المودة مع موافقة الدين عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الرجل يقول في الجنة ما فعل بصديقي فلان وصديقه في الجحيم، فيقول الله عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» رواه البغوي بإسناد الثعلبي. وقال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أنهم تمنوا الرجعة حين لا رجعة لهم. [سورة الشعراء (26): الآيات 103 الى 129] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي مع هذه الدلائل والآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي المنتقم الذي لا يغالب وهو في وصف عزته رحيم. قوله وعز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أي كذبت جماعة قوم نوح، قيل: القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة. فإن قلت: كيف قال المرسلين وإنما هو رسول واحد وكذلك باقي القصص. قلت: لأن دين الرسل واحد وإن الآخر منهم جاء بما جاء به الأول فمن كذب واحد من الأنبياء فقد كذب جميعهم إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أي أخوهم في النسب لا في الدين أَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون فتتركوا الكفر والمعاصي إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي على الوحي، وكان معروفا عندهم بالأمانة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي بطاعته وعبادته وَأَطِيعُونِ أي فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي من جعل وجزاء إِنْ أَجْرِيَ أي ثوابي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قيل: كرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم وقيل ليس فيه تكرار ومعنى الأول ألا تتقون الله في مخالفتي وأنا رسول الله ومعنى الثاني ألا

[سورة الشعراء (26): الآيات 130 إلى 155]

تتقون الله في مخالفتي وإني لست آخذ منكم أجرا قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي السفلة قال ابن عباس: يعني القافة وقيل هم الحاكة والأساكفة قالَ يعني نوحا وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي وما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله تعالى، وما لي إلا ظواهر أمرهم وقال الزجاج الصناعات لا تضر في الديانات وقيل: معناه إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو تعلمون ذلك ما عيرتموهم بصنائعهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي عني وقد آمنوا إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ معناه أخوف من كذبني فمن آمن فهو القريب مني، ومن لم يؤمن فهو البعيد عني قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ أي عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي من المقتولين بالحجارة وهو أسوأ القتل وقيل من المشتومين قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ أي احكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي حكما وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي بعد إنجاء نوح ومن معه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي أمين على الرسالة فكيف تتهمونني اليوم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ قال ابن عباس: أي بكل شرف وفي رواية عنه بكل طريق، وقيل: هو الفج بين الجبلين وقيل: المكان المرتفع آيَةً أي علامة وهي العلم تَعْبَثُونَ يعني بمن مر بالطريق والمعنى، أنهم كانوا: يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم، وقيل إنهم بنوا بروج الحمام فأنكر عليهم هود باتخاذها، ومعنى تعبثون تلعبون بالحمام وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ قال ابن عباس أبنية وقيل قصورا مشيدة وحصونا مانعة، وقيل مآخذ الماء يعني الحياض لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون. [سورة الشعراء (26): الآيات 130 الى 155] وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَإِذا بَطَشْتُمْ أي وإذا أخذتم وسطوتم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب، وهو مذموم في وصف البشر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيه زيادة زجر عن حب الدنيا والشرف والتفاخر وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي أعطاكم من الخير ما تعلمون ثم ذكر ما أعطاهم فقال أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فيه التنبيه على نعمة الله تعالى عليهم إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس

[سورة الشعراء (26): الآيات 156 إلى 188]

إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فكان جوابهم أن قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه، واستخفافهم بما أورده من المواعظ والوعظ كلام يلين القلب يذكر الوعد والوعيد إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرئ بفتح الخاء أي اختلاق الأولين وكذبهم وقرئ خلق بضم الخاء، واللام أي عادة الأولين من قبلنا أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي أنهم أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكارهم المعاد فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الدنيا من العذاب فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها أي ثمرها الذي يطلع منها هَضِيمٌ قال ابن عباس: لطيف وعنه يانع نضيج وقيل: هو اللين الرخو. وقيل: متهشم يتفتت إذا مس. وقيل: الهضيم هو الذي دخل بعضه في بعض من النضج أو النعومة وقيل هو المدرك وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ وقرئ فرهين قيل: الفاره الحاذق بنحتها والفره قال ابن عباس: الأشر والبطر وقيل: معناه متجبرين فرحين معجبين بصنعكم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: أي المشركين وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون الله فيما أمرهم قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من المسحورين المخدوعين وقال ابن عباس: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا والمعنى أنت بشر مثلنا ولست بملك فَأْتِ بِآيَةٍ يعني على صحة ما تقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أنك رسول إلينا قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي حظ من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. [سورة الشعراء (26): الآيات 156 الى 188] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ أي على عقرها لما

[سورة الشعراء (26): الآيات 189 إلى 214]

رأوا العذاب فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ يعني نكاح الرجال من بني آدم وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من قريتنا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي من التاركين المبغضين رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من العمل الخبيث قال الله تعالى فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً أي امرأته فِي الْغابِرِينَ أي بقيت في المهلكين ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الكبريت والنار فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته، والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي بالميزان العدل الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني الخليقة والأمم المتقدمة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً يعني قطعا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ. [سورة الشعراء (26): الآيات 189 الى 214] فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب، فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا والله أعلم بمراده قوله عز وجل وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ

الْعالَمِينَ يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبريل عليه السلام سماه زوجا لأنه خلق من الروح وسماه أمينا، لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه عَلى قَلْبِكَ يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة، وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أخرجاه في الصحيحين. ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور، والغم والحزن هو القلب، فإذا فرح القلب أو حزن يتغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها، ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق، وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم. قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي المخوفين بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه وَإِنَّهُ يعني القرآن وقيل ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته ونعته لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي كتب الأولين أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَعْلَمَهُ يعني يعلم محمدا صلّى الله عليه وسلّم عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم قيل كانوا خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد. قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْناهُ يعني القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية، وإن كان عربيا في النسب ومعنى الآية، وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ يعني القرآن ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفة من اتباع من ليس من العرب كَذلِكَ سَلَكْناهُ قال ابن عباس: يعني أدخلنا الشرك والتكذيب فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي القرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قيل لما وعدهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب، فأنزل الله أفبعذابنا يستعجلون أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ يعني العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئا ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي رسل ينذرونهم ذِكْرى أي تذكره وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ يعني أن المشركين كانوا يقولون: إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ذلك، ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك. قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق علي، ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك. قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ نحو أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به، فتناول

[سورة الشعراء (26): الآيات 215 إلى 227]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله أن كان الرجل الواحد ليأكل، مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وايم الله أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الغد يا: علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا، وأنا أحدثهم سنا فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي، ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه» (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش، حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري، لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه، فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه (ق) عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا» (م) عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى «يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه» ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولا وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانيا لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع. [سورة الشعراء (26): الآيات 215 الى 227] وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) وَاخْفِضْ أي ألن جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله «من المؤمنين» وقلت: معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألسنتهم وهم

المنافقون فَإِنْ عَصَوْكَ يعني فيما تأمرهم به فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعني من الكفر والمخالفة وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره وهو الله تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك، بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال ابن عباس: ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة، وقيل: معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان صلّى الله عليه وسلّم يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل ترون قبلتي ها هنا فو الله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» وقيل: معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقيل: تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لقولك ودعائك الْعَلِيمُ يعني بنيتك وعملك قل يا محمد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ يعني كذاب أَثِيمٍ يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبد الله الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب، والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فذلك قوله يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع كل واحد غواة من قومه، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام يَهِيمُونَ يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون، وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق، فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا» ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الكفار، ويهجون وينافحون عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل» أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: وقد روي في غير هذا الحديث أن

فصل في مدح الشعر

النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح، هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان والله أعلم (ق) عن البراء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإن جبريل معك» (خ) عن عائشة قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينافح ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله» (م) عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان: قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبيا لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول هجاهم حسان فشفى واشتفى» فقال حسان: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمدا برا تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لمم تروها ... تثير النقع موعدها كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على أكنافها الأسل الظماء تظل جيادها متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء فصل في مدح الشعر (خ) عن أبي بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من الشعر لحكمة» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل يتكلم بكلام فقال «إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما» أخرجه أبو داود (م) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: «ردفت وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء، قلت نعم قال: هيه: فأنشدته بيتا فقال: هيه ثم أنشدته بيتا قال: هيه حتى أنشدته مائة بيت زاد في رواية لقد كاد يسلم في شعره» عن جابر بن سمرة قال: «جالست النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت وربما تبسم معهم» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في

المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها فقال: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتا ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة. قوله تعالى وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدءوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا وهجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الطاهر المطهر من الهجاء أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي أيّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس: إلى جهنم وبئس المصير والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة النمل

سورة النمل مكية وهي ثلاث وتسعون آية وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النمل (27): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) قوله عز وجل طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي هذه آيات القرآن وَكِتابٍ مُبِينٍ أي وآيات كتاب مبين هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي هو هدى من الضلالة، وبشرى لهم بالجنة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي الخمس بشرائطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي إذا وجبت عليهم طيبة بها أنفسهم وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يعني أن هؤلاء الذين يعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة. [سورة النمل (27): الآيات 4 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي القبيحة حتى رأوها حسنة وقيل: إن التزين هو أن يخلق الله العلم في القلب بما فيه المنافع واللذات ولا يخلق العلم بما فيه المضار والآفات فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي يترددون فيها متحيرين أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي أشده وهو القتل والأسر وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وساروا إلى النار. قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي تؤتاه وتلقنه وحيا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي حكيم عليم بما أنزل إليك. فإن قلت: ما الفرق بين الحكمة والعلم. قلت: الحكمة هي العلم بالأمور العلمية فقط والعلم أعم منه لأنه العلم قد يكون علما، وقد يكون نظرا والعلوم النظرية أشرف إِذْ قالَ أي واذكر يا محمد إذ قال مُوسى لِأَهْلِهِ أي في مسيره بأهله من مدين إلى مصر إِنِّي آنَسْتُ أي أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي امكثوا مكانكم سآتيكم بخبر عن الطريق، وقد كان ضل عن الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ الشهاب شعلة النار والقبس النار المقبوسة منها، وقيل: القبس هو العود الذي في أحد طرفيه نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ يعني تستدفئون من البرد وكان في شدة الشتاء فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ

[سورة النمل (27): الآيات 11 إلى 16]

مَنْ فِي النَّارِ يعني يورك على من في النار وقيل: البركة راجعة إلى موسى والملائكة والمعنى من في طلب النار وهو موسى وَمَنْ حَوْلَها وهم الملائكة الذين حول النار وهذه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة، وقيل: المراد من النار النور وذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا ومن في النار هم الملائكة وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ومن حولها موسى، لأنه كان بالقرب منها وقيل البركة راجعة إلى النار، وقال ابن عباس: معناه بوركت النار والمعنى بورك من في النار ومن حولها وهم الملائكة وموسى وروي عن ابن عباس في قوله بورك من في النار يعني قدس من في النار وهو الله تعالى عنى به نفسه على معنى أنه نادى موسى وأسمعه من جهتها كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعين واستعلى من جبال فاران ومعنى مجيئه من سيناء بعثه موسى منه، ومن ساعين بعثة المسيح ومن جبال فاران بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفاران اسم مكة، وقيل كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل كما صح في الحديث «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ثم نزه الله سبحانه وتعالى نفسه، وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال تعالى وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال: الله يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قيل معناه أن موسى قال: من المنادي قال: إنه أنا الله وهذا تمهيد لما أراد الله أن يظهره على يده من المعجزات، والمعنى أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية وهو قوله وَأَلْقِ عَصاكَ تقديره فألقاها فصارت حية فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها وَلَّى مُدْبِراً يعني هرب من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ يعني لم يرجع، ولم يلتفت قال الله تعالى يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ يريد إذا أمنتهم لا يخافون أما الخوف الذي هو شرط الإيمان، فلا يفارقهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أنا أخشاكم لله». [سورة النمل (27): الآيات 11 الى 16] إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ قيل: هو ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل والصغيرة وقيل يحتمل أن يكون المراد منه التعريض بما وجد من موسى من قتل القبطي وهو من التعريضات اللطيفة وسماه ظلما لقول موسى إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ثم إنه خاف من ذلك فتاب قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ قال ابن جريح: قال الله تعالى لموسى إنما أخفتك لقتلك النفس، ومعنى الآية لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فعلى هذا التأويل يكون صحيحا وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله إلا من ظلم ثم ابتدأ الخبر عن حالة من ظلم من الناس كافة وفي الآية متروك استغنى عن ذكره لدلالة الكلام عليه تقديره: فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وقيل ليس هذا الاستثناء من المرسلين، لأنه لا يجوز عليهم الظلم بل هو استثناء من المتروك ومعناه: لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف عليهم من الظالمين وهذا الاستثناء المنقطع معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف فإن تاب وبدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم أي أغفر له وأزيل خوفه وقيل: إلا هنا بمعنى ولا معناه ولا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم، ثم بدل حسنا بعد سوء يعني تاب من ظلمه فإني غفور رحيم ثم إن الله تعالى أراه آية أخرى فقال تعالى

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ قيل كانت عليه مدرعة صوف لا كمّ لها، ولا أزرار فأدخل يده في جيبها وأخرجها فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس أو البرق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني من غير برص فِي تِسْعِ آياتٍ يعني آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن فعلى هذا تكون الآيات إحدى عشرة العصا واليد البيضاء والفلق والطوفان والجراد، والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، وقيل: في بمعنى من أي من تسع آيات فتكون اليد البيضاء من التسع إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني خارجين عن الطاعة فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً يعني بينة واضحة يبصرونها قالُوا هذا يعني الذي نراه سِحْرٌ مُبِينٌ يعني ظاهر وَجَحَدُوا بِها يعني أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يعني علموا أنها من عند الله والمعنى أنهم جحدوا بها بألسنتهم واستيقنوها بقلوبهم وضمائرهم ظُلْماً وَعُلُوًّا أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني الغرق. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً يعني علم القضاء والسياسة وعلم داود تسبيح الطير، والجبال وعلم سليمان منطق الطير والدواب وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا يعني بالنبوة والكتاب والملك وتسخير الجن والإنس عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أراد بالكثير الذين فضلا عليهم من لم يؤت علما أو لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وقيل إنهما لم يفضلا أنفسهما على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعني نبوته وعلمه، وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا وأعطي سليمان ما أعطي داود وزيد له تسخير الريح، والجن والشياطين قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود، وأقضى منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى وَقالَ يعني سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه، وروي عن كعب الأحبار قال: صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا لا قال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وصاح طاوس فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: إنه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال: إنه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال إنه يقول استغفروا ربكم يا مذنبين وصاحت طيطوى فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا قال: فإنها تقول كل حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال: إنه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة قال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وصاح قمري قال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال إنه يقول سبحان ربي الدائم قال والغراب يدعو على العشار والحدأة تقول كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول من سكت سلم والببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه. والضفدع يقول سبحان ربي القدوس والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل لسان. وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال إنه يقول الرحمن على العرش استوى وقال فرقد مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه، ويميل ذنبه فقال: لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال إنه يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وروي أن جماعة من اليهود قالوا لا بن عباس: إنا سائلوك عن سبعة أشياء إن أخبرتنا آمنا وصدقنا قال: سلوا تفقها لا تعنتا قالوا أخبرنا ما تقول القنبرة في صفيرها والديك في صعيقه، والضفدع في نقيقه والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج قال نعم أما القنبر فإنه يقول: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلين وأما الضفدع، فإنه يقول سبحان الله المعبود في البحار وأما الحمار فإنه يقول اللهم العن العشار وأما

[سورة النمل (27): الآيات 17 إلى 20]

الفرس، فإنه يقول إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح وأما الزرزور، فإنه يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق وأما الدراج فإنه يقول الرحمن على العرش استوى، فأسلم هؤلاء اليهود وحسن إسلامهم وروي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال: إذا صاح النسر قال: يا ابن آدم عشت ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي محمد وآل محمد وإذا صاح الخطاف قال الحمد لله رب العالمين ويمد العالمين كما يمد القارئ. وقوله تعالى وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي مما أوتي الأنبياء، والملوك قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة وقيل النبوة والملك وتسخير الرياح والجن والشياطين إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعني الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا وروي أن سليمان أعطي مشارق الأرض ومغاربها فملك ذلك أربعين سنة فملك جميع الدنيا من الجن والإنس والشياطين والطير، والدواب والسباع وأعطي مع هذا منطق الطير ومنطق كل شيء وفي زمنه صنعت الصنائع العجيبة. [سورة النمل (27): الآيات 17 الى 20] وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) وَحُشِرَ أي جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ من الأماكن المختلفة في مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبسون حتى يرد أولهم على آخرهم، قيل: كان على جنوده وزعة من النقباء ترد أولها على آخرها لئلا يتقدموا في المسير قال محمد بن كعب القرظي كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة فالبريد ثمانية وأربعون ألف خطوة لأنه أربع فراسخ فجملة ذلك خمسة وعشرون بريدا وقيل نسجت الجن له بساطا من ذهب وحرير، فرسخا في فرسخ وكان يوضع كرسيه في وسطه، فيقعد وحوله كراسي الذهب والفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، والناس حوله والجن والشياطين حول الناس والوحوش حولهم وتظله الطير بأجنحتها، حتى لا تقع عليه شمس وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني حرة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به وأوحى الله إليه، وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح وأخبرتك به. قوله عز وجل حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ أي أشرفوا على وادي النمل روي عن كعب الأحبار قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون وهو بين السماء والأرض واتخذ ميادين للدواب فتجري بين يديه والريح تهوي به فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون في آخر الزمان طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه ولما وصل مكة رأى حول البيت، أصناما تعبد فجاوزه سليمان فلما جاوزه بكى البيت فأوحى الله إليه ما يبكيك قال يا رب أبكاني هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا علي، ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه لا تبك، فإني سوف أملؤك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، وأفرض عليهم فريضة يزفون إليك زفيف النسر إلى

[سورة النمل (27): الآيات 21 إلى 22]

وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان والأصنام والشيطان ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف فأتى على وادي النمل كذا قال كعب الأحبار. وقيل: إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم. وقيل: إن ذلك النمل أمثال الذباب. وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قيل: كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمي يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولا كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستبعد أن يخلق الله فيها عقلا ونطقا فإنه قادر على ذلك لا يَحْطِمَنَّكُمْ أي لا يكسرنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال أهل التفسير. علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم، ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطئوكم، ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان، فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم. فإن قلت: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح، قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي، فلذلك قالت نملة: لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكا متبسما، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم» عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي. فإن قلت: ما كان سبب ضحك سليمان. قلت شيئان: أحدهما ما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون. الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه، ما قالته النملة وقيل: إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك، ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم. قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل: أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين. قوله عز وجل وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا تظله وجنده الطير من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خاليا. وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا، قال نافع بن الأزرق بأوصاف، انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء بالهدهد، وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب، وعمي البصر فنزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي أكان وقيل بل كان من أهل الغائبين، ثم أوعده على غيبته فقال: [سورة النمل (27): الآيات 21 الى 22] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده، وقيل لأفرقنّ بينه وبين إلفه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم، وكان في كل يوم ينحر طول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالا أي وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد: اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا، وعرضها فبينما هو ينظر يمينا وشمالا رأى بستانا لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير، فقال يعفير ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غيره ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير، وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير، فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب يريده، فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا: ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين. قال نجوت إذا فانطلق به العقاب: حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه. وقال له: أين كنت لأعذبنك عذابا شديدا فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ معناه أي غير طويل فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيها على أن أدنى خلق الله قد أحاط علما بما لم يحط به ليكون لطفا له في ترك الإعجاب. والإحاطة بالشيء علما أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه منه معلوم وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قيل: هو اسم للبلد وهي مأرب

[سورة النمل (27): الآيات 23 إلى 28]

والأصح أنه أسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد جاء في الحديث أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ فقال: رحل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة بِنَبَإٍ أي بخبر يَقِينٍ فقال سليمان وما ذاك فقال: [سورة النمل (27): الآيات 23 الى 28] إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) إِنِّي أي الهدهد وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن، وهم على صورة الظباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفردا، فإذا معه شاب جميل فخاف منه، قال: لا تخف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: المال لا حاجة لي به. ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث «إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا: فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلا آخر يقال: إنه ابن أخي الملك وكان خبيثا سيء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال: بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلا وقالت اختاروا رجلا تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها (خ) عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال «لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة». قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي سرير ضخم عال. فإن قلت: كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان. قلت: يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللا بالدر، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس: كان عرش

فصل

بلقيس ثلاثين ذراعا، في ثلاثين ذراعا وطوله في السماء ثلاثون ذراعا. وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل: كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعا. قوله عز وجل إخبارا عن الهدهد وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس، وهم مجوس وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ المزين هو الله لأنه الفعال لما يريد، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي إلى الصواب أَلَّا يَسْجُدُوا قرئ بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف، وقرئ بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ يعني الخفي المخبأ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها، من دون الله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض، عالم بجميع المعلومات اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره. فصل وهذه السجدة من عزائم السجود، يستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. فإن قلت: قد وصف عرش بلقيس بالعظم وعرش الله بالعظم، فما الفرق بينهما. قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه قالَ سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أي فيما أخبرت أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم إن سليمان كتب كتابا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ «بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملا، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ إنما قال: إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جوابا لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم فقف قريبا منهم فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي يردون من الجواب وقيل: تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فأتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب في حجرها وقال وهب بن منبه: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاءوا وأخذوا مجالسهم. [سورة النمل (27): الآيات 29 الى 35] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل سمته كريما لأنه كان مختوما، روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «كرامة الكتاب ختمه» وقال ابن عباس: كريم أي شريف لشرف صاحبه، ثم بينت ممن الكتاب فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ قرأت المكتوب فيه فقالت وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله. قلت: ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس، أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ قال ابن عباس: لا تتكبروا علي. والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة، من العلو والتكبر وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أشيروا علي فيما عرض لي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي قاضية وفاصلة حَتَّى تَشْهَدُونِ أي تحضرون قالُوا يعني الملأ مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي في الجسم على القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك ثم قالوا وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أيتها الملكة أي في القتال وتركه فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي تجدين مطيعين لأمرك قالَتْ بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يؤول إليه أمره إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي عنوة أَفْسَدُوها أي خربوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا، وصدق الله قولها فقال تعالى وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي، وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور، وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف. قال ابن عباس: مائة وصيف ومائه وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة، وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر، وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية، وقالت: إن كنت نبيا ميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت، فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب

[سورة النمل (27): الآيات 36 إلى 39]

فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان، فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة، ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطا شرفه من الذهب والفضة، ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم، فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان، وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين، والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب، التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة، فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، وترك على طريقهم موضعا على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع، ولما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردايس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقيا حسنا، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه، فقال لهم: أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول: صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان: من لي بثقبها وسأل الإنس والجن، فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا: نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت: تصير رزقي في الشجر. فقال: لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكه قال: لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها، تضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى فقال تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 36 الى 39] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك خَيْرٌ أي أفضل مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحدا ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أي بالهدية فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ أي لا طاقة لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من أرض سبأ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب: لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان، وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة. فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل

[سورة النمل (27): الآيات 40 إلى 44]

بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة، قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سريره فرأى رهجا قريبا منه قال ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين. قيل: غرض سليمان في إحضار عرشها ليريها قدرة الله تعالى وإظهار معجزة دالة على نبوته، وقيل أراد أن ينكره ويغيره قبل مجيئها ليختبر بذلك عقلها وقيل: إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه لأنه أعجبه وصفه، لما وصفه له الهدهد وقيل أراد أن يعرف قدر ملكها لأن السرير على قدر المملكة قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ وهو المارد القوي، وقال ابن عباس العفريت الداهية قال وهب: اسمه كوذي. وقيل: ذكوان. وقيل: هو صخر المارد وكان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي مجلس قضائك قال ابن عباس: وكان له في الغداة مجلس يقضي فيه إلى متسع النهار وقيل نصفه وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي على ما فيه من الجواهر وغيرها قال سليمان: أريد أسرع من ذلك. [سورة النمل (27): الآيات 40 الى 44] قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ قيل هو جبريل. وقيل: هو ملك أيد الله به سليمان وقيل هو آصف بن برخيا وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وقيل هو سليمان نفسه لأنه أعلم بني إسرائيل بالكتاب وكان الله قد آتاه علما وفهما، فعلى هذا يكون المخاطب العفريت الذي كلمه فأراد سليمان إظهار معجزة، فتحداهم أولا ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتأتى للعفريت قيل: كان الدعاء الذي دعا به: يا ذا الجلال والإكرام وقيل: يا حي يا قيوم. وروي ذلك عن عائشة وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، وقال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ودعا آصف، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض، حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل: خر سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان فقال: ما قال أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قال سليمان: هات قال أنت النبي ابن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإن دعوت الله كان عندك: قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت فَلَمَّا رَآهُ يعني رأى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي محولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي يعني لتمكن من حصول المراد أَأَشْكُرُ أي نعمته علي أَمْ أَكْفُرُ فلا أشكرها وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة، ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ أي عن شكره لا يضره ذلك الكفران كَرِيمٌ يعني بالإفضال عليه لا يقطع نعمة عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها يعني غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل: هو أن يزاد فيه أو ينقص منه وقيل: إنما يجعل أسفله أعلاه ويجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي إلى معرفة عرشها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، وإنما حمل سليمان على ذلك ما قال وهب ومحمد بن كعب، وغيرهما أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده فأساءوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار، وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان، أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قيل: إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقيل: إنها كانت حكيمة لم تقل نعم خوفا من الكذب ولا قالت: لا خوفا من التكذيب أيضا فقالت: كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر ولم تنكر اشتبه عليها أمر العرش، لأنها تركته في بيت عليه سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها قيل فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ثم قالت وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها يعني من قبل الآية في العرش وَكُنَّا مُسْلِمِينَ يعني منقادين مطيعين خاضعين لأمر سليمان وقيل: قوله تعالى وأوتينا العلم أي بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها أي من قبل الآية في العرش، وكنا مسلمين أو معناه وأوتينا العلم بالله، وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة وكنا مسلمين ويكون الغرض من هذا شكر نعمة الله عليه أن خصه بمزيد العلم، والتقدم في الإسلام وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها طائعة وكنا مسلمين لله. قوله تعالى وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني منعتها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله وقيل معناه صدها سليمان، عما كانت تعبد من دون الله وحال بينها وبينه إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أخبر الله أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ وذلك أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش وأراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهما لما أخبرته الجن أن رجليها كحافر حمار، وهي شعراء الساقين أمر الشياطين، فعملوا لها قصرا من الزجاج الأبيض كالماء وقيل: الصرح صحن الدار وأجرى تحته الماء، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه وقيل إنما عمل الصرح ليختبر به فهمها كما فعلت في الوصفاء والوصائف. فلما جلس على السرير دعا بلقيس، ولما جاءت قيل لها ادخلي الصرح لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً أي ماء عظيما كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لتخوض الماء إلى سليمان، فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما نظر سليمان ذلك صرف بصره عنهاالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي مملس نْ قَوارِيرَ زجاج وليس بماء فحينئذ سترت ساقيها وعجبت من ذلك وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى واستدلت بذلك على التوحيد والنبوةالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعبادة غيرك أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أخلصت له التوحيد والعبادة، وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت: في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا فلما تبين لها خلاف ذلك قالت: رب إني ظلمت نفسي بذلك الظن. واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها، فقيل انتهى أمرها إلى قولها أسلمت لله رب العالمين ولا عمل لأحد وراء ذلك، لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح وقال بعضهم: تزوجها سليمان وكره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس عما يذهب ذلك فقالوا الموسى. فقالت المرأة إني لم يمسني حديد قط فكره سليمان الموسى وقال: إنها تقطع ساقيها

[سورة النمل (27): الآيات 45 إلى 49]

فسأل الجن فقالوا لا ندري فسأل الشياطين. فقالوا: نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة، والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ. فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي سلحين وبيسنون وغمدان ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام وولدت له ولدا ذكرا. وقال وهب: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك حتى أزوجك إياه، فقالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي من قومي الملك والسلطان، قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله قالت: فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن، وملك زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة ملك الجن وقال له اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل يعمل له ما أراد إلى أن مات سليمان وحال الحول، وعلم الجن موت سليمان، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك سلمان وملك ذي تبع وملك بلقيس، وبقي الملك لله الواحد القهار قيل إن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. قوله عز وجل: [سورة النمل (27): الآيات 45 الى 49] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوه لا تشركوا به شيئا فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ أي مؤمن وكافر يَخْتَصِمُونَ أي في الدين كل فريق يقول الحق معنا قالَ يعني صالحا للفريق المكذب يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالبلاء والعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي العافية والرحمة لَوْلا أي هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي بالتوبة إليه من الكفر لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لا تعذبون في الدنيا قالُوا اطَّيَّرْنا أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم وقيل: لإمساك القطر عنهم قالوا إنما أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله مكتوب عليكم، سمي طائرا لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم وقال ابن عباس الشؤم الذي أتاكم من عند الله بكفركم وقيل طائركم أي عملكم، عند الله، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قال ابن عباس تختبرون بالخير والشر وقيل معناه تعذبون. قوله تعالى وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعني مدينة ثمود وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ يعني من أبناء أشرافهم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون وهم غواة قوم صالح الذين اتفقوا على عقر الناقة ورأسهم قدار بن سالف قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ يعني يقول بعضهم لبعض احلفوا بالله أيها القوم لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلنه ليلا وَأَهْلَهُ يعني قومه الذين آمنوا معه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لولي دمه ما شَهِدْنا يعني ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما ندري من قتله ولا هلاك أهله وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني في قولنا ما شهدنا ذلك. [سورة النمل (27): الآيات 50 الى 63] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

وَمَكَرُوا مَكْراً أي غدروا غدرا حين قصدوا تبيت صالح وأهله وَمَكَرْنا مَكْراً يعني جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ يعني أهلكناهم أي التسعة قال ابن عباس: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتت التسعة دار صالح شاهرين سلاحهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة وهم يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم وأهلك الله جميع القوم بالصيحة وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا أي بظلمهم وكفرهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي قدرتنا وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَكانُوا يَتَّقُونَ يقال إن الناجين كانوا أربعة آلاف. قوله تعالى وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة القبيحة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي تعلمون أنها فاحشة وهو من بصر القلب وقيل: معناه يبصر بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عتوا منهم أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فإن قلت إذا فسر تبصرون بالعلم وقد قال: بعده «قوم تجهلون» فيكون العلم جهلا. قلت: معناه تفعلون فعل الجاهلين وتعلمون أنه فاحشة. وقيل: تجهلون العاقبة وقيل أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يعني من أدبار الرجال فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي قضينا عليها بأن جعلناها من الباقين في العذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي الحجارة فَساءَ أي فبئس مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قوله عز وجل قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى هذا خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية، وقيل: يحمده على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى يعني الأنبياء والمرسلين وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فيه تبكيت للمشركين وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار. والمعنى آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها فإن الله خير لمن عبده وآمن به لإغنائه عنه من الهلاك والأصنام، لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب، ولهذا السبب ذكر أنواعا تدل على وحدانيته وكمال قدرته. فالنوع الأول قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ذكر أعظم الأشياء المشاهدة الدالة على عظيم

[سورة النمل (27): الآيات 64 إلى 78]

قدرته. والمعنى الأصنام خير أم الذي خلق السموات والأرض ثم ذكر نعمه فقال وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أي بساتين جمع حديقة، وهو البستان المحيط عليه فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات منظر حسن والبهجة الحسن يبتهج به من يراه ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها يعني ما ينبغي لكم، لأنكم لا تقدرون على ذلك لأن الإنسان قد يقول: أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها وأسقيها الماء فأزال هذه الشبهة بقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، والطعوم والروائح المختلفة والزروع تسقى بماء واحد، لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يتأتى لأحد وإن تأتى ذلك لغيره محال أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يعني هل معه معبود أعانه على صنعه بَلْ يعني ليس معه إله ولا شريك هُمْ قَوْمٌ يعني كفار مكة يَعْدِلُونَ يشركون وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر إلى الباطل. النوع الثاني قوله عز وجل أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي دحاها وسواها للاستقرار عليها، وقيل لا تميد بأهلها وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي وسطها بأنهار تطرد بالمياه وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ يعني العذب والملح حاجِزاً أي مانعا لا يختلط أحدهما بالآخر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي توحيد ربهم وقدرته وسلطانه. النوع الثالث قوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ أي المكروب المجهود، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر يعني إذا نزلت بأحد بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى وقيل: هو المذنب إذا استغفر إِذا دَعاهُ يعني فيكشف ضره وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي الضر لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر، الذي لا يعجز والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي سكانها، وذلك أنه ورثهم سكانها والتصرف فيها قرنا بعد قرن وقيل يجعل أولادكم خلفاء لكم وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تتعظون. النوع الرابع قوله عز وجل أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يهديكم بالنجوم والعلامات إذا جن عليكم الليل مسافرين في البر والبحر وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ النوع الخامس قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 64 الى 78] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي نطفا في الأرحام ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على قولكم إن مع الله إلها

[سورة النمل (27): الآيات 79 إلى 82]

آخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وقت الساعة. والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده ويعلم متى تقوم الساعة وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني أن من في السموات وهم الملائكة ومن في الأرض وهم بنو آدم لا يعلمون متى يبعثون والله تعالى تفرد بعلم ذلك بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ أي بلغ ولحق علمهم فِي الْآخِرَةِ هو ما جهلوه في الدنيا وسقط عنهم علمه. وقيل بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا فيه وعلموا عنه في الدنيا وهو قوله تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ جمع عم وهو أعمى القلب وقيل معنى الآية أن الله أخبر عنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة، وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا. قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مشركو مكة أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي من قبورنا أحياء لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي هذا البعث نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس ذلك بشيء إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي بتكذيبهم إياك وإعراضهم عنك. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ نزلت في المستهزئين الذي اقتسموا عقاب مكة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ أي دنا وقرب لَكُمْ وقيل معناه ردفكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي من العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر. قوله عز وجل وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني على أهل مكة حيث لم يعجل لهم بالعذاب وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي ذلك وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي تخفي وَما يُعْلِنُونَ أي من عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما مِنْ غائِبَةٍ أي من جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي يبين لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه وَإِنَّهُ يعني القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي يفصل بينهم ويحكم بين المختلفين في الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ أي الحق هُوَ الْعَزِيزُ الممتنع الذي لا يرد له أمر الْعَلِيمُ أي بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء منها. [سورة النمل (27): الآيات 79 الى 82] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فثق به إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي البين إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى يعني موتى القلوب وهم الكفار وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ، إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أي معرضين. فإن قلت ما معنى مدبرين والأصم لا يسمع صوتا سواء أقبل أو أدبر؟. قلت: هو تأكيد ومبالغة وقيل: إن الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت، أو يفهم بالإشارة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم. ومعنى الآية إنه لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى سماعه، وكالأصم الذي لا يسمع ولا يفهم وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ معناه ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون. قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني إذا وجب عليهم العذاب وقيل: إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم، وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا

[سورة النمل (27): الآيات 83 إلى 87]

عن المنكر وقيل إذا لم يرج صلاحهم وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم: حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن، وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة ثم تمكث زمنا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة، وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم يرعهم، إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو، كذا قال عمر وما بين الركب الأسود إلى باب بني مخزوم، عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل، ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدابة قلت: يا رسول الله من أين تخرج قال «من أعظم المساجد حرمة على الله فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها الطالب، ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمنا وكافرا فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر» وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وعن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثا قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وعن عبد الله بن عمرو قال: تخرج الدابة من شعب أجياد فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض وروي عن علي قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة، كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون تُكَلِّمُهُمْ أي بكلام فصيح قيل تقول هذا مؤمن وهذا كافر. وقيل: تقول ما أخبر الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ تخبر الناس عن أهل مكة أنهم لم يؤمنوا بالقرآن والبعث. وقرئ تكلمهم بتخفيف اللام من الكلم، وهو الجرح وقال ابن الجوزي: سئل ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم وتكلمهم فقال: كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر. قوله تعالى: [سورة النمل (27): الآيات 83 الى 87] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)

[سورة النمل (27): الآيات 88 إلى 93]

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي نحشر من كل قرن جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعون ثم يساقوا إلى النار حَتَّى إِذا جاؤُ يعني يوم القيامة قالَ الله تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي ولم تعرفوها حق معرفتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي حين لم تتفكروا فيها وقيل: معنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها بل كنتم بها جاهلين وَوَقَعَ الْقَوْلُ أي وجب العذاب عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا أي بما أشركوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي بحجة وقيل إن أفواههم مختومة أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا أي أنا خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا يبصر فيه. وفي الآية دليل على البعث بعد الموت لأن القادر على قلب الضياء ظلمة، والظلمة ضياء قادر على الإعادة بعد الموت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون فيعتبرون. قوله تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ هو قرن ينفخ فيه إسرافيل قال الحسن: الصور هو القرن ومعنى كلامه إن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب في الأجساد فتحيا بها الأجساد فَفَزِعَ أي فصعق مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا. والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. وقيل ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ روى أبو هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى «إلا من شاء الله» قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش وقال ابن عباس: هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل إليهم الفزع. وقيل: يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفسه ثم يقول: من بقي يا ملك الموت فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، وجهك الباقي الدائم بقي جبريل وميكائيل، وملك الموت فيقول: خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع، كالطود العظيم فيقول من بقي من خلقي فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل، وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام بقي وجهك الدائم الباقي وجبريل، الميت الفاني فيقول الله: يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه. فيروى أن فضل خلقه على ميكائيل كفضل الطود العظيم على ظرب من الظراب. ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح ملك الموت، فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم يقول الله «أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى: لله الواحد القهار (ق) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي، ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وقيل الذين استثنى الله هم رضوان والحور ومالك والزبانية. وقوله تعالى وَكُلٌّ أي وكل الذين أحيوا بعد الموت أَتَوْهُ أي جاءوه داخِرِينَ أي صاغرين. [سورة النمل (27): الآيات 88 الى 93] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً أي قائمة واقفة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعني أنه تعالى، لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي بكلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الإخلاص في العمل، وقيل الحسنة كل طاعة عملها لله عز وجل فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله، وقيل: هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله والنظر إليه لقوله «ورضوان من الله» وقيل: معنى خير منها الأضعاف أعطاه الله بالواحدة عشر أضعافها، لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض. قلت: إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه. وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني بالشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم «هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» في الدنيا من الشرك. وقوله تعالى إِنَّما أُمِرْتُ يعني يقول الله تعالى لرسوله قل إنما أمرت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها الله حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا يدخلها إلا محرم، وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من الله لا من الأصنام وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لله المطيعين له وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام صلّى الله عليه وسلّم بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي نفع اهتدائه يرجع إليه وَمَنْ ضَلَّ أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي من المخوفين، وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على جميع نعمه، وقيل: على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار سَيُرِيكُمْ آياتِهِ الباهرة ودلائله القاهرة قيل: هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل: آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون الآيات والدلالات وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة القصص

سورة القصص وهي مكية إلا قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهي ثمان وثمانون آية وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القصص (28): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) قوله عز وجل طسم تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو الكتاب الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام. [سورة القصص (28): الآيات 3 الى 7] نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ أي خبر مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ أي بصدق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بالقرآن إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا أي تجبر وتكبر فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا في أنواع الخدمة والتسخير يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يعني بني إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ سمى هذا استضعافا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي بالقتل والتجبر في الأرض وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي ننعم عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ يعني بني إسرائيل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة في الخير يقتدى بهم وقيل ولاة ملوكا وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يعني أملاك فرعون، وقومه بأن نجعلهم في مساكنهم وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نوطن لهم أرض مصر والشام، ونجعلها لهم سكنا وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يخافون وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل وكانوا على حذر منه فأراهم الله ما كانوا يحذرون. قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى هو وحي إلهام، وذلك بأن قذف في قلبها واسمها يوحانذ من نسل لاوي بن يعقوب أَنْ أَرْضِعِيهِ قيل أرضعته ثمانية أشهر وقيل أربعة وقيل ثلاثة وكانت ترضعه، وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي الذبح فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر وأراد نيل مصر وَلا

ذكر القصة في ذلك

تَخافِي أي عليه من الغرق وقيل الضيعة وَلا تَحْزَنِي أي على فراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال ابن عباس إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه الصلاة والسلام. ذكر القصة في ذلك قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، وقالت لها: قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم، فعالجت قبالها فلما وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك، ولكن وجدت لولدك حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك، فإني أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا إلى أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب فلفته بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن فقالوا ما أدخل القابلة قالت هي مصافية لي فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخته فأين الصبي؟ فقالت: لا أدري فسمعت بكاء الصبي في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما فاحتملته، قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتا له ثم تقذف التابوت في النيل فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال النجار ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته، وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطلق الكلام وجعل يشير بيديه فلم تدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ لسانه وبصره فلم يطق الكلام، ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه، وبقي حيران فجعل لله عليه إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه فيحفظه، حيثما كان فعرف الله صدقه فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدا فقال يا رب: دلني على هذا العبد الصالح فدله عليه فآمن به وصدقه وقال وهب لما حملت أم موسى بموسى، كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى، وذلك شيء ستره الله تعالى لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي ولد فيها، بعث فرعون القوابل وتقدم الأمين ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك مثله، وحملت بموسى ولم يتغير لونها ولم ينب بطنها فكانت القوابل لا تتعرض لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم وأوحى الله إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ فكتمته ثلاثة أشهر فلما خافت عليه عملت تابوتا، مطبقا، ثم ألقته في اليم وهو البحر ليلا. قال ابن عباس وغيره: كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في ساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ البحر

[سورة القصص (28): الآيات 8 إلى 12]

مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون: إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجر ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه. فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في التابوت وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منه لبنا فألقى الله محبته في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه. وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ثم قبلته وضمته إلى صدرها فقالت: الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا رمي به في البحر فزعا منك فهم فرعون بقتله فقالت آسية: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أي فنصيب منه خيرا أو نتخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها. وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها الله» فقيل لآسية سميه فقالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر لأن موسى هو الماء وهو الشجر فذلك قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 8 الى 12] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي عاقبة أمرهم إلى ذلك لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي آثمين وقيل: هو من الخطأ ومعناه أنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال وهب لما نظر إليه فرعون قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكانت آسية امرأة فرعون من خيار النساء ومن بنات الأنبياء. وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وأنت أمرت أن تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي. وقيل: إنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى وليس هو من بني إسرائيل فاستحياه فرعون وألقى الله محبته عليه قال ابن عباس لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه قوله تعالى وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه وقيل معناه ناسيا للوحي الذي أوحى الله عز وجل إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان وقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله وألقيته في البحر وأغرقته. ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لتصرح بأنه ابنها من شدة وجلها. قال ابن عباس كادت تقول وا ابناه وقيل لما رأت التابوت ترفعه موجة وتحطه أخرى خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شدة شفقتها عليه. وقيل كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون

[سورة القصص (28): الآيات 13 إلى 18]

فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي بالعصمة والصبر والتثبت لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين بوعد الله إياها وَقالَتْ لِأُخْتِهِ أي لمريم أخت موسى قُصِّيهِ أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد قيل كانت تمشي جانبا وتنظره اختلاسا ترى أنها لا تنظره وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته وأنها ترقبه وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثديا قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم مِنْ قَبْلُ أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب ذلك فَقالَتْ يعني أخت موسى هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيرا ترضعه وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل لما قالت: وهم له ناصحون قالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل: إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا قيل كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 13 الى 18] فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي برد موسى إليها وَلا تَحْزَنَ أي لئلا تحزن وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي برده إليها وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الله وعدها أن يرده إليها وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة وَاسْتَوى أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس: وقيل انتهى شبابه وتكامل آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي عقلا وفهما في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قوله تعالى وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوما وكان موسى غائبا فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد. وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا على حين غفلة من أهلها.

[سورة القصص (28): الآيات 19 إلى 24]

وقيل لما ضرب موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله قالت امرأته هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته فأخرج منها فلم يدخل عليهم حتى كبر وبلغ أشده فدخل على حين غفلة من أهلها يعني عن ذكر موسى ونسيانهم خبره لبعد عهدهم به. وعن علي أنه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتخاصمان ويتنازعان هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي من بني إسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يعني من القبط وقيل هذا مؤمن وهذا كافر وقيل الذي كان من الشيعة هو السامري والذي من عدوه هو طباخ فرعون واسمه فاتون وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي يحمله الحطب. وقال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ يعني الإسرائيلي عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ يعني الفرعوني والاستغاثة طلب الغوث والمعنى أنه سأله أن يخلصه منه وأن ينصره عليه فغضب موسى واشتد غضبه لأنه أخذه وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة فقال موسى للفرعوني: خلّ سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة فَوَكَزَهُ مُوسى يعني ضربه بجميع كفه وقيل الوكز الضرب في الصدر وقيل الوكز الدفع بأطراف الأصابع فَقَضى عَلَيْهِ يعني قتله وفرغ من أمره فندم موسى عليه ولم يكن قصد القتل فدفنه في الرمل قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ يعني بين الضلالة وقيل في قوله هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى أن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان والمراد منه بيان كونه مخالفا لله سبحانه وتعالى مستحقا للقتل وقيل هذا إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي يعني بقتل القبطي من غير أمر وقيل هو على سبيل الاتضاع لله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله فَاغْفِرْ لِي يعني ترك هذا المندوب وقيل يحتمل أن يكون المراد «رب إني ظلمت نفسي» حيث فعل هذا فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فقال أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي فستره عن الوصول إلى فرعون إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أي بالمغفرة والستر الذي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ معناه فأنا لا أكون معاونا لأحد من المجرمين قال ابن عباس الكافرين وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا. قال ابن عباس لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيرا للمجرمين فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ أي التي قتل فيها القبطي خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي ينتظر سوءا والترقب انتظار المكروه وقيل ينتظر متى يؤخذ به فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيث به من بعد. قال ابن عباس: أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا فقال اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي قالَ لَهُ مُوسى للإسرائيلي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي ظاهر الغواية قاتلت رجلا بالأمس فقتلته بسببك وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه. [سورة القصص (28): الآيات 19 الى 24] فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة للإسرائيلي فمد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضب موسى وسمع قوله إنك لغوي مبين قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ معناه أنه لم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك فسمعه القبطي فأتى فرعون فأخبره بذلك إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي بالقتل ظلما وقيل الجبار هو الذي يقتل ويضرب ولا ينظر في العواقب وقيل هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ولما فشا أن موسى قتل القبطي أمر فرعون بقتله فخرجوا في طلبه وسمع بذلك رجل من شيعة موسى يقال إنه مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل سمعان وهو قوله تعالى وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى أي يسرع في مشيه وأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ يعني يتشاورون فيك لِيَقْتُلُوكَ وقيل يأمر بعضهم بعضا بقتلك فَاخْرُجْ يعني من المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ يعني في الأمر بالخروج فَخَرَجَ مِنْها يعني موسى خائِفاً على نفسه من آل فرعون يَتَرَقَّبُ يعني ينتظر الطلب هل يلحقه فيأخذه ثم لجأ إلى الله تعالى لعلمه أنه لا ملجأ إلا إليه قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين. قوله تعالى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ يعني قصد نحوها ماضيا قيل إنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأن أهل مدين من ولد إبراهيم وموسى من ولد إبراهيم ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلد باسمه وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام، قيل خرج موسى خائفا بلا ظهر ولا زاد ولا أحد ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض حتى رأى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه قال ابن عباس وهو أول ابتلاء من الله لموسى قالَ يعني موسى عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ يعني قصد الطريق إلى مدين وذلك أنه لم يكن يعرف الطريق إليها قيل لما دعا موسى جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قوله عز وجل وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ هو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ يعني على الماء أُمَّةً يعني جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ يعني مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ يعني سوى الجماعة وقيل بعيدا من الجماعة امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تند وتذهب والقول الأول أولى لما بعده وهو قوله قالَ يعني موسى للمرأتين ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس قالَتا لا نَسْقِي يعني أغنامنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي حتى يرجع الرعاء من الماء والمعنى أنا امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا نحن مواشينا من فضل ما بقي منهم في الحوض وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي لا يقدر أن يسقي مواشيه فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم، قيل أبوهما هو شعيب عليه الصلاة والسلام. وقيل هو بيرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات بعد ما كف بصره وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما فاقتلع صخرة من على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. وقيل زاحم القوم ونحاهم كلهم عن البئر وسقى لهما الغنم وقيل لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى فرفع الحجر ونزع دلوا واحدا فيه بالبركة وسقى الغنم فرويت فذلك قوله تعالى فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ يعني

[سورة القصص (28): الآيات 25 إلى 28]

عدل إلي رأس الشجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ معناه أنه طلب الطعام لجوعه واحتياجه إليه. قال ابن عباس: إن موسى سأل الله فلقة خبز يقيم بها صلبة وعن ابن عباس قال: لقد قال موسى: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة وقيل ما سأل إلا الخبز فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه إلي قال الله تعالى: [سورة القصص (28): الآيات 25 الى 28] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قيل هي الكبرى واسمها صفوراء وقيل صفراء وقيل بل هي الصغرى واسمها ليا وقيل صفيراء وقال عمر بن الخطاب ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء وقيل استحيت منه لأنها دعته لتكافئه وقيل لأنها رسول أبيها قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا قيل لما سمع موسى ذلك كره أن يذهب معها ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي ودليني على الطريق إذا أخطأت ففعلت ذلك فلما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء مهيئا فقال: اجلس يا فتى فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذاك ألست بجائع؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا من الدنيا فقال له شعيب: لا والله يا فتى ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس وأكل فذلك قوله عز وجل فَلَمَّا جاءَهُ أي موسى وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي أخبره بأمره أجمع من خبر ولادته وقتله القبطي وقصد فرعون قتله قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني من فرعون وقومه وإنما قال ذلك لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ يعني إن خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة فقال لها أبوها ما أعلمك بقوته وأمانته؟ قالت أما قوته فإنه رفع الحجر من على رأس البئر ولا يرفعه إلا عشرة. وقيل أربعون رجلا وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك قالَ شعيب عند ذلك إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ قيل زوجه الكبرى وقال الأكثرون إنه زوجه الصغرى منهما واسمها صفوراء وهي التي ذهبت في طلب موسى عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي تكون لي أجيرا ثمان سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإن أتممت العشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وقيل يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته قالَ يعني موسى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعني ما شرطت علي فلك وما شرطت من تزوج

[سورة القصص (28): الآيات 29 إلى 35]

إحداهما فلي والأمر بيننا على ذلك أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي أيّ الأجلين أتممت وفرغت منه الثمانية أو العشرة فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال ابن عباس شهيد بيني وبينك (خ) عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى أقدم على خير العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضي أكثرهما وأطيبهما لأن رسول الله إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا: «إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوج صغراهما وقضى أوفاهما». وقال وهب أنكحه الكبرى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره فقال الله له: ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار فقال: لا يا رب ولكن شوقا إلى لقائك فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك كليمي موسى ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاه يدفع بها السباع عن غنمة قيل كانت من آس الجنة حملها آدم معه فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. ثم إن موسى لما قضى الأجل سلم شعيب إليه ابنته فقال لها موسى اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك فقال لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها وقيل إن شعيبا أراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته فقال له: إني قد وهبت لك ولد أغنامي كل أبلق وبلقاء في هذه السنة فأوحى الله تعالى إلى موسى في النوم أن اضرب بعصاك الماء، ثم اسق الأغنام منه ففعل ذلك فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام. قوله عز وجل: [سورة القصص (28): الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وفرغ منه وَسارَ بِأَهْلِهِ قيل مكث موسى بعد الأجل عند شعيب عشر سنين أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فسار بأهله أي بزوجته قاصدا إلى مصر آنَسَ أي أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي قطعة وشعلة من النار وقيل: الجذوة العود الذي اشتعل بعضه لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ

[سورة القصص (28): الآيات 36 إلى 45]

مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ جعلها الله مباركة لأن الله تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا وقيل يريد البقعة المقدسة مِنَ الشَّجَرَةِ يعني من ناحية الشجرة قال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء تبرق وقيل كانت عوسجة وقيل كانت من العليق وعن ابن عباس إنها العناب أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قيل إن موسى لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الله تعالى فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى. وقيل: إن الله تعالى خلق في نفس موسى علما ضروريا بأن المتكلم هو الله تعالى وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى. وقيل: إنه قيل لموسى كيف عرفت أنه نداء الله قال إني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم بذلك أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ يعني فألقاها فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ يعني تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ هي الحية الصغيرة والمعنى أنها في سرعة حركتها كالحية السريعة الحركة وَلَّى مُدْبِراً يعني هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ يعني ولم يرجع قال وهب إنها لم تدع شجرة، ولا صخرة إلا بلعتها حتى إن موسى سمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والصخر في جوفها فحينئذ ولى مدبرا ولم يعقب فنودي عند ذلك يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. قوله عز وجل اسْلُكْ يَدَكَ يعني أدخل يدك فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني برص والمعنى أنه أدخل يده فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يعني من الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وما تراه من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى وقال ابن عباس: أمر الله موسى أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقيل المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جناحك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه. وقيل الرهب الكم بلغة حمير ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك لأنه تناول العصا ويده في كمه فَذانِكَ يعني العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ يعني آيتان مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني خارجين عن الحق قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يعني القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ يعني به وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً يعني بيانا وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يعني عونا يُصَدِّقُنِي يعني فرعون وقيل تصديق هارون هو أن يلخص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار فهذا هو التصديق المفيد إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ يعني فرعون وقومه قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ يعني سنقويك به وكان هارون بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً يعني حجة وبرهانا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي بقتل ولا سوء بِآياتِنا قيل معناه نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ يعني لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه. [سورة القصص (28): الآيات 36 الى 45] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ يعني واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً يعني مختلق وَما سَمِعْنا بِهذا يعني بالذي تدعونا إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يعني أنه يعلم المحق من المبطل وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني الكافرون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فيه إنكار لما جاء به موسى من توحيد الله وعبادته فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ يعني اطبخ لي الآجر قيل إنه أول من اتخذ آجرا وبنى به فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي قصرا عاليا وقيل منارة. قال أهل السير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، وأمر بالبناء فبنوه ورفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق وأراد الله أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما فقال: قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعده راكبا على البراذين فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منه على عسكره فقتلت منهم ألف رجل ووقعت قطعة منه في البحر وقطعة في المغرب فلم يبق أحد عمل شيئا فيه إلا هلك فذلك قوله لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى يعني أنظر إليه وأقف على حاله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ يعني في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري وأنه أرسله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق بالباطل والظلم بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ يعني للحساب والجزاء فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ يعني فألقيناهم في البحر وهو القلزم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ يعني حين صاروا إلى الهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يعني قادة ورؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي الكفر والمعاصي التي يستحقون بها النار لأن من أطاعهم ضل ودخل النار وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يعني لا يمنعون من العذاب وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني خزيا وبعدا وعذابا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ يعني المبعدين وقيل المهلكين. وقال ابن عباس من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن كانوا قبل موسى بَصائِرَ لِلنَّاسِ ليبصروا ذلك فيهتدوا به وَهُدىً يعني من الضلالة لمن عمل به وَرَحْمَةً يعني لمن آمن به لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني بما فيه من المواعظ وَما كُنْتَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي وما كنت يا محمد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ يعني بجانب الجبل الغربي قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني الحاضرين ذلك المقام الذي أوحينا إلى موسى فيه فتذكره من ذات نفسك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً يعني خلقنا بعد موسى أمما فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعني طالت عليهم المدة فنسوا عهد الله وتركوا أمره وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد والإيمان به فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي كمقام موسى وشعيب فيهم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يعني تذكرهم بالوعد والوعيد وقيل معناه لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي أرسلناك رسولا

[سورة القصص (28): الآيات 46 إلى 53]

وأنزلنا إليك كتابا فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه ولولا ذلك لما علمتها أنت ولم تخبرهم بها. [سورة القصص (28): الآيات 46 الى 53] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي بناحية الجبل الذي كلم الله موسى عليه إِذْ نادَيْنا أي موسى خذ الكتاب بقوة وقال وهب قال موسى: يا رب أرني محمدا وأمته قال إنك لن تصل إلى ذلك ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك واطلاعك على الأخبار الغائبة عنك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل مكة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اعلم أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى فالمراد بقوله: «إذ قضينا إلى موسى الأمر» هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله «وما كنت ثاويا في أهل مدين» أول أمر موسى والمراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى ولما بينها لرسوله ولم يكن في هذه الأحوال حاضرا بين الله أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم ومعجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك. قوله تعالى وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني من الكفر والمعاصي فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أي هلّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ومعنى الآية لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم وقيل معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم قالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أي هلا أُوتِيَ محمد مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى يعني من الآيات كالعصا واليد البيضاء. وقيل: أوتي كتابا جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال الله تعالى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل يعني اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا يعني التوراة والقرآن يقوي كل واحد

[سورة القصص (28): الآيات 54 إلى 61]

منهما الآخر وقيل ساحران يعني محمدا وموسى. وقيل إن مشركي مكة بعثوا إلى رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعني بالتوراة والقرآن وقيل بمحمد وموسى قُلْ يا محمد فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما يعني من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ يعني الكتاب الذي تأتون به من عند الله وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يأتوا بما طلبت فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قوله عز وجل وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال ابن عباس: بينا وقيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا، وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم، وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخصاصة قالوا: يا رسول الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين. فنزلت هذه الآيات إلى قوله «ومما رزقناهم ينفقون» وقال ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا وذلك أن ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إنه نبي حق. [سورة القصص (28): الآيات 54 الى 61] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر بِما صَبَرُوا أي على دينهم وعلى أذى المشركين (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ

السَّيِّئَةَ قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في الطاعة وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي القول القبيح أَعْرَضُوا عَنْهُ وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة ويقولون تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا ولكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد منه سلام التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال. قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي هدايته وقيل أحببته لقرابته وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي بمن قدر له الهدى (م) عن أبي هريرة قال «إنك لا تهدي من أحببت، نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي طالب عند الموت: «يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك» ثم أنشد: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم. ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة يُجْبى إِلَيْهِ يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك. قوله عز وجل وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون سكونا قليلا وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها خراب وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني الكافرة أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يبعث في أم القرى وهي مكة رسولا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه خاتم الأنبياء يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي مشركون. قوله عز وجل وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائما غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. ولهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً يعني الجنة فَهُوَ لاقِيهِ أي مصيبه وصائر إليه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي وتزول عنه عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي في النار، قيل هذا في المؤمن والكافر وقيل نزلت في

[سورة القصص (28): الآيات 62 إلى 75]

النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي جهل، وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. قوله عز وجل: [سورة القصص (28): الآيات 62 الى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي في الدنيا أنهم من شركائي قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أضللناهم كما ضللنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء وَقِيلَ يعني للكفار ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام لتخلصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي لم يجيبوهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يسأل الكفار فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ أي خفيت واشتبهت عليهم الْأَنْباءُ يعني الأخبار والأعذار والحجج يَوْمَئِذٍ فلم يكن لهم عذر ولا حجة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يجيبون ولا يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضا فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب. قوله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله. وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه، ثم نزه الله تعالى نفسه فقال سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ أي تخفي صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي يظهرون وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة وَلَهُ الْحُكْمُ أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية

[سورة القصص (28): الآيات 76 إلى 79]

بالشقاوة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قوله عز وجل قُلْ أي قل يا محمد لأهل مكة أَرَأَيْتُمْ يعني أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا نهار فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أي بنهار تطلبون فيه المعيشة أَفَلا تَسْمَعُونَ أي سماع فهم وقبول قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا ليل فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلا بد منهما فأما في الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبدا فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يتعاقبان بالظلمة والضياء لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بالنهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعم الله فيهما وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ وَنَزَعْنا يعني أخرجنا وقيل ميزنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم فَقُلْنا يعني للأمم المكذبة لرسلهم هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم بأن معي شريكا فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي التوحيد لله وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقون في الدنيا من الكذب على الله. قوله عز وجل: [سورة القصص (28): الآيات 76 الى 79] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل كان عم موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم وقيل بغى عليهم بكثرة ماله وقيل زاد في طول ثيابه شبرا (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء». أخرجاه في الصحيحين وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب وقيل مفاتحه يعني خزائنه لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ معناه لثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لتثقلها. قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين. وقيل إلى السبعين قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال وقيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما كثرت وثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح ولقد أحسن من قال:

[سورة القصص (28): الآيات 80 إلى 82]

أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم وقيل لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» هذا حديث مرسل وعمرو بن ميمون لم يلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته وقيل أحسن إلى الناس وَلا تَبْغِ أي ولا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ يعني قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. وقيل هو علم الكيمياء وكان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يصنع من الرصاص فضة ومن النحاس ذهبا وكان ذلك سبب كثرة أمواله وقيل كان علمه حسن التصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب قال الله عز وجل أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي للأموال وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ قيل معناه أن الله تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم وقيل لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وقيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قوله عز وجل فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قيل: خرج هو وقومه وهم سبعون ألفا عليهم الثياب الحمر والصفر والمعصفرات وقيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب وعليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي والثياب الحمر وهن على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من المال. [سورة القصص (28): الآيات 80 الى 82] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بما وعد الله في الآخرة وقال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي ما عند الله من الثواب والخير خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ أي صدق بتوحيد الله وَعَمِلَ صالِحاً أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون وقيل لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ أي على طاعة الله وعن زينة الدنيا. قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. ذكر قصة قارون: قال أهل العلم بالأخبار والسير: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأقرأهم للتوراة

وأجملهم وأغناهم. وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، وهي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل الله جعلها له فقال له قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى هذا فقال له قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى حتى بنى دارا وجعل لها بابا من الذهب. وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار وعلى كل ألف درهم عنها درهم وكل ألف شاة عنها شاة وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئا كثيرا فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي وتجعلوا عليكم لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم. وقيل طستا من ذهب وقيل قال لها قارون أنزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا والله ولكن قارون جعل لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا يبكي. ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه أني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم. وقيل كان على سريره وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم، حتى قيل إنه ناشده أربعين مرة. وقيل سبعين مرة وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض

[سورة القصص (28): الآيات 83 إلى 88]

فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد. قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يعني جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني يمنعونه من الله وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من الممتنعين مما نزل به من الخسف وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يعني صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ألم تعلم وقيل ألم تر. وقيل هي كلمة تقرير معناها أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل ويك، بمعنى ويلك اعلم أن الله. وروي أن وي مفصولة من كأن والمعنى أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكأن معناها أظن وأقدر أن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ قال ابن عباس أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالإيمان لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قوله عز وجل: [سورة القصص (28): الآيات 83 الى 88] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي استكبارا عن الإيمان وقيل علوا واستطالة على الناس وتهاونا بهم وقيل يطلبون الشرف والعز عند ذي سلطان وعن علي أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة وَلا فَساداً قيل الذين يدعون إلى غير عبادة الله تعالى وقيل أخذ أموال الناس بغير حق وقيل العمل بالمعاصي وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه وقيل عاقبة المتقين الجنة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أنزل عليك القرآن وقيل معناه أوجب عليك العمل بالقرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال ابن عباس إلى مكة. أخرجه البخاري عنه قال القتيبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار على غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع في الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: أتشتاق إلى بلدك؟ قال نعم قال: فإن الله تعالى يقول الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية. وقال ابن عباس أيضا لرادك إلى الموت وقيل إلى القيامة، وقيل إلى الجنة قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنك لفي ضلال مبين فقال الله تعالى لهم رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعني نفسه وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني المشركين ومعناه هو أعلم بالفريقين. قوله عز وجل وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي يوحى إليك

القرآن إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فأعطاك القرآن فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً أي معينا لِلْكافِرِينَ على دينهم ذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره نعمه عليه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى معرفته وتوحيده وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن عباس: الخطاب في الظاهر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أهل دينه أي ولا تظاهر الكفار ولا توافقهم وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ معناه أنه واجب على الكل إلا أنه خاطبه به مخصوصا لأجل التعظيم. فإن قلت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معصوما من أن يدعو مع الله إلها آخر فما فائدة هذا النهي. قلت الخطاب معه والمراد به غيره وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلا على أمورك كلها ولا تعتمد على غيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي فان إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا هو والوجه يعبر به عن الذات وقيل معناه إلا ما أريد به وجهه لأن عمل كل شيء أريد به غير الله فهو هالك لَهُ الْحُكْمُ أي فصل القضاء بين الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم والله أعلم بمراده.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت وهي مكية وآياتها تسع وستون آية وكلماتها تسعمائة وثمانون كلمة وحروفها أربعة آلاف ومائة وخمسة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) قوله عز وجل الم أَحَسِبَ النَّاسُ أي أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا أي بغير اختبار وابتلاء أَنْ أي بأن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب. قيل: نزلت هذه الآية في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فقاتلهم الكفار، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل الله هاتين الآيتين. وقال ابن عباس: أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم. وقيل في عمار كان يعذب في الله تعالى وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله هذه الآية ثم عزاهم فقال تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأنبياء فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ومعنى الآية فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه. وقيل إن آثار أفعال الحق صفة يظهر فيها كل ما يقع وما هو واقع. قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الشرك أَنْ يَسْبِقُونا أي يعجزونا فلا نقدر على الانتقام منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس من كان يخشى البعث والحساب وقيل من كان يطمع في ثواب الله فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب. وقيل يوم القيامة لكائن والمعنى أن من يخشى الله ويؤمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم وَهُوَ السَّمِيعُ

[سورة العنكبوت (29): الآيات 9 إلى 18]

الْعَلِيمُ أي يعلم ما يعمل العباد من الطاعة والمعصية فيثيبهم أو يعاقبهم أو يعفو. قوله تعالى وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي له ثوابه وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفي والجهاد هو الصبر على الأعداء والشدة وقد يكون في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن أعمالهم وعبادتهم وفيه بشارة وتخويف أما البشارة فلأنه إذا كان غنيا عن الأشياء فلو أعطي جميع ما خلقه لعبد من عبيده لا شيء عليه لاستغنائه عنه. وهذا يوجب الرجاء التام وأما التخويف فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين فلو أهلكهم بعذابه فلا شيء عليه لاستغنائه عنهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لنطلبنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا. قوله عز وجل وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً معناه برا بهما وعطفا عليهم والمعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما ما يحسن نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص. وقال ابن إسحاق: سعد بن مالك الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأبيه. قالت له أمه: ما هذا الذي أحدثت والله ما آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ويقال يا قاتل أمه ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت كذلك يوما آخر وليلة فجاءها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك فذلك قوله تعالى وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وفي الحديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» ثم أوعد بالمصير إليه فقال تعالى إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ أي فأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بصالح أعمالكم وسيئاتها أي فأجازيكم عليها. [سورة العنكبوت (29): الآيات 9 الى 18] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء وقيل في مدخل الصالحين وهو الجنة. قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ يعني أصابه بلاء

من الناس افتتن فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة والمعنى أنه جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ أي فتح ودولة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ أي هؤلاء المنافقون للمؤمنين إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأكذبهم الله تعالى فقال أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي من الإيمان والنفاق وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا فثبتوا على الإيمان والإسلام عند البلاء. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي بترك الإسلام عند البلاء قيل نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال ابن عباس: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر وهم الذين نزلت فيهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ وقيل هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من أهل مكة قيل قاله أبو سفيان لِلَّذِينَ آمَنُوا أي من قريش اتَّبِعُوا سَبِيلَنا يعني ديننا وملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم فذلك قوله وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي أوزاركم والمعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فأكذبهم الله عز وجل بقوله وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم نحمل خطاياكم وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أي أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزار أنفسهم. فإن قلت قد قال أولا وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء وقال ها هنا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم فكيف الجمع بينهما. قلت: معناه إنهم لا يرفعون عنهم خطيئة بل كل واحد يحمل خطيئة نفسه ورؤساء الضلال يحملون أوزارهم ويحملون أوزارا بسبب إضلال غيرهم فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مسلم وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي سؤال توبيخ وتقريع لأنه تعالى عالم بأعمالهم وافترائهم. قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ أي فأقام فِيهِمْ يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فإن قلت فما فائدة هذا الاستثناء وهلا قال تسعمائة وخمسين سنة قلت فيه فائدتان إحداهما: أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه يظن به التقريب فهو كقول القائل عاش فلان مائة سنة فقد يتوهم السائل أنه يقول مائة سنة تقريبا لا تحقيقا فإن قال مائة سنة إلا شهرا أو إلا سنة زال ذلك التوهم وفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي لبيان أن نوحا صبر على أذى قومه صبرا كثيرا وأعلى مراتب العدد ألف سنة. وكان المراد التكثير فلذلك أتى بعقد الألف لأنه أعظم وأفخم هذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وأن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم فصبر في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة من آمن بك. قال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس فكان عمره ألفا وخمسين عاما. وقيل في عمره غير ذلك. قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي فأغرقهم وَهُمْ ظالِمُونَ قال ابن عباس مشركون فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ يعني من الغرق وَجَعَلْناها يعني السفينة آيَةً أي عبرة لِلْعالَمِينَ قيل إنها بقيت على الجودي مدة مديدة وقيل جعلنا عقوبتهم بالغرق عبرة. قوله تعالى وَإِبْراهِيمَ أي وأرسلنا إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أي أطيعوا الله وخافوه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ما هو خير لكم مما هو شر لكم ولكنكم لا تعلمون إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي تقولون كذبا وقيل تصنعون أصناما بأيديكم وتسمونها آلهة إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يقدرون أن يرزقوكم فَابْتَغُوا أي فاطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فإنه القادر على ذلك وَاعْبُدُوهُ أي وحدوه وَاشْكُرُوا لَهُ لأنه المنعم عليكم بالرزق إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

[سورة العنكبوت (29): الآيات 19 إلى 29]

أي في الآخرة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فأهلكهم الله وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 19 الى 29] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَوْا قيل هذه الآيات إلى قوله فما كان جواب قومه يحتمل أن تكون من تمام قول إبراهيم لقومه وقيل إنها وقعت معترضة في قصة إبراهيم وهي في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ومعنى أو لم يروا أو لم يعلموا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثُمَّ يُعِيدُهُ أي في الآخرة عند البعث إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي الخلق الأول والخلق الثاني قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي ثم إن الله الذي خلقهم ينشئهم نشأة ثانية بعد الموت والمعنى فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئا كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيدا بعد الموت ثانيا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من البداءة والإعادة يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا منه وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ تفضلا وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قيل معناه ولا من في السماء بمعجزين والمعنى أنه لا بعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء وقيل معنى قوله ولا في السماء لو كنتم فيها وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي يمنعكم مني وَلا نَصِيرٍ أي ينصركم من عذابي وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني بالقرآن وَلِقائِهِ أي البعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يعني الجنة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال تعالى فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ قال ذلك بعضهم لبعض وقيل قال الرؤساء للأتباع اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بأن جعلها بردا وسلاما قيل إن ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون وَقالَ يعني إبراهيم لقومه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة وقيل معناه إنكم تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ

[سورة العنكبوت (29): الآيات 30 إلى 40]

وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً تتبرأ الأوثان من عابديها وتتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة وَمَأْواكُمُ النَّارُ يعني العابدين والمعبودين جميعا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين من عذابه فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه برسالته لما رأى معجزاته وهو أول من صدق إبراهيم وأما في أصل التوحيد فإنه كان مؤمنا لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي فهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم هاجر إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر إلى الله تعالى وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه. قيل هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي الذي لا يغلب والذي يمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما يصلحني. قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يقال إن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا هو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ويحبونه ويحبون الصلاة عليه والذرية الطيبة والنبوة من نسله هذا له في الدنيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس مثل آدم ونوح. قوله عز وجل وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة القبيحة ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لم يفعلها أحد قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله وتأتون في دنياكم المنكر قال «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال: أنا أولى به وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضا في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض. وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح إِلَّا أَنْ قالُوا أي استهزاء ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إن العذاب نازل بنا فعند ذلك [سورة العنكبوت (29): الآيات 30 الى 40] قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

[سورة العنكبوت (29): الآيات 41 إلى 45]

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم. قوله عز وجل وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي من الله بإسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قوم لوط والقرية سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ يعني إبراهيم إشفاقا على لوط وليعلم حاله إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا أي قالت الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الباقين في العذاب وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك وَقالُوا لا تَخَفْ أي من قومك وَلا تَحْزَنْ علينا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ قيل هو الخسف والحصب بالحجارة بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً أي عبرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله تعالى وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي افعلوا فعل من يرجوا اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي باركين على الركب ميتين وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا عادا وثمود وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ يا أهل مكة مِنْ مَساكِنِهِمْ أي منازلهم بالحجر واليمن وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم لغير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الحق وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء ذوي بصائر. وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي أهلكنا هؤلاء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحات فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين من عذابنا فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمود وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي بالهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي بالإشراك. قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 45] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه وإن بيتها في غاية الضعف والوهن لا يدفع عنها حرا ولا بردا فكذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا. وقيل معنى هذا المثل أن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل العنكبوت تتخذ بيتا من نسجها بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لأنها لا تضر ولا تنفع وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أشار إلى ضعفه فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فقد صح أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ هذا توكيد للمثل وزيادة عليه يعني إن الذي يدعون من دونه ليس بشيء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ معناه كيف يجوز للعاقل أن يترك عبادة الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء ويشتغل بعبادة من ليس بشيء أصلا وَتِلْكَ الْأَمْثالُ أي الأشباه يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار من هذه الأمة بأحوال كفار الأمم السابقة نَضْرِبُها أي نبينها لِلنَّاسِ أي لكفار مكة وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يعني ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله عز وجل. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي للحق وإظهار الحق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي دلالة لِلْمُؤْمِنِينَ على قدرته وتوحيده. وقوله تعالى اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَأَقِمِ الصَّلاةَ فإن قلت: لم أمر بهذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟ قلت لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة: قلبية وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا فبقي الذكر والعبادة البدنية وهما ممكنا التكرار فلذلك أمر بهما إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي ما قبح من الأعمال وَالْمُنْكَرِ أي ما لا يعرف في الشرع. قال ابن مسعود وابن عباس في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا. وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: «كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم لم يدع من الفواحش شيئا إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إن صلاته ستنهاه يوما فلم يلبث أن تاب وحسنت حاله» وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ومنه قوله: «إن في الصلاة لشغلا» وقيل أراد بالصلاة القرآن وفيه ضعف لتقدم ذكر القرآن وعلى هذا يكون معناه أن القرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر كما روي عن جابر قال: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته». وفي رواية «أنه قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه» وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي أنه أفضل الطاعات. عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله». أخرجه الترمذي وله

[سورة العنكبوت (29): الآيات 46 إلى 53]

عن أبي سعيد الخدري قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال الذاكرون الله كثيرا قالوا يا رسول الله والغازي في سبيل الله؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب في سبيل الله دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» يروي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والتشديد أتم يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعيا للأمر والنهي وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله لا يخلطون به غيره (خ) عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده». وروي «أن أعرابيا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» وقال ابن عباس: معنى ولذكر الله أكبر ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك مرفوعا عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن عطاء ولذكر الله أكبر أي لن تبقى معه معصية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ يعني لا يخفى عليه شيء من أمركم. قوله عز وجل: [سورة العنكبوت (29): الآيات 46 الى 53] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ أي ولا تخاصموهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي القرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد بهم من قبل الجزية منهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب فافجؤوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ومعنى الآية إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر وقيل هم أهل الحرب ومن لا عهد له. وقيل الآية منسوخة بآية السيف وَقُولُوا أي للذين قبلوا الجزية إذا حدثوكم بشيء مما في كتبكم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (خ) عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية. قوله عز وجل وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْ هؤُلاءِ يعني أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ وذلك أن اليهود عرفوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نبي والقرآن حق فجحدوا والجحود إنما يكون بعد المعرفة وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ معناه من كتب أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب وَلا

[سورة العنكبوت (29): الآيات 54 إلى 60]

تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ يعني ولا تكتبه والمعنى لم تكن تقرأ ولم تكتب قبل الوحي إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ معناه لو كنت تكتب أو تقرأ قبل الوحي إليك لارتاب المشركون من أهل مكة، وقالوا إنه يقرأه من كتب الأولين أو ينسخه منها وقيل المبطلون هم اليهود ومعناه أنهم إذا لشكوا فيه واتهموك وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ يعني القرآن فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن وقال ابن عباس يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ يعني اليهود وَقالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي كما أنزل على الأنبياء من قبل وقيل: أراد بالآيات معجزات الأنبياء مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو القادر على إنزالها إن شاء أنزلها وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما كلفت الإنذار وليس إنزال الآيات بيدي أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا هذا جواب لقولهم لولا أنزل عليه آية من ربه قال أولم يكفهم أنا أنزلنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ معناه أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء لأن معجزة القرآن تدوم على ممر الدهور والزمان ثابتة لا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها إِنَّ فِي ذلِكَ يعني القرآن لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي تذكيرا وعظة لمن آمن به وعمل صالحا قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً قال ابن عباس معناه يشهد لي أني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو المطلع على أمري وأمركم ويعلم حقي وباطلكم لا تخفى عليه خافية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس: بغير الله وقيل بعبادة الشيطان وقيل بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل وَكَفَرُوا بِاللَّهِ. فإن قلت من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد. قلت نعم فائدته أن ذكر الثاني لبيان قبح الأول فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق لبيان أن الباطل قبيح أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. قوله عز وجل وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث حيث قال «فأمطر علينا حجارة من السماء» وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قال ابن عباس ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا استأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقيل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب، وقيل الأجل بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه. [سورة العنكبوت (29): الآيات 54 الى 60] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أعاده تأكيدا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ أي يصيبهم مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء ما كنتم تعملون. قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ قيل نزلت في ضعفاء مسلمي أهل مكة يقول الله تعالى إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة فإنها واسعة آمنة، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج وقيل المعنى فهاجروا فيها أي فجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا

[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 إلى 69]

عملوا في الأرض بالمعاصي فاهربوا منها فإن أرضي واسعة وقيل إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيه بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى بلد تتهيأ له فيها العبادة وقيل معنى إن أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني كل أحد ميت خوفهم بالموت لتهون الهجرة عليهم فلا يقيموا بدار الشرك خوفا من الموت ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجزيكم بأعمالكم. قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي علالي جمع غرفة وهي العلية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي لله بطاعته الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم وقيل صبروا على الهجرة ومفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يعتمدون على الله في جميع أمورهم. قوله عز وجل وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون «هاجروا إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا بها ويسقينا فأنزل الله: وكأين من دابة لا تحمل رزقها أي لا ترفع رزقها معها لضعفها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ حيث كنتم وَهُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالكم الْعَلِيمُ بما في قلوبكم عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقول «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ومعناه أنها تذهب أول النهار جياعا ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعا ممتلئة البطون ولا تدخر شيئا قال سفيان بن عيينة ليس شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي» الروح: بضم الراء وبالعين المهملة هو القلب والعقل وبفتح الراء هو الخوف قال الله تعالى «فلما ذهب عن إبراهيم الروع» أي الخوف «أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» قوله عز وجل: [سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 69] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذكر أمرين أحدهما: إشارة إلى اتحاد الذات والثاني إشارة إلى اتحاد الصفات وهي الحركة في الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالرزق والله تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه إذا شاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله تعالى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى: وقيل قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء. قوله تعالى وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي. قوله عز وجل فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي تركوا الأصنام ولجئوا إلى الله تعالى بالدعاء فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة الله في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد وَلِيَتَمَتَّعُوا معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد. قوله عز وجل أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يعني العرب يسبي بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون أَفَبِالْباطِلِ يعني الشيطان والأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام يكفرون وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي فزعم أن له شريكا فإنه منزه عن الشركاء أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ معناه أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم. قوله عز وجل وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا لنثيبنهم ما قاتلوا عليه. وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا الله تعالى. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبد الله والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة والله أعلم.

سورة الروم

سورة الروم مكية وهي ستون آية وتسع عشرة كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الروم (30): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) قوله عز وجل الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن فارسا كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهرمان وبعث قيصر رجالا وجيشا وأمر عليهم رجلا يدعى بخين فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم فإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله هذه الآيات فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فو الله ليظهرن الروم على فارس. أخبرنا بذلك نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال كذبت: فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال: اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه والمناحبة بالحاء المهملة القمار والمراهنة أراهنك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإذا ظهرت فارس على الروم غرمت وإذا ظهرت الروم على فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك قبل تحريم القمار. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال لعلك ندمت فقال لا فتعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين فقال قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي ضامنا كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد قال: ثم رجع أبي بن خلف إلى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم وقيل كان يوم بدر وربطت الروم خيولهم بالمدائن وبنوا بالعراق مدينة وسموها رومية فقمر أبو بكر أبيّا وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك قبل أن يحرم القمار فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: تصدق به. وكان سبب غلبة الروم فارسا على ما قال عكرمة وغيره: أن شهرمان لما غلب الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب قال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهرمان إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس أخيك فرحان فكتب إليه أيها الملك إنك لم تجد مثل فرحان إن له

[سورة الروم (30): الآيات 4 إلى 7]

لنكاية وصولة في العدو، فلا تفعل فكتب إليه إن في رجال فارس خلفا عنه فعجل إليّ برأسه فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريدا إلى أهل فارس إني قد عزلت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان ثم بعث مع البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهرمان. وقال إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه الصحيفة، فلما وصل البريد إلى شهرمان عرض عليه كتاب كسرى فلما قرأه قال: سمعا وطاعة ونزل عن سرير الملك وأجلس عليه أخاه فرحان فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان فلما قرأها: استدعى بأخيه شهرمان وقدمه ليضرب عنقه فقال له لا تعجل حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعا بسفط ففتحه وأعطاه ثلاث صحائف منه وقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد قتلي بكتاب واحد فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان فكتب إلى قيصر ملك الروم أما بعد إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني في خمسين روميا حتى ألقاك في خمسين فارسيا فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق مخافة أن يريد أن يمكر به حتى أتاه عيونه فأخبروا أنه ليس معه إلا خمسون فارسيا، فلما التقيا ضربت لهما فيها ديباج فدخلاها ومع كل واحد سكين ودعوا بترجمان يترجم بينهما فقال شهرمان: إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد بأن يقتل أخي فأبيت عليه ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه، وقد خلعناه جميعا ونحن نقاتله معك فقال: قد أصبتما وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوزهما فشا. فقتلا الترجمان معا بسكينيهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك وغلبوهم وقتلوهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية ففرح ومن كان معه من المسلمين بذلك فذلك قوله عز وجل الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ يعني أقرب أرض الشام إلى فارس وقيل هي أذرعات وقيل الأردن وقيل الجزيرة وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي فارس لهم سَيَغْلِبُونَ أي الروم لفارس. [سورة الروم (30): الآيات 4 الى 7] فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل إلى التسع وقيل ما دون العشر لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فمن غلب فهو بأمر الله تعالى وقضائه وقدره وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي الروم على فارس وقيل فرح النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وفرحوا بظهور أهل الكتاب على أهل الشرك يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي بيده النصر ينصر من يشاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ أي بالمؤمنين قوله تعالى وَعْدَ اللَّهِ أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أن الله لا يخلف وعده ثم قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أمر معاشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وقال الحسن إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطئ وهو لا يحسن يصلي. وقيل: لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها. وقيل يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي ساهون عنها لا يتفكرون فيها ولا يعلمون بها. قوله عز وجل: [سورة الروم (30): الآيات 8 الى 18] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ يعني لإقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي يسافروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي ينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي حرثوها وقلبوها للزراعة وَعَمَرُوها يعني الأمم الخالية أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها يعني أهل مكة وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فلم يؤمنوا فأهلكهم الله فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي بنقص حقوقهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ببخس حقوقهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي أساءوا العمل فاستحقوا السُّواى يعني الخلة التي تسوؤهم وهي النار وقيل السوء اسم لجهنم، ومعنى الآية أن عاقبة الذين عملوا السوء النار أَنْ كَذَّبُوا أي لأنهم كذبوا وقيل معنى الآية ثم كان عاقبة المسيئين أن حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ قوله تعالى اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي خلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي فيجزيهم بأعمالهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ قيل: معناه أنهم ييأسون من كل خير وقيل: ينقطع كلامهم وحججهم وقيل يفتضحون وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ يعني أصنامهم التي عبدوها شُفَعاءُ أي يشفون لهم وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين متبرئين يتبرؤون منها وتتبرأ منهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز أهل الجنة من أهل النار. وقيل يتفرقون بعد الحساب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار فلا يجتمعون أبدا فهو قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أي في جنة وقيل الروضة البستان الذي هو في غاية النضارة يُحْبَرُونَ قال ابن عباس يكرمون وقيل يتنعمون ويسرون والحبرة السرور. وقيل في معنى يحبرون: هو السماع في الجنة. قال الأوزاعي: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم وقال: إذا أخذ في السماع فلا يبقى في الجنة شجرة إلا وردته، وسأل أبا هريرة رجل: هل لأهل الجنة من سماع؟ فقال: نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من فضة وثمارها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت يبعث الله ريحا فيجاوب بعضها بعضا فما يسمع أحد أحسن منه وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي البعث يوم القيامة فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ أي فسبحوا الله ومعناه صلوا لله حِينَ تُمْسُونَ أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس يحمده أهل السموات والأرض ويصلون له وَعَشِيًّا أي وصلوا لله عشيّا يعني صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر. قال نافع ابن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وقرأ هاتين الآيتين

فصل في فضل التسبيح

وقال: جمعتا الصلوات الخمس ومواقيتها. واعلم أنه إنما خص هذه الأوقات بالتسبيح لأن أفضل الأعمال أدومها والإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أول النهار وفي أول الليل وآخره فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين وكذلك باقي الركعات وهي سبع عشرة ركعة مع ركعتي الفجر فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار بقي عليه سبع ساعات في جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته في التسبيح والعبادة. فصل في فضل التسبيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر». وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه». أخرجهما الترمذي وقال فيهما حسن صحيح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». وهذا الحديث أخرجه في صحيح البخاري (م) عن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعالى النهار فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرار لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (م) عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال «أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه قال كيف يكتسب ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة». وفي رواية غير مسلم «يحط عنه أربعين ألفا» قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 19 الى 27] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النطفة من الحيوان ويخرج الحيوان من النطفة. وقيل: يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وقيل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بالمطر وإخراج النبات منها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور للبعث والحساب وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم وهو

[سورة الروم (30): الآيات 28 إلى 33]

آدم من تراب ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي تنبسطون في الأرض وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جنسكم من بني آدم وقيل خلق حواء من ضلع آدم لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا للأزواج وتألفوهن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في عظمة الله وقدرته وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي اختلاف اللغات العربية والعجمية وغيرهما وقيل أراد أجناس النطق وأشكاله خالف بينهما حتى لا تكاد تسمع منطقين حتى لو تكلم جماعة من وراء حائط يعرف كل منهم بنطقه ونغمته لا يشبه صوت أحد صوت الآخر وَأَلْوانِكُمْ أي أسود وأبيض وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد ومن أصل واحد وهو آدم عليه السلام. والحكمة في اختلاف الأشكال والأصوات للتعارف أي ليعرف كل واحد بشكله وحليته وصوته وصورته فلو اتفقت الأصوات والصور وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وليعرف صاحب الخلق من غيره والعدو من الصديق والقريب من البعيد فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد. وفي ذلك دليل على سعة القدرة وكمال العظمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لعموم العلم فيهم وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي منامكم الليل للراحة وابتغاؤكم من فضله وهو طلب أسباب المعيشة بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر واعتبار وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي للمسافر ليستعد للمطر وَطَمَعاً أي للمقيم ليستعد المحتاج إليه من أجل الزرع وتسوية طرق المصانع وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي قدرة الله وأنه القادر عليه وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قال ابن عباس وابن مسعود قامتا على غير عمد وقيل يدوم قيامهما بأمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ قال ابن عباس من القبور إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي منها وقيل معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال ابن عباس كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي هو هين عليه وما من شيء عليه بعزيز وقيل معناه وهو أيسر عليه فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء وقيل: هو أهون على الخلق وذلك لأنهم يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهو رواية عن ابن عباس وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا قال ابن عباس: ليس كمثله شيء وقيل هو الذي لا إله إلا هو فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أي في ملكه الْحَكِيمُ في خلقه. قوله عز وجل: [سورة الروم (30): الآيات 28 الى 33] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي بين لكم شبها بحالكم ذلك المثل مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بين المثل فقال تعالى هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي عبيدكم وإمائكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي من المال فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ يعني هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر من شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمره دون شريكه ويخاف الرجل شريكه في الميراث وهو يحب أن ينفرد به. وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم ولا ترضوه لأنفسكم فكيف ترضون أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي الدلالات والبراهين والأمثال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون في هذه الدلائل والأمثال بعقولهم بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ أي في الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ جهلا بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي عن طريق الهدى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين يمنعونهم عن عذاب الله. قوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ يعني أخلص دينك لله وقيل سدد عملك والوجه ما يتوجه إلى الله تعالى به الإنسان ودينه وعمله مما يتوجه إليه ليسدده قوله تعالى حَنِيفاً أي مائلا إليه مستقيما عليه فِطْرَتَ اللَّهِ أي دين الله والمعنى الزموا فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال ابن عباس خلق الناس عليها والمراد بالفطرة الدين وهو الإسلام (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم قال اقرءوا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ». زاد البخاري «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا فطرة الله الآية ولهما في رواية «قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين». قوله: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وضعت الخلقة عليها وإن عبد غير الله قال الله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ولكن لا اعتبار بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى إلى قوله: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فهو مع وجود الإيمان الفطري فإنه محكوم له بحكم أبويه الكافرين وهذا معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث آخر «يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته التي خلقه الله عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه على اعتقاد دينهما. وقيل معناه أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرت على لزومها لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول السليمة وإنما يعدل عنه من عدل إلى غيره لأنه من آفات التقليد ونحوه فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ثم تمثل لأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة بقوله «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء». أي كما تلد البهيمة بهيمة مستوية لم يذهب من بدنها شيء وقوله «هل تحسون فيها من جدعاء يعني هل تشعرون أو تعلمون فيها من جدعاء وهي المقطوعة الأذن والأنف. قوله عز وجل لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين الله وقيل معنى الآية الزموا فطرة الله ولا تبدلوا التوحيد بالشرك. وقيل معنى لا تبديل لخلق الله هو جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا. وقيل الآية في تحريم إخصاء البهائم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي

[سورة الروم (30): الآيات 34 إلى 42]

المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم يدخل فيه الأمة والمعنى راجعين إلى الله تعالى بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة وَاتَّقُوهُ أي ومع ذلك خافوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي داوموا على أدائها في أوقاتها وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى وقيل هم أهل البدع من هذه الأمة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي راضون بما عندهم. قوله تعالى وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي قحط وشدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي مقبلين إليه بالدعاء ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خصبا ونعمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [سورة الروم (30): الآيات 34 الى 42] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة الله عليهم فَتَمَتَّعُوا فيه تهديد ووعيد خاطب به الكفار فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حالكم هذه في الآخرة أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً قال ابن عباس حجة وعذرا وقيل كتابا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أي ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بشركهم ويأمرهم به وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي الخصب وكثرة المطر فَرِحُوا بِها أي فرحوا وبطروا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب وقلة مطر وقيل خوف وبلاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من السيئات إذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة ويرجوه عند الشدة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تقدم تفسيره. قوله عز وجل فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من البر والصلة وَالْمِسْكِينَ أي حقه وهو التصدق عليه وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر وقيل الضيف ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يطلبون ثواب الله بما كانوا يعملون وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قوله عز وجل وَما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي في اجتلاب أموال الناس واجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة وهذا قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وكان هذا حراما على النبي خاصة لقوله تعالى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت وقيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه الله. وقيل: هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل ربح ماله لالتماس عونه لا لوجه الله تعالى فلا يربو عند الله لأنه لم يرد بعمله وجه الله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي أعطيتم من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي بتلك الصدقة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات. قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بسبب الشرك

[سورة الروم (30): الآيات 43 إلى 54]

والمعاصي ظهر قحط المطر وقلة النبات في البراري والبوادي والمفاوز والقفار والبحر. قيل المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية والعرب تسمي المصر بحرا تقول: أجدب البر وانقطعت مادة البحر وقيل البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ وذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء وتفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب شؤم ذنوبهم وقال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة. قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان البحر عذبا وكان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا. وقيل: إن الأرض امتلأت ظلما وضلالة قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث رجع راجعون من الناس وقيل أراد بالناس كفار مكة لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن الكفر وأعمالهم الخبيثة قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يعني فأهلكوا بكفرهم قوله عز وجل: [سورة الروم (30): الآيات 43 الى 54] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ يعني لدين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الخلق يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يعني يتفرقون ثم ذكر الفريقين فقال تعالى مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ يعني وبال كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: ليثيبهم الله ثوابا أكثر من أعمالهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فيه تهديد ووعيد لهم. قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي تبشر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي بالمطر وهو الخصب وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي بهذه الرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ معناه لتطلبوا رزقه بالتجارة في البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي هذه النعم. قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحات على صدقهم انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني

[سورة الروم (30): الآيات 55 إلى 60]

أنا عذبنا الذين كذبوهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ أي مع إنجائهم من العذاب ففيه تبشير للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء عن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا من كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الآية: وكان حقا علينا نصر المؤمنين». أخرجه الترمذي ولفظه: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». وقال حديث حسن. قوله عز وجل اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً يعني تنشره فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ يعني مسيرة يوم أو يومين أو أكثر على ما يشاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا متفرقة فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من وسطه فَإِذا أَصابَ بِهِ يعني بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني يفرحون بالمطر وَإِنْ كانُوا أي وقد كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني آيسين فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر والمعنى انظر حسن تأثيره في الأرض وهو قوله تعالى كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني إن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي الزرع بعد الخضرة لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اصفرار الزرع يَكْفُرُونَ أي يجحدون ما سلف من النعمة والمعنى أنهم يفرحون عند الخصب ولو أرسلت عذابا على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بدأكم وأنشأكم على ضعف وقيل من ماء ذي ضعف وقيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنينا ثم طفلا مولودا ومفطوما فهذه أحوال الضعف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً يعني من بعد ضعف الصغر شبابا وهو وقت القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني هرما وَشَيْبَةً وهو تمام النقصان يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي من الضعف والقوة والشباب والشيبة وليس ذلك من أفعال الطبيعة بل بمشيئة الله وقدرته وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء. قوله تعالى: [سورة الروم (30): الآيات 55 الى 60] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف المشركون ما لَبِثُوا أي في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ معناه أنهم استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة وقيل معناه ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يعني يصرفون عن الحق في الدنيا وذلك أنهم كذبوا في قولهم ما لبثوا غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا يبعثوا. والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه وكان ذلك بقضاء الله وقدره ثم ذكر إنكار المؤمن عليهم كذبتهم فقال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه من اللبث في القبور وقيل معنى الآية وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان يعني الذين يقيمون كتاب الله قالوا للمنكرين قد لبثتم إلى يوم البعث أي في قبوركم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا تطلب منهم العتبى

والرجوع في الآخرة وقيل لا تطلب منهم التوبة التي تزيل الجريمة لأنها لا تقبل منهم. قوله تعالى وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فيه إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يعني ما أنتم إلا على باطل وذلك على سبيل العناد. فإن قلت ما معنى توحيد الخطاب في قوله: ولئن جئتهم والجمع في قوله: إن أنتم إلا مبطلون. قلت فيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل ويمكن أن يقال معناه أنكم كلكم أيها الرسل مبطلون كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي توحيد الله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في نصرك وإظهارك على عدوك وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يعني لا يحملنك على الجهل وقيل لا يستخفن رأيك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ يعني بالبعث والحساب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

سورة لقمان

سورة لقمان مكية وهي أربع وثلاثون آية وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومائة وعشرة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) قوله عز وجل الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ يعني الذين يعملون الحسنات، ثم ذكرهم فقال الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية قيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وكان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا ويقول إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن. فأنزل الله هذه الآية وقيل هو شراء القينات والمغنين، ومعنى الآية ومن الناس من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت أخرجه الترمذي وهذا لفظه عن أبي أسامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» وفي مثل هذا نزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار» وقال مكحول من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن ابن مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى يشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن. وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وقال إبراهيم النخعي الغناء ينبت النفاق وقيل: هو كل لهو ولعب وقيل: هو الشرك لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني عن دين الإسلام وسماع القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني يفعله عن جهل وحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وَيَتَّخِذَها هُزُواً أي يتخذ آيات الله مزحا أُولئِكَ يعني الذين هذه صفتهم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.

[سورة لقمان (31): الآيات 7 إلى 15]

[سورة لقمان (31): الآيات 7 الى 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي لا يعبأ بها ولا يرفع لها رأسا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي ثقلا ولا وقر فيهما فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا يعني وعدهم الله ذلك وعدا حقا وهو لا يخلف الميعاد وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قيل إن السماء خلقت مبسوطة كصحفة مستوية وهو قول المفسرين وهي في الفضاء والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار وإليه الإشارة بقوله بغير عمد تَرَوْنَها أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى. وفي قوله ترونها وجهان: أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد. الوجه الثاني أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تتحرك بكم وَبَثَّ فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي يسكنون فيها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر وهو من إنعام الله على عبادة وفضله فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي من كل صنف حسن هذا يعني الذي ذكرت مما تعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي آلهتكم التي تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قيل هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارخ وهو آزر. وقيل كان ابن أخت أيوب. وقيل كان ابن خالته. وقيل إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وقيل إنه كان قاضيا في بني إسرائيل. واتفقت العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا وقيل خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وروي أنه كان نائما نصف الليل فنودي يا لقمان هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض فتحكم بين الناس فأجاب الصوت فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعا وطاعة وإني أعلم أن الله إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاها الظلم من كل مكان إن عدل فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده، فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عنه وكان لقمان يوازر داود لحكمته وقيل كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وقيل كان خياطا وقيل كان راعي غنم فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلانا الراعي قال: بلى قال فبم بلغت ما بلغت؟ قال بصدق

[سورة لقمان (31): الآيات 16 إلى 20]

الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وقيل كان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وقيل: خير السودان بلال بن رباح ومهجع مولى عمر ولقمان والنجاشي رابعهم أوتي الحكمة والعقل والفهم وقيل العلم والعمل به ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعها وقيل الحكمة المعرفة والإصابة في الأمور وقيل: الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره كما ينور البصر فيدرك المبصر. وقوله أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وذلك لأن المراد من العلم العمل به والشكر عليه وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي عليه يعود نفع ذلك وكذلك كفرانه وَمَنْ كَفَرَ عليه يعود وبال كفره فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ أي غير محتاج إلى شكر الشاكرين حَمِيدٌ أي هو حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد. وقوله تعالى وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ قيل اسمه أنعم وقيل أشكم وَهُوَ يَعِظُهُ وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره فقوله وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ إشارة إلى الكمال وقوله وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه إشارة إلى التكميل لغيره وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه وبدأ في وعظه بالأهم وهو المنع من الشرك وهو قوله يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأن التسوية بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها ظلم عظيم لأنه وضع العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ قال ابن عباس شدة بعد شدة وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والتعب والمشقة وذلك لأن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاعة ضعف وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي فطامه في سنتين أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لما جعل الله بفضله للوالدين صورة التربية الظاهرة وهو الموجد والمربي في الحقيقة جعل الشكر بينهما فقال اشكر لي ولوالديك ثم فرق فقال إلي المصير يعني أن نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي عليك في الدنيا والآخرة وقيل لما أمر بشكره وشكر الوالدين قال الجزاء علي وقت المصير إلي، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما قال النخعي: يعني أن طاعتهما واجبة فان أفضى ذلك إلى الإشراك بي فلا تطعهما في ذلك لأن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقيل من أناب إلي يعني أبا بكر الصديق قال ابن عباس: وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وقالوا له قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال نعم إنه صادق فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. [سورة لقمان (31): الآيات 16 الى 20] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ قال يا بني إنها أي الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل أي في الصغر فَتَكُنْ أي مع صغرها فِي صَخْرَةٍ قال ابن عباس: صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار وخضرة السماء منها وقيل خلق الله الأرض على حوت وهو النون والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة

[سورة لقمان (31): الآيات 21 إلى 32]

والصفاة على ظهر ملك وقيل على ظهر ثور وهو على صخرة وهي التي ذكر لقمان ليست في الأرض ولا في السماء فلذلك قال أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ والصخرة على متن الريح والريح على القدرة يَأْتِ بِهَا اللَّهُ معناه الله عالم بها قادر على استخراجها وهو قوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي باستخراجها خَبِيرٌ أي بمكانها ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة قالها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها وعظمتها فمات يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى من الأمور الواجبة التي أمر الله بها وَلا تُصَعِّرْ وقرئ تصاعر خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه محبة فيلقاك فتعرض عنه وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا وقيل معناه لا تحتقر الفقراء فليكن الفقير والغني عندك سواء وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ في مشيه فَخُورٍ أي على الناس وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي ليكن في مشيتك قصد بين الإسراع والتأني أما الإسراع فهو من الخيلاء وأما التأني فهو أن يرى في نفسه الضعف تزهدا وكلا الطرفين مذموم بل ليكن مشيك بين السكينة والوقار وَاغْضُضْ أي اخفض وقيل وانقص مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ أي أقبح الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير وآخره شهيق وهما صوت أهل النار وعن الثوري في هذه الآية قال صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار وقيل معنى الآية هو العطسة القبيحة المنكرة قال وهب: تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ومن حكمته قيل: إنه كان عبدا حبشيا فدفع إليه مولاه شاة وقال له: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه أخرى وقال له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقال لقمان ليس مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس. وقيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. قوله عز وجل أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ أي أتم وأكمل عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال ابن عباس النعمة الظاهرة الإسلام والقرآن والباطنة ما ستر عليكم من الذنوب ولم يعجل عليكم بالنقمة وقيل الظاهرة تسوية الأعضاء وحسن الصورة والباطنة الاعتقاد بالقلب وقيل الظاهرة الرزق والباطنة حسن الخلق وقيل الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة وقيل الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة وقيل الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله وفي صفاته بغير علم وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. [سورة لقمان (31): الآيات 21 الى 32] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا قال الله تعالى أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ معناه أفيتبعونهم وإن كان الشيطان يدعوهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ قوله عز وجل وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يخلص لله دينه ويفوض إليه أمره وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في عمله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخلف عهده ولا يخاف انقطاعه ويرتقي بسببه إلى أعلى المراتب والغايات وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مصير جميع الأشياء إليه وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم. قوله تعالى نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا إلى انقضاء آجالهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نلجئهم ونردهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ إلي النار في الآخرة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تقدم تفسيره. قوله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ قال المفسرون لما نزلت بمكة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية وهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أتعنينا أم قومك فقال عليه الصلاة والسلام كلا قد عنيت قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله بما إن علمتم به انتفعتم به قالوا كيف تزعم هذا وأنت تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا تكون هذه الآية مدنية وقيل إن اليهود أمروا وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولوا له ذلك وهو بمكة وقيل إن المشركين قالوا إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي بريت أقلاما وقيل بعدد كل شجرة قلم وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ أي يزيده وينصب إليه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي مدادا والخلائق يكتبون به كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ لأنها لا نهاية لها إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. قوله تعالى ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لأقوالكم بَصِيرٌ بأعمالكم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ يعني ذلك الذي هو قادر على هذه الأشياء التي ذكرت هو الحق المستحق للعبادة وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ يعني لا يستحق العبادة وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ يعني في صفاته له الصفات العليا والأسماء الحسنى الْكَبِيرُ في ذاته أنه أكبر من كل كبير. قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ يعني السفن والمراكب تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ يعني ذلك من نعمة الله عليكم لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يعني من عجائب صنائعه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ يعين على ما أمر الله شَكُورٍ لإنعامه وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ يعني كالجبال وقيل كالسحاب شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ معناه أن الإنسان إذا وقع في شدة ابتهل إلى الله بالدعاء وترك كل من عداه ونسي جميع ما سواه فإذا نجا من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة وهو المقتصد وهو قوله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعني عدل موف في البر بما عاهد عليه الله في البحر من التوحيد والثبوت

[سورة لقمان (31): الآيات 33 إلى 34]

على الإيمان وقيل نزلت في عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ولأضعن يده في يدي فسكت الريح ورجع عكرمة إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه ومنهم من لم يوف بما عاهد وهو المراد بقوله وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ يعني غدار كَفُورٍ يعني جحود لأنعمنا عليه. قوله تعالى: [سورة لقمان (31): الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني خافوا ربكم وَاخْشَوْا يعني وخافوا يَوْماً لا يَجْزِي يعني لا يقضي ولا يغني والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً قيل معنى الآية إن الله ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد فنبه بالأعلى على الأدنى وبالأدنى على الأعلى فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي ولا يهتم بقريب ولا بعيد كما قال ابن عباس كل امرئ تهمه نفسه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ قيل إنه تحقيق اليوم معناه اخشوا يوما هذا شأنه وهو كائن بوعد الله به ووعده حق وقيل الآية تحقيق بعدم الجزاء يعني لا يجزي والد عن ولده في ذلك اليوم والقول الأول أحسن وأظهر فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني لأنها فانية وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الشيطان. قال سعيد بن جبير يعمل بالمعاصي ويتمنى المغفرة. قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن حفصة من أهل البادية أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد ولقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فأنزل الله هذه الآية (ق) عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» ومعنى الآية إن الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو أي شهر أو أي يوم ليلا أو نهارا وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلا أو نهارا إلا الله وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى أحمر أم أسود تام الخلقة أم ناقص وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ يعني ليس أحد من الناس يعلم أين مضجعه من الأرض في بر أو بحر في سهل أو جبل إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعني بهذه الأشياء وبغيرها خَبِيرٌ أي ببواطن الأشياء كلها ليس علمه محيطا بالظاهر فقط بل علمه محيط بالظاهر والباطن قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مصطفى فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فإنه كفر بالقرآن لأنه خالفه والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة السجدة

سورة السجدة وهي مكية قال عطاء إلا ثلاث آيات من قوله أفمن كان مؤمنا وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية وثلاثمائة وثمانون كلمة وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة السجده (32): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) قوله عز وجل الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك في أنه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ يعني بل يقولون يعني المشركين افْتَراهُ يعني اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم من تلقاء نفسه بَلْ هُوَ الْحَقُّ يعني القرآن مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني العرب كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت إذا لم يأتهم رسول لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا من جهة الرسل فلا وأما قيام الحجة بمعرفة الله وتوحيده فنعم لأن معهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني تنذرهم راجيا اهتداءهم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يعني يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر وقيل ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ يعني يصعد إِلَيْهِ جبريل بالأمر فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني مسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة فيكون مقدار نزوله إلى الأرض ثم صعوده إلى السماء في مقدار ألف سنة لو ساره أحد من بني آدم وجبريل ينزل ويصعد في مقدار يوم من أيام الدنيا وأقل من ذلك وكذلك الملائكة كلهم أجمعون وقيل معنى الآية أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج إليه أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الآمر وحكم الحاكم في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة. فإن قلت قد قال في موضع آخر: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فكيف الجمع بينهما. قلت أراد بقوله خمسين ألف سنة مدة المسافة بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام يقول يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقيل كلها في القيامة فيكون على بعضهم مثل ألف سنة وعلى بعضهم خمسين ألف سنة وهذا في حال الكفار وأما على المؤمنين فدون ذلك كما جاء في

[سورة السجده (32): الآيات 6 إلى 14]

الحديث: «إنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا». قال إبراهيم التيمي: لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر والعصر وقيل يحتمل أن يكون هذا إخبارا عن شدته وهوله ومشقته وقال ابن أبي مليكة: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن مقدار خمسين ألف سنة. فقال ابن عباس: رضي الله عنهما أيام سماها الله تعالى لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. [سورة السجده (32): الآيات 6 الى 14] ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة أي ما غاب عن خلقه لا تخفى عليه خافية والشهادة بمعنى ما حضر وظهر الْعَزِيزُ أي الممتنع المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه وأهل طاعته. قوله تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال ابن عباس أتقنه وأحكمه وقيل علم كيف يخلق كل شيء وقيل خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في صورته حسن في شكله وكل عضو من أعضائه مقدر على ما يصلح به معاشه وقيل معناه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه وعلمهم إياه. وقيل معناه أحسن إلى كل خلقه وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعني ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة تنسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ أي سوى خلقه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضاف إليه الروح إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال وَجَعَلَ لَكُمُ أي خلق بعد أن كنتم نطفا مواتا السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قيل قدم السمع لأن الإنسان يسمع أولا كلاما فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ووحد السمع لأن الإنسان يسمع الكلام من أي جهة كان قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعمة فتوحدوه إلا قليلا. قوله تعالى وَقالُوا يعني منكري البعث أَإِذا ضَلَلْنا هلكنا فِي الْأَرْضِ والمعنى صرنا ترابا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهام إنكاري قال الله تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي بالبعث بعد الموت قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ أي يقبض أرواحكم حتى لا يبقى أحد ممن كتب عليه الموت مَلَكُ الْمَوْتِ وهو عزرائيل عليه السلام الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجل أحدكم لا يؤخر ساعة ولا شغل له إلا ذلك. روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة، فهو يقبض أرواح الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها وله أعوان من الملائكة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وقال ابن عباس إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت له الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء، وقيل إن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت. عن معاذ بن جبل قال: إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب،

[سورة السجده (32): الآيات 15 إلى 16]

وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له الآن تنزل بك سكرات الموت. وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تصيرون إلى ربكم أحياء فيجزيكم بأعمالكم. قوله عز وجل وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي يطأطئونها حياء من ربهم وندما على ما فعلوا عند ربهم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا أي ما كنا به مكذبين وَسَمِعْنا يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك وقيل أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فيها فَارْجِعْنا أي فارددنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي في الحال آمنا ولكن لا ينفع ذلك الإيمان وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي رشدها وتوفيقها للإيمان وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي وجب القول مني لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي من كفار الجن والإنس فَذُوقُوا يعني فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة ذوقوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ أي تركتم الإيمان في الدنيا هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ يعني تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل بالناس قطعا لرجائكم وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب. قوله تعالى: [سورة السجده (32): الآيات 15 الى 16] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً يعني سقطوا على وجوههم ساجدين وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني صلوا بأمر ربهم وقيل قالوا سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني عن الإيمان به والسجود له (ق) عن ابن عمر قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة». (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار». وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ وللمستمع. قوله تعالى تَتَجافى جُنُوبُهُمْ يعني ترتفع وتنبو عَنِ الْمَضاجِعِ جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل الذي يقيمون الصلاة، وقال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. عن أنس في قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة أخرجه الترمذي وقال الحديث حسن غريب صحيح. وفي رواية أبي داود عنه قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء أي يصلون، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وقيل هي صلاة الأوابين. روي عن ابن عباس قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين وقال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الأخيرة والفجر في جماعة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» أخرجه مسلم من حديث عثمان بن عفان. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا». وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة. فصل: في فضل قيام الليل والحث عليه عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: «سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ

[سورة السجده (32): الآيات 17 إلى 26]

الْمَضاجِعِ حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله. قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامة الجهاد، ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا. فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير السيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة الداء عن الجسد» أخرجه الترمذي. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه. فيقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه أخرجه الترمذي بمعناه (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل». (ق) عن عائشة قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوم الليل حتى تورمت قدماه فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا». عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام». أخرجه الترمذي. (خ) عن الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه في قصة يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن رواحة قال: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات ما إذا قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع» أخرجه البخاري وليس للهيثم بن سنان. عن أبي هريرة في الصحيحين غير هذا الحديث. وقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً قال ابن عباس خوفا من النار وطمعا في الجنة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قيل أراد به الصدقة المفروضة وقيل بل هو عام في الواجب والتطوع. قوله عز وجل: [سورة السجده (32): الآيات 17 الى 26] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الطاعات في دار الدنيا (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين». قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمنا واحدا ولا فاسقا واحدا أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها المؤمنون نُزُلًا هو ما يهيأ للضيف عند نزوله بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الطاعات في دار الدنيا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي سوى العذاب الأكبر، قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها، وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين، وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي ترك الإيمان بها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين مُنْتَقِمُونَ معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من لقاء موسى ليلة المعراج، قاله ابن عباس (ق) عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلا موبوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار، والدجال في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره». فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين. قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر، كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عز وجل وهو على كل شيء قدير. فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل، وكذلك رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا؟ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها: أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل، إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة. الجواب الثاني: أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع، قال الله تعالى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وقال صلّى الله عليه وسلّم «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال الله في حقهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ، غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع والله أعلم، وقيل في قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ

[سورة السجده (32): الآيات 27 إلى 30]

مِنْ لِقائِهِ أي من تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول وَجَعَلْناهُ أي الكتاب هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل أَئِمَّةً أي قادة للخير يقتدى بهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل وقيل هم أتباع الأنبياء يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يعني يدعون الناس إلى طاعتنا لَمَّا صَبَرُوا يعني على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ يعني أنها من الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي ويحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قيل هم الأنبياء وأممهم وقيل هم المؤمنون والمشركون قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي نبين لهم كَمْ أَهْلَكْنا يعني كثرة من أهلكنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يعني الأمم الخالية يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني أهل مكة يسيرون في بلادهم ومنازلهم إذا سافروا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ يعني آيات الله ومواعظه فيتعظون بها. قوله عز وجل: [سورة السجده (32): الآيات 27 الى 30] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها قال ابن عباس هي أرض باليمن وقيل هي أبين فَنُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ يعني العشب والتبن وَأَنْفُسُهُمْ أي من الحبوب والأقوات أَفَلا يُبْصِرُونَ يعني فيعتبروا. قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قيل أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم والقضاء بين العباد، وذلك أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا للكفار إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم فيه بيننا وبينكم. فقال الكفار استهزاء متى هذا الفتح أي القضاء والحكم، وقيل هو فتح مكة وقيل يوم بدر، وذلك أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ يعني يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ يعني لا يقبل منهم الإيمان ومن حمل يوم الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر، قال معناهم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يعني يمهلون ليتوبوا ويعتذروا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال ابن عباس نسختها آية السيف وَانْتَظِرْ يعني موعدي لك بالنصر عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي بك حوادث الزمان وقيل معناه انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل الكتاب وهل أتى على الإنسان». عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل الكتاب وتبارك الذي بيده الملك» أخرجه الترمذي. وقال طاوس تفضلان عن كل سورة في القرآن بسبعين حسنة أخرجه الترمذي. والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية وهي ثلاث وسبعون آية وألف ومائتان وثمانون كلمة وخمسون آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال إني أعطيتهم الأمان. فقال عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمر أن يخرجهم من المدينة. فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ أي دم على التقوى وقيل معناه اتق الله ولا تنقض العهد بينك وبينهم وقيل الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته ولا تُطِعِ الْكافِرِينَ يعني من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين يعني من أهل المدينة عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بخلقه قبل أن يخلقهم حَكِيماً أي فيما دبره لهم وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني من وفاء العهد وترك طاعة الكافرين والمنافقين إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله وكل أمرك إليه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني حافظا لك وقيل كفيلا برزقك. قوله تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر ما حال الناس. فقال انهزموا فقال له فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك. فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وعن أبي ظبيان قال: قلنا لابن عباس أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ما عنى بذلك؟ قال «قام نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يوما يصلي

[سورة الأحزاب (33): الآيات 5 إلى 6]

فخطر خطرة. فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن قوله خطر خطرة يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاة. قيل في معنى الآية أنه لما قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ فكان ذلك أمرا بالتقوى. فكأنه قال ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله، فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي الله بأحدهما وبالآخر غيره، وقيل إن هذا مثل ضربه الله تعالى للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره، فكما لا يكون لرجل قلبان لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فالآخر فضله عليه محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا ما لا يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها عالما جاهلا موقنا شاكا في حالة واحدة، وهما حالتان متنافيتان فكذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان ولا يكون ولد واحد ابن رجلين. قوله تعالى وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، يقول الله وما جعل نساءكم التي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكم منكر وزور وفيه كفارة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في سورة المجادلة. قوله تعالى وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ يعني الذين تتبنونهم أَبْناءَكُمْ وفيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ويرث ميراثه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ونسخ بها التبني ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد وادعاء النسب لا حقيقة له وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعني قوله الحق وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يعني يرشد إلى سبيل الحق. [سورة الأحزاب (33): الآيات 5 الى 6] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يعني الذين ولدوهم فقولوا زيد بن حارثة هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يعني أعدل عند الله (ق) عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الآية فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ يعني فهم إخوانكم وَمَوالِيكُمْ أي كانوا محررين وليسوا ببنيكم أي فسموهم بأسماء إخوانكم في الدين، وقيل معنى مواليكم أولياؤكم في الدين وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي وقيل فيما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه وهو يظن أنه كذلك وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. (ق) عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» قوله عز وجل النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه، عليهم ووجوب طاعته وقال ابن عباس إذا دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بهم من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فنزلت الآية. (ق) عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من

[سورة الأحزاب (33): الآيات 7 إلى 9]

مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، واقرءوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه». عصبة الميت من يرثه سوى من له فرض مقدر وقوله أو ضياعا أي عيالا وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا، وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع. قوله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين، وقيل إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كن أمهات المؤمنين والمؤمنات الرجال والنساء وقيل كن أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه. فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم. فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعني في الميراث قيل كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وقيل آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الناس فكان يؤاخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وقيل في معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم وَالْمُهاجِرِينَ يعني أن ذوي القرابات أولى بعضهم ببعض فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت الموارثة بينهم بالقرابة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يعني الوصية للذين يتولونه من المعاقدين، وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالخلف والإخاء والهجرة، أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله، وقيل أراد بالمعروف النصر وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، وقيل معناه إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة كانَ ذلِكَ أي الذي ذكر من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ وقيل في التوراة مَسْطُوراً أي مكتوبا مثبتا. قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 7 الى 9] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض، وقيل على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم وَمِنْكَ يعني يا محمد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرسل، وقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذكر تشريفا له وتفضيلا. ولما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث». قال قتادة وذلك قول الله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ فبدأ به صلّى الله عليه وسلّم وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أيام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا

ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب

عَلَيْهِمْ رِيحاً يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه. قوله تعالى وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة، ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث الله عز وجل تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل حي يقول يا بني فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله عليهم من الرعب وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب قال: البخاري قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع من الهجرة. وروى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاجتمعوا على ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيسا وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخندق سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ حر. فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقا علينا، فعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى أحكموه. وروي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمان منا أهل البيت». قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا، حتى إذا كنا تحت أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بخبر هذه الصخرة، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال فرقي سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق

أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة، حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه، ثم ضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القوم وقال: أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال: فنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وأنزل الله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الآية (ق) عن أنس قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا عن البراء بن عازب قال «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ينقل معنا التراب وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع بها صوته. «وفي رواية قد وارى التراب بياض إبطيه» رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال «فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام، وخرج عدو الله حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومه وعاهده على ذلك، فلما سمع صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال: ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقا فقال: ويحك افتح أكلمك قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا خوفا أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال: له كعب جئتني والله بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمدا وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه

من الله عهدا وميثاقا لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد العهد وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما انتهى الخبر إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد بني الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف. فقال: انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا عنده حدة، فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلموا وقالوا: عضل والقارة لغدر، عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه. فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وقال: أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدو، وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام المشركون عليها بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدلنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا. قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال: له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله، قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال: أجل قال له علي: فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك. قال: إني أدعوك إلى النزال قال: ولم يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك

فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة. فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين: كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول: لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت: له أمه الحق يا بني فقد والله أجزت. قالت عائشة: يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. قالت: فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة. قال سعد: عرق الله وجهك في النار، ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قال محمد بن إسحاق: فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت، قالت: فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا اعتجرت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن. فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية. فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به، إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه، قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا فقد بلغني أمر رأيت حقا على أن أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علي. قالوا نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد

ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم. فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني. قالوا: صدقت قال فاكتموا علي. قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان مما صنع الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا. وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم. وخذل الله عز وجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي. قال: كيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد. قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة: يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي. ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته. فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تحدثن حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت: من أنت؟؟ فقال سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم

[سورة الأحزاب (33): آية 10]

ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنا مني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه، فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت، قال: قم يا نومان فذلك قوله عز وجل: [سورة الأحزاب (33): آية 10] إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أي من فوق الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود قريظة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب من قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير من ديارهم وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت وشخصت من الرعب وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي زالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع والحنجرة جوف الحلقوم، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف، وقيل معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته وإذا انتفخت رئته رفعت القلب إلى الحنجرة فلهذا يقال: للجبان انتفخ سحره وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي اختلفت الظنون بالله فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم. [سورة الأحزاب (33): الآيات 11 الى 18] هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي عند ذلك اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلصون من المنافقين وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حركوا حركة شديدة وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني معتب بن قشير وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً هو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا هو الغرور. قوله تعالى وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين وهم أوس بن قيظي وأصحابه يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعني يا أهل المدينة وقيل يثرب اسم الأرض ومدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ناحية منها سميت يثرب باسم رجل من العماليق كان قد نزلها في قديم الزمان. وفي بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طيبة كأنه كره هذه اللفظة

[سورة الأحزاب (33): الآيات 19 إلى 23]

لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل عن القتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يعني بني حارثة وبني سلمة يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم الله تعالى بقوله وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الشرك لَآتَوْها أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وَما تَلَبَّثُوا بِها أي ما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم، وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا. قوله عز وجل وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي لا ينهزمون، قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي عنده في الآخرة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ أي بعد الفرار إِلَّا قَلِيلًا أي مدة آجالكم وهي قليل قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يمنعكم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أي هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي نصرا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ناصرا يمنعهم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي ارجعوا إلينا ودعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحدا أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا وقوله تعالى وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ يعني الحرب إِلَّا قَلِيلًا أي رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا. [سورة الأحزاب (33): الآيات 19 الى 23] أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة وصفهم الله بالبخل والجبن فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ

رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي في رؤوسهم من الخوف والجبن كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيه أسبابه فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ أي زال سَلَقُوكُمْ أي آذوكم. ورموكم في حالة الأمن بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي ذربة تفعل كفعل الحديد قال ابن عباس معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، وقيل بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشجع قوم وعند الحرب أجبن قوم أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي يشاحون المؤمنين عند الغنيمة فعلى هذا المعنى يكون المراد بالخير المال أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي لم يؤمنوا حقيقة الإيمان وإن أظهروا الإيمان لفظا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي التي كانوا يأتون بها مع المسلمين قيل هي الجهاد وغيره وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي إحباط أعمالهم مع أن كل شيء على الله يسير. قوله تعالى يَحْسَبُونَ يعني هؤلاء المنافقين الْأَحْزابَ يعني قريشا وغطفان واليهود لَمْ يَذْهَبُوا أي لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا عنهم وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية مع الأعراب من الجبن والخوف يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي عن أخباركم وما آل إليه أمركم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ يعني هؤلاء المنافقين ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا يعني يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم فيقولون قد قاتلنا معكم وقيل هو الرمي بالحجارة وقيل رياء من غير احتساب. قوله عز وجل لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة صالحة أي اقتدوا به اقتداء حسنا وهو أن تنصروا دين الله وتؤازروا رسوله ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ قد كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فصبر وواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ يعني أن الأسوة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن كان يرجو الله قال ابن عباس يرجو ثواب الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يعني ويخشى يوم البعث الذي فيه الجزاء وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي في جميع المواطن على السراء والضراء ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال تعالى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي قالوا ذلك تسليما لأمر الله وتصديقا بوعده وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي فيما وعدا وهو في مقابلة قول المنافقين «ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا» وقولهم «وصدق الله ورسوله» ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع، وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس، وقيل إنهم وعدوا أن تلحقهم شدة وبلاء فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً أي تصديقا لله وَتَسْلِيماً أي لأمره. قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي قاموا بما جاهدوا الله عليه ووفوا به فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتّى استشهد، وقيل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد وقيل قضى نحبه استشهد يوم بدر وأحد وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصر على الأعداء وَما بَدَّلُوا يعني عهدهم تَبْدِيلًا (ق) عن أنس قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون قال اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وابرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحا من دون أحد فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه

[سورة الأحزاب (33): الآيات 24 إلى 26]

الآية نزلت فيه وفي أشباهه: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية. (ق) عن خباب بن الأرت قال «هاجرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نلتمس وجه الله. فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة وكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدت رأسه، فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها» النمرة كساء ملون من صوف، وقوله ومنا من أينعت أي أدركت ونضجت له ثمرته، وهذه استعارة لما فتح الله لهم من الدنيا، وقوله يهدبها أي يجتنيها ويقطعها. عن أبي موسى بن طلحة قال «دخلت على معاوية فقال ألا أبشرك سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: طلحة ممن قضى نحبه». أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث غريب (خ) عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد». قوله عز وجل: [سورة الأحزاب (33): الآيات 24 الى 26] لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي جزاء صدقهم وصدقهم هو الوفاء بالعهد وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فيهديهم إلى الإيمان ويشرح له صدورهم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ أي لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي ظفرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي بالملائكة والريح وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي في ملكه عَزِيزاً أي في انتقامه. قوله تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المسلمين وهم بنو قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم ومعاقلهم واحدها صيصية وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني الرجال يقال كانوا ستمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني النساء والذراري يقال كانوا سبعمائة قيل وخمسين. [سورة الأحزاب (33): الآيات 27 الى 29] وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يعني بعد قيل هي خيبر ويقال إنها مكة وقيل فارس والروم وقيل هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. قيل كانت في آخر ذي القعدة سنة خمس. وعلى قول البخاري المتقدم في غزوة الخندق عن موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع. قال العلماء بالسير إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متعمما بعمامة من إستبرق على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها من قطيفة من ديباج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه فقال جبريل يا رسول الله قد وضعت السلاح؟ قال: نعم قال: جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة وما رجعت الآن إلا من

طلب القوم. وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مناديا فأذن أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس، وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصونهم قال «يا إخوان القردة قد أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته». قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال «هل مر بكم أحد؟» فقالوا: يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها قطيفة ديباج. فقال صلّى الله عليه وسلّم «ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم» فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رجال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فصلوا العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العلماء: حاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هن؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير. قال: فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا. فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم. فقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد قد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره وأبطأ عليه قال أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه

خارجا إلى الصبح أطلقه. قال: ثم إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم من فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وخرج في تلك الليلة عمرو بن السعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا قال: عمرو بن السعدي وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لا أغدر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أبدا فقال محمد بن مسلمة اللهم لا تحرمني من عثرات الكرام، فخلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله فذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنه فقال ذاك رجل نجاه الله بوفائه وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصبحت برمته ملقاة ولا يدري أين ذهب. فقال: فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك المقالة فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتواثب الأوس وقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه. فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له. فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكان سعد جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجده في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، فلما حكمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له وسادة من أدم وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه. قال: قد آن لسعد أن تأخذه في الله لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولاك مواليك فتحكم فيهم. فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت. قالوا: نعم قال وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم. قال سعد: فاني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم أرسالا وفيهم عدو الله ورسوله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة إلى التسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه وروي عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل رجالهم

بالسيف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم قالت حدثا أحدثته قالت فانطلق بها فضرب عنقها وكانت عائشة تقول ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل قال الواقدي وكان اسم المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد قال وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس هناك. وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ويكنى أبا عبد الرحمن كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجلية يوم بعاث أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك قال إني أريد أن أجزيك بيدك عندي قال إن الكريم يجزي الكريم قال ثم أتى ثابت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليّ منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هولك» فأتاه فقال له إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وهب لي دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أهله وأولاده فقال «هم لك» فأتاه فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما له يا رسول الله قال هو لك فأتاه فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أعطاني مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيه عذارى الحي كعب بن أسد قال قتل قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن شموال قال قتل قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال قتلوا قال فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضربت عنقه فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله حتى يلقى الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنّم خالدا مخلدا أبدا قال وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم على المسلمين وأغنم في ذلك اليوم سهمين للخيل وسهما للرجال فكان للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول يوم وقع فيه السهمان ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى توفي عنها وهي في ملكه وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرص على أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب. فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجد في نفسه بذلك من أمرها. فبينما هو بين أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك فلما قضي شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال اللهم إنك علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني له وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. قالت: عائشة فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي. قالت: وكانوا كما قال الله تعالى فيهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. (خ) عن سلمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين أجلى الأحزاب «الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم». (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول «لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده». قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ أي متعة

فصل في حكم الآية

الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي من غير ضرر وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم سألنه من عرض الدنيا شيئا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه. فقال عمر: لأعلمن لكم شأنه قال فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أطلقتهن قال: «لا» قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن. قال: «نعم إن شئت» فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه ونزلت هذه الآية وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فكنت أنا استنبطت هذا الأمر. وأنزل الله آية التخيير وكان تحت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمسة من قريش وهن: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، وأربع من غير قرشيات وهن زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتابعتها على ذلك فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (م) عن جابر بن عبد الله قال «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا وحوله نساؤه واجما ساكتا. فقال: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله لقد رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده قلن والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين حتى نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ حتى بلغ: لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت: وما هو يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت: قال: «لا تسألني امرأة منهن طلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا» قوله واجما أي مهتما، والواجم الذي أسكته الهم وعلته الكآبة وقيل الوجوم الحزن. قولهم فوجأت عنقها أي دققته وقوله لم يبعثني معنتا العنت المشقة والصعوبة (م) عن الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدأ بي فقلت: يا رسول الله، أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن قال: إن الشهر تسع وعشرون. فصل في حكم الآية اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن، حتى يقع بنفس الاختيار أم لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما خيرهن على أنهن إذ اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة: «لا تعجلي حتى تستشيري أبويك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا. التفريع على حكم الآية اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر

[سورة الأحزاب (33): الآيات 30 إلى 32]

وابن مسعود، وابن عباس: إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها وعند الآخرين رجعية وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن وبه قال مالك. وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة، وإذا اختارت نفسها فطلقة بائنة وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء (ق) عن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة رضي الله عنها، فقالت خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما كان طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا. قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 30 الى 32] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بمعصية ظاهرة قيل: هو كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي لأن منهن من أتت بفاحشة، فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء عن الفاحشة وقال ابن عباس المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلين وسبب تضعيف العقوبة، لهن لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وذلك لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى غيره من الرجال كنسبة الحرة إلى الأمة وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي عذابها وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي تطع الله ورسوله وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي أجر غيرها قيل: الحسنة بعشرين حسنة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي الجنة. قوله تعالى يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وشهوة وقيل نفاق والمعنى لا تقلن قولا يجد المنافق والفاجر به سبيلا إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي يوجبه الدين والإسلام عند الحاجة إليه، ببيان من غير خضوع وقيل القول المعروف ذكر الله تعالى. قوله عز وجل: [سورة الأحزاب (33): الآيات 33 الى 35] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي الزمن بيوتكن وقيل هو أمر من الوقار أي كن أهل وقار وسكون وَلا تَبَرَّجْنَ

تَبَرُّجَ قيل: هو التكسر والتغنّج والتبختر وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قيل الجاهلية الأولى هو ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هو زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط الجانبين، فيرى خلفها منه وقيل كان في زمن نمرود الجبار كانت المرأة، تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي به وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال وقال ابن عباس: الجاهلية الأولى ما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة وقيل: إن بطنين من ولد آدم عليه السلام كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكانت رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل وأجره نفسه وكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاة فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل، هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى» وقيل الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى، قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أي الواجبة وَآتِينَ الزَّكاةَ أي المفروضة وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمر وفيما نهى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أي الإثم الذي نهى الله النساء عنه. وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس الله فيه رضا، وقيل: الرجس الشك وقيل السوء أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً هم نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ وهو قول عكرمة ومقاتل وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، يدل عليه ما روي من عائشة أم المؤمنين قالت «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن فأدخله فيه، ثم جاء الحسن فأدخله فيه ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أخرجه مسلم. المرط الكساء والمرحل بالحاء المنقوش عليه صور الرجال، وبالجيم المنقوش عليه صور الرجال، عن أم سلمة قالت: إن هذه الآية نزلت في بيتها، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قالت وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال: إنك إلى خير أنت من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: وفي البيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلي وفاطمة وحسن وحسين فجللهم بكساء وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنه الرجس وطهرهم تطهيرا» أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح غريب عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر، إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب وقال زيد بن أرقم أهل البيت من حرم الصدقة بعده آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. قوله تعالى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ قيل هي السنة وقيل هي أحكام القرآن ومواعظه إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً يعني بأوليائه وأهل طاعته خَبِيراً أي بجميع خلقه. قوله عز وجل إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وذلك أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله هذه الآية. عن أم عمارة الأنصارية قالت: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت مالي أرى كل شيء إلى الرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وقيل إن أم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية

[سورة الأحزاب (33): الآيات 36 إلى 37]

قالتا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما بال ربنا يذكر الرجال، ولا يذكر النساء في شيء في كتابه ونخشى أن لا يكون فيهن خير فنزلت هذه الآية وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت هل نزل فينا شيء من القرآن قلن لا فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله: إن النساء لفي خيبة وخسار قال «ومم ذلك» قالت: لأنهن لم يذكرن بخير كما ذكر الرجال فأنزل الله إن المسلمين والمسلمات فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحهن بها معهم الأولى الإسلام وهو الانقياد لأمر الله تعالى وهو قوله: إن المسلمين والمسلمات، الثانية الإيمان بما يراد به أمر الله تعالى وهو تصحيح الاعتقاد وموافقة الظاهر للباطن، وهو قوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الثالثة الطاعة وهو قوله وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ الرابعة الصدق في الأقوال والأفعال وهو قوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ الخامسة الصبر على ما أمر الله وفيما ساء وسر وهو قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ السادسة الخشوع في الصلاة وهو أن لا يلتفت وقيل: هو التواضع وهو قوله وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ السابعة الصدقة مما رزق الله وهو قوله وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ الثامنة المحافظة على الصوم وهو قوله وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ التاسعة العفة وهو قوله وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ يعني عما لا يحل وَالْحافِظاتِ العاشرة كثرة الذكر وهو قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وقيل لا يكون العبد منهم حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «سبق المفردون قالوا: يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» وقال عطاء بن أبي رباح من فوّض أمره إلى الله، فهو داخل في قوله إن المسلمين والمسلمات ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله والمؤمنين والمؤمنات ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنة، فهو داخل في قوله والقانتين والقانتات، ومن صان قوله عن الكذب، فهو داخل في قوله والصادقين والصادقات ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية، فهو داخل في قوله والصابرين والصابرات ومن صلى، فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله والخاشعين والخاشعات ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم، فهو داخل في قوله والمتصدقين والمتصدقات ومن صام في كل شهر أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله والصائمين والصائمات، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله والحافظين فروجهم والحافظات ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً أي بمحو ذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 37] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش، وأمهما أمية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب زينب لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ وأعتقه، وتبناه فلما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة وفيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعني عبد الله بن جحش وَلا مُؤْمِنَةٍ يعني أخته زينب إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

فصل

أَمْراً يعني نكاح زيد لزينب أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي الاختيار على ما قضى، والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي أخطأ خطأ ظاهرا فلما سمعت بذلك زينب وأخوها رضيا وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنكحها زيدا ودخل بها وساق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهما عشرة دنانير وستين درهما وخمارا، ودرعا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. قوله عز وجل وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ الآية نزلت في زينب، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما زوجها من زيد مكثت عنده حينا، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى زيدا ذات يوم لحاجة فأبصر زينب في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة، ذات خلق من أتم نساء قريش وقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال «سبحان الله مقلب القلوب» وانصرف فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد وألقى في نفسه كراهيتها في الوقت وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي فقال له «ما لك أرابك منها شيء» قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتعظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله في أمرها» ثم إن زيدا طلقها فذلك قوله عز وجل وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالإعتاق وهو زيد بن حارثة مولاه أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ أي فيها ولا تفارقها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ أي تسر وتضمر في نفسك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي مظهره قيل كان في قلبه لو فارقها تزوجها قال ابن عباس: حبها وقيل ود أنه طلقها وَتَخْشَى النَّاسَ قال ابن عباس تستحييهم وقيل تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية هي أشد من هذه الآية، وعن عائشة قالت: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب. فصل فإن قلت: ما ذكروه في تفسير هذه الآية، وسبب نزولها من وقوع محبتها في قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما رآها وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج، وما لا يليق بمنصبه صلّى الله عليه وسلّم من مد عينيه لما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا. قلت: هذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه صلّى الله عليه وسلّم وهو زوجها لزيد، فلا يشك في تنزيه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أن يأمر زيدا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها ذكر عن جماعة من المفسرين. وأصح ما في هذا الباب ما روي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني زين العابدين بن علي بن الحسين قال ما يقول الحسن في قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت: يقول لما جاء زيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني أريد أن أطلق زينب أعجبه ذلك، وقال أمسك عليك زوجك واتق الله فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله عز وجل، قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال: إني أريد أن أطلقها قال له: أمسك عليك زوجك فعاتبه الله تعالى وقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى «زوجناكها» فلو كان الذي أضمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه، ولا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته وإنما أخفى ذلك استحياء أن يخبر زيدا أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي وهذا قول حسن مرضي، وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس

[سورة الأحزاب (33): الآيات 38 إلى 44]

عليه وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين وهو إنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال الله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقال لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ فإن قلت فما الفائدة في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا بإمساكها. قلت: هو أن الله تعالى أعلم نبيه أنها زوجته فنهاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن طلاقها وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس يتزوج امرأة ابنه فأمره الله تعالى بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته، وقيل: كان في أمره بإمساكها قمعا للشهوة وردا للنفس عن هواها وهذا إذا جوزنا القول المتقدم الذي ذكره المفسرون وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد، ومثل ذلك لا يقدح في حال الأنبياء، مع أن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء، وأنه رآها فجأة فاستحسنها ومثل هذه لا نكرة فيه لما طبع عليه البشر من استحسان الحسن، ونظرة الفجأة معفو عنها ما لم يقصد مأثما لأن الود وميل النفس من طبع البشر والله أعلم. وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ أمر بالمعروف، وهو حسن لا إثم فيه وقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام، قد قال أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولكنه لما ذكر الخشية من الناس، ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال في جميع الأشياء. قوله عز وجل فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجته منها، ولم يبق له فيها أرب وتقاصرت همته عنها وطابت عنها نفسه وطلقها، وانقضت عدتها وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها زَوَّجْناكَها قال أنس: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وقال الشعبي: «كانت زينب تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم إني لأدل عليك بثلاث ما من امرأة من نسائك تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير جبريل عليه السلام» (م) عن أنس قال لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لزيد: اذهب فاذكرها على قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت يا زينب أرسل رسول الله يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليها بغير إذن قال: فلقد رأيتنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس، وبقي أناس يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أم غيري قال فانطلق حتى دخل البيت، وذهبت لأدخل معه فألقى الستر بيني وبينهم ونزل الحجاب (ق) عن أنس قال ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من نسائه، ما أولم على زينب أولم بشاة وفي رواية أكثر وأفضل، ما أولم على زينب قال ثابت: بم أولم قال أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه. قوله عز وجل لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي إثم فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ جمع الدعي وهو المتبني إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يقول: يقول زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي كنت تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبني بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33): الآيات 38 الى 44] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي فيما أحل الله له من النكاح، وغيره سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ معناه سن الله سنة في الأنبياء، وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح، وغيره فإنه كان لهم الحرائر والسراري فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكذلك سن لمحمد صلّى الله عليه وسلّم في التوسعة عليه كما سن لهم ووسع عليهم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً يعني قضاء مقضيا أن لا حرج على أحد فيما أحل له ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ يعني فرائض الله وسننه وأوامره ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم وَيَخْشَوْنَهُ يعني يخافونه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ يعني لا يخافون قالت: الناس ولائمتهم فيما أحل لهم وفرض عليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم. قوله عز وجل ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما تزوج زينب قال: الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعني زيد بن حارثة والمعنى أنه لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح. فإن قلت: قد كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وقال للحسن: إن ابني هذا سيد. قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال وقيل: أراد بالرجال الذي لم يلدهم وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي إن كل رسول هو أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده أي ولا معه قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا ويكون بعده نبيا وعنه قال: إن الله لما حكم أن لا نبي بعده، لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي دخل في علمه أنه لا نبي بعده. فإن قلت: قد صح أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان بعده وهو نبي قلت إن عيسى عليه السلام ممن نبيء قبله وحين ينزل في آخر الزمان ينزل عاملا بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» وعن جابر نحوه وفيه جئت فختمت الأنبياء (ق) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» وقد سماه الله رؤوفا رحيما (م) عن أبي موسى قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمي، لنا نفسه أسماء فقال «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفي وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة» المقفي هو المولى الذاهب، يعني آخر الأنبياء المتبع لهم فإذا قفي فلا نبي بعده. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال ابن عباس: لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها فقال تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وقال تعالى اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يعني بالليل والنهار في البر والبحر وفي الصحة والسقم وفي السر والعلانية، وقيل الذكر الكثير أن لا ينساه أبدا وَسَبِّحُوهُ معناه إذا ذكرتموه ينبغي لكم أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء بُكْرَةً وَأَصِيلًا فيه إشارة إلى المداومة لأن ذكر الطرفين يفهم منه

[سورة الأحزاب (33): الآيات 45 إلى 50]

الوسط أيضا وقيل: معناه صلوا له بكرة صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة العصر وقيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقيل: معنى سبحوه قولوا سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله زاد في نسخة العلي العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته والمراد بقوله: كثيرا هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والحائض والمحدث هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده والثناء عليه قال أنس: لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر: ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله هذه الآية لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني أنه برحمته وهدايته، ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فيه بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يصلي عليكم غير مختص بالسامعين، وقت الوحي بل هو عام لجميع المسلمين تَحِيَّتُهُمْ يعني تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرون الله يوم القيامة سَلامٌ أي يسلم الرب تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات وروي عن البراء بن عازب قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يعني يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه عن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرئك السلام وقيل: تسلم عليهم الملائكة حين يخرجون من قبورهم تبشرهم وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يعني الجنة. قوله عز وجل: [سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 50] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي للرسل بالتبليغ وقيل شاهدا على الخلق كلهم يوم القيامة وَمُبَشِّراً أي لمن آمن بالجنة وَنَذِيراً أي لمن كذب بالنار وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى توحيده وطاعته بِإِذْنِهِ أي بأمره وَسِراجاً مُنِيراً سماه سراجا منيرا لأنه جلا به ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، وقيل معناه أمد الله بنور نبوته نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء. فإن قلت لم سماه سراجا، ولم يسمه شمسا والشمس أشد إضاءة من السرج وأنور. قلت: نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء بخلاف نور السراج فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي ما تفضل به عليهم زيادة على الثواب وقيل: الفضل هو الثواب وقيل هو تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ قال ابن عباس: اصبر على أذاهم لا تجازهم عليه وهذا منسوخ بآية القتال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي حافظا. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن، ففي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا نكحتك فأنت طالق، أو قال:

كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق، وهذا قول علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاوس، الحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار، ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي وقال ربيعة ومالك والأوزاعي: إن عين امرأة وقع وإن عمم فلا يقع وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: كذبوا على ابن مسعود، وإن كان قالها فزلة من عالم الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق والله يقول إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك» أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه (خ) عن ابن عباس قال: جعل الله الطلاق بعد النكاح أخرجه البخاري في ترجمة باب بغير إسناد عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا طلاق قبل النكاح» فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تحصونها بالأقراء والأشهر، أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة، فلا عدة وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا فلها المتعة وإن كان قد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق، ولا متعة لها وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله «فنصف ما فرضتم» وقيل: هذا أمر ندب فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر وقيل: إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير إضرار بهن. قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي من السبي فتملكها مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعني نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني نساء بني زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ إلى المدينة فمن لم تهاجر، منهن لم يجز له نكاحها عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي أحللنا لك امرأة مؤمنة، وهبت نفسها لك بغير صداق فأما غير المؤمنة، فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه وهل تحل الكتابية بالمهر، فذهب جماعة إلى أنها لا تحل له لقوله وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر لقوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والزيادة على أربع ووجوب تخيير النساء واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي: وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة، ينعقد بلفظ التمليك والهبة، ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة، لقوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، كما في حق سائر الأمة لقوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وكان اختصاصه في ترك المهر لا في لفظ النكاح واختلفوا في التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهل كانت عنده امرأة منهن فقال ابن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد النكاح، أو بملك يمين وقوله إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها على سبيل الفرض والتقدير، وقال آخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها فقال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الأنصارية الهلالية أم المساكين، وقال قتادة هي ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل هي

[سورة الأحزاب (33): الآيات 51 إلى 52]

أم شريك بنت جابر: من بني أسد وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سليم. وقوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي أوجبنا على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ أي من الأحكام وهو أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وهذا يرجع إلى أول الآية معناه أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكي لا يكون عليك ضيق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي للواقع في الحرج رَحِيماً أي بالتوسعة على عبادة. [سورة الأحزاب (33): الآيات 51 الى 52] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) قوله تعالى تُرْجِي يعني تؤخر مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ أي تضم إليك مَنْ تَشاءُ قيل هذا للقسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه الوجوب وصار الاختيار إليه فيهن، وقيل نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهرا حتى نزلت آية التخيير فأمره الله تعالى أن يخيرهن فمن اختارت الدنيا فارقها، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين، لا ينكحن أبدا وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعضهن، دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والكسوة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط. واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهن من القسم فقال بعضهم: لم يخرج أحدا بل كان صلّى الله عليه وسلّم مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة وقيل: أخرج بعضهن. روي عن أبي رزين، قال: لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا فأرجى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضهن، وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمسا أم حبيبة وميمونة وسودة وجويرة وصفية، فكان يقسم لهن ما يشاء وقال ابن عباس تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من النساء قال وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها (ق) عن عروة قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي، وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي طلبت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسمة فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي لا إثم عليك فأباح الله له ترك القسم، لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزل منهن، تفضيلا له على سائر الرجال ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله تعالى وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ أي أعطيتهن كُلُّهُنَّ من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي من أمر النساء والميل إلى بعضهن وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي مما في ضمائركم حَلِيماً أي عنكم. قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما

[سورة الأحزاب (33): آية 53]

خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ذلك وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، قاله ابن عباس: واختلفوا هل أبيح له النساء بعد ذلك فروي عن عائشة أنها قالت «ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل له النساء» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح، وللنسائي عنها «حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما يشاء» وقال أنس «مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التحريم» وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أكان يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قيل له قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال: إنما أحل له ضربا من النساء فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية ثم قال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وقيل معنى الآية لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي بالمسلمات غيرهن من الكتابيات، لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أي من الكتابيات فتسري بهن وقيل في قوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم، يقول الرجل للرجل انزل لي عن امرأتك وأنزل عن امرأتي فأنزل الله تعالى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ أي تبادل بهن من أزواج أي تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته فحرم ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحرائر فلا وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعني ليس لك أن تطلق أحد من نسائك، وتنكح بدلها أخرى، ولو أعجبك جمالها، قال ابن عباس: يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخطبها فنهي عن ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ قال ابن عباس: ملك بعد هؤلاء مارية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي حافظا وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روى عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» أخرجه أبو داود. (م) عن أبي هريرة «أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» قال الحميدي: يعني هو الصغر عن المغيرة بن شعبة قال: «خطبت امرأة فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم هل نظرت إليها قلت: لا قال فانظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما» أخرجه الترمذي: وقال حديث حسن. قوله عز وجل: [سورة الأحزاب (33): آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية قال أكثر المفسرين نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ق) عن أنس بن مالك: أنه كان ابن عشر سنين مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قال فكانت أم هانئ تواظبني على خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخدمته عشر سنين وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن عشرين سنة، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش حين أصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأطالوا المكث فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا فرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجعت، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا فرجع

[سورة الأحزاب (33): الآيات 54 إلى 56]

ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب زاد في رواية قال دخل يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم البيت وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة وهو يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (ق) عن عائشة «أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كن يخرجن بالليل، إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم، احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب» المناصع المواضع الخالية، لقضاء الحاجة من البول أو الغائط والصعيد وجه الأرض والأفيح الواسع (ق)، عن أنس وابن عمر أن عمر قال «وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت الآية الحجاب واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك. وقال ابن عباس: إنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون عليه قبل الطعام قبل أن يدرك ثم يأكلون، ولا يخرجون وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأذى بهم، فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ يعني إلا أن تدعوا إِلى طَعامٍ فيؤذن لكم فتأكلون غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ يعنى منتظرين نضجه ووقت إدراكه وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا أي فاخرجوا من منزله وتفرقوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون فنهوا عن ذلك إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي فيستحيي من إخراجكم وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قال لا يستحيي من الحق بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم وهذا أدب أدب الله به الثقلاء، وقيل: بحسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أي وإذا سألتم نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم حاجة فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي من وراء ستر فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متنقبة كانت أو غير متنقبة ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي من الريب وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال إذا: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلأنكحن عائشة. قيل هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله أن ذلك محرم، وقال إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي ذنبا عظيما وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله الله صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب حرمته حيا وميتا وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمه حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده. [سورة الأحزاب (33): الآيات 54 الى 56] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي من أمر نكاحهن على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ أي في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي يعلم سركم وعلانيتكم، نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزلت هذه الآية، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء

فصل في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

والأبناء والأقارب لرسول الله، ونحن أيضا يا رسول الله نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله عز وجل لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أي لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب وَلا نِسائِهِنَّ قيل أراد به النساء المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ اختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرما لها أم لا فقال قوم بل يكون محرما لقوله تعالى ولا ما ملكت أيمانهن، وقال قوم العبد كالأجانب والمراد من الآية الإماء دون العبيد وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي أن يراكن أحد غير هؤلاء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي من أعمال العباد شَهِيداً قوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس: أراد أن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له وعنه أيضا يصلون يتبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فصلاة الله ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي ادعوا له بالرحمة وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي حيوه بتحية الإسلام. فصل في صفة الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفضلها اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم اختلفوا فقيل تجب في العمر مرة وهو الأكثر، وقيل: تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل: تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية والواجب اللهم صل على محمد وما زاد سنة (ق) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (ق) عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» (م) عن أبي مسعود البدري قال أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولوا «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم» (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا» عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات» أخرجه الترمذي وله عن أبي طلحة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقلت إنا لنرى البشر في وجهك قال: أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا» وله عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام» عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وله عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي» أخرجه الترمذي: وقال حديث حسن غريب صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلي على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» أخرجه أبو داود. قوله عز وجل:

[سورة الأحزاب (33): الآيات 57 إلى 67]

[سورة الأحزاب (33): الآيات 57 الى 67] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله ويد الله مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله عز وجل كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي، فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله عز وجل «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار» معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر ويسبوه عند النوازل، لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال الله تعالى أنا الدهر أي أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم، وقيل معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل: هم أصحاب التصاوير (ق) عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم. يقول «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة» وقيل: يؤذون الله أي يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «قال الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب» وقال تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس هو أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي من غير أن عملوا ما أوجب أذاهم وقيل يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً قيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه، ويشتمونه وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة الذين يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء، إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيتبعون المرأة فإن سكتت تبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدا تخرج الحرة والأمة في درع وخمار فشكوا ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء، فقال تعالى، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ أي يرخين ويغطين عَلَيْهِنَّ مِنْ

[سورة الأحزاب (33): الآيات 68 إلى 72]

جَلَابِيبِهِنَ جمع جلباب وهو الملاءة التي تشمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل هو الملحفة وكل ما يستتر به من كساء، وغيره. قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر وهو قوله تعالى ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي لا يتعرض لهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لما سلف منهن قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة، وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألق القناع. لكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد والأمة والخامل والقليل العقل مثل قولك يا خسيس. قوله تعالى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي فجور وهم الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أي بالكذب وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون: قد أتاكم العدو ونحو هذا من الأراجيف، وقيل: كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتفشوا الأخبار لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ يعني لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا أي حتى يخرجوا منها وقيل لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة مَلْعُونِينَ أي مطرودين أَيْنَما ثُقِفُوا أي وجدوا وأدركوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي الحكم فيهم هذا على الأمر به سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي في المنافقين والذين فعلوا مثل ما فعل هؤلاء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا قوله عز وجل يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء وكان اليهود يسألونه عن الساعة امتحانا، لأن الله تعالى عمى عليهم علم وقتها في التوراة فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبهم بقوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني إن الله تعالى قد استأثر به ولم يطلع عليه نبيا ولا ملكا وَما يُدْرِيكَ أي أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي إنها قريبة الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين، وإسكات للممتحنين إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي تتقلب ظهر البطن حين يسحبون عليها يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي في الدنيا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا يعني رؤوس الكفر الذين لقنوهم الكفر، وزينوه لهم فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا يعني عن سبيل الهدى. [سورة الأحزاب (33): الآيات 68 الى 72] رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) رَبَّنا آتِهِمْ يعنون السادة والكبراء ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ يعني ضعفي عذاب غيرهم وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يعني لعنا متتابعا. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا يعني فطهره الله مما قالوه فيه وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً يعني كريما ذا جاه وقد قال ابن عباس كان حظيا عند الله لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، وقيل كان مستجاب الدعوة وقيل كان محببا مقبولا واختلفوا فيما أوذي به موسى، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل،

وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمع موسى، بأثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا» قال أبو هريرة والله إن بالحجر ندبا ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر أخرجه البخاري ومسلم وللبخاري، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى شيء من جسده استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة وأن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى العصا وطلب الحجر وجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، ورأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر الضرب ثلاثا أو أربعا أو خمسا» فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً الأدرة عظم الخصية لنفخة فيها، وقوله فجمح أي أسرع وقوله ثوبي حجر أي دع ثوبي يا حجر قوله وطفق أي جعل يضرب الحجر، وقوله ندبا هو بفتح النون والدال وهو الأصح وأصله أثر الجرح، إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب، بالحجر، والمحدثون يقولون ندبا بسكون الدال وقيل في معنى الآية أن أذاهم إياه، أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله فأمر الله تعالى الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا: وقيل إن قارون استأجر بغيا لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله، وبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فأتيته فأخبرته بما قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» الصرف بكسر الصاد صبغ أحمر يصبغ به الأديم. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. قال ابن عباس صوابا وقيل: عدلا وقيل صدقا وقيل قول هو لا إله إلا الله يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي ظفر بالخير العظيم. قوله عز وجل إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ الآية قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إذا أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان وأشد من هذا كله الودائع وقيل: جميع ما أمروا به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال: هذه الأمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، وفي رواية عن ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء لا في قليل ولا كثير فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن قلن يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله تعالى: أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهم تخييرا لا إلزاما، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره ساجدة له قال

فصل

بعض أهل العلم ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقيل المراد من العرض على السموات والأرض، هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، والقول الأول أصح وهو قول العلماء فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعني آدم قال الله عز وجل لآدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها قال يا رب، وما فيها قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي قال الله أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن لا تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلاقا فإذا خشيت فأغلقه، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن تحملها، وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه، وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الإجرام، وأقواه وأشده أن يحتمله ويستقل به فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. قال ابن عباس: إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بأمر ربه وما تحمل من الأمانة وقيل ظلوما حين عصى ربه جهولا أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقيل ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها وضمنها ولم يف بضمانها وقيل في تفسير الآية أقوال أخر، وهو أن الله تعالى ائتمن السموات والأرض والجبال على كل شيء، وائتمن آدم وأولاده على شيء فالأمانة في حق الأجرام العظام هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له، وقوله فأبين أن يحملنها أي أدين الأمانة ولم يخن فيها وأما الأمانة في حق بني آدم، فهي ما ذكر من الطاعة والقيام بالفرائض وقوله وحملها الإنسان أي خان فيها، وعلى هذا القول حكي عن الحسن أنه قال الإنسان هو الكافر والمنافق حملا الأمانة وخانا فيها، والقول الأول هو قول السلف وهو الأولى. فصل في الأمانة (ق) عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر حدثنا «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة» ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا، وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال: للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا» قوله: نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال جذر الشيء أصله والوكت الأثر اليسير، كالنقطة في الشيء من غير لونه، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل وقيل إنما هو النفطات في الجلد، وقد فسره الحديث والمنتبر المنتفخ وليس فيه شيء (خ) عن أبي هريرة قال «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة قال: ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها يا رسول الله قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» وعنه قال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب. قوله تعالى:

[سورة الأحزاب (33): آية 73]

[سورة الأحزاب (33): آية 73] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي بما خانوا الأمانة ونقضوا العهد وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. وقيل: عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة سبأ

سورة سبأ مكية وهي أربع وخمسون آية وثمانمائة، وثلاثة وثلاثون كلمة وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) قوله عز وجل الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ معناه أن كل نعمة من الله، فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجلها، ولما قال: الحمد لله وصف ملكه فقال: الذي له ما في السموات وما في الأرض أي ملكا وخلقا وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي كما هو له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه، فكما أنه المحمود على نعم الدنيا فهو المحمود على نعم الآخرة وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما ورد يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي أحكم أمور الدارين الْخَبِيرُ أي بكل ما كان وما يكون يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من المطر والكنوز والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي من النبات والشجر والعيون والمعادن والأموات إذا بعثوا وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من المطر والثلج والبرد، وأنواع البركات والملائكة وَما يَعْرُجُ فِيها أي في السماء من الملائكة وأعمال العباد وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي للمفرطين في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ معناه أنهم أنكروا البعث وقيل: استبطئوا ما وعدوه من قيام الساعة على سبيل اللهو والسخرية قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ يعني الساعة عالِمِ الْغَيْبِ أي لا يفوت علمه شيء من الخفيات وإذا كان كذلك اندرج في علمه، وقت قيام الساعة وأنها آتية لا يَعْزُبُ عَنْهُ أي لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ يعني وزن ذرة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي من الذرة وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة. [سورة سبإ (34): الآيات 5 الى 12] وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني في ابطال أدلتنا معجزين يعني يحسبون أنهم يفوتوننا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قيل الرجز سوء العذاب وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ يعني أنه من عند الله وَيَهْدِي أي القرآن إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي إلى دين الإسلام وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي المنكرين للبعث المتعجبين منه هَلْ نَدُلُّكُمْ أي قال بعضهم لبعض هل ندلكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معناه يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب وهي أنكم إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق، وصرتم ترابا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي يقول إنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه قال الله تعالى: ردا عليهم ليس بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء والجنون شيء وهو مبرأ منهما بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني منكري البعث فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي عن الحق في الدنيا أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي فيعلموا أنهم حيث كانوا في أرضي وتحت سمائي، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا قادر عليهم إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أي كما خسفنا بقارون أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي كما فعلنا بأصحاب الأيكة إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ترون في السماء والأرض لَآيَةً أي تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي تائب راجع إلى الله تعالى بقلبه. قوله عز وجل وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يعني النبوة والكتاب. وقيل الملك وقيل هو جميع ما أوتي من حسن الصوت، وغير ذلك مما خص به يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي وقلنا يا جبال سبحي معه إذا سبح وقيل: رجعي معه إذا رجع ونوحي معه إذا ناح وَالطَّيْرَ أي وأمرنا الطير أن تسبح معه فكان داود إذا نادى بالتسبيح أو بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا لحقه ملل أو فتور أسمعه الله تعالى تسبيح الجبال فينشط له وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ يعني كان الحديد في يده كالشمع أو كالعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قيل سبب ذلك أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج إلى الناس متنكرا فإذا رأى إنسانا لا يعرفه تقدم إليه، وسأله عن داود فيقول له ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود عليه الصلاة والسلام، ذلك، وقال ما هي يا عبد الله قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع وأنه أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح وقيل إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف فيأكل منها، ويطعم عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين وقد صح في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده» أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض قيل: كان يعمل كل يوم درعا وَقَدِّرْ فِي

[سورة سبإ (34): الآيات 13 إلى 14]

السَّرْدِ أي ضيق في نسخ الدرع وقيل قدر المسامير في حلق الدرع ولا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا تثبت، ولا غلاظا فتكسر الحلق وقيل قدر في السرد أي اجعله على القصد وقدر الحاجة وَاعْمَلُوا صالِحاً يريد داود وآله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قوله تعالى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ معناه أن مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ومسير رواحها مسيرة شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، قيل كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقندى وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي أذبنا له عين النحاس قال أهل التفسير: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن وقيل أذاب الله لسليمان النحاس كما ألان لداود الحديد وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمر ربه قال ابن عباس سخر الله الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به وَمَنْ يَزِغْ أي يعدل مِنْهُمْ من الجن عَنْ أَمْرِنا أي الذي أمرناه به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قيل هذا في الآخرة وقيل: في الدنيا وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته. [سورة سبإ (34): الآيات 13 الى 14] يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي مساجد وقيل: هي الأبنية المرتفعة والقصور والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، وكان مما عملوا له بيت المقدس وذلك أن داود عليه الصلاة والسلام ابتدأه ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يديه فلما توفي داود عليه السلام واستخلف سليمان عليه الصلاة والسلام أحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال، وخص كل طائفة بعمل فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل ربض منها سبطا من الأسباط، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما، ومنهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي من أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك والعنبر والطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللئالئ فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين البلور الصافي وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن على وجه تلك الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد فكان يضيء في الظلمة، كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، وأعلمهم أنه بناه لله تعالى وأن كل شيء فيه خالص له واتخذ ذلك اليوم عيدا. روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل، حكما يوافق حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» أخرجه النسائي ولغير النسائي، «سأل ربه ثلاثا

فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة» وذكر نحوه قوله لا ينهزه أي لا ينهضه أي لا ينهضه إلا الصلاة قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه الصلاة والسلام حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة، وهدم المسجد وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى دار ملكه بالعراق وبنى الشياطين لسليمان باليمن قصورا وحصونا عجيبة من الصخر. وقوله عز وجل وَتَماثِيلَ أي ويعملون له تماثيل أي صورا من نحاس ورخام وزجاج قيل كانوا يصورون السباع والطيور وغيرها، وقيل كانوا يصورون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل: يحتمل أن اتخاذ الصور كان مباحا في شريعتهم وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من الأمور القبيحة في العقل كالقتل والظلم والكذب، ونحوها مما يقبح في كل الشرائع قيل: عملوا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما وقيل: عملوا له الطواويس والعقبان والنسور على درجات سريره وفوق كرسيه لكي يهابه من أراد الدنو منه وَجِفانٍ أي قصاع كَالْجَوابِ أي كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجتمع قيل كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على أثافيها لا تحرك، ولا تنزل عن أماكنها لعظمهن وكان يصعد إليها بالسلالم وكان باليمن اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي وقلنا يا آل داود اعملوا بطاعة الله تعالى شكرا على نعمه قيل: المراد من آل داود نفسه وقيل داود وسليمان وأهل بيته قال ثابت البناني كان داود نبي الله عليه الصلاة والسلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي قليل العامل بطاعتي شكرا لنعمتي. قوله تعالى فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي على سليمان قال: العلماء: كان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابهم فدخله المرة التي مات فيها وكان سبب ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا وقد نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا فيقول لأي شيء خلقت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع. فإن كانت لغرس أمر بها فغرست وإن كانت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها: ما أنت قالت أنا الخروبة قال ولأي شيء نبت قالت لخراب مسجدك، قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، ثم نزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب شيئا، ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب وقام يصلي على عادته متكئا على عصاه فمات قائما، وكان للمحراب كوى من بين يديه، ومن خلقه فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياة سليمان، وينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته، وانقطاعه قبل ذلك فمكثوا يدأبون بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتا فعلموا بموته قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ يعني الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قال البخاري يعني عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ معناه علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في التعب والشقاء مسخرين لسليمان، وهو ميت ويظنونه حيا أراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون ذلك لجهلهم وقيل في معنى الآية أنه ظهر أمر الجن وانكشف للانس أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين. وقوله عز وجل:

[سورة سبإ (34): الآيات 15 إلى 16]

[سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 16] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ عن فروة بن مسيك المرادي قال: «لما أنزل في سبأ ما أنزل قال رجل يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة» أخرجه الترمذي مع زيادة. وقال حديث حسن غريب وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم أي بمأرب من أرض اليمن، آية أي دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ثم فسر الآية فقال تعالى جَنَّتانِ أي بستانان عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ يعني عن يمين الوادي وشماله وقيل عن يمين من أتاهما وشماله وقيل كان لهم واد قد أحاطت به الجنتان كُلُوا أي قيل لهم كلوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي من ثمار الجنتين قيل كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا وَاشْكُرُوا لَهُ أي على ما رزقكم من النعمة واعملوا بطاعته بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي أرض مأرب، وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة، ليست بسبخة وقيل: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حية، ولا عقرب وكان الرجل يمر ببلدتهم، وفي ثيابه القمل فيموت القمل من طيب الهواء وَرَبٌّ غَفُورٌ قال وهب أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم رب غفور لمن شكره. قوله عز وجل: فَأَعْرَضُوا قال وهب: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ العرم الذي لا يطاق قيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء وقيل: العرم السكر الذي يحبس الماء وقيل: العرم الوادي. قال ابن عباس ووهب وغيرهما، كان لهم سد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالصخر والقار بين الجبلين وجعلت لهم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وبنت دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا عنه سدوها فإذا جاءهم المطر اجتمع إليهم ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا بعدها مدة، فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جنانهم وأخرب أرضهم وقال وهب رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فارة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار فساورتها، حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل وهم لا يعلمون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل ممزق، حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيادي سبا فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم سيل العرم وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قيل هو شجر الأراك وثمرة البربر وقيل: كل نبت أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، فهو خمط وقيل هو ثمر شجر يقال له فسوة الضبع على صور الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به وَأَثْلٍ قيل هو الطرفاء وقيل شجر يشبه الطرفاء إلا أنه

[سورة سبإ (34): الآيات 17 إلى 22]

أعظم منه وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ هو شجر معروف ينتفع بورقة في الغسل وثمره النبق ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به بل كان سدرا بريا لا يصلح لشيء قيل: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم وهو قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 17 الى 22] ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي ذلك فعلنا بهم جزاء كفرهم وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي هل يكافأ بعمله إلا الكفور لله في نعمه، قيل المؤمن يجزي ولا يجزى يجازى بحسناته، ولا يكافأ بسيئاته وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالماء والشجر، وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها قيل: كان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام، وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى القرية ذات مياه وأشجار، فكان ما بين اليمن والشام كذلك سِيرُوا أي وقلنا لهم سيروا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي في أي وقت شئتم آمِنِينَ أي لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا فبطروا النعمة، وسئموا الراحة وطغوا ولم يصبروا على العافية فقالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيها وطلبوا الكد والتعب في الأسفار فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وقرئ باعد بين أسفارنا أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد فلما تمنوا ذلك عجل الله لهم الإجابة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بالبطر والطغيان فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق قيل: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد فأما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر الأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج ولحق آل خزيمة بالعراق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لعبرا ودلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ أي عن المعاصي شَكُورٍ أي لله على نعمه قيل، المؤمن صابر على البلاء شاكر للنعماء وقيل: المؤمن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. قوله عز وجل وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قيل على أهل سبأ وقيل على الناس كلهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المؤمنين كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين، وقيل هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه، قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله قال لأغوينهم ولأضلنهم ولم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم وقال الحسن إنه لم يسل عليهم سيفا، ولا ضربهم بسوط إنما وعدهم ومناهم فاغتروا وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني ما كان تسليطنا إياه عليهم إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ يعني لنرى ونميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع، والظهور إذ كان معلوما

[سورة سبإ (34): الآيات 23 إلى 31]

عنده لأنه عالم الغيب وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يعني رقيب وقيل حفيظ بمعنى حافظ. قوله تعالى قُلِ يعني قل يا محمد لكفار مكة ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ يعني أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ثم وصف عجز الآلهة فقال تعالى لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ يعني من خير وشر ونفع وضر وَما لَهُمْ يعني للآلهة فِيهِما يعني في السموات، الأرض مِنْ شِرْكٍ يعني من شركة وَما لَهُ يعني لله مِنْهُمْ يعني من الآلهة مِنْ ظَهِيرٍ عون. [سورة سبإ (34): الآيات 23 الى 31] وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يعني أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيبا للكفار حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقيل: يجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ معناه كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم قيل هم الملائكة وسبب ذلك من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله تعالى (خ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها» فإذا فزع عن قلوبهم قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الذي قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وللترمذي «إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير» قال الترمذي حديث حسن صحيح قوله: خضعا جمع خاضع وهو المنقاد المطمئن والصفوان الحجر الأملس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول الحق فيقولون الحق» أخرجه أبو داود. الصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض، وقيل: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة، قيل كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة أو ستمائة، لم تسمع الملائكة فيها صوت وحي فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم كلم جبريل بالرسالة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة، لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء، فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم: قالوا قال الحق يعني الوحي وهو العلي الكبير وقيل: الموصوفون بذلك هم المشركون وقيل إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت قالت الملائكة لهم ماذا قال ربكم في الدنيا لإقامة الحجة عليهم؟ قالوا: الحق فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء.

[سورة سبإ (34): الآيات 32 إلى 39]

قوله عز وجل قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني المطر والنبات قُلِ اللَّهُ يعني إن لم يقولوا إن رزاقنا هو الله فقل: أنت إن رازقكم هو الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ معناه ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال، وهذا ليس على طريق الشك بل جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اتبعه على الهدى ومن خالفه في ضلال فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب ومنه بيت حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء وقيل أو بمعنى الواو، ومعنى الآية إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي لا تؤاخذون به وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب وقيل أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن وبالعمل الكفر والمعاصي العظام قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أي يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ يعني يقضي ويحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني بالعدل وَهُوَ الْفَتَّاحُ يعني القاضي الْعَلِيمُ يعني بما يقضي قُلْ أَرُونِيَ أعلموني الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ يعني بالله شُرَكاءَ يعني الأصنام التي أشركوها معه في العبادة هل يخلقون أو يرزقون وأراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله كَلَّا كلمة ردع لهم عن مذهبهم والمعنى ارتدعوا فإنهم لا يخلقون ولا يرزقون بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره الْحَكِيمُ أي في تدبير خلقه فأنى يكون له شريك في ملكه. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ يعني للناس كلهم عامة أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وقيل الرسالة عامة لهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد (ق) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهور، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». في الحديث بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم دون سائر الأنبياء، وأن هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء، وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وكان النبي قبله يبعث إلى قومه أو إلى أهل بلده فعمت رسالة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، جميع الخلق وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وقيل في معنى كافة أي كافا تكفهم عما هم عليه من الكفر فتكون الهاء للمبالغة بَشِيراً أي لمن آمن بالجنة وَنَذِيراً أي لمن كفر بالنار وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني يوم القيامة قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ معناه لا تتقدمون على يوم القيامة وقيل: عن يوم الموت ولا تتأخرون عنه بأن يزاد في آجالهم أو ينقص منها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني التوراة والإنجيل وَلَوْ تَرى أي يا محمد إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ معناه ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهو القادة والأشراف لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ يعني أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله. [سورة سبإ (34): الآيات 32 الى 39] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي أجاب المتبوعون في الكفر لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ أي منعناكم عَنِ الْهُدى أي عن الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي بترك الإيمان وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم بنا في الليل والنهار وقيل مكر الليل والنهار هو طول السلامة في الدنيا وطول الأمل فيها إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي هو قول القادة للأتباع إن ديننا الحق وإن محمد كذاب ساحر وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أظهروها وقيل: أخفوها وهو من الأضداد لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في النار الأتباع والمتبوعين جميعا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الكفر والمعاصي في الدنيا. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي رؤساؤها وأغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا يعني المترفين والأغنياء للفقراء الذين آمنوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً يعني لو لم يكن الله راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل الصالح لم يخولنا أموالا ولا أولادا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي إن الله قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يعني أنه تعالى يبسط الرزق ابتلاء وامتحانا ولا يدل البسط على رضا الله تعالى ولا التضييق على سخطه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي إنها كذلك وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي بالتي تقربكم عندنا تقريبا إِلَّا أي لكن مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً قال ابن عباس يريد إيمانه وعلمه يقربه مني فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا أي يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يعملون في إبطال حججنا مُعاجِزِينَ أي معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتنا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ. قوله عز وجل قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ويعوضه لا معوض سواه إما عاجلا بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما بالثواب في الآخرة الذي كل خلف دونه، وقيل ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم من خير فهو يخلفه على المنفق. قال مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقره، ولا يتأولن وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية ما كان من خلف فهو منه (ق) عن ابن هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنفق ينفق عليك» ولمسلم «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» (م) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي خير من يعطي ويرزق لأن كل ما رزق غيره من سلطان يرزق جنده أو سيد يرزق مملوكه أو رجل يرزق عياله فهو من رزق الله أجراه الله على أيدي هؤلاء وهو الرزاق الحقيقي الذي لا رازق سواه. قوله تعالى:

[سورة سبإ (34): الآيات 40 إلى 49]

[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 49] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني هؤلاء الكفار ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أي في الدنيا وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار فتتبرأ الملائكة منهم من ذلك وهو قوله تعالى قالُوا سُبْحانَكَ أي تنزيها لك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي نحن نتولاك ولا نتولاهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يعني الشياطين. فان قلت قد عبدوا الملائكة فكيف وجه قوله بل كانوا يعبدون الجن. قلت أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فأطاعوهم في ذلك فكانت طاعتهم للشياطين عبادة لهم وقيل صوروا لهم صورا وقالوا لهم هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها وقيل كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يعني مصدقون للشياطين قال الله تعالى فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً أي شفاعة وَلا ضَرًّا أي بالعذاب يريد أنهم عاجزون ولا نفع عندهم ولا ضر وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يعنون القرآن وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَما آتَيْناهُمْ يعني هؤلاء المشركين مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا أنزل إليهم كتاب وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم السالفة رسلنا وَما بَلَغُوا يعني هؤلاء المشركين مِعْشارَ أي عشر ما آتَيْناهُمْ أي أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول الأعمار فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم يحذر بذلك كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. قوله عز وجل قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أي آمركم وأوصيكم بِواحِدَةٍ أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال تعالى أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي لأجل الله مَثْنى أي اثنين وَفُرادى أي واحدا واحدا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أي تجتمعوا جميعا فتنظروا وتتحاوروا وتتفكروا في حال محمد صلّى الله عليه وسلّم فتعلموا أن ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ومعنى الآية إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا لله وليس المراد به القيام على القدمين ولكن هو الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة فتقوموا لوجه الله خالصا ثم تتفكروا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به أما الاثنان فيتفكران، ويعرض كل منهما محصول فكره على صاحبه لينظرا فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل بهما اتباع الهوى وأما الفرد فيفكر في نفسه أيضا بعدل ونصفة هل رأينا في هذا الرجل جنونا قط أو جربنا عليه كذبا قط وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنة بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلا وأوزنهم حلما وأحدهم ذهنا وأرصنهم رأيا وأصدقهم قولا وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحونه به وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين صادق فيما جاء

[سورة سبإ (34): الآيات 50 إلى 54]

به وقيل: تم الكلام عند قوله: ثم تتفكروا أي في السموات والأرض فتعلموا أنه خالقها واحد لا شريك له ثم ابتدأ فقال ما بصاحبكم من جنة إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ أي على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ أي جعل فَهُوَ لَكُمْ أي لم أسألكم شيئا إِنْ أَجْرِيَ أي ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يأتي بالوحي من السماء فيقذفه إلى الأنبياء عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي خفيات الأمور قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي القرآن والإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي ذهب الباطل وزهق فلم تبق منه بقية تبدئ شيئا أو تعيده وقيل الباطل هو إبليس والمعنى لا يخلق إبليس أحدا ابتداء ولا يبعثه إذا مات وقيل الباطل الأصنام. [سورة سبإ (34): الآيات 50 الى 54] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك فقال الله تعالى قل إن ضللت فيما تزعمون أنتم فإنما أضل على نفسي أي إثم ضلالتي على نفسي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي في القرآن والحكمة إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قوله عز وجل وَلَوْ تَرى أي يا محمد إِذْ فَزِعُوا أي عند البعث أي حين يخرجون من قبورهم وقيل عند الموت فَلا فَوْتَ أي لا يفوتوننا ولا نجاة لهم وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل من تحت أقدامهم، وقيل أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها وحيثما كانوا فإنهم من الله قريب لا يفوتونه، ولا يعجزونه وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وقيل: هو خسف بالبيداء ومعنى الآية ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمرا تعتبر به وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي حين عاينوا العذاب قيل هو عند اليأس وقيل هو عند البعث وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي التناول والمعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبا منهم في الدنيا فضيعوه وقال ابن عباس يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي من الآخرة إلى الدنيا وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي القرآن وقيل بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قيل هو الظن لأن علمه غاب عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى يرمون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون وهو قولهم إنه شاعر ساحر كاهن لا علم له بذلك وقيل يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا ونعيمها وزهرتها كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار مِنْ قَبْلُ أي لم تقبل منهم التوبة في وقت اليأس إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ أي من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ أي موقع الريبة والتهمة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة فاطر

سورة فاطر وتسمى سورة الملائكة مكية وهي خمس وأربعون آية وتسعمائة وسبعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) قوله عز وجل الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي إلى الأنبياء أُولِي أَجْنِحَةٍ أي ذوي أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء. قال عبد الله بن مسعود في قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح، وقيل في قوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ هو حسن الصوت وقيل حسن الخلق وتمامه وقيل هو الملاحة في العينين وقيل هو العقل والتمييز إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مما يريد أن يخلقه. قوله تعالى ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ قيل المطر وقيل من خير ورزق فَلا مُمْسِكَ لَها أي لا يستطيع أحد حبسها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي لا يقدر أحد على فتح ما أمسك وَهُوَ الْعَزِيزُ يعني فيما أمسك الْحَكِيمُ أي فيما أرسل (م) عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» والجد الغنى والبخت أي لا ينفع المبخوت والغني حظه وغناه لأنهما منك إنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك. قوله عز وجل: [سورة فاطر (35): الآيات 3 الى 10] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قيل الخطاب لأهل مكة ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي لا خالق إلا الله وهو استفهام تقرير وتوبيخ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ أي المطر وَالْأَرْضِ أي النبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خالقكم ورازقكم وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعزي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي فيجزي المكذب من الكفار بتكذيبه. قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعد القيامة فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي لاتخد عنكم بلذاتها وما فيها عن عمل الآخرة وطلب ما عند الله وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا يقل لكم اعملوا ما شئتم فان الله يغفر كل ذنب وخطيئة ثم بين الغرور من هو فقال تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أشياعه وأولياءه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ثم بين حال موافقيه ومخالفته فقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. قوله عز وجل أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقيل نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم لا يستحلونها ويعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها ومعنى زين له شبه له وموه عليه قبيح عمله فَرَآهُ حَسَناً وفي الآية حذف مجازه أفمن زين له سوء عمله فرأي الباطل حقا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقيل مجاز الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء والحسرة شدة الحزن على ما فات والمعنى لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيه وعيد بالعقاب على سوء صنيعهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي تزعجه من مكانه وقيل تجمعه وتجيء به فَسُقْناهُ أي فنسوقه إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات روى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه» قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً قيل معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا وقيل معناه من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله وهو دعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز، فبين الله أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين إِلَيْهِ يعني إلى الله يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قيل هو قول لا إله إلا الله وقيل هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر روى البغوي باسناده عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، إلا أخذهن ملك تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين، ومصداقه من كتاب الله قوله: إليه يصعد الكلم الطيب» هذا حديث موقوف على ابن مسعود وفي إسناده الحجاج بن نصير ضعيف، وقيل الكلم الطيب ذكر الله تعالى وقيل معنى إليه يصعد أي يقبل الله الكلم

[سورة فاطر (35): الآيات 11 إلى 19]

الطيب وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال ابن عباس أي يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، وقيل الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفرائض فمن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني وليس بالتحلي ولكن ما وقرفي القلوب وصدقته الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه العمل ذلك بأن الله يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وجاء في الحديث «لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية» وقيل الهاء في يرفعه راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عملا إلا أن يكون صادرا عن توحيد وقيل معناه العمل الصالح يرفعه الله وقيل العمل الصالح هو الخالص، وذلك أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يعملون السيئات أي الشرك وقيل يعني الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة وقيل هم أصحاب الرياء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يبطل ويهلك في الآخرة. قوله عز وجل: [سورة فاطر (35): الآيات 11 الى 19] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذريته ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا وإناثا وقيل زوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ يعني لا يطول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ يعني عمر آخر، وقيل ينصرف إلى الأول قال سعيد بن جبير، مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان، ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره، وقيل معناه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب قال كعب الأحبار حين حضرت عمر الوفاة والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر، فقيل له إن الله تعالى يقول فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ذلك وقرأ هذه الآية إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين. قوله تعالى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمالح ثم وصفهما فقال هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي طيب يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي سهل في الحلق هنيء مريء وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة يحرق الحلق بملوحته وقيل هو المر وَمِنْ كُلٍّ يعني من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ يعني من الملح دون العذب حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ والمرجان وقيل نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر المالح عيون عذبة فتمتزج بالملح فيكون

[سورة فاطر (35): الآيات 20 إلى 32]

اللؤلؤ منهما وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ يعني جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني بالتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون الله على نعمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة إِنْ تَدْعُوهُمْ يعني الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ يعني أنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا أي على سبيل الفرض والتمثيل مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم وقيل ما نفعوكم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى فضله وإحسانه والفقير المحتاج إلى من سواه والخلق كلهم محتاجون إلى الله فهم الفقراء وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه لا يحتاج إليهم الْحَمِيدُ يعني المحمود في إحسانه إليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لاتخاذكم أندادا وكفركم بآياته وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني يخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئا وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي يمتنع وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ بذنب غيرها فان قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم. قلت هذه الآية في الضالين وتلك في المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها معناه وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها إلى حمل ذنوب غيرها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني ولو كان المدعو ذا قرابة كالأب والأم والابن والأخ قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعني يخافون ربهم بِالْغَيْبِ يعني لم يروه والمعنى وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى يعني أصلح وعمل خيرا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ يعني لها ثوابه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني الجاهل والعالم وقيل الأعمى عن الهدى وهو الشرك والبصير بالهدى وهو المؤمن. [سورة فاطر (35): الآيات 20 الى 32] وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ يعني الكفر والإيمان وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني الجنة والنار وقال ابن عباس: الحرور الريح الحارة بالليل والسموم بالنهار وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني المؤمنين والكفار وقيل العلماء والجهال إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ يعني حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور لأنهم لا يجيبون إذا دعوا إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيرا بالثواب لمن آمن ونذيرا بالعقاب لمن كفر وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة كثيرة فيما مضى إِلَّا خَلا أي سلف فِيها نَذِيرٌ أي نبي منذر. فان قلت كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم لم يخل فيها نذير. قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس، وحين اندرست آثار رسالة عيسى عليه السلام بعث الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وآثار نذارته باقية إلى يوم للقيامة لأنه لا نبي بعده وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الدالة على نبوتهم وَبِالزُّبُرِ أي الصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح قيل أراد بالكتاب التوراة والإنجيل والزبور وقيل ذكر الكتاب بعد الزبر تأكيدا ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها يعني أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب والرطب ونحوها وقيل يعني ألوانها في الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك مما لا يحصر ولا يعد وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ يعني الخطط والطرق في الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها يعني منها ما هو أبيض ومنها ما هو أحمر ومنها ما هو أصفر وَغَرابِيبُ سُودٌ يعني شديدة السواد كما يقال أسود غربيب تشبيها بلون الغراب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعني خلق مختلف ألوانه كَذلِكَ يعني كاختلاف الثمرات والجبال وتم الكلام ها هنا، ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني وقيل: عظموه وقدروا قدره وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علما ازداد به خشية (ق) عن عائشة قالت صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فخطب فحمد الله ثم قال «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» قولها فرخص فيه أي لم يشدد فيه قولها فتنزه عن أقوام أي تباعد عنه وكرهه قوم (ق) عن أنس قال خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» فغطى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجوههم لهم خنين الخنين بالخاء المعجمة، هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف وقال مسروق كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا وقال رجل للشعبي أفتني أيها العالم فقال الشعبي إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال مقاتل أشد الناس خشية لله أعلمهم به، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي من ملكه غَفُورٌ يعني لذنوب عباده وهو تعليل لوجوب الخشية لأنه المثيب المعاقب وإذا كان كذلك فهو أحق أن يخشى ويتقى. قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءته ويعلمون ما فيه ويعملون به وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي ويقيمون الصلاة في أوقاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني في سبيل الله سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ يعني لن تفسد ولن تهلك والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس سوى الثواب يعني مما لم تر عين ولم تسمع أذن إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ قال ابن عباس: يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ يعني أوحينا إليك الكتاب وهو القرآن ثم أورثناه يعني حكمنا بتوريثه وقيل أورثناه بمعنى نورثه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قال ابن عباس يريد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم واختصهم بكرامته بأن جعلهم أتباع سيد الرسل وخصهم بحمل أفضل الكتب ثم قسمهم ورتبهم فقال تعالى

[سورة فاطر (35): الآيات 33 إلى 35]

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ روي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلهم من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر ثم أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فقال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» قال أبو قلابة أحد رواته فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه أخرجه البغوي بسنده وروى بسنده عن ثابت «أن رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليسا صالحا فقال أبو الدرداء لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ قال أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما ظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله عز وجل ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية. فقالت: يا بني كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا» وقال ابن عباس السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر، نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال «جنات عدن يدخلونها» وقيل الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق هم السابقون المقربون من الناس كلهم وقيل: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت سيئاته وحسناته والظالم من رجحت سيئاته على حسناته وقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به والمقتصد التالي له العامل به والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه وقيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة وقيل الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم والسابق العالم. فان قلت لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق. قلت: قال جعفر الصادق بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين، لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة وقيل رتبهم الترتيب على مقامات الناس، لأن أحوال العباد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة، ثم قربة فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين، فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين، وقيل قدم الظالم لكثرة الظلم وغلبته ثم المقتصد قليل بالإضافة إلى الظالمين، والسابق أقل من القليل فلهذا أخرهم ومعنى سابق بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة، أو إلى رحمة الله بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله وإرادته ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إيراثهم الكتاب، واصطفاءهم ثم أخبر بثوابهم فقال تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 33 الى 35] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يعني الأصناف الثلاثة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها

[سورة فاطر (35): الآيات 36 إلى 43]

حَرِيرٌ تقدم تفسيره وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال ابن عباس حزن النار وقيل حزن الموت وقيل حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم وقيل حزن زوال النعم وتقليب القلوب وخوف العاقبة وقيل حزن أهوال يوم القيامة وهموم الحصر والمعيشة في الدنيا وقيل ذهب عن أهل الجنة كل حزن كان لمعاش أو معاد. روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ يعني غفر العظيم من الذنوب وشكر القليل من الأعمال الَّذِي أَحَلَّنا يعني أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ أي لا بأعمالنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي لا يصيبنا فيها عناء ولا مشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي إعياء من التعب. قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 43] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي فيستريحوا مما هم فيه وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي من عذاب النار كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ أي يستغيثون ويصيحون فِيها يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا أي من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والسيئات فيقول الله تعالى توبيخا لهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قيل: هو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أعذر الله إلى كل امرئ آخر أجله حتى بلغ ستين سنة» عنه بإسناد الثعلبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن قاله ابن عباس: وقيل هو الشيب والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال الشيب: نذير الموت وفي الأثر «ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت» فَذُوقُوا أي يقال لهم ذوقوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي لهم من مانع يمنعهم من عذابه إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني إنه إذا علم ذلك وهو أخفى ما يكون، فقد علم غيب كل شيء في العالم. قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا وقيل جعلكم أمة خلفت من قبلها من الأمم ورأت ما ينبغي أن يعتبر به، وقيل جعلكم خلفاء في أرضه وملككم منافعها ومقاليد التصرف فيها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فَمَنْ

[سورة فاطر (35): الآيات 44 إلى 45]

كَفَرَ أي جحد هذه النعمة وغطمها فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً يعني غضبا وقيل المقت أشد البغض وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً يعني في الآخرة قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام جعلتموها شركاء بزعمكم أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ يعني أي جزء استبدوا بخلقه من الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي خلق في السموات والأرض أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي على حجة وبرهان من ذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ يعني الرؤساء بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً يعني قولهم هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله. قوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا يعني لكي لا تزولا فيمنعهما من الزوال والوقوع وكانتا جديرتين بأن تزولا وتهدهد العظم كلمة الشرك وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعني ليس يمسكهما أحد سواه إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً يعني غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما وكانتا قد همتا بعقوبة الكفار لولا حلمه وغفرانه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة وذلك لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله لو جاءنا نذير لنكونن أهدى دينا منهم وذلك قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله هذه الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني اليهود والنصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً يعني تباعدا عن الهدى اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ يعني عتوا وتكبرا عن الإيمان به وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعني عمل القبيح وهو اجتماعهم على الشرك وقيل هو مكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعني لا يحل ولا يحيط إلا بأهله فقتلوا يوم بدر قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي ينظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني أن ينزل العذاب بهم كما نزل بمن مضى من الكفار فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم. [سورة فاطر (35): الآيات 44 الى 45] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ معناه أنهم يعتبرون بمن مضى وبآثارهم وعلامات هلاكهم وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليفوت عنه مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا أي من الجرائم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من نسمة تدب عليها يريد بني آدم وغيرهم كما أهلك من كان في زمن نوح بالطوفان إلا من كان في السفينة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد أهل طاعته وأهل معصيته وقيل بصيرا بمن يستحق العقوبة وبمن يستحق الكرامة والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الثالث من تفسير الخازن ويليه الجزء الرابع، وأوله سورة يس عليه الصلاة والسلام

سورة يس

الجزء الرابع سورة يس مكية وهي ثلاث وثمانون آية وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاثة آلاف حرف. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب وفي إسناده شيخ مجهول. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اقرءوا على موتاكم يس» أخرجه أبو داود وغيره. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة يس (36): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) قول عز وجل: يس قال ابن عباس: هو قسم، وعنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل يا سيد البشر وقيل هو اسم للقرآن وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة لأنه دليل ناطق بالحكمة وهو قسم وجوابه إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي أقسم بالقرآن أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لمن المرسلين وهو رد على الكفار حيث قالوا لست مرسلا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ معناه وإنك على صراط مستقيم، وقيل معناه إنك لمن المرسلين الذين هم على طريقة مستقيمة تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ يعني القرآن تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يعني لم تنذر آباؤهم لأن قريشا لم يأتهم نبي قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معناه لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم من العذاب فَهُمْ غافِلُونَ أي عما يراد بهم من الإيمان والرشد. [سورة يس (36): الآيات 7 الى 11] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي وجب العذاب. عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فيه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة فيهم فهم لا يؤمنون لما سبق لهم من القدر بذلك. قوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم يصلي ليرضخن رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر، بيده فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال له رجل من

[سورة يس (36): الآيات 12 إلى 13]

بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت فقال: ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا قيل هذا على وجه التمثيل، ولم يكن هناك غل، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك، وقيل حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال، وقيل إنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل، وقيل إنها وصف في الحقيقة وهي ما سينزله الله عز وجل بهم في النار فَهِيَ يعني الأيدي إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن وهو أسفل اللحيين لأن الغل بجمع اليد إلى العنق فَهُمْ مُقْمَحُونَ يعني رافعو رؤوسهم مع غض البصر وقيل أراد أن الأغلال رفعت رؤوسهم فهم مرفعو الرؤوس برفع الأغلال لها وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا معناه منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، وقيل حجبناهم بالظلمة عن أذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ يعني فأعميناهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعني سبيل الهدى وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني من يرد الله إضلاله لم ينفعه الإنذار إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يعني إنما ينفع إنذارك من اتبع القرآن فعمل بما فيه وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خافه في السر والعلن فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ يعني لذنوبه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ يعني الجنة. [سورة يس (36): الآيات 12 الى 13] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى يعني للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي من الأعمال من خير وشر وَآثارَهُمْ أي ونكتب ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة (م) عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» وقيل نكتب خطاهم إلى المسجد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال «كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (خ) عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعرى المدينة فقال: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟» فأقاموا. قوله تعرى يعني تخلى فتترك عراء وهو الفضاء من الأرض الخالي الذي لا يستره شيء (م). عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» فقالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال: «بني سلمة دياركم تكتب آثاركم». فقالوا ما يسرنا إذا تحولنا. قوله بني سلمة أي يا بني سلمة وقوله: دياركم أي الزموا دياركم (ق). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام». قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي حفظناه وعددناه وأثبتناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني اللوح المحفوظ. قوله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يعني صف لهم شبها مثل حالهم من قصة أَصْحابَ الْقَرْيَةِ يعني أنطاكية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ يعني رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. (ذكر القصة في ذلك) قال العلماء بأخبار الأنبياء بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل

[سورة يس (36): الآيات 14 إلى 20]

إنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ياسين فسلما عليه فقال الشيخ لهما من أنتما فقالا رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال الشيخ لهما أمعكما آية قالا نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله قال الشيخ إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك يعبد الأصنام اسمه انطيخس وكان من ملوك الروم فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما، وقال: من أنتما قالا: رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام، قال: وفيم جئتما قالا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر فقال ولنا إله دون آلهتنا قالا نعم الذي أوجدك وآلهتك قال لهما: قوما حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما وقال وهب بعث عيسى عليه السلام هذين الرجلين إلى أنطاكية فأتياها فلم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله تعالى فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائتي جلدة فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما ليبصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه ورضي عشرته فقال للملك ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما، فقال: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا، قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون: وما آيتكما؟ قال: ما تتمناه فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذ بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك إن أنت سألت إلهك حتى يصنع لك مثل هذا كان لك الشرف ولإلهك، فقال له الملك ليس لي عنك سر مكتوم فإن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع وكان شمعون يدخل مع الملك على الصنم ويصلي ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك إن هاهنا ميتا قد مات منذ سبعة أيام ابن دهقان وأنا أخّرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا، فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وشمعون يدعو ربه سرا فقام الميت وقال: إني ميت منذ سبعة أيام ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم عليه فآمنوا بالله ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة قال شمعون وهذان وأشار بيده إلى صاحبيه فعجب الملك من ذلك فلما علم شمعون أن قوله قد أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 14 الى 20] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)

[سورة يس (36): الآيات 21 إلى 27]

إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما قال وهب اسمهما يوحنا وبولس وقال كعب صادق وصدوق فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ يعني قوينا برسول ثالث وهو شمعون وقيل شلوم وإنما أضاف الله تعالى الإرسال إليه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما بعثهم بإذن الله عز وجل فَقالُوا يعني الرسل جميعا لأهل أنطاكية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ يعني لم يرسل رسولا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ يعني فيما تزعمون قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ يعني وإن كذبتمونا وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي بالآيات الدالة على صدقنا قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا منكم وذلك لأن المطر حبس عنهم فقالوا أصابنا ذلك بشؤمكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي تسكتوا عنا لَنَرْجُمَنَّكُمْ يعني لنقتلنكم وقيل بالحجارة وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ يعني شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم يعني أصابكم الشؤم من قبلكم وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ معناه اطيرتم لأن ذكرتم ووعظتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي في ضلالكم وشرككم متمادون في غيكم. قوله عز وجل: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب النجار وقيل كان قصارا وقال وهب كان يعمل الحرير وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المسجد وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه فإذا أمسى قسمه نصفين نصف لعياله ويتصدق بنصفه فلما بلغه أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم جاءهم قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وقيل كان في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال لهم أتسألون على هذا أجرا قالوا لا فأقبل على قومه وقال يا قوم اتبعوا المرسلين. [سورة يس (36): الآيات 21 الى 27] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فيحصل لكم خير الدنيا والآخرة فلما قال ذلك قالوا له أو أنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم فقال وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر والرجوع فيه معنى الزجر فكان بهم أليق وقيل معناه وأي شيء بي إذا لم أعبد خالقي وإليه تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي لا أتخذ من دونه آلهة إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ عَنِّي أي لا تدفع عني شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا شفاعة لها فتغني عني وَلا يُنْقِذُونِ أي من ذلك المكروه وقيل من العذاب إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي خطأ ظاهر إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي فاشهدوا لي بذلك قيل هو خطاب للرسل وقيل هو خطاب لقومه فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه. قال ابن مسعود ووطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقيل كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي حتى أهلكوه وقبره بأنطاكية فلما لقي الله تعالى: قِيلَ له ادْخُلِ الْجَنَّةَ فلما أفضى إلى الجنة ورأى نعيمها قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلم قومه أن الله تعالى غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل غضب الله عز وجل له فعجّل لهم العقوبة فأمر جبريل عليه الصلاة والسلام فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى:

[سورة يس (36): الآيات 28 إلى 32]

[سورة يس (36): الآيات 28 الى 32] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ يعني الملائكة وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي ما كنا لنفعل هذا بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما تظنون ثم بيّن عقوبتهم فقال تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال المفسرون أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ميتون يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ يعني يا لها حسرة وندامة وكآبة على العباد والحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا، قيل تحسروا على أنفسهم لما عاينوا من العذاب حيث لم يؤمنوا بالرسل الثلاثة فتمنوا الإيمان حيث لم ينفعهم وقيل تتحسر عليهم الملائكة حيث لم يؤمنوا بالرسل وقيل يقول الله تعالى يا حسرة على العباد يوم القيامة حيث لم يؤمنوا بالرسل ثم بين سبب تلك الحسرة فقال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يخبروا خطاب لأهل مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي من الأمم الخالية من أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون بهم وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يعني أن جميع الأمم يحضرون يوم القيامة. [سورة يس (36): الآيات 33 الى 42] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَآيَةٌ لَهُمُ يعني تدلهم على كمال قدرتنا على إحياء الموتى الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي بالمطر وَأَخْرَجْنا مِنْها أي من الأرض حَبًّا يعني الحنطة والشعير وما أشبههما فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي من الحب وَجَعَلْنا فِيها يعني في الأرض جَنَّاتٍ يعني بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يعني من الثمر الحاصل بالماء وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يعني من الزرع والغرس الذي تعبوا فيه وقرئ عملت بغير هاء، وقيل ما للنفي والمعنى ولم تعمله أيديهم وليس من صنيعهم بل وجدوها معمولة وقيل أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل النيل والفرات ودجلة أَفَلا يَشْكُرُونَ يعني نعمة الله تعالى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني الأصناف كلها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي من الأشجار والثمار والحبوب وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ يعني مما خلق الله تعالى من الأشياء في البر والبحر من الدواب. قوله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمُ يعني تدلهم على قدرتنا اللَّيْلُ نَسْلَخُ أي ننزع ونكشط مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ يعني فإذا هم في الظلمة وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يعني إلى مستقر لها قيل إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة وقيل تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها، الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول

منازلها وهو أنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها وقيل مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء. وقرأ ابن مسعود والشمس تجري لا مستقر لها أي لا قرار ولا وقوف فهي جارية أبدا إلى يوم القيامة وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو ذر قال «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله والشمس تجري لمستقر لها قال مستقرها تحت العرش» وفي رواية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر حين غربت الشمس «أتدري أين تذهب الشمس» قال الله ورسوله أعلم قال «إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها» فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أخرجاه في الصحيحين، قال الشيخ محيي الدين النووي اختلف المفسرون فيه فقال جماعة بظاهر الحديث. قال الواحدي فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، وقيل تجري إلى وقت لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها والله أعلم ذلِكَ يعني الذي ذكر من جرى الشمس على ذلك التقدير والحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ يعني الغالب بقدرته على كل شيء مقدور الْعَلِيمِ يعني المحيط علما بكل شيء. قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يعني قدرنا له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كل ليلة في منزل منها لا يتعداه يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص فإذا كان في آخر منازله رقّ وتقوس فذلك قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وهو العود الذي عليه شماريخ العذق إلى منبته من النخلة والقديم الذي أتى عليه الحول فإذا قدم عتق ويبس وتقوس واصفر فشبه القمر به عند انتهائه إلى آخر منازله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ يعني لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يعني هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة. وقيل معناه أن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد ولا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي والشمس والقمر في فلك يسيرون. قوله عز وجل: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ يعني أولادهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يعني المملوء وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ يعني مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ يعني من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل أراد بالفلك المشحون سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ومعنى الآية أن الله عز وجل حمل آباءهم الأقدمين في أصلاب الذين كانوا في السفينة فكانوا ذرية لهم ومنه قول العباس: بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق وإنما ذكر ذريتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأبلغ في التعجب من قدرته فعلى هذا القول يكون قوله من مثله أي من مثل ذلك الفلك ما يركبون أي من السفن والزوارق في الأنهار الكبار والصغار

[سورة يس (36): الآيات 43 إلى 49]

[سورة يس (36): الآيات 43 الى 49] وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ يعني لا مغيث لهم وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ يعني ينجون من الغرق قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابي إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني إلا أن يرحمهم الله ويمتعهم إلى انقضاء آجالهم وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ قال ابن عباس ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني الآخرة فاعملوا لها وَما خَلْفَكُمْ يعني الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني وقائع الله تعالى بمن كان قبلكم من الأمم وَما خَلْفَكُمْ يعني الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لتكونوا على رجاء الرحمة وجواب إذا محذوف تقديره وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا ويدل على الحذف قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي دلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ أي مما أعطاكم اللَّهُ نزلت في كفار قريش وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله تعالى من أموالكم وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ أي أنرزق مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أي رزقه قيل كان العاص بن وائل السهمي إذا سأله المسكين قال له اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك، ويقول قد منعه أفأطعمه أنا ومعنى الآية أنهم قالوا لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعم من لم يطعمه وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون لا نعطي من حرمه الله وهذا الذي يزعمون باطل لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأعطى الدنيا الغني لا استحقاقا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من مال الغني ولا اعتراض لأخذ في مشيئة الله وحكمته في خلقه والمؤمن يوافق أمر الله تعالى وقيل قالوا هذا على سبيل الاستهزاء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل هو من قول الكفار للمؤمنين ومعناه ما أنتم إلا في خطأ بيّن باتباعكم محمدا وترك ما نحن عليه. وقيل هو من قول الله تعالى للكفار لما ردوا من جواب المؤمنين وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعني يوم القيامة والبعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد النفخة الأولى تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي في أمر الدنيا من البيع والشراء ويتكلمون في الأسواق والمجالس وفي متصرفاتهم فتأتيهم الساعة أغفل ما كانوا عنها، وقد صح في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» أخرجه البخاري وهو طرف من حديث. ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد من النتاج وقوله وهو يليط حوضه يعني يطينه ويصلحه، وكذلك يلوط حوض إبله وأصله من اللوط. وقوله أصغى ليتا الليت صفحة العنق وأصغى يعني أمال عنقه يسمع. [سورة يس (36): الآيات 50 الى 55] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) قوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي لا يقدرون على الإيصاء بل أعجلوا عن الوصية فماتوا وَلا إِلى

[سورة يس (36): الآيات 56 إلى 60]

أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يعني لا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم لأن الساعة لا تمهلهم بشيء وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هذه النفخة الثانية وهي نفخة البعث وبين النفختين أربعون سنة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعين يوما قال أبيت، قالوا أربعين شهرا قال أبيت، قالوا أربعين سنة قال أبيت ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي يخرجون منها أحياء قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا قال ابن عباس إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد الثانية وعاينوا أهوال القيامة دعوا بالويل. وقيل إذا عاين الكفار جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أقروا حين لا ينفعهم الإقرار. وقيل قالت لهم الملائكة ذلك، وقيل يقول الكفار من بعثنا من مرقدنا فيقول المؤمنون هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني النفخة الأخيرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي للحساب فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قال ابن عباس في افتضاض الأبكار وقيل في زيارة بعضهم بعضا وقيل في ضيافة الله تعالى، وقيل في السماع وقيل شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب الأليم فاكِهُونَ قال ابن عباس فرحون وقيل ناعمون وقيل معجبون بما هم فيه. [سورة يس (36): الآيات 56 الى 60] هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ يعني أكنان القصور عَلَى الْأَرائِكِ يعني السرر في الحجال مُتَّكِؤُنَ يعني ذوو اتكاء تحت تلك الظلال لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ أي في الجنة وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ يعني ما يتمنون ويشتهون والمعنى أن كل ما يدعون أي أهل الجنة يأتيهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يعني يسلم الله عز وجل عليهم روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله عز وجل سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» وقيل تسلم الملائكة عليهم من ربهم وقيل تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون سلام عليكم من ربكم الرحيم وقيل يعطيهم السلامة يقول اسلموا السلام الأبدية وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ يعني اعتزلوا وانفردوا وتميزوا اليوم من المؤمنين الصالحين وكونوا على حدة، وقيل إن لكل كافر في النار بيتا فيدخل ذلك البيت ويردم بابه فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض. قوله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أي ألم آمركم وأوصيكم يا بني آدم أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ يعني لا تطيعوه فيما يوسوس ويزين لكم من معصية الله إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة. [سورة يس (36): الآيات 61 الى 65] وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

[سورة يس (36): الآيات 66 إلى 69]

وَأَنِ اعْبُدُونِي أي أطيعوني ووحدوني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي لا صراط أقوم منه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي خلقا كثيرا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ يعني ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس ويقال لهم لما دنوا من النار هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يعني بها في الدنيا اصْلَوْهَا يعني ادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ معنى الآية أن الكفار ينكرون ويجحدون كفرهم وتكذيبهم الرسل، ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتنطق جوارحهم ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت عونا لهم على المعاصي صارت شاهدة عليهم وذلك أن إقرار الجوارح أبلغ من إقرار اللسان. فإن قلت ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة؟ قلت إن اليد مباشرة والرجل حاضرة وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سأل الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا يا رسول الله قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد ربه فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب، فيقول أفظننت أنك ملاقي، فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول هاهنا إذا قال ثم يقول له الآن نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك الذي يسخط الله عليه» قوله أي فل يعني يا فلان قوله وأسودك أي أجعلك سيدا قوله وأذرك ترأس أي تتقدم على القوم بأن تصير رئيسهم وتربع أي تأخذ المرباع وهو ما يأخذه رئيس الجيش لنفسه من الغنائم وهو ربعها، وروى ترتع بتاءين أي تتنعم وتنبسط من الرتع قوله وذلك ليعذر من نفسه أي ليقيم الحجة عليها بشهادة أعضائه عليه (م) عن أنس بن مالك قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك، قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» قوله لا أجيز أي لا أقبل شاهدا على قوله بعدا لكن وسحقا أي هلاكا، قوله فعنكن كنت أناضل أي أجادل وأخاصم قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 66 الى 69] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق والمعنى ولو

نشاء لأعمينا أعينهم الظاهرة كما أعمينا قلوبهم فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي فبادروا إلى الطريق فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم والمعنى ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عميا يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ وقال ابن عباس يعني لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم نفعل ذلك بهم وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ يعني ولو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم وقيل لجعلناهم حجارة لا أرواح فيها فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي لا يقدرون أن يبرحوا وَلا يَرْجِعُونَ أي إلى ما كانوا عليه وقيل لا يقدرون على الذهاب ولا الرجوع وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق وقيل نضعف جوارحه بعد قوتها وننقصها بعد زيادتها وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان في ضعف من جسده وخلو من عقل وعلم في حال صغره ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال إلى أن بلغ أشده واستكمل قوته وعقله وعلم ما له وما عليه فإذا انتهى إلى الغاية واستكمل النهاية رجع ينقص حتى يرد إلى ضعفه الأول فذلك نكسه في الخلق أَفَلا يَعْقِلُونَ أي فيعتبرون ويعلمون أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان قادر على البعث بعد الموت قوله عز وجل: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ قيل إن كفار قريش قالوا إن محمدا شاعر وما يقوله شعر فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يسهل له ذلك وما يصلح منه بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ذلك كما جعلناه أميا لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض قال العلماء ما كان يتزن له بيت شعر وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا كما روي عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا نبي الله إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا: أشهد أنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما علمناه الشعر وما ينبغي له» هذا حديث مرسل وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وقد قيل لها «هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود». أخرجه الترمذي وفي رواية لغيره «أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان الشعر أبغض الحديث إليه ولم يتمثل إلا بيت أخي بني قيس طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم يزود فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي». فإن قلت قد صح من حديث جندب بن عبد الله قال «بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أصابه حجر فدمت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت» أخرجاه في الصحيحين ولهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إن العيش عيش الآخره ... فأكرم الأنصار والمهاجرة» وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب» قلت ما هذا إلا من كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف له إلا أن اتفق كذلك من غير قصد إليه وإن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم كلام موزون يدخل في

[سورة يس (36): الآيات 70 إلى 78]

وزن البحور، ومع ذلك فإن الخليل لم يعدّ المشطور من الرجز شعرا ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ يعني ما هو إلا ذكر من الله تعالى يعظ به الإنس والجن ليس بشعر لأنه ليس على أساليب الشعر ولا يدخل في بحوره وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي إنه كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات وينال بتلاوته الثواب والدرجات، وفيه بيان الحدود والأحكام وبيان الحلال والحرام فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين وأقاويل الشعراء الكاذبين. [سورة يس (36): الآيات 70 الى 78] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) لِيُنْذِرَ أي يا محمد وقرئ بالياء أي القرآن مَنْ كانَ حَيًّا يعني مؤمنا حي القلب لأن الكافر كالميت الذي لا يتدبر ولا يتفكر وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي وتجب حجة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي تولينا خلقه بإبداعنا له من غير إعانة أحد في إنشائه كقول القائل عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد وقيل عملناه بقوتنا وقدرتنا وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة التي لا يقدر عليها إلا هو أَنْعاماً إنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلق الله تعالى وإيجاده لأن النعم أكثر أموال العرب والنفع بها أعم فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك. وقيل معناه فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا أي لا أضبط رأس البعير والمعنى لم تخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة مسخرة لهم وهو قوله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي الإبل وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي الغنم وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وَمَشارِبُ أي من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ أي رب هذه النعم وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني الأصنام لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لتمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك قط لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ قال ابن عباس لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي الكفار جند الأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تستطيع لهم نصرا وقيل هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه الذين عبدوه في الدنيا كأنهم جند محضرون في النار فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول كفار مكة في تكذيبك يا محمد إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي في ضمائرهم من التكذيب وَما يُعْلِنُونَ أي من عبادة الأصنام وقيل ما يعلنون بألسنتهم من الأذى. قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أي من نطفة قذرة خسيسة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي جدل بالباطل بين الخصومة والمعنى العجب من جهل هذا المخاصم مع مهانة أصله كيف يتصدى لمخاصمة الجبار ويبرز لمجادلته في إنكاره البعث، وكيف لا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة ويدع الخصومة، نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلّى الله عليه وسلّم في إنكار البعث وأتاه بعظم قد رم وبلي ففتته بيده وقال أترى يحيي الله هذا بعد ما رم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نعم ويبعثك ويدخلك النار فأنزل الله تعالى هذه الآيات وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ

[سورة يس (36): الآيات 79 إلى 83]

خَلْقَهُ أي بدأ أمره قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية والمعنى وضرب لنا مثلا في إنكار البعث بالعظم البالي حين فتته بيده وتعجب ممن يقول إن الله تعالى يحييه ونسي أول خلقه وأنه مخلوق من نطفة. [سورة يس (36): الآيات 79 الى 83] قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي خلقها أول مرة وابتدأ خلقها وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ أي من الابتداء والإعادة عَلِيمٌ أي يعلم كيف يخلق لا يتعاظمه شيء من خلق المبدأ أو المعاد الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً قال ابن عباس رضي الله عنهما هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ بالراء والخاء المعجمة والأخرى العفار بالعين المهملة فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى، تقول العرب في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا وقال الحكماء في كل شجر نار إلا العناب فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي تقدحون فتوقدون النار من ذلك الشجر ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى أي هو القادر على ذلك وَهُوَ الْخَلَّاقُ يعني يخلق خلقا بعد خلق الْعَلِيمُ أي بجميع ما خلق إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي إحداث شيء وتكوينه أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أن يكونه من غير توقف فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي هو مالك كل شيء والمتصرف فيه وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون بعد الموت والله أعلم.

سورة الصافات

سورة الصافات مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) قوله عز وجل: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن عباس هم الملائكة يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة (م) عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم قال يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» لفظ أبي داود، وقيل هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد وقيل أراد بالصافات الطير تصف أجنحتها في الهواء فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبيح فَالتَّالِياتِ ذِكْراً يعني الملائكة يتلون ذكر الله تعالى وقيل هم قرّاء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله عز وجل بهذه الأشياء وقيل فيه إضمار تقديره ورب الصافات والزاجرات والتاليات وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وذلك أن كفار مكة قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها والرد على عبدة الأصنام في قولهم ثم وصف نفسه فقال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يعني أنه المالك القادر العالم المنزه عن الشريك. وقوله وَرَبُّ الْمَشارِقِ قيل أراد والمغارب فاكتفى بأحدهما قال السدي المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب فإن الشمس تطلع كل يوم في مشرق وتغرب في مغرب. فإن قلت قد قال في موضع آخر رب المشرق ورب المغربين وقال رب المشرق والمغرب فكيف وجه الجمع بين هذه الآيات. قلت أراد بالمشرق والمغرب الجهة التي تطلع فيها الشمس وتغرب وأراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبالمغربين مغرب الصيف ومغرب الشتاء وبالمشارق والمغارب ما تقدم من قول السدي وقيل كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب وقيل أراد مشارق الكواكب. قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني التي تلي الأرض وهي أدنى السموات إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قال ابن عباس بضوء الكواكب لأن الضوء والنور من أحسن الصفات وأكملها ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس، وقيل زينتها أشكالها المتناسبة والمختلفة في الشكل كشكل الجوزاء وبنات نعش وغيرها. وقيل إن الإنسان إذا نظر في الليلة المظلمة إلى السماء ورأى هذه الكواكب الزواهر مشرقة متلألئة على سطح أزرق نظر غاية الزينة.

[سورة الصافات (37): الآيات 7 إلى 11]

[سورة الصافات (37): الآيات 7 الى 11] وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي وحفظنا السماء من كل شيطان متمرد عات يرمون بالشهب لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى يعني إلى الملائكة والكتبة لأنهم سكان السماء وذلك أن شياطين يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة فيخبرون به أولياءهم الإنس ويوهمون بذلك أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله من ذلك بهذه الشهب وهو قوله تعالى: وَيُقْذَفُونَ أي يرمون بها مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي آفاق السماء دُحُوراً أي يبعدونهم عن مجالس الملائكة وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي دائم إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة فَأَتْبَعَهُ أي لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ أي كوكب مضيء قوي لا يخطئه بل يقتله ويحرقه أو يخبله. وقيل سمي النجم الذي ترمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم. فإن قلت كيف يمكن أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ثم يعودون إلى مثل ذلك. قلت إنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ورجاء نيل المقصود كراكب البحر يغلب على ظنه حصول السلامة. وقوله عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ يعني سل أهل مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من السموات والأرض والجبال وهو استفهام تقرير أي هذه الأشياء أشد خلقا، وقيل أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني من الأمم الخالية والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب. ثم ذكر مم خلقوا فقال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يعني آدم من طين جيد حر لاصق لزج يعلق باليد وقيل من طين نتن. [سورة الصافات (37): الآيات 12 الى 19] بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) بَلْ عَجِبْتَ قرئ بالضم على إسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين لأن العجب من الناس محمول على إنكار الشيء وتعظيمه والعجب من الله تعالى محمول على تعظيم تلك الحالة فإن كانت قبيحة فيترتب عليها العقاب وإن كانت حسنة فيترتب عليها الثواب، وقيل قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث «عجب ربكم من شاب ليست له صبوة» وفي حديث آخر «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم»، وقوله من إلكم الإل أشد القنوط وقيل هو رفع الصوت بالبكاء. وسئل الجنيد رحمه الله تعالى عن هذه الآية فقال إن الله لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ولما عجب رسوله قال «وإن تعجب فعجب قولهم» أي هو كما تقوله وقرئ بفتح التاء على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك وقيل عجب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك

[سورة الصافات (37): الآيات 20 إلى 26]

أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الله تعالى بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا لا يتعظون وَإِذا رَأَوْا آيَةً قال ابن عباس يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ أي يستهزئون. وقيل يستدعي بعضهم بعضا إلى أن يسخر وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي بيّن أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ يعني أحياء. [سورة الصافات (37): الآيات 20 الى 26] وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ يعني يوم الحساب والجزاء هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي القضاء وقيل بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا احْشُرُوا أي اجمعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا وقيل هو عام في كل ظالم وَأَزْواجَهُمْ أي أشباههم وأمثالهم فكل طائفة مع مثلها فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا وقيل أزواجهم أي قرناءهم من الشياطين يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقيل أزواجهم المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي في الدنيا يعني الأصنام والطواغيت وقيل إبليس وجنوده فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ قال ابن عباس أي دلوهم إلى طريق النار وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط للسؤال قال ابن عباس عن جميع أقوالهم وأفعالهم ويروى عنه عن لا إله إلا الله وروى عن أبي برزة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما «1» أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه» وفي رواية. «عن شبابه فيما أبلاه» أخرجه الترمذي وله عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم توبيخا لهم ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا وهذا جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر نحن جميع منتصر قال الله تعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قال ابن عباس خاضعون. وقيل منقادون والمعنى هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم. [سورة الصافات (37): الآيات 27 الى 37] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني الرؤساء والأتباع يَتَساءَلُونَ يعني يتخاصمون قالُوا يعني الرؤساء للأتباع إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يعني من قبل الدين فتضلوننا وتروننا أن الدين ما تضلوننا به. وقيل كان الرؤساء يحلفون لهم أن الدين الذي يدعونهم إليه هو الحق والمعنى أنكم حلفتم لنا فوثقنا بأيمانكم وقيل عن

_ (1) قوله فيما أفناه إلخ. كذا في النسخ بإثبات ألف ما الاستفهامية وهو قليل.

[سورة الصافات (37): الآيات 38 إلى 49]

اليمين أي عن العزة والقدرة والقول الأول أصح قالُوا يعني الرؤساء للأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني لم تكونوا على حق حتى نضلكم عنه بل كنتم على الكفر وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ يعني ضالين فَحَقَّ عَلَيْنا يعني وجب علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا يعني كلمة العذاب وهي قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إِنَّا لَذائِقُونَ يعني أن الضال والمضل جميعا في النار فَأَغْوَيْناكُمْ فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي ضالين قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني الرؤساء والأتباع إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس الذين جعلوا لله شركاء ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب باستكبارهم عن التوحيد فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى ردا عليهم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ يعني أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله من الدين والتوحد ونفي الشرك. [سورة الصافات (37): الآيات 38 الى 49] إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الشرك والتكذيب إِلَّا أي لكن وهو استثناء منقطع عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الموحدين أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعني بكرة وعشيا وقيل حين يشتهونه يؤتون به وقيل إنه معلوم الصفة من طيب طعم ولذة ورائحة وحسن منظر ثم وصف ذلك الرزق فقال تعالى: فَواكِهُ جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وكل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت. وقيل إن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسادهم خلقت للأبد فكل ما يأكلونه على سبيل التلذذ ثم إن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم كما قال تعالى: وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي بثواب الله تعالى ثم وصف مساكنهم فقال تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يعني لا يرى بعضهم قفا بعض ثم وصف شرابهم فقال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ كل إناء فيه شراب يسمى كأسا وإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء وقد تسمى الخمر نفسها كأسا قال الشاعر: وكأسا شربت على لذة ومعنى معين أي من خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون بَيْضاءَ يعني أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ أي لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقيل لا إثم فيها ولا وجع البطن ولا صداع وقيل الغول فساد يلحق في خفاء وخمر الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد ومنها السكر وذهاب العقل ووجع البطن وصداع الرأس والبول والقيء والخمار والعربدة وغير ذلك ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون وقيل معناه لا ينفد شرابهم ثم وصف أزواجهم فقال تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابسات الأعين غاضات العيون قصرن أعينهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم عِينٌ أي حسان الأعين عظامها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي مصون مستور شبههن ببيض النعام لأنها تكنها بالريش من الريح والغبار فيكون لونها أبيض في صفرة ويقال هذا من أحسن ألوان

[سورة الصافات (37): الآيات 50 إلى 62]

النساء وهو أن تكون المرأة بيضاء مشوبة بصفرة والعرب تشبه المرأة ببيض النعامة وتسميهن ببيضات الخدور. قوله عز وجل: [سورة الصافات (37): الآيات 50 الى 62] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أهل الجنة في الجنة يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي في الدنيا ينكر البعث قيل كان قرينه شيطانا وقيل كان من الإنس قيل كانا أخوين وقيل كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وهما اللذان قص الله عز وجل خبرهما في سورة الكهف في قوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بالبعث أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكاري قالَ الله تعالى لأهل الجنة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي إلى النار وقيل يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة هل أنتم مطلعون أي لننظر كيف منزلة أخي في النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا فَاطَّلَعَ أي المؤمن قال ابن عباس إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فرأى قرينه في وسط النار سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي والله لقد كدت أن تهلكني وقيل تغويني ومن أغوى إنسانا فقد أرداه وأهلكه وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي معك في النار أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى أي في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قيل يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت فتقول الملائكة لهم لا فيقولون إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وإنما يقولونه على جهة التحدث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون ليفرحوا بدوام النعيم لا على طريق الاستفهام لأنهم قد علموا أنهم ليسوا بميتين ولا معذبين ولكن أعادوا الكلام ليزدادوا سرورا بتكراره وقيل يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره قال الله تعالى: لِمِثْلِ هذا أي المنزل والنعيم الذي ذكره في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ هذا ترغيب في ثواب الله تعالى وما عنده بطاعته. قوله تعالى: أَذلِكَ أي الذي ذكره لأهل الجنة من النعيم. خَيْرٌ نُزُلًا أي رزقا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التي هي نزل أهل النار والزقوم شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهة وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. [سورة الصافات (37): الآيات 63 الى 74] إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي للكافرين وذلك أنهم قالوا كيف تكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش إن محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر، وقيل هو

[سورة الصافات (37): الآيات 75 إلى 91]

بلغة أهل اليمن فأدخلهم أبو جهل بيته وقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال أبو جهل تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد فقال الله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها طَلْعُها أي ثمرها سمي طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبهها لقبحهم عند الناس. فإن قلت قد شبهها بشيء لم يشاهد فكيف وجه التشبيه. قلت إنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين وإن لم يشاهدوا فكأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيال رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح المنظر والعرب إذا رأت منظرا قبيحا قالت كأنه رأس شيطان قال امرؤ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال شبّه سنان الرمح بأنياب الغول ولم يرها وقيل إن بين مكة واليمن شجرة قبيحة منتنة تسمى رؤوس الشياطين فشبهها بها وقيل أراد بالشياطين الحيات والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانا فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً أي خلطا ومزاجا مِنْ حَمِيمٍ أي من ماء شديد الحرارة يقال إنهم إذا أكلوا الزقوم وشربوا عليه الحميم شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوبا لهم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ وذلك أنهم يردون إلى الجحيم بعد شراب الحميم إِنَّهُمْ أَلْفَوْا أي وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي يسرعون وقيل يعملون مثل عملهم وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي من الأمم الخالية وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي وأرسلنا فيهم رسلا منذرين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي الكافرين وكانت عاقبتهم العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الموحدين نجوا من العذاب والمعنى انظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المخلصين. قوله عز وجل: [سورة الصافات (37): الآيات 75 الى 91] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعا ربه على قومه وقيل دعا ربه أن ينجيه من الغرق فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن أي دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الغم الذي لحق قومه وهو الغرق وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يعني أن الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام قال ابن عباس لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم، عن سمرة بن جندب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله عز وجل وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال «هم سام وحام ويافث» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي رواية أخرى سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم وقيل سام أبو العرب وفارس والروم وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا له حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي سلام عليه منا في العالمين وقيل

[سورة الصافات (37): الآيات 92 إلى 99]

تركنا عليه في الآخرين أن يصلي عليه إلى يوم القيامة إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني الكفار. قوله عز وجل: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي من شيعة نوح لَإِبْراهِيمَ يعني أنه على دينه وملته ومنهاجه وسنته إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي مخلص من الشرك والشك وقيل من الغل والغش والحقد والحسد يحب للناس ما يحب لنفسه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ استفهام توبيخ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتأفكون إفكا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله تعالى: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يعني إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاطون ويتعاملون به لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويقربون لهم القرابين ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم وزعموا التبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه فقالوا لإبراهيم ألا تخرج معنا إلى عيدنا فنظر في النجوم فقال إني سقيم قال ابن عباس أي مطعون وكانوا يفرون من المطعون فرارا عظيما وقيل مريض وقيل معناه متساقم وهو من معاريض الكلام وقد تقدم الجواب عنه في سورة الأنبياء وقيل إنه خرج معهم إلى عيدهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي إلى عيدهم فدخل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الأصنام فكسرها وهو قوله تعالى: فَراغَ أي مال إِلى آلِهَتِهِمْ ميلة في خفية فَقالَ أي للأصنام استهزاء بها أَلا تَأْكُلُونَ يعني الطعام الذي بين أيديكم. [سورة الصافات (37): الآيات 92 الى 99] ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ أي مال عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي ضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى من الشمال في العمل. وقيل بالقوة والقدرة عليهم وقيل أراد باليمين القسم وهو قوله تعالى وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعني إلى إبراهيم يَزِفُّونَ أي يسرعون وذلك أنهم أخبروا بصنع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه قالَ لهم إبراهيم على وجه الحجاج أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي بأيديكم من الأصنام وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي وعملكم. وقيل وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام وفي الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ قيل إنهم بنوا له حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه من الحطب وأوقدوا عليه النار وطرحوه فيها وهو قوله تعالى: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أي شرا وهو أن يحرقوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ يعني المقهورين حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر إلى ربي وأهجر دار الكفر قاله بعد خروجه من النار سَيَهْدِينِ أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو أرض الشام فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: [سورة الصافات (37): الآيات 100 الى 103] رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني هب لي ولدا صالحا فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ قيل غلام في صغره حليم في كبره وفيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي في السن حتى يوصف بالحلم. قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال ابن عباس يعني المشي معه إلى الجبل وعنه أنه لما شبّ حتى بلغ سعيه سعى مع إبراهيم، والمعنى بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله وقيل السعي العمل لله تعالى وهو العبادة قيل كان ابن ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قيل إنه لم ير في منامه أنه ذبحه وإنما أمر بذبحه. وقيل بل رأى أنه يعالج ذبحه ولم ير إراقة دمه ورؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه على قولين مع اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق، قال قوم هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود والعباس ومن التابعين، ومن بعدهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي واختلفت الروايات عن ابن عباس فروى عنه أنه إسحاق وروي أنه إسماعيل، ومن ذهب إلى أنه إسحاق قال كانت هذه القصة بالشأم وروي عن سعيد بن جبير قال رأى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام وهو بالشأم فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر من منى فلما أمره الله بذبح الكبش ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال، والقول الثاني أنه إسماعيل وإليه ذهب عبد الله بن سلام والحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي ورواية عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال المفدي إسماعيل، وكلا القولين يروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واحتج من ذهب إلى أن الذبيح إسحاق بقوله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق كما قال تعالى في سورة هود: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وقوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ بعد قصة الذبح يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من الشدائد في قصة الذبح فثبت بما ذكرناه أن أول الآية وآخرها يدل على أن إسحاق هو الذبيح وبما ذكر أيضا في كتاب يعقوب إلى ولده يوسف لما كان بمصر من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. واحتج من ذهب إلى أن الذبيح هو إسماعيل بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة الذبيح فقال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فدل على أن المذبوح غيره وأيضا فإن الله تعالى قال في سورة هود فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة وهو يعقوب بعده ووصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد بقوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى له بذلك وقال القرطبي سأل عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود وكان أسلم وحسن إسلامه أي ابني إبراهيم أمره الله تعالى بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكن يحسدونكم يا معشر العرب على أن يكون أباكم هو الذي أمر الله تعالى بذبحه ويدعون أنه إسحاق أبوهم ومن الدليل أيضا أن قرني الكبش كانا معلقين على الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير. قال الشعبي رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة. وقال ابن عباس: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد وحش يعني يبس وقال الأصمعي سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة إنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه والله تعالى أعلم. (ذكر الإشارة إلى قصة الذبح) قال العلماء بالسير وأخبار الماضين لما دعا إبراهيم ربه فقال: رب هب لي من الصالحين وبشر به قال هو

إذا لله ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له أوف بنذرك. هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح فقال لإسحاق انطلق نقرب لله قربانا فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت أين قربانك فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر. وقال محمد بن إسحاق كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يؤمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أمر في المنام بذبحه وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح تروى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي ذلك اليوم يوم عرفة. وقيل رأى ذلك ثلاث ليال متتابعات فلما عزم على نحره سمي ذلك اليوم يوم النحر فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فَانْظُرْ ماذا تَرى أي في الرأي على وجه المشاورة. فإن قلت: لم شاوره في أمر قد علم أنه حتم من الله تعالى وما الحكمة في ذلك. قلت لم يشاوره ليرجع إلى رأيه وإنما شاوره ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله تعالى وليعلم صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته ويثبت قدمه ويصبره إن جزع ويراجع نفسه ويوطنها ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله. فإن قلت لم كان ذلك في المنام دون اليقظة وما الحكمة في ذلك؟ قلت إن هذا الأمر كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح. فورد في المنام كالتوطئة له ثم تأكد حال النوم بأحوال اليقظة فإذا تظاهرت الحالتان كان أقوى في الدلالة ورؤيا الأنبياء وحي وحق قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يعني قال الغلام لأبيه افعل ما أمرت به قال ابن إسحاق وغيره لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب أخبره بما أمر الله به فقال افعل ما تؤمر سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ إنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك وأنه لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله تعالى ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله فَلَمَّا أَسْلَما يعني انقادا وخضعا لأمر الله وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أسلم ابنه وأسلم الابن نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني صرعه على الأرض قال ابن عباس أضجعه على جبينه على الأرض فلما فعل ذلك قال له ابنه يا أبت أشدد رباطي كيلا أضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون عليّ فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله ففعل إبراهيم ما أمره به ابنه ثم أقبل عليه يقبله وهو يبكي وقد ربطه والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك شيئا. ثم إنه حدها مرتين أو ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئا. قيل ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه والأول أبلغ في القدرة وهو منع الحديد عن اللحم، قالوا فقال الابن عند ذلك: يا أبت كبني لوجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع منها ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. وروي عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا لما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ابنه قال الشيطان لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام فقال لها هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك قالت

[سورة الصافات (37): الآيات 104 إلى 106]

ذهب به ليحتطب من هذا الشعب قال لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه قالت كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك قال إنه يزعم أن الله أمره بذلك قالت إن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه. فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على أثر أبيه فقال له يا غلام هل تدري أن يذهب بك أبوك قال نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال لا والله ما يريد إلا أن يذبحك قال، ولم قال إن ربه أمره بذلك قال فليفعل ما أمره به ربه فسمعا وطاعة فلما امتنع الغلام أقبل على إبراهيم فقال له أين تريد أيها الشيخ قال هذا الشعب لحاجة لي فيه قال والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا فعرفه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال إليك عني يا عدو الله فو الله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئا مما أراد وامتنعوا منه بعون الله تعالى وروى عن ابن عباس أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل وهو قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. [سورة الصافات (37): الآيات 104 الى 106] وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَنادَيْناهُ أي فنودي من الجبل أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي حصل المقصود من تلك الرؤيا حيث ظهر منه كمال الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى وكذلك الولد. فإن قلت كيف قيل قد صدقت الرؤيا وكان قد رأى الذبح ولم يذبح وإنما كان تصديقها لو حصل منه الذبح. قلت جعله مصدقا لأنه بذل وسعه ومجهوده وأتى بما أمكنه وفعل ما يفعله الذابح فقد حصل المطلوب وهو إسلامهما لأمر الله تعالى وانقيادهما لذلك، فلذلك قال له قد صدقت الرؤيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده والمعنى إنا كما عفونا عن ذبح ولده كذلك نجزي المحسنين في طاعتنا إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختبار الظاهر حيث اختبره بذبح ولده. [سورة الصافات (37): الآيات 107 الى 116] وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قيل نظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن فقال هذا فداء ابنك فاذبحه دونه فكبر إبراهيم وكبر جبريل وكبر الكبش، فأخذه إبراهيم وأتى به المنحر من منى فذبحه قال أكثر المفسرين كان هذا الذبح كبشا رعى في الجنة أربعين خريفا وقال ابن عباس الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم قيل حق له أن يكون عظيما وقد تقبل مرتين وقيل سمي عظيما لأنه من عند الله تعالى. وقيل لعظمه في الثواب وقيل لعظمه وسمنه وقال الحسن ما فدى إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي تركنا له ثناء حسنا فيمن بعده سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي بوجود إسحاق وهذا على قول من يقول إن الذبيح هو إسماعيل ومعناه أنه بشر بإسحاق بعد هذه القصة جزاء لطاعته وصبره ومن جعل الذبيح هو إسحاق قال معنى الآية

[سورة الصافات (37): الآيات 117 إلى 123]

وبشرناه بنبوة إسحاق. وكذا روى عن ابن عباس قال بشر به مرتين حين ولد وحين نبىء وَبارَكْنا عَلَيْهِ يعني على إبراهيم في أولاده وَعَلى إِسْحاقَ أي يكون أكثر الأنبياء من نسله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي كافر مُبِينٌ أي ظاهر الكفر، وفيه تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن. قوله عز وجل: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي أنعمنا عليهما بالنبوة والرسالة وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما يعني بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ يعني الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم وقيل هو إنجاؤهم من الغرق وَنَصَرْناهُمْ يعني موسى وهارون وقومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي على القبط. [سورة الصافات (37): الآيات 117 الى 123] وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ يعني التوراة الْمُسْتَبِينَ المستنير وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دللناهما على طريق الجنة وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أي الثناء الحسن سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ روي عن ابن مسعود أنه قال إلياس هو إدريس وكذلك هو في مصحفه وقال أكثر المفسرين هو نبي من أنبياء بني إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. (ذكر الإشارة إلى القصة) قال محمد بن إسحاق وعلماء السير والأخبار لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي عليه الصلاة والسلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيا وكان الأنبياء يبعثون من بعد موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وإن سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم إلياس وعليهم يومئذ ملك اسمه آجب وكان قد أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام وكان له صنم من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة وجوه اسمه بعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب فغصبت من رجل مؤمن جنينة كان يتعيش منها فأخذتها وقتلته فبعث الله سبحانه وتعالى إلياس إلى الملك وزوجته وأمره أن يخبرهما أن الله عز وجل قد غضب لوليه حين قتل ظلما وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويرد الجنينة على ورثة المقتول أهلكهما في جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها ولا يتمتعان فيها إلا قليلا، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة فلما سمع الملك ذلك غضب واشتد غضبه عليه وقال يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلا، وهمّ بتعذيب إلياس وقتله فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هاربا ورجع الملك إلى عبادة بعل ولحق إلياس بشواهق الجبال فكان يأوي إلى الشعاب والكهوف فبقي سبع سنين على ذلك خائفا مستخفيا يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه وقد وضعوا عليه العيون والله يستره منهم: فلما طال

الأمر على إلياس وسكنى الكهوف في الجبال وطال عصيان قومه ضاق بذلك ذرعا فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي سلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال يا رب تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني فأوحى الله تعالى إليه يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها وإنما صلاحها وقوامها بك وبأشباهك وإن كنتم قليلا ولكن سلني أعطك فقال إلياس إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل قال الله عز وجل وأي شيء تريد أن أعطيك، قال تملكني خزائن السماء سبع سنين فلا تسير عليهم سحابة إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة إلا بشفاعتي فإنه لا يذلهم إلا ذلك قال الله عز وجل يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، قال فست سنين قال أنا أرحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال أنا أرحم بخلقي ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك قال إلياس فبأي شيء أعيش يا رب قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل لك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط قال إلياس قد رضيت فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا وإلياس على حاله مستخفيا من قومه يوضع له لرزق حيث كان وقد عرف قومه ذلك. قال ابن عباس أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها أعندك طعام قالت نعم شيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا به ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا فلما رأوا ذلك عندها قالوا من أين لك هذا قالت مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته فعرفوه وقالوا ذلك إلياس فطلبوه فوجوده فهرب منهم ثم إنه آوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل ولها ابن يقال له اليسع بن أخطوب بن ضر فآوته وأخفت أمره فدعا لابنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وذهب معه حيثما ذهب. وكان إلياس قد كبر وأسن واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر، فيزعمون أن إلياس قال: يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم يرجعون عما هم فيه ينزعون عن عبادة غيرك فقيل له نعم. فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال: إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله تعالى ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، فقالوا أنصفت فخرجوا بأوثانهم ودعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء فقالوا يا إلياس إنا قد أهلكنا فادع الله لنا، فدعا إلياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عز وجل عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار وقيل لونه كالنار حتى وقف بين أيدي إلياس فوثب عليه فانطلق به الفرس فناداه اليسع يا إلياس ما تأمرني فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل وكان ذلك آخر العهد به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وسلط الله عز وجل على آجب الملك وقومه عدوا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل آجب وامرأته أزبيل في الجنينة التي اغتصبتها امرأة الملك من ذلك المؤمن فلم تزل جثتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ونبأ الله سبحانه وتعالى اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم الله تعالى فيهم قائم

[سورة الصافات (37): الآيات 124 إلى 128]

إلى أن فارقهم اليسع، روى السدي عن يحيى بن عبد العزيز عن أبي راود قال إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوفيان الموسم في كل عام وقيل إن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. [سورة الصافات (37): الآيات 124 الى 128] إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا يعني أتعبدون بعلا وهو صنم كان لهم يعبدونه ولذلك سميت مدينتهم بعلبك قيل البعل الرب بلغة أهل اليمن وَتَذَرُونَ أي وتتركون عبادة أَحْسَنَ الْخالِقِينَ فلا تعبدونه اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في النار إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي من قومه الذين آمنوا به فإنهم نجوا من العذاب. [سورة الصافات (37): الآيات 129 الى 143] وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرئ آل ياسين بالقطع قيل أراد آل محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل آل القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن وفيه بعد وقرئ الياسين بالوصل ومعناه إلياس وأتباعه من المؤمنين إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قوله تعالى: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب ثُمَّ دَمَّرْنَا أي أهلكنا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ أي أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أي على آثارهم ومنازلهم مُصْبِحِينَ أي في وقت الصباح وَبِاللَّيْلِ أي وبالليل في أسفاركم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي فتعتبرون بهم. قوله عز وجل: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من جملة رسل الله تعالى إِذْ أَبَقَ أي هرب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء قال ابن عباس ووهب كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمستور منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون ها هنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت على يونس فاقترعوا ثلاثا وهي تقع على يونس فقال أنا الآبق وزجّ نفسه في الماء. وقيل إنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب وذهب المركب وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر فبقي فريدا فجاء مركب فركبه وقعد ناحية من القوم فلما مرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل وقوف السفينة فيما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فاقترعوا فمن خرج سهمه نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرج سهم يونس فذلك قوله تعالى: فَساهَمَ أي فقارع فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ يعني من المقرعين المغلوبين في سورة يونس والأنبياء فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله عز وجلّ قبل ذلك

[سورة الصافات (37): الآيات 144 إلى 147]

وكان كثير الذكر وقال ابن عباس من المصلحين وقيل من العابدين. قال الحسن ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا فشكر الله تعالى له طاعته القديمة قال بعضهم اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك فقال فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. [سورة الصافات (37): الآيات 144 الى 147] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وقيل لولا أنه كان يسبح في بطن الحوت بقوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. قوله عز وجل: فَنَبَذْناهُ أي طرحناه إنما أضاف النبذ إلى نفسه وإن كان الحوت هو النابذ لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى: بِالْعَراءِ أي بالأرض الخالية عن الشجر والنبات. وقيل بالساحل وَهُوَ سَقِيمٌ أي عليل كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم تبق له قوة قيل إنه لبث في بطن الحوت ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل عشرين يوما وقيل أربعين وقيل التقمه ضحى ولفظه عشية وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يعني القرع قيل إن كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض كالقرع والقثاء والبطيخ ونحوه فهو يقطين، قيل أنبتها الله تعالى له ولم تكن قبل ذلك وكانت معروشة ليحصل له الظل وفي شجر القرع فائدة وهي أن الذباب لا يجتمع عندها فكان يونس يستظل بتلك الشجرة ولو كانت منبسطة على الأرض لم يكن أن يستظل بها قيل وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي فنام نومة ثم استيقظ وقد يبست الشجرة وأصابه حر الشمس فحزن حزنا شديدا وجعل يبكي فأرسل الله تعالى إليه جبريل وقال أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك قد أسلموا وتابوا وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قيل أرسله إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه والمعنى وكنا أرسلناه إلى مائة ألف فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانيا وقيل كان إرساله إليهم بعد خروجه من بطن الحوت وقيل يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين أَوْ يَزِيدُونَ قال ابن عباس معناه ويزيدون وقيل معناه بل يزيدون وقيل أو على أصلها والمعنى أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على ذلك فالشك على تقدير المخلوقين والأصح هو قول ابن عباس الأول. وأما الزيادة فقال ابن عباس كانوا عشرين ألفا، ويعضده ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال يزيدون عشرين ألفا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقيل يزيدون بضعا وثلاثين ألفا وقيل سبعين ألفا. [سورة الصافات (37): الآيات 148 الى 160] فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

[سورة الصافات (37): الآيات 161 إلى 171]

فَآمَنُوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى انقضاء آجالهم. قوله عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ أي فسل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله. والمعنى جعلوا لله البنات ولهم البنين وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف ينسب للخالق أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون خلقنا إياهم أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي من كذبهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي في زعمهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما زعموا أَصْطَفَى الْبَناتِ أي في زعمكم عَلَى الْبَنِينَ وهو استفهام توبيخ وتقريع ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي بالبنات لله ولكم بالبنين أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتعظون أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي برهان بين على أن لله ولدا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ يعني الذي لكم فيه حجة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قيل أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار. قال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن. وقيل معنى النسب أنهم أشركوا في عبادة الله تعالى. وقيل هو قول الزنادقة الخير من الله والشر من الشيطان وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ يعني قائلي هذا القول لَمُحْضَرُونَ أي في النار سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزه الله تعالى نفسه عما يقولون إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ هذا استثناء من المحضرين والمعنى أنهم لا يحضرون. [سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 171] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) فَإِنَّكُمْ يعني يا أهل مكة وَما تَعْبُدُونَ أي من الأصنام ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ أي بمضلين أحدا إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة وأنه سيدخل النار. قوله تعالى إخبارا عن حال الملائكة وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يعني أن جبريل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه. وقال ابن عباس ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح. وروى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا» أخرجه الترمذي. وهو طرف من حديث قيل الأطيط أصوات الأقتاب وقيل أصوات الإبل وحنينها، ومعنى الحديث ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت وهذا مثل مؤذن بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط وقيل معنى إلا له مقام معلوم أي في القرب والمشاهدة وقيل يعبد الله على مقامات مختلفة كالخوف والرجاء والمحبة والرضا وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ يعني الملائكة صفوا أقدامهم في عبادة الله تعالى كصفوف الناس في الصلاة في الأرض وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المصلون لله تعالى وقيل المنزهون لله تعالى عن كل سوء يخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار قوله عز وجل: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ يعني كفار مكة قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني كتابا مثل كتاب الأولين لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة لله فَكَفَرُوا بِهِ أي فلما

[سورة الصافات (37): الآيات 172 إلى 182]

أتاهم الكتاب كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه تهديد لهم قوله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ يعني تقدم وعدنا لعبادنا المرسلين بنصرهم. [سورة الصافات (37): الآيات 172 الى 182] إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي بالحجة البالغة إِنَّ جُنْدَنا أي حزبنا المؤمنين هُمُ الْغالِبُونَ أي لهم النصرة في العاقبة فَتَوَلَّ أي أعرض عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس يعني الموت وقيل إلى يوم بدر وقيل حتى آمرك بالقتال وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل إلى أن يأتيهم العذاب وَأَبْصِرْهُمْ أي إذا نزل بهم العذاب فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي ذلك فعند ذلك قالوا متى هذا العذاب قال الله عز وجل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب بِساحَتِهِمْ أي بحضرتهم وقيل بفنائهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا العذاب (ق) عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا خيبر فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا أنزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات» ثم كرر ذكر ما تقدم تأكيدا لوعيد العذاب فقال تعالى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وقيل المراد من الآية الأولى ذكر أحوالهم في الدنيا وهذه ذكر أحوالهم في الآخرة فعلى هذا القول يزول التكرار وَأَبْصِرْ أي العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي الغلبة والقدرة وفيه إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث عَمَّا يَصِفُونَ أي عن اتخاذ الشركاء والأولاد وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي الذين بلغوا عن الله عز وجل التوحيد والشرائع لأن أعلى مراتب البشر أن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا جرم يجب على كل أحد الاقتداء بهم والاهتداء بهداهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء وقيل الغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة ص

سورة ص ويقال لها سورة داود عليه الصلاة والسلام وهي مكية وهي ست وقيل ثمان وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة ص (38): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) قوله عز وجل: ص قيل هو قسم وقيل اسم للسورة وقيل هو مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد والصبور وقيل معناه صدق الله وعن ابن عباس صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس أي ذي البيان وقيل ذي الشرف وهو قسم قيل وجوابه قد تقدم وهو قوله تعالى ص أقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لصادق وقيل جواب القسم محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما تقول الكفار دل على هذا المحذوف، قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقيل بل الذين كفروا موضع القسم وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ والقرآن ذي الذكر وقيل جوابه «إن كل إلا كذب الرسل» وقيل جوابه «إن هذا لرزقنا» وقيل «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وهذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقيل بل لتدارك كلام ونفي آخر ومجاز الآية أن الله تعالى أقسم بص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا من أهل مكة في عزة أي حمية وجاهلية وتكبر عن الحق وشقاق أي خلاف وعداوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني من الأمم الخالية فَنادَوْا أي استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين فرار وتأخر قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل الله عز وجل: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين هذا القول. [سورة ص (38): الآيات 4 الى 8] وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) وَعَجِبُوا يعني كفار مكة أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قوله عز وجل: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب وقالوا له أنت شيخنا

[سورة ص (38): الآيات 9 إلى 12]

وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنما أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وماذا يسألونني» قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل لله أبوك لنعطينكها وعشرة أمثالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قولوا لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسمع الخلق إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجب وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب أَنِ امْشُوا أي يقول بعضهم لبعض امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا وذلك أن عمر رضي الله عنه لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لشيء يراد بنا وقيل يراد بأهل الأرض وقيل يراد بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يملك علينا ما سَمِعْنا بِهذا أي بالذي يقوله محمد من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل وإنهم لا يوحدون الله بل يقولون ثالث ثلاثة وقيل يعنون ملة قريش وهي دينهم الذي هم عليه إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي كذب وافتعال أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا ولا أشرفنا قال الله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي وحيي وما أنزلت بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول. [سورة ص (38): الآيات 9 الى 12] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا الْعَزِيزِ أي في ملكه الْوَهَّابِ الذي وهب النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ليس لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون. وقيل أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وهذا أمر توبيخ وتعجيز جُنْدٌ ما هُنالِكَ أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك مَهْزُومٌ أي مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني أن قريشا من جملة الأجناد الذين تجمعوا وتحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز وجل معزيا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عباس: ذو البناء المحكم. وقيل ذو الملك الشديد الثابت والعرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد وقال الأسود بن يعفر: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد وقيل ذو قوة وأصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد، وقيل ذو القوة والبطش. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما والجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وقيل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها، فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى وتد فيتركه حتى يموت. وقيل يرسل عليه العقارب والحيات. وقيل كانت له أوتاد وأحبال وملاعب يلعب عليها بين يديه.

[سورة ص (38): الآيات 13 إلى 17]

[سورة ص (38): الآيات 13 الى 17] وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم الله تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي إن أولئك الطوائف والأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب وفي الآية زجر وتخويف للسامعين وَما يَنْظُرُ أي ينتظر هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي رجوع والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول وقيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالا منه بالعذاب وقال ابن عباس يعني كتابنا والقط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط وقيل القط كتاب الجوائز، قال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار من التكذيب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ قال ابن عباس ذا القوة في العبادة (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» وقيل معناه ذا القوة في الملك إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره وقال ابن عباس مطيع لله عز وجل وقيل مسبح بلغة الحبشة. [سورة ص (38): الآيات 18 الى 20] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي بتسبيحه إذا سبح بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي غدوة وعشية والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلّى الضحى فقال «يا أم هانئ إن هذه صلاة الإشراق» قلت والذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانئ في صلاة الضحى، قالت أم هانئ: ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام وصلّى ثمان ركعات ملتحفا بثوب قالت أم هانئ وذلك ضحى» ولهما عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال «ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود». قوله تعالى: وَالطَّيْرَ أي وسخرنا له الطير مَحْشُورَةً أي مجموعة إليه تسبح معه كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بالحرس والجنود، قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابا كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. وروي عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم، عند داود عليه الصلاة والسلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن

[سورة ص (38): الآيات 21 إلى 22]

يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن الله عز وجل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس يعني بيان الكلام وقال ابن مسعود علم الحكم والتبصر بالقضاء وقال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به. وقال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود والأيمان وقيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه الصلاة والسلام. [سورة ص (38): الآيات 21 الى 22] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ أي وقد أتاك يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك. وقيل ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة والتشويق إلى استماع كلام الخصماء والخصم يقع على الواحد والجمع إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي صعدوا وعلوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة والعبادة والمعنى أنهم أتوا المحراب من سوره وهو أعلاه، وفي الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة والسلام. واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك وسأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق بمنصبه صلّى الله عليه وسلّم لأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها وأما ما قاله المفسرون «1» إن داود عليه الصلاة والسلام تمنى يوما من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ويوم لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنمرود وذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف. فقال داود عليه الصلاة والسلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضا فأوحى الله عز وجلّ إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس. فلما كان اليوم الذي وعده الله به دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له، فأبصر امرأة في بستان على شاطئ بركة تغتسل وقيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها فقيل هي شايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم

_ (1) قوله وأما ما قاله المفسرون إلخ لم يذكر جوابه وقد ذكره صاحب الكشاف فقال بعد ذكر القصة فهذا ونحوه ما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أبناء المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء اهـ.

[سورة ص (38): آية 23]

على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليه الصلاة والسلام. وقيل إن داود أحب أن يقتل أوريا فيتزوج امرأته فهذا كان ذنبه. وقال ابن مسعود: كان ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته. وقيل كان ذلك مباحا لهم غير أن الله عز وجل لم يرض لداود ذلك لأنه رغبة في الدنيا وازدياد من النساء وقد أغناه الله تعالى عنها بما أعطاه من غيرها. وقيل في سبب امتحان داود أنه كان جزأ الدهر أجزاء يوما لنسائه ويوما للعبادة ويوما للحكم بين بني إسرائيل ويوما يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا، فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك وقيل إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلى اعتصم فلما كان يوم عبادته أغلق عليه الأبواب وأمر أن لا يدخل عليه أحد وأكبّ على قراءة التوراة فبينما هو يقرأ إذ دخلت حمامة وذكر نحو ما تقدم فلما دخل بالمرأة لم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله عز وجلّ الملكين إليه. وقيل إن داود عليه السلام ما زال يجتهد في العبادة حتى برز له حافظاه من الملائكة فكانوا يصلون معه فلما استأنس منهم قال أخبروني بأي شيء أنتم موكلون، قالوا نكتب صالح أعمالك ونوافقك ونصرف عنك السوء فقال في نفسه: ليت شعري كيف أكون لو خلوني ونفسي وتمنى ذلك ليعلم كيف يكون فأوحى الله تعالى إلى الملكين أن يعتزلاه ليعلم أنه لا غنى له عن الله تعالى فلما فقدهم جد واجتهد في العبادة إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه ضعفه فأرسل طائرا من طيور الجنة وذكر نحو ما تقدم. وقيل إن داود قال لبني إسرائيل لأعدلن بينكم ولم يستثن فابتلى وقيل إنه أعجبه عمله فابتلى فبعث الله إليه ملكين في صورة رجلين وذلك في يوم عبادته فطلبا أن يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فما شعر إلا وهما بين يديه جالسان وهو يصلي يقال كانا جبريل وميكائيل فذلك قوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ أي خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه فقال لهما من أدخلكما عليّ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى وخرج عن الحد جئناك لتقضي بيننا. فإن قلت إذ جعلتهما ملكين فكيف يتصور البغي منهما والملائكة لا يبغي بعضهم على بعض؟. قلت هذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما والمعنى رأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في حكمك وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي أرشدنا إلى طريق الحق والصواب فقال لهما داود تكلما فقال أحدهما. [سورة ص (38): آية 23] إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) إِنَّ هذا أَخِي على ديني وطريقتي لا من جهة النسب لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً يعني امرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ أي امرأة واحدة والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وهذا على سبيل التعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي فَقالَ أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس أي أعطنيها وقيل معناه انزل عنها وضمها إلي واجعلني كافلها والمعنى طلقها لأتزوجها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ يعني غلبني وقهرني في القول لأنه أفصح مني في الكلام وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه والمعنى أن الغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده وإن كان الحق وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها داود إلى نسائه.

[سورة ص (38): الآيات 24 إلى 25]

[سورة ص (38): الآيات 24 الى 25] قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي بضمها إلى نعاجه. فإن قلت كيف قال داود لقد ظلمك ولم يكن سمع قول الآخر قلت معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك وقيل إنما قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي يظلم بعضهم بعضا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يظلمون أحدا وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي هم قليل وما صلة. والمعنى أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل فلما قضى داود بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك وصعد إلى السماء فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه فذلك قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أي أيقن وعلم أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وامتحناه وقال ابن عباس: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم داود أنه إنما عنى به. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن داود النبي صلّى الله عليه وسلّم حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بني إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده. فجاء جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود، فقال جبريل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن قال نعم فعرج جبريل وسجد داود ما شاء الله تعالى ثم نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن الله تعالى يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول: هو لك يا رب فيقول الله تعالى فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عن دمك فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود. (فصل في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه) اعلم أن من خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء ذلك. روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء. وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه الله في قصة داود وظن داود أن ما فتناه وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود. قال الإمام فخر الدين حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه الصلاة والسلام. هذا وقال غيره إن الله تعالى أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقوله من

القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم. فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك. قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم الله تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين». فإن قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية؟ قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل. انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها، فعاتبه الله تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا وقيل إن داود تمنى أن تكون امرأة أوريا له فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله تعالى. وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمّ لذلك أوريا فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها، فعوتب داود بسببين أحدهما: خطبته على خطبة أخيه والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالما بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله أعلم. وقوله عز وجل: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل ربه الغفران وَخَرَّ راكِعاً أي ساجدا، عبّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء. وقيل معناه وخرّ ساجدا بعد ما كان راكعا والله تعالى أعلم بمراده. (فصل) اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال: لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة: هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة، وعن أحمد: في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها (خ). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللنسائي «عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكرا» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم

فنزل وسجد وسجدوا» أخرجه أبو داود قوله تشوف الناس يعني تهيئوا وتأهبوا واستعدوا للسجود وعن ابن عباس قال «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول اللهم اكتب لي بها أجرا وحطّ عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام». قال ابن عباس: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي قال المفسرون سجد داود أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر سبحان خالق النور إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه سبحان خالق النور إلهي كيف تستر الخطاؤون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي سبحان خالق النور إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني سبحان خالق النور إلهي أعوذ بوجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور وقيل مكث داود أربعين يوما لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أظمآن أنت فتسقى أمظلوم أنت فتنصر فأجيب في غير ما طلب ولم يجب في ذكر خطيئته بشيء فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى له التوبة والمغفرة. قال وهب: إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، قال فانطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى يا أوريا فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إليّ قال عرضتك للقتل قال بل عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالغيب ألا أعلمته إنك قد تزوجت امرأته، قال فرجع فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه مرة فلم يجبه وعاوده فلم يجبه فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وضعت الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له رضيت عبدي فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي، فأقول هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله فاستغفر ربه وخرّ راكعا وَأَنابَ أي رجع فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي الذنب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا أي يوم القيامة بعد المغفرة لَزُلْفى أي لقربة ومكانة وَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب.

[سورة ص (38): الآيات 26 إلى 28]

قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله. وعن الأوزاعي مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن مثل عيني داود عليه الصلاة والسلام كالقربتين ينقطان ماء ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض». وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود قال: يا رب أغفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة، قال فوسم الله تعالى خطيئته في يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها وما قام خطيبا في الناس إلا وبسط راحته فاستقبل بها الناس ليروا وسم خطيئته وكان يبدأ إذا دعا واستغفر بالخاطئين قبل نفسه. وعن الحسن قال: كان داود عليه الصلاة والسلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين يقول تعالوا إلى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين قال وكان داود عليه الصلاة والسلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله. وقال ثابت كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشهدها إلا الأسر وإذا ذكر رحمة الله تراجعت وقيل إن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته. وقيل إنها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك. [سورة ص (38): الآيات 26 الى 28] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) قوله عز وجل: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي لتدبر أمر الناس بأمر نافذ الحكم فيهم فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الله وطريقه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بما تركوا الإيمان بيوم الحساب. وقيل بتركهم العمل بذلك اليوم وقيل بترك العدل في القضاء. قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا قال ابن عباس: لا لثواب ولا لعقاب.

[سورة ص (38): الآيات 29 إلى 32]

وقيل معناه ما خلقناهما عبثا لا لشيء ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنما خلقناهم لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قيل إن كفار قريش قالوا للمؤمنين إنما نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ يعني الذين اتقوا الشرك وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم كَالْفُجَّارِ يعني الكفار والمعنى لا نجعل الفريقين سواء في الآخرة. [سورة ص (38): الآيات 29 الى 32] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ أي هذا كتاب يعني القرآن أنزلناه إليك مُبارَكٌ أي كثير خيره ونفعه لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتدبروا ويتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة وقيل تدبر آياته اتباعه في أوامره ونواهيه وَلِيَتَذَكَّرَ أي وليتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ذوو العقول والبصائر. قوله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل إن سليمان عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ما أصاب وهو ألف فرس وقيل ورثها من أبيه وقيل إنها كانت خيلا من البحر لها أجنحة فصلى سليمان عليه الصلاة والسلام الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتمّ لذلك وقال ردّوها عليّ فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربا إلى الله تعالى وطلبا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحا له وإن كان حراما علينا وبقي منها مائة فرس فالذي في أيدي الناس من الخيل يقال إنه من نسل تلك المائة فلما عقرها الله تعالى أبدله الله تعالى خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، وقوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ قيل هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم مقيمة الرابعة على طرف الحافر من رجل أو يد وقيل الصافن القائم وجاء في الحديث «من سرّه أن يقوم له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي قياما الجياد: أي الخيار السراع في الجري واحده جواد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل سميت به لأنه معقود في نواصيها الخير الأجر والغنيمة وقيل حب الخير يعني المال ومنه الخيل التي عرضت عليه عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني صلاة العصر حَتَّى تَوارَتْ أي استترت الشمس بِالْحِجابِ أي ما يحجبها من الأبصار يقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه. [سورة ص (38): الآيات 33 الى 34] رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) رُدُّوها عَلَيَّ أي ردوا الخيل علي فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق وَالْأَعْناقِ أي جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف، هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحا له لأن نبي الله سليمان لم يكن ليقدم على محرم ولم يكن ليتوب عن ذنب وهو ترك الصلاة بذنب آخر وهو عقر الخيل، وقال محمد بن إسحاق: لم يعنفه الله تعالى على عقره الخيل إذ كان ذلك أسفا على ما فاته من فريضة ربه عز وجلّ، وقيل إنه ذبحها وتصدق بلحومها. وقيل معناه إنه حبسها في سبيل الله تعالى وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة. وحكي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: معنى ردوها عليّ يقول بأمر الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس ردوها

عليّ فردوها عليه فصلى العصر في وقتها قال الإمام فخر الدين بل التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا ثم إن سليمان عليه الصلاة والسلام احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله عن ذكر ربي ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله ردوها عليّ فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور الأول تشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه الثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه، فنقول: لنا هاهنا مقامات المقام الأول أن يدعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهروا الحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه، المقام الثاني: أن يقال هب أن لفظ الآية يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وأن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون وبها ملك عظيم الشأن ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان الله تعالى قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشقّ ذلك على سليمان، فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ، قالت: إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك فقال سليمان: فقد أبدلك الله ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك قالت إن ذلك كذلك ولكني إذ ذكرته أصابني ما تراه من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فألبسته ثيابا مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه وتروح في كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا. وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقا له وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرا سليمان أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم. فقال: افعل فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى وأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله تعالى به حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملئ غضبا فلما دخل سليمان داره دعاه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت

عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيرا في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟ قال آصف: إنّ غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال سليمان في داري؟ قال: في دارك قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك. ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى الله تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك به في ثيابه تذللا إلى الله تعالى وتضرعا إليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد يقال لها أمينة كان إذا دخل الخلاء أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال: خاتمي أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغيرت حالته وهيأته عند كل من رآه فقال: يا أمينة خاتمي قالت من أنت قال سليمان بن داود فقالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان. فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوي الأخرى فيأكلها. فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان يعبد الوثن في داره ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم قالوا نعم فقال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم فدخل على نسائه فقال: ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشده ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من الجنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الحسن: ما كان الله سبحانه وتعالى ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى الله عليه وسلّم قال وهب: ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أشد مما في العامة فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه فلما أمسى أعطاه سمكتيه فباع سليمان إحداهما بأرغفة وبقر بطن الأخرى ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده ووقع لله ساجدا وعكفت عليه الطير والجن وأقبل الناس عليه وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فطلبوه حتى أخذوه فأتي به فأدخله في جوف صخرة وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذفوه في البحر. وقيل في سبب فتنة سليمان عليه الصلاة والسلام أن جرادة كانت أبرّ نسائه عنده وكان يأتمنها على خاتمه، فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله نعم وذكروا نحو ما تقدم. وقيل إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده فأعاده في يده فسقط وكان فيه ملكه فأيقن سليمان بالفتنة فأتاه آصف فقال: إنك مفتون بذلك والخاتم لا يتماسك في يدك ففرّ إلى الله تعالى تائبا فإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك. ففر سليمان إلى الله تعالى تائبا وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت في

[سورة ص (38): آية 35]

يده فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته أربعة عشر يوما إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه وتاب عليه فرجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده فثبت فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه. وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله تعالى وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه، قال القاضي عياض وغيره من المحققين: لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه وإن الشياطين لا يسلطون على مثله هذا وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا، والذي ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الله الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسنا أجمعين» وفي رواية لأطوفنّ بمائة امرأة فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسي قال العلماء والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه وقيل إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذا ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشياطين ولم يتوكل عليه في ذلك، فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى ملكه بعد الأربعين يوما وقيل أناب إلى الاستغفار وهو قوله: [سورة ص (38): آية 35] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي سأل ربه المغفرة وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي لا يكون لأحد من بعدي وقيل لا تسلبنيه في باقي عمري وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فإن قلت قول سليمان لا ينبغي لأحد من بعدي مشعر بالحسد والحرص على الدنيا. قلت لم يقل ذلك حرصا على طلب الدنيا ولا نفاسة بها ولكن كان قصده في ذلك أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى وهذا على قول من قال إن الشيطان استولى على ملكه. وقيل سأل ذلك ليكون علما وآية لنبوته ومعجزة دالة على رسالته ودلالة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه وردّ ملكه إليه وزاده فيه وقيل كان سليمان ملكا ولكنه أحب أن يخص بخاصية كما خص داود بإلانة الحديد وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فسأل شيئا يختص به كما روى في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددته خاسئا» قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 36 الى 42] فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)

[سورة ص (38): الآيات 43 إلى 52]

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أي لينة ليست بعاصفة حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ أي يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يعني يستخرجون له اللئالئ من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ أي وسخرنا له آخرين وهم مردة الشياطين مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مشدودين في القيود سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد هذا عَطاؤُنا أي قلنا له هذا عطاؤنا فَامْنُنْ أي أحسن إلى من شئت أَوْ أَمْسِكْ أي عمن شئت بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا حرج عليك فيما أعطيت ولا فيما أمسكت قال الحسن: ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم تكن عليه تبعة وقيل هذا في أمر الشياطين يعني هؤلاء الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخل عنه وأمسك أي احبس من شئت منهم في العمل وقيل في الوثاق لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ لما ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه في الدنيا أتبعه بما أنعم به عليه في الآخرة. قوله عز وجل: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي بمشقة وَعَذابٍ أي ضر وذلك في المال والجسد وقد تقدمت قصة أيوب ارْكُضْ يعني أنه لما انقضت مدة ابتلائه قيل له اركض أي اضرب بِرِجْلِكَ يعني الأرض ففعل فنبعت عين ماء عذب هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أمره الله تعالى أن يغتسل منه ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب أخرى فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه فذلك قوله عز وجل: وَشَرابٌ. [سورة ص (38): الآيات 43 الى 52] وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا أي إنما فعلنا ذلك معه على سبيل التفضل والرحمة لا على اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني سلّطنا البلاء عليه فصبر، ثم أزلناه عنه وكشفنا ضره فشكر فهو موعظة لذوي العقول والبصائر وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي ملء كفك من حشيش أو عيدان أو ريحان فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط فشكر الله حسن صبرها معه فأفتاه في ضربها وسهل له الأمر وأمره بأن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة ففعل ولم يحنث في يمينه وهل ذلك لأيوب خاصة أم لا؟ فيه قولان أحدهما أنه عام. وبه قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والثاني أنه خاص بأيوب. قال مجاهد واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة. فقال مالك والليث بن سعيد وأحمد لا يبر. وقال أبو حنيفة والشافعي إذا ضربه ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد بر واحتجوا بعموم هذه الآية إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي على البلاء الذي ابتليناه به نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ

[سورة ص (38): الآيات 53 إلى 60]

قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي اذكر صبرهم فإبراهيم ألقي في النار فصبر وإسحاق أضجع للذبح في قول فصبر ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر: أُولِي الْأَيْدِي قال ابن عباس أولي القوة في طاعة الله تعالى: وَالْأَبْصارِ أي في المعرفة بالله تعالى، وقيل: المراد باليد أكثر الأعمال وبالبصر أقوى الإدراكات فعبر بهما عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر وللإنسان قوتان عالمية وعاملية وأشرف ما يصدر عن القوة العالمية معرفة الله تعالى وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي والأبصار إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ قيل معناه أخلصناهم بذكرى الآخرة فليس لهم ذكرى غيرها، وقيل نزعنا من قلوبهم حبّ الدنيا وذكراها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكراها وقيل كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله تعالى، وقيل أخلصوا بخوف الآخرة وهو الخوف الدائم في القلب وقيل أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ يعني من الذين اختارهم الله تعالى واتخذهم صفوة وصفاهم من الأدناس والأكدار وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ أي اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ قوله عز وجل: هذا ذِكْرٌ أي الذي يتلى عليكم ذكر وقيل شرف وقيل جميل تذكرون به وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون وينقلبون إليه في الآخرة ثم ذكر ذلك فقال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قيل تفتح أبوابها لهم بغير فتح لها بيد بل بالأمر يقال لها انفتحي انغلقي مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي مستويات الأسنان والشباب والحسن بنات ثلاث وثلاثين سنة وقيل متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن. [سورة ص (38): الآيات 53 الى 60] هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي قيل للمؤمنين هذا ما توعدون، وقيل هذا ما يوعد به المتقون إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي دائم ما له من نفاد وانقطاع بل هو دائم كلما أخذ منه شيء عاد مثله في مكانه. قوله تعالى: هذا أي الأمر الذي ذكرناه وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ يعني الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ يعني لشر مرجع يرجعون إليه ثم بينه فقال تعالى: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ معناه هذا حميم وهو الماء الحار وغساق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها وقيل هو ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة وقيل الغساق عين في جهنم وقيل هو البارد المنتن والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي مثل الحميم والغساق أَزْواجٌ أي أصناف أخر من العذاب هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عباس هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا فوج يعني جماعة الأتباع مقتحم معكم النار أي داخلوها كما دخلتموها أنتم قيل إنهم يضربون بالمقامع حتى يقتحموها بأنفسهم خوفا من تلك المقامع قالت القادة لا مَرْحَباً بِهِمْ أي الأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي داخلوها كما صليناها نحن قالُوا أي قال الأتباع للقادة بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا رحبت بكم الأرض والعرب تقول مرحبا وأهلا وسهلا أي أتيت رحبا وسعة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا يعني وتقول الأتباع للقادة أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتموه لنا وقيل معناه أنتم قدمتم لنا هذا العذاب بدعائكم إيانا إلى الكفر فَبِئْسَ الْقَرارُ أي فبئس دار القرار جهنم.

[سورة ص (38): الآيات 61 إلى 67]

[سورة ص (38): الآيات 61 الى 67] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) قالُوا يعني الأتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرعه وسنه لنا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي ضعف عليه العذاب في النار. قال ابن عباس حيات وأفاعي وَقالُوا يعني كفار قريش وصناديدهم وأشرافهم وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ أي في الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ يعنون بذلك فقراء المؤمنين مثل عمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وإنما سموهم أشرارا لأنهم كانوا على خلاف دينهم أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ يعني أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا فلم يروا فيها الذين كانوا يسخرون منهم فقالوا ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النار أم دخلوها فزاغت عنهم الأبصار أي أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا. وقيل معناه أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا وقيل معناه أم كانوا خيرا منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي ذكر لَحَقٌّ ثم بين ذلك فقال تعالى: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي في النار وإنما سماه تخاصما لأن قول القادة للأتباع لأمر حبا بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة. قوله عز وجل: قُلْ أي يا محمد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ يعني الذي لا شريك له في ملكه الْقَهَّارُ أي الغالب وفيه شعار بالترهيب والتخويف ثم أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فكونه ربا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفارا يشعر بأنه يغفر الذنوب وإن عظمت ويرحم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن قاله ابن عباس وقيل يعني القيامة. [سورة ص (38): الآيات 68 الى 75] أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي وأن ما جئت به لم أعلمه إلا بوحي من الله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني في شأن آدم حين قال الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. فإن قلت كيف يجوز أن يقال إن الملائكة اختصموا بسبب قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ والمخاصمة مع الله تعالى لا تليق ولا تمكن. قلت لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة وهو علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة إِنْ يُوحى إِلَيَّ أي إنما علمت هذه المخاصمة بوحي من الله تعالى إليّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني إلا أنما أنا نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتاني ربي في أحسن صورة قال أحسبه قال في المنام فقال يا محمد هل تدري فيم

يختصم الملأ الأعلى قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء على المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون قال والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام» وفي رواية «فقلت لبيك وسعديك في المرتين» وفيها «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. (فصل: في الكلام على معنى هذا الحديث) وللعلماء في هذا الحديث وفي أمثاله من أحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب السلف إمراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. المذهب الثاني: هو تأويل الحديث، وقيل الكلام على معنى الحديث نتكلم على إسناده فنقول قال البيهقي: هذا حديث مختلف في إسناده فرواه زهير بن محمد عن يزيد بن يزيد عن جابر عن خالد بن الحلاج عن عبد الرّحمن بن عائش عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن عامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورواه موسى بن خلف العمي عن يحيى عن زيد عن جده ممطور وهو أبو سلام عن ابن السكسكي عن مالك بن يخامر وقيل فيه غير ذلك، ورواه أبو أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس وقال فيه أحسبه قال في المنام، ورواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن الحلاج عن ابن عباس قال البخاري عبد الرّحمن بن عائش الحضرمي له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه وهو حديث الرؤية. قال البيهقي وقد روى من طرق كلها ضعاف وفي ثبوته نظر وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله ثم رواية موسى بن خلف وفيهما ما يدل على أن ذلك كان في المنام. فأما تأويله فإن الصورة هي التركيب والمصور هو المركب ولا يجوز أن يكون الباري تبارك وتعالى مصورا ولا أن يكون له صورة لأن الصور مختلفة والهيئات متضادة ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه وتعالى فاستحال أن يكون مصورا وهو الخالق الباري المصور فقوله أتاني ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين أحدهما وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالا وكمالا وحسنا عند رؤيته وفائدة ذلك تعريفه لنا أن الله تعالى زين خلقته وحسن صورته عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعد لشدة الوحي وثقله. الوجه الثاني: أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال والاتصال إليه وأنه تلقاه بالإكرام والإعظام والإجلال. وقد يقال في صفات الله تعالى إنه جميل ومعناه أنه مجمل في أفعاله وذلك نوع من الإحسان والإكرام فذلك من حسن صفة الله تعالى وقد يكون حسن الصورة أيضا يرجع إلى صفاته العلية من التناهي في العظمة والكبرياء والعلو والعز والرفعة حتى لا منتهى ولا غاية وراءه، ويكون معنى الحديث على هذا تعريفنا ما تزايد من معارفه صلّى الله عليه وسلّم عند رؤية ربه عزّ وجلّ فأخبر عن عظمته وعزته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبه الخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقوله صلّى الله عليه وسلّم «فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي» فتأويله أن المراد باليد النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لا يعرفه أحد حتى وجد برد النعمة والمعرفة في قلبه وذلك لما نور قلبه وشرح صدره

[سورة ص (38): الآيات 76 إلى 88]

فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تعالى ولا على صفات ذاته مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا هو أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه وإذا حملنا الحديث على المنام وأن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال وحصل الغرض ولا حاجة بنا إلى التأويل. ورؤية البارئ عزّ وجلّ في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه، وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه والله تعالى أعلم. قوله عز وجل: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك على سبيل التشريف كبيت الله وناقة الله ولأن الروح جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي توليت خلقه أَسْتَكْبَرْتَ أي تعظمت بنفسك عن السجود له أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله: [سورة ص (38): الآيات 76 الى 88] قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ يعني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه. ثم بين كونه خيرا منه فقال خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل. وقيل: هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد، ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة وقيل من السماء. وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله تعالى خلقته فاسود وقبح بعد حسنه ونورانيته فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق. قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار. فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين.

قلت معناه أن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له مع اللعنة من أنواع العذاب ما ينسى بذلك اللعنة فكأنها انقطعت عنه قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ أي أنا أقول الحق وقيل الأول قسم يعني فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي بنفسك وذريتك وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ يعني من بني آدم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ أي جعل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي المتقولين القرآن من تلقاء نفسي وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلف له (ق) عن مسروق قال: دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ لفظ البخاري إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة لِلْعالَمِينَ أي للخلق أجمعين وَلَتَعْلَمُنَّ يعني أنتم يا أهل مكة نَبَأَهُ أي خبر صدقه بَعْدَ حِينٍ قال ابن عباس: بعد الموت، وقيل يوم القيامة وقيل من بقي علم بذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الزمر

سورة الزمر نزلت بمكة إلا قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عوضا عن قوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقيل فيها ثلاث آيات مدنيات من قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: لا تَشْعُرُونَ وهي اثنتان وقيل خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) قوله عز وجل: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا الكتاب وهو القرآن تنزيل مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي لا من غيره إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي لم ننزله باطلا لغير شيء فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي الطاعة أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل يعني الخالص من الشرك وما سوى الخالص ليس بدين الله الذي أمر به لأن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله أَوْلِياءَ يعني الأصنام ما نَعْبُدُهُمْ أي قالوا ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني قربة وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من خلقكم وخلق السموات والأرض ومن ربكم قالوا الله فقيل لهم فما معنى عبادتكم الأصنام فقالوا ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يرشد لدينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ أي من قال إن الآلهة تشفع له كَفَّارٌ أي باتخاذه الآلهة دون الله تعالى لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى أي لاختار مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني الملائكة ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن ذلك وعما لا يليق بطهارة قلبه هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ أي في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد الْقَهَّارُ أي الغالب الكامل القدرة.

[سورة الزمر (39): الآيات 5 إلى 7]

[سورة الزمر (39): الآيات 5 الى 7] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني يغشى هذا هذا، وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزا كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني الإبل والبقر والغنم والمعز والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف، وفي تفسير الإنزال وجوه. قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم لَهُ الْمُلْكُ أي لا لغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي عن طريق الحق بعد هذا البيان. قوله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعا أو ليدفع عن نفسه ضررا وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجا لكان ذلك نقصانا والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فعلى هذا يكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى بقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يريد بعض عباد الله وأجراه قوم على العموم، وقال لا يرضى لأحد من عباده الكفر ومعنى الآية لا يرضى لعباده أن يكفروا به وهو قول السلف، قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله تعالى وإن كان بإرادته لأن الرضا عبارة عن مدح الشيء والثناء عليه بفعله والله تعالى لا يمدح الكفر ولا يثني عليه ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وقد لا يرضى به ولا يمدح عليه وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا وَإِنْ تَشْكُرُوا أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ فيثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تقدم بيانه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في القلوب، قوله تعالى:

[سورة الزمر (39): الآيات 8 إلى 10]

[سورة الزمر (39): الآيات 8 الى 10] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي بلاء وشدة دَعا رَبَّهُ مُنِيباً أي راجعا إِلَيْهِ مستغيثا به ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ أي ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني الأصنام لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي ليرد عن دين الله تعالى قُلْ أي لهذا الكافر تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي في الدنيا إلى انقضاء أجلك إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قيل نزلت في عتبة بن ربيعة وقيل في أبي حذيفة المخزومي وقيل هو عام في كل كافر أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قيل فيه حذف مجازه كمن هو غير قانت، وقيل مجازه الذي جعل لله أندادا أخير أم من هو قانت. وقيل معنى الآية تمتع بكفرك إنك من أصحاب النار ويا من هو قانت أنت من أصحاب الجنة. قال ابن عباس: نزلت في أبي بكر وعمر. وعن ابن عمر: أنها نزلت في عثمان. وقيل: إنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان وقيل: الآية عامة في كل قانت وهو المقيم على الطاعة، وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام، وقيل: القانت القائم بما يجب عليه آناءَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ساجِداً وَقائِماً أي في الصلاة وفيه دليل على ترجيح قيام الليل على النهار وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي وهو الخشوع في الصلاة ومعرفة من يصلى له، وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنّة الراحة فيكون قيامه أشقّ على النفس فيكون الثواب فيه أكثر يَحْذَرُ أي يخاف الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قيل المغفرة وقيل الجنة وفيه فائدة وهي أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فلم يضف الحذر إليه تعالى، وقال في مقام الرجاء ويرجو رحمة ربه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى ويعضد. هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف نجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو منه وآمنه مما يخاف أخرجه الترمذي قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أي ما عند الله من الثواب والعقاب وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك، وقيل: الذين يعلمون عمار وأصحابه. والذين لا يعلمون أبو حذيفة المخزومي، وقيل افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دلّ ذلك على كماله وفضله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي بطاعته واجتناب معاصيه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني للذين آمنوا وحسنوا العمل حسنة يعني الجنة وقيل الصحة والعافية في هذه الدنيا وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال ابن عباس يعني ارتحلوا من مكة وفيه حثّ على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه وقيل نزلت في مهاجري الحبشة وقيل نزلت في جعفر بن أبي طالب: وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما نزل بهم البلاء وصبروا وهاجروا إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال علي بن أبي طالب كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرين فإنه يحثي لهم حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.

[سورة الزمر (39): الآيات 11 إلى 16]

[سورة الزمر (39): الآيات 11 الى 16] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) قوله عز وجل: قُلْ يا محمد إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي مخلصا له التوحيد أي لا أشرك به شيئا وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي من هذه الأمة قيل أمره أولا بالإخلاص وهو من عمل القلب ثم أمره ثانيا بعمل الجوارح لأن شرائع الله تعالى لا تستفاد إلا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو المبلغ فكان هو أول الناس شروعا فيها فخص الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأمر لينبه على أن غيره أحق بذلك فهو كالترغيب لغيره قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته ومنصب نبوته إذا كان خائفا حذرا من المعاصي فغيره أولى بذلك قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فإن قلت ما معنى التكرار في قوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وفي قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. قلت هذا ليس بتكرار لأن الأول الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة والإخلاص، والثاني أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى وحده بالعبادة ولا يعبد أحدا غيره مخلصا له دينه، لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله: اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحضر والمعنى الله أعبد ولا أعبد أحدا غيره ثم أتبعه بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ليس أمرا بل المراد منه الزجر والتهديد والتوبيخ ثم بين كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يعني أزواجهم وخدمهم يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا وأهلا في الجنة فمن عمل بطاعة الله تعالى كان ذلك المنزل والأهل ومن عمل بمعصية الله تعالى دخل النار وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله تعالى فخسر نفسه وأهله ومنزله وقيل خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أي أطباق وسرادقات وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فراش ومهاد وقيل أحاطت النار بهم من جميع الجهات والجوانب. فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة، قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر. الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات. الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي فخافون. قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 17 الى 21] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)

[سورة الزمر (39): الآيات 22 إلى 23]

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ يعني الأوثان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي رجعوا إلى عبادة الله تعالى بالكلية وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره لَهُمُ الْبُشْرى أي في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة وفي الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني القرآن فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي أحسن ما يؤمرون به فيعملون به وهو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو عنه والعفو أحسن الأمرين وقيل ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم وقيل يستمعون القرآن وغيره من الكلام فيتبعون القرآن لأنه كله حسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاءه عثمان وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزلت فيهم فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقيل نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله وهم زيد بن عمرو وأبو ذر وسلمان الفارسي أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي إلى عبادته وتوحيده وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال ابن عباس: سبق في علم الله تعالى أنه في النار وقيل كلمة العذاب قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي لا تقدر عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أبا لهب وولده لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ أي منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل هي أرفع منها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» قوله الغابر أي الباقي في الأفق أي في ناحية المشرق أو المغرب. قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخل ذلك الماء يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي عيونا وركايا ومسالك ومجاري في الأرض كالعروق في الجسد قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي مثل أصفر وأخضر وأحمر وأبيض وقيل أصنافه مثل البر والشعير وسائر أنواع الحبوب ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ أي بعد خضرته ونضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ قوله عز وجل: [سورة الزمر (39): الآيات 22 الى 23] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي وسعه لِلْإِسْلامِ وقبول الحق كمن طبع الله تعالى على قلبه فلم يهتد فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي على يقين وبيان وهداية. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على

نور من ربه قلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله فما علامات ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ القسوة جمودة وصلابة تحصل في القلب. فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر الله وهو سبب لحصول النور والهداية؟ قلت إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي أبي بن خلف، وقيل: في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل. قوله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام تَقْشَعِرُّ أي تضطرب وتشمئز مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف. وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي لذكر الله تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء. روي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وفي رواية «حرمه الله تعالى على النار» قال بعض العارفين: السيارون في بيداء جلال الله إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإذا لاح لهم جمال من عالم الجمال عاشوا. وقال قتادة: هذا نعت أولياء الله الذي نعتهم الله به بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان، وروي عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال عبد الله: فقلت لها إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وذكر عن ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق: فإن قلت لما ذكرت الجلود وحدها أولا في جانب الخوف ثم قرنت معها القلوب ثانيا في الرجاء قلت إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب اقشعرت الجلود من ذكر آيات

[سورة الزمر (39): الآيات 24 إلى 26]

الوعيد في أول وهلة وإذا ذكر الله ومبني أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم وقيل إن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والخوف ليس بمطلوب وإذا حصل الخوف اقشعر منه الجلد وإذا حصل الرجاء اطمأن إليه القلب ولان الجلد ذلِكَ أي القرآن الذي هو أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي هو الذي يشرح الله به صدره لقبول الهداية وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يجعل قلبه قاسيا منافيا لقبول الهداية فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي يهديه. قوله عزّ وجلّ: [سورة الزمر (39): الآيات 24 الى 26] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدته يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل يجر على وجه في النار وقيل يرمى به في النار منكوسا فأول شيء تمسه النار وجهه، وقيل هو الكافر يرمى به منكوسا في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه ومعنى الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن العذاب وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي تقول لهم الخزنة ذُوقُوا ما أي وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي في الدنيا من المعاصي كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني وهم غافلون آمنون من العذاب فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي العذاب والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل: [سورة الزمر (39): الآيات 27 الى 31] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون قُرْآناً عَرَبِيًّا أي فصيحا أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي منزها عن التناقض، وقال ابن عباس: غير مختلف. وقيل: غير ذي لبس وقيل: غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن أنس وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي الكفر والتكذيب. فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية. قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه. قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم والشكس السيء الخلق المخالف للناس لا يرضى بالإنصاف وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي خالصا له فيه ولا منازع والمعنى واضرب يا محمد لقومك مثلا وقل لهم ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد يدعي أنه عبده وهم يتجاذبونه في مهن شتى فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل

[سورة الزمر (39): الآيات 32 إلى 36]

الإخلاص وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته فأي هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى والمؤمن الذي يعبد الله وحده فكان حال المؤمن الذي يعبد إلها واحدا أحسن وأصلح من حال الكافر الذي يعبد آلهة شتى وهو قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهذا استفهام إنكار أي لا يستويان في الحال والصفة قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي لله الحمد كله وحده دون غيره من المعبودين، وقيل لما ثبت أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الحق بالدلائل الظاهرة والأمثال الباهرة قال: الحمد لله على حصول هذه البينات وظهور هذه الدلالات بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي المستحق للعبادة هو الله تعالى وحده لا شريك له. قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ أي ستموت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي سيموتون وذلك أنهم كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم موته فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وقيل نعى إلى نبيه نفسه وإليكم أنفسكم والمعنى أنك ميت وإنهم ميتون وإن كنتم أحياء فإنكم في عداد الموتى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال ابن عباس يعني المحق والمبطل والظالم والمظلوم عن عبد الله بن الزبير قال: «لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، قال الزبير: يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال: نعم، فقال: إن الأمر إذا لشديد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيف قلنا نعم هو هذا وعن إبراهيم قال: لما نزلت هذه الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار». قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 36] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا أو شريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أي بالقرآن وقيل بالرسالة إليه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي منزلة ومقام لِلْكافِرِينَ. قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي والذي صدق به، قال ابن عباس: الذي جاء بالصدق هو

[سورة الزمر (39): الآيات 37 إلى 42]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلا إله إلا الله وصدق به هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا بلغه إلى الخلق، وقيل: الذي جاء بالصدق هو جبريل عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن وصدق به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: الذي جاء بالصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصدق به أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقيل وصدق به المؤمنون وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع. وقيل: الذي جاء بالصدق أهل القرآن وهو الصدق يجيئون به يوم القيامة وقد أدوا حقه فهم الذين صدقوا به أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي الذين اتقوا الشرك لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي من الجزاء والكرامة ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي في أقوالهم وأفعالهم لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي يستره عليهم بالمغفرة وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي يجزيهم بمحاسن أفعالهم ولا يجزيهم بمساويها. قوله عز وجل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقرئ عباده يعني الأنبياء عليهم الصلاة السلام قصدهم قومهم بالسوء فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك أنهم خوفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم مضرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. [سورة الزمر (39): الآيات 37 الى 42] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أي منيع في ملكه ذِي انْتِقامٍ أي منتقم من أعدائه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم، وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق فإن فطرة الخلق شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل عجائب السموات والأرض وما فيها من أنواع الموجودات علم بذلك أنها من ابتداع قادر حكيم ثم أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا قدرة لها على جلب خير أو دفع ضر وهو قوله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي بشدة وبلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي بنعمة وخير وبركة هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكتوا فقال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي هو ثقتي وعليه اعتمادي عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي عليه يثق الواثقون قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي اجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم وهو أمر تهديد وتقريع إِنِّي عامِلٌ أي بما أمرت به من إقامة الدين فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي أنا وأنتم وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو تهديد وتخويف إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي ليهتدي به كافة الخلق فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي ترجع فائدة هدايته إليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي يرجع وبال ضلالته عليه وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لم توكل بهم ولا تؤاخذ عنهم قيل هذا منسوخ بآية القتال. قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي الأرواح حِينَ مَوْتِها أي فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها

[سورة الزمر (39): الآيات 43 إلى 45]

وهو موت الأجساد وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها والنفس التي يتوفاها عند النوم وهي التي يكون بها العقل والتمييز، ولكل إنسان نفسان نفس هي التي تكون بها الحياة وتفارقه عند الموت وتزول بزوالها الحياة والنفس الأخرى هي التي يكون بها التمييز وهي التي تفارقه عند النوم ولا يزول بزوالها التنفس فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ أي فلا يردها إلى جسدها وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يرد النفس التي لم يقض عليها الموت إلى جسدها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يأتي وقت موتها، وقيل إن للإنسان نفسا وروحا فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح وقال علي بن أبي طالب: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة. وقيل: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله تعالى فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى حين انقضاء مدة آجالها (ق). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». فإن قلت: كيف الجمع بين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وبين قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا. قلت: المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى وملك الموت هو القابض للروح بإذن الله تعالى ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الروح من سائر البدن فإذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في البعث وذلك أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث وقيل إن في ذلك دليلا على قدرتنا حيث لم نغلط في إمساك ما نمسك من الأرواح وإرسال ما نرسل منها. قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 43 الى 45] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ يعني الأصنام قُلْ يا محمد أَوَلَوْ كانُوا يعني الآلهة لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً أي من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا ملك لأحد فيهما سواه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي في الآخرة. قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتى يظهر على الوجه فيتهلل. قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39): الآيات 46 إلى 50]

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 50] قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدنيا (م) عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال «سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى: وَحاقَ يعني نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ يعني شدة دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ يعني أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنها استدراج من الله تعالى: قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئا. [سورة الزمر (39): الآيات 51 الى 53] فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسع الرزق لمن يشاء وَيَقْدِرُ أي يقتر ويقبض على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون. قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» أخرجه النسائي. وعن ابن عباس أيضا قال «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً

فقال: وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فقال وحشي نعم هذا فجاء فأسلم» وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فأنزل الله تعالى هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا جميعا وهاجروا. وعن ابن عمر أيضا قال كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له وقوله أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي تجاوزوا الحد في كل فعل مذموم قيل هو ارتكاب الكبائر وغيرها من الفواحش لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من رحمة الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله من الكبائر إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فإن قلت حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي وإطلاقا في الإقدام عليها وذلك لا يمكن. قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقا ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم. (فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية) روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب (ق). عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له» لفظ البخاري ولمسلم قال «فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض

[سورة الزمر (39): الآيات 54 إلى 55]

الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان رجل أسرف على نفسه وفي رواية لم يعمل خيرا قط وفي رواية لم يعمل حسنة قط فلما حضره الموت قال لبنيه إذا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فو الله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله تعالى الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك» وعنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر في العبادة مجتهد فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول له أقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا فقال والله لا يغفر لك الله أو قال لا يدخلك الجنة فقبض الله أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادرا وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة «تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته» أخرجه أبو داود عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» أخرجه الترمذي، قوله عنان السماء العنان السحاب وقيل هو ما عن لك منها وقراب الأرض بضم القاف هو ما يقارب ملأها. قوله عز وجل: [سورة الزمر (39): الآيات 54 الى 55] وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أخلصوا له التوحيد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي لا تمنعون منه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يعني غافلين عنه. [سورة الزمر (39): الآيات 56 الى 58] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس يا حَسْرَتى أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي على ما قصرت في طاعة الله، وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي أرشدني إلى دينه وطاعته لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي الشرك أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ أي عيانا لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل وهو قوله تعالى:

[سورة الزمر (39): الآيات 59 إلى 66]

[سورة الزمر (39): الآيات 59 الى 66] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني القرآن فَكَذَّبْتَ بِها أي قلت ليست من الله وَاسْتَكْبَرْتَ أي تكبرت عن الإيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ أي زعموا أن له ولدا وشريكا وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي عن الإيمان. قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الشرك بِمَفازَتِهِمْ أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي لا يصيبهم المكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز: لم يؤذها الديك بصوت تغريد ... ولم يعالج غلقها بإقليد والمعنى أن الله تعالى مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الله الذي يملك مقاليدها، وقيل مقاليد السموات خزائن الرحمة والرزق والمطر ومقاليد الأرض النبات وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بآياته الظاهرة الباهرة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قوله عز وجل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه فوصفهم بالجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأنه هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي الذي عملته قبل الشرك، وهذا خطاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره لأن الله عز وجل عصم نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الشرك وفيه تهديد لغيره وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي لإنعامه عليك. قوله تعالى. [سورة الزمر (39): الآيات 67 الى 68] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (ق) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع

[سورة الزمر (39): الآيات 69 إلى 73]

والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفي رواية «والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن وفيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا له ثم قرأ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول: أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لفظ مسلم وللبخاري «أن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محمل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه. قوله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور أُخْرى مرة أخرى وهي النفخة الثانية فَإِذا هُمْ قِيامٌ أي من قبورهم يَنْظُرُونَ أي ينتظرون أمر الله فيهم (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوما، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرا، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون سنة قال: أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 69 الى 73] وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة وَوُضِعَ الْكِتابُ أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ يعني ليكونوا شهداء على أممهم وَالشُّهَداءِ قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل يعني الحفظة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا يزاد في

[سورة الزمر (39): الآيات 74 إلى 75]

سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي ثواب ما عملت وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد. قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يعني سوقا عنيفا زُمَراً أفواجا بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها يعني توبيخا وتقريعا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من أنفسكم ومن جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي وجبت عَلَى الْكافِرِينَ وهي قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قوله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما. قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق. قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاءوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذلك وهوان لهم. الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية. فإن قلت حتى إذا جاءوها شرط فأين جوابه؟ قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخلوها لدلالة الكلام عليه وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات طِبْتُمْ قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. [سورة الزمر (39): الآيات 74 الى 75] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي بالجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة نتصرف فيها كما نشاء تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه وهو قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ أي ننزل مِنَ الْجَنَّةِ أي في الجنة حَيْثُ

نَشاءُ فإن قلت فما معنى قوله حَيْثُ نَشاءُ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره. قلت يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وحسنا وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى غيره وقيل إن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون فيها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها قال الله عز وجل: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محدقين محيطين بحافته وجوانبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ بين أهل الجنة وأهل النار بالعدل وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول أهل الجنة شكرا حين تمّ وعد الله لهم، وقيل ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداءة كل أمر وخاتمته والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة حم المؤمن

سورة حم المؤمن وتسمى سورة غافر وهي مكية قيل غير آيتين وهما قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها وهي خمس وثمانون آية وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن» وعن ابن عباس قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن مسعود إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات الجنة أتأنق فيهن، وقال سعد بن إبراهيم إن آل حم تسمى العرائس. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة غافر (40): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) قوله عز وجل: حم قال ابن عباس رضي الله عنهما: حم اسم الله الأعظم وعنه قال الر وحم ون حروف اسمه الرّحمن مقطعة وقيل حم اسم للسورة وقيل الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان، والميم افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل معناه حم بضم الحاء أي قضى ما هو كائن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي الغالب القادر وقيل الذي لا مثل له الْعَلِيمِ أي بكل المعلومات غافِرِ الذَّنْبِ يعني ساتر الذنب وَقابِلِ التَّوْبِ يعني التوبة قال ابن عباس غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله شَدِيدِ الْعِقابِ لمن لا يقول لا إله إلا الله ذِي الطَّوْلِ يعني السعة والغنى وقيل ذي الفضل والنعم وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني هو الموقوف بصفات الوحدانية التي لا يوصف بها غيره إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مصير العباد إليه في الآخرة قوله تعالى:

[سورة غافر (40): الآيات 4 إلى 7]

[سورة غافر (40): الآيات 4 الى 7] ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) ما يُجادِلُ يعني ما يخاصم ويحاجج في آيات الله يعني في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن. قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن جدالا في القرآن كفر» أخرجه أبو داود وقال المراد في القرآن كفر وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتمارون فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض وإنما أنزل الكتاب يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرف في وجهه الغضب فقال «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ يعني تصرفهم فِي الْبِلادِ للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم فإن عاقبة أمرهم العذاب كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ قال ابن عباس ليقتلوه ويهلكوه وقيل ليأسروه وَجادَلُوا يعني خاصموا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا يعني ليبطلوا بِهِ الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ يعني أنزلت بهم من الهلاك ما هموا هم بإنزاله بالرسل وقيل معناه فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكا مستأصلا وَكَذلِكَ حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ يعني كما وجبت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من قومك أَنَّهُمْ يعني بأنهم أَصْحابُ النَّارِ قوله عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ قيل حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر كما قال الله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ وهم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عز وجل وهم على صورة الأوعال وجاء في الحديث إن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما في الهواء ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتمجيد ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء وقال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروي أن أقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم تسبيحهم سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح وقيل إن أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفا من التي تليها والتي تليها أشد خوفا من التي تليها. وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» أخرجه أبو داود وأما صفة العرش فقيل إنه جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقا وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ويكسى العرش كل يوم ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة وقال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة وقيل إن العرش قبلة لأهل السماء كما أن الكعبة قبلة لأهل الأرض قوله: وَمَنْ حَوْلَهُ يعني الطائفين به وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة، قال وهب بن منبه: إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويدبر هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضا هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا سبحانك

[سورة غافر (40): الآيات 8 إلى 10]

وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر والخلق كلهم إليك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام واحتجب الله عز وجل من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نار وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من در أبيض وسبعين حجابا من ياقوت أحمر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلا الله عز وجل. قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق بجلاله والتحميد هو الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له. فإن قلت قدم قوله يسبحون بحمد ربهم على قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يكون التسبيح إلا بعد الإيمان فما فائدة قوله ويؤمنون به. قلت فائدته التنبيه على شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه. ولما كان الله عز وجل محتجبا عنهم بحجب جلاله وجماله وكماله وصفهم بالإيمان به. قال شهر بن حوشب حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي يسألون الله تعالى المغفرة لهم قيل هذا الاستغفار من الملائكة مقابل لقولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لهم ثانيا وهو كالتنبيه لغيرهم فيجب على كل من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له رَبَّنا أي ويقولون ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وفيه تنبيه على تقديم الثناء على الله تعالى بما هو أهله قيل المطلوب بالدعاء فلما قدموا الثناء على الله عز وجل قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي دينك وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قال مطرف أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين. [سورة غافر (40): الآيات 8 الى 10] رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قيل إذا دخل المؤمن الجنة قال: أين أبي وأين أمي وأين ولدي وأين زوجتي، فيقال: إنهم لم يعملوا عملك، فيقول: إني كنت أعمل لي ولهم فيقال أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل لسروره ولذته وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي عقوبات السيئات بأن تصونهم من الأعمال الفاسدة التي توجب العقاب وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ يعني من تقه في الدنيا فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني في القيامة وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني النعيم الذي لا ينقطع في جوار مليك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وجلاله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يعني يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم لَمَقْتُ اللَّهِ يعني إياكم في الدنيا أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي اليوم عند حلول العذاب بكم.

[سورة غافر (40): الآيات 11 إلى 12]

[سورة غافر (40): الآيات 11 الى 12] قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهذه موتتان وحياتان وقيل أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في القبر للسؤال ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا للبعث في الآخرة وذلك أنهم عدوا أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ثم الحياة في القبر ثم الموتة الثانية فيه ثم الحياة للبعث فأما الحياة الأولى التي هي من الدنيا فلم يعدوها لأنها ليست من أقسام البلاء وقيل ذكر حياتين وهي حياة الدنيا وحياة القيامة وموتتين وهي الموتة الأولى في الدنيا ثم الموتة الثانية في القبر بعد حياة السؤال ولم يعدوا حياة السؤال لقصر مدتها فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا يعني إنكارهم البعث بعد الموت فلما شاهدوا البعث اعترفوا بذنوبهم ثم سألوا الرجعة بقولهم فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ يعني من النار مِنْ سَبِيلٍ والمعنى فهلّا إلى رجوع إلى الدنيا من سبيل لنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط من الخروج وإنما قالوا ذلك تعللا وتحيرا والمعنى فلا خروج ولا سبيل إليه ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ معناه فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعى الله وحده كفرتم يعني إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتم ذلك وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ أي غيره تُؤْمِنُوا أي تصدقوا ذلك الشرك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ أي الذي لا أعلى منه الْكَبِيرِ أي الذي لا أكبر منه. [سورة غافر (40): الآيات 13 الى 19] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي عجائب مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق وَما يَتَذَكَّرُ أي يتعظ بهذه الآيات إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة والعبادة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي رافع درجات الأنبياء والأولياء والعلماء في الجنة وقيل معناه المرتفع أي إنه سبحانه وتعالى هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر لأنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال التنبيه على كمال القدرة فكل ما كان أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى يُلْقِي الرُّوحَ يعني ينزل الوحي سماه روحا لأن به تحيا الأرواح كما تحيا الأبدان بالأرواح مِنْ أَمْرِهِ قال ابن عباس: من قضائه وقيل بأمره وقيل من قوله عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني الأنبياء لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يعني لينذر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، وقيل يلتقي الخلق والخالق

[سورة غافر (40): الآيات 20 إلى 26]

وقيل يلتقي العابدون والمعبودون وقيل يلتقي المرء مع عمله وقيل يلتقي الظالم والمظلوم يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أي من أعمالهم وأحوالهم، فإن قلت إن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام فما وجه تخصيص ذلك اليوم، قلت كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم وهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه في الدنيا لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أي يقول الله عز وجل في ذلك اليوم بعد فناء الخلق لمن الملك فلا أحد يجيبه فيجيب نفسه تعالى فيقول لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي الذي قهر الخلق بالموت وقيل إذا حضر الأولون والآخرون في يوم القيامة نادى مناد لمن الملك فيجيبه جميع الخلائق في يوم القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولونه تلذذا حيث كانوا يقولونه في الدنيا ونالوا به المنزلة الرفيعة في العقبى والكفار يقولونه على سبيل الذل والصغار والندامة حيث لم يقولوه في الدنيا الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لا ظُلْمَ الْيَوْمَ أي إن الخلق آمنون في ذلك اليوم من الظلم لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب بل يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد. قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يعني يوم القيامة سميت آزفة لقرب وقتها وكل ما هو آت فهو قريب إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا كاظِمِينَ أي مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا حتى يضيق القلب عنه ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي من قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٍ أي يشفع لهم يُطاعُ أي فيهم يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل وقيل هو نظر الأعين لما نهى الله عنه وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي يعلم مضمرات القلوب. [سورة غافر (40): الآيات 20 الى 26] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي يحكم بالعدل وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر على شيء إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوال الخلق الْبَصِيرُ بأفعالهم أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أي المعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء فلم تنفعهم قوتهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي يدفع عنهم العذاب ذلِكَ أي ذلك العذاب الذي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعني

[سورة غافر (40): الآيات 27 إلى 29]

فرعون وقومه اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل هذا القتل غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوالدان فلما بعث موسى عليه الصلاة والسلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي استحيوا النساء ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى عليه الصلاة والسلام ومظاهرته وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إِلَّا فِي ضَلالٍ أي يذهب كيدهم باطلا ويحيق بهم ما يريده الله تعالى وَقالَ فِرْعَوْنُ أي لملئه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وإنما قال فرعون هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى وإنما منعوه عن قتله لأنه كان فيهم من يعتقد بقلبه أنه كان صادقا، وقيل قالوا لا تقتله فإنه هو ساحر ضعيف فلا يقدر أن يغلب سحرنا وإن قتلته قالت العامة كان محقا صادقا وعجزوا عن جوابه فقتلوه وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ يعني يقول فرعون أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ يعني بذاك تغيير الدين وتبديله وعبادة غيره. [سورة غافر (40): الآيات 27 الى 29] وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ مُوسى يعني لما توعده فرعون بالقتل إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يأت في دفع الشدة إلا بأن استعاذ بالله واعتمد عليه فلا جرم أن صانه الله عن كل بلية مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي متعظم عن الإيمان لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قوله عز وجل: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ قيل كان ابن عم فرعون وقيل كان من القبط وقيل كان من بني إسرائيل، فعلى هذا يكون معنى الآية وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وكان اسم هذا المؤمن حزبيل عند ابن عباس وأكثر العلماء وقال إسحاق كان اسمه جبريل وقيل حبيب أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ أي لأن يقول رَبِّيَ اللَّهُ وهذا استفهام إنكار وهو إشارة إلى التوحيد وقوله وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فيه إشارة إلى تقرير نبوته بإظهار المعجزة والمعنى وقد جاءكم بما يدل على صدقه وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي لا يضركم ذلك إنما يعود وبال كذبه عليه وَإِنْ يَكُ صادِقاً أي فكذبتموه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قيل معناه يصبكم الذي يعدكم إن قتلتموه وهو صادق، وقيل بعض على أصلها ومعناه كأنه قاله على طريق الاحتجاج أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفيه هلاككم فذكر البعض ليوجب الكل إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي يعني إلى دينه مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي على الله تعالى (خ) عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولوى ثوبه في عنقه وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ. قوله عز وجل: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ يعني غالبين في الأرض أي أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا يعني يمنعنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا والمعنى لكم الملك فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله تعالى إن حل بكم قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ أي من الرأي والنصيحة إِلَّا ما أَرى

[سورة غافر (40): الآيات 30 إلى 34]

يعني لنفسي وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى ثم حكى الله تعالى أن مؤمن آل فرعون رد على فرعون هذا الكلام وخوفه أن يحل به ما حل بالأمم قبله بقوله: [سورة غافر (40): الآيات 30 الى 34] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب حتى أتاهم العذاب وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني لا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يعني يوم القيامة سمي يوم القيامة يوم التناد لأنه يدعى فيه كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضا فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة وينادى فيه بالسعادة والشقاوة ألا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا وينادي حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت وقيل ينادي المؤمن هاؤم اقرءوا كتابيه وينادي الكافر يا ليتني لم أوت كتابيه وقيل يوم التناد يعني يوم التنافر من ند البعير إذا نفر وهرب وذلك أنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا عليه فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يعني منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعني يعصمكم من عذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني يهديه وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ يعني يوسف بن يعقوب مِنْ قَبْلُ يعني من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ يعني قوله أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ قيل مكث فيهم يوسف عشرين سنة نبيا وقيل إن فرعون يوسف هو فرعون موسى وقيل هو فرعون آخر فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ قال ابن عباس من عبادة الله وحده لا شريك له والمعنى أنهم بقوا شاكين في نبوته لم ينتفعوا بتلك البينات التي جاءهم بها حَتَّى إِذا هَلَكَ يعني مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا يعني أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان عليه بل قالوا ذلك ليكون لهم أساسا في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعده وليس قولهم لن يبعث الله من بعده رسولا تصديقا لرسالة يوسف كيف وقد شكوا فيها وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضمون إلى التكذيب لرسالته كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ يعني في شركه وعصيانه مُرْتابٌ يعني في دينه.

[سورة غافر (40): الآيات 35 إلى 40]

[سورة غافر (40): الآيات 35 الى 40] الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ قيل هذا تفسير للمسرف المرتاب يعني الذين يجادلون في إبطال آيات الله بالتكذيب بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي بغير حجة وبرهان أَتاهُمْ من الله كَبُرَ أي ذلك الجدال مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ قوله عز وجل: وَقالَ فِرْعَوْنُ يعني لوزيره يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً يعني بناء ظاهرا لا يخفى على الناظرين وإن بعد وقد تقدم ذكره في سورة القصص لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ يعني طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى كاذِباً أي فيما يدعي ويقول إن له ربا غيري وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ قال ابن عباس رضي الله عنهما صده الله تعالى عن سبيل الهدى وقرئ وصد بالفتح أي وصد فرعون الناس عن السبيل وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي وما كيده في إبطال آيات موسى إلا في خسار وهلاك. قوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي طريق الهدى يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي متعة ينتفعون بها مدة ثم تنقطع وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ يعني التي لا تزول والمعنى أن الدنيا فانية منقرضة لا منفعة فيها وأن الآخرة باقية دائمة والباقي خير من الفاني، قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبا فانيا والآخرة خزفا باقيا لكانت الآخرة خيرا من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قيل معناه من عمل الشرك فجزاؤه جهنم خالدا فيها ومن عمل بالمعاصي فجزاؤه العقوبة بقدرها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ يعني لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير وقيل يصب عليهم الرزق صبا بغير تقتير. [سورة غافر (40): الآيات 41 الى 46] وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ معناه أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة من النار وأنتم تدعونني إلى الشرك الذي يوجب النار ثم فسر ذلك فقال تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي لا أعلم أن الذي تدعونني إليه إله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله الحق ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ أي في انتقامه ممن كفر الْغَفَّارِ أي لذنوب أهل التوحيد لا جَرَمَ يعني حقا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يعني الصنم لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ يعني ليست له استجابة دعوة لأحد في الدنيا ولا في الآخرة وقيل ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا ولا في الآخرة لأن الأصنام لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ يعني مرجعنا إلى الله فيجازي كلّا بما يستحقه وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين

[سورة غافر (40): الآيات 47 إلى 52]

هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي أرد أمري إلى الله وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني يعلم المحق من المبطل ثم خرج المؤمن من بينهم فطلبوه فلم يقدروا عليه وذلك قوله تعالى: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا يعني ما أرادوا به من الشر قيل إنه نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام وكان قبطيا وَحاقَ يعني نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ يعني الغرق في الدنيا والنار في الآخرة وذلك قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يعني صباحا ومساء قال ابن مسعود «أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة» وقيل تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر أعاذنا الله تعالى منه بمنّه وكرمه (ق) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة» ثم أخبر الله تعالى عن مستقرهم يوم القيامة فقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون أَشَدَّ الْعَذابِ قال ابن عباس ألوان من العذاب غير الذي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا. [سورة غافر (40): الآيات 47 الى 52] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ أي واذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون يعني أهل النار فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي في الدنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني الرؤساء والقادة إِنَّا كُلٌّ فِيها يعني نحن وأنتم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قضى علينا وعليكم وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ يعني حين اشتد عليهم العذاب لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا يعني الخزنة أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني لا عذر لكم بعد مجيء الرسل قالُوا بَلى أي اعترفوا بذلك قالُوا فَادْعُوا يعني أنتم إنا لا نّدعوا لكم لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب قال الله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ يعني يبطل ويضل ولا ينفعهم. قوله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن عباس بالغلبة والقهر، وقيل بالحجة وقيل بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة وكل ذلك حاصل لهم فهم منصورون بالحجة على من خالفهم تارة وقد نصرهم الله بالقهر على من عاداهم وأهلك أعداءهم بالانتقام منهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل فإنه قتل به سبعين ألفا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يعني وننصرهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد وهم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي إن اعتذروا عن كفرهم لم يقبل منهم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي البعد من الرحمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني جهنم.

[سورة غافر (40): الآيات 53 إلى 57]

[سورة غافر (40): الآيات 53 الى 57] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى يعني النبوة وقيل التوراة وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وقيل سائر الكتب المنزلة على أنبيائهم هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ قوله تعالى: فَاصْبِرْ أي يا محمد على أذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي نسخت آية القتال آية الصبر وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ يعني الصغائر وهذا على قول من يجوزها على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل يعني على ترك الأولى والأفضل وقيل على ما صدر منه قبل النبوة وعند من لا يجوز الصغائر على الأنبياء يقول هذا تعبد من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ليزيده درجة ولتصير سنة لغيره من بعده وذلك لأن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي، والاشتغال بما ينبغي والأول مقدم وهو التوبة من الذنوب والثاني الاشتغال بالطاعات وهو قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزه ربك عما لا يليق بجلاله وقيل صل شاكرا لربك بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني صلاة العصر وصلاة الفجر وقال ابن عباس الصلوات الخمس إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ يعني كفار قريش إِنْ فِي صُدُورِهِمْ يعني ما في قلوبهم إِلَّا كِبْرٌ قال ابن عباس ما حملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة ما هُمْ بِبالِغِيهِ يعني ببالغي مقتضى ذلك الكبر وقيل معناه إن في صدورهم إلا كبر على محمد صلّى الله عليه وسلّم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك وقيل نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا قال الله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من فتنة الدجال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لأقوالهم الْبَصِيرُ يعني بأفعالهم. قوله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني مع عظمهما أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي من إعادتهم بعد الموت والمعنى أنهم مقرون أن الله تعالى خلق السموات والأرض وذلك أعظم في الصدور من خلق الناس فكيف لا يقرون بالبعث بعد الموت وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني أن الكفار لا يعلمون حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها، وقال قوم معنى أكبر من خلق الناس أي أعظم من خلق الدجال ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال. (فصل في ذكر الدجال) (م) عن هشام بن عروة قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال» معناه أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال (ق) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافئة» ولأبي داود والترمذي عنه قال «قام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذر نوح قومه ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من نبي إلا وقد أنذر قومه الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية لمسلم «بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر ويقرؤه كل مسلم» عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت «كان

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي فذكر الدجال، فقال إن بين يديه ثلاث سنين سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها. والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها. والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربك قال: فيقول: بلى، فيتمثل الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظمه أسنمة ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه قالت: ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم قالت وأخذ بلحمتي الباب فقال مهيم أسماء فقلت: يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال: إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء: فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ، قال: يجزيهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس» وفي رواية عنها قالت قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار» هذا حديث أخرجه البغوي بسنده والذي جاء في صحيح مسلم قال «قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استذرته الريح» وفي رواية أبي داود عنه «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته وفيه ثم ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله» (ق) عن حذيفة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء عذب بارد» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه» (ق) «عن المغيرة بن شعبة قال «ما سأل أحد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي ما يضرك قلت إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله من ذلك» عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من سمع بالدجال فلينأ منه فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به الشبهات أو قال لما يبعث به من الشبهات» أخرجه أبو داود (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها فينزل السبخة ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق» (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك» عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الدجال يخرج بأرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب (م). عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» عن مجمع بن جارية الأنصاري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. قال الشيخ محيي الدين النووي: قال القاضي عياض هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذهب الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله تعالى به عباده فأقدره على أشياء من المقدورات من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره وإتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره

[سورة غافر (40): الآيات 58 إلى 60]

ويقتله عيسى ابن مريم عليه السلام ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وخلافا للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنها لو كانت حقا لضاهت معجزات الأنبياء وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له وإنما يدعي الربوبية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه وعن إزالة الشاهة بكفره المكتوب بين عينيه ولهذه الدلائل لا يغتر به إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو خوفا من فتنته لأن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب ولهذا حذرت الأنبياء من فتنته فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه لما سبق من العلم بحاله ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه ما ازددت فيك إلا بصيرة قوله «قلت يا رسول الله إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله تعالى من ذلك» معناه هذا أهون على الله تعالى من أن يجعل ما خلقه الله عز وجل على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم بل إنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك لأنه ثبت في الحديث أن معه ماء ونارا فماؤه نار وناره ماء بارد والله تعالى أعلم. [سورة غافر (40): الآيات 58 الى 60] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) قوله عز وجل: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الجاهل والعالم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي لا يستوون قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ يعني القيامة لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في قيامها ومجيئها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت، قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر «الدعاء هو العبادة ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من لم يسأل الله يغضب عليه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب عن أنس بن مالك قال «الدعاء مخ العبادة» أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب فإن قلت كيف قال ادعوني أستجب لكم وقد يدعو الإنسان كثيرا فلا يستجاب له، قلت الدعاء له شروط منها الإخلاص في الدعاء وأن لا يدعو وقلبه لاه مشغول بغير الدعاء وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان وأن لا يكون فيه قطيعة رحم فإذا كان الدعاء بهذه الشروط كان حقيقا بالإجابة فإما أن يعجلها له وإما أن يؤخرها له يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له به في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقيل الدعاء هو الذكر والسؤال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي أي عن توحيدي وقيل دعائي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين ذليلين.

[سورة غافر (40): الآيات 61 إلى 69]

[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 69] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) قوله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لتحصل لكم الراحة فيه بسبب النوم والسكون وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي لتحصل لكم فيه مكنة التصرف في حوائجكم ومهماتكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق الأشياء كلها وأنه لا شريك له في ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فأنى تصرفون عن الحق كَذلِكَ أي كما أفكنتم عن الحق مع قيام الدلائل كذلك يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي فراشا لتستقروا عليها وقيل منزلا في حال الحياة وبعد الموت وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا كالقبة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي خلقكم فأحسن خلقكم قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قيل هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ وهذا يفيد الحصر أي لا حي إلا هو فوجب أن يحمل ذلك على الذي يمتنع أن يموت امتناعا تاما ثابتا وهو الله تعالى الذي لا يوصف بالحياة الكاملة إلا هو، والحي هو المدرك الفعال لما يريد وهذه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة ولما نبه على هذه الصفات نبه على كمال الوحدانية بقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فادعوه واحمدوه، قال ابن عباس من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وذلك حين دعي إلى الكفر أمره الله تعالى أن يقول ذلك. قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني أصلكم آدم وقيل يحتمل أن كل إنسان خلق من تراب لأنه خلق من النطفة وهي من الأغذية والأغذية من النبات والنبات من التراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث الطفولية وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيوخة وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن يصير شيخا وَلِتَبْلُغُوا أي جميعا أَجَلًا مُسَمًّى أي وقتا محدود لا تجاوزونه يعني

[سورة غافر (40): الآيات 70 إلى 78]

أجل الحياة إلى الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي ما في هذه الأحوال العجيبة من القدرة الباهرة الدالة على توحيده وقدرته هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يكونه من غير كلفة ولا معاناة ولا تعب وكل ذلك من كمال قدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من الأفعال الدالة على قدرته كأنه قال من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه. قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يعني القرآن أَنَّى يُصْرَفُونَ أي عن دين الحق وقيل نزلت في القدرية. [سورة غافر (40): الآيات 70 الى 78] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه وعيد وتهديد ثم وصف ما أوعدهم به فقال تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ يعني يجرون بتلك السلاسل فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يعني توقد بهم النار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي فقدناهم فلم نرهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً قيل إنهم أنكروا عبادتها، وقيل لم نكن ندعوا شيئا ينفع ويضر، وقيل ضاعت عبادتنا لها فكأنا لم نكن ندعو من قبل شيئا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي كما أضل هؤلاء ذلِكُمْ أي العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ أي تبطرون وتأشرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي تختالون وتفرحون به ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ يعني السبعة خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني عن الإيمان. قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي بنصرك على الأعداء فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي قبل أن يحل ذلك بهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أي خبره وحاله في القرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي لم نذكر لك حال الباقين منهم وليس منهم أحد إلا أعطاه الله تعالى آيات ومعجزات، وقد جادله قومه وكذبوه فيها وما جرى عليهم يقارب ما جرى عليك فصبروا وهذا تسلية لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني بأمره وإرادته فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي قضاؤه بين الأنبياء والأمم قُضِيَ بِالْحَقِّ يعني بالعدل وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ يعني الذين يجادلون في آيات الله بغير حق وفيه وعيد وتهديد لهم.

[سورة غافر (40): الآيات 79 إلى 85]

[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 85] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد في أسفاركم وحاجاتكم وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر يُرِيكُمْ آياتِهِ أي دلائل قدرته أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ يعني أن هذه الآيات التي ذكرها ظاهرة باهرة فليس شيء منها يمكن إنكاره. قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني مصانعهم وقصورهم والمعنى لو سار هؤلاء في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة هؤلاء المنكرين المتمردين الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددا وأموالا من هؤلاء فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي لم ينفعهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا أي رضوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قيل هو قولهم لن نبعث ولن نعذب وقيل هو علمهم بأحوال الدنيا سمي ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عذابنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ يعني أن سنة الله قد جرت في الأمم الخالية بعدم قبول الإيمان عند معاينة البأس وهو العذاب يعني بتلك السنة أنهم إذا رأوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ يعني بذهاب الدارين قيل الكافر خاسر في كل وقت ولكنه يتبين خسرانه إذا رأى العذاب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة فصلت

سورة فصلت وتسمى سورة السجدة وسورة المصابيح مكية وهي أربع وخمسون آية وسبعمائة وست وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) قوله عز وجل: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت وميزت وجعلت معاني مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد قُرْآناً عَرَبِيًّا أي باللسان العربي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي إنما أنزلناه على العرب بلغتهم ليفهموا منه والمراد ولو كان بغير لسانهم ما فهموه بَشِيراً وَنَذِيراً نعتان للقرآن أي بشيرا لأولياء الله بالثواب ونذيرا لأعدائه بالعقاب فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي عنه فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يصغون إليه تكبرا وَقالُوا يعني مشركي مكة قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي فلا نفقه ما تقول وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم فلا نسمع ما تقول والمعنى أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول فَاعْمَلْ أي أنت على دينك إِنَّنا عامِلُونَ أي على ديننا قُلْ يا محمد إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي كواحد منكم يُوحى إِلَيَّ أي لولا الوحي ما دعوتكم، قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي توجهوا إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله وَاسْتَغْفِرُوهُ أي من ذنوبكم وشرككم وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس: لا يقولون لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس، والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. وقيل: لا يقرون بالزكاة المفروضة ولا يرون إتيانها واجبا يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقيل: معناه لا ينفقون في طاعة الله ولا يتصدقون، وقيل: لا يزكون أعمالهم وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي جاحدون بالبعث بعد الموت.

[سورة فصلت (41): الآيات 8 إلى 11]

[سورة فصلت (41): الآيات 8 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: غير مقطوع، وقيل: غير منقوص، وقيل: غير ممنون عليهم به، وقيل: غير محسوب. قيل نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن العمل والطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه (خ) عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة ولا مرتين يقول «إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر كتب الله تعالى له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم». قوله عز وجل: قُلْ أَإِنَّكُمْ استفهام بمعنى الإنكار وذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله تعالى وهو قوله تعالى لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وثانيهما وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً إثبات الشركاء والأنداد له والمعنى كيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين يعني الأحد والاثنين ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي هو رب العالمين وخالقهم المستحق للعبادة لا الأصنام المنحوتة من الخشب والحجر وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها أي من فوق الأرض وَبارَكَ فِيها أي في الأرض بكثرة الخيرات الحاصلة فيها وهو ما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم وقيل قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة وقيل قدر البر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر والذرة لأهل قطر والسمك لأهل قطر وكذلك سائر الأقوات. قيل إن الزراعة أكثر الحرف بركة لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض قال الله تعالى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين فخلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وهما يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فصارت أربعة أيام رد الآخر على الأول في الذكر سَواءً لِلسَّائِلِينَ معناه سواء لمن سأل عن ذلك أي فهكذا الأمر سواء لا زيادة فيه ولا نقصان جوابا لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي عمد إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ ذلك الدخان كان بخار الماء، قيل كان العرش قبل خلق السموات والأرض على الماء فلما أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض أمر الريح فضربت الماء فارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السماء ثم أيبس الماء فخلقه أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبعا. فإن قلت هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وقوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء فكيف الجمع بينهما. قلت الجواب المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولا ثم خلق السماء بعدها ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها. وجواب آخر وهو أن يقال إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين، وليس الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط بل هو عبارة عن التقدير أيضا فيكون المعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء فعلى هذا يزول الإشكال والله أعلم بالحقيقة فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي ائتيا ما أمرتكما به أي افعلاه وقيل افعلا ما أمرتكما طوعا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ معناه أتينا بما فينا طائعين فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل.

[سورة فصلت (41): الآيات 12 إلى 14]

قيل قال الله تعالى لهما أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمرك ونباتك. [سورة فصلت (41): الآيات 12 الى 14] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي أتمهن وفرغ من خلقهن فِي يَوْمَيْنِ وهما الخميس والجمعة وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال ابن عباس خلق في كل سماء خلقا من الملائكة وخلق ما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى وقيل أوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي التي تلي الأرض بِمَصابِيحَ أي بكواكب تشرق كالمصابيح وَحِفْظاً أي وجعلناها يعني الكواكب حفظا للسماء من الشياطين الذين يسترقون السمع ذلِكَ أي الذي ذكر من صنعه وخلقه تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي في ملكه الْعَلِيمِ أي بخلقه وفيه إشارة إلى كمال القدرة والعلم. قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ أي خوفتكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي هلاكا مثل هلاكهم والصاعقة المهلكة من كل شيء إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ يعني إلى عاد وثمود مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم وهما هود وصالح وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم أَلَّا أي بأن لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يعني لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة بدل هؤلاء الرسل فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال: «قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه ثم أتينا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه فلما خرج إليه قال: يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب» وقال محمد بن كعب القرظي: حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا

[سورة فصلت (41): الآيات 15 إلى 16]

لعله يقبل منا بعضها فنعطيه ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يزيدون ويكثرون قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعيبت آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها فقال صلّى الله عليه وسلّم قل يا أبا الوليد فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا شعر جاش به صدرك فنعذرك فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه أحد حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاستمع مني، قال: فافعل، فقال: بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ثم مضى فيها يقرأ فلما سمعها عتبة أنصت وألقى يده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السجدة فسجد ثم قال أسمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ما هو بشعر ولا بسحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني يا معشر قريش خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله محمد يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم». [سورة فصلت (41): الآيات 15 الى 16] فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) قوله عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وذلك أن هودا هددهم بالعذاب فقالوا نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا وكانوا ذوي أجسام طوال قال الله تعالى ردا عليهم أَوَلَمْ يَرَوْا أي أو لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي عاصف شديد الصوت وقيل هي الريح الباردة فقيل إن الريح ثمانية، فأربع منها عذاب وهي الريح الصرصر والعاصف والقاصف والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قيل أرسل عليهم من الريح على قدر خرق الخاتم فأهلكوا جميعا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي نكدات مشؤومات ذات نحس وقيل ذات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه وقيل أمسك الله عز وجل عنهم المطر ثلاث سنين ودأبت عليهم الريح من غير مطر لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي عذاب الذل والهوان وذلك مقابل لقوله فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ذلك الذي نزل بهم من الخزي والهوان في الحياة الدنيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي أشد إهانة وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب. [سورة فصلت (41): آية 17] وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس بينا لهم سبيل الهدى وقيل دللناهم على الخير والشر فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي اختاروا الكفر على الإيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي ذي الهوان بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من الشرك.

[سورة فصلت (41): الآيات 18 إلى 24]

[سورة فصلت (41): الآيات 18 الى 24] وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي يتقون الشرك والأعمال الخبيثة وهم صالح ومن آمن معه من قومه. قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يساقون ويدفعون وقيل يحبس أولهم حتى يلحق آخرهم حَتَّى إِذا ما جاؤُها يعني النار شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي بشراتهم وقيل فروجهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معناه أن الجوارح تنطق بما كتمت الألسن من عملهم (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه عز وجل يقول يا رب ألم تجرني من الظلم، قال فيقول بلى فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين عليك شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأعضائه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» وَقالُوا يعني الكفار الذين يجرون إلى النار لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ معناه أن القادر الذي خلقكم أول مرة في الدنيا وأنطقكم ثم أعادكم بعد الموت قادر على إنطاق الأعضاء والجوارح وهو قوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقيل تم الكلام عند قوله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ثم ابتدأ بقوله وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقيل إنه ليس من جواب الجلود وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أي تستخفون وقيل معناه تظنون أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ والمعنى أنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ولا تظنون أنها تشهد عليكم وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر (ق). عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون أن الله تعالى يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ قيل الثقفي هو عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية. قوله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أَرْداكُمْ أي أهلككم قال ابن عباس طرحكم في النار فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ثم أخبر عن حالهم بقوله تعالى فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي مسكن وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسترضوا ويطلبوا العتبى والمعتب هو الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المرضيين.

[سورة فصلت (41): الآيات 25 إلى 29]

[سورة فصلت (41): الآيات 25 الى 29] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) وَقَيَّضْنا لَهُمْ أي بعثنا ووكلنا وقيل هيأنا لهم وسببنا لهم قُرَناءَ أي نظراء من الشياطين حتى أضلوهم فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي من أمر الدنيا حتى آثروهم على الآخرة وَما خَلْفَهُمْ أي فدعوهم إلى التكذيب بالآخرة وإنكار البعث وقيل حسنوا لهم أعمالهم القبيحة الماضية والمستقبلة وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب فِي أُمَمٍ أي مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي قريش لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس: والغطوا فيه من اللغط وهو كثرة الأصوات كان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر وقيل أكثروا الكلام حتى يتخلط عليه ما يقول وقيل والغوا فيه بالمكاء والصفير وقيل صيحوا في وجهه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ يعني محمدا على قراءته فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ يعني بأسوأ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي في الدنيا وهو الشرك ذلِكَ أي الذي ذكر من العذاب جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ ثم بين ذلك الجزاء فقال النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي دار الإقامة لا انتقال لهم عنها جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في النار رَبَّنا أي يقولون يا ربنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه لأنهما سنّا المعصية نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي في النار لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي في الدرك الأسفل من النار وقال ابن عباس: ليكونا أشد عذاب منا. [سورة فصلت (41): الآيات 30 الى 33] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قال أهل التحقيق كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته لأجل العمل به، ورأس المعرفة اليقينية معرفة الله تعالى وإليه الإشارة بقوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ورأس الأعمال الصالحة أن يكون الإنسان مستقيما في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط فتكون الاستقامة في أمر الدين والتوحيد فتكون في الأعمال الصالحة. سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان رضي الله تعالى عنه: استقاموا أخلصوا في العمل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وهو قول ابن عباس. وقيل استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وقيل: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وكان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قال ابن عباس عند الموت وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى تكون في

[سورة فصلت (41): الآيات 34 إلى 38]

ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث أَلَّا تَخافُوا أي من الموت وقيل لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة وَلا تَحْزَنُوا أي على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله وقيل لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فأنا أغفرها لكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ أي تقول الملائكة عند نزولهم بالبشرى نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم وقيل تقول لهم الحفظة نحن كنا معكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَنحن أولياؤكم فِي الْآخِرَةِ لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة وَلَكُمْ فِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ أي من الكرامات واللذات وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ أي تتمنون نُزُلًا أي رزقا والنزل رزق النزيل والنزيل هو الضيف مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل والكريم إذا أعطى هذا النزل فما ظنك بما بعده من الألطاف والكرامة. قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعة الله تعالى وقيل هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: هو المؤمن أجاب الله تعالى فيما دعاه إليه ودعا الناس إلى ما أجاب إليه وَعَمِلَ صالِحاً في إجابته وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أرى أن هذه الآية نزلت في المؤذنين وقيل إن كل من دعا إلى الله تعالى بطريق من الطرق فهو داخل في هذه الآية. وللدعوة إلى الله تعالى مراتب: الأولى: دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الله تعالى بالمعجزات وبالحجج والبراهين وبالسيف وهذه المرتبة لم تتفق لغير الأنبياء. المرتبة الثانية: دعوة العلماء إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط والعلماء أقسام علماء بالله وعلماء بصفات الله وعلماء بأحكام الله. المرتبة الثالثة: دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف فهم يجاهدون الكفار حتى يدخلوا في دين الله وطاعته. المرتبة الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم أيضا دعاة إلى الله تعالى وإلى طاعته، وعمل صالحا، قيل: العمل الصالح على قسمين قسم يكون من أعمال القلوب وهو معرفة الله تعالى وقسم يكون بالجوارح وهو سائر الطاعات وقيل: وعمل صالحا صلّى ركعتين بين الأذان والإقامة (ق). عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال في الثالثة لمن شاء» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» أخرجه أبو داود والترمذي، وقال هذا حديث حسن. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قيل ليس الغرض منه القول فقط بل يضم إليه اعتقاد القلب فيعتقد بقلبه دين الإسلام مع التلفظ به. [سورة فصلت (41): الآيات 34 الى 38] وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ يعني الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة

[سورة فصلت (41): الآيات 39 إلى 43]

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال ابن عباس أمره بالصبر عند الغضب وبالحلم عند الجهل وبالعفو عند الإساءة فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي صديق قريب، قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب وذلك حيث لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة وَما يُلَقَّاها أي وما يلقى هذه الخصلة والفعلة وهي دفع السيئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام وما يلقاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من الخير والثواب وقيل الحظ العظيم الجنة يعني ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى ما لا ينبغي ومعنى الآية وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من شره إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لاستعاذتك الْعَلِيمُ بأحوالك. قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أي ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ أي إنهما مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي المستحق للسجود والتعظيم هو الله خالق الليل والنهار والشمس والقمر إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويزعمون أن سجودهم لهذه الكواكب هو سجود لله عز وجل فنهوا عن السجود لهذه الوسائط وأمروا بالسجود لله الذي خلق هذه الأشياء كلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي عن السجود لله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يفترون ولا يملون. (فصل) وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما أنه عند قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وهو قول ابن مسعود والحسن وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد لأن ذكر السجدة قبله والثاني وهو الأصح عند أصحاب الشافعي وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة لأن عنده يتم الكلام. [سورة فصلت (41): الآيات 39 الى 43] وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي يميلون عن الحق فِي آياتِنا أي في أدلتنا قيل بالمكاء والتصدية واللغو واللغط وقيل يكذبون بآياتنا ويعاندون ويشاقون لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا تهديد ووعيد قيل نزلت في أبي جهل أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ هو أبو جهل خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ المعنى الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا آمنون يوم القيامة قيل هو حمزة وقيل عثمان وقيل عمار بن ياسر اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر تهديد ووعيد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها

[سورة فصلت (41): الآيات 44 إلى 47]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن وفي جواب إن وجهان أحدهما أنه محذوف تقديره إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم، والثاني جوابه أولئك ينادون من مكان بعيد ثم أخذ في وصف الذكر فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال ابن عباس: كريم على الله تعالى، وقيل: العزيز العديم النظير وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته وقيل أعزه الله بمعنى منعه فلا يجد الباطل إليه سبيلا وهو قوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قيل الباطل هو الشيطان فلا يستطيع أن يغيره وقيل إنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيأتيه الباطل من خلفه فعلى هذا يكون معنى الباطل الزيادة والنقصان وقيل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله وقيل معناه أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه وقيل: لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان ولا فيما تأخر تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أي في جميع أفعاله حَمِيدٍ أي إلى جميع خلقه بسبب نعمه عليهم ثم عزى الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم على تكذيبهم إياه فقال عز وجل: ما يُقالُ لَكَ أي من الأذى والتكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعني أنه قد قيل للأنبياء قبلك ساحر كما يقال لك وكذبوا كما كذبت إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي لمن تاب وآمن بك وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي لمن أصر على التكذيب. [سورة فصلت (41): الآيات 44 الى 47] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) قوله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس قُرْآناً أَعْجَمِيًّا يعني بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ يعني هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمهاءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعني أكتاب أعجمي ورسول عربي وهذا استفهام إنكار والمعنى لو نزل الكتاب بلغة العجم لقالوا كيف يكون المنزل عليه عربيا والمنزل أعجميا، وقيل في معنى الآية: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أنزلنا الكلام العجمي إلى القوم العرب ولصح قولهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، وأنا لما أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب وهم يفهمونه فكيف يمكنهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر وقيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال إنك تعلم محمدا فقال هو والله يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية قُلْ يا محمد هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يعني من الضلالة وَشِفاءٌ يعني لما في القلوب من مرض الشرك والشك وقيل شفاء من الأوجاع والأسقام وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعني صموا عن استماع القرآن وعموا عنه فلا ينتفعون به أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعني كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم كذلك هؤلاء في قلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني فمصدق به ومكذب كما اختلف قومك في كتابك وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني لفرغ من عذابهم وعجل

[سورة فصلت (41): الآيات 48 إلى 53]

إهلاكهم وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يعني من كتابك وصدقك مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ يعني يعود نفع إيمانه وعمله لنفسه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني ضرر إساءته أو كفره يعود على نفسه أيضا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني فيعذب غير المسيء. قوله عز وجل: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ يعني إذا سأل عنها سائل قيل له لا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله تعالى ولا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها، وقال ابن عباس: هو الكفرى قبل أن ينشق وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي يعلم قدر أيام الحمل وساعاته ومتى يكون الوضع وذكر الحمل هو أم أنثى ومعنى الآية كما يرد إليه علم الساعة فكذلك يرد إليه علم ما يحدث من كل شيء كالثمار والنتاج وغيره. فإن قلت قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشف قولا فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون. قلت أما أصحاب الكشف إذا قالوا قولا فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد لا يصيب وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله تعالى المشركين فيقول أَيْنَ شُرَكائِي أي الذين تدعون أنها آلهة قالُوا يعني المشركين آذَنَّاكَ أي أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي يشهد أن لك شريكا وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام. [سورة فصلت (41): الآيات 48 الى 53] وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي يعبدون في الدنيا وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب. قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي لا يمل الكافر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ يعني لا يزال يسأل ربه الخير وهو المال والغنى والصحة وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والفقر فَيَؤُسٌ أي من روح الله تعالى قَنُوطٌ أي من رحمته وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا أي آتيناه خيرا وعافية وغنى مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة وبلاء أصابه لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي أستحقه بعملي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي ولست على يقين من البعث وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي يقول هذا الكافر أي فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الجنة والمعنى كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا قال ابن عباس لنوقفنهم على مساوي أعمالهم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والفقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير قُلْ أي قل يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي هذا القرآن ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ أي جحدتموه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف للحق بعيد عنه والمعنى فلا أحد أضل منكم سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس يعني منازل

[سورة فصلت (41): آية 54]

الأمم الخالية وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي البلاء والأمراض وقيل ما نزل بهم يوم بدر وقيل في الآفاق هو ما يفتح من القرى والبلاد على محمد صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وفي أنفسهم هو فتح مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني دين الإسلام، وقيل يتبين القرآن أنه من عند الله وقيل يتبين لهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مؤيد من قبل الله تعالى وقيل في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار والنبات وفي أنفسهم يعني من لطيف الحكمة وبديع الصنعة حتى يتبين لهم أنه الحق يعني لا يقدر على هذه الأشياء إلا الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني يشهد أن القرآن من عند الله تعالى، وقيل أولم يكفهم الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله لهم على التوحيد وأنه شاهد لا يغيب عنه شيء. [سورة فصلت (41): آية 54] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من القيامة أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة حم عسق

سورة حم عسق وتسمى سورة الشورى وهي مكية، في قول ابن عباس والجمهور وحكي عن ابن عباس إلا أربع آيات نزلت بالمدينة أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقيل فيها من المدني ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله تعالى: بِذاتِ الصُّدُورِ وقوله وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إلى قوله مِنْ سَبِيلٍ وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا والله أعلم. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) قوله عز وجل: حم عسق سئل الحسين بن الفضل لم قطع حروف حم عسق ولم يقطع حروف المص والمر وكهيعص، فقال: لأنها بين سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره لأن حم عسق عدت آيتين وعدت أخواتها التي لم تقطع آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلا فقال معناها حم الأمر أي قضى وبقي عسق على أصله. وقال ابن عباس ح حلمه م مجده ع علمه س سناه ق قدرته أقسم الله عز وجل بها. وقيل إن العين من العزيز والسين من قدوس والقاف من قاهر وقيل ح حرب في قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز م ملك يتحول من قوم إلى قوم ع عدو لقريش يقصدهم س سنون كسني يوسف ق قدرة الله في خلقه، وقيل هذا في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فالحاء حوضه المورود والميم ملكه الممدود والعين عزه الموجود والسين سناؤه المشهود والقاف قيامه في المقام المحمود وقربه من الملك المعبود وقال ابن عباس ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق فلذلك قال الله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ وقيل معناه كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى الذين من قبلك اللَّهُ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، والمعنى كأنه قيل من يوحي فقال الله العزيز الحكيم ثم وصف نفسه وسعة ملكه فقال تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 4 الى 7] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي من فوق الأرضين وقيل تنفطر كل واحدة فوق التي تليها من عظمة الله تعالى وقيل من قول المشركين اتخذ الله ولدا

[سورة الشورى (42): الآيات 8 إلى 11]

وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق بجلاله وقيل يصلون بأمر ربهم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من المؤمنين دون الكفار، لأن الكافر لا يستحق أن تستغفر له الملائكة، وقيل يحتمل أن يكون لجميع من في الأرض أما في حق الكافرين فبواسطة طلب الإيمان لهم ويحتمل أن يكون المراد من الاستغفار لا يعاجلهم بالعقاب وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، وقيل استغفارهم لمن في الأرض هو سؤال الرزق لهم فيدخل فيه المؤمن والكافر أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يعني أنه تعالى يعطي المغفرة التي سألوها ويضم إليها بمنه وكرمه الرحمة العامة الشاملة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي جعلوا له شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يعني رقيب على أحوالهم وأعمالهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني لم توكل بهم حتى تؤخذ بهم إنما أنت نذير وَكَذلِكَ أي ومثل ما ذكرنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني مكة والمراد أهلها وَمَنْ حَوْلَها يعني قرى الأرض كلها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي وتنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله سبحانه وتعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد ذلك يتفرقون وهو قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم قابضا على كفه ومعه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة فقال عبد الله بن عمرو ففيم العمل إذا؟ قال اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ثم قال فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده. [سورة الشورى (42): الآيات 8 الى 11] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً قال ابن عباس: على دين واحد وقيل على ملة الإسلام وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دين الإسلام وَالظَّالِمُونَ أي الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ أي يدفع عنهم العذاب وَلا نَصِيرٍ أي يمنعهم من العذاب أَمِ اتَّخَذُوا يعني الكفار مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قال ابن عباس هو وليك يا محمد وولي من تبعك وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أن من يكون بهذه الصفة فهو الحقيق بأن يتخذ وليا ومن لا يكون بهذه الصفة فليس بولي وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي من أمر الدين فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب وقيل علمه إلى الله وقيل تحاكموا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن حكمه من حكم الله تعالى ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته ذلِكُمُ اللَّهُ يعني الذي يحكم بين المختلفين هو الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ

[سورة الشورى (42): الآيات 12 إلى 15]

يعني وإليه أرجع في كل المهمات فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني من جنسكم أَزْواجاً يعني حلائل، وإنما قال من أنفسكم لأن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ يعني يخلقكم وقيل يكثركم فِيهِ يعني في الرحم وقيل في البطن لأنه قد تقدم ذكر الأزواج وقيل نسلا بعد نسل حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل وقيل الضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطب من الناس والأنعام إلا أنه غلب جانب الناس وهم العقلاء على غير العقلاء من الأنعام، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به أي يكثركم بالتزويج لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ المثل صلة أي ليس كهو شيء وقيل الكاف صلة مجازه ليس مثله شيء، قال ابن عباس: ليس له نظير. فإن قلت هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقتضي إثبات المثل فما الفرق. قلت المثل الذي يكون مساويا في بعض الصفات الخارجية على الماهية فقوله ليس كمثله شيء معناه ليس له نظير، كما قاله ابن عباس أو يكون معناه ليس لذاته سبحانه وتعالى مثل وقوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى معناه وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد فقد ظهر بهذا التفسير معنى الآيتين وحصل الفرق بينهما وَهُوَ السَّمِيعُ يعني لسائر المسموعات الْبَصِيرُ يعني المبصرات. [سورة الشورى (42): الآيات 12 الى 15] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني مفاتيح الرزق في السموات يعني المطر وفي الأرض يعني النبات يدل عليه قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي أنه يوسع على ن يشاء ويضيق على من يشاء لأن مفاتيح الرزق بيده إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي من البسط والتضييق. قوله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أي ما بين وسن لكم طريقا واضحا من الدين، أي دينا تطابقت على صحته الأنبياء وهو قوله تعالى: ما وَصَّى بِهِ نُوحاً أي أنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد دينا واحدا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي من القرآن وشرائع الإسلام وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة وأولو العزم. ثم فسر المشروع الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من رسله بقوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ والمراد بإقامة الدين هو توحيد الله والإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر وطاعة الله في أوامره ونواهيه وسائر ما يكون الرجل به مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة قال الله

[سورة الشورى (42): الآيات 16 إلى 18]

تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وقيل أراد تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقيل تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنه مجمع على تحريمهن، وقيل لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله تعالى بالوحدانية والطاعة وقيل بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من التوحيد ورفض الأوثان اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي يصطفي لدينه من يشاء من عباده وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يقبل على طاعته وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي بأن الفرقة ضلالة بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وقيل بغيا منهم على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي في تأخير العذاب عنهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين من آمن وكفر يعني لأنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أنبيائهم وقيل الأمم الخالية لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يؤمنون به مُرِيبٍ يعني مرتابين شاكين فيه فَلِذلِكَ أي إلى ذلك فَادْعُ أي إلى ما وصى الله تعالى به الأنبياء من التوحيد وقيل لأجل ما حدث به من الاختلاف في الدين الكثير فادع أنت إلى الاتفاق على الملة الحنيفية وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي أثبت على الدين الذي أمرت به وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي المختلفة الباطلة وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي آمنت بكتب الله المنزلة كلها وذلك لأن المتفرقين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال ابن عباس أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام وقيل لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء وقيل لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم وتحاكمتم إلى اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن إله الكل واحد وكل أحد مخصوص بعمل نفسه وإن اختلفت أعمالنا فكل يجازي بعمله لا حُجَّةَ أي لا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ وهذه الآية منسوخة بآية القتال إذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة فلم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أي في المعاد لفصل القضاء وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. [سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 18] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دين الله قيل هم اليهود قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس لدين الله تعالى فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزة نبيه صلّى الله عليه وسلّم حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي خصومتهم باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي في الآخرة اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي وقت إتيانها قريب وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا تكذيبا له متى تكون الساعة فأنزل الله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها أي ظنا منهم أنها غير آتية وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ أي خائفون مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي أنها آتية لا شك فيها أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ أي يخاصمون فِي السَّاعَةِ وقيل يشكون فيها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42): الآيات 19 إلى 23]

[سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 23] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان إليهم، قال ابن عباس: حفي بهم وقيل رفيق وقيل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم يدل عليه قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعني أن الإحسان والبر إنعام في حق كل العباد وهو إعطاء ما لا بد منه فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه، وقيل لطفه في الرزق من وجهين أحدهما أنه جعل رزقكم من الطيبات والثاني أنه لم يدفعه إليكم مرة واحدة وَهُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على كل ما يشاء الْعَزِيزُ أي الذي لا يغالب ولا يدافع مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أي كسب الآخرة والمعنى من كان يريد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي بالتضعيف الواحدة إلى عشرة إلى ما يشاء الله تعالى من الزيادة، وقيل إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعة إليه وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني يريد بعمله الدنيا مؤثرا لها على الآخرة نُؤْتِهِ مِنْها أي ما قدر وقسم له منها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يعني لأنه لم يعمل لها، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» ذكره في جامع الأصول ولم يعزه إلى أحد من الكتب الستة وأخرجه البغوي بإسناده. قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ يعني كفار مكة شُرَكاءُ يعني الأصنام وقيل الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ قال ابن عباس شرعوا لهم غير دين الإسلام ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يعني أن تلك الشرائع بأسرها على خلاف دين الله تعالى الذي أمر به وذلك أنهم زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم لا يعلمون غيرها وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ يعني أن الله حكم بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة تَرَى الظَّالِمِينَ يعني يوم القيامة مُشْفِقِينَ أي وجلين خائفين مِمَّا كَسَبُوا أي من الشرك والأعمال الخبيثة وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي جزاء كسبهم واقع بهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأن هذه الروضات أطيب بقاع الجنة فلذلك خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بها وفيه تنبيه على أن الجنة منازل غير الروضات هي لمن هو دون الذين عملوا الصالحات من أهل القبلة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي من الكرامة ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ أي الذي ذكر من نعيم الجنة الذي يبشر الله به عباده الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قوله عز وجل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة أَجْراً أي جزاء إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: عجبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن بطن من قريش إلا وله فيهم قرابة فقال ألا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وعن ابن عباس أيضا في قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى: يعني أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي، وإليه

[سورة الشورى (42): الآيات 24 إلى 25]

ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضحاك (خ) عن ابن عمر أن أبا بكر قال: ارقبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم في أهل بيته واختلفوا في قرابته، فقيل علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أهل بيته من تحرم عليه الصدقة من أقاربه وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام (م). عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به» فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ثم قال «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين من أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرمت عليهم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس». فإن قلت طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي لا يجوز لقوله في قصة نوح عليه السلام وغيره من الأنبياء وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. قلت لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة. بقي الجواب عن قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. فالجواب عنه من وجهين: الأول معناه لا أطلب منكم إلا هذه وهذا في الحقيقة ليس بأجر ومنه قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب معناه إذا كان هذا عيبهم فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين كان في أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى فقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى المودة في القربى ليست أجرا في الحقيقة لأن قرابته قرابتهم فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم فثبت أن لا أجر البتة، والوجه الثاني أن هذا الاستثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قل لا أسألكم عليه أجرا ثم ابتدأ فقال إلا المودة في القربى أي لكن أذكركم المودة في قرابتي الذين هم قرابتكم فلا تؤذوهم وقيل: إن هذه الآية منسوخة وذلك لأنها نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلة رحمه فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من النبيين فأنزل الله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فصارت هذه الآية ناسخة لقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وإليه ذهب الضحاك والحسين بن الفضل، والقول بنسخ هذه الآية غير مرضي لأن مودة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه من فرائض الدين وهو قول السلف فلا يجوز المصير إلى نسخ هذه الآية. وروي عن ابن عباس في معنى الآية قول آخر قال: إلا أن توادوا الله وتتقربوا إليه بطاعته وهو قول الحسن قال هو القربى إلى الله يقول إلا التقرب إلى الله تعالى والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي بالتضعيف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب شَكُورٌ أي للقليل من الأعمال حتى يضاعفها. [سورة الشورى (42): الآيات 24 الى 25] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) أَمْ يَقُولُونَ أي بل يقول كفار مكة افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيه توبيخ لهم معناه أيقع في قلوبهم ويجري

على لسانهم أن ينسبوا مثله إلى الكذب وأنه افترى على الله كذبا وهو أقبح أنواع الكذب فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أي يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم وقولهم إنه مفتر وقيل معناه يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله بالفعل به ما أخبر به في هذه الآية وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أخبره الله تعالى أن ما يقولونه الباطل والله عز وجل يمحوه وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يحق الإسلام بما أنزل من كتابه وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال ابن عباس: لما نزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره أنهم اتهموه وأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أولياؤه وأهل طاعته. (فصل في ذكر التوبة وحكمها) قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا. فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة وإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة والشرط الرابع أن يبرأ من حق صاحبها فهذه شروط التوبة وقيل التوبة الانتقال عن المعاصي نية وفعلا والإقبال على الطاعات نية وفعلا، وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة (خ). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (م) عن الأغر بن بشار المزني قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقذ ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده الدوية الفلاة والمفازة» (ق) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها» الآية أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م). عن أبي موسى

[سورة الشورى (42): الآيات 26 إلى 28]

الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقوله عز وجل: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي يمحوها إذا تابوا وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعين من خير وشر فيجازيهم عليهم. [سورة الشورى (42): الآيات 26 الى 28] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني يجيب المؤمنون الله تعالى فيما دعاهم لطاعته وقيل معناه ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه، وقال ابن عباس: ويثبت الذين آمنوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه، وقال ابن عباس: يشفعهم في إخوانهم ويزيدهم من فضله، قال في إخوان إخوانهم وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ قوله عز وجل: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي وسع الله الرزق لعباده لَبَغَوْا أي لطغوا وعتوا فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس، وقيل: إن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة رجع إلى مقتضى طبعه وهو التكبر وإذا وقع في شدة ومكروه وفقر انكسر فرجع إلى الطاعة والتواضع، وقيل: إن البغي مع القبض والفقر أقل ومع البسط والغنى أكثر لأن النفس مائلة إلى الشر لكنها إذا كانت فاقدة لآلاته كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ يعني الأرزاق نظرا لمصالح عباده وهو قوله تعالى: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ والمعنى أنه تعالى عالم بأحوال عباده وبطبائعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم يدل على ذلك ما روى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله عز وجل قال «يقول الله عز وجل من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى لو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» أخرجه البغوي بإسناده. قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي يئس الناس منه وذلك أدعى لهم إلى الشكر قيل حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ثم أنزل الله عز وجل المطر فذكرهم نعمته لأن الفرح بحصول النعمة بعد الشدة أتم وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي يبسط بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب وَهُوَ الْوَلِيُّ أي لأهل طاعته الْحَمِيدُ أي المحمود على ما يوصل إلى الخلق من أقسام رحمته.

[سورة الشورى (42): الآيات 29 إلى 33]

[سورة الشورى (42): الآيات 29 الى 33] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ أي أوجد فِيهِما أي في السموات والأرض مِنْ دابَّةٍ. فإن قلت كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة. قلت الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما يوصف به الإنسان، وقيل: يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يدبون دبيب الإنسان وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يعني يوم القيامة. قوله عز وجل: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع والأسقام والقحط والغلاء والغرق والصواعق وغير ذلك من المصائب فبما كسبت أيديكم من الذنوب والمعاصي وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لكم يا علي ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أي من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن الله ليرفعه لها إلا بها (ق). عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين فِي الْأَرْضِ هربا يعني لا تعجزوني حيثما كنتم وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ يعني السفن وهي السيارة فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالقصور وكل شيء مرتفع عند العرب فهو علم إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي التي تجري بها السفن فَيَظْلَلْنَ يعني السفن الجواري رَواكِدَ أي ثوابت عَلى ظَهْرِهِ أي ظهر البحر لا تجري إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وهذه صفة المؤمن لأنه يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء. [سورة الشورى (42): الآيات 34 الى 39] أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي يغرقهن ويهلكهن بِما كَسَبُوا أي بما كسبت ركابها من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي من ذنوبهم فلا يعاقب عليها وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله تعالى ما لهم من مهرب من عذابه فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي من زينة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ليس هو من زاد المعاد وَما عِنْدَ اللَّهِ أي من الثواب خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

[سورة الشورى (42): الآيات 40 إلى 44]

والمعنى أن المؤمن والكافر يستويان في متاع الحياة الدنيا فإذا صارا إلى الله تعالى كان ما عند الله من الثواب خيرا وأبقى للمؤمن وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعني كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة وشبه ذلك وَالْفَواحِشَ يعني ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني يكظمون الغيظ ويجهلون وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ يعني أجابوا إلى ما دعاهم إليه من طاعته وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يعني يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون ولا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه قيل. ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ يعني الظلم والعدوان هُمْ يَنْتَصِرُونَ يعني ينتقمون من ظالمهم من غير تعد قال ابن زيد جعل الله تعالى المؤمنين صنفين صنف يعفون عمن ظلمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فإذا قدروا عفوا. وقيل: إن العفو إغراء للسفيه وقال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ثم مكنهم الله عز وجل في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم ثم بين الله تعالى أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 40 الى 44] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة وقيل لأن الجزاء يسوء من ينزل به، وقيل هو جزاء القبيح إذا قال أخزاك الله فقل له أخزاك الله ولا تزد وإذا شتمك فاشتمه بمثلها ولا تعتدوا وقيل هو في القصاص في الجراحات والدماء يقتص بمثل ما جنى عليه وقيل إن الله تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: فَمَنْ عَفا أي عمن ظلمه وَأَصْلَحَ أي بالعفو بينه وبين الظالم فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي بعقوبة ومؤاخذة إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدؤون بالظالم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يعملون فيها بالمعاصي أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ أي لم ينتصر وَغَفَرَ تجاوز عن ظالمه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني تركه الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة التي أمر الله عز وجل بها وقيل إن الصابر يؤتي بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزما وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يعني ماله من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه أو يمنعه من عذابه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يعني يوم القيامة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يعني أنهم يسألون الرجعة إلى الدنيا.

[سورة الشورى (42): الآيات 45 إلى 49]

[سورة الشورى (42): الآيات 45 الى 49] وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي خاضعين متواضعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ يعني يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم، وقيل ينظرون بطرف خفي أي ضعيف من الذل، وقيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا والنظر بالقلب خفي وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بأن صاروا إلى النار. وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني وخسروا أهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي وصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى فقد استدت عليهم طرق الخير اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا داعي الله يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة وقيل هو يوم الموت ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي ما لكم من مخلص من العذاب وقيل من الموت وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي ينكر حالكم وقيل النكير الإنكار يعني لا تقدرون أن تنكروا من أعمالكم شيئا فَإِنْ أَعْرَضُوا أي عن الإجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي تحفظ أعمالهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي ليس عليك إلا البلاغ وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً قال ابن عباس: يعني الغنى والصحة فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي قحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الأعمال الخبيثة فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي لما تقدم من نعمة الله تعالى عليه. قوله عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني له التصرف فيهما بما يريد يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لا يقدر أحد أن يعترض عليه في ملكه وإرادته يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أي فلا يولد له ذكر وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي فلا يولد له أنثى. [سورة الشورى (42): الآيات 50 الى 52] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يجمع بينهما فيولد له الذكور والإناث وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي فلا يولد له ولد، وقيل هذا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فقوله يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ولد له أربع بنين وأربع بنات ويجعل من يشاء عقيما يعني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لم يولد لهما وهذا على وجه التمثيل وإلا فالآية عامة في جميع الناس إِنَّهُ عَلِيمٌ أي بما يخلق قَدِيرٌ أي على ما يريد أن يخلق.

[سورة الشورى (42): آية 53]

قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قيل في سبب نزولها: إن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى صلّى الله عليه وسلّم ونظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده وهو وحي وكما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي يسمعه كلامه من وراء حجاب ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني من الملائكة إما جبريل أو غيره فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يعني يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في الدنيا ويأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله تعالى في سورة النجم إِنَّهُ عَلِيٌّ أي عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ أي في جميع أفعاله. قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قال ابن عباس: نبوة، وقيل: قرآنا لأن به حياة الأرواح، وقيل: رحمة وقيل جبريل ما كُنْتَ تَدْرِي أي قبل الوحي مَا الْكِتابُ يعني القرآن وَلَا الْإِيمانُ اختلف العلماء في هذه الآية مع اتفاقهم على أن الأنبياء قبل النبوة كانوا مؤمنين فقيل معناه ما كنت تدري قبل الوحي شرائع الإيمان ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق عن ابن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة دليله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله تعالى لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قبل النبوة يوحد الله تعالى ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب وكان يتعبد على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم تتبين له شرائع دينه إلا بعد الوحي إليه وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً قال ابن عباس يعني الإيمان وقيل القرآن لأنه يهتدي به من الضلالة وهو قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي أي لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى دين الإسلام. [سورة الشورى (42): آية 53] صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) صِراطِ اللَّهِ يعني دين الله الذي شرعه لعباده الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ يعني أمور الخلائق في الآخرة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية وهي تسع وثمانون آية وثلاث وثلاثون كلمة «1» وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) قوله عز وجل: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ أقسم بالكتاب وهو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة وقيل المبين يعني الواضح للمتدبرين وجواب القسم إِنَّا جَعَلْناهُ أي صيرنا هذا الكتاب عربيا وقيل بيناه وقيل سميناه وقيل وصفناه وقيل أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني معانيه وأحكامه وَإِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: أول ما خلق الله عز وجل القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ثم قرأ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا أي عندنا فالقرآن مثبت عند الله تعالى في اللوح المحفوظ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أخبر عن شرفه وعلو منزلته، والمعنى إن كذبتم يا أهل مكة بالقرآن فإنه عندنا لعليّ أي رفيع شريف، وقيل على علي جميع الكتب حكيم أي محكم لا يتطرق إليه الفساد والبطلان. قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً معناه أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمر ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان وهو قوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ والمعنى لا نفعل ذلك قال قتادة والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله عز وجل عاد بعائدته وكرامته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء الله، وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين أي معرضين عنكم، وقيل: معناه أفنطوي الذكر عنكم طيا فلا تدعون ولا توعظون وقيل أفنترككم فلا نعاقبكم على كفركم. [سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 12] وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12)

_ (1) (قوله وثلاث وثلاثون كلمة) كذا بالأصل ولا يخفى ما فيه اهـ مصححه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 13 إلى 18]

وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني كاستهزاء قومك بك وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي أقوى من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي صفتهم والمعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي والعقوبة. قوله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي ولئن سألت يا محمد قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يعني أنهم أقروا بأن الله تعالى خلقهما وأقروا بعزته وعلمه ومع إقرارهم بذلك عبدوا غيره وأنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها ولما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم فَأَنْشَرْنا بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من قبوركم أحياء وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف والأنواع كلها قيل إن كل ما سوى الله تعالى فهو زوج وهو الفرد المنزه عن الأضداد والأنداد والزوجية وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ يعني في البر والبحر. [سورة الزخرف (43): الآيات 13 الى 18] لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي على ظهور الفلك والأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعني بتسخير المركب في البر والبحر وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي ذلل لنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وقيل ضابطين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي لمنصرفون في المعاد (م) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» قوله وعثاء السفر: يعني تعبه وشدته ومشقته وكآبة المنظر وسوء المنقلب الكآبة الحزن والمنقلب المرجع وذلك أن يعود من سفره حزينا كئيبا أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال. عن علي بن أبي ربيعة قال «شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاث مرات ثم قال الله أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل كما فعلت فقلت يا رسول الله من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً يعني ولدا وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الأب

[سورة الزخرف (43): الآيات 19 إلى 23]

ومعنى جعلوا هنا حكموا وأثبتوا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي لجحود نعم الله تعالى عليه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ هذا استفهام إنكار وتوبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات وَأَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبها لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد والمعنى أنهم نسبوا إليه البنات ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له وقد ولد لك بنت اغتم وتربد وجهه غيظا وأسفا وهو قوله تعالى: ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي من الحزن والغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ما شينا وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة ربي ذي اقتدار فينا قوله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يعني أو من يتربى فِي الْحِلْيَةِ يعني في الزينة والنعمة والمعنى أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ولولا نقصانها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بين نقصان حالها بوجه آخر وهو قوله وَهُوَ فِي الْخِصامِ أي المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ للحجة وذلك لضعف حالها وقلة عقلها قال قتادة قلما تكلمت امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. [سورة الزخرف (43): الآيات 19 الى 23] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) وَجَعَلُوا أي وحكموا وأثبتوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ وقرئ عند الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي حضروا خلقهم حين خلقوا وهذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ أي على الملائكة أنهم بنات الله وَيُسْئَلُونَ أي عنها، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: وما يدريكم أنهم بنات الله، قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويسألون عنها في الآخرة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة وقيل الأصنام وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال الله تعالى ردا عليهم. ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني ما هم إلا كاذبون في قولهم إن الله رضي منا بعبادتها، وقيل يكذبون في قولهم إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي يأخذون بما فيه بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وملة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذه المقالة بقوله تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أغنياؤها ورؤساؤها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي بهم.

[سورة الزخرف (43): الآيات 24 إلى 31]

[سورة الزخرف (43): الآيات 24 الى 31] قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى أي بدين هو أصوب مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ فأبوا أن يقبلوا قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي معناه أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله الذي خلقني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي يرشدني إلى دينه وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي لا إله إلا الله كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه من الشرك إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعني كفار مكة وَآباءَهُمْ في الدنيا بالمد في العمر والنعمة ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن وقيل الإسلام وَرَسُولٌ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم مُبِينٌ أي يبين لهم الأحكام وقيل بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والمعجزات وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه فلم يفعلوا بل كذبوا وعصوا وسموه ساحرا وهو قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ قوله عز وجل: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ معناه أنهم قالوا منصب النبوة منصب عظيم شريف لا يليق إلا برجل شريف عظيم كثير المال والجاه من إحدى القريتين وهما مكة والطائف واختلفوا في هذا الرجل العظيم قيل الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف وقيل عتبة بن ربيعة من مكة وكنانة بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وقال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمير الثقفي قال الله تعالى ردا عليهم. [سورة الزخرف (43): الآيات 32 الى 35] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ معناه أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعوها حيث شاؤوا وفيه الإنكار الدال على تجهيلهم والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثلا فقال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا مالكا وهذا مملوكا وهذا قويا وهذا ضعيفا ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإذا عجزوا عن الاعتراض في حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها وذلتها فكيف يقدرون على الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض عبادنا بمنصب النبوة والرسالة والمعنى كما فضلنا بعضهم على بعض كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ثم قال تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا يعني لو أننا سوينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره، وحينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا ولكنا فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا فتسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش فهذا بماله وهذا بعمله فيلتئم قوام العالم وقيل يملك

[سورة الزخرف (43): الآيات 36 إلى 39]

بعضهم بما له بعضا بالملك وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني الجنة خَيْرٌ يعني للمؤمنين مِمَّا يَجْمَعُونَ أي يجمع الكفار من الأموال لأن الدنيا على شرف الزوال والانقراض وفضل الله ورحمته يبقى أبد الآبدين. قوله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي لولا أن يصيروا كلهم كفارا فيجتمعون على الكفر ويرغبون فيه إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيت الكفار أكثر الأسباب المفيدة للتنعم وهو قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ يعني مصاعد ودرجات من فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ يصعدون ويرتقون عليها وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً أي من فضة وَسُرُراً أي ولجعلنا لهم سررا من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي ولجعلنا من ذلك زخرفا وهو الذهب وقيل الزخرف الزينة من كل شيء وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أن الإنسان يستمتع بذلك قليلا ثم ينقضي لأن الدنيا سريعة الزوال والذهاب وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ يعني الجنة خاصة للمتقين الذين تركوا الدنيا. عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو كانت الدنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وعن المستورد بن شداد جد بني فهر قال «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله قال فإن الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا أحبّ الله عبدا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». [سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 39] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ أي يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي فلم يخف عقابه ولم يرد ثوابه وقيل يول ظهره عن القرآن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نسبب له شيطانا ونضمه إليه ونسلطه عليه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يعني لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني يمنعونهم عن الهدى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى حَتَّى إِذا جاءَنا يعني الكافر وحده وقرئ جاءنا على التثنية يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة قالَ الكافر لقرينه الشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر القمران ولأبي بكر وعمر العمران، وقيل: أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، والقول الأول أصح فَبِئْسَ الْقَرِينُ يعني الشيطان قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ يعني أشركتم أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف عنكم شيئا، لأن كل واحد من الكفار والشياطين له الحظ الأوفر من العذاب وقيل لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.

[سورة الزخرف (43): الآيات 40 إلى 44]

[سورة الزخرف (43): الآيات 40 الى 44] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب أنهم لا يؤمنون. قوله عز وجل: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي بأن نميتك قبل أن نعذبهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي بالقتل بعدك أَوْ نُرِيَنَّكَ أي في حياتك الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي من العذاب فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي قادرون على ذلك متى شئنا عذبناهم، وأراد به مشركي مكة وقد انتقم منهم يوم بدر وهذا يفيد التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه وعده الانتقام له منهم إما حال حياته أو بعد وفاته، وهذا قول أكثر المفسرين وقيل عني به ما يكون في أمته وقد كان بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم نقمة شديدة في أمته ولكن أكرم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تقربه عينه وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ يعني القرآن إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على دين مستقيم لا يميل عنه إلا الضال وَإِنَّهُ يعني القرآن لَذِكْرٌ أي لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يعني عن حقه وأداء شكره وروى ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل قال لقريش» (ق). عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (خ) عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» وقيل القوم هم العرب والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل ذكر لك أي ذلك شرف لك بما أعطاك الله من النبوة والحكمة ولقومك يعني المؤمنين بما هداهم الله تعالى به وسوف تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه. [سورة الزخرف (43): الآيات 45 الى 50] وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ اختلف العلماء من هؤلاء والمسؤولون فروي عن ابن عباس في رواية عنه «لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعث الله عز وجل له آدم وولده من المرسلين فأذن جبريل ثم أقام وقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من أرسلنا الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا أسأل قد اكتفيت. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسأل فلم يشك ولم يسأل فعلى هذا القول قال بعضهم هذه الآية نزلت ببيت المقدس ليلة أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقال أكثر المفسرين معناه سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول ابن عباس في أكثر الروايات عنه ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ومقاتل ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل.

[سورة الزخرف (43): الآيات 51 إلى 57]

قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي يسخرون وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي قرينتها التي قبلها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت هذه آيات ودلالات لموسى عليه الصلاة والسلام وعذابا لهم وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن كفرهم وَقالُوا يعني لموسى عليه الصلاة والسلام لما عاينوا العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أي العالم الكامل الحاذق وإنما قالوا ذلك له تعظيما وتوقيرا لأن السحر كان عندهم علما عظيما وصنعة ممدوحة وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أخبرتنا عن عهده إليك أنا إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله أن يكشفه عنا إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي لمؤمنون فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم. [سورة الزخرف (43): الآيات 51 الى 57] وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني أنهار النيل الكبار وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني، وقيل تجري بأمري أَفَلا تُبْصِرُونَ أي عظمتي وشدة ملكي أَمْ أَنَا أي بل أنا خَيْرٌ وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين وقيل فيه إضمار مجازه أفلا تبصرون أم تبصرون ثم ابتدأ فقال أنا خير مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف حقير يعني موسى وَلا يَكادُ يُبِينُ أي يفصح بكلامه للثغته التي كانت في لسانه وإنما عابه بذلك لما كان عليه أولا وقيل معناه ولا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أي إن كان صادقا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ قيل إنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدا تجب طاعته أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي متتابعين يقارن بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينوه على أمره. قال الله تعالى: فَاسْتَخَفَّ يعني فرعون قَوْمَهُ يعني القبط أي وجدهم جهالا وقيل حملهم على الخفة والجهل فَأَطاعُوهُ أي على تكذيب موسى إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني حيث أطاعوا فرعون فيما استخفهم به فَلَمَّا آسَفُونا أي أغضبونا وهو في حق الله وإرادته العقاب وهو قوله تعالى: انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ يعني جعلنا المتقدمين الماضين عبرة وموعظة لمن يجيء من بعدهم. قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وذلك لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقد تقدم ذكره في سورة الأنبياء ومعنى الآية ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعبادة النصارى إياه إِذا قَوْمُكَ يعني قريشا مِنْهُ أي من المثل يَصِدُّونَ أي

[سورة الزخرف (43): الآيات 58 إلى 61]

يرتفع لهم ضجيج وصياح وفرح وقيل يقولون إن محمدا ما يريد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. [سورة الزخرف (43): الآيات 58 الى 61] وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا وقيل معنى أم هو يعني عيسى والمعنى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن قد رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ يعني هذا المثل لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ هؤلاء الأصنام بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي بالباطل. عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح ثم ذكر عيسى فقال تعالى: إِنْ هُوَ أي ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي بالنبوة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي آية وعبرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خلقه من غير أب وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ الخطاب لأهل مكة مَلائِكَةً معناه لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلا منكم ملائكة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يكونون خلفا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني، وقيل يخلف بعضهم بعضا وَإِنَّهُ يعني عيسى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها (ق). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» وفي رواية أبي داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» (ق) عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم» وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم ويروى أنه ينزل عيسى وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام ليقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن وقيل في معنى الآية وإنه أي وإن القرآن لعلم للساعة أي يعلم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي لا تشكن فيها، وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها وَاتَّبِعُونِ أي على التوحيد هذا أي الذي أنا عليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.

[سورة الزخرف (43): الآيات 62 إلى 66]

[سورة الزخرف (43): الآيات 62 الى 66] وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ أي لا يصرفنكم الشَّيْطانُ أي عن دين الله الذي أمر به إِنَّهُ يعني الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي بالنبوة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي من أحكام التوراة وقيل من اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى وقيل الذي جاء به عيسى الإنجيل وهو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم عيسى في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فيما آمركم به إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف الفرق المتحزبة بعد عيسى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة والمعنى أنها تأتيهم لا محالة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. [سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 71] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) الْأَخِلَّاءُ أي على الكفر والمعصية في الدنيا يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي إن الخلة إذا كانت كذلك صارت عداوة يوم القيامة إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي إلا الموحدين المتحابين في الله عز وجل المجتمعين على طاعته، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية قال: «خليلان مؤمنان وخليلان كافران مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك صلّى الله عليه وسلّم ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب». قوله عز وجل: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ قيل إن الناس حين يبعثون ليس أحد منهم إلا فزع فينادي مناد يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم فيتبعها الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس الناس كلهم غير المسلمين فيقال لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي تسرون وتنعمون يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ جمع صحفة وهي القصعة الواسعة وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو إناء مستدير بلا عروة وَفِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عن عبد الرّحمن بن سابط قال «قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت وسأله آخر فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل قال فلم يقل ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» أخرجه الترمذي وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.

[سورة الزخرف (43): الآيات 72 إلى 81]

[سورة الزخرف (43): الآيات 72 الى 81] وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف عنهم وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي آيسون من رحمة الله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ أي وما عذبناهم بغير ذنب وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي لأنفسهم بما جنوا عليها وَنادَوْا يا مالِكُ يعني يدعون مالكا خازن النار يستغيثون به فيقولون لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا بل لنستريح والمعنى توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيجيبهم بعد ألف سنة قاله ابن عباس، وقيل بعد مائة سنة، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم» قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ قال هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ومعنى ماكثون مقيمون في العذاب لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً أي أحكموا أمرا في المكر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي محكمون أمرا في مجازاتهم إن كاد شرا كدتهم بمثله أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم بَلى نسمع ذلك كله ونعلمه وَرُسُلُنا يعني الحفظة من الملائكة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قوله عز وجل: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الرّحمن فإنه لا شريك له ولا ولد له، وقال ابن عباس: إن كان أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك. وقيل: معناه لو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ولكن لا ولد له، وقيل: العابدين بمعنى الآنفين أي أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد. وقال الزمخشري في معنى الآية: إن كان للرحمن ولد وصح وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق عليها محالا مثلها ثم نزه نفسه عن الولد فقال تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 82 الى 88] سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عما يقولونه من الكذب فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ يعني هو الإله الذي يعبد في السماء وفي الأرض لا إله إلا هو وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في تدبير خلقه الْعَلِيمُ يعني بمصالحهم وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ قيل سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية وأراد بالذين يدعون من دونه آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة بقوله إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ لأنهم عبدوا من دون الله ولهم شفاعة وقيل المراد بالذين يدعون من دونه عيسى وعزير والملائكة فإن الله تعالى لا يملك لأحد من هؤلاء

[سورة الزخرف (43): آية 89]

الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله فمن شهدها بقلبه شفعوا له وهو قوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وقيل يعلمون أن الله عز وجل خلق عيسى وعزيرا والملائكة ويعلمون أنهم عباده وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني أنهم إذا أقروا بأن الله خالق العالم بأسره فكيف قدموا عبادة غيره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني يصرفون عن عبادته إلى غيره وَقِيلِهِ يا رَبِّ يعني قوله محمد صلّى الله عليه وسلّم شاكيا الله ربه يا رب إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: شكا إلى الله تعالى تخلف قومه عن الإيمان، وقال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه. [سورة الزخرف (43): آية 89] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يعني أعرض عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب وَقُلْ سَلامٌ معناه المتاركة، وقيل معناه قل خيرا بدلا من شرهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني عاقبة كفرهم وفيه تهديد لهم وقيل معناه يعلمون أنك صادق، قال مقاتل: نسختها آية السيف والله تعالى أعلم.

سورة الدخان

سورة الدخان مكية وهي سبع وقيل تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وأحد وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) قوله عز وجل: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني المبين ما يحتاج الناس إليه من حلال وحرام وغير ذلك من الأحكام إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل هي ليلة القدر أنزل الله تعالى فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما على حسب الوقائع في عشرين سنة، وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب» أخرجه الترمذي. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي مخوفين عقابنا فِيها أي في تلك الليلة المباركة يُفْرَقُ أي يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي محكم، قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان وقيل هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات، وروى البغوي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى» وعن ابن عباس «إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر» أَمْراً أي أنزلنا أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من الأنبياء. [سورة الدخان (44): الآيات 6 الى 11] رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقيل أنزلناه في ليلة مباركة رحمة من ربك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالهم الْعَلِيمُ أي بأحوالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن الله رب السموات والأرض وما بينهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي من هذا القرآن يَلْعَبُونَ أي يهزئون به لاهون عنه فَارْتَقِبْ أي يا محمد يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (ق) عن مسروق قال: كنا

[سورة الدخان (44): الآيات 12 إلى 16]

جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرّحمن إن قاصا عند باب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين» «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى من الناس إدبارا قال اللهم سبعا كسبع يوسف» وفي رواية «لما دعا قريشا فكذبوه واستعصوا عليه قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرّحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله عز وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله عائِدُونَ قال عبد الله فيكشف عذاب الآخرة يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر وفي رواية للبخاري قالوا: [سورة الدخان (44): الآيات 12 الى 16] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له إن كشفناه عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله إِنَّا مُنْتَقِمُونَ قوله حصت كل شيء بالحاء والصاد المهملتين أي أهلكت واستأصلت كل شيء (ق). عن عبد الله بن مسعود قال: «خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان قيل أصابهم من الجوع كالظلمة في أبصارهم وسبب ذلك أن في سنة القحط العظيم تيبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار ويظلم الهواء والجو وذلك يشبه الدخان وقيل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون الرجل رأسه كالرأس الحنيذ يعني المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي كيف يتذكرون ويتعظون بهذه الحالة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ معناه وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات الظاهرات والآيات البينات الباهرة ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا عنه وَقالُوا مُعَلَّمٌ أي يعلمه بشر مَجْنُونٌ أي تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي الجوع قَلِيلًا أي زمنا يسيرا قيل إلى يوم بدر إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إلى كفركم يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى هو يوم بدر إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي منكم في ذلك اليوم، وهو قول ابن مسعود وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس أنه يوم القيامة.

[سورة الدخان (44): الآيات 17 إلى 27]

[سورة الدخان (44): الآيات 17 الى 27] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني على الله وهو موسى بن عمران عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ يعني على الوحي وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني ببرهان بيّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون وقال ابن عباس: تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي فاتركون لا معي ولا عليّ، وقال ابن عباس: اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي مشركون فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي أجاب الله دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه وَاتْرُكِ الْبَحْرَ أي إذا قطعته أنت وأصحابك رَهْواً أي ساكنا والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه، وقيل اتركه طريقا يابسا وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو كَمْ تَرَكُوا أي بعد الغرق مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس شريف حسن وَنَعْمَةٍ أي وعيش لين رغد كانُوا فِيها أي في تلك النعمة فاكِهِينَ أي ناعمين وقرئ فكهين أي أشرين بطرين. [سورة الدخان (44): الآيات 28 الى 37] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) كَذلِكَ أي أفعل بمن عصاني وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه. عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» فذلك قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، قيل: بكاء السماء حمرة أطرافها، وقال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا فقيل: أو تبكي، فقال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً أي جبارا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي علمه الله تعالى فيهم عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة إِنَّ هؤُلاءِ يعني

مشركي مكة لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه فَأْتُوا بِآبائِنا أي الذين ماتوا قبل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أم ليسوا خيرا من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعا لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه. عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا» وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا: كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار، فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك. وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها الله تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال: إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم. قال تبع أنصفتم فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه وخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما النار ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينها فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن، وقال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.

[سورة الدخان (44): الآيات 38 إلى 46]

وقال كعب ذم الله قومه ولم يذمه. قوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم الكافرة أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. [سورة الدخان (44): الآيات 38 الى 46] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي الذي يفصل الله فيه بين العباد مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يمنعون من عذاب الله إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه من أعدائه الرَّحِيمُ أي بأوليائه المؤمنين، قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي ذي الإثم وهو أبو جهل كَالْمُهْلِ أي كدردي الزيت الأسود يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي في بطون الكفار كَغَلْيِ الْحَمِيمِ يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله كالمهل قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه» أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه. عن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. [سورة الدخان (44): الآيات 47 الى 56] خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) قوله تعالى: خُذُوهُ أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي دافعوه وسوقوه بالعنف إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسط النار ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره ثم يقال له ذُقْ أي هذا العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه الله كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في مجلس أمنوا فيه من الغير فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر. فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي. قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه وتغييره عن

[سورة الدخان (44): الآيات 57 إلى 59]

منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب مُتَقابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا كَذلِكَ أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك وَأكرمناهم بأن زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن وليس هو من عقد التزويج وقيل جعلناهم أزواجا لهن أي جعلناهم اثنين واثنين الحور من النساء النقيات البيض، وقيل يحار الطرف من بياضهن وصفاء لونهن وقيل الحور الشديدات بياض العينين يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يعني أرادوها واشتهوها آمِنِينَ أي من نفادها ومن مضرتها وقيل آمنين فيها من الموت والأوصاب والشيطان لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا إلا وقيل إلا بمعنى لكن، وتقديره ليذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل إنما استثنى الموتة من موت الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله إلى أسباب الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة فكان موتهم في الدنيا كأنه في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. [سورة الدخان (44): الآيات 57 الى 59] فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص من عذاب النار والفوز بالجنة إنما حصل لهم ذلك بفضل الله تعالى وفعل ذلك بهم تفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلنا القرآن على لسانك كناية عن غير مذكور لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون فَارْتَقِبْ أي فانتظر النصر من ربك وقيل انتظر لهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون قهرك بزعمهم وقيل منتظرون موتك قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وعمر بن خثعم أحد رواته وهو ضعيف، وقال البخاري: هو منكر الحديث وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة غفر له» أخرجه الترمذي وقال هشام أبو المقداد أحد رواته ضعيف والله أعلم.

سورة الجاثية

سورة الجاثية وتسمى سورة الشريعة مكية وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة وألفان ومائة وأحد وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) قوله عز وجل: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن في خلق السموات والأرض وهما خلقان عظيمان يدلان على قدرة القادر المختار وهو قوله لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ أي وخلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانا ذا عقل وتمييز وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ أي وما يفرق في الأرض من جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها في الخلق والشكل والصورة آياتٌ دلالات تدل على وحدانية من خلقها وأنه الإله القادر المختار لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني أنه لا إله غيره. [سورة الجاثية (45): الآيات 5 الى 11] وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني بالظلام والضياء والطول والقصر وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ يعني المطر الذي هو سبب أرزاق العباد فَأَحْيا بِهِ أي بالمطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي في مهابها فمنها الصبا والدبور والشمال والجنوب ومنها الحارة والباردة وغير ذلك آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فإن قلت ما وجه هذا الترتيب في قوله لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ولِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ويَعْقِلُونَ. قلت معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في هذه الدلائل النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا أنه الإله القادر على كل شيء ثم إذا أمعنوا النظر ازدادوا إيقانا وزال عنهم اللبس فحينئذ استحكم علمهم وعدوا في زمرة العقلاء الذين عقلوا عن الله مراده في أسرار كتابه تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها

[سورة الجاثية (45): الآيات 12 إلى 17]

عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي بعد كتاب الله وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي كذاب صاحب إثم يعني النضر بن الحارث يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً يعني آيات القرآن اتَّخَذَها هُزُواً أي سخر منها أُولئِكَ إشارة إلى من هذه صفته لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ثم وصفهم فقال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ يعني أمامهم جهنم وذلك جهنم وذلك خزيهم في الدنيا ولهم في الآخرة النار وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا أي من الأموال شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي ولا يغني عنهم ما عبدوا من دون الله من الآلهة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا يعني القرآن هُدىً أي هو هدى من الضلالة وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ. [سورة الجاثية (45): الآيات 12 الى 17] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بسبب التجارة واستخراج منافعه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته على ذلك وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى خلقها ومنافعها فهي مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع بها جَمِيعاً مِنْهُ قال ابن عباس: كل ذلك رحمه منه وقيل كل ذلك تفضل منه وإحسان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. قوله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون بمقته، قال ابن عباس: نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلا من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يعفو عنه وقيل نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية ثم نسخها بآية القتال لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من الأعمال ثم فسر ذلك فقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ يعني التوراة وَالْحُكْمَ يعني معرفة أحكام الله وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلالات وهو ما وسع عليهم في الدنيا وأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم وأنزل عليهم المن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي بيان الحلال والحرام وقيل العلم ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وما بين لهم من أمره فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ معناه التعجب من حالهم وذلك لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الاختلاف وهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف وذلك أنه لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما كان مقصودهم منه طلب الرياسة والتقدم ثم إنهم لما علموا عاندوا وأظهروا النزاع والحسد والاختلاف إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

[سورة الجاثية (45): الآيات 18 إلى 23]

[سورة الجاثية (45): الآيات 18 الى 23] ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد عَلى شَرِيعَةٍ أي على طريقة ومنهاج وسنة بعد موسى مِنَ الْأَمْرِ أي من الدين فَاتَّبِعْها أي اتبع شريعتك الثابتة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني مراد الكافرين وذلك أنهم كانوا يقولون له أرجع إلى دين آبائك فإنهم كانوا أفضل منك قال الله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئا إن اتبعت أهواءهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني إن الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا ولأولى لهم في الآخرة وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي هو ناصرهم في الدنيا ووليهم في الآخرة هذا يعني القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي معالم للناس في الحدود والأحكام يبصرون به وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أي اكتسبوا المعاصي والكفر أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ معناه أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا والمعنى أن المؤمن مؤمن في محياه ومماته في الدنيا والآخرة والكافر كافر في محياه ومماته في الدنيا والآخرة وشتان ما بين الحالين في الحال والمآل ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما يقضون قال مسروق قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ولقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ الآية وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالعدل وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ومعنى الآية أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ذلك لا يتم إلا في القيامة ليحصل التفاوت بين المحقين والمبطلين في الدرجات والدركات. قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن عباس: اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله وقيل معناه اتخذ معبوده ما تهواه نفسه وذلك أن العرب كانت تعبد الحجارة والذهب والفضة فإذا رأوا شيئا أحسن من الأول رموا بالأول وكسروه وعبدوا الآخر وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي علما منه بعاقبة أمره وقيل على ما سبق في علم الله أنه ضال قبل أن يخلقه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ أي فلم يسمع الهدى ولم يعقله بقلبه وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً يعني ظلمة فهو لا يبصر الهدى فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد أن أضله الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ قال الواحدي ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره.

[سورة الجاثية (45): الآيات 24 إلى 27]

[سورة الجاثية (45): الآيات 24 الى 27] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَقالُوا يعني منكري البعث. ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعني ما الحياة إلا حياتنا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا يعني يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل تقديره نحيا ونموت وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ يعني وما يفنينا إلا ممر الزمان واختلاف الليل والنهار وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني لم يقولوه عن علم علموه إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» وفي رواية «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليلة ونهاره فإذا شئت قبضتهما» وفي رواية «يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» ومعنى هذه الأحاديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد وسبوا فاعلها كان مرجع سبهم إلى الله تعالى إذا هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر لا الدهر فنهوا عن سبب الدهر قيل لهم لا تسبوا فاعل ذلك فإنه هو الله عز وجل والدهر متصرف فيه يقع به التأثير كما يقع بكم والله أعلم. قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معناه أن منكري البعث احتجوا بأن قالوا إن صح ذلك فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني في ذلك اليوم يظهر خسران أصحاب الأباطيل وهم الكافرون يصيرون إلى النار. [سورة الجاثية (45): الآيات 28 الى 32] وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء قال سلمان الفارسي إن في القيامة ساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على الركب حتى إبراهيم ينادي ربه لا أسألك إلا نفسي كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي الذي فيه أعمالها ويقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من خير وشر هذا كِتابُنا يعني ديوان الحفظة. فإن قلت كيف أضاف الكتاب إليهم أولا بقوله تُدْعى إِلى كِتابِهَا وإليه ثانيا بقوله هذا كِتابُنا. قلت لا منافاة بينهما فإضافته إليهم لأنه كتاب أعمالهم وإضافته إليه لأنه تعالى هو آمر الحفظة بكتبه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أي يشهد عليكم ببيان شاف كأنه ينطق وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم وقيل نستنسخ أي نأخذ نسخته وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب وعليه عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، وقيل الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا

[سورة الجاثية (45): الآيات 33 إلى 37]

يكون إلا من أصل فينسخ كتاب من كتاب فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الظفر الظاهر وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أي يقال لهم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني آيات القرآن فَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني كافرين منكرين قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي البعث كائن وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في أنها كائنة قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أنكرتموها وقلتم إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي ما نعلم ذلك إلا حدسا وتوهما وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي إنها كائنة. [سورة الجاثية (45): الآيات 33 الى 37] وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) وَبَدا لَهُمْ أي في الآخرة سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي في الدنيا والمعنى بدا لهم جزاء سيئاتهم وَحاقَ بِهِمْ أي نزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ما لكم من مانعين يمنعونكم من العذاب ذلِكُمْ أي هذا الجزاء بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني حين قلتم لا بعث ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله والإيمان به لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ معناه فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين فإن مثل الربوبية والعامة توجب الحمد والثناء على كل حال وَلَهُ الْكِبْرِياءُ أي وكبروه فإن له الكبرياء والعظمة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وحق لمثله أن يكبر ويعظم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (م) عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العز إزاره والكبرياء رداؤه» قال الله تعالى: «فمن ينازعني عذبته» لفظ مسلم وأخرجه البرقاني وأبو مسعود رضي الله عنهما يقول الله عز وجل: «العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني شيئا منهما عذبته» ولأبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار». (شرح غريب ألفاظ الحديث) قيل هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب يقولون شعار فلان الزهد ولباسه التقوى فضرب الله عز وجل الإزار والرداء مثلا له في انفراده سبحانه وتعالى بصفة الكبرياء والعظمة، والمعنى أنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشاركه فيهما أحد لأنهما من صفاته اللازمة له المختصة به التي لا تليق بغيره والله أعلم.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية وقيل غير قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وقيل وقوله فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فإنهما نزلتا بالمدينة وهي أربع وقيل خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قوله عز وجل: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب مُعْرِضُونَ أي لا يؤمنون به قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم وقيل برواية عن علم الأنبياء وقيل علامة من علم وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن لله شريكا وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني لا تجيب أبدا ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ سموا القرآن سحرا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال الله عز وجل قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على الله من أجلكم هُوَ أَعْلَمُ أي الله أعلم بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن

[سورة الأحقاف (46): آية 9]

والقول فيه أنه سحر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القرآن جاء من عنده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي في تأخير العذاب عنكم وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به. [سورة الأحقاف (46): آية 9] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قوله تعالى: قُلْ يا محمد ما كُنْتُ بِدْعاً أي بديعا مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبي الله قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الآية وأنزل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فبين الله ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك (خ) عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يدريك أن الله أكرمه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فو الله لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله» وفي رواية غير البخاري قالت «لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار» فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل الله هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي وقيل «لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره الله عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» وقال في أمته «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» فأعلمه ما يصنع به وبأمته وقيل معناه لا أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم ومن الغالب والمغلوب ثم أخبره أنه يظهر دينه على الأديان وأمته على سائر الأمم. وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه ما أتبع غير القرآن الذي يوحى إليّ ولا أبتدع من عندي شيئا وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم العذاب وأبين لكم الشرائع.

[سورة الأحقاف (46): آية 10]

[سورة الأحقاف (46): آية 10] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ماذا تقولون إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ أيها المشركون وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أي أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان به والمعنى إذا كان الأمر كذلك أليس قد ظلمتم وتعديتم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ واختلفوا في هذا الشاهد فقيل هو عبد الله بن سلام آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وشهد بصحة نبوته واستكبر اليهود فلم يؤمنوا يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهو في أرض يخترف النخل فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني بهن آنفا جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها قال أشهد أنك رسول الله ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك زاد في رواية فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه» زاد في رواية «فقال يعني عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله» أخرجه البخاري في صحيحه (ق). «عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله» قال الراوي لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث وقيل الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام قال مسروق في هذه الآية والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقومه ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن وكل يصدق الآخر فيكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن إنها من عند الله كما شهد محمد صلّى الله عليه وسلّم على القرآن أنه كلام الله فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن إن لا يهدي القوم الظالمين. قيل إنه تهديد وهو قائم مقام جواب الشرط المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 11 إلى 15]

[سورة الأحقاف (46): الآيات 11 الى 15] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من اليهود لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً يعني دين محمد صلّى الله عليه وسلّم ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل نزلت في مشركي مكة قالوا لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وقيل الذين كفروا أسد وغطفان قالوا للذين آمنوا يعني جهينة ومزينة لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم قال الله تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ يعني كذب متقدم وَمِنْ قَبْلِهِ يعني من قبل القرآن كِتابُ مُوسى يعني التوراة إِماماً يعني جعلناه إماما يقتدى به وَرَحْمَةً يعني من الله لمن آمن به وَهذا كِتابٌ يعني القرآن مُصَدِّقٌ يعني للكتب التي قبله لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تقدم تفسيره. قوله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً يعني ومدة حمله إلى أن ينفصل من الرضاع وهو الفطام ثلاثون شهرا. فأقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا. قال ابن عباس: إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة وهو قوله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قيل: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وقد تقدمت القصة. وقيل إنها على العموم والأصح أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وذلك أنه صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة فقال هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال الراهب: هذا والله نبي وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر ولا حضر، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بنبوته واختصه برسالته فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي بالإيمان والهداية. وقال علي بن أبي طالب في قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا في أبي بكر أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس: أجابه الله تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضا فقال وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع لأبي بكر إسلام أبويه: أبوه قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وابنه عبد الرّحمن وابن عبد الرّحمن أبي عتيق محمد فهؤلاء أربعة أبو بكر وأبوه وابنه عبد الرّحمن وابن ابنه محمد كلهم أدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلموا ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة غير أبي بكر وقوله: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت إليك إلى كل ما تحب وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: وأسلمت بقلبي ولساني.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 16 إلى 17]

[سورة الأحقاف (46): الآيات 16 الى 17] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن فالأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي مع أصحاب الجنة وَعْدَ الصِّدْقِ يعني الذي وعدهم بأن يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ووعده صدق وقيل: وعدهم بأن يدخلهم الجنة الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ يعني في الدنيا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ يعني إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت أُفٍّ لَكُما وهي كلمة كراهية أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ يعني من قبري حيا وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعني فلم يبعث منهم أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يعني يستصرخان بالله عليه ويقولان له وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني بالبعث فَيَقُولُ ما هذا يعني الذي تدعونني إليه إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال ابن عباس نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. وأنكرت عائشة أن يكون قد نزل هذا في عبد الرّحمن بن أبي بكر (خ). عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرّحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال له مروان: هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي والقول الصحيح أنه ليس المراد من الآية شخص معين بل المراد كل شخص كان موصوفا بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث فأبى وأنكر. وقيل نزلت في كل كافر عاقّ لوالديه قال الزجاج: قول من قال إنها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 18 الى 20] أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب وعبد الرّحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب أي وجب عليهم العذاب فِي أُمَمٍ أي مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقيل لكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين والبار والعاق درجات يعني منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قيل درجات الجنة تذهب إلى علو ودرجات النار تذهب إلى أسفل وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ يعني جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قوله عز وجل: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني يجاء بهم فيكشف لهم عنها ويقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها يعني أن كل ما قدر لكم من الطيبات واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الذي فيه ذل وخزي بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ علق هذا العذاب بأمرين، أحدهما: الاستكبار وهو الترفع، ويحتمل أن يكون عن الإيمان، والثاني: الفسق وهو المعاصي، والأول من عمل القلوب، والثاني من عمل الجوارح.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 إلى 25]

(فصل) لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات، آثر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة (ق) «عن عمر بن الخطاب قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله. قال: نعم فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله (ق). «عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (ق) «عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحيم» وفي رواية أخرى قالت: «إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. قال عروة: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ألبانها فيسقينا» عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» أخرجه الترمذي وله عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد أخفت في الله ما لم يخف أحد وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد ولقد أتى عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام إلا شيء يواري إبط بلال (خ). «عن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته» (خ). «عن إبراهيم بن عبد الرّحمن أن عبد الرّحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. قال: وأراه قال: قتل حمزة وهو خير مني، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا برده. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام» وقال جابر بن عبد الله: «رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال عمر: كلما اشتهيت يا جابر اشتريت، أما تخاف هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا؟. [سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 25] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة. وقيل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود، رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم. وقيل: إن عادا كانوا أحياء باليمن وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. والأحقاف: جمع حقف وهو المستطيل من الرمل فيه اعوجاج كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا. وقيل: الأحقاف ما استدار من الرمل وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي

مضت الرسل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبل هود وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى: أن هودا قد أنذرهم بذلك وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا أي عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أن العذاب نازل بنا قالَ يعني هودا إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يعني هو يعلم متى يأتيكم العذاب وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ يعني من الوحي الذي أنزله الله عليّ وأمرني بتبليغه إليكم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ يعني قدر العذاب الذي ينزل بكم فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني رأوا ما يوعدون به من العذاب ثم بينه فقال تعالى: عارِضاً يعني رأوا سحابا عارضا وهو السحاب الذي يعرض في ناحية السماء ثم يطبق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وذلك أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية واد يقال له المغيث وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة فلما رأوا تلك السحابة استبشروا بها ثم قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال الله ردا عليهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ يعني من العذاب ثم بين ماهية ذلك العذاب فقال تعالى: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ثم وصف تلك الريح فقال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها يعني تهلك كل شيء مرت به من رجال عاد وأموالهم يقال: إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة فلما رأوا ذلك، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت الأبواب وصرعتهم. وأمر الله الريح، فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين. ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل واحتملتهم فرمت بهم في البحر. وقيل: إن هودا عليه السلام لما أحس بالريح، خط على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطا فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام. وقيل: إن الله تعالى أمر خازن الريح أن يرسل عليهم مثل مقدار الخاتم فأهلكهم الله بهذا القدر وفي هذا إظهار كمال القدرة (ق) «عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم» زاد في رواية: «وكان إذا رأى غيما عرف في وجهه قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيت غيما عرف في وجهك الكراهة؟ فقال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» وفي رواية قالت «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فرفعته عائشة ذلك فقال وما أدري لعله كما قال قوم هود فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا» الآية وفي رواية أخرى قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا المخيلة: السحاب الذي يظن فيه مطر. وتخيلت السماء: إذا تغيمت. وقولها: سري عنه أي كشف وأزيل عنه ما كان به من الغم والحزن. وقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرئ بالتاء مفتوحة على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: ما ترى يا محمد إلا مساكنهم خاوية عاطلة من السكان ليس فيها أحد وقرئ بالياء مضمومة والمعنى لا يرى إلا آثار مساكنهم لأن الريح لم تبق منها إلا الآثار والمساكن المعطلة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى:

[سورة الأحقاف (46): الآيات 26 إلى 28]

[سورة الأحقاف (46): الآيات 26 الى 28] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر فَلَوْلا يعني فهلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم وَذلِكَ إِفْكُهُمْ يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده وَما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم. [سورة الأحقاف (46): آية 29] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قوله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية. (ذكر القصة في ذلك) قال المفسرون: لما مات أبو طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه، فلما مات وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحشة من قومه، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمير. وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث: لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي» وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين، وأنت

رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك» فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له يأكل منه. ففعل عداس ذلك ثم أقبل بالطبق حتى وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال له: كل. فلما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده قال: بسم الله ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ فقال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبل رأسه ويديه وقدميه قال فقال أحد ابني ربيعة: أما غلامك، فقد أفسده عليك. فلما جاءهم عداس قال له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. فقال له: ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف حتى إذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن نصيبين كانوا قاصدين اليمن وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا به وأجابوا لما سمعوا القرآن فقص الله خبرهم عليه فقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وفي الآية قول آخر وسيأتي في سورة الجن وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس. وروي أن الجن لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه ليعرف الخبر فكان أول بعث بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم فبعثهم إلى تهامة. وقال أبو حمزة: بلغنا أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس فلما رجعوا إلى قومهم قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا وقال جماعة: بل أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله عز وجل إليه نفرا من الجن وهم من أهل نينوى وجمعهم له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود قال عبد الله بن مسعود لم يحضر معه أحد غيري قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق حتى قام عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثال النسور تهوي وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم مع الفجر فانطلق إليّ فقال لي نمت فقلت: لا والله يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول لهم اجلسوا فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت: نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستنجي بالعظم والروث قال: فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال: إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فقلت: يا رسول الله سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق قال ثم تبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأتاني فقال لهم معك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ وقال: تمرة طيبة وماء طهور.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 30 إلى 33]

قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم ثم قال أظهروا؟ فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط. فقال: ما أشبههم بالنفر. الذين صرفوا إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن قلت حديث التوضؤ بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه الخلافيات بأسانيده وأجاب عنها كلها. والذي صح عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا ليلة بات قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرنا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن. زاد في رواية قال الشعبي: وكانوا من جن الجزيرة أخرجه مسلم في صحيحه وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: وإذ صرفنا إليك الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني واذكر إذ بعثنا إليك يا محمد نفرا من الجن. واختلفوا في عدد أولئك النفر فقال ابن عباس: كانوا سبعة من جن نصيبين فجعلهم رسول الله رسلا إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة. وروي عن زر بن حبيش قال: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. وروي أن الجن ثلاثة أصناف: صنف منهم لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف على صور الحيات والكلاب وصنف يحلون ويظعنون ونقل بعضهم أن أولئك الجن كانوا يهودا فأسلموا. قالوا في الجن ملل كثيرة مثل الإنس ففهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام وفي مسلمهم مبتدعة ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع وأطبق المحققون من العلماء على أن الكل مكلفون. سئل ابن عباس هل للجن ثواب؟ فقال: نعم وعليهم عقاب يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير يعود إلى القرآن يعني: فلما حضروا القرآن وقيل يحتمل أنه يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ويكون المعنى: فلما حضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. لأجل استماع القرآن قالُوا أَنْصِتُوا يعني قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمع قراءته ولا يحول بيننا وبين سماعه شيء فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم على سماعه فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من قراءته وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يعني داعين لهم إلى الإيمان مخوفين لهم من المخالفة ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم وذلك بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن والتصديق إلا بعد إيمانهم به وتصديقهم له. [سورة الأحقاف (46): الآيات 30 الى 33] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً قال عطاء: كان دينهم اليهودية ولذلك قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء وذلك أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد وتصديق الأنبياء والإيمان بالمعاد والحشر والنشر وجاء هذا الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم كذلك فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: يهدي إلى دين الحق وهو دين الإسلام ويهدي إلى طريق الجنة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ

[سورة الأحقاف (46): الآيات 34 إلى 35]

اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه لا يوصف بهذا غيره وفي الآية دليل على أنه مبعوث إلى الإنس والجن جميعا قال مقاتل لم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله وَآمِنُوا بِهِ. فإن قلت قوله تعالى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين. قلت: إنما أعاده لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به وأشرفها فلذلك ذكره على التعيين فهو من باب ذكر العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال بعضهم: لفظة من هنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل: هي على أصلها وذلك أن الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام فإذا أسلموا جرت عليهم أحكام الإسلام فمن أتى بذنب أخذ به ما لم يتب منه أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء آخذه بذنبه واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن، فقال قوم: ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار. وتأولوا قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وإليه ذهب أبو حنيفة. وحكي عن الليث قال: ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وعن أبي الزناد قال: إذا قضى بين الناس، قيل لمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون، ترابا. فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وقال الآخرون: لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس وهذا هو الصحيح وهو قول ابن عباس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى. قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقال أرطأة بن المنذر: سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن ثواب؟ قال: نعم وقرأ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال: فالإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها يعني في الجنة. وقوله تعالى: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ يعني لا يعجز الله فيفوته وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يعني أنصارا يمنعونه من الله أُولئِكَ يعني الذين لم يجيبوا داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يعني أنه تعالى خلق هذا الخلق العظيم ولم يعجز عن إبداعه واختراعه وتكوينه بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى يعني أن إعادة الخلق وإحياءه بعد الموت أهون عليه من إبداعه وخلقه فالكل عليه هين إبداع الخلق وإعادته بعد الموت وهو قوله بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إماتة الخلق وإحيائهم لأنه قادر على كل شيء. [سورة الأحقاف (46): الآيات 34 الى 35] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيه إضمار تقديره فيقال لهم أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يعني هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل وهو الحق قالُوا بَلى وَرَبِّنا هذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك وفيه توبيخ وتقريع لهم فعند ذلك قالَ لهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قوله عز وجل: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر. واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيا إلا

كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي. قال: لأن لفظة من في قوله مِنَ الرُّسُلِ للتبين لا للتبعيض كما تقول: ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال قوم: أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبيا لقوله بعد ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله. وقيل: هم ستة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء. وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، في قول، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر على الجب والسجن، وأيوب صبر على الضر. وقال ابن عباس وقتادة: هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني والله لا بد لي من طاعته والله لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله». قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني اصبر على أذاهم لا تستعجل بنزول العذاب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة كأنه صلّى الله عليه وسلّم ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمره الله تعالى بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر بقرب العذاب فقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ يعني من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا يعني في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ يعني أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه قدر ساعة من نهار لأن ما مضى وإن كان طويلا فهو يسير إلى ما يدوم عليهم من العذاب وهو أبد الآبدين بلا انقطاع ولا فناء وتم الكلام عند قوله ساعة من نهار ثم ابتدأ فقال تعالى: بَلاغٌ أي هذا القرآن وما فيه من البينات والهدى بلاغ من الله إليكم. والبلاغ: بمعنى التبليغ فَهَلْ يُهْلَكُ يعني: بالعذاب إذا نزل إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ يعني الخارجين عن الإيمان بالله وطاعته قال الزجاج: تأويله لا يهلك من رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية والله أعلم.

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم مدنية وهي ثمان وثلاثون آية. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) قوله عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطلها ولم يتقبلها منهم. وأراد بالأعمال: ما كانوا يفعلون من أعمال البر في إطعام الطعام، وصلة الأرحام وفك العاني وهو الأسير، وإجارة المستجير، ونحو ذلك. وقال بعضهم: أول هذه السورة متعلق بآخر سورة الأحقاف المتقدمة كأن قائلا قال: كيف يهلك القوم الفاسقون ولهم أعمال صالحة كإطعام الطعام ونحوه من الأعمال والله لا يضيع لعامل عمله ولو كان مثقال ذرة من خير فأخبر بأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم يعني أبطلها لأنها لم تكن لله ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم ليقال عنهم ذلك فلهذا السبب أبطلها الله تعالى وقال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الدائرة عليهم. قال بعضهم: المراد بقوله، الَّذِينَ كَفَرُوا هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر وهم رؤوس كفار قريش منهم أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم. وقيل: هم جميع كفار قريش وقيل هم كفار أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل كافر وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ومنعوا غيرهم عن الدخول في دين الله وهو الإسلام أو منعوا أنفسهم من الدخول في الإسلام أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطلها لأنها كانت لغير الله ومنه قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن عباس الذين كفروا مشركو قريش، والذين آمنوا هم الأنصار وقيل مؤمنو أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل مؤمن آمن بالله ورسوله وهذا هو الأولى ليشمل جميع المؤمنين وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ يعني القرآن الذي أنزله الله على محمد وإنما ذكره بلفظ الاختصاص مع ما يجب من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله تعظيما لشأن القرآن الكريم وتنبيها على أنه لا يتم الإيمان إلا به وأكد ذلك بقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وقيل: معناه أن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الحق لأنه ناسخ للأديان كلها ولا يرد عليه نسخ وقال سفيان الثوري في قوله آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ يعني لم يخالفوه في شيء كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني ستر بأيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم وتوبتهم منها فغفر لهم بذلك ما كان منهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ يعني حالهم وشأنهم وأمرهم بالتوفيق في أمور الدين والتسليط على أمور الدنيا بما أعطاهم من النصر على أعدائهم. وقيل أصلح بالهم يعني قلوبهم لأن القلب إذا

[سورة محمد (47): آية 4]

صلح صلح سائر الجسد وقال ابن عباس عصمهم أيام حياتهم يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ يعني الشيطان وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن ومعنى الآية ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات المؤمنين كائن بسبب إتباع الكفار الباطل وإتباع المؤمنين الحق من ربهم كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ الضمير في أمثالهم راجع إلى الناس على أنه تعالى يضرب للناس أمثال أنفسهم أو أنه راجع إلى الفريقين على معنى أنه تعالى ضرب أمثال الفريقين للناس ليعتبروا بها قال الزجاج كذلك يضرب الله أمثال حسنات المؤمنين وأمثال أعمال الكافرين للناس. [سورة محمد (47): آية 4] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ يعني: فاضربوا رقابهم ضربا. وضرب الرقاب، عبارة عن القتل، إلا أن المراد ضرب الرقاب فقط دون سائر الأعضاء وإنما خص الرقاب بالضرب، لأن قتل الإنسان أشنع ما يكون بضرب رقبته فلذلك خصت بالذكر في الأمر بالقتل ولأن الرأس من أشرف أعضاء البدن فإذا أبين عن بدنه كان أسرع إلى الموت والهلاك بخلاف غيره من الأعضاء حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ يعني بالغنم في القتل وقهرتموهم مأخوذ من الشيء الثخين الغليظ. والمعنى: إذا اثقلتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسرى والمعنى فأسروهم وشدوا وثاقهم حتى لا يفلتوا منكم والوثاق اسم لما يوثق به أي يشد به فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يعني بعد الأسر إما أن تمنوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض وإما أن تفادوهم فداء. (فصل: في حكم الآية) اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وبقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وهذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وإليه ذهب الأوزاعي وأصحاب الرأي قالوا لا يجوز لمن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء بل إما القتل أو الاسترقاق أيهما رأى الإمام. ونقل صاحب الكشاف عن مجاهد قال ليس اليوم من ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق ويجوز أن يكون المراد أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا أو يمن عليهم فيخلوا لقبول الجزية إن كانوا من أهل الذمة ويراد بالفداء أن يفادى بأسراهم أسرى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة والمشهور عنه أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال البالغين من الكفار إذا أسروا بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وهذا القول هو الصحيح ولأنه به عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء بعده (ق) عن أبي هريرة قال: «بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان من الغد قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان من الغد قال: ما عندك يا

[سورة محمد (47): الآيات 5 إلى 7]

ثمامة قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والله ما كان على الأرض أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ قال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لفظ مسلم بطوله واختصره البخاري عن عمران بن حصين قال «أسر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرجلين للذين أسرتهما ثقيف» أخرجه الشافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود بلفظ أطول من هذا. وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها يعني أثقالها وأحمالها والمراد أهل الحرب يعني حتى يضعوا أسلحتهم ويمسكوا عن القتال وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان فسمى الأسلحة وزرا لأنها تحمل. وقيل: الحرب هم المحاربون مثل الشرب والركب. وقيل: الأوزار الآثام. ومعناه: حتى يضع المحاربون أوزارهم بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله. وقيل: معناه حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا. ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر متى الدجال» هكذا ذكره البغوي بغير سند قال الكلبي معناه حتى يسلموا أو يسالموا. قال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ذلِكَ يعني الذي ذكر وبين من حكم الكفار وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ يعني ولو شاء الله لأهلكهم بغير قتال وكفاكم أمرهم وَلكِنْ يعني ولكن أمركم بالقتال لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يعني فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الشهداء وقرئ قاتلوا وهم المجاهدون في سبيل الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ يعني فلن يبطلها بأن يوفيهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله تعالى قال قتادة ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في يوم أحد وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل. [سورة محمد (47): الآيات 5 الى 7] سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) سَيَهْدِيهِمْ يعني أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور في الآخرة إلى الدرجات العلي وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ويرضي أعمالهم ويقبلها وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ يبين لهم منازلهم في الجنة حتى اهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئونها ولا يستدلون عليها كأنهم ساكنوها منذ خلقوا فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ومنزله وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا هذا قول أكثر المفسرين. ونقل عن ابن عباس عرفها لهم طيبها لهم من العرف وهو الريح الطيبة وطعام معرف أي مطيب. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يعني تنصروا دين الله ورسوله وقيل: تنصروا أولياء الله وحزبه يَنْصُرْكُمْ يعني على عدوكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ يعني عند القتال وعلى الصراط.

[سورة محمد (47): الآيات 8 إلى 14]

[سورة محمد (47): الآيات 8 الى 14] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال ابن عباس: يعني بعدا لهم. وقال أبو العالية: سقوطا لهم وقال الضحاك: خيبة لهم. وقال ابن زيد: شقاء لهم. وقيل: التعس في الدنيا العثرة وفي الآخرة التردي في النار. يقال للعاثر: تعسا إذا دعوا عليه ولم يريدوا قيامه وضده لعا إذا دعوا له وأرادوا قيامه وفي هذا إشارة جليلة وهي أنه تعالى لما قال في حق المؤمنين وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، يعني في الحرب والقتال، كان من الجائز أن يتوهم متوهم أن الكافر أيضا يصبر ويثبت قدمه في الحرب والقتال فأخبر الله تعالى أن لكم الثبات أيها المؤمنون ولهم العثار والزوال والهلاك وقال في حق المؤمنين بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقال في حق الكفار بصيغة الدعاء عليهم وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني أبطل أعمالهم لأنها كانت في طاعة الشيطان ذلِكَ يعني التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن الذي فيه النور والهدى وإنما كرهوه لأن فيه الأحكام والتكاليف الشاقة على النفس لأنهم كانوا قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك والأخذ بالجد والاجتهاد في طاعة الله فلهذا السبب كرهوا ما أنزل الله فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ يعني فأبطل أعمالهم التي عملوها في غير طاعة الله ولأن الشرك محبط للعمل. ثم خوف الكفار فقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من الأمم الماضية والقرون الخالية الكافرة دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقال: دمره الله. يعني أهلكه، ودمر عليه إذا أهلك ما يختص به والمعنى أهلك الله عليهم ما يختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وَلِلْكافِرِينَ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَمْثالُها يعني إن لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاءهم به من عند الله وهذا التضعيف إنما يكون في الآخرة ذلِكَ يعني الإهلاك والهوان بِأَنَّ أي بسبب أن اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعني هو ناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ يعني لا ناصر لهم وسبب ذلك أن الكفار لما عبدوا الأصنام وهي جماد لا تضر ولا تنفع ولا تنصر من عبدها فلا جرم ولا ناصر لهم والفرق بين قوله: «وأن الكافرين لا مولى لهم وبين قوله ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحق أن المولى هنا بمعنى الناصر والمولى هناك بمعنى الرب والمالك والله تعالى رب كل أحد من الناس ومالكهم فبان الفرق بين الآيتين ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني هذا لهم في الآخرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ يعني في الدنيا بشهواتها ولذاتها وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ يعني ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم وهم مع ذلك لاهون ساهون عما يراد بهم في غد ولهذا شبههم بالأنعام لأن الأنعام لا عقل لها ولا تمييز وكذلك الكافر لا عقل له ولا تمييز لأنه لو كان له عقل ما عبد ما يضره ولا ينفعه. قيل: المؤمن في الدنيا يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع وإنما وصف الكافر بالتمتع في الدنيا لأنها جنته وهي سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من النعيم العظيم الدائم وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ يعني مقام الكفار في الآخرة. والثواء: المقام في المكان مع الاستقرار فيه، فالنار مثوى الكافرين ومستقرهم. قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني أخرجك أهلها. والمراد بالقرية: مكة. قال ابن عباس: كم من رجال هي أشد قوة من أهل مكة أهلكهم الله يدل عليه قوله أَهْلَكْناهُمْ

[سورة محمد (47): الآيات 15 إلى 17]

ولم يقل أهلكناها فَلا ناصِرَ لَهُمْ يعني فلا مانع يمنعهم من العذاب والهلاك الذي حل بهم قال ابن عباس: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك، فأنزل الله هذه الآية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني على يقين من دينه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وهو الكافر أبو جهل ومن معه من المشركين وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ يعني في عبادة الأوثان. [سورة محمد (47): الآيات 15 الى 17] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) قوله عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ لما بين الله عز وجل حال الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن في هذه الآية ما أعد لكل واحد من الفريقين فبين أولا ما أعد للمؤمنين المتقين فقال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يعني صفة الجنة. قال سيبويه: المثل هو الوصف فمعناه وصف الجن وذلك لا يقتضي مشبها به. وقيل: الممثل به محذوف غير مذكور والمعنى مثل الجنة التي وعد المتقون مثل عجيب وشيء عظيم وقيل: الممثل به مذكور وهو قوله: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ فِيها يعني الجنة التي وعد المتقون أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ يعني غير متغير ولا منتن. يقال: أسن الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ يعني كما تتغير ألبان الدنيا فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ يعني ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر وليس من شرابها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار بل هي لمجرد الالتذاذ فقط وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى يعني ليس فيه شمع كعسل الدنيا ولم يخرج من بطون النحل حتى يموت فيه بعض نحله بل هو خالص صاف من جميع شوائب عسل الدنيا. عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (م) عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» قال الشيح محيي الدين النووي في شرح مسلم: سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان جيحان المذكوران في الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنة وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما ثم ذكر كلاما بعد هذا طويلا. ثم قال: فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة، ففيه تأويلان الثاني، وهو الصحيح، أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة. فالجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة. وقال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر هكذا نقله البغوي عنه. وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ في ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا الحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ فإن قلت: المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة، فكيف يكون له فيها المغفرة. قلت ليس بلازم أن يكون المعنى ولهم مغفرة فيها لأن الواو لا تقتضي الترتيب فيكون المعنى ولهم فيها من

[سورة محمد (47): الآيات 18 إلى 19]

كل الثمرات ولهم مغفرة قبل دخولهم إليها، وجواب آخر وهو أن المعنى ولهم مغفرة فيها برفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف الدنيا فإن مأكولها يترتب عليه حساب وعقاب ونعيم الجنة لا حساب عليه ولا عقاب فيه قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ يعني من هو في هذا النعيم المقيم الدائم كمن هو خالد في النار يتجرع من حميمها وهو قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً يعني شديد الحر قد استعرت عليه جهنم منذ خلقت، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ يعني فخرجت من أدبارهم والأمعاء جمع معي وهو جميع ما في البطن من الحوايا. وقال الزجاج: قوله كمن هو خالد في النار راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد» كما كان أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب حسن صحيح. عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله يسقى من ماء صديد يتجرعه قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا دنا منه وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره. قال الله تعالى: ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ويقول: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني ومن هؤلاء الكفار مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وهم المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا به وتغافلا عنه حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يعني أن هؤلاء المنافقين الذين كانوا عندك يا محمد يستمعون كلامك فإذا خرجوا من عندك قالُوا يعني المنافقين لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني من الصحابة ماذا قالَ آنِفاً يعني ما الذي قال محمد الآن وهو من الائتناف. يقال: ائتنفت الأمر أي ابتدأته قال مقاتل: وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس وقد سئلت فيمن سئل أُولئِكَ يعني المنافقين الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني فلم يؤمنوا ولم ينتفعوا بما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ يعني في الكفر والنفاق والمعنى أنهم لما تركوا إتباع الحق أمات الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا يعني المؤمنين لما بين الله أن المنافق يسمع ولا ينتفع بل هو مصر على متابعة الهوى بين حال المؤمن المهتدي الذي ينتفع بما يستمع فقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا يعني بهداية الله إياهم إلى الإيمان زادَهُمْ هُدىً يعني أنهم كلما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما جاء به عن الله عز وجل آمنوا بما سمعوا منه وصدقوه فيزيدهم ذلك هدى مع هدايتهم وإيمانا مع إيمانهم وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ يعني وفقهم للعمل بما أمرهم به وهو التقوى. وقال سعيد بن جبير: آتاهم ثواب تقواهم، وقيل: آتاهم نفس تقواهم، بمعنى أنه تعالى بيّن لهم التقوى. [سورة محمد (47): الآيات 18 الى 19] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) قوله عز وجل: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً يعني الكافرين والمنافقين الذين قعدوا عن الإيمان فلم يؤمنوا فالساعة بغتة تفجؤهم وهم على كفرهم ونفاقهم ففيه وعيد وتهديد والمعنى لا ينظرون إلى الساعة والساعة آتية لا محالة وسميت القيامة ساعة لسرعة قيامها. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بادروا بالأعمال سبعا فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو

مرضا مفسدا أو هرما مقيدا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي أماراتها وعلاماتها واحدها شرط. ولما كان قيام الساعة أمرا مستبطأ في النفوس وقد قال الله تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فكأن قائلا قال متى يكون قيام الساعة فقال تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قال المفسرون: من أشراط الساعة انشقاق القمر وبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ق). عن سهل بن سعد قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال: بعثت أنا والساعة كهاتين وفي رواية قال بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بإصبعيه يمدهما» (ق) عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل أحدهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى وفي رواية قال بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قيل معنى الحديث أن المراد أن ما بين مبعثه صلّى الله عليه وسلّم وقيام الساعة شيء يسير كما بين الإصبعين في الطول وقيل هو إشارة إلى قرب المجاورة (ق) عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم. وفي رواية ويظهر الزنى ويقل الرجال ويكثر النساء» (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل وفي رواية: يرفع العلم ويثبت الجهل أو قال ويظهر الجهل» (خ) عن أبي هريرة قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديثه فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة قال: ها أنا ذا يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يعني فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة. وقيل: معناه كيف يكون حالهم إذا جاءتهم الساعة فلا تنفعهم الذكرى ولا تقبل منهم التوبة ولا يحتسب بالإيمان في ذلك الوقت فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وأورد على هذا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بالله وأنه لا إله إلا هو فما فائدة هذا الأمر. وأجيب عنه بأن معناه: دم على ما أنت عليه من العلم. فهو كقول القائل للجالس: اجلس أي دم على ما أنت عليه من الجلوس أو يكون معناه ازدد علما إلى علمك. وقيل: إن هذا الخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فالمراد به غيره من أمته. قال أبو العالية وسفيان بن عيينة: هذا متصل بما قبله. معناه: إذا جاءتهم فاعلم أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله الذي لا إله إلا هو. وقيل: معناه فاعلم أنه لا إله إلا الله وأن جميع الممالك تبطل عند قيامها فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله الذي لا إله إلا هو وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار مع أنه مغفور له ليستنّ به أمته وليقتدوا به في ذلك (م) عن الأغر المزني أغر مزينة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر في اليوم مائة مرة وفي رواية قال: توبوا إلى ربكم فو الله إني لأتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم» (خ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وفي رواية أكثر من سبعين مرة» قوله: إنه ليغان على قلبي الغين التغطية والستر أي يلبس على قلبي ويغطي وسبب ذلك ما أطلعه عليه من أحوال أمته بعده فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم. وقيل: إنه لما كان يشغله النظر في أمور المسلمين ومصالحهم حتى يرد أنه قد شغل بذلك وإن كان من أعظم طاعة وأشرف عبادة عن أرفع مقام مما هو فيه وهو التفرد بربه عز وجل وصفاء وقته معه وخلوص

[سورة محمد (47): الآيات 20 إلى 22]

همه من كل شيء سواه فلهذا السبب كان صلّى الله عليه وسلّم يستغفر الله فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: هو مأخوذ من الغين وهو الغيم الرقيق الذي يغشى السماء فكان هذا الشغل والهم يغشى قلبه صلّى الله عليه وسلّم ويغطيه عن غيره فكان يستغفر الله منه وقيل هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه صلّى الله عليه وسلّم وكأن سبب استغفاره لها إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى. وحكى الشيخ محيي الدين النووي عن القاضي عياض، أن المراد به الفترات والغفلات من الذكر الذي كان شأنه صلّى الله عليه وسلّم الدوام عليه فإذا فتر وغفل عد ذلك ذنبا واستغفر منه وحكى الوجوه المتقدمة عنه. وعن غيره. وقال الحارث المحاسبي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام وإجلال وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالى. وقيل: يحتمل أن هذا الغبن حالة حسنة وإعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما قال: أفلا أكون عبدا شكورا. وقيل في معنى الآية: استغفر لذنبك أي لذنوب أهل بيتك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني من غير أهل بيته وهذا إكرام من الله عز وجل لهذه الأمة حيث أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ قال ابن عباس والضحاك: متقلبكم يعني متصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ومثواكم يعني مصيركم إلى الجنة أو إلى النار وقيل: متقلبكم في أشغالكم بالنهار ومثواكم بالليل إلى مضاجعكم وقيل: متقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وبطونهن ومثواكم في الدنيا وفي القبور والمعنى أنه تعالى عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها وإن دق وخفي. [سورة محمد (47): الآيات 20 الى 22] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ وذلك أن المؤمنين كانوا حراصا على الجهاد في سبيل الله فقالوا: فهلا أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد؟ لكي نجاهد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ قال مجاهد: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني نفاقا وهم المنافقون يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يعني شزرا وكراهية منهم للجهاد وجبنا عن لقاء العدو نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعني كما ينظر الشاخص بصره عند معاينة الموت فَأَوْلى لَهُمْ فيه وعيد وتهديد وهو معنى قولهم في التهديد وليك وقاربك ما تكره وتم الكلام عند هذا. ثم ابتدأ بقوله طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فعلى هذا هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة وقول معروف أمثل لهم وأولى بهم. والمعنى: لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن. وقيل: هو متصل بما قبله واللام في لهم بمعنى الباء مجازة فأولى بهم طاعة الله وطاعة رسوله وقول معروف بالإجابة والمعنى لو أطاعوا وأجابوا لكانت الطاعة والإجابة أولى بهم وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء عنه فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فيه حذف تقديره فإذا عزم صاحب الأمر وقيل: هو على أصله ومجازه كقولنا: جاء الأمر ودنا الوقت وهذا أمر متوقع. ومعنى الآية: فإذا عزم الأمر خالف المنافقون وكذبوا فيما وعدوا به فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني الصدق وقيل: معناه لو صدقوا الله في إظهار الإيمان والطاعة لكان ذلك خيرا لهم فَهَلْ عَسَيْتُمْ أي فلعلكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم

[سورة محمد (47): الآيات 23 إلى 26]

عن سماع القرآن وفارقتم أحكامه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قال قتادة كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرّحمن؟ (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الرّحمن شجنة من الرّحمن فقال الله تعالى من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته». وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقو الرّحمن فقال: مه فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها الشجنة: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق. والحقو. مشد الإزار من الإنسان وقد يطلق على الإزار، ولما جعل الرحم شجنة من الرّحمن، استعار لها الاستمساك به والأخذ كما يستمسك القريب من قريبه والنسيب من نسيبه. ومعنى صلة الرحم: مبرة الأقارب والإحسان إليهم وقطع الرحم ضد صلتها والعائذ اللائذ المستجير قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني وليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والده فيتصل بعضه ببعض فسمي ذلك الاتصال رحما. والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وأصلها وعظيم إثم قاطعها ولهذا سمي العقوق قطعا كأنه قطع ذلك السبب المتصل قال: ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بهذا بأمر الله عز وجل هذا كلام القاضي عياض في معنى هذا الحديث والله أعلم وقيل في الآية في قوله إِنْ تَوَلَّيْتُمْ هو من الولاية يعني فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض، يعني بالظلم، وتقطعوا أرحامكم، ومعنى الاستفهام في قوله: فهل عسيتم للتقرير المذكور والمعنى هل يتوقع منكم الإفساد. فإن قلت: عسى طمع وترج وتوقع وذلك على الله محال لأنه تعالى عالم بكل شيء فما معناه. قلت: قال بعضهم معناه: يفعل بكم فعل المترجي المبتلي. وقال بعضهم معناه كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال الزمخشري: معناه أنه لما عهد منكم إحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا. [سورة محمد (47): الآيات 23 الى 26] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) أُولئِكَ إشارة إلى من إذا تولى أفسد في الأرض وقطع الأرحام الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته فَأَصَمَّهُمْ يعني عن سماع الحق وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ يعني عن طريق الهدى وذلك أنهم لما سمعوا القرآن فلم يفهموه ولم يؤمنوا به وأبصروا طريق الحق فلم يسلكوه ولم يتبعوه، فكانوا بمنزلة الصم العمى، وإن كان لهم أسماع وأبصار في الظاهر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني يتكفرون فيه وفي مواعظه وزواجره وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف وخلوص النية أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها

يعني بل على قلوب أقفالها وجعل القفل مثلا لكل مانع للإنسان من تعاطي فعل الطاعة. يقال: فلان مقفل عن كذا، بمعنى ممنوع منه. فإن قلت: إذا كان الله تعالى قد أصمهم وأعمى أبصارهم وأقفل على قلوبهم وهو بمعنى الختم فكيف يمكنهم تدبر القرآن مع هذه الموانع الشديدة. قلت: تكليف ما لا يطاق جائز عندنا، لأن الله أمر بالإيمان لمن سبق في علمه أنه لا يؤمن فكذلك هنا والله يفعل ما يريد لا اعتراض لأحد عليه. وقيل: إن قوله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ المراد به التأسي. وقيل: إن هذه الآية محققة للآية المتقدمة وذلك أن الله تعالى لما قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ فكان قوله أفلا يتدبرون القرآن كالتهييج لهم على ترك ما هم فيه من الكفر الذي استحقوا بسببه اللعنة أو كالتبكيت لهم على إصرارهم على الكفر والله أعلم بمراده. وروى البغوي بإسناد الثعلبي، عن عروة بن الزبير قالا: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به» هذا حديث مرسل وعروة بن الزبير تابعي من كبار التابعين وأجلهم لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه ولد سنة اثنتين وعشرين وقيل غير ذلك. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ يعني رجعوا القهقهرى كفارا مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى يعني من بعد ما وضح لهم طريق الهداية. قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون آمنوا أولا ثم كفروا ثانيا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ يعني زين لهم القبيح حتى رأوه حسنا وَأَمْلى لَهُمْ قرئ بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله يعني أمهلوا ومد لهم في العمر وقرئ وأملى لهم بفتح الألف واللام بمعنى وأملى لهم الشيطان بأن مد لهم في الأمل. فإن قلت: الإملاء والإمهال لا يكونان إلا من الله لأنه الفاعل المطلق وليس للشيطان فعل قط على مذهب أهل السنة، فما معنى هذه القراءة. قلت إن المسول والمملي هو الله تعالى في الحقيقة وليس للشيطان فعل إنما أسند إليه ذلك من حيث إن الله تعالى قدر ذلك على يده ولسانه فالشيطان يمنيهم ويزين لهم القبيح ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر العمر ذلِكَ إشارة إلى التسويل والإملاء بِأَنَّهُمْ يعني بأن أهل الكتاب أو المنافقين قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وهم المشركون سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ يعني من التعاون على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وترك الجهاد معه والقعود عنه وكانوا يقولون ذلك سرا فأخبر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خبرهم ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أمرهم.

[سورة محمد (47): الآيات 27 إلى 32]

[سورة محمد (47): الآيات 27 الى 32] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ يعني ذلك الضرب بِأَنَّهُمُ يعني بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ يعني ترك الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن عباس: بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ يعني كرهوا ما فيه رضوان الله عز وجل وهو الإيمان والطاعة والجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ التي عملوها من أعمال البر لأنها لم تكن لله ولا بأمره أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وهم المنافقون أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ يعني يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرف المؤمنون نفاقهم واحدها ضغن وهو الحقد الشديد. وقال ابن عباس: حسدهم وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ لما قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ فكأن قائلا قال لم لم يخرج أضغانهم ويظهرها فأخبر تعالى أنه إنما أخر ذلك لمحض المشيئة لا لخوف منهم فقال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لا مانع لنا من ذلك. والإراءة بمعنى التعريف والعمل. وقوله: فَلَعَرَفْتَهُمْ لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة الحقيقية كما يقال: عرفته فلم يعرف فكان المعنى هنا عرفناكهم تعريفا تعرفهم به ففيه إشارة إلى قوة ذلك التعريف الذي لا يقع معه اشتباه وقوله بِسِيماهُمْ يعني بعلامتهم أي نجعل لك علامة تعرفهم بها. قال أنس: ما خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ يعني في معنى القول وفحواه ومقصده وللحن معنيان صواب وخطأ صرف الكلام وإزالته عن التصريح إلى المعنى والتعريض وهذا محمود من حيث البلاغة ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فلعل بعضكم ألحن بحجته من بعض» وإليه قصد بقوله وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وأما اللحن المذموم فظاهر وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب أو التصحيف. ومعنى الآية: وإنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضون به من القول من تهجين أمرك وأمر المسلمين وتقبيحه والاستهزاء به فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ونفاقه ثم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ يعني أعمال جميع عباده فيجازي كلّا على قدر عمله. قوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ يعني ولنعاملنكم معاملة المختبر فإن الله تعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها ووجودها حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ يعني إنا نأمركم بالجهاد حتى يظهر المجاهد ويتبين من يبادر منكم ويصبر عليه من غيره لأن المراد من قوله: حتى نعلم، أي علم الوجود والظهور وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ يعني نظهرها ونكشفها ليتبين من يأتي القتال ولا يصبر على الجهاد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ يعني خالفوه فيما أمرهم به من الجهاد وغيره مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى يعني من بعد ما ظهر لهم أدلة الهدى وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني إنما يضرون أنفسهم بذلك والله تعالى منزه عن ذلك وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ يعني وسيبطل أعمالهم فلا يرون لها ثوابا في الآخرة لأنها لم تكن لله تعالى قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر.

[سورة محمد (47): الآيات 33 إلى 37]

[سورة محمد (47): الآيات 33 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لما ذكر الله عز وجل الكفار بسبب مشاقتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قال عطاء: يعني بالشرك والنفاق والمنى. داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان والطاعة ولا تشركوا فتبطل أعمالكم. وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصيانه. وقال الكلبي: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والسمعة لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. وقال الحسن: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي والكبائر. قال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرون أنه لا يضرهم مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا من الكبائر بعد أن نحبط أعمالهم واستدل بهذه الآية من يرى إحباط الطاعات بالمعاصي ولا حجة لهم فيها وذلك لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وقال تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فالله تعالى أعدل وأكرم من أن يبطل طاعات سنين كثيرة بمعصية واحدة وروى ابن عمر أنه قال: كنا نرى أنه لا شيء من حسناتنا إلا مقبولا حتى نزل وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا. فقلنا: الكبائر والفواحش حتى نزل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فكففنا عن ذلك القول وكنا نخاف على من أصاب الكبيرة ونرجو لمن لم يصبها واستدل بهذه الآية من لا يرى إبطال النوافل حتى لو دخل في صلاة تطوع أو صوم تطوع لا يجوز له إبطال ذلك العمل والخروج منه ولا دليل لهم في الآية ولا حجة لأن السنة مبينة للكتاب «وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أصبح صائما فلما رجع إلى البيت وجد حيسا فقال لعائشة قربيه فلقد أصبحت صائما فأكل» وهذا معنى الحديث وليس بلفظه وفي الصحيحين أيضا أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع له طعاما فلما قربه إليه قال. كل فإني صائم قال لست بآكل حتى تأكل فأكل معه وقال مقاتل في معنى الآية لا تمنوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتبطل أعمالكم نزلت في بني أسد وسنذكر القصة في تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قيل نزلت في أهل القليب وهم أبو جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر وألقوا في قليب بدر وحكمها عام في كل كافر مات على كفره فالله لا يغفر له لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَلا تَهِنُوا الخطاب فيه لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم هو عام لجميع المسلمين يعني فلا تضعفوا أيها المؤمنون وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ يعني ولا تدعوا الكفار إلى الصلح أبدا منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني وأنتم الغالبون لهم والعالون عليهم. أخبر الله تعالى أن الأمر للمسلمين والنصرة والغلبة لهم عليهم وإن غلبوا المسلمين في بعض الأوقات وَاللَّهُ مَعَكُمْ يعني بالنصر والمعونة ومن كان الله معه فهو العالي الغالب وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ يعني لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم. وقال ابن عباس وغيره: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها ثم حض على الآخرة بذم الدنيا فقال تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي باطل وغرور يعني كيف تمنعكم الدنيا عن طلب الآخرة وقد علمتم أن الدنيا كلها لعب ولهو إلا ما كان منها في عبادة لله عز وجل وطاعته واللعب ما يشغل الإنسان وليس فيه منفعة في الحال ولا في المآل ثم إذا استعمله الإنسان ولم يشغله عن غيره ولم ينسه أشغله المهمة فهو اللعب وإن أشغله عن مهمات نفسه فهو اللهو وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ يعني يؤتكم جزاء أعمالكم في الآخرة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يعني أن الله تعالى لا يسأل من العباد أموالهم لإيتاء الأجر عليهم، بل يأمرهم بالإيمان والتقوى والطاعة ليثيبهم عليها الجنة. وقيل: معناه ولا يسألكم محمد صلّى الله عليه وسلّم أموالكم وقيل: معناه لا يسألكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أموالكم

[سورة محمد (47): آية 38]

كلها في الصدقات إنما يسألكم غيضا من فيض وهو ربع العشر من أموالكم وهو زكاة أموالكم ثم ترد عليكم ليس لله ورسوله فيها حاجة إنما فرضها الله تعالى في أموال الأغنياء وردها على الفقراء فطيبوا بإخراج الزكاة أنفسكم. وإلى هذا القول ذهب سفيان بن عيينة ويدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها الضمير عائد إلى الأموال فَيُحْفِكُمْ يعني يجهدكم ويطلبها كلها والإحفاء المبالغة في المسألة وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح تَبْخَلُوا يعني بالمال فلا تعطوه وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ يعني بغضكم وعداوتكم لشدة محبتكم للأموال قال قتادة علم الله أن الإحفاء بمسألة الأموال مخرج للأضغان. [سورة محمد (47): آية 38] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني أنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصفون ثم استأنف وصفهم فقال تعالى: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل أراد به النفقة في الجهاد والغزو وقيل المراد به إخراج الزكاة وجميع وجوه البر والكل في سبيل الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ يعني بما فرض عليه إخراجه من الزكاة أو ندب إلى إنفاقه في وجوه البر وَمَنْ يَبْخَلْ يعني بالصدقة وأداء الفريضة فلا يتعداه ضر بخله وهو قوله تعالى: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي على نفسه وَاللَّهُ الْغَنِيُّ يعني عن صدقاتكم وطاعتكم لأنه الغني المطلق الذي له ملك السموات والأرض وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ يعني إليه وإلى ما عنده من الخيرات والثواب في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وعن القيام بما أمركم به وألزمكم إياه يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ يعني يكونون أطوع لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم منكم. قال الكلبي: هم كندة والنخع من عرب اليمن. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس والروم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا ومن يستبدل بنا قال فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منكب سلمان ثم قال هذا وأصحابه» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وله رواية أخرى عن أبي هريرة قال: «قال ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل إن تولينا استبدلوا منا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ سلمان فقال هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» ولهذا الحديث طرق في الصحيح ترد في سورة الجمعة إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

سورة الفتح

سورة الفتح وهي مدنية (خ) «عن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير في بعض سفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر كررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك فقال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ قرآن فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه فقال: لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وأخرجه الترمذي وزاد فيه «وكان في بعض أسفاره بالحديبية» (ق) عن أنس قال: لما نزلت إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ إلى قوله فَوْزاً عَظِيماً مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعا» لفظ مسلم ولفظ البخاري إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال الحديبية فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هنيئا مريئا فما لنا فأنزل الله عز وجل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت هذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما إنا فتحنا لك فتحا مبينا فعن أنس وأما هنيئا مريئا فعن عكرمة». وأخرجه الترمذي عن قتادة عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لقد أنزلت عليّ الليلة آية أحب إليّ مما على الأرض ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله لقد بين لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت عليه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) قوله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده والمعنى إنا قضينا وحكمنا لك فتحا مبينا ظاهرا بغير قتال ولا تعب. واختلفوا في هذا الفتح فروى قتادة عن أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: إنه فتح خيبر. وقيل: هو فتح فارس والروم وسائر بلاد الإسلام التي يفتحها الله عز وجل له. فإن قلت على هذه الأقوال هذه البلاد مكة وغيرها لم تكن قد فتحت بعد فكيف قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً بلفظ الماضي. قلت: وعد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالفتح وجيء به بلفظ الماضي جريا على عادة الله تعالى في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة كأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك في حكمنا وتقديرنا وما قدره وحكم به فهو

كائن لا محالة. وقال أكثر المفسرين: إن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية وهو الأصح، وهو رواية عن أنس. ومعنى الفتح: فتح المغلق المستصعب وكان الصلح مع المشركين يوم الحديبية مستصعبا متعذرا حتى فتحه الله عز وجل ويسره وسهله بقدرته ولطفه. عن البراء قال: تغدون أنتم الفتح فتح مكة ولقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها ولم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا وماشيتنا وركابنا. وقال الشعبي في قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: فتح الحديبية وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم فأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، فعز الإسلام بذلك وأكرم الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قيل اللام في قوله ليغفر لك الله لام كي والمعنى فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة بالفتح، وقال الحسن بن الفضل: هو مردود إلى قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات» وقال ابن جريج: هو راجع إلى قوله في سورة النصر وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك. وقيل: إن الفتح لم يجعل سببا للمغفرة ولكن لاجتماع ما قدر له من الأمور الأربعة المذكورة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك الفتح ونصرناك على عدوك وغفرنا لك ذنبك وهديناك صراطا مستقيما ليجتمع لك عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. وقيل: يجوز أن يكون الفتح سببا للغفران لأنه جهاد للعدو وفيه الثواب والمغفرة مع الظفر بالعدو والفوز بالفتح. وقيل: لما كان هذا الفتح سببا لدخول مكة والطواف بالبيت، كان ذلك سببا للمغفرة. ومعنى الآية: ليغفر لك الله جميع ما فرط منك ما تقدم من ذنبك يعني قبل النبوة وما تأخر، يعني بعدها وهذا على قول ما يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال عطاء الخراساني: ما تقدم من ذنبك يعني من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعائك لهم. وقال سفيان الثوري: ما تقدم من ذنبك مما كان منك قبل النبوة، وما تأخر يعني كل شيء لم تعمله ويذكر مثل هذا على طريق التأكيد كما تقول: أعط من تراه ومن لم تره واضرب من لقيت ومن لم تلقه فيكون المعنى: ما وقع لك من ذنب وما لم يقع فهو مغفور لك. وقيل المراد منه ما كان من سهو وغفلة، وتأول لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن له ذنب كذنوب غيره فالمراد بذكر الذنب هنا ما عسى أن يكون وقع منه من سهو ونحو ذلك لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين فسماه ذنبا فما كان من هذا القبيل وغيره فهو مغفور له فأعلمه الله عز وجل بذلك وإنه مغفور له ليتم نعمته عليه وهو قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يعني بالنبوة وما أعطاك من الفتح والنصر والتمكين وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويهديك إلى صراط مستقيم وهو الإسلام ويثبتك عليه والمعنى ليجمع لك من الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام. وقيل: معناه ويهدي بك إلى صراط مستقيم وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً يعني غالبا ذا عز ومنعة وظهور على الأعداء وقد ظهر النصر بهذا الفتح المبين وحصل الأمن بحمد الله تعالى. فإن قلت: وصف الله تعالى النصر بكونه عزيزا والعزيز هو المنصور صاحب النصر فما معناه؟. قلت: معناه ذا عزة كقوله عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي ذات رضا. وقيل: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسنادا مجازيا. يقال: هذا كلام صادق كما يقال متكلم صادق. وقيل: معناه نصرا عزيزا صاحبه فحذف

[سورة الفتح (48): الآيات 4 إلى 6]

المضاف إيجازا واختصارا وقيل إنما يحتاج إلى هذه التقديرات إذا كانت العزة من الغلبة. والعزيز: الغالب. أما إذا قلنا إن العزيز هو النفيس القليل أو العديم النظير، فلا يحتاج إلى هذه التقديرات، لأن النصر الذي هو من الله تعالى عزيز في نفسه لكونه من الله تعالى فصحّ وصف كونه نصرا عزيزا. [سورة الفتح (48): الآيات 4 الى 6] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يعني الطمأنينة والوقار في قلوبهم لئلا تنزعج نفوسهم. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة البقرة وقد تقدم تفسيرها في موضعها. ولما قال الله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، بيّن وجه هذا النصر كيف هو، وذلك أنه تعالى جعل السكينة التي هي الطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها فكان ذلك من أسباب النصر الذي وعد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم ثم قال تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وذلك أنه تعالى جعل السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين سببا لزيادة الإيمان في قلوبهم، وذلك أنه كلما ورد عليهم أمر أو نهي، آمنوا به وعملوا بمقتضاه، فكان ذلك زيادة في إيمانهم. وقال ابن عباس: بعث الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله فلما آمنوا به وصدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد حتى أكمل دينهم، فكلما أمروا بشيء وصدقوه، ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم، وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وقيل: لما آمنوا بالأصول وهو التوحيد وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به عن الله عز وجل وآمنوا بالبعث بعد الموت والجنة والنار وآمنوا بالفروع وهي جميع التكاليف البدنية والمالية كان ذلك زيادة في إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما قال الله عز وجل: وينصرك الله نصرا عزيزا، وكان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، فكأن قائلا قال: كيف ينصره؟ فأخبره الله عز وجل أن له جنود السموات والأرض وهو قادر على نصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم ببعض جنوده بل هو قادر على أن يهلك عدوه بصيحة ورجفة وصاعقة ونحو ذلك فلم يفعل بل أنزل سكينة في قلوبكم أيها المؤمنون ليكون نصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإهلاك أعدائه على أيديكم فيكون لكم الثواب ولهم العقاب وفي جنود السموات والأرض وجوه: الأول: إنهم ملائكة السموات والأرض. الثاني: أن جنود السموات الملائكة وجنود الأرض جميع الحيوانات الثالث أن جنود السموات مثل الصاعقة والصيحة والحجارة وجنود الأرض مثل الزلال والخسف والغرق ونحو ذلك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بجميع جنوده الذين في السموات والأرض حَكِيماً يعني في تدبيره وقيل: عليما بما في قلوبكم أيها المؤمنون حكيما حيث جعل النصر لكم على أعدائكم. قوله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يستدعي سابقا تقديره هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليدخلهم جنات. وقيل: تقديره أن من علمه وحكمته إن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم الفتح والنصر ليشكروه على نعمه، فيثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد تقدم ما روي عن أنس أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال الصحابة: هنيئا مريئا قد بين الله تعالى ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فإن

[سورة الفتح (48): الآيات 7 إلى 10]

قلت تكفير السيئات إنما يكون قبل دخولهم الجنة فكيف ذكره بعد دخولهم الجنة، قلت: الواو لا تقتضي الترتيب وقيل إن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال بالذكر بمعنى أنه من أهل الجنة وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً يعني أن ذلك الإدخال والتكفير كان في علم الله تعالى فوزا عظيما وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ يعني المنافقين والمنافقات من أهل المدينة والمشركين والمشركات من أهل مكة وإنما قدم المنافقين على المشركين هنا وفي غيره من المنافقين كانوا أشد على المؤمنين من الكافرين لأن الكافر يمكن أن يحترز منه ويجاهد لأنه عدو مبين والمنافق لا يمكن أن يحترز منه ولا يجاهد فلهذا كان شره أكثر من شر الكافر فكان تقديم المنافق بالذكر أولى الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ يعني أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني عليهم دائرة العذاب والهلاك وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زيادة في تعذيبهم وهلاكهم وَلَعَنَهُمْ يعني وأبعدهم وطردهم عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يعني في الآخرة وَساءَتْ مَصِيراً يعني ساءت جهنم منقلبا. [سورة الفتح (48): الآيات 7 الى 10] وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقدم تفسيره بقي ما فائدة التكرير ولم قدم ذكر جنود السموات والأرض على إدخال المؤمنين الجنة ولم أخر ذكر جنود السموات والأرض هنا بعد تعذيب المنافقين والكافرين، فنقول: فائدة التكرار للتأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة ومنهم من هو للعذاب فقدم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين جنود الرحمة فيثبتوهم على الصراط وعند الميزان فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه، فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء، وأخر ذكر جنود السموات والأرض بعد تعذيب الكافرين والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقوهم أبدا. فإن قلت: قال في الآية الأولى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وقال في هذه الآية وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فما معناه؟ قلت: لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله ضعف المؤمنين، ناسب أن تكون خاتمة الآية الأولى وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، ولما بالغ في وصف تعذيب الكافر والمنافق وشدته، ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فهو كقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وقوله فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذكره في معرض الامتنان عليه حيث شرفه بالرسالة وبعثه إلى الكافة شاهدا على أعمال أمته ومبشرا يعني لمن آمن به وأطاعه بالثواب ونذيرا يعني لمن خالفه وعصى أمره بالعقاب ثم بين فائدة الإرسال فقال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فالضمير فيه للناس المرسل إليهم وَتُعَزِّرُوهُ يعني ويقووه وينصروه. والتعزير: نصر مع تعظيم وَتُوَقِّرُوهُ يعني وتعظموه والتوقير: التعظيم والتبجيل وَتُسَبِّحُوهُ من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة. قال الزمخشري: والضمائر لله تعالى والمراد بتعزير الله تعالى. تعزير دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ومن فرق الضمائر

فقد أبعد وقال غيره: الكنايات في قوله ويعزروه ويوقروه راجعة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعندها تم الكلام فالوقف عليّ ويوقروه وقف تام ثم يبتدئ بقوله ويسبحوه بُكْرَةً وَأَصِيلًا على أن الكناية في ويسبحوه راجعة إلى الله تعالى يعني ويصلوا الله أو يسبحوا بالغداة والعشي. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يعني إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا إنما يبايعون الله لأنهم باعوا أنفسهم من الله عز وجل بالجنة وأصل البيعة: العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان بالحديبية، وهي قرية ليست بكبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلتين سميت ببئر هناك. وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر. قال مالك: هي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل. ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد والتخفيف أفصح وعامة المحدثين يشددونها (ق) عن يزيد بن عبيدة، قال: قالت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: على الموت (م) عن معقل بن يسار لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا عن أغصانها من رأسه ونحن أربعة عشرة مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين ومعناهما صحيح بايعه جماعة منهم سلمة بن الأكوع على الموت فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا أو ينتصروا. وبايعه جماعة منهم معقل بن يسار على أن لا يفروا (خ). عن ابن عمر قال: إن الناس كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يعني عمر: يا عبد الله انظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذهب فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع. وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم. وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيبايعونه ويد الله فوق أيديهم كذا نقله البغوي عنه. وقال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يد الله فوق أيديهم يحتمل وجوها، وذلك لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد، وإما أن تكون بمعنيين. فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما: يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم كما قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وثانيهما: يد الله فوق أيديهم أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه، يقال: اليد لفلان، أي الغلبة والنصرة والقوة. وإن قلنا: إنها بمعنيين، فنقول: اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة، فيكون المعنى: يد الله فوق أيديهم بالحفظ. وقال الزمخشري: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريقة التخيل، فقال: يد الله فوق أيديهم، يريد أن يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله عز وجل من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذا مذهب أهل التأويل وكلامهم في هذه الآية ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. وقوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يعني فمن نقض العقد الذي عقده مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ونكث البيعة فإن وبال ذلك وضره يرجع إليه ولا يضر إلا نفسه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ يعني من البيعة فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يعني في الآخرة وهو الجنة.

[سورة الفتح (48): الآيات 11 إلى 15]

[سورة الفتح (48): الآيات 11 الى 15] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس ومجاهد يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع والنخع وأسلم وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق الهدى ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلفوا، واعتلّوا بالشغل، فأنزل الله تعالى فيهم سيقول لك يا محمد المخلفون من الأعراب الذين خلفهم الله عز وجل عن صحبتك، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه وعاتبتهم على التخلف عنك شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعني النساء والذراري. يعني: لم يكن لنا من يخلفنا فيهم: فلذا تخلفنا عنك فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي إنا مع عذرنا معترفون بالإساءة فاستغفر لنا بسبب تخلفنا عنك فأكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني أنهم في طلب الاستغفار كاذبون لأنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أم لا قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا يعني سوءا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدفع عنهم الضر أو يجعل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله عز وجل أنه إن أراد شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني من إظهاركم الاعتذار وطلب الاستغفار وإخفائكم النفاق بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً يعني ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون إلى أهليهم وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ يعني زيّن الشيطان ذلك الظن عندكم حتى قطعتم به، حتى صار الظن يقينا عندكم، وذلك أن الشيطان قد يوسوس في قلب الإنسان بالشيء ويزينه له حتى يقطع به وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يعني وظننتم أن الله يخلف وعده وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، يريدون بذلك قتلهم فلا يرجعون فأين تذهبون معهم انظروا ما يكون من أمرهم وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يعني وصرتم بسبب ذلك الظن الفاسد قوما بائرين هالكين وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً. لما بين الله تعالى حال المخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين حال ظنهم الفاسد وإن ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر حرضهم على الإيمان والتوبة من ذلك الظن الفاسد فقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وظن أن الله يخلف وعده فإنه كافر وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين المبايعين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحال الظانين ظن السوء أخبر أن له ملك السموات والأرض ومن كان كذلك فهو يغفر لمن يشاء بمشيئته ويعذب من يشاء ولكن غفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قوله عز وجل: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني الذين تخلفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ يعني إذا سرتم وذهبتم أيها المؤمنون إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني غنائم خيبر وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من الغنائم شيئا وعدهم الله عز وجل فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئا ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يعني

[سورة الفتح (48): الآيات 16 إلى 18]

إلى خيبر فنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المتخلفين عن الحديبية حيث قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في غنيمة وهنا قالوا: ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يعني يريدون أن يغيروا ويبدلوا مواعيد الله لأهل الحديبية حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة وهذا قول جمهور المفسرين. وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم حيث أمره أن لا يسير منهم أحدا إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو قول الله تعالى فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا، والقول الأول أصوب قُلْ أي قل لهم يا محمد لَنْ تَتَّبِعُونا يعني إلى خيبر كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل مرجعنا إليكم غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا يعني يمنعكم الحسد أن نصيب معكم من الغنائم شيئا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني لا يعلمون ولا يفهمون من الله ما لهم وما عليهم من الدين إلا قليلا منهم وهو من تاب منهم وصدق الله ورسوله. [سورة الفتح (48): الآيات 16 الى 18] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) قوله عز وجل: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ لما قال الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قل لن تتبعونا، وكان المخلفون جمعا كثيرا من قبائل متشعبة، وكان فيهم من ترجى توبته وخيره بخلاف الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه، فجعل الله عز وجل لقبول توبتهم علامة، وهي أنهم يدعون إلى قوم أولى بأس شديد، فإن أطاعوا، كانوا من المؤمنين ويؤتيهم الله أجرا حسنا وهو الجنة، وإن تولوا وأعرضوا عما دعوا إليه، كانوا من المنافقين ويعذبهم عذابا أليما. واختلفوا في المشار إليهم بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ من هم فقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: هم الروم. وقال الحسن: هم فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال ابن جريج: دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد، وأقوى هذه الأقوال، قول من قال إنهم هوازن وثقيف، لأن الداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأبعدها قول من قال إنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب أما الدليل على صحة القول الأول فهو أن العرب كان قد ظهر أمرهم في آخر الأمر على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق إلا مؤمن تقي طاهر أو كافر مجاهر. وأما المنافقون، فكان قد علم حالهم لامتناع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عليهم، وكان الداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حرب من خالفه من الكفار. وكانت هوازن وثقيف من أشد العرب بأسا وكذلك غطفان فاستنفر النبي صلّى الله عليه وسلّم العرب لغزوة حنين وبني المصطلق، فصح بهذا البيان أن الداعي هو النبي صلّى الله عليه وسلّم. فإن قيل: هذا ممتنع لوجهين: أحدهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لن تتبعونا، وقال: لن تخرجوا معي أبدا، فكيف كانوا يتبعونه مع هذا النهي؟ الوجه الثاني: قوله أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، ولم يبق للنبي صلّى الله عليه وسلّم حرب مع قوم أولي بأس شديد، لأن الرعب كان قد دخل قلوب العرب كافة فنقول: الجواب عن الوجه الأول من وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا مقيد بقيد وهو أن يكون تقديره: قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من

النفاق والمخالفة وهذا القيد لا بد منه لأن من أسلم وحسن إسلامه وجب عليه الجهاد ولا يجوز منعه من الخروج إلى الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الوجه الثاني: في الجواب عن الوجه الأول أن المراد من قوله لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا يعني في غزوة خيبر لأنها كانت مخصوصة بمن شهد بيعة الرضوان بالحديبية دون غيرهم. ثم نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو لم يدعهم إلى الجهاد معه أو منعهم من الخروج إلى الجهاد معهما لامتنع أبو بكر وعمر من الإذن لهم في الخروج إلى الجهاد معهما كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لامتناع النبي صلّى الله عليه وسلّم من أخذها وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبق له حرب مع قوم أولي بأس شديد فغير مسلم لأن الحرب كانت باقية مع قريش وغيرهم من العرب وهم أولو بأس شديد فثبت بهذا البيان أن الداعي للمخلفين هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأما قول من قال إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وإن عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم فظاهر في الدلالة وفيه دليل على صحة خلافتهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة وعلى مخالفتهما النار. وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما الإسلام أو القتل فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني الجنة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني تعرضوا عن الجهاد كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني عام الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار ولما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والأعذار كيف حالنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني في التخلف عن الجهاد وهذه أعذر ماهرة في جواز ترك الجهاد، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر، لأن الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الاحتراز منه والهرب، وكذلك الأعرج، والمريض. وفي معنى الأعرج: الزمن المقعد والأقطع. وفي معنى المريض: صاحب السعال الشديد والطحال الكبير. والذين لا يقدرون على الكر والفر: فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر وهي: الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يستصحب معه ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد والاشغال التي تعوق عن الجهاد كتمريض المريض الذي ليس له من قوم مقامه عليه ونحو ذلك وإنما قدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج لأنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقدم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قريب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في أمر الجهاد وغيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني يعرض عن الساعة ويستمر على الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً يعني في الآخرة. قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ يعني بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ولا يفروا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وكانت هذه الشجرة سمرة (ق) عن طارق بن عبد الرّحمن قال انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت ابن المسيب فأخبرته فقال سعيد: كان أبي ممن بايع تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فعميت علينا فلم نقدر عليها. قال سعيد: فأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها فأنتم أعلم فضحك. وفي رواية، عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد عام فلم أعرفها، وروي أن عمر مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هاهنا وبغضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال: سيروا. ذهبت الشجرة. (خ) عن ابن عمر قال رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها وكانت رحمة من الله تعالى (م) عن أبي الزبير، أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه جميعا غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره. زاد في رواية قال: بايعناه على أن لا نفر. ولم نبايعه على الموت. وأخرجه الترمذي عن جابر في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.

قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. (ق) عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية. «أنتم اليوم خير أهل الأرض». وكنا ألفا وأربعمائة قال: ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. وروى سالم عن جابر قال: كنا خمس عشرة مائة (ق) عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية وكان سبب هذه البيعة على ما ذكر محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل يقال له «الثعلب» ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله فمنعتهم الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف على نفسي قريشا وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته وحمله بين يديه ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف به. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتبسته قريش عندها فبلغ، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا نبرح حتى نناجز القوم». ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت قال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل على ما استطعتم». وقد تقدم عن جابر ومعقل بن يسار أنهما قالا: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. وقد تقدم أيضا الجمع بين هذا وبين قول سلمة بن الأكوع بايعناه على الموت وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجلا من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب، ولم يتخلف عن بيعة الرضوان أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة قال جابر: فكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل (م) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وقوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من الصدق والإخلاص والوفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض والنفاق فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ يعني الطمأنينة عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين المخلصين حتى ثبتوا وبايعوك على الموت وعلى أن لا يفروا وفي هذه الآية لطيفة، وهي أن هذه البيعة كانت فيها طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وذلك موجب لرضوان الله عز وجل وهو موجب لدخول الجنة ويدل عليه قوله تعالى في الآية المتقدمة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فثبت بهذا البيان أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة، ويشهد لصحة ما قلناه الحديث المتقدم. فإن قلت الفاء في فعلم للتعقيب وعلم الله قبل الرضا، لأنه تعالى علم ما في قلوبهم من الصدق والإيمان فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في قوله فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ. قلت: قوله: ما فِي قُلُوبِهِمْ، متعلق بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ، فيكون تقديره: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك فعلم ما في قلوبهم من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب بل عند المبايعة التي عندها علم الله بصدقهم والفاء في قوله: فأنزل السكينة للتعقيب، لأنه تعالى لما علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم فأنزل السكينة عليهم.

[سورة الفتح (48): الآيات 19 إلى 20]

وقوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً يعني خيبر. [سورة الفتح (48): الآيات 19 الى 20] وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني من أموال أهل خيبر وكانت خيبر ذات نخيل وعقار وأموال فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني منيعا كامل العزة غنيا عن إعانتكم حَكِيماً حيث حكم لكم بالغنائم ولأعدائكم بالهلاك على أيديكم. قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني المغانم التي تغنمونها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني مغانم خيبر وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله عز وجل في المستقبل وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب أعجلها الله لكم وهي في جنب ما وعدكم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قصد خيبر وحاصر أهلها، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله عز وجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: المعنى إن الله عز وجل كف أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنّة عليكم وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ هو عطف على ما تقدم تقديره، فعجل لكم الغنائم لتنتفعوا بها، ولتكون آية للمؤمنين. يعني: ولتحصل من بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم. وقيل: لتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في إخباره عن الغيوب، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويهديكم إلى دين الإسلام ويثبتكم عليه ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر. (ذكر غزوة خيبر) وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع (ق). عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم. وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر فلما انتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فخرجوا علينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا محمد والخميس فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (م) عن سلمة بن الأركع قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من هذا؟» قال: أنا عامر. قال: «غفر لك ربك» قال: وما استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنسان يخصه إلا استشهد. قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بعامر. قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلتهب

قال: وبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا بضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عمي عامر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قال ذلك؟ قلت: ناس من أصحابك. قال: كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين. ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبصق في عينيه فبرأ، وأعطاه الراية فخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلتهب فقال علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندره قال فضرب مرحبا فقتله ثم كان الفتح على يده. أخرجه مسلم بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري طرفا منه قال البغوي وقد روى حديث فتح خيبر جماعة منهم سهل بن سعد وأنس بن مالك وأبو هريرة يزيدون وينقصون فيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه، فدعا عليا فأعطاه الراية وقال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فأتى خيبر فخرج مرحب صاحب الحصن وعلى رأسه مغفر من حجر قد نقبه مثل البيضة وهو يرتجز، فخرج إليه علي بن أبي طالب، فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز، فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابني يا رسول الله؟ قال: ابنك يقتله إن شاء الله. ثم التقيا، فقتله الزبير. ثم كان الفتح ثم لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتح الحصون ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويحوز الأموال» قال محمد بن إسحاق: فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقت اليهود عليه حجرا فقتله ثم فتح حصن ابن أبي الحقيق فأصاب سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب جاء بها بلال وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية، صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فجهزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفاها لنفسه وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منها فسألها عن ذلك ما هو، فأخبرته الخبر، وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزوجها كنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله، فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل من اليهود فقال لرسول الله: صلّى الله عليه وسلّم إني رأيت كنانة يطوف

بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك قال: نعم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي، فأبى أن يؤديه إليه فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة» (ق) عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر بياض فخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثا. قال: وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد والخميس يعني الجيش. قال: فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطني جارية من السبي. قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال: ادعوها فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: خذ جارية من السبي غيرها، فأعتقها النبي صلّى الله عليه وسلّم وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها، حتى إذا كان بالطريق، جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل وأصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم عروسا فقال: من كان عنده شيء فليجئ به. وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن قال: وأحسبه ذكر السويق. قال: فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (ق). عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا». فقال أناس: نهى عنها لأنها لم تخمس وقال آخرون: إنما نهى عنها البتة (ق) عن أنس: «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك. أو قال علي قالوا أنقلتها قال لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». قال محمد بن إسماعيل قال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخبير فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» (خ). عن عائشة قالت: «لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر» (ق) عن ابن عمر «أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها. حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء. قال محمد بن إسحاق: لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلوا له الأموال ففعل بهم ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعاملهم على النصف ففعل على أن لنا إذا شئنا إخراجكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية، يعني مشوية، وسألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تناول الذراع فأخذها، فلاك منها قطعة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما بشر فأساغها يعني ابتلعها وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فيسخبرنا. فتجاوز عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومات بشر

[سورة الفتح (48): الآيات 21 إلى 24]

على مرضه الذي توفي فيه. فقال: يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري». فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماتت شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة. عن عبيد الله بن سلمان أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم فجاء رجل فقال: يا رسول الله لقد ربحت اليوم ربحا ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي. قال: ويحك وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أنبئك بخير ربح؟ قال: وما هو يا رسول الله قال: ركعتان بعد الصلاة» أخرجه أبو داود. [سورة الفتح (48): الآيات 21 الى 24] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) قوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها يعني حفظها لكم حتى تفتحوها ومنعها من غيركم حتى تأخذوها، وقال ابن عباس: علم الله أن يفتحها لكم واختلفوا فيها فقال ابن عباس: هي فارس والروم وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم بل كانوا خولا لهم حتى أقدرهم الله عليها بشرف الإسلام وعزه. وقيل: هي خيبر وعدها الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها ففتحها الله لهم. وقيل: هي مكة. وقيل: هو كل فتح فتحه المسلمون أو يفتحونه إلى آخر الزمان وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي: من فتح القرى والبلدان لكم وغير ذلك وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أسد وغطفان وأهل خيبر لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي لانهزموا عنكم ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني من تولى الله خذلانه فلا ناصر له ولا مساعد سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يعني هذه سنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ سبب نزول هذه الآية ما روي عن أنس بن مالك: «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فأخذهم سبايا فاستحياهم فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم» انفرد بإخراجه مسلم وقال عبد الله بن مغفل المزني: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أمانا قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم». ومعنى الآية، أن الله تعالى ذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلوا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح وهو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أيدي أهل مكة وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ أي قضى بينهم وبينكم بالمكافة والمحاجزة بِبَطْنِ مَكَّةَ قيل: أراد به الحديبية. وقيل: التنعيم. وقيل: وادي مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي مكنكم منهم حتى ظفرتم بهم وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قوله عز وجل: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. (ذكر صلح الحديبية) روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث

صاحبه قالا: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتى عتبة الخزاعي. وقال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: امضوا على اسم الله فنفذوا. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس: حل حل. فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا فلم يلبث الناس أن نزحوه. وشكا الناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل في البئر فغرزه في جوفه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر. فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: أو لست بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؟ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك. قال وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنصل السيف. وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بعينه قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون في وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره. وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأصحابه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا له: اجلس فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحبيش نفرة رجل واحد. فقالوا: مه كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقال: ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم. فقال سهيل: أما الرّحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله ما نكتبها إلا بسم الله الرّحمن الرّحيم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي: اكتب باسمك اللهم. ثم قال له: اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقال سهيل لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن هذا البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري وذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وعلي أن يخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله لأتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلي أن لا يأتيك منا رجلا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلما. وروي عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن أنت محمد بن عبد الله قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله. قال: لا والله لا أمحوك أبدا قال: فأرنيه، فأراه إياه فمحاه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده. وفي رواية، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قال البراء: على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم

ومن أتاه من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه. وروى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشترطوا أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا. (رجعنا إلى حديث الزهري) قال بينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا: يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد قال فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فأجره لي. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت، وكان قد عذب في الله عذابا شديدا، وفي الحديث، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك في المستضعفين فرجا ومخرجا إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا وإنا لا نغدر، فوثب عمر إلى جنب أبي جندل وجعل يقول: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون ودم أحدهم دم كلب ويدني السيف منه. قال عمر: ورجوت أن يأخذ السيف فيضربه به فضن الرجل بأبيه وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ذلك، دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وزادهم أمر أبي جندل شرّا إلى ما بهم. قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ قال الزهري في حديثه عن مروان والمسور وروى أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلنا: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل. قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أولست كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه وتطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، فلما فرغ من قضية الكتاب. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا فو الله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام النبي صلّى الله عليه وسلّم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ونحر بدنة ودعا حالقا فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما قال ابن عمر وابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يرحم الله المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين والمقصرين قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين. قال: لأنهم لم يشكوا.

قال ابن عمر: وذلك أنه تربص قوم وقالوا: لعلنا نطوف بالبيت. قال ابن عباس: وأهدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك. قال الزهري في حديثه: ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر امرأتين يومئذ كانتا في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية قال: فنهاهم أن يردوا النساء وأمرهم أن يردوا الصداق. قال: ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد رجل من قريش وهو مسلم وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالا: العهد الذي جعلت لنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح في ديننا الغدر وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأخذه، منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ويلك ما لك؟ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد. فلما سمع ذلك، عرف أن يرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بصير ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فخرج عصابة منهم إليه فانفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرحم لما أرسلت إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقدموا إليه المدينة وأنزل الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حتى بلغ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وحالوا بينه وبين هذا البيت أخرجه البخاري بطوله سوى ألفاظ منه وهي مستثناة في الحديث. منها قوله: فنزع سهما من كنانته، وأعطاه رجلا من أصحابه، إلى قوله: فو الله ما زال يجيش لهم بالري ومنها قوله ثم بعثوا الحليس بن علقمة إلى قوله فقالوا كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به ومنها قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، إلى قوله: وعليّ أن يخلوا بيننا وبين البيت. ومنها قوله: وروي عن البراء قصة الصلح، إلى قوله: رجعنا إلى حديث الزهري. ومنها قوله: وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا جندل، إلى قوله: قال عمر فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت ألست نبي الله حقا؟ ومنها قوله: قال ابن عمر وابن عباس، إلى قوله: وقال الزهري في حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فهذه الألفاظ لم يخرجها البخاري في صحيحه. (شرح غريب ألفاظ الحديث) قوله: بضع عشرة، البضع: في العدد بالكسر وقد يفتح هو ما بين الثلاثة إلى التسعة. وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة. قوله: وبعث عينا له أي جاسوسا. قوله: وقد جمعوا لك الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا. وقيل: هم حلفاء قريش وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة تحالفوا تحت جبل يقال له: حبش فسموا بذلك. وقيل: هو اسم واد بأسفل مكة.

وقيل: سموا بذلك لتجمعهم. والتحبيش: التجمع. قوله: فإن قعدوا قعدوا موتورين، أي منقوصين. قوله: فنفذوا: أي مضوا وتخلصوا. قوله: إن خالد بن الوليد بالغميم، اسم موضع ومنه كراع الغميم. وقوله: طليعة الطليعة، الجماعة يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو. قوله: وقترة الجيش: هو الغبار الساطع معه سواد. قوله: يركض نذير، النذير: الذي يعلم القوم بالأمر الحادث. قوله: حل حل: هو زجر للناقة. قوله خلأت القصوا: يعني أنها لما توقفت عن المشي وتقهقرت ظنوا ذلك خللا في خلقها وهو كالحران للفرس فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما خلأت أي ليس ذلك من خلقها ولكن حبسها حابس الفيل، أي منعها عن المسير. والذي منع الفيل عن مكة هو الله تعالى والقصوا اسم ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم تكن قصوا وهو شق الأذن. قوله: خطة، أي حالة وقضية يعظمون فيها حرمات الله جمع حرمة وهي فروضه وما يجب القيام به يريد بذلك حرمة الحرم ونحوه. قوله: حتى نزل بأقصى الحديبية بتخفيف الياء وتشديدها، وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقال ما لك: هي من الحرم. وقال ابن القصار: بعضها من الحل حكاه في المطالع. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له. والتربص: أخذ الشيء قليلا قليلا. وقوله: فما زال يجيش بالري، يقال: جاشت البئر بالماء إذا ارتفعت وفاضت. والري ضد العطش، والصد الرجوع بعد الورود. وقوله: وكانت خزاعة عيبة، نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال فلان عيبة نصح فلان إذا كان موضع سره وثقته في ذلك. قوله: نزلوا على أعداد مياه الحديبية، الماء العد: الكثير الذي لا انقطاع له كالعيون وجمعه أعداد. قوله: ومعهم العوذ المطافيل، العوذ: جمع عائذ وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها، وقيل: هي كل أنثى لها سبع ليال منذ وضعت. والمطافيل: جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها وهذه استعارة استعار ذلك للناس وأراد بهم أن معهم النساء والصبيان. قوله: وإن قريشا قد نهكتهم الحرب أي، أضرت بهم وأثّرت فيهم. وقوله: ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة. قوله: وإلا فقد جموا، أي: استراحوا. والجمام: بالجيم الراحة بعد التعب. قوله: تنفرد سالفتي السالفة الصفحة والسالفتان صفحتا العنق. وقيل: السالفة حبل العنق وهو ما بينه وبين الكتف وهو كناية عن الموت لأنها لا تنفرد عنه إلا بالموت. قوله: إني استنفرت، يقال: استنفر القوم إذا دعاهم إلى قتال العدو، وعكاظ: اسم سوق كانت في الجاهلية معروفة. وقوله: بلحوا على فيه لغتان التخفيف والتشديد وأصل التبليح: الإعياء والفتور. والمراد: امتناعهم من إجابته وتقاعدهم عنه. قوله: استأصلت قومك. واجتاح: أصله من الاجتياح إيقاع المكروه بالإنسان ومنه الجائحة والاستئصال والاجتياح متقاربان في مبالغة الأذى. قوله: إني لأرى وجوها وأشوابا: الأشواب، مثل الأوباش وهم الأخلاط من الناس والرعاع. يقال: فلان خليق بذلك أي جدير لا يبعد ذلك من خلقه قوله امصص بظر اللات وهي اسم صنم لهم كانوا يعبدونه والبظر ما تقطعه الخافضة وهي الخاتنة من الهنة التي تكون في فرج المرأة وكان هذا اللفظ شتما لهم يدور في ألسنتهم. قوله: لولا يدلك عندي اليد النعمة وما يمتن به الإنسان على غيره. قوله: أي غدر معدول عن غادر وهو للمبالغة. وقوله: قد عرض عليكم خطة رشد، يقال: خطة رشد وخطة غيّ. والرشد والرشاد خلاف الغي والمراد منه أنه قد طلب منكم طريقا واضحا في هدى واستقامة. قوله: وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل تهدى إلى البيت في حج أو عمرة، وتقليدها: هو أن يجعل في رقابها شيء كالقلادة من لحاء الشجر أو نعل أو غيره ليعلم بذلك أنه هدى. والإشعار: هو أن يشق جانب السنام فيسيل دمه عليه وقوله لما رأى الهدى يسيل عليه أي يقبل عليه كالسيل من عرض الوادي أي جانبه. وقوله: هذا مكرز وهو رجل فاجر. الفجور: الميل عن الحق وكل انبعاث في شر فهو فجور. قوله: هذا ما قاضى عليه، أي فاعل من القضاء وهو إحكام الأمر وإمضاؤه وهو في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وإتمامه. قوله: ضغطة، هو كناية عن القهر والضيق. قوله: بجلباب السلاح، بضم الجيم وسكون اللام مع تخفيف الباء ويروى بضم اللام أيضا مع التشديد وهو وعاء من

[سورة الفتح (48): آية 25]

أدم شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا ويعلق في مؤخرة الرحل. قوله: يرسف بضم السين وكسرها لغتان، وهو: مشي المقيد. قوله: فأجره لي. قال ابن الأثير: يجوز أن يكون بالزاي من الإجازة أي اجعله جائزا غير ممنوع ولا محرم أو أطلقه لي وإن كان بالراء المهملة فهو من الإجارة والحماية والحفظ وكلاهما صالح في هذا الموضوع. قوله: فلم نعطى الدنية، أي القضية التي لا نرضى بها أي لم نرض بالأدون والأقل في ديننا؟ قوله: فاستمسك بغرزه الغرز لكور الناقة كالركاب لسرج الفرس والمعنى: فاستمسك به ولا تفارقه ساعة كما لا تفارق رجل الراكب غرز رحله فإنه على الحق الذي لا يجوز لأحد تركه. قوله: ويل أمه، هذه كلمة تقال للواقع فيما يكره ويتعجب بها أيضا، ومسعر الحرب أي موقدها. يقال: سعرت النار وأسعرتها إذا أوقدتها. والمسعر: الخشب الذي توقد به النار وسيف البحر بكسر السين جانبه وساحله والله أعلم وأما تفسير الآية فقوله عز وجل: [سورة الفتح (48): آية 25] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني كفار مكة، وَصَدُّوكُمْ أي منعوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت سبعين بدنة مَعْكُوفاً أي محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي منحره وحيث يحل نحره وهو الحرم وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ يعني المستضعفين بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي لم تعرفوهم أَنْ تَطَؤُهُمْ أي بالقتل وتوقعوا بهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي إثم وقيل: غرم الدية، وقيل: كفارة قتل الخطأ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل: هو أن المشركين يعتبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. والمعرة: المشقة يقول: لولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم به كفارة أو سيئة وجواب لولا محذوف تقديره لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لهذا السبب لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح وقيل دخولها لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تميزوا المؤمنين من الكفار لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي بالسبي والقتل بأيديكم وقيل: لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لولا رجال. والثاني: لو تزيلوا. ثم قال: ليدخل الله في رحمته من يشاء يعني المؤمنين والمؤمنات في رحمته أي في جنته. قال قتادة: في الآية إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة. [سورة الفتح (48): الآيات 26 الى 27] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي الأنفة والغضب وذلك حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن البيت ومنعوا الهدي محله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وأنكروا أن يكون محمد رسول

الله. وقيل: قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا رغما منا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فكانت هذه حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ التي دخلت قلوبهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: حتى لا يدخلهم ما دخلهم في الحمية فيعصون الله في قتالهم وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى. قال ابن عباس: «كلمة التقوى لا إله إلا الله» وأخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب. وقال علي وابن عمر: كلمة التقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزهري: هي بسم الله الرّحمن الرّحيم وَكانُوا أَحَقَّ بِها أي من كفار مكة وَأَهْلَها أي كانوا أهلها في علم الله، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم أهل الخير والصلاح وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير. قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، شق عليهم ذلك وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل. وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: «شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قال: أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نرجف فوجدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس قرأ «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» فقال عمر: أهو فتح يا رسول الله؟ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن المراد من الفتح هو صلح الحديبية، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل. وقوله: لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق، أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد حق وصدق بالحق أي الذي رآه حق وصدق وقيل: يجوز أن يكون بالحق قسما لأن الحق من أسماء الله تعالى أو قسما بالحق الذي هو ضد الباطل وجوابه لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ وقيل: لتدخلن من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه حكاية عن رؤياه فأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ذلك إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ قيل: إنما استثني مع علمه بدخوله تعليما لعباده الأدب وتأكيدا لقوله: «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» وقيل: إن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. وقيل: لما لم يقع الدخول في عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال: لتدخلن المسجد الحرام لا بقوتكم وإرادتكم ولكن بمشيئة الله تعالى، وقيل: الاستثناء واقع على إلا من لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع أنه لا يشك في الموت مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ أي كلها وَمُقَصِّرِينَ أي تأخذون بعض شعوركم لا تَخافُونَ أي من عدو في رجوعكم لأن قوله آمنين في حال الإحرام لأنه لا قتال فيه. وقوله: لا تخافون يرجع إلى كمال الأمن بعد الإحرام في حال الرجوع فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يعني علم أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول وكان ذلك سببا لوطء المؤمنين والمؤمنات. وقيل: علم أن دخولكم في السنة الثانية ولم تعلموا أنتم فظننتم أنه في السنة الأولى فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من قبل دخولكم الحرم فَتْحاً قَرِيباً يعني صلح الحديبية قاله الأكثرون. وقيل: هو فتح خيبر قوله عز وجل:

[سورة الفتح (48): الآيات 28 إلى 29]

[سورة الفتح (48): الآيات 28 الى 29] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ هذا البيان صدق الرؤيا وذلك أن الله تعالى لا يرى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما لا يكون فيحدث الناس فيقع خلافه فيكون سببا للضلال فحقق الله أمر الرؤيا بقوله: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» وبقوله «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق» وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة وهو قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي يعليه ويقويه على الأديان كلها فتصير الأديان كلها دونه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي في أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيه تسلية لقلوب المؤمنين وذلك أنهم تأذوا من قول الكفار لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت فقال الله تعالى: وكفى بالله شهيدا. أي: في أنه رسول الله، ثم قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي هو محمد رسول الله الذي سبق ذكره في قوله أرسل رسوله. قال ابن عباس: شهد له بالرسالة ثم ابتدأ فقال وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني أصحابه المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أي غلاظ أقوياء كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي: متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالولد مع الوالد. كما قال في حقهم: «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها يَبْتَغُونَ أي يطلبون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يعني الجنة وَرِضْواناً أي أن يرضى عنهم. وفيه لطيفة وهو أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى والمرائي بعمله لا يبتغي له أجرا وذكر بعضهم في قوله: والذين معه يعني أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان تراهما ركعا سجدا علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله ورضوانا بقية الصحابة سِيماهُمْ أي علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ واختلفوا في هذه السيما على قولين: أحدهما: أن المراد في يوم القيامة قيل: هي نور وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا لله في الدنيا وهي رواية عن ابن عباس. وقيل: تكون مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقيل: يبعثون غرا محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك. والقول الثاني: إن ذلك في الدنيا وذلك أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة صلاتهم بالليل. وقيل: هو السمت الحسن والخشوع والتواضع. قال ابن عباس: ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه. والمعنى: أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن يعرفون به وقيل هو صفوة الوجه من سهر الليل ويعرف ذلك في رجلين أحدهما سهر الليل في الصلاة والعبادة والآخر في اللهو واللعب فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما فيظهر في وجه المصلي نور وضياء وعلى وجه اللاعب ظلمة. وقيل: هو أثر التراب على الجباه لأنهم كانوا يصلّون على التراب لا على الأثواب. قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ يعني ذلك الذي ذكر صفتهم في التوراة وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ بذكر نعتهم وصفتهم في الإنجيل فقال تعالى: وَمَثَلُهُمْ أي صفتهم فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي إفراطه قبل فراخه. قيل: هو نبت فما خرج بعده شطؤه فَآزَرَهُ أي: قوّاه وأعانه وشد أزره فَاسْتَغْلَظَ أي غلظ ذلك الزرع وقوي فَاسْتَوى أي تم وتلاحق نباته وقام عَلى سُوقِهِ جمع ساق أي على أصوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يعجب ذلك الزرع زراعة وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الإنجيل أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون قال

قتادة: مثل أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الإنجيل أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قيل الزرع محمد صلّى الله عليه وسلّم والشطء أصحابه والمؤمنون وقيل: الزرع هو محمد صلّى الله عليه وسلّم شطأه أبو بكر فآزره عمر فاستغلظ عثمان فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب يعجب الزراع يعني جميع المؤمنين لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قيل: هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم لا يبعد الله سرا بعد اليوم. وقيل: قوتهم وكثرتهم ليغيظ بهم الكفار. قال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية. (فصل في فضل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) (ق) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» (م). عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلّم أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث». قوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعين وتابعيهم والقرن كل أهل زمان قيل هو أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة عن عبد الرّحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبو بكر في الجنة وعمر بن الخطاب في الجنة وعثمان بن عفان في الجنة وعلي بن أبي طالب في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرّحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة». أخرجه الترمذي. وأخرج عن سعيد بن زيد نحوه وقال: هذا أصح من الحديث الأول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه قال عمر فنعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم» أخرجه الترمذي مفرقا في موضعين، أحدهما: إلى قوله أبو عبيدة بن الجراح، والآخر إلى أبي ذر (خ). عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد أحدا أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: اثبت أحد أراه ضربه برجله فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان». عن ابن مسعود: «عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدى عثمان وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (ق) عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه في جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة فقلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من؟ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالا» عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالا من ماله رحم الله عمرا ليقولن الحق وإن كان مرا تركه الحق وما له من صديق. رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (م) عن زر بن حبيش قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. عن. عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من أحد يموت من أصحابي بأرض إلا بعثه الله قائدا ونورا لهم يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقد روي عن أبي بريدة مرسلا وهو أصح. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وعن أبي هريرة نحوه أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ لفظة من في قوله منهم لبيان الجنس لا للتبعيض. كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان، فيكون معنى الآية وعد الله الذين آمنوا من جنس الصحابة. وقال ابن جرير: يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ولذلك لم يقل منه مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. وقيل: إن المغفرة جزاء الإيمان فإن لكل مؤمن مغفرة والأجر العظيم جزاء العمل الصالح والله تعالى أعلم بمراده.

سورة الحجرات

سورة الحجرات (مدنية وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا). بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحجرات (49): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ من التقديم أي لا ينبغي لكم أن يصدر منكم تقديم أصلا. وقيل: لا تقدموا فعلا بين يدي الله ورسوله. والمعنى: لا تقدموا بين يدي أمر الله ورسوله ولا نهيهما. وقيل: لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه إشارة إلى احترام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والانقياد لأوامره ونواهيه والمعنى: لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو قبل أن يفعله. وقيل: لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة واختلفوا في معنى الآية فروي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى أي: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن أناسا ذبحوا قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمروا أن يعيدوا الذبح. (ق) عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء» زاد الترمذي في أوله: قال خطبنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر وذكر الحديث. وروي عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل نبيكم عن عمار بن ياسر قال: «من صام في اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقيل في سبب نزول هذه الآية: ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه قدم وفد من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت زاد في رواية فما كان عمر يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه حتى يستفهمه أخرجه البخاري. وقيل: نزلت الآية في ناس كانوا يقولون: لو نزل في كذا أو صنع كذا وكذا، فكره الله ذلك وقيل في معنى الآية لا تفتئتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقيل في القتال وشرائع الدين: لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في تضييع حقه بمخالفة أمره إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لأقوالكم عَلِيمٌ أي بأفعالكم.

[سورة الحجرات (49): آية 2]

[سورة الحجرات (49): آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي لا تجعلوا كلامكم مرتفعا على كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخطاب وذلك، لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام. وقوله: لا تقدموا نهي عن فعل وقوله لا ترفعوا أصواتكم نهي عن قول وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ويعظموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا فيقول يا محمد بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا تحبط. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي بذلك. (ق) عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أيشتكي؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى. قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل هو من أهل الجنة. زاد في رواية: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة مسلم وللبخاري نحوه. وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون أنزلت فيّ وأنا رفيع الصوت على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار. فمضى عاصم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار فضربتها بمسمار. وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره قال اذهب فادعه فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس. فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوك فقال اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا أرفع صوتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبدا فأنزل الله تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 3 الى 4] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية. قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار وانهزمت طائفة منهم فقال: أف لهؤلاء. ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلانا رجلا من المسلمين نزع درعي فذهب به وهو في ناحية من المعسكر عند فرس يستن في طيله وقد وضع على درعي برمته فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقل له: إن علي دينا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالدا فوجد الدرع والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قال أبو هريرة وابن عباس: لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا كأخي السرار. وقال ابن الزبير: لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي

[سورة الحجرات (49): آية 5]

إجلالا له وتعظيما أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ. قال ابن عباس: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم، هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما في أهله، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا. حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ قالوا: نعم. قال سبرة: أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة، فرضوا به، فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد رضيت. ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم فأنزل الله عز وجل: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وصفهم بالجهل وقلة العقل. وقيل في معنى الآية: أكثرهم إشارة إلى من يرجع منهم عن ذلك الأمر ومن لا يرجع فيستمر على حاله وهم الأكثر. [سورة الحجرات (49): آية 5] وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاءوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء. وقيل: لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم خيرا لهم: وقيل: نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب. ويروى ذلك عن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا: يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قم فأجبه. فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت: أجبه. فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال: إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعرا وقولا ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يضرك ما كان قبل هذا. ثم أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيات إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب منهم. وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد فأنزل الله هذه الآيات.

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 إلى 9]

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد. فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ يعني الوليد بن عقبة. وقيل: هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ، فعلى هذا يكون معنى الآية: إن جاءكم فاسق بنبإ، أي بخبر، فتبينوا. وقرئ: فتثبتوا، أي: فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق أَنْ تُصِيبُوا أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي قَوْماً بِجَهالَةٍ أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ أي من إصابتكم بالخطإ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي: فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا لَوْ يُطِيعُكُمْ أي الرسول فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم لَعَنِتُّمْ أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري «أنه قرأ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال: هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي جعله أحب الأديان إليكم وَزَيَّنَهُ أي حسنه وقربه منكم وأدخله فِي قُلُوبِكُمْ حتى اخترتموه لأن من أحب شيئا إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسنا وثباتا وبذلك تطيعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ قال ابن عباس: يريد الكذب وَالْعِصْيانَ جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه. والإيمان الكامل: ما اجتمع فيه ثلاثة أمور: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. فقوله: وكره إليكم الكفر في مقابله. قوله: حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو: لا إله إلا الله. والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي: أولئك هم المهتدون

[سورة الحجرات (49): آية 10]

إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي فعل ذلك بكم فضلا منه وَنِعْمَةً عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكم وبما في قلوبكم حَكِيمٌ في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم. قوله عز وجل: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. (ق) عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه، فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض. (ق) عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: فسار حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ. وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: لا تغيروا علينا. فسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلّى الله عليه وسلّم دابته. وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف. وقيل: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية فحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء معه قومه، فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله عز وجل: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. وقيل: المراد من الطائفتين الأوس والخزرج. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما فَإِنْ بَغَتْ أي تعدت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى كتابه الذي جعله حكما بين خلقه. وقيل: ترجع إلى طاعته في الصلح الذي أمر به فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي الذي يحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين. [سورة الحجرات (49): آية 10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي في الدين والولاية ذلك أن الإيمان وقد عقد بين أهله من السبب والقرابة كعقد النسب الملاصق وإن بينهم ما بين الإخوة من النسب والإسلام لهم كالأب قال بعضهم: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ أي إذا اختلفا واقتتلا وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (ق).

[سورة الحجرات (49): آية 11]

عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة» والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده. (فصل في حكم قتال البغاة) قال العلماء: في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ويدل عليه ما روي عن علي بن أبي طالب، وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين أمشركون هم؟ فقال: لا إنهم من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع: هو الخارج على الإمام العدل فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم إماما فالحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام ويدعوهم إلى طاعته، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على البغي قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته. ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم نادى منادي على يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ولا يذفف على جريح، وهو بذال معجمة، وهو الإجهاز على الجريح وتحرير قتله وتتميمه. وأتي علي يوم صفين بأسير فقال: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين. وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس ومال فلا ضمان عليها قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالا. أما من لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة: بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم، أو لم يكن لهم تأويل، أو لم ينصبوا إماما، فلا يتعرض لهم إذا لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين فإن فعلوا ذلك فهم كقطاع الطريق في الحكم. وروي أن عليا سمع رجلا يقول في ناحية المسجد: لا حكم إلا الله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. لكم علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال. [سورة الحجرات (49): آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية نزلت في ثلاثة أسباب: السبب الأول: من أولها إلى قوله خيرا منهم. قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة، أخذ أصحابه مجالسهم فظل كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قائما كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخطى رقاب الناس ثم يقول: تفسحوا تفسحوا. فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينه وبينه رجل فقال: تفسح. فقال له الرجل: أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضبا، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال: من هذا؟ قال أنا فلان. قال له ثابت: ابن فلانة وذكر أما له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا فأنزل الله هذه الآية.

[سورة الحجرات (49): آية 12]

وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوه من رثاثة حالهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم. أي: لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينتقصه به ولعله عند الله خير منه وهو قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ السبب الثاني قوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أي لا يستهزئ نساء من نساء عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيرن أم سلمة بالقصر. وعن ابن عباس: «أنها نزلت في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: يهودية بنت يهوديين. عن أنس: بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنك لابنة نبي وعمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال: اتقي الله يا حفصة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. والسبب الثالث قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ عن أبي جبيرة بن الضحاك وهو أخو ثابت بن الضحاك الأنصاري قال: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة «قدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فأنزل الله هذه الآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أخرجه أبو داود وفي الترمذي قال «كان الرجل منا يكون له اسمان وثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره قال فنزلت هذه الآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.» قال الترمذي: حديث حسن. قوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يعيب بعضكم بعضا ولا يطعن بعضكم في بعض. والمراد بالأنفس، الإخوان هنا. والمعنى: لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم، فإذا عاب عائب أحدا بعيب، فكأنه عاب نفسه. وقيل: لا يخلو أحد من عيب فإذا عاب غيره فيكون حاملا لذلك على عيبه فكأنه هو العائب لنفسه ولا تنابزوا بالألقاب أي لا تدعوا الإنسان بغير ما سمي به. وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله. وقيل: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. قيل: كان الرجل اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقيل: هو أن تقول لأخيك يا كلب يا حمار يا خنزير. وقال بعض العلماء: المراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يفيد ذما له، فأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها كالأعمش والأعرج وما أشبه ذلك فلا بأس بها إذا لم يكرهها المدعو بها، وأما الألقاب التي تكسب حمدا ومدحا تكون حقا وصدقا فلا يكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين ولعلي: أبو تراب ولخالد سيف الله ونحو ذلك بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الاسم أن تقولوا له يا يهودي أو يا نصراني بعد ما أسلم أو يا فاسق بعد ما تاب وقيل معناه أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أي من ذلك كله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: الضارون لأنفسهم بمعصيتهم ومخالفتهم. وقيل: ظلموا الذين قالوا لهم ذلك. [سورة الحجرات (49): آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل

فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ شيئا لهما فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئا. قال: لا غلبتني عيناي فنمت قالا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله طعاما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل طعام وأدم فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا: والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال: ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة فأنزل الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن يعني أن يظن بأهل الخير سوءا فنهى الله المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شرا وقيل هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا فيراه أخوه المسلم فيظن شرا لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا فأما أهل السوء والفسق المجاهرون بذلك فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما: إثم، وهو أن يظن ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به. وقيل: الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به وهو الظن الحسن بالله عز وجل ومنه مندوب إليه وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ومنه حرام محظور وهو سوء الظن بالله عز وجل وسوء الظن بالأخ المسلم وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عيوب الناس نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى يظهر على ما ستره الله منها (ق). عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا. التقوى هاهنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير. وقيل: معناهما واحد وهو طلب الأخبار. وقوله: ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها. قوله: ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره. عن ابن عمر قال: «صعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله». قال نافع: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك. والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب عن زيد بن وهب. قال: أتى ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة» (م) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة».

[سورة الحجرات (49): آية 13]

قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه. عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته». أخرجه مسلم عن عائشة قالت: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، قوله: لمزجته أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة. قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ قال مجاهد: لما قيل أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بسوء غالبا قيل تأويله إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لأنه لا يحس بذلك وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه لأن الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء كما يتألم جسده إذا قطع لحمه والعرض أشرف من اللحم فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحم الناس فترك أعراضهم أولى وقوله لحم أخيه آكد في المنع آكد لأن العدو قد يحمله الغضب على أكل لحم عدوه، وقوله ميتا أبلغ في الزجر. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وفي نسخة وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود وقال ميمون بن سيار بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي وقائل يقول كل يا عبد الله قلت وما آكل؟ قال كل بما اغتبت بعد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال: ولكنك استمعت ورضيت، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أمر الغيبة واجتناب نواهيه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قوله عز وجل: [سورة الحجرات (49): آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: أنا رسول الله قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية. وقيل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يعني آدم وحواء. والمعنى: إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في

[سورة الحجرات (49): آية 14]

النسب وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً جمع شعب بفتح الشين وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا شعوبا لتشعب القبائل منهم وقيل لتجمعهم وَقَبائِلَ جمع قبيلة وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر ودون القبائل العمائر واحدتها عمارة بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ وهم كبني هاشم وبني أمية من لؤي ودون الأفخاذ الفصائل واحدتها فصيلة بالصاد المهملة كبني العباس من بني هاشم ثم بعد ذلك العشائر واحدتها عشيرة وليس بعد العشيرة شيء يوصف. وقيل: الشعوب للعجم، والقبائل: للعرب، والأسباط: من بني إسرائيل. وقيل: الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد بل ينسبون إلى المدائن والقرى والقبائل الذين ينتسبون إلى آبائهم. لِتَعارَفُوا أي ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا للتفاخر بالأنساب ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان على غيره ويكتسب بها الشرف عند الله تعالى فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قيل: أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور. وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحسب المال والكرم التقوى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (ق). عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» فقهوا بضم القاف على المشهور وحكي كسرها ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي أذهب عنكم غيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس إن الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» والمحجن عصا محنية الرأس كصولجان وقوله غبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بظواهركم ويعلم أنسابكم خَبِيرٌ أي ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم إلى معادكم قيل: التقي هو العالم بالله المواظب على الوقوف ببابه المتقرب إلى جنابه. وقيل: حد التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر والفضائل ولا يغتر ولا يأمن فإن اتفق أن يرتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه توبة وندامة ومن ارتكب منهيا ولم يتب في الحال واتكل على المهلة وغره طول الأمل فليس بمتق لأن المتقي لم يترك ما أمر به ويترك ما نهي عنه وهو مع ذلك خاش لله خائف منه لا يشتغل بغير الله تعالى فإن التفت لحظة إلى نفسه وأهله وولده جعل ذلك ذنبا واستغفر منه وجدد له توبة جعلنا الله وإياكم من المتقين. [سورة الحجرات (49): آية 14] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويقولون: أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا فأنزل الله فيهم هذه الآية.

[سورة الحجرات (49): الآيات 15 إلى 18]

وقيل: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا للحديبية تخلفوا عنها فأنزل الله عز وجل قالت الأعراب آمنا أي صدقنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي استسلمنا وانقدنا مخافة القتل والسبي وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أخبر أن حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص. (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رهطا وأنا جالس فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم هو أعجبهم إليّ فقلت ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو مسلما ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ثم قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه». زاد في رواية قال الزهري: «فترى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح» لفظ الحميدي اعلم أن الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان لقوله لإبراهيم عليه السلام: «أسلم قال أسلمت لرب العالمين» ومنه ما هو انقياد باللسان والقلب وذلك قوله: ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.» وقيل: الإيمان هو التصديق بالقلب مع الثقة وطمأنينة النفس عليه والإسلام هو الدخول في السلم والخروج من أن يكون حربا للمسلمين مع إظهار الشهادتين. فإن قلت: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا القول. قلت بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعم والإيمان أخص لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص متحدان في الوجود فذلك المؤمن والمسلم. وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي ظاهرا وباطنا سرا وعلانية وقال ابن عباس تخلصوا له الإيمان لا يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي من ثواب أعمالكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم بين حقيقة الإيمان فقال تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 18] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في دينهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم ولما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون وعرف الله منهم غير ذلك فأنزل الله عز وجل: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي تخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي لا تخفى عليه خافية وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يحتاج إلى إخباركم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا هو قولهم أسلمنا ولم نحاربك يمنون بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبين بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تعتدوا عليّ بإسلامكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم وهو قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنكم مؤمنون إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فكيف يخفى عليه حالكم بل يعلم سركم وعلانيتكم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي بجوارحكم الظاهرة والباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة ق

سورة ق (مكية وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا). بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة ق (50): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) قوله عز وجل: ق قال ابن عباس: هو قسم وقيل: هو اسم للسورة وقيل اسم من أسماء الله وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل هو مفتاح اسمه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض والقدوس والقيوم. وقيل: معناه قضى الأمر أو قضى ما هو كائن. وقيل: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كتفاها وخضرة السماء منه والعالم داخله ولا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى ويقال هو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي الشريف الكريم على الله الكثير الخير والبركة واختلفوا في وجواب القسم قيل جوابه محذوف تقديره لتبعثن وقيل جوابه بل عجبوا وقيل ما يلفظ من قول وقيل قد علمنا ومعنى بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن يخوفهم رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته وصدقه فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي معجب غريب أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي حين نموت ونبلى نبعث وترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي يبعد أن نبعث بعد الموت قال الله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمنا شيء وَعِنْدَنا أي مع علمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ بمعنى محفوظ أي من التبديل والتغيير وقيل حفيظ بمعنى حافظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ وقد أثبت فيه ما يكون. [سورة ق (50): الآيات 5 الى 11] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ قيل: معناه كذبوا به لما جاءهم. وقيل: كذبوا المنذر لما جاءهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط ملتبس قيل معنى اختلاط أمرهم قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم مرة شاعر ومرة ساحر

[سورة ق (50): الآيات 12 إلى 18]

ومرة معلم مجنون ويقولون في القرآن مرة سحر ومرة رجز ومرة مفتري فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم وقيل في هذه الآية من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه وقيل ما ترك قوم الحق إلا مرج عليهم أمرهم ثم دلهم على عظيم قدرته فقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها أي: بغير عمد وَزَيَّنَّاها أي بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي: شقوق وصدوع وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي: من كل صنف حسن كريم يبتهج به أي: يسر به تَبْصِرَةً أي جعلنا ذلك تبصرة وَذِكْرى أي تذكرة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى الله تعالى والمعنى ليتبصر ويتذكر به من أناب وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير الخير والبركة فيه حياة كل شيء وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ أي: بذلك الماء جَنَّاتٍ أي بساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي: طوالا وقيل مستويات لَها طَلْعٌ أي: ثمر يطلع ويظهر ويسمى طلعا قبل أن يتشقق نَضِيدٌ أي: متراكب بعضه على بعض في أكمامه فإذا تشقق وخرج من أكمامه فليس بنضيد رِزْقاً أي: جعلنا ذلك رزقا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً فأنبتنا فيها الكلأ والعشب كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي: من القبور أحياء بعد الموت. قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 12 الى 18] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: كان لوط مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم ولذلك قال إخوان لوط وَقَوْمُ تُبَّعٍ هو أبو كرب أسعد تبع الحميري وقد تقدم قصص جمعهم قيل ذم الله عز وجل قوم تبع ولم يذمه وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه فلهذا خص بالذكر دونهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أي: كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم فحق وعيدي أي وجب لهم عذابي وقيل فحق وعيدي للرسل بالنصر أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا حين خلقناهم أولا فنعيا بالإعادة ثانيا وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي شك مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث. قوله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يحدث به قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بيان لكمال علمه أي نحن أعلم به منه والوليد العرق الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلباوين ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم الله شيء. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي يتلقن الملكان الموكلان به وبعمله ومنطقه فيكتبانه ويحفظانه عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ يعني أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات قَعِيدٌ أي قاعد وكل واحد منهما قعيد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. وقيل: أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يتكلم من كلام يخرج من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي حافظ عَتِيدٌ أي حاضر أينما كان سوى وقت الغائط وعند جماعة فإنهما يتأخران عنه فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه وهو على تلك

[سورة ق (50): الآيات 19 إلى 24]

الحالة حتى يكتبا ما يتكلم به أنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلم به حتى أتيته في مرضه وقيل لا يكتبان إلا ما له أجر وثواب أو عليه وزر وعقاب. وقيل: إن مجلسهما تحت الشعر على الحنك وكان الحسن البصري يعجبه أن ينظف عنفقته روى البغوي بإسناد الثعلبي. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر. قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 19 الى 24] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بِالْحَقِّ أي بحقيقة الموت وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك الذي كنت عنه تميل. وقيل: تهرب وقال ابن عباس: تكره وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ذلك اليوم الذي وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه وَجاءَتْ أي في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي يسوقها إلى المحشر وَشَهِيدٌ أي يشهد عليها بما عملت. قال ابن عباس: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل فيقول الله تعالى لصاحب تلك النفس لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي من هذا اليوم في الدنيا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي قوي ثابت نافذ تبصر ما كنت تتكلم به في الدنيا. وقيل: ترى ما كان محجوبا عنك وقيل نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك وَقالَ قَرِينُهُ يعني الملك الموكل به هذا ما لَدَيَّ أي عندي عَتِيدٌ أي معد محضر. وقيل: يقول الملك هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي يقول الله تعالى لقرينه وقيل هذا أمر للسائق والشهيد كُلَّ كَفَّارٍ أي شديد الكفر عَنِيدٍ أي عاص معرض عن الحق معاند لله فيما أمره به. [سورة ق (50): الآيات 25 الى 30] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله مُعْتَدٍ أي ظالم لا يقر بتوحيد الله مُرِيبٍ أي: شاكّ في التوحيد الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ يعني النار قالَ قَرِينُهُ يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ قيل: هذا جواب لكلام مقدر وهو أن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته أي ما أضللته وما أغويته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي عن الحق فيتبرأ منه شيطانه وقال ابن عباس: قرينه يعني الملك يقول الكافر ربّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ولكن كان في ضلال بعيد أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق قالَ الله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي لا تعتذروا عندي بغير عذر وقيل هو

[سورة ق (50): الآيات 31 إلى 34]

خصامهم مع قرنائهم وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي بالقرآن وأنذرتكم على ألسن الرسل وحذرتكم عذابي في الآخرة لمن كفر ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي لا تبديل لقولي وهو قوله عز وجل: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وقضيت عليكم ما أنا قاض فلا يغير قولي ولا يبدل وقيل معناه ولا يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه، لأني علام الغيوب وأعلم كيف ضلوا وهذا القول هو الأولى يدل عليه أنه قال ما يبدل القول لدي ولم يقل ما يبدل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: فأعاقبهم بغير جرم. وقيل: معناه فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن. قوله عز وجل: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ بيان لما سبق لها من وعد الله تعالى إياها أنه يملؤها من الجنة والناس وهذا السؤال من الله تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده وَتَقُولُ يعني جهنم هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يعني تقول قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكاري. وقيل: هو بمعنى الاستزادة. وهو رواية عن ابن عباس. فعلى هذا يكون السؤال وهو قوله: هل امتلأت؟ قبل دخول جميع أهلها فيها. وروي عن ابن عباس: «إن الله تعالى سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت؟ فتقول قط قط قد امتلأت وليس في مزيد» (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش- وفي رواية رب العزة- فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة. ولأبي هريرة نحوه وزاد «ولا يظلم الله من خلقه أحدا». (فصل) هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والمذهب الثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث. فقيل: المراد بالقدم المقدم وهو سائغ في اللغة. والمعنى: حتى يضع الله فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل: إنه يحتمل أن في المخلوقات من تسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض: أظهر التأويل أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها قال المتكلمون: ولا بد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى والله أعلم. قوله: قط قط أي: حسبي حسبي. قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات: إسكان الطاء، وكسرها منونة، وغير منونة. وقوله: ولا يظلم الله من خلقه أحدا، يعني: أنه يستحيل الظلم في حق الله تعالى فمن عذبه بذنب أو بغير ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى وقوله تعالى. [سورة ق (50): الآيات 31 الى 34] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت وأدنيت لِلْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الشرك غَيْرَ بَعِيدٍ يعني أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الأنبياء لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة. قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقيل: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقيل: هو التواب، وقال ابن

[سورة ق (50): الآيات 35 إلى 39]

عباس: هو المسيح. وقيل: هو المصلي حَفِيظٍ قال ابن عباس الحافظ لأمر الله وعنه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل: حفيظ لما استودعه الله من حقه. وقيل: هو المحافظ على نفسه المتعهد لها المراقب لها. وقيل: هو المحافظ على الطاعات والأوامر مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف الرّحمن فأطاعه وإن لم يره وقيل: خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد إذا ألقى الستر أغلق الباب وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي مخلص مقبل على طاعة الله ادْخُلُوها أي يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوا الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من العذاب والهموم. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم وقيل: بسلامة من زوال النعم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي في الجنة لأنه لا موت فيها. [سورة ق (50): الآيات 35 الى 39] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا ثم يزيد الله عبيده ما لم يسألوا مما لم يخطر بقلب بشر وهو قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وقيل: المزيد، هو النظر إلى وجهه الكريم قيل: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة في دار كرامته فلهذا هو المزيد. قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً يعني سطوة والبطش الأخذ بصولة وعنف فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي ساروا وتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي فلم يجدوا لهم محيصا أي مهربا من أمر الله وقيل: لا يجدون لهم مفرا من الموت بل يموتون فيصيرون إلى عذاب الله وفيه تخويف لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر من إهلاك القرى تذكرة وموعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ. قال ابن عباس: أي عقل. وقيل: له قلب حاضر مع الله واع عن الله أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع القرآن واستمع ما يقال له لا يحدث نفسه بغيره وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه. قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي إعياء وتعب قال المفسرون نزلت في اليهود حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم وتكذيبا لهم في قولهم استراح يوم السبت بقوله تعالى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: والظاهر أن المراد الرد على المشركين والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما فقوله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانيا كما قال الله تعالى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ الآية وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك أن الأحد والاثنين أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان خلق السموات والأرض ابتدئ يوم الأحد لكان الزمان قبل الأجساد والزمان لا ينفك عن الأجساد فيكون قبل خلق الأجسام أجسام لأن اليوم عبارة عن زمان سير الشمس من الطلوع إلى الغروب وقبل السموات والأرض لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة الزمان أي مدة كانت قوله عز وجل: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي: اصبر يا محمد على ما يقولون أي من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل

[سورة ق (50): الآيات 40 إلى 41]

الأمر بقتالهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صلّ حامدا لله قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي صلاة الصبح وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني صلاة المغرب. قال ابن عباس: صلاة الظهر والعصر. [سورة ق (50): الآيات 40 الى 41] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة المغرب والعشاء. وقيل: يعني صلاة الليل أي وقت صلّى وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر. وهي رواية عن ابن عباس. ويروى مرفوعا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر» (م) عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر، عن ابن مسعود، قال: «ما أحصى ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر يقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وقيل: في قوله وأدبار السجود: التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات (خ) عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسبح في أدبار الصلوات كلها يعني قوله وأدبار السجود (م). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر» (خ) عنه «أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا». قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ يعني استمع يا محمد حديث يوم ينادي المنادي. وقيل: معناه انتظر صيحة القيامة والنشور. قال المفسرون: المنادي هو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول: يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وهو قوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل: إن صخرة بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقيل: هي في وسط الأرض. [سورة ق (50): الآيات 42 الى 45] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي الصيحة الأخيرة ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي من القبور إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي أي في الدنيا وَنُمِيتُ يعني عند انقضاء الأجل وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي في الآخرة وقيل: تقديره نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي يخرجون سراعا إلى المحشر وهو قوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني كفار مكة في تكذيبك وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي ما أوعدت به من عصاني من العذاب قال ابن عباس: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» أي عظ بالقرآن من يخاف وعيدي والله أعلم بمراده.

سورة الذاريات

سورة الذاريات (مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) قوله عز وجل: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني الرياح التي تذر التراب فَالْحامِلاتِ وِقْراً يعني السحاب يحمل ثقلا من الماء فَالْجارِياتِ يُسْراً يعني السفن تجري في الماء جريا سهلا فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وقيل: هم أربعة: جبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه وصاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح. وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح لأنها تنشئ السحاب وتسيره ثم تحمله وتقله ثم تجري به جريا سهلا ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته. والمعنى: أقسم بالذاريات بهذه الأشياء، وقيل: فيه مضمر تقديره ورب الذاريات ثم ذكر جواب القسم فقال تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 5 الى 14] إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي من الثواب والعقاب يوم القيامة لَصادِقٌ أي الحق وَإِنَّ الدِّينَ أي الحساب والجزاء لَواقِعٌ أي لكائن ثم ابتدأ قسما آخر فقال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي، وقيل: ذات الزينة حبكت بالنجوم وقيل: ذات البنيان المتقن وقيل: ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل ولكنها لا ترى لبعدها من الناس وجواب القسم قوله إِنَّكُمْ يعني يا أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يعني في القرآن وفي محمد صلّى الله عليه وسلّم يقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين وفي محمد صلّى الله عليه وسلّم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وقيل: لفي قول مختلف أي مصدق ومكذب يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه وهو من حرمه الله الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن وقيل: معناه أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فيقولون إنه ساحر وشاعر وكان ومجنون فيصرفونه عن الإيمان به قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي: الكذابون وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصرفوا الناس عن الإسلام. وقيل: هم الكهنة الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في غفلة وعمى وجهالة ساهُونَ أي

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 إلى 18]

لاهون غافلون عن أمر الآخرة والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء يعني يوم القيامة تكذيبا واستهزاء قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ أي يكون هذا الجزاء في يوم هم عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يدخلون ويعذبون بها وتقول لهم خزنة النار: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي في الدنيا تكذيبا به. [سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 18] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني في خلال الجنات عيون جارية آخِذِينَ ما آتاهُمْ أي ما أعطاهم رَبُّهُمْ أي من الخير والكرامة إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي قبل دخولهم الجنة كانوا محسنين في الدنيا ثم وصف إحسانهم فقال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. وقال ابن عباس: كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أولها أو من أوسطها عن أنس بن مالك في قوله: «كانوا قليلا من الليل ما يهجعون» قال: كانوا بين المغرب والعشاء أخرجه أبو داود. وقيل: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة وقيل: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها، ووقف بعضهم على قوله: كانوا قليلا، أي من الناس ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون الليل كله في الصلاة والعبادة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي ربما مدوا عبادتهم إلى وقت السحر ثم أخذوا في الاستغفار وقيل: معناه يستغفرون من تقصيرهم في العبادة وقيل: يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل وقيل: معناه يصلون بالأسحار لطلب المغفرة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» ولمسلم قال: «فيقول أنا الملك أنا الملك» وذكر الحديث وفيه «حتى يضيء الفجر» وزاد في رواية «من يقرض غير عديم ولا ظلوم». (فصل) هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان: أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ويترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب تبارك وتعالى عن صفات الأجسام. المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أن الصعود والنزول من صفات الأجسام والله تعالى يتقدس عن ذلك. فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من عباده والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأن ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى وفي ذلك الوقت تكون النية خالصة والرغبة إلى الله تعالى متوفرة فهو مظنة لقبول الإجابة والله تعالى أعلم (ق). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت». زاد في رواية: «وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي: «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

[سورة الذاريات (51): الآيات 19 إلى 24]

العظيم» (خ) عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي، أو قال دعا أستجيب له فإن توضأ وصلّى قبلت صلاته» قوله تعار من الليل يقال: تعارّ الرجل من نومه إذا انتبه وله صوت وقوله عز وجل: [سورة الذاريات (51): الآيات 19 الى 24] وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب قيل إنه ما يصلون به رحما أو يقرون به ضيفا أو يحملون به كلّا أو يعينون به محروما وليس بالزكاة قاله ابن عباس. وقيل: إنه الزكاة المفروضة لِلسَّائِلِ أي الذي يسأل الناس ويطلب منهم وَالْمَحْرُومِ قيل هو الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحروم الذي ليس له في فيء الإسلام سهم. وقيل: معناه الذي حرم الخير والعطاء، وقيل: المحروم، المتعفف الذي لا يسأل. وقيل: هو صاحب الجائحة الذي أصيب زرعه وثمره أو نسل ماشيته وقيل: هو المحارف المحروم في الرزق والتجارة وقيل: هو المملوك وقيل: هو المكاتب، وأظهر الأقوال، أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل إنما يفطن له متيقظ وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي عبر من البحار والجبال والأشجار والثمار وأنواع النبات لِلْمُوقِنِينَ أي بالله الذي يعرفونه ويستدلون عليه بصنائعه وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي آيات إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن تنفخ الروح. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع وقيل: يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين وقيل: يعني تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال ابن عباس هو المطر وهو سبب الأرزاق وَما تُوعَدُونَ يعني من الثواب والعقاب. وقيل: من الخير والشر. وقيل: الجنة والنار ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما ذكر من الرزق وغيره مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي بلا إله إلا الله. وقيل: شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ومعناه إنه لحق كما أنك تتكلم. وقيل: إن معناه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره. قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ يعني هل أتاك يا محمد حديث الذين جاءوا إبراهيم بالبشرى فاستمع نقصصه عليك وقد تقدم ذكر عددهم وقصتهم في سورة هود الْمُكْرَمِينَ قيل: سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراما عند الله. وقيل: لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون. وقيل: لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكرمهم بتعجيل قراهم وخدمته إياهم بنفسه وطلاقة وجهه لهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سماهم مكرمين لأنهم كانوا غير مدعوين (ق) عن أبي شريح العدوي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

[سورة الذاريات (51): الآيات 25 إلى 34]

[سورة الذاريات (51): الآيات 25 الى 34] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي غرباء لا نعرفكم. قال ابن عباس: قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا بغير استئذان وقيل: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض فَراغَ أي عدل ومال إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي جيد وكان مشويا. قيل: كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف ولا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا قالَ أَلا تَأْكُلُونَ يعني أنه حثهم على الأكل. وقيل: عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم فَأَوْجَسَ أي فأضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنهم لم يتحرموا بطعامه قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يبلغ ويعلم وقيل: عليم أي نبي فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه فِي صَرَّةٍ أي في صيحة والمعنى أنها أخذت تولول وذلك من عاد النساء إن سمعن شيئا فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس: لطمت وجهها. وقيل: جمعت أصابعها وضربت جبينها تعجبا وذلك من عادة النساء أيضا إذا أنكرن شيئا وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ معناه: أتلد عجوز عقيم وذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما علم حالهم وأنهم من الملائكة قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم وما طلبكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم لوط لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قيل هو الآجر مُسَوَّمَةً أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل: معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها. [سورة الذاريات (51): الآيات 35 الى 43] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني لوطا وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. لأن الإسلام أعم من الإيمان. وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلما، لا يدل على اتحاد مفهوميهما وَتَرَكْنا فِيها أي في مدينة قوم لوط آيَةً أي عبرة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ والمعنى تركنا فيها علامة للخائفين تدلهم على أن الله مهلكهم فيخافون مثل عذابهم قوله عز وجل: وَفِي مُوسى أي وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة ظاهرة فَتَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بِرُكْنِهِ أي بجمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فأغرقناهم في البحر هُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسل وَفِي

[سورة الذاريات (51): الآيات 44 إلى 51]

عادٍ أي وفي إهلاك عاد أيضا آية وعبرة إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ يعني التي لا خير فيها ولا بركة فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي كالشيء الهالك البالي وهو ما يبس وديس من نبات الأرض كالشجر والتبن ونحوه وأصله من رم العظم إذا بلي وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ يعني إلى وقت انقضاء آجالهم وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. [سورة الذاريات (51): الآيات 44 الى 51] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تكبروا عن طاعة ربهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي بعد مضي ثلاثة أيام من بعد عقر الناقة وهي الموت في قول ابن عباس. وقيل: أخذهم العذاب والصاعقة كل عذاب مهلك وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يرون ذلك العذاب عيانا فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض من تلك الصرعة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين منا وقيل: ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من أمر الله وَقَوْمَ نُوحٍ قرئ بكسر الميم ومعناه وفي يوم نوح وقرئ بنصبها ومعناه: وأغرقنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء وهم عاد وثمود وقوم فرعون إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة. قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة وقدرة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قيل: هو من السعة: أي أوسعنا السماء بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من السماء والفضاء وبالنسبة إلى سعة السماء كالحلقة الملقاة في الفلاة وقال ابن عباس: معناه قادرون على بنائها كذلك وعنه لموسعون أي الرزق على خلقنا وقيل: معناه وإنا ذوو السعة والغنى وَالْأَرْضَ فَرَشْناها أي بسطناها ومهدناها لكم فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والسهل والجبل والصيف والشتاء والجن والإنس والذكر والأنثى والنور والظلمة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والحامض لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: قل يا محمد ففروا إلى الله أي فاهربوا من عذابه إلى ثوابه بالإيمان والطاعة وقال ابن عباس ففروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله ففروا مما سوى الله إلى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ أي مخوف مُبِينٌ أي بين الرسالة بالحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة والباهرة القاطع وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي وحدوده ولا تشركوا به شيئا إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ قيل: إنما كرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. [سورة الذاريات (51): الآيات 52 الى 57] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) كَذلِكَ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار

[سورة الذاريات (51): الآيات 58 إلى 60]

مكة والأمم الخالية مِنْ رَسُولٍ يعني يدعوهم إلى الإيمان والطاعة إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال الله تعالى أَتَواصَوْا بِهِ أي أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه وفيه توبيخ لهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي لم يتواصلوا بهذا القول لأنهم لم يتلاقوا على زمان واحد بل جمعتهم على ذلك علة واحدة وهي الطغيان وهو الحامل لهم على ذلك القول فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وبذلت المجهود وما قصرت فيما أمرت به. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى عنهم فأنزل الله عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت نفوسهم بذلك والمعنى عظ بالقرآن كفار مكة فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم وقيل: معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. قوله عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ أي من المؤمنين إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون» وقيل: معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي وهو ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة. وقال علي بن أبي طالب إلا ليعبدون أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي. وقيل: معناه إلا ليعرفوني وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده. وقيل: معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا لأن معنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقيل: معناه إلا ليوحدوني فأما المؤمن فيوحده اختيارا في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده اضطرارا في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم لأني أنا الرزاق المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه لما صح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» أخرجه مسلم ثم بين أن الرزاق هو لا غيره فقال تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 58 الى 60] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي لجميع خلقه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يعني هو القوي الشديد المقتدر البليغ القوة والقدرة الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي من أهل مكة ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي بالعذاب لأنهم أخروا إلى يوم القيامة يدل عليه قوله عز وجل فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة وقيل: يوم بدر والله تعالى أعلم بمراده.

سورة الطور

سورة الطور (مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الطور (52): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) قوله عز وجل: وَالطُّورِ أراد به الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالأرض المقدسة وقيل: بمدين وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب فِي رَقٍّ يعني الأديم الذي يكتب فيه المصحف مَنْشُورٍ أي مبسوط. واختلفوا في الكتاب، فقيل: هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير الأقلام. وقيل: هو اللوح المحفوظ. وقيل: هو دواوين الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشورا فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. وقيل: هو القرآن. [سورة الطور (52): الآيات 4 الى 10] وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يعني بكثرة الغاشية والأهل وهو بيت في السماء السابعة قدام العرش بحيال الكعبة يقال له الصراع حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وصح في حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى البيت المعمور في السماء السابعة قال: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه وفي رواية أخرى قال فانتهيت إلى بناء فقلت للملك ما هذا؟ قال بناء بناه الله للملائكة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون يسبحون الله ويقدسونه. وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس. وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو وقال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يركبن رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وقيل: المسجور المملوء وقيل: هو اليابس الذي ذهب ماؤه ونضب. وقيل: هو المختلط العذب بالملح. وروي عن علي أنه قال البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون من قبورهم أقسم الله

[سورة الطور (52): الآيات 11 إلى 21]

بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ يعني إنه لحق وكائن ونازل بالمشركين في الآخرة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي مانع. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أسارى بدر فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت ولم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل: تتحرك وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض وتضطرب وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإنذار والأعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة. [سورة الطور (52): الآيات 11 الى 21] فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) فَوَيْلٌ أي شدة عذاب يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي يوم القيامة الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي يخوضون في الباطل يَلْعَبُونَ أي غافلون لأهون عما يراد بهم يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يعني دفعا بعنف وجفوة، وذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون بها دفعا إلى النار على وجوههم وزجّا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها، قال لهم خزنتها: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا أَفَسِحْرٌ هذا ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى السحر وأنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك وقيل لهم: أفسحر هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها أي قاسوا شدتها فَاصْبِرُوا أي على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا أي عليه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر والجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب في الدنيا. قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ أي معجبين بذلك ناعمين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي من الخير والكرامة وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الإيمان والطاعة مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي موضوعة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ يعني ألحقنا أولادهم الصغار والكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه، أن معنى الآية والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر الله تعالى أنه

[سورة الطور (52): الآيات 22 إلى 23]

يجمع لعبده المؤمن من ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه فيدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا وذلك قوله تعالى: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: وما نقصنا الآباء من أعمالهم شيئا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم إلى آخر الآية. عن علي قال: «سألت خديجة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فولدي منك قال: في الجنة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم» أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي. كُلُّ امْرِئٍ أي كافر بِما كَسَبَ أي عمل من الشرك رَهِينٌ أي مرتهن بعمله في النار والمؤمن لا يكون مرتهنا بعمله لقوله «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين» ثم ذكر ما وعدهم به من الخير والنعمة فقال تعالى: [سورة الطور (52): الآيات 22 الى 23] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ يعني زيادة عما كان لهم وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي من أنواع اللحوم يَتَنازَعُونَ أي يتعاطون ويتناولون فِيها أي في الجنة كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها أي لا باطل فيها ولا رفث ولا تخاصم ولا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يكون فيها ما يؤثمهم ولا يجري بينهم ما فيه لغو وإثم كما يجري بين شربة الخمر في الدنيا. وقيل: لا يأثمون في شربها. [سورة الطور (52): الآيات 24 الى 30] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ أي في الحسن والبياض والصفاء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي وقال عبد الله بن عمرو ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل واحد منهم على عمل غير عمل صاحبه وعن قتادة قال: «ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعني يسأل بعضهم بعضا في الجنة قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه من الخوف والتعب في الدنيا قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي في الدنيا مُشْفِقِينَ أي خائفين من العذاب فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالمغفرة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ يعني عذاب النار وقيل: هو اسم من أسماء جهنم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نخلص الدعاء والعبادة له إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ قال ابن عباس: اللطيف وقيل: يعني الصادق فيما وعد. وقيل: البر العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم بره جميع خلقه الرَّحِيمُ بعبيده. قوله عز وجل: فَذَكِّرْ يعني فعظ يا محمد بالقرآن كفار مكة فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي برحمته وعصمته وقيل: بإنعامه عليك بالنبوة بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ الكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي والمعنى أنك لست كما يقول كفار مكة إنه كاهن أو مجنون إنما تنطلق بالوحي نزلت في الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكهانة والسحر والشعر والجنون أَمْ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المقتسمين

[سورة الطور (52): الآيات 31 إلى 37]

شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ بِهِ أي ننتظر به رَيْبَ الْمَنُونِ يعني حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أو يتفرق عنه أصحابه وإن أباه مات وهو شاب ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه والمنون اسم للموت وللدهر وأصله القطع سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل. [سورة الطور (52): الآيات 31 الى 37] قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) قُلْ تَرَبَّصُوا أي انتظروا بي الموت فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي من المنتظرين حتى يأتي أمر الله فبكم فعذبوا يوم بدر بالقتل والسبي أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم بِهذا وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي يتجاوزون الحد في الطغيان والكفر أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق القرآن من تلقاء نفسه والتقول التكلف ولا يستعمل إلا في الكذب والمعنى ليس الأمر كما زعموا بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي بالقرآن استكبارا ثم ألزمهم الحجة فقال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي مثل القرآن في نظمه وحسنه وبيانه إِنْ كانُوا صادِقِينَ يعني إن محمد تقوله من قبل نفسه أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ. قال ابن عباس: من غير رب خالق. والمعنى: أم خلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي لأنفسهم وذلك في البطلان أشد لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به وليوحدوه وليعبدوه وقيل: في معنى الآية: أخلقوا باطلا فلا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون أم هم الخالقون أي لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني ليس الأمر كذلك بَلْ لا يُوقِنُونَ أي بالحق وهو توحيد الله تعالى وقدرته على البعث وأن الله تعالى هو خالقهم وخالق السموات والأرض فليؤمنوا به وليوقنوا أنه ربهم وخالقهم أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ يعني النبوة ومفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا وقيل: خزائن المطر والرزق أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي المسلطون الجبارون. وقيل: الأرباب القاهرون فلا يكونون تحت أمر ولا نهي ويفعلون ما يشاءون. [سورة الطور (52): الآيات 38 الى 45] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يعني مرقى ومصعد إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي يستمعون عليه الوحي من السماء فيعلمون أن ما هم عليه حق فهم به مستمسكون فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ أي إن ادعوا ذلك بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة بينة أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ هذا إنكار عليهم حيث جعلوا لله ما يكرهون لأنفسهم أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي جعلا على ما جئتهم به من النبوة ودعوتهم إليه من الدين فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ يعني أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم فمنعهم عن الإسلام أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب وهو ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم به الرسول من أمر القيامة والبعث باطل. وقيل: هو جواب لقولهم نتربص به ريب المنون، والمعنى: اعلموا أن محمدا يموت قبلهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يحكمون قال ابن عباس: معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما

[سورة الطور (52): الآيات 46 إلى 49]

فيه ويخبرون الناس به أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي مكرا بك ليهلكوك فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي المجزيون بكيدهم والمعنى أن ضرر كيدهم يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم وهو أنهم مكروا به في دار الندوة ليقتلوه فقتلوا ببدر أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعني يرزقهم وينصرهم سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ المعنى: أنه نزه نفسه عما يقولون. قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً هذا جواب لقولهم فأسقط علينا كسفا من السماء يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم يَقُولُوا لمعاندتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض يسقينا فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا أي يعاينوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون ويهلكون. [سورة الطور (52): الآيات 46 الى 49] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي كفروا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل: هو الجوع والقحط سبع سنين وقيل: هو عذاب القبر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أن العذاب نازل بهم. قوله عز وجل: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم به فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا. أي بمرأى منا. قال ابن عباس: نرى ما يعمل بك. وقيل: معناه إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إليك بمكروه وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: وقل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيرا ازددت بذلك إحسانا وإن كان غير ذلك كان كفارة لك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس: معناه حين تقوم من منامك. وقيل: هو ذكر الله بالليل من حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة وعن عاصم بن حميد قال: «سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام الليل فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك كان إذا قام كبر عشرا وحمد الله عشرا وسبح عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» أخرجه أبو داود والنسائي وقيل: إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك يدل عليه ما روي عن عائشة قالت «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك» أخرجه الترمذي وأبو داود وقد تكلم في أحد رواته. وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي فصلّ له يعني صلاة المغرب والعشاء وَإِدْبارَ النُّجُومِ يعني الركعتين قبل صلاة الفجر ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب. وقيل: إدبار النجوم هي فريضة صلاة الصبح (ق) عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالطور» والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة النجم

سورة النجم (مكية وهي اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النجم (53): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال ابن عباس يعني الثريا إذا سقطت وغابت والعرب تسمي الثريا نجما ومنه قولهم إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: «ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع» أراد بالنجم الثريا، وقيل: هي نجوم السماء كلها وهويها غروبها فعلى هذا لفظه واحد ومعناه الجمع. وروي عن ابن عباس أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع. وقيل: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل: أراد بالنجم القرآن سمي نجما لأنه نزل نجوما متفرقة في عشرين سنة وهو قول ابن عباس أيضا. وقيل: النجم هو النبت الذي لا ساق له وهويه سقوطه إذا يبس على الأرض. وقيل: النجم هو محمد صلّى الله عليه وسلّم وهويه نزوله ليلة المعراج من السماء وجواب القسم قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما ضل عن طريق الهدى وَما غَوى أي ما جهل. وقيل: الفرق بين الضلال والغي أن الضلال هو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا والغواية أن لا يكون له طريق إلى مقصده مستقيم وقيل: إن الضلال أكثر استعمالا من الغواية وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي بالهوى والمعنى لا يتكلم بالباطل وذلك أنهم قالوا: إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه إِنْ هُوَ أي ما هو يعني القرآن وقيل: نطقه في الدين إِلَّا وَحْيٌ من الله يُوحى إليه. [سورة النجم (53): الآيات 5 الى 11] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى يعني جبريل علم محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما أوحى الله إليه عز وجل وكونه شديد القوى أنه اقتلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أسرع من رجعة الطرف ذُو مِرَّةٍ أي ذو قوة وشدة. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن وقيل: ذو خلق طويل حسن. فَاسْتَوى يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وَهُوَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمعنى استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عند مطلع الشمس وقيل: فاستوى يعني جبريل وهو كناية عن جبريل أيضا أي قام في صورته التي خلقه الله فيها وهو بالأفق الأعلى وذلك أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بحراء، فطلع له جبريل عليه الصلاة والسلام من ناحية المشرق، فسد الأفق إلى المغرب فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه، الصلاة والسلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة التي خلق عليها إلا نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. اختلف العلماء في معنى هذه الآية فروي عن مسروق بن الأجدع قال «قلت لعائشة فأين قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق» أخرجاه في الصحيحين. وعن زر بن حبيش في قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وفي قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى وفي قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: فيها كلها أن ابن مسعود قال «رأى جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح» زاد في رواية أخرى «رأى جبريل في صورته» أخرجه مسلم والبخاري في قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فعلى هذا يكون معنى الآية ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان منه قاب قوسين أو أدنى أي: بل أدنى وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو. وقال آخرون: ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلّى الله عليه وسلّم فتدلى أي فقرب منه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وقد ورد في الصحيحين في حديث المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس والتدلي هو النزول إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الحافظ عبد الحق في كتابه. الجمع بين الصحيحين، بعد ذكر حديث أنس من رواية شريك، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به وفي رواية شريك قدم وآخر وزاد ونقص فيحتمل أن هذا اللفظ من زيادة شريك في الحديث وقال الضحاك دنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربه عز وجل فتدلى أي فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى والقاب القدر والقوس الذي يرمي به وهو رواية عن ابن عباس. وقيل: معناه حيث الوتر من القوس فأخبر أنه كان بين جبريل ومحمد صلّى الله عليه وسلّم مقدار قوسين وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد بينهما خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريد أن بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قدر ذراعين والقوس الذراع التي يقاس بها من قاس يقيس أو أدنى بل أقرب فَأَوْحى أي فأوحى الله إِلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما أَوْحى وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أوحى جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أوحى إليه ربه عز وجل وقال سعيد بن جبير: أوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قوله عز وجل: ما كَذَبَ الْفُؤادُ قرئ بالتشديد أي ما كذب محمد صلّى الله عليه وسلّم ما رَأى أي بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه وقرئ بالتخفيف أي ما كذب فؤاد محمد الذي رآه بل صدقه والمعنى: ما كذب الفؤاد فيما رأى. واختلفوا في الذي رآه، فقيل: رأى جبريل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقيل: هو الله عز وجل ثم اختلفوا في معنى الرؤية فقيل جعل بصره في فؤاده وهو قول ابن عباس (م). عن ابن عباس ما

[سورة النجم (53): الآيات 12 إلى 16]

كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال: رآه بفؤاده مرتين وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه حقيقة وهو قول أنس بن مالك والحسن وعكرمة قالوا: رأى محمد ربه عز وجل. وروى عكرمة عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدا بالرؤية. وقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين أخرجه الترمذي بأطول من هذا. وكانت عائشة تقول: لم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه. وتحمل الآية على رؤية جبريل. عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وما كان لبشر أن يكلمه إلا الله وحيا أو من وراء حجاب. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ومن حدثك أن محمدا كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجاه في الصحيحين (م) عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربك؟ قال: نور أني أراه». قوله عز وجل: [سورة النجم (53): الآيات 12 الى 16] أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى يعني أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به. والمعنى: أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى (م) عن أبي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال: رأى جبريل. وعلى قول ابن عباس: يعني نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه عز وجل في بعضها. وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رآه بعينه عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (م) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها وقال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب». وفي رواية الترمذي إليها ينتهي علم الخلائق لا علم لهم فوق ذلك وفي حديث المعراج المخرج في الصحيحين «ثم صعد بي إلى السماء السابعة ثم قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى» فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى. وفي أفراد مسلم من حديث أنس قال: «ثم عرج بنا إلى السماء السابعة وذكره إلى أن قال فيه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال فلما غشيها من نور الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها» وقال هلال بن يساف سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر سدرة المنتهى فقال: يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو قال يستظل بظلها مائة ألف راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» أخرجه الترمذي. وقال: مقاتل هي شجرة تحمل الحلي والحلل

[سورة النجم (53): الآيات 17 إلى 19]

والثمار من جميع الألوان ولو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس: جنة المأوى يأوي إليها جبريل والملائكة وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن مسعود: فراش من ذهب وقيل: يغشاها ملائكة أمثال الغربان. وقيل: أمثال الطيور حتى يقعن عليها. وقيل: غشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة من حب الله تعالى أمثال الغربان حتى يقعن عليها وقيل: هو نور رب العزة ويروى في الحديث قال: رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله عز وجل: [سورة النجم (53): الآيات 17 الى 19] ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى يعني ما مال بصر النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يمينا وشمالا ولا جاوز ما رأى وقيل: ما أمر به وهذا وصف أدبه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام الشريف إذ لم يلتفت إلى شيء سوى ما أمر به. وفي معنى الآية إن قلنا إن الذي يغشى السدرة فراش من ذهب أي لم يلتفت إليه ولم يشتغل به وفيه بيان أدبه صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يقطع بصره عن المقصود وإن قلنا الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة ففيه وجهان: أحدهما: أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يلتفت عنه يمنة ولا يسرة ولا يشتغل بغير مطالعة ذلك النور. الوجه الثاني: ما زاغ البصر بصعقة ولا غشية كما أخبر عن موسى بقوله «وخر موسى صعقا» وذلك أنه لما تجلى رب العزة وظهر نوره على الجبل قطع نظره وغشي عليه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم ثبت في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول وتزل فيه الأقدام وتميل فيه الأبصار فوصف الله عز وجل قوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام العظيم بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى. وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآيات العظام وقيل: أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره ورجوعه وقيل: معناه لقد رأى من آيات ربه الآيات الكبرى (م) عن عبد الله بن مسعود قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح (خ) عنه قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. (فصل من كلام الشيخ محيي الدين النووي في معنى قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل ليلة الإسراء) قال القاضي عياض اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلّى الله عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة كما وقع في صحيح مسلم. وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين. وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن وكان يحلف على ذلك وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة وسؤال موسى إياها دليل على جوازها إذ لا يجهل نبي ما يجوز أن يمتنع على ربه. واختلفوا في أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا، فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه. وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس وكذلك اختلفوا في قوله: ثم دنا فتدلى فالأكثر على أن هذا

الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلّم أو مختص بأحدهما من الآخر أو من سدرة المنتهى. وذكر ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه أو من الله فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولا ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من الله لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلّى الله عليه وسلّم وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه. والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك وعظيم بره وفضله العظيم لديه ويكون قوله تعالى: قاب قوسين أو أدنى، هنا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن الله تعالى إجابة الرغبة وإبانة المنزلة هذا آخر كلام القاضي عياض. قال الشيخ محيي الدين: وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية. قال: والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة ولكن لا تتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس: «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين» وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه؟ قال: نعم. وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: رأى محمد ربه عز وجل وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل. والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه عز وجل فأخبره أنه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ولقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسمع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النفي هذا كلام صاحب التحرير في إثبات الرؤية. قال الشيخ محيي الدين فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو كان معها حديث لذكرته وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها، فنقول: أما احتجاج عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره. وأما احتجاجها بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الآية، فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، الوجه الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة. الوجه الثالث: ما قاله بعض العلماء إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة وهذا القول وإن كان محتملا لكن الجمهور. على أن المراد بالوحي هنا إلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحيا وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ

فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه من حديث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم وقول عائشة في أول الحديث «لقد قف شعري» فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال تقول العرب عند إنكار الشيء: قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي ذر «نور أني أراه» فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون المفتوحة ومعناه: حجابه نور فكيف أراه قال الماوردي الضمير في أراه عائد على الله تعالى والمعنى أن النور يمنعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حال بين الرائي وبينه وفي رواية رأيت نورا معناه: رأيت النور فحسب ولم أر غيره وفي رواية ذاته نور أني أراه ومعناه هو خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال ومن المستحيل أن تكون ذات الله نورا إذ النور من جملة الأجسام والله يتعالى عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين والله أعلم. قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى. وقيل: العزى تأنيث الأعز. والمعنى: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء وكان اللات بالطائف وقيل: بنخلة كانت قريش تعبده وقرئ اللات بالتشديد (خ). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان اللات رجلا يلت السويق للحاج. قيل: فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. وقيل: كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها ثم يتخذ حيسا فيطعم الحاج وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقيل: كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم وكان يسلأ السمن فيضعه على صخرة فتأتيه العرب فتلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولها ثقيف إلى منازلها فمرت الطائف على موضع اللات وأما العزى فقيل هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فقطعها فجعل يضربها بالفأس ويقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال: إن خالدا رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد قطعتها. فقال: ما رأيت؟ فقال ما رأيت شيئا فقال ما قطعت فعاودها ومعه المعول فقطعها واجتثت أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال: تلك العزى ولن تعبد أبدا. وقيل: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن سالم الغطفاني. وقيل: إنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فرجع إلى بطن نخلة فقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصفا وقال الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة. وقال: هذه المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار وأسندها إلى شجرة. وقال: هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة الثلاث حتى افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وأمر برفع الحجارة وأمر خالد بن الوليد بالعزى فقطعها وقيل: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وقوله تعالى:

[سورة النجم (53): الآيات 20 إلى 23]

[سورة النجم (53): الآيات 20 الى 23] وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) وَمَناةَ قيل: هي لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد وقيل: هي بيت بالمشلل كانت تعبده بنو كعب. وقيل: مناة، صنم لهذيل وخزاعة وكانت تعبدها أهل مكة وقيل: اللات والعزى ومناة أصنام من الحجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها الثَّالِثَةَ الْأُخْرى الثالثة نعت لمناة إذ هي الثالثة في الذكر وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى وإنما الأخرى هنا نعت للثلاثة قال الخليل: قالها لوفاق رؤوس الآي كقوله «مآرب أخرى» ولم يقل أخر. وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: هي صفة ذم كأنه تعالى قال ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة. فعلى هذا فالأصنام ترتب مراتب، وذلك لأن اللات كان صنما على صورة آدمي والعزّى شجرة فهي نبات ومناة صخرة فهي جماد وهي في أخريات المراتب. ومعنى الآية: هل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، وإذا رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للعبادة لأنها لا تضر ولا تنفع وقيل: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ألكم الذكر وله الأنثى. وقيل: كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك فقال الله عز وجل منكرا عليهم أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قال ابن عباس: أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم وقيل: قسمة عوجاء غير معتدلة إِنْ هِيَ أي ما هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والمعنى: أنكم سميتموها آلهة وليست حقيقة ولا بمعبودة حقيقة وقيل: معناه قلتم لبعضها عزى ولا عزة لها فلا يكون لها مسمى حقيقة. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بما تقولون إنها آلهة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي في قولهن إنها آلهة وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يعني هو ما زين لهم الشيطان من عبادة الأصنام وقيل: وضعوا عبادتهم بمقتضى شهواتهم والذي ينبغي أن تكون العبادة بمقتضى الشرع لا بمتابعة هوى النفس وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي البيان بالكتاب المنزل والنبي المرسل أن الأصنام ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار. قوله تعالى: [سورة النجم (53): الآيات 24 الى 30] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى معناه أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام أي ليس الأمر كما يظن ويتمنى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يملك أحد فيها شيئا أبدا إلا بإذنه وقيل: معناه أن الإنسان إذا اختار معبودا على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله ذلك إن شاء في الدنيا والآخرة وإن شاء أمهله إلى الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي ممن يعبدهم هؤلاء ويرجون شفاعتهم عند الله لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً يعني أن الملائكة، مع علو منزلتهم، لا تغني شفاعتهم، شيئا فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها ثم أخبر أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه فقال تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ أي في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي من أهل التوحيد قال ابن عباس يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه وقيل: إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن شاء الشفاعة له إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني الكفار الذين أنكروا البعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي بتسمية الأنثى حيث قالوا إنهم بنات الله. فإن قلت كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث.

[سورة النجم (53): الآيات 31 إلى 32]

قلت المراد منه بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمناسبته رؤوس الآي وقيل: إن كل واحد من الملائكة يسمونه تسمية الأنثى وذلك لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني بالله فيشركون به ويجعلون له ولدا وقيل: ما يستيقنون أن الملائكة أناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني في تسمية الملائكة بالإناث وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً يعني لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق وقيل معناه إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم وقيل: الحق هو الله تعالى والمعنى أن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن. وقيل: عن الإيمان وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يعني أنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يردوها ويعملوا لها وفيه إشارة إلى إنكارهم الحشر ثم صغر رأيهم فقال تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك نهاية علمهم وقلة عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة وقيل: معناه أنهم لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنهم يشفعون لهم فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن والإيمان إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي هو عالم بالفريقين ويجازيهم بأعمالهم. [سورة النجم (53): الآيات 31 الى 32] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا. والمعنى: إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي وحدوا ربهم بِالْحُسْنَى يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال ولله ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ قيل: الإثم، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وقيل: هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، وقيل: هو فعل ما لا يحل وقيل: الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر وَالْفَواحِشَ جمع فاحشة، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وقيل: هي ما فحش من الكبائر إِلَّا اللَّمَمَ أي إلا ما قل وصغر من الذنوب وقيل: هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية: إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملك كريم. عن ابن عباس في قوله عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب وقيل: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة وقيل: هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن

المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم. وقيل: اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس (ق) عن ابن عباس قال «ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». ولمسلم قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وقيل: اللمم على وجهين، أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الثاني: هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقيل: هو ما لم على القلب أي خطر وقيل: اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل: في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة) قال العلماء: أكبر الكبائر الشرك بالله وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها. فعلى هذا يقال في كل واحدة منها: هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها. وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس: كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلف في ضبطها، فروي عن ابن عباس أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا وقيل: هي ما وعد الله عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا. وقال الغزالي: في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرئ عليها اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه القواعد: إذا أردت معرفة الفرق بين الكبيرة والصغيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر فمن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم ممن أكل درهما

[سورة النجم (53): الآيات 33 إلى 36]

من مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته فإن تسببه إلى هذه المفسدة أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه. ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يؤخذ منه ثمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه الكبيرة: كل ذنب كبر وعظم عظما بحيث يصح معه أنه يطلق عليه اسم الكبيرة ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة ولها أمارات منها الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها ما وصف فاعلها بالفسق أو يضاف إليه اللعن كلعن الله من غير منار الأرض ونحو ذلك والله أعلم. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس: لمن فعل ذلك ثم تاب وأناب. وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس قالا: لا كبيرة في الإسلام أي لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار معناه أن الكبيرة أيضا تمحى بالاستغفار والتوبة والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار وقيل في حد الإصرار هو أن يتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بذنبه وتم الكلام على قوله إن ربك واسع المغفرة ثم ابتدأ فقال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي قبل أن يخلقكم وهو قوله: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني خلق أباكم آدم من التراب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ سمي جنينا لاستتاره في بطن أمه فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس: لا تمدحوها. وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال. وقيل في معنى الآية: هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم حالكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك أو أنا أزكى منك أو أتقى منك فإن العلم عند الله وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى وهو قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى يعني بمن بر وأطاع وأخلص العمل وقيل في معنى الآية فلا تزكوا أنفسكم يعني لا تنسبوها إلى زكاء العلم وزيادة الخير والطاعات وقيل لا تنسبوها إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. قيل: نزلت من ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فأنزل الله فيهم هذه الآية. قوله عز وجل: [سورة النجم (53): الآيات 33 الى 36] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم على دينه فغيره بعض المشركين وقالوا: أتركت دين الأشياخ وضللت. قال: إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن أعطاه كذا من ماله ورجع إلى الشرك أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى للذي عيره بعض الذي ضمن له من المال ومنعه تمامه فأنزل الله أفرأيت الذي تولى يعني أدبر وأعرض عن الإيمان وَأَعْطى يعني لصاحبه الذي عيره قَلِيلًا وَأَكْدى أي بخل بالباقي. وقيل: أعطى قليلا يعني من الخير بلسانه وأكدى يعني قطعه وأمسك ولم يعم بالعطية. وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأمور. وقيل: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله: وأعطى

[سورة النجم (53): الآيات 37 إلى 41]

قليلا وأكدى يعني لم يؤمن به ومعنى الآية أكدى يعني قطع وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي ما غاب عنه يعني أن صاحبه يتحمل عنه عذابه أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يعني يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني أسفار التوراة. [سورة النجم (53): الآيات 37 الى 41] وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَإِبْراهِيمَ يعني ويخبر بما في صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى يعني كمل وتمم مما أمر به وقيل: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه وقيل وفي فرض عليه وقيل قام بذبح ولده وقيل استكمل الطاعة. وقيل: وفي بما فرض عليه في سهام الإسلام وهو قوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ والتوفية الإتمام. وقيل: وفي شأن المناسك. وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إبراهيم الذي وفي عمله كل يوم بأربع ركعات أول النهار. عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله تبارك وتعالى أنه قال «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب ثم بين ما في صحفهما فقال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى. والمعنى: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم. وقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي عمل وهذا في صحف إبراهيم وموسى أيضا قال ابن عباس هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقيل كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلها ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي عن ابن عباس «أن امرأة رفعت صبيا لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجرا» أخرجه مسلم وعنه «أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم». وفي رواية أن سعد بن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه وأخرجه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم.» أخرجاه في الصحيحين. وفي حديث ابن عباس دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعا. وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه وإنما يكون ذلك تمرينا للعبادة. وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها. وهو إجماع العلماء. وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين للنصوص الواردة في ذلك ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجع جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابه: يصله ثوابها. وبه قال أحمد بن حنبل وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله عند الشافعي والجمهور. وقال أحمد: يصله ثواب الجميع والله أعلم. وقيل: أراد بالإنسان الكافر. والمعنى: ليس له من الخير إلا ما عمل هو فيثاب عليه في الدنيا بأن يوسع عليه في رزقه ويعافى في بدنه حتى لا يبقى له في الآخرة خير وروي أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان أعطى

[سورة النجم (53): الآيات 42 إلى 47]

العباس قميصا ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قميصه ليكفن فيه فلم يبق له في الآخرة حسنة يثاب عليها. وقيل: ليس للإنسان إلا ما سعى هو من باب العدل فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما يشاء من فضله وكرمه وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه في ميزانه يوم القيامة وفيه بشارة للمؤمن وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غما ثُمَّ يُجْزاهُ أي السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي الأتم والأكمل. والمعنى: أن الإنسان يجزى جزاء سعيه الجزاء الأوفى. قوله عز وجل: [سورة النجم (53): الآيات 42 الى 47] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إليه منتهى الخلق ومصيرهم إليه في الآخرة وهو مجازيهم بأعمالهم وفي المخاطب بهذا وجهان أحدهما أنه عام تقديره وأن إلى ربك أيها السامع أو العاقل كائنا من كان المنتهى فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ليقلع المسيء عن إساءته ويزداد المحسن في إحسانه الوجه الثاني أن المخاطب بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا، ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: لا تحزن فإن إلى ربك المنتهى. وقيل. في معنى الآية: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال لا فكرة في الرب. وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة». ومعناه: لا فكرة في الرب أي انتهى الأمر إليه لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة علمت أن لا بد لها من موجد وإذا علمت أن موجدها هو الله تعالى فقد انتهى الأمر إليه فهو إشارة إلى وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار قيل أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقيل: أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء عن جابر بن سمرة قال «جلست مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم إذا ضحكوا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية سماك بن حرب: فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم. وسئل ابن عمر: هل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل (ق). عن أنس قال: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فغطى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوههم لهم خنين» وهو بالخاء المعجمة أي بكاء مع صوت يخرج من الأنف وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات في الدنيا وأحيا للبعث. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي من كل حيوان وهو أيضا من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فيخلق بعضها ذكرا وبعضها أنثى وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تصب في الرحم. وقيل: تقدر. وفي هذا تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق الله منها أعضاء مختلفة وطباعا متباينة وخلق منها الذكر والأنثى وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته ولهذا لم يؤكده بقوله وأنه هو خلق لأنه لم يدع أحد إيجاد نفسه ولا خلقها ولا خلق غيره كما لم يقدر أحد أن يدعي خلق السموات والأرض وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ

[سورة النجم (53): الآيات 48 إلى 56]

الْأُخْرى أي الخلق الثاني بعد الموت للبعث يوم القيامة. [سورة النجم (53): الآيات 48 الى 56] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى الناس بالأموال وأعطى القنية وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية. وقيل: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية. وأقنى: بالإبل والبقر والغنم. وقيل: أقنى أي أخدم. وقال ابن عباس: أغنى وأقنى، أي أعطى فأرضى. وقيل: أغنى يعني رفع حاجته ولم يتركه محتاجا إلى شيء لأن الغنى ضد الفقر، وأقنى: أي زاد فوق الغنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي أنه رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى وأول من سن لهم ذلك الرجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة تشبيها له في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة وعبد الشعرى وهو كوكب يضيء خلف الجوازء ويسمى كلب الجبار أيضا وهما اثنتان: يمانية وشامية يقال لإحداهما العبور والأخرى الغميصاء. سميت بذلك لأنها أخفى من العبور والمجرة بينهما. وأراد بالشعرى هنا العبور وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب فكانوا عادا أخرى وقيل: الأخرى إرم. وقيل: الأولى يعني أول الخلق هلاكا بعد قوم نوح وَثَمُودَ وهم قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة فَما أَبْقى يعني منهم أحدا وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ يعني أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود بالغرق إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى يعني لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب وَالْمُؤْتَفِكَةَ يعني قرى قوم لوط أَهْوى أي أسقط وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها فَغَشَّاها أي ألبسها الله ما غَشَّى يعني الحجارة المنضودة المسومة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي تشكّ أيها الإنسان. وقيل: أراد الوليد بن المغيرة. قال ابن عباس: تتمارى أي تكذب هذا نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي رسول من الرسل المتقدمة أرسل إليكم كما أرسلت الرسل إلى قومهم وقيل: أنذر محمد كما أنذرت الرسل من قبله. [سورة النجم (53): الآيات 57 الى 62] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة واقتربت الساعة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي مظهرة ومبينة متى تقوم. وقيل: معناه ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله غير أنه لا يكشفها. وقيل: الكاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية. والمعنى: لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره. وقيل: معناه ليس لها رد يعني: إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد. قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ تنكرون وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من الوعيد وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون غافلون قاله ابن عباس. وعنه، أن السمود هو الغناء بلغة أهل اليمن وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا. ولعبوا وأصل السمود في اللغة، رفع الرأس، مأخوذ، من سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في سيره والسامد اللاهي والمعنى. وقيل: معناه أشرون بطرون. وقال مجاهد: غضاب

مبرطمون قيل له: وما البرطمة؟ قال: الإعراض فَاسْجُدُوا لِلَّهِ يعني أيها المؤمنون شكرا على الهداية. وقيل: هذا محمول على سجود التلاوة. وقيل: على سجود الفرض في الصلاة وَاعْبُدُوا أي اعبدوا الله وإنما قال: واعبدوا، إما لكونه معلوما، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله تعالى (ق) عن عبد الله بن مسعود: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافر» زاد البخاري في رواية له قال: «أول سورة نزلت فيها سجدة النجم وذكره» وقال في آخره وهو «أمية بن خلف» (خ). عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس (ق) عن زيد بن ثابت قال: «قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النجم فلم يسجد فيها» ففي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب وهو قول الشافعي وأحمد وقال عمر بن الخطاب: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع وهو قول سفيان وأصحاب الرأي والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة القمر

سورة القمر (مكية وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثون وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القمر (54): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) قوله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت القيامة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قيل: فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وانشقاق القمر من آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة ومعجزاته يدل عليه ما روي عن أنس: «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين». أخرجه البخاري ومسلم. وزاد الترمذي فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ولهما عن ابن مسعود. قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شقتين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا» وفي رواية أخرى قال: «بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه. فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا» ولهما عن ابن عباس قال: «إن القمر انشق في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (م) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اشهدوا» وعن جبير بن مطعم قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصار فرقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم» أخرجه الترمذي وزاد غيره فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم. قال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا: نعم. قد رأيناه فأنزل الله تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر. فهذه الأحاديث الصحيحة قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن المجيد بذلك فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن وقد أخبر عنه الصادق فيجب الإيمان به واعتقاد وقوعه. وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم، قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره. فأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا النقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في رؤيتهم له ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء عن هذا بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ

[سورة القمر (54): الآيات 4 إلى 7]

النادر. ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء في الليل من العجائب والأنوار والطوالع والشهب العظام ونحو ذلك يقع ولا يتحدث به إلا آحاد الناس ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرناه من غفلة الناس. وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها، فلم يتأهب غيرهم لها. قال العلماء: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم وقيل في معنى الآية ينشق القمر يوم القيامة وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه ولأن الله ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا دليل على وجود هذه الآية العظيمة وقد كان ذلك في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: وإن يروا آية أي تدل على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالآية هنا انشقاق القمر يعرضوا أي عن التصديق بها وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي دائم مضطرد. وكل شيء دام حاله قيل فيه: مستمر. وذلك لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات فقالوا هذا سحر مستمر: وقيل مستمر أي قوي محكم شديد بعلوه يعلو كل سحر. قيل: مستمر أي ذاهب سوف يبطل ويذهب ولا يبقى وإنما قالوا ذلك تمنية لأنفسهم وتعليلا وَكَذَّبُوا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وما عاينوا من قدرة الله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم الشيطان من الباطل وقيل: هو قولهم إنه سحر القمر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي لكل أمر حقيقة فما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقيل: كل أمر مستقر. فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار، وقيل: يستقر قول المصدقين والمكذبين حين يعرفون حقيقته بالثواب أو العقاب. وقيل: معناه لكل حديث منتهى. وقيل: ما قدر فهو كائن وواقع لا محالة. وقيل: هو جواب قولهم سحر مستمر يعني ليس أمره بذاهب كما زعمتم بل كل أمر من أموره مستقر وإن أمر محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيظهر إلى غاية يتبين فيها أنه حق. [سورة القمر (54): الآيات 4 الى 7] وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي من أخبار الأمم الماضية المكذبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي منتهى وموعظة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي غنى تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم نسختها آية القتال يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي اذكر يا محمد يوم يدع الداعي وهو إسرافيل ينفخ في الصور قائما على صخرة بيت المقدس إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي منكر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظاما له خُشَّعاً وقرئ خاشعا أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مثل في كثرتهم وتموج بعضهم في بعض حيارى فزعين. [سورة القمر (54): الآيات 8 الى 14] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)

[سورة القمر (54): الآيات 15 إلى 24]

مُهْطِعِينَ مسرعين مادي أعناقهم مقبلين إِلَى الدَّاعِ يعني إلى صوت الداعي وهو إسرافيل وقيل ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي صعب شديد وفيه إشارة إلى أن ذلك اليوم يوم شديد على الكافرين لا على المؤمنين. قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجروه على دعوته ومقالته بالشم والوعيد بقولهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ فَدَعا يعني نوحا رَبَّهُ وقال أَنِّي مَغْلُوبٌ أي مقهور فَانْتَصِرْ أي فانتقم لي منهم فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قيل هو على ظاهره وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبوابا. وقيل: هو على الاستعارة، فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب انصبابا شديدا لم ينقطع أربعين يوما وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها عيونا تسيل بالماء فَالْتَقَى الْماءُ يعني ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي قضى عليهم في أم الكتاب. وقيل قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر وَحَمَلْناهُ يعني نوحا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ يعني سفينة ذات ألواح. وأراد بالألواح، خشب السفينة العريضة. وَدُسُرٍ هي المسامير التي تشد بها الألواح وقيل الدسر صدر السفينة. وقيل: هي عوارض السفينة وأضلاعها. وقيل: الألواح: جانبا السفينة، والدسر: أصلها وطرفاها. تَجْرِي يعني السفينة بِأَعْيُنِنا يعني بمرأى منا. وقيل: بحفظنا. وقيل: بأمرنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يعني فعلنا ذلك به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لنوح لأنه كان كفر به وجحد أمره. وقيل لمن بمعنى لما أي جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم. وقيل: جزاء لما صنع بنوح وأصحابه. [سورة القمر (54): الآيات 15 الى 24] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً يعني الفعلة التي فعلنا بهم آية يعتبر بها. وقيل: أراد السفينة. قال قتادة: أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة عبرة حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متذكر معتبر متعظ خائف مثل عقوبتهم (ق) عن ابن مسعود قال «قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مذكر فردها عليّ» وفي رواية أخرى «سمعته يقرؤها فهل من مدكر دالا» فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ يعني إنذاري وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ يعني سهلنا القرآن لِلذِّكْرِ يعني ليتذكر ويعتبر به قال سعيد بن جبير يسرناه للحفظ والقراءة وليس شيء من كتب الله تعالى يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متعظ بمواعظه وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم. قوله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاري لهم بالعذاب إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديدة الهبوب فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي يوم شؤم مُسْتَمِرٍّ أي دائم الشؤم استمر على جميعهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحد إلا هلك فيه. وقيل: كان ذلك اليوم يوم الأربعاء في آخر الشهر تَنْزِعُ النَّاسَ أي الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على

[سورة القمر (54): الآيات 25 إلى 31]

رؤوسهم فتدق رقابهم. قيل: كانت تنزعهم من حفرهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قال ابن عباس: أصول نخل مُنْقَعِرٍ أي منقطع من مكانه ساقط على الأرض. قيل: كانت الريح تبين رؤوسهم من أجسامهم فتبقي أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالإنذار الذي جاء به صالح فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً يعني آدميا واحدا منا نَتَّبِعُهُ أي ونحن جماعة كثيرون إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أي خطأ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: عذاب. وقيل: شدة عذاب وقيل إنا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته. وقيل: لفي جنون. وقيل: لفي بعد عن الحق. [سورة القمر (54): الآيات 25 الى 31] أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ يعني أأنزل الوحي عليه مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة سَيَعْلَمُونَ غَداً أي حين ينزل بهم العذاب. وقيل: يعني يوم القيامة وإنما ذكر الغد للتقريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي صالح أم من كذبه إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا، وذلك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة حمراء ناقة عشراء فقال الله تعالى إنا مرسلو الناقة فِتْنَةً أي محنة واختبارا لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ أي على أذاهم وَنَبِّئْهُمْ أي أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي بين الناقة وبينهم لها يوم ولهم يوم وإنما قال تعالى بينهم تغليبا للعقلاء كُلُّ شِرْبٍ أي نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ أي يحضره من كانت نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يومهم حضروا شربهم. وقيل: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت حضروا اللبن فَنادَوْا صاحِبَهُمْ يعني قدار بن سالف فَتَعاطى أي فتناول الناقة بسيفه فَعَقَرَ يعني الناقة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثم بين عذابهم فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً يعني صيحة جبريل فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرجل يحظر لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم. وقيل: هو الشجر البالي الذي يهشم حين تذروه الرياح. والمعنى: أنهم صاروا كيبيس الشجر إذا بلي وتحطم وقيل كالعظام النخرة المحترقة وقيل هو التراب يتناثر من الحائط. [سورة القمر (54): الآيات 32 الى 42] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً يعني الحصباء وهي الحجارة التي دون ملء الكف وقد يكون الحاصب الرامي، فعلى هذا، يكون المعنى إنا أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم أي يرميهم بالحجارة ثم استثنى.

[سورة القمر (54): الآيات 43 إلى 48]

فقال تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوطا وابنتيه نَجَّيْناهُمْ يعني من العذاب بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم كَذلِكَ نَجْزِي أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي مَنْ شَكَرَ يعني أن من وحد الله لم يعذبه مع المشركين وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا يعني أخذنا إياهم بالعقوبة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عميا بإذن الله يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون. ومعنى: فطمسنا أعينهم، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. وقيل: طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا؟ فلم يروهم فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ يعني ما أنذركم به لوط من العذاب وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي جاءهم وقت الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قوله عز وجل: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام. وقيل: النذر، الآيات التي أنذرهم بها موسى كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ يعني بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة فقال تعالى: [سورة القمر (54): الآيات 43 الى 48] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار، أي، ليسوا بأقوى منهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ يعني من العذاب فِي الزُّبُرِ أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية أَمْ يَقُولُونَ يعني كفار مكة نَحْنُ جَمِيعٌ يعني أمرنا مُنْتَصِرٌ يعني من أعدائنا والمعنى: نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا. ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي. وقيل: معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال: كلهم عالم، يعني: كل واحد منهم عالم. قال الله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي. وقيل في الإفراد، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فهم في ذلك كرجل واحد (خ). عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في قبة يوم بدر «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر. وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر: كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في درعه ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ يعني جميعا والساعة أدهى وأمر، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر.

[سورة القمر (54): الآيات 49 إلى 51]

قوله عز وجل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم. وقيل: في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة. وقيل: في ضلال، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلّى الله عليه وسلّم مس سقر. [سورة القمر (54): الآيات 49 الى 51] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له. وقال ابن عباس: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. (فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه) (م) «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» قال وعرشه على الماء (م). عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (م) عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: كل شيء بقدر الله تعالى قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز». عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. وفي حديث جبريل المتفق عليه: وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت ففيه ذم القدرية. عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال». أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله «وزاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام». وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء الله فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر». قال ابن الجوزي: وإنما قيل: خصماء الله، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها. وروي عن الحسن قال: والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل، وصلّى حتى يصير كالوتر،

ثم أخذ ظلما حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها الله تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا. وسميت هذه الفرقة قدرية، لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه. وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين، أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر. قال ابن قتيبة وإمام الحرمين: هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى الله تعالى. ويضيفون القدر والأفعال إلى الله تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. قال إمام الحرمين: وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «القدرية مجوس هذه الأمة» شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن. ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية. وحديث: القدرية مجوس هذه الأمة، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين. وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي: إنما جعلهم صلّى الله عليه وسلّم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين: النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكساب العباد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها. قال: والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر. ويقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلقهن. وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل العقد والحل من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقد قرر ذلك أئمة المتكلمين أحسن تقرير بدلائله القطعية السمعية والعقلية والله أعلم. وأما معاني الأحاديث المتقدمة، فقوله: جاء مشركو قريش إلى قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله تعالى مراد له، وكذلك قوله: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء المراد منه تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل القدر فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله وعرشه على الماء أي قبل أن يخلق السموات والأرض، وقوله: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو قال: الكيس

[سورة القمر (54): الآيات 52 إلى 55]

والعجز. العجز: عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله بالتسويف به وتأخيره عن وقته. وقيل: يحتمل العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعنى الحديث: أن العاجز قدر عجزه والكيس قدر كيسه. قوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي وما أمرنا إلا مرة واحدة وقيل معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كُنْ فَيَكُونُ لا مراجعة فيه فعلى هذا إذا أراد الله سبحانه وتعالى شيئا قال له كن فيكون فهنا بان فرق بين الإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحدة فيه بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول بل هو إشارة إلى نفاذ الأمر كَلَمْحِ الْبَصَرِ قال ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وعن ابن عباس أيضا: معناه وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متعظ بأن ذلك حق فيخاف ويعتبر. [سورة القمر (54): الآيات 52 الى 55] وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأشياع من خير وشر فِي الزُّبُرِ أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم مُسْتَطَرٌ أي مكتوب. قوله عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ أي بساتين وَنَهَرٍ أي أنهار وإنما وحّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقيل: معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن الله صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق عِنْدَ مَلِيكٍ قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان مُقْتَدِرٍ أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها. قال جعفر الصادق: وصف الله تعالى المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء السادس من تفسير الخازن ويليه الجزء السابع وأوله سورة الرّحمن

سورة الرحمن علا، وعز وجل

سورة الرّحمن علا، وعز وجل (وهي مكية وذكر ابن الجوزي أنها مدنية في قول من قولين عن ابن عباس وهي ست وسبعون آية وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا). [سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) قوله عز وجل: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قيل لما نزلت اسجدوا للرحمن قال كفار مكة وما الرّحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرّحمن فأنزل الله الرّحمن يعني الذي أنكرتموه هو الذي علم القرآن، وقيل هذا جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فقال تعالى الرّحمن علم القرآن يعني علّم محمدا القرآن وقيل علّم القرآن يسره للذكر ليحفظ ويتلى وذلك أن الله عز وجل عد نعمه على عباده فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه وأكثره ذكرا وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني أسماء كل شيء وقيل علّمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية وقيل الإنسان اسم جنس وأراد به جميع الناس، فعلى هذا يكون معنى علمه البيان أي النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات، وقيل علمه الكتابة والفهم والإفهام حتى عرف ما يقول وما يقال له وقيل علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقيل أراد بالإنسان محمدا صلّى الله عليه وسلّم علّمه البيان يعني بيان ما يكون وما كان لأنه صلّى الله عليه وسلم ينبئ عن خبر الأولين والآخرين وعن يوم الدين، وقيل علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام والحدود والأحكام. [سورة الرحمن (55): الآيات 5 الى 11] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال ابن عباس يجريان بحساب ومنازل لا يتعديانها وقيل يعني بهما حساب الأوقات والآجال ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد، وقيل الحساب هو الفلك تشبيها بحسبان الرحى وهو ما يدور الحجر بدورانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قيل النجم ما ليس له ساق من النبات كالبقول والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء وسجودها سجود ظلها وقيل النجم هو الكوكب، وسجوده طلوعه والقول الأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ولأنهما أرضيان في مقابلة سماءين وَالسَّماءَ رَفَعَها أي فوق الأرض وَوَضَعَ الْمِيزانَ قيل أراد بالميزان العدل لأنه آلة العدل والمعنى أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لا تجاوزوا العدل وقيل أراد به الآلة التي يوزن بها للتوصل إلى الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير أن لا تطغوا في الميزان أي لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في

[سورة الرحمن (55): الآيات 12 إلى 15]

الميزان وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب وَلا تُخْسِرُوا أي لا تنقصوا الْمِيزانَ أي لا تطففوا في الكيل والوزن أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه وَالْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها مدحوة على الماء لِلْأَنامِ يعني للخلق الذين بثهم فيها وهو كل ما ظهر عليها من دابة وقيل للإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فِيها يعني في الأرض فاكِهَةٌ يعني من أنواع الفاكهة وقيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف وهو الطلع ما لم ينشق وكل شيء ستر شيئا فهو كم وقيل أكمامها ليفها واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها وأكثرها بركة. [سورة الرحمن (55): الآيات 12 الى 15] وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) وَالْحَبُّ يعني جميع الحبوب التي يقتاب بها كالحنطة والشعير ونحوهما وإنما أخّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل وأعم وجودا في الأماكن ذُو الْعَصْفِ قال ابن عباس يعني التبن وعنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه ويبس وقيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه ولا ورق وهو العصف ثم يكون سوقا ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب وَالرَّيْحانُ يعني الرزق قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق وقيل هو الريحان الذي يشم، وقيل: العصف التبن والريحان ثمرته فذكر قوت الناس والأنعام ثم خاطب الجن والإنس فقال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة وكرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم ويقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن حاملا فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريرا وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه وخاطب الجن والإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم. عن جابر رضي الله تعالى عنه قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية غيره «كانوا أحسن منكم ردا وفيه ولا بشيء» قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ يعني من طين يابس له صلصلة وهو الصوت منه إذا نقر كَالْفَخَّارِ يعني الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب وقال من حمإ مسنون وقال من طين لازب وقال من ماء مهين وقال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق وذلك أن الله تعالى خلقه أولا من تراب ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنونا وهو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالا كالفخار وَخَلَقَ الْجَانَّ وهو أبو الجن. وقيل هو إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.

[سورة الرحمن (55): الآيات 16 إلى 25]

[سورة الرحمن (55): الآيات 16 الى 25] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف وهو غاية ارتفاع الشمس ومشرق الشتاء وهو غاية انحطاط الشمس. وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يعني مغرب الصيف ومغرب الشتاء، وقيل يعني مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني أرسل البحرين العذب والملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط وهو قوله: يَلْتَقِيانِ لكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ وهو قوله: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على صاحبه وقيل لا يختلطان ولا يتغيران وقيل لا يطغيان على الناس بالغرق وقيل مرج البحرين بحر الروم وبحر الهند وأنتم الحاجز بينهما وقيل بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقيل بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وقيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر ولا يخرج من جميع البحر ولكن من بعضه وقيل يخرج من السماء وماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة، وقوله تعالى: اللُّؤْلُؤُ قيل هو ما عظم من الدر وَالْمَرْجانُ صغاره وقيل بعكس ذلك وقيل المرجان هو الخرز الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الكبار الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض وقيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت وقيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قوله عز وجل: [سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 31] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من حيوان وإنما ذكره بلفظة من تغليبا للعقلاء فانٍ أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة وصرف الزمن اليسير إلى الطاعة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يعني ذاته والوجه يعبر به عن الجملة. وفي المخاطب وجهان أحدهما أنه كل واحد والمعنى ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع. والوجه الثاني: أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذُو الْجَلالِ أي ذو العظمة والكبرياء ومعناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وَالْإِكْرامِ أي المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أخرجه الترمذي وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها. قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني من ملك وإنس وجن فلا يستغني عن فضله أهل السموات والأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وقيل كل

[سورة الرحمن (55): الآيات 32 إلى 35]

أحد يسأل الرحمة وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه وفيه إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى وأن كل مخلوق وإن جل وعظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا قال المفسرون من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل قوما ويشفي مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويفرج عن مكروب ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلا ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن مما خلق الله عز وجل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال ابن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه إن الله عز وجل كتب ما يكون في كل يوم وقدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قيل هو وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة وليس هو فراغ عن شغل لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك وما به شغل وهذا قول ابن عباس وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك وقيل معناه أن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك ونفرغ منه فهو على طريق المثل وأراد بالثقلين الإنس والجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتا، وقيل كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما وقال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس والجن ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب. [سورة الرحمن (55): الآيات 32 الى 35] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جوانبهما وأطرافهما فَانْفُذُوا أي فاخرجوا والمعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة والمعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكي ومن سمائي وأرضي فافعلوا وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ والهرب من الإنس وأقوى على ذلك ثم قال تعالى: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر وغلبة وأني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني وقال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفي الخبر «يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادي» يا مَعْشَرَ

[سورة الرحمن (55): الآيات 36 إلى 41]

الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية فذلك قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه وقيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار وَنُحاسٌ وقيل هو الدخان وهو رواية عن ابن عباس وقيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل وقيل يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة وقيل يجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر فَلا تَنْتَصِرانِ أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه. [سورة الرحمن (55): الآيات 36 الى 41] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفرجت فصارت أبوابا لنزول الملائكة وقيل المراد منه خراب السماء وذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء وقيل فيه تهويل وتعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن وهو تشقق السماء وذوبانها وهو قوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة وقيل إن السماء تتلون يومئذ ألوانا كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه وقيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألوانا وقيل تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصلها حر جهنم وقيل كالدهان أي كالأديم الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن الله تعالى علمها منهم وكتبتها الحفظة عليهم وهذه رواية عن ابن بعاس وعنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده وعن ابن عباس أيضا في الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتم كذا وكذا وقيل إنها مواطن فيسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها وعن ابن عباس أيضا قال لا يسألون سؤال شفقة ورحمة إنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وقيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ، يعني بسواد وجوههم وزرقة عيونهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره وقيل تجعل رؤوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة وقيل يسحب بعضهم بالنواصي وبعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار. [سورة الرحمن (55): الآيات 42 الى 46] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يعني قد انتهى حره أي أنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل وقال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

[سورة الرحمن (55): الآيات 47 إلى 54]

تُكَذِّبانِ فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ إلى هنا ليست نعما فكيف عقبها بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ وزواجر وتخويف وكل ذلك نعمة من الله تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعما فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه من عباده المؤمنين فقال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة والمعصية وقيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه وهو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله واطلاعه عليه فيدعها من مخافة الله وقيل لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته وما عمل من خير أخلصه لله ولا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله مع الإخلاص ودأبوا الليل والنهار جَنَّتانِ يعني جنة عدن وجنة نعيم وقيل جنة بخوفه ربه وجنة بتركه شهوته. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج مخففا سير أول الليل ومثقلا سير آخر الليل والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل وروى البغوي بسنده عن أبي ذر «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر». [سورة الرحمن (55): الآيات 47 الى 54] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: ذَواتا أَفْنانٍ أي أغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا وقيل ذواتا ظلال وهو ظل الأغصان على الحيطان، وقال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس بالكرامة والزيادة لأهل الجنة وقيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان ونوعان وقيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها جمع بطانة والتي تلي الأرض من تحت الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود وأبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وعنه أيضا قال بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد وقال ابن عباس وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر وقيل ظواهرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم والقاعد والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا

[سورة الرحمن (55): الآيات 55 إلى 58]

فإنها لا تنال إلا بكدّ وتعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وقيل لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك. [سورة الرحمن (55): الآيات 55 الى 58] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟ قلت إلى الجنتين وإنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن وقصور ومجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي لم يجامعهن ولم يفرعهن والمعنى لم يدمهن بالجماع وقيل معناه لم يمسهن ومنه قول الفرزدق: خرجن إلي لم يطمثن قبل ... وهن أصح من بيض النعام أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي قبل أزواجهن من أهل الجنة، وَلا جَانٌّ قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم وفي الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وسئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم وقرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع ولم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن وقيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن. لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد وقيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا ومعنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضا وقيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه وقال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك لأن الله تعالى يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال وقد روي عن ابن مسعود بمعناه ولم يرفعه وهو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا، وللبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد وزاد فيه ولا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود.

[سورة الرحمن (55): الآيات 59 إلى 66]

[سورة الرحمن (55): الآيات 59 الى 66] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة، وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي، وقيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمنين بالإحسان وهو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل والعقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان وقال ابن عباس من دونهما في الدرج وقيل في الفضل وقال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين وقال ابن جريج هن أربع جنان: جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وقال الكناني ومن دونهما جنتان يعني أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والجنتان الأخريان من ياقوت وزبرجد وهما أفضل من الأوليين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ أي سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوارتان بالماء لا ينقطعان وقال ابن عباس والضحاك ينضخان بالخير والبركة على أهل الجنة وقال ابن مسعود ينضخان بالمسك والكافور على أولياء الله وقال أنس بن مالك ينضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر. [سورة الرحمن (55): الآيات 67 الى 76] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها وإنما عطف النخل والرمان بالواو وإن كانا من جملة الفواكه تنبيها على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه وعلى هذا القول عامة المفسرين وأهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص والتفضيل فهو كقوله من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال خصهما بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفهما وفضلهما وقيل بعضهم ليس النخل والرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة وطعام وثمرة الرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ولهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث وخالفه صاحباه وهذا القول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية وروى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفا قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم وثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين

[سورة الرحمن (55): الآيات 77 إلى 78]

من الزبد ليس له عجم وروي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب وقيل إن نخل أهل الجنة نضيد وثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعا، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي في الجنان الأربع خَيْراتٌ حِسانٌ روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن وشرفهن روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» وقيل قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا فِي الْخِيامِ قيل هي البيوت. قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام ويقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل وخيم بها إذا قام بها وتظلل فيها وقيل كل خيامها من در ولؤلؤ وزبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة. (ق) عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ تقدم تفسيره، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة ويروى هذا عن ابن عباس وقيل إن الرفرف البسط، وعن ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط منه وقيل هي مجالس خضر فوق الفرش وقيل هي المرافق وقيل الزرابي وقيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قيل هي الزرابي والطنافس الثخان وقيل هي الطنافس الرقاق وقيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري وقال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» وأصل هذا فيما قيل إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب وذلك أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن نسبوا إليها كل شيء عجيب بديع. [سورة الرحمن (55): الآيات 77 الى 78] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» وفيه إشارة إلى أن الباقي هو الله تعالى وأن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية وهو إشارة إلى تمجيده وتحميده (م) عن ثوبان قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول والله أعلم بمراده.

سورة الواقعة

سورة الواقعة (مكية وهي سبع وتسعون آية وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة وألف وسبعمائة وثلاثة أحرف) روى البغوي بسنده عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا». وكان أبو ظبية لا يدعها أبدا، وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول لم يعزه، والله تعالى أعلم. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) قوله عز وجل: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعني إذا قامت القيامة وقيل إذا نزلت صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة وقيل الواقعة اسم للقيامة كالآزفة، لَيْسَ لِوَقْعَتِها يعني لمجيئها كاذِبَةٌ يعني ليس لها كذب والمعنى أنها تقع حقا وصدقا وقيل معناه ليس لوقعتها قصة كاذبة أي كل ما أخبر الله عنها وقص من خبرها قصة صادقة غير كاذبة وقيل معناه ليس لوقعتها نفس كاذبة أي إن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها، خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة وقال ابن عباس تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع أقواما كانوا في الدنيا مستضعفين وقيل تخفض أقواما بالمعصية وترفع أقواما بالطاعة، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا حركت وزلزلت زلزالا وذلك أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا وخوفا قال المفسرون ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما فيها من جبال وغيرها وهو قوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول وقيل صارت كثيبا مهبلا بعد أن كانت شامخة وقيل معناه قلعت من أصلها وسيرت على وجه الأرض حتى ذهب بها فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً ثم فسر الأزواج فقال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يعني أصحاب اليمين. والميمنة ناحية اليمين وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وقال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وقال الله تعالى: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم وكانت أعمالهم صالحة في طاعة الله وهم التابعون بإحسان ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعجيب من حالهم في السعادة. والمعنى أي شيء هم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 9 إلى 16]

[سورة الواقعة (56): الآيات 9 الى 16] وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ يعني أصحاب الشمال وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقال ابن عباس هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية وقال الله تعالى لهم: «هؤلاء إلى النار ولا أبالي» وقيل هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم وقيل هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمالهم في المعاصي لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنة وقيل هم السابقون إلى الإسلام وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار وقيل هم السابقون إلى الصلوات الخمس وقيل إلى الجهاد وقيل هم المسارعون إلى التوبة وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البر والخير وقيل هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة. فإن قلت لم أخر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم عن أصحاب اليمين. قلت فيه لطيفة وذلك أن الله تعالى ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفا لعباده فإما محسن فيزداد رغبة في الثواب وإما مسيء فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب فلذلك قدم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من جهنم ثم أثنى على السابقين فقال تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يعني من الله في جواره وفي ظل عرشه ودار كرامته وهو قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ قوله تعالى: ثُلَّةٌ أي جماعة غير محصورة العدد، مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من الأمم الماضية من لدن آدم إلى زمن نبينا وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني من هذه الأمة وذلك لأن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به وقيل إن الأولين هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل من الآخرين أي ممن جاء بعدهم من الصحابة، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي منسوجة من الذهب والجوهر وقيل موضونة يعني مصفوفة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها أي على السرر مُتَقابِلِينَ يعني لا ينظر بعضهم في قفا بعض وصفوا بحسن العشرة في المجالسة وقيل لأنهم صاروا أرواحا نورانية صافية ليس لهم أدبار وظهور. [سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 23] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ أي غلمان مُخَلَّدُونَ لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة وقيل مخلدون مفرطون والخلد القرط وهو الحلقة تعلق في الأذن واختلفوا في هؤلاء الولدان فقيل هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالا وفيه ضعف لأن الله أخبر أنه يلحقهم بآبائهم ولأن من المؤمنين من لا ولد له فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم وقيل هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف وهذا القول أقرب من الأول لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب فقال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم وتوقف فيهم طائفة والمذهب الثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ولكل مذهب دليل ليس هذا موضعه، وقيل هم أطفال ماتوا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ومن قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة والقول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله إنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليدا ما لم يحتلم والأمة وليدة وإن أسنت، بِأَكْوابٍ جمع كوب وهي الأقداح المستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرا وَأَبارِيقَ جمع إبريق وهي ذوات الخراطيم والعرا سميت أباريق

[سورة الواقعة (56): الآيات 24 إلى 31]

لبريق لونها من الصفاء وقيل لأنها يرى باطنها كما يرى ظاهرها، وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي من خمرة جارية لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا تصدع رؤوسهم من شربها وعنها كناية عن الكأس وقيل لا يتفرقون عنها وَلا يُنْزِفُونَ أي لا يغلب على عقولهم ولا يسكرون منها وقرئ بكسر الزاي ومعناه لا ينفد شرابهم، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيارها وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى وقيل إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير. فإن قلت هل في تخصيص الفاكهة بالتخير واللحم بالاشتهاء بلاغة؟. قلت نعم وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة والذي يظهر فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة فالجائع مشته والشبعان غير مشته بل هو مختار وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم إلى الفاكهة أكثر فيتخيرنها ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل ولهذا قدم الفاكهة على اللحم والله أعلم، وَحُورٌ عِينٌ أي ويطوف عليهم حور عين وقيل لهم حور عين وجاء في تفسير حور أي بيض عين أي ضخام العيون كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء فيكون في نهاية الصفاء روي «أنه سطع نور في الجنة فقيل ما هذا؟ قيل ضوء ثغر حوراء ضحكت» وروي «أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ يصران بالتسبيح». [سورة الواقعة (56): الآيات 24 الى 31] جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فعلنا ذلك بهم جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعتنا لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة، لَغْواً قيل اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى وقيل هو القبيح من القول والمعنى ليس فيها لغو فيسمع وَلا تَأْثِيماً قيل معناه أن بعضهم لا يقول لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم كما يتكلم به أهل الدنيا وقيل معناه لا يأتون تأثيما أي ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح إِلَّا قِيلًا معناه لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا سَلاماً سَلاماً يعني يسلم بعضهم على بعض وقيل تسلم الملائكة عليهم أو يرسل الرب بالسلام إليهم وقيل معناه أن قولهم يسلم في اللغو. ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ لما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع منه وهذا قول ابن عباس وقيل هو الموقر حملا قيل ثمرها أعظم من القلال وهو النبق قيل لما نظر المسلمون إلى وج وهو واد مخصب بالطائف فأعجبهم سدره فقالوا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية وَطَلْحٍ قيل هو الموز عند أكثر المفسرين وقيل هو شجر له ظل بارد طيب وقيل هو شجر أم غيلان له شوك ونور طيب الرائحة فخوطبوا ووعدوا بمثل ما يحبون ويعرفون إلا أن فضله على شجر الدنيا كفضل الجنة على الدنيا مَنْضُودٍ أي متراكم قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة بل من عروقه إلى أغصانه ثمر وليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلاء والجوز ونحوهما بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي دائم لا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا وذلك لأن الجنة ظل كلها لا

[سورة الواقعة (56): الآيات 32 إلى 36]

شمس فيها. (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرءوا إن شئتم وظل ممدود» وعن ابن عباس في قوله وظل ممدود قال شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها فيشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عز وجل ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب يجري دائما في غير أخدود ولا ينقطع. [سورة الواقعة (56): الآيات 32 الى 36] وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت ولا تمتنع من أحد إذا أراد أخذها وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء ولا يوصل إليها إلا بالثمن وقيل لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وجاء في الحديث «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله عز وجل مكانها ضعفين» وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال علي مرفوعة على الأسرة وقيل بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في قوله: وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاعها كما بين السماء والأرض يقول ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات والدرجات ما بين كل درجتين بين السماء والأرض وقيل أراد بالفرش النساء والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة فعلى هذا القول يكون معنى مرفوعة أي رفعن بالفضل والجمال على نساء الدنيا ويدل على هذا التأويل قوله في عقبه، إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي خلقناهن خلقا جديدا قال ابن عباس يعني الآدميات العجائز الشمط يقول خلقناهن بعد الكبر والهرم خلقا آخر، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً يعني عذارى. عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أنشأناهن إنشاء قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وضعف بعض رواته وروى البغوي بسنده عن الحسن قال «أتت عجوز النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى قال إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً هذا حديث مرسل وروي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً وقال المسيب بن شريك هن عجائز الدنيا أنشأهن الله بقدرته خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا وقيل إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا وقيل هن الحور العين أنشأهن الله لم تقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكارا عذارى وليس هناك وجع. [سورة الواقعة (56): الآيات 37 الى 40] عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) عُرُباً جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها قاله ابن عباس في رواية عنه وعنه أنها الملقة وقيل الغنجة وعن أسامة بن زيد عن أبيه عربا قال حسان الكلام أَتْراباً يعني أمثالا في الخلق وقيل مستويات في السن على سن واحد بنات ثلاث وثلاثين، عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين سنة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لِأَصْحابِ الْيَمِينِ يعني أنشأهن لأصحاب اليمين وقيل هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من المؤمنين الذين هم قبل هذه الأمة وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني من مؤمني هذه الأمة يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم قال «لما أنزل الله عز وجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل فأنزل الله عز وجل وثلة من الأولين وثلة من الآخرين فدعا

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 إلى 56]

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر فقال قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله»، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع إلى سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» الرهيط تصغير رهط وهم دون العشرة وقيل إلى الأربعين. (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبة نحوا من أربعين فقال أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم قال والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» وعن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وذهب جماعة إلى أن الثلثين جميعا من هذه الأمة وهو قول أبي العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك قالوا ثلة من الأولين من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة أيضا في آخر الزمان يدل على ذلك ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في هذه الآية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هما جميعا من أمتي» وهذا القول هو اختيار الزجاج قال معناه جماعة ممن تبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به وعاينه وجماعة ممن آمن به وكان بعده ولم يعاينه. فإن قلت كيف قال في الآية الأولى وقليل من الآخرين وقال في هذه الآية وثلة من الآخرين؟. قلت: الآية الأولى في السابقين الأولين وقليل ممن يلحق بهم من الآخرين وهذه الآية في أصحاب اليمين وهم كثيرون من الأولين والآخرين وحكي عن بعضهم أن هذه ناسخة للأولى واستدل بحديث عروة بن رويم ونحوه والقول بالنسخ لا يصح لأن الكلام في الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ. قوله تعالى: [سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد تقدم أنه بمعنى التعجب من حالتهم وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ثم بين منقلبهم وما أعد لهم من العذاب فقال تعالى: فِي سَمُومٍ أي في حر النار وقيل في ريح شديد الحرارة وَحَمِيمٍ أي ماء حار يغلي، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ يعني في ظل من دخان شديد السواد قيل إن النار

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 إلى 65]

سواد وأهلها سود وكل شيء فيها أسود وقيل اليحموم اسم من أسماء النار لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ يعني لا بارد المنزل ولا كريم المنظر وذلك لأن فائدة الظل ترجع إلى أمرين أحدهما دفع الحر والثاني حسن المنظر وكون الإنسان فيه مكرما وظل أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار، ثم بين بما استحقوا ذلك فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ يعني في الدنيا، مُتْرَفِينَ يعني منعمين وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ يعني على الذنب الكبير وهو الشرك وقيل الحنث العظيم اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك يدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يعني الآباء والأبناء، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني أنهم يجمعون ويحشرون ليوم الحساب ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ يعني عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ أي بالبعث والخطاب لكفار مكة وقيل إنه عام مع كل ضال مكذب، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ تقدم تفسيره فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ يعني الإبل العطاش قيل إن الهيام داء يصيب الإبل فلا تروى معه ولا تزال تشرب حتى تهلك وقيل الهيم الأرض ذات الرمل التي لا تروى بالماء قيل يلقى على أهل النار العطش فيشربون من الحميم شرب الهيم فلا يروون هذا نُزُلُهُمْ يعني ما ذكر من الزقوم والحميم أي رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم يَوْمَ الدِّينِ يعني يوم يجازون بأعمالهم ثم احتج عليهم في البعث بقوله تعالى: [سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 65] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ يعني ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك فَلَوْلا أي فهلا تُصَدِّقُونَ يعني بالبعث بعد الموت. قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ يعني ما تصبون في الأرحام من النطف أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي أنتم تخلقون ما تمنون بشرا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي إنه خلق النطفة وصورها وأحياها فلم لا تصدقون بأنه واحد قادر على أن يعيدكم كما أنشأكم احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ يعني الآجال فمنكم من يبلغ الكبر والهرم ومنكم من يموت صبيا وشابا وغير ذلك من الآجال القريبة والبعيدة وقيل معناه إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم فعلى هذا القول يكون معنى قدرنا قضينا، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ يعني لا يفوتني شيء أريده ولا يمتنع مني أحد وقيل معناه وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم وهو قوله تعالى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم في أسرع حين وَنُنْشِئَكُمْ أي نخلقكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ أي من الصور والمعنى نغير حليتكم إلى ما هو أسمح منها من أي خلق شئنا وقيل نبدل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم أي إن أردنا أن نفعل ذلك بكم ما فاتنا، وقال سعيد بن المسيب فيما لا تعلمون في حواصل طيور سود كأنها الخطاطيف تكون ببرهوت وهو واد باليمن وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم قدر، وقال بعض أهل المعاني هذا يدل على النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل ويكون التقدير على هذا وما نحن

[سورة الواقعة (56): الآيات 66 إلى 73]

بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه يعني وقت البعث والقيامة، وفيه فائدة وهو التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء هو الموت والبعث وإذا كان ذلك واقعا في الأزمان ولا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئا وفيه تقرير للنشأة الثانية يوم القيامة فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي بأني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم أول مرة. قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ لما ذكر الله تعالى ابتداء الخلق وما فيه من دلائل الوحدانية ذكر بعده الرزق لأن به البقاء وذكر أمورا ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول والمشروب ورتبه ترتيبا حسنا فذكر المأكول أولا لأنه هو الغذاء وأتبعه المشروب لأن به الاستمراء ثم النار التي بها الإصلاح وذكر من أنواع المأكول الحب لأنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه أيضا هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية، فقوله أفرأيتم ما تحرثون أي ما تثيرون من الأرض وتلقون فيه البذر أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي تنبتونه وتنشئونه حتى يشتد ويقوم على سوقه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ معناه أأنتم فعلتم ذلك أم الله ولا شك في أن إيجاد أحب في السنبل ليس بفعل أحد غير الله تعالى وإن كان إلقاء البذر من فعل الناس، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ يعني ما تحرثونه وتلقون فيه من البذر، حُطاماً أي تبنا لا قمح فيه وقيل هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غيره وقيل هو جواب لمعاند يقول نحن نحرثه وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا فرد الله عليّ هذا المعاند بقوله لو نشاء لجعلناه حطاما فهل تقدرون أنتم على حفظه أو هو يدفع عن نفسه بنفسه تلك الآفات التي تصيبه ولا يشك أحد في أن دفع الآفات ليس إلا بإذن الله وحفظه، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل تندمون على نفقاتكم وقيل تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة وقيل تتلاومون وقيل تحزنون وقيل هو تلهف على ما فات. [سورة الواقعة (56): الآيات 66 الى 73] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي وتقولون فحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض وقيل معناه لموقع بنا وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمعذبون يعني أنهم عذبوا بذهاب أموالهم بغير فائدة والمعنى إنا غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي ممنوعون والمعنى حرمنا الذي كنا نطلبه من الريع في الزرع، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ذكرهم الله تعالى نعمه عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال ابن عباس شديد الملوحة وقيل مرا لا يمكن شربه فَلَوْلا أي فلا تَشْكُرُونَ يعني نعمة الله عليكم أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ يعني تقدحون من الزند أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها يعني التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار وهما شجرتان تقدح منهما النار وهما رطبتان وقيل أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها يعني نار الدنيا تَذْكِرَةً أي للنار الكبرى إذا رأى الرائي هذه النار ذكر بها نار جهنم فيخشى الله ويخاف عقابه وقيل موعظة يتعظ بها المؤمن. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها» وَمَتاعاً أي بلغة ومنفعة لِلْمُقْوِينَ يعني للمسافرين والمقوي النازل في الأرض القواء وهي القفر

[سورة الواقعة (56): الآيات 74 إلى 79]

الخالية البعيدة من العمران والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسفار فإن منفعتهم أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب الشماع ويهتدي بها الضال إلى غير ذلك من المنافع هذا قول أكثر المفسرين وقيل المقوين الذين يستمتعون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع وقيل المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريد والمعنى أن فيها متاعا ومنفعة للفقراء والأغنياء جميعا لا غنى لأحد عنها. [سورة الواقعة (56): الآيات 74 الى 79] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لما ذكر الله ما يدل على وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويجوز أن يكون خطابا لكل فرد من الناس فقال تعالى فسبح باسم ربك أي برّأ الله ونزهه عما يقول المشركون في صفته والاسم يكون بمعنى الذات والمعنى فسبح بذات ربك العظيم. قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ قال أكثر المفسرين معناه فأقسم ولا صلة مؤكدة وقيل لا على أصلها وفي معناها وجهان أحدهما أنها ترجع إلى ما تقدم ومعناها النهي وتقديره فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج. الوجه الثاني: أن لا رد لما قاله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة والمعنى ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم فقال أقسم والمعنى لا والله لا صحة لقول الكفار وقيل إن لا هنا معناها النفي فهو كقول القائل لا تسأل عما جرى وهو يريد تعظيم الأمر لا النهي عن السؤال، بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال ابن عباس أراد نجوم القرآن فإنه كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متفرقا وقيل أراد مغارب النجوم ومساقطها وقيل أراد منازلها وقيل انكدارها وانتثارها يوم القيامة وقيل مواقعها في اتباع الشياطين عند الرجم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ قيل هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن والمعنى إن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لانتفعتم بذلك وقيل معنى لو تعلمون أي فاعلموا عظمته وقيل إنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى فأقسم بمواقع النجوم، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي إن الكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لقرآن كريم أي عزيز مكرم لأنه كلام الله تعالى ووحيه إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقيل الكريم الذي من شأنه أن يعطي الكثير وسمي القرآن كريما لأنه يفيد الدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين وقيل الكريم اسم جامع لما يحمد والقرآن الكريم لما يحمد فيه من الهدى والنور والبيان والعلم والحكم فالفقيه يستدل به ويأخذ منه والحكيم يستمد منه ويحتج به والأديب يستفيد منه ويتقوى به فكل عالم يطلب أصل علمه منه وقيل سمي كريما لأن كل أحد يناله ويحفظه من كبير وصغير وذكي وبليد بخلاف غيره من الكتب، وقيل إن الكلام إذا كرر مرارا يسأمه السامعون ويهون في الأعين وتمله الآذان والقرآن عزيز كريم لا يهون بكثرة التلاوة ولا يخلق بكثرة الترداد ولا يمله السامعون ولا يثقل على الألسنة بل هو غض طري يبقى أبد الدهر كذلك فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي مصون مستور عند الله تعالى في اللوح المحفوظ من الشياطين من أن يناله بسوء وقيل المراد بالكتاب المصحف ومعنى مكنون مصون محفوظ من التبديل والتحريف والقول الأول أصح، لا يَمَسُّهُ أي ذلك الكتاب المكنون إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث يروى هذا القول عن ابن عباس وأنس وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية وقتادة وابن زيد وقيل هم السفرة الكرام البررة وعلى القول الثاني من أن المراد بالكتاب المصحف فقيل معنى لا يمسه إلا المطهرون أي من الشرك وكان ابن عباس ينهى أن تمكن اليهود والنصارى من

[سورة الواقعة (56): الآيات 80 إلى 84]

قراءة القرآن قال الفراء لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به وقيل معناه لا يقرأه إلا الموحدون وقال قوم معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والجنابات وظاهر الآية نفي ومعناها نهي قالوا لا يجوز للجنب ولا للحائض ولا للمحدث حمل المصحف ولا مسه وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء يدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم «أن لا تمس القرآن إلا طاهرا» أخرجه مالك مرسلا وقد جاء موصولا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن بهذا والصحيح فيه الإرسال وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يمس القرآن إلا طاهر» والمراد بالقرآن المصحف سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع، كما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» وأراد به المصحف وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة يجوز للمحدث والجنب حمل المصحف ومسه بغلافه. فإن قلت: إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب هو اللوح المحفوظ وأن المراد من «لا يمسه إلا المطهرون» هم الملائكة ولو كان المراد نفي الحدث لقال لا يمسه إلا المتطهرون من التطهر فكيف يصح قول الشافعي لا يصح للمحدث مس المصحف. قلت من قال إن الشافعي أخذه من صريح الآية حمله على التفسير الثاني وهو القول بأن المراد من الكتاب هو المصحف ومن قال إنه أخذه من طريق الاستنباط قال المس بطهر صفة دالة على التعظيم والمس بغير طهر نوع استهانة وهذا لا يليق بمباشرة المصحف الكريم والصحيح أنه أخذه من السنة ودليله ما تقدم من الأحاديث والله أعلم. قوله تعالى: [سورة الواقعة (56): الآيات 80 الى 84] تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة للقرآن أي القرآن منزل من عند رب العالمين سمي المنزل تنزيلا على اتساع اللغة يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق وفيه رد على من قال إن القرآن شعر أو سحر أو كهانة فقال الله تعالى بل القرآن تنزيل من رب العالمين. قوله عز وجل: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَنْتُمْ أي يا أهل مكة مُدْهِنُونَ قال ابن عباس مكذبون وقيل كافرون والمدهن والمداهن الكذاب والمنافق والإدهان الجري في الباطل على خلاف الظاهر هذا أصله ثم قيل للمكذب والكافر مدهن وإن صرح بالتكذيب والكفر، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي حظكم ونصيبكم من القرآن أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال الحسن في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب وقال جماعة من المفسرين معناه وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أي بنعمة الله عليكم وهذا في الاستسقاء بالأنواء وذلك أنهم كانوا إذا مطروا يقولون مطرنا بنوء كذا ولا يرون ذلك المطر من فضل الله عليهم فقيل لهم أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقكم التكذيب فمن نسب الإنزال إلى النجم فقد كذب برزق الله تعالى ونعمه وكذب بما جاء به القرآن والمعنى أتجعلون بدل الشكر التكذيب، (ق) عن يزيد بن خالد الجهني قال «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» رواه مسلم وفيه عن ابن عباس

[سورة الواقعة (56): الآيات 85 إلى 92]

عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعناه وزاد فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقولون الكوكب كذا وكذا وفي رواية بكوكب كذا وكذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا» وفي رواية بكوكب كذا وكذا أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. قوله في أثر سماء أي أثر مطر والنوء الكوكب يقال ناء النجم ينوء إذا سقط وغاب وقيل ناء إذا نهض وطلع واختلف العلماء في معنى الحديث وكفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين أحدهما أنه كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام وذلك فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض الجاهلية يزعم فمن اعتقد هذا فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء منهم الشافعي وهو ظاهر الحديث وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا وكذا وهو معتقد أن إيجاد المطر من الله ورحمته وأن النوء ميقات له ومراده إنا مطرنا في وقت طلوع نجم كذا ولم يقصد إلى فعل النجم كما جاء عن عمر أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس كم بقي من نوء الثريا؟ فقال إن العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد وقوعها فو الله ما مضت تلك السبع حتى غيث الناس وإنما أراد عمركم بقي من الوقت الذي جرت العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر فهذا جائز لا كفر فيه واختلفوا في كراهية هذا والأظهر أنها كراهية تنزيه لا إثم فيها ولا تحريم وسبب هذه الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم، والقول الثاني في تأويل أصل الحديث أن المراد بالكفر كفر النعمة لله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكواكب وهذا جار فيمن لا يعتقد تدبير الكواكب ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين» فقوله بها يدل على أنه كفر بالنعمة والله أعلم. قوله تعالى: فَلَوْلا أي فهلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي النفس أو الروح إلى الحلقوم عند الموت وَأَنْتُمْ يعني يا أهل الميت حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ يعني إلى الميت متى تخرج نفسه وقيل تنظرون إلى أمري وسلطاني لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئا. [سورة الواقعة (56): الآيات 85 الى 92] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي بالعلم والقدرة والرؤية وقيل ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إلى الميت منكم وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي الذين حضروه من الملائكة لقبض روحه وقيل لا تبصرون أي لا تعلمون ذلك فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي مملوكين وقيل محاسبين ومجزيين تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم فأجاب عن قوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وعن قوله فلولا إن كنتم غير مدينين بجواب واحد وهو قوله ترجعونها والمعنى إن كان الأمر كما تقولون إنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني السابقين. فَرَوْحٌ أي فله روح وهو الراحة وقيل فله فرح وقيل رحمة وَرَيْحانٌ أي وله استراحة وقيل رزق وقيل هو الريحان الذي يشم قال أبو العالية لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن

[سورة الواقعة (56): الآيات 93 إلى 95]

من ريحان الجنة فيشمه فتقبض روحه وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي وله جنة النعيم يفضي إليها في الآخرة قال أبو بكر الوراق الروح النجاة من النار والريحان رضوان دار القرار وَأَمَّا إِنْ كانَ يعني المتوفى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي فسلامة لك يا محمد منهم والمعنى فلا تهتم لهم فإنهم سلموا من عذاب الله أو إنك ترى فيهم ما تحب من السلامة وقيل هو أن الله يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم وقيل معناه مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين أو يقال لصاحب اليمين مسلم لك أنك من أصحاب اليمين وقيل فسلام عليك من أصحاب اليمين، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي بالبعث الضَّالِّينَ أي عن الهدى وهم أصحاب الشمال. [سورة الواقعة (56): الآيات 93 الى 95] فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أي الذي يعد لهم حميم جهنم وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي وإدخال نار عظيمة إِنَّ هذا يعني ما ذكر من قصة المحتضرين لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي لا شك فيه وقيل إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه من النعم وما أعد لأعدائه من العذاب الأليم وما ذكر مما يدل على وحدانيته يقين لا شك فيه، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فنزه ربك العظيم عن كل سوء وقيل معناه فصل بذكر ربك العظيم وبأمره. عن عقبة بن عامر الجهني قال «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود عن حذيفة أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه «سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وله عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة». (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى قال سبحان الله وبحمده». (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري والله أعلم.

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني كل ذي روح وغيره يسبح الله تعالى فتسبيح العقلاء تنزيه الله عز وجل عن كل سوء وعما لا يليق بجلاله وتسبيح غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه فقيل تسبيحه دلالته على صانعه فكأنه ناطق بتسبيحه وقيل تسبيحه بالقول يدل عليه قوله «ولكن لا تفقهون تسبيحهم» أي قولهم والحق أن التسبيح هو القول الذي لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان أحدهما أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني أن جميع الموجودات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء فإن حملنا التسبيح المذكور في الآية على القول كان المراد بقوله ما في السموات والأرض من في السموات وهم الملائكة ومسبحي الأرض وهم المؤمنون العارفون بالله وإن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبال وبحار وشجر ودواب وغيره ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء. فإن قلت قد جاء في بعض فواتح السور سبح بلفظ الماضي وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع فما معناه. قلت فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحا لله أبدا غير مختص بوقت دون وقت بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الكامل القدرة الذي لا ينازعه شيء، الْحَكِيمُ أي الذي جميع أفعاله على وفق الحكمة والصواب لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه الغني عن جميع خلقه وكلهم محتاجون إليه، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قوله عز وجل: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان هو ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل أحد بلا انتهاء يفني الأشياء ويبقى هو والظاهر الغالب العالي على كل شيء والباطن العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس وقيل هو الأول بوجوده ليس قبله شيء

والآخر ليس بعده شيء وقيل هو الأول بوجوده في الأزل وقيل الابتداء والآخر بوجوده في الأبد وبعد الانتهاء والظاهر بالدلائل الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن العقول أن تكيفه، وقيل هو الأول الذي سبق وجوده كل موجود والآخر الذي يبقى بعد كل مفقود وقال الإمام أبو بكر بن الباقلاني معناه أنه تعالى الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل، ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم قال وتعلقت المعتزلة بهذا الاسم فاحتجوا لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا معناه أنه الباقي بعد فناء خلقه ومذهب أهل الحق يعني أهل السنة بخلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم كما يقال آخر من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاه وذهابها بالكلية هذا آخر كلام ابن الباقلاني، وقيل هو الأول السابق للأشياء والآخر الباقي بعد فناء الأحياء والظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة الزاهرة وشواهده الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن أبصار الخلق فلا تستوي عليه الكيفية وقيل هو الأول القديم والآخر الرّحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم، وقيل هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك طريق التوبة عما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيت يستر عليك، وقال الجنيد هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه الظاهر كعلمه بالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (م) عن سهيل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول «اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرك كل شيء أنت آخذ بناصيته» وفي رواية «من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي هريرة أيضا قال «بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتدرون ما هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال بينكم وبينها خمسمائة سنة ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث إنما أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه. العنان اسم للسحاب ومعنى روايا الأرض الحوامل والرقيع اسم للسماء وقيل هو اسم لسماء الدنيا قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها تقدم تفسيره وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بالعلم والقدرة فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته أينما كان من أرض أو سماء برا وبحرا وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة.

[سورة الحديد (57): الآيات 6 إلى 10]

وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يدل على صحة القول الأول، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. [سورة الحديد (57): الآيات 6 الى 10] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تقدم تفسيره. قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما ذكر أنواعا من الدلائل الدالة على التوحيد والعلم والقدرة شرع يخاطب كفار قريش ويأمرهم بالإيمان بالله ورسوله ويأمرهم بترك الدنيا والإعراض عنها والنفقة في جميع وجوه البر وهو قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني المال الذي كان بيد غيركم فأهلكهم وأعطاكم إياه فكنتم في ذلك المال خلفاء عمن مضى فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ يعني وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه وقيل أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يوما ما فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن لِيُخْرِجَكُمْ يعني الله بالقرآن وقيل الرسول بالدعوة مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقول أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقربكم من الله تعالى وأنتم ميتون تاركون أموالكم لغيركم فالأولى أن تنفقوها أنتم فيما يقربكم إلى الله تعالى وتستحقون به الثواب ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين وقيل هو صلح الحديبية، والمعنى لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة مع من أنفق ماله وقاتل بعد الفتح أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا قال الكلبي إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله وذهب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال عبد الله بن مسعود أول من أظهر إسلامه سبع منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بكر إن الله يقرئك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض» وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة قال عطاء درجات الجنة

[سورة الحديد (57): الآيات 11 إلى 13]

تتفاضل فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. [سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 13] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا محتسبا بالصدقة طيبة بها نفسه وسمي هذا الإنفاق قرضا من حيث إنه وعد به الجنة تشبيها بالقرض قال بعض العلماء القرض لا يكون حسنا حتى تجمع فيه أوصاف عشرة وهي أن يكون المال من الحلال وأن يكون من أجود المال وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها وأن تكتم الصدقة ما أمكنك وأن لا تتبعها بالمن والأذى وأن تقصد بها وجه الله ولا ترائي بها الناس وأن تستحقر ما تعطي وتتصدق به وإن كان كثيرا وأن يكون من أحب أموالك إليك وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة أوصاف إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضا حسنا، فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعني يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعني وذلك الأجر كريم في نفسه. قوله عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني على الصراط يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي عن أيمانهم وقيل أراد جميع الجوانب فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» وقال عبد الله بن مسعود يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد مرة وقيل في معنى الآية يسعى نورهم بين أيديهم أي يعطون كتبهم بأيمانهم وتقول لهم الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء من نوركم قيل تغشى الناس ظلمة شديدة يوم القيامة فيعطي الله المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحا وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين وقيل بل يستضيئون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون بقوا في الظلمة وقالوا للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقيل يقول لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم وقيل ارجعوا إلى الدنيا فاعملوا فيها أعمالا يجعلها الله لكم نورا وقيل معناه لا نور لكم عندنا فارجعوا وراءكم فَالْتَمِسُوا أي اطلبوا لأنفسكم هناك نُوراً أي لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين فذلك قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ وهو حائط بين الجنة والنار لَهُ أي لذلك السور بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي من قبل ذلك الظاهر العذاب وهو النار وروي عن عبد الله بن عمر قال إن السور الذي ذكر في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح كان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الآية.

[سورة الحديد (57): الآيات 14 إلى 15]

[سورة الحديد (57): الآيات 14 الى 15] يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) يُنادُونَهُمْ يعني ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم وبقوا في الظلمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي في الدنيا نصلي ونصوم قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة وَتَرَبَّصْتُمْ أي بالإيمان والتوبة وقيل تربصتم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وذلك ما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت وقيل هو إلقاؤهم في النار وهو قوله تعالى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الشيطان قال قتادة ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أي عوض وبدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب وقيل معناه لا يقبل منكم إيمان ولا توبة وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين وإنما عطف الكفار على المنافقين وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق مَأْواكُمُ النَّارُ أي مصيركم، هِيَ مَوْلاكُمْ أي وليكم وقيل هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعنى هي التي تلي عليكم لأنها ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء وقيل معنى الآية لا مولى لكم ولا ناصر لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. [سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 18] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي ذات يوم حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فأخبرهم أن القرآن أحسن من غيره فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوه مثل ذلك فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فنزلت هذه الآية فعلى هذا القول يكون تأويل قوله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني في العلانية باللسان ولم يؤمنوا بالقلب، وقيل نزلت في المؤمنين وذلك أنهم لما قدموا المدينة أصابوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزل في ذلك ألم يأن للذين آمنوا الآية قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين أخرجه مسلم وقال ابن عباس إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال ألم يأن يعني أما حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم أي ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله أي لمواعظ الله وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني اليهود والنصارى، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن والمعنى أن الله نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر روي عن أبي موسى الأشعري أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا

[سورة الحديد (57): الآيات 19 إلى 20]

القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم قاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم قوله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي بالمطر بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها فكذلك يقدر على إحياء الموتى وقال ابن عباس يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتة منيبة وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة وإلا فقد علم إحياء الأرض بالمطر مشاهدة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بالنفقة والصدقة في سبيل الله يُضاعَفُ لَهُمْ أي ذلك القرض وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي ثواب حسن وهو الجنة. [سورة الحديد (57): الآيات 19 الى 20] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ أي الكثير والصدق قال مجاهد كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية فعلى هذا الآية عامة في كل من آمن بالله ورسوله وقيل إن الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قيل أراد بالشهداء المؤمنين المخلصين قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد وتلا هذه الآية وقيل هم التسعة الذين تقدم ذكرهم وقيل تم الكلام عند قوله هم الصديقون ثم ابتدأ والشهداء عند ربهم وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس وقيل هم الذين استشهدوا في سبيل الله، لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي بما عملوا من العمل الصالح وَنُورُهُمْ يعني على الصراط وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بحال الكافرين. قوله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي مدة الحياة في هذه الدار الدنيا وإنما أراد من صرف حياته في غير طاعة الله فحياته مذمومة ومن صرف حياته في طاعة الله فحياته خير كلها ثم وصفها بقوله لَعِبٌ أي باطل لا حاصل له كلعب الصبيان وَلَهْوٌ أي فرح ساعة ثم ينقضي عن قريب وَزِينَةٌ أي منظر يتزينون به وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يعني إنكم تشتغلون في حياتكم بما يفتخر به بعضكم على بعض وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد وقيل بجمع ما لا يحل له فيتطاول بماله وخدمه وولده على أولياء الله تعالى وأهل طاعته ثم ضرب لهذه الحياة مثلا فقال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع إنما سمي الزراع كفارا لسترهم الأرض بالبذر نَباتُهُ أي ما نبت بذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي بعد خضرته ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة قال أهل المعاني زهد الله بهذه الآية في العمل للدنيا وهذه صفة حياة الكافرين وحياة من يشتغل باللعب واللهو ورغب في العمل للآخرة بقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي لأوليائه وأهل طاعته وقيل عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه لأن الآخرة إما عذاب وإما جنة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة فمن اشتغل في الدنيا بطلب الآخرة فهي له بلاغ إلى ما هو خير منه وقيل متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة.

[سورة الحديد (57): الآيات 21 إلى 25]

[سورة الحديد (57): الآيات 21 الى 25] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) قوله عز وجل: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معناه لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة والمعنى سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة أي إلى ما يوجب المغفرة وهي التوبة من الذنوب وقيل سابقوا إلى ما كلفتم به من الأعمال فتدخل فيه التوبة وغيرها، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قيل إن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعا وقال ابن عباس إن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة وقيل إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات والأرضين ولا شك أن الطول يكون أزيد من العرض فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بعرض السموات والأرض على ما يعرفه الناس، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر يدل عليه قوله في سياق الآية ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله تعالى لا بعمله، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته» وقد تقدم الكلام على معنى هذا الحديث والجمع بينه وبين قوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون في تفسير سورة النحل. قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني عدم المطر وقلة النبات ونقص الثمار، وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي من قبل أن نخلق الأرض والأنفس وقال ابن عباس من قبل أن نبرأ المصيبة إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل: لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا أي لا تبطروا بِما آتاكُمْ أي أعطاكم قال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال صاحب الكشاف: إن قلت ما من أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح قلت المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين والفرح المطغي الملهي عن الشكر فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما والله أعلم وقال جعفر بن محمد الصادق يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متكبر بما أوتي من الدنيا فَخُورٍ أي بذلك الذي أوتي على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قيل هذه الآية متعلقة بما قبلها والمعنى والله لا يحب الذين يبخلون يريد إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم

[سورة الحديد (57): الآيات 26 إلى 27]

يبخلون به ولا ينفقونه في سبيل الله ووجوه الخير ولا يكفيهم أنهم بخلوا به حتى يأمروا الناس بالبخل وقيل إن الآية كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وإنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبخلوا ببيان نعته وَمَنْ يَتَوَلَّ قال ابن عباس عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن عباده الْحَمِيدُ أي إلى أوليائه. قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات والآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي المتضمن للأحكام وشرائع الدين وَالْمِيزانَ يعني العدل أي وأمرنا بالعدل وقيل المراد بالميزان هو الآلة التي يوزن بها وهو يرجع إلى العدل أيضا وهو قوله لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قيل إن الله تعالى أنزل مع آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط إلى الأرض السندان والمطرقة والكلبتين وروي عن ابن عمر يرفعه «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح» وقيل أنزلنا هنا بمعنى أنشأنا وأحدثنا الحديد وذلك أن الله تعالى أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه وإلهامه، فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهي آلة الضرب وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي ومنه ما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحو ذلك، إذ الحديد آلة لكل صنعة فلا غنى لأحد عنه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي وأرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليرى الله مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي الذين لم يروا الله ولا الآخرة وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب وقال ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ في أمره عَزِيزٌ في ملكه. [سورة الحديد (57): الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ معناه أنه تعالى شرف نوحا وإبراهيم بالرسالة وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فلا يوجد نبي إلا من نسلهما فَمِنْهُمْ أي من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا أي اتبعنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا والمعنى بعثنا رسولا بعد رسول إلى أن انتهت الرسالة إلى عيسى ابن مريم وهو قوله تعالى: وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي على دينه، رَأْفَةً وَرَحْمَةً يعني أنهم كانوا متوادين بعضهم لبعض، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا عطفا على ما قبله والمعنى أنهم جاءوا بها من قبل أنفسهم وهي ترهبهم في الجبال والكهوف والغيران والديرة فروا من الفتنة وحملوا أنفسهم المشاق في العبادة الزائدة وترك النكاح واستعمال الخشن في المطعم والمشرب والملبس مع التقلل من ذلك ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي ما فرضناها نحن عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها يعني أنهم يرعوا تلك الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وضموا إليها التثليث والاتحاد وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملوكهم وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا به فذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين ثبتوا على الدين الصحيح، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى صلّى الله عليه وسلّم وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا ابن مسعود «اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرهن: فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» قال صلّى الله عليه وسلّم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها

[سورة الحديد (57): الآيات 28 إلى 29]

حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون». وعنه قال كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمار فقال لي «يا ابن أم عبد هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء فتنونا ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى فتعالوا لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى به- يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها إلى فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أي من الذين ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي؟ قلت الله ورسوله أعلم قال الهجرة والصلاة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع»، وروي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله» وعن ابن عباس قال «كانت ملوك بعد عيسى عليه الصلاة والسلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم جماعة مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة منهم ابنوا لنا اسطوانا ثم ارفعونا فيه ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وطائفة قالت دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة منهم ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول ولا نرد عليكم ولا نمر عليكم وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم قال ففعلوا ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن غيروا الكتاب فجعل الرجل يقول نكون في مكان فلان نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قول الله عز وجل: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها يعني ابتدعها الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني الذين ابتدعوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين جاءوا من بعدهم فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله تعالى: [سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقهم له وقال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ القرآن واتباعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الذين يتشبهون بكم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الآية أخرجه النسائي موقوفا على ابن عباس وقال قوم انقطع الكلام عند قوله ورحمة ثم قال ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان، «فما رعوها» يعني الملة والطاعة حق رعايتها كناية عن غير مذكور فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم أهل الرأفة والرحمة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين غيروا وبدلوا وابتدعوا الرهبانية ويكون معنى قوله: ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ على هذا التأويل: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ولكن ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به دون الترهب لأنه لم يأمر به. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى يعني يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد وآمنوا به وهو قوله تعالى: وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ

كِفْلَيْنِ أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران»، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني على الصراط وقال ابن عباس: النور هو القرآن وقيل هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ قيل لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، قالوا للمسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وكتابنا ومن لم يؤمن فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزل لِئَلَّا يَعْلَمَ أي ليعلم ولا صلة أهل الكتاب يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وحسدوا المؤمنين أَلَّا يَقْدِرُونَ يعني أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليعلم الذين لم يؤمنوا به أنهم لا أجر لهم ولا نصيب من فضل الله وقيل لما نزل في مسلمي أهل الكتاب أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر فشق ذلك على المسلمين فنزل لئلا يعلم أهل الكتاب يعني المؤمنين منهم أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني الذي خصكم به فإنه فضلكم على جميع الخلائق وقيل يحتمل أن يكون الأجر الواحد أكثر من الأجرين وقيل قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل هذه الآية فعلى هذا يكون فضل الله النبوة يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي في ملكه وتصرفه يؤتيه من يشاء لأنه قادر مختار، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (خ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم على المنبر يقول «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قراطين قيراطين فقال أهل الكتابين أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا ونحن أكثر عملا قال الله تعالى هل ظلمتكم من أجركم شيئا قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى غروب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله عز وجل وهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أصيب به من شئت» أي أعطيه من شئت (خ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا اعملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية وهي اثنان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المجادلة (58): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قوله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «نزلت في خولة بنت ثعلبة وقيل اسمها جميلة وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وكان به لمم وكانت هي حسنة الجسم فأرادها فأبت عليه فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية فقال ما أظنك إلا قد حرمت عليّ فقالت والله ما ذاك طلاق فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعائشة تغسل شق رأسه فقالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه وتنعشني به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلما قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي وهذا كان أول ظهار في الإسلام، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله فقالت عائشة أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي لي زوجك فتلا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية (ق) عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول فأنزل الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الآية وأما تفسير الآية فقوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك أي تحاورك وتخاصمك وتراجعك في زوجها أي في أمر زوجها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي شدة حالها وفاقتها ووحدتها، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي مراجعتكما الكلام إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لمن يناجيه ويتضرع إليه بَصِيرٌ أي بمن يشكو إليه ثم ذم الظهار فقال تعالى: [سورة المجادلة (58): آية 2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ يعني يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي ما اللواتي

[سورة المجادلة (58): آية 3]

يجعلونهن من زوجاتهن كالأمهات بأمهات والمعنى ليس هن بأمهاتهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ يعني المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ يعني لا يعرف في الشرع وَزُوراً يعني كذبا وقيل إنما وصفه بكونه منكرا من القول وزورا لأن الأم محرمة تحريما مؤبدا والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا فلا جرم صار ذلك منكرا من القول وزورا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ عفا الله عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم. (فصل في أحكام الظهار: وفيه مسائل) المسألة الأولى: في معناه لغة قيل إن مشتق من الظهر وهو العلو وليس هو من ظهر الإنسان إذ ليس الظهر بأولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع التلذذ والمباضعة فثبت بهذا أنه مأخوذ من الظهر الذي هو العلو لأن امرأة الرجل مركب له وظهر يدل عليه قول العرب في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت علي كظهر أمي حذف وإضمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كعلوي أمي وعلوه عليها حرام. المسألة الثانية: كان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية لأنه في التحريم آكد ما يمكن فإن كان ذلك الحكم صار مقررا بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخا لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في أحكام الجاهلية وعادتهم. المسألة الثالثة: في الألفاظ المستعملة لهذا المعنى في الشريعة وعرف الفقهاء الأصل في هذا قوله أنت عليّ كظهر أمي وأنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي وكذا لو قال أنت عليّ كبطن أمي لو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك عليّ كظهر أمي أو شبه عضوا منها بعضو من أعضاء أمه يكون ذلك ظهارا وقال أبو حنيفة إن شبهها ببطن أمه أو بفرجها أو بفخذها يكون ظهارا وإن بشبهها بعضو غير هذه الأعضاء لا يكون ظهارا ولو قال أنت عليّ كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والإكرام لا يكون ظهارا حتى ينويه ويريده ولو شبهها بجدته فقال أنت عليّ كظهر جدتي يكون ظهارا وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارا على الأصح. المسألة الرابعة: فيمن يصح ظهاره قال الشافعي الضابط في هذا أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا يصح ظهار الذمي وقال أبو حنيفة لا يصح احتج الشافعي بعموم قوله وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ واحتج أبو حنيفة بأن هذا خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين وأجيب عنه بأن هذا خطاب يتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين. [سورة المجادلة (58): آية 3] وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يعني يمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اختلف العلماء في معنى العود في قوله «ثم يعودون لما قالوا» ولا بد أولا من بيان أقوال أهل العربية ثم بيان أقوال الفقهاء فنقول قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وفيما قالوا وقال أبو علي الفارسي كلمة إلى اللام تتعاقبان كقوله وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ وبِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها وأما لفظة «ما» في قوله لما فهي بمعنى الذي والمعنى يعودون إلى الذي قالوا وفي الذي قالوا. وفيه وجهان:

[سورة المجادلة (58): آية 4]

أحدهما: إنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ. الوجه الثاني: أن المراد لما قالوا أي القول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه وعلى هذا المعنى قوله ثم يعودون لما قالوا أي يعودون إلى شيء وذلك الشيء هو الذي قالوا فيه ذلك القول ثم إذا فسر هذا اللفظ بالوجه الأول يجوز أن يكون المعنى عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى وعلى الوجه الثاني يجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وذلك أن من فعل شيئا ثم أراد أن يفعله ثانيا فقد عاد إليه وكذا من فعل شيئا ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه بالتصرف فيه فقد ظهر بما تقدم أن قوله ثم يعودون لما قالوا يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بأن يفعلوا مثله مرة أخرى ويحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين ثم اختلفوا فيه على وجوه: الأول: وهو قول الشافعي إن معنى العود لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصله بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذلك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة وفسر ابن عباس العود بالندم فقال يندمون فيرجعون إلى الألفة. الوجه الثاني: في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة إنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة ذلك كان مناقضا لقوله أنت علي كظهر أمي. الوجه الثالث: وهو قول مالك إن العود إليها عبارة عن العزم على وطئها وهو قريب من قول أبي حنيفة. الوجه الرابع: وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري إن العود إليها عبارة عن جماعها وقالوا لا كفارة عليه ما لم يطأها قال العلماء والعود المذكور هنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم عليه أو لاستباحته إلا أن الذي قاله الشافعي هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليه وأما الاحتمال الأول في قوله ثم يعودون أي يفعلون مثل ما فعلوه فعلى هذا الاحتمال في الآية وجوه أيضا الأول قال مجاهد والثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتجب الكفارة به والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام على خلاف حكمه عندهم فمعنى ثم يعودون لما قالوا أي في الإسلام فيقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولون في الجاهلية فكفارته كذا وكذا على الوجه الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد وإلا لم يكن عود وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثم يعودون لما قالوا يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه. وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا المراد بالتماس المجامعة فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ يعني أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أي من التكفير وتركه خَبِيرٌ ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة فقال تعالى: [سورة المجادلة (58): آية 4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فكفارته وقيل فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصيام (ف) - كفارته فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ أي الفرض الذي وصفناه، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به عن الله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما وصف من الكفارة في الظهار وَلِلْكافِرِينَ أي لمن جحد هذا وكذب به عَذابٌ أَلِيمٌ أي في نار جهنم يوم القيامة. (فصل: في أحكام الكفارة، وما يتعلق بالظهار) وفيه مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان: أحدهما أنه يحرم الجماع فقط. والقول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاع وهو قول أبي حنيفة. المسألة الثانية: اختلفوا فيمن ظاهر مرارا فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد فإن عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة. المسألة الثالثة: الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسّة سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس ولم يقل في الإطعام «من قبل أن يتماسا» فدل على ذلك. وعند الآخرين الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وقال بعضهم وإن واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرّحمن بن مهدي. المسألة الرابعة: كفارة الظهار مرتبة فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة وقال أبو حنيفة هذه الرقبة تجزي سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب. دليلنا أنا أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا هنا وحمل المطلق على المقيد أولى. المسألة الخامسة: الصوم فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر يوما متعمدا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ولو شرع في الصوم ثم جامع في خلال الشهرين بالليل عصى الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة لكن لا يجب عليه استئناف الشهرين وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين. المسألة السادسة: إن عجز عن الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة بحيث لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينا كل مسكين مد من الطعام الذي يقتات به أهل البلد من حنطة أو شعير أو أرز أو ذرة أو تمر أو نحو ذلك وقال أبو حنيفة يعطي لكل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ولو أطعم مسكينا واحدا ستين جزءا لا يجزيه عند الشافعي وقال أبو حنيفة يجزيه. حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى أوجب إطعام ستين مسكينا فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل. وأجيب عنه بأن إدخال السرور على قلب ستين مسكينا أولى من إدخال السرور على قلب مسكين واحد. المسألة السابعة: إذا كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى الخدمة أو له ثمن الرقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم وقال مالك والأوزاعي يلزمه الإعتاق إذا كان واجدا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجا

إليه وقال أبو حنيفة إن كان واجدا لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجا إليه، وإن كان واجدا لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم. المسألة الثامنة: قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام والدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذا انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر قال فقلت امشوا معي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا لا والله فانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به. قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم وبنو بياضة بطن من بني زريق» أخرجه أبو داود. قوله نزوت عليها أي وثبت عليها وأراد به الجماع وقوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر واللجاج فيه والوسق ستون صاعا، وقوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام وأوحش الرجل إذا جاع. وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت «ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشكو إليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجادلني فيه ويقول اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى الفرض قال يعتق رقبة قلت لا يجد قال فليصم شهرين متتابعين قلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قلت ما عنده شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا ارجعي إلى ابن عمك» أخرجه أبو داود وفي رواية «قلت إن أوسا ظاهر مني وذكرت أن به لمما وقالت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع وذكرت نحوه» العرق بفتح العين والراء المهملتين زنبيل يسع ثلاثين صاعا وقيل خمسة عشر صاعا وقولها إن به لمما اللمم طرف من الجنون وقال الخطابي لبس المراد من اللمم هنا الجنون والخبل إن لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يلزمه شيء بل معنى اللمم هاهنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والشبق والله أعلم.

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 إلى 8]

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما، كُبِتُوا أي ذلوا وأخزوا وأهلكوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك، وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني فرائض وأحكاما. وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لم يعملوا بها وجحدوها عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ أي حفظ الله أعمالهم وَنَسُوهُ أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ أي من أسرار ثلاثة وهي المسارة والمشاورة والمعني ما من شيء يناجي به الرجل صاحبه وقيل ما يكون من متناجين ثلاثة يسارر بعضهم بعضا إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي بالعلم يعني يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم ومشاهدهم كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ فإن قلت لما خص الثلاثة والخمسة. قلت: أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون اثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد تلك المشاورة ويتم ذلك الغرض وهكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بد من واحد يكون حكما بينهم مقبول القول وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خص الله تعالى الثلاثة والخمسة ثم قال تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ يعني ولا أقل من ثلاثة وخمسة ولا أكثر من ذلك العدد إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي بالعلم والقدرة، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوءهم فيحزن المؤمنين لذلك ويقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم فلما طال على المؤمنين وكثر شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فأنزل الله ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى أي المناجاة فيما بينهم، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني ذلك السر الذي كان بينهم لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أي شيء يسوءهم وكلاهما إثم وعدوان، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها وقيل معناه يوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول وَإِذا جاؤُكَ يعني اليهود حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون السام عليك والسام الموت وهم يوهمونه بأنهم يسلمون عليه وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرد فيقول عليكم وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يعني إذا خرجوا من عنده قالوا لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يريدون لو كان نبيا لعذبنا الله بما نقول من الاستخفاف به قال الله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المعنى أن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة وإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة قالت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قلت عليكم» وللبخاري «إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك فقال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش قالت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» السام الموت قال الخطابي عامة المحدثين يروون إذا سلم عليكم أهل الكتاب فإنما يقولون السام عليكم فقولوا وعليكم الحديث فيثبتون الواو في وعليكم وكان سفيان بن عيينة يرويه بغير واو قال وهو

[سورة المجادلة (58): الآيات 9 إلى 10]

الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه مردودا عليهم بعينه وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم لأن الواو تجمع بين الشيئين، والعنف ضد الرفق واللين، والفحش الرديء من القول. [سورة المجادلة (58): الآيات 9 الى 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في المخاطبين بهذه الآية قولان أحدهما أنه خطاب للمؤمنين وذلك أنه لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم وهو ما يقبح من القول والعدوان وهو ما يؤدي إلى الظلم ومعصية الرسول وهو ما يكون خلافا عليه. والقول الثاني: وهو الأصح أنه خطاب للمنافقين والمعنى. يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وقيل آمنوا بزعمهم كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أي بالطاعة وترك المعصية وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي من تزيين الشيطان وهو ما يأمرهم به. من الإثم والعدوان ومعصية الرسول لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» زاد ابن مسعود في رواية «فإن ذلك يحزنه» وهذه الزيادة لأبي داود وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً يعني ذلك التناجي وقيل الشيطان ليس بضارهم شيئا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا ما أراد الله تعالى وقيل إلا بإذن الله في الضر وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى الله تعالى ويستعيذوا به من الشيطان فإن من توكل على الله لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه. [سورة المجادلة (58): آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية قيل في سبب نزولها «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلّى الله عليه وسلّم فسلموا عليه فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا وشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية» وقيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تقدمت القصة في سورة الحجرات، وقيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا تضاموا في مجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض وقيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة والمكان ضيق والأقرب أن المراد مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحرصا على استماع كلامه فأمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه وقرئ في المجلس لأن لكل واحد مجلسا ومعناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم، يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع الله لكم في الجنة والمجالس فيها (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم

[سورة المجادلة (58): آية 12]

يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم»، (م) عن جابر بن عبد الله قال «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا» ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفا على جابر ورفعه غير الحميدي وقيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم وهم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول والحاجة داعية إلى تقدمه فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم والقرآن والحديث والذكر ونحو ذلك لأن كل من وسع على عباد الله أنواع الخير والراحة وسع الله عليه خيري الدنيا والآخرة. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقيل كان رجال يتثاقلون عن الصلاة في الجماعة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى إذا نودي إلى الصلاة فانهضوا إليها وقيل إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى كل خير فانهضوا إليه ولا تقصروا عنه، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم دَرَجاتٍ أي على من سواهم في الجنة قيل يقال للمؤمن الذي ليس بعالم إذا انتهى إلى باب الجنة أدخل ويقال للعالم قف فاشفع في الناس أخبر الله عز وجل أن رسوله صلّى الله عليه وسلّم مصيب فيما أمروا أن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا به من الإكرام وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنكم في العلم فإن الله تعالى يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات وقيل إن العالم يحصل له بعلمه من المنزلة والرفعة ما لا يحصل لغيره لأنه يقتدي بالعالم في أقواله وفي أفعاله كلها عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي قال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر» أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه، (ق) عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من يريد الله به خيرا يفقهه في الدين» وعن ابن عباس مثله أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون إلى الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه». أما هؤلاء فيدعون إلى الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم» قوله تعالى: [سورة المجادلة (58): آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يعني إذا أردتم مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقدموا أمام ذلك صدقة وفائدة ذلك إعظام مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه

[سورة المجادلة (58): الآيات 13 إلى 16]

وإن وجده بسهولة استحقره ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكثروا حتى شق عليه فأراد الله تعالى أن يخفف على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويثبطهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طول جلوسهم ومناجاتهم فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته فأما الفقراء وأهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما الأغنياء وأهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الرخصة وقال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي يقول آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ترى دينارا قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال فنزلت. [سورة المجادلة (58): الآيات 13 الى 16] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية قال فبي خفف الله عن هذه الأمة أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قوله قلت شعيرة أي وزن شعيرة من ذهب وقوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك. فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره. قلت هو كما قلت وليس فيها طعن على غيره من الصحابة ووجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية ولو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها وعلى تقدير اتساع الوقت ولم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة فيكون ذلك سببا لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته ووجه آخر وهو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات ولا من الواجبات ولا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها وليس فيها طعن على أحد منهم، وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله وَأَطْهَرُ أي لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك أَأَشْفَقْتُمْ قال ابن عباس أبخلتم والمعنى أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم وهو قوله أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به، وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تجاوز عنكم ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمر ونهى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إنه محيط بأعمالكم ونيتكم. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين وذلك أنهم تولوا اليهود ونصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم فأراد بقوله قوما غضب الله عليهم اليهود ما هُمْ يعني المنافقين مِنْكُمْ أي من المؤمنين في الدين والولاء وَلا مِنْهُمْ يعني ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ

[سورة المجادلة (58): الآيات 17 إلى 22]

يَعْلَمُونَ أي أنهم كذبة «نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وكان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآية» أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني الكاذبة جُنَّةً أي يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم بسبب أيمانهم، وقيل معناه صدوا الناس عن دين الله الذي هو الإسلام فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يعني في الآخرة. [سورة المجادلة (58): الآيات 17 الى 22] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ يوم القيامة مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي في الدنيا وقيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يعني من أيمانهم الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ يعني في أقوالهم وأيمانهم، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب واستولى عليهم وملكهم فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني. ولما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي قضى ذلك قضاء ثابتا قيل غلبة الرسل على نوعين فمنهم من يؤمر بالحرب فهو غالب بالحرب ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ أي على نصر رسله وأوليائه عَزِيزٌ أي غالب على أعدائه. قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أخبر الله تعالى أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب عدوه فإن قلت قد أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالفتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحظورة قلت المودة المحظورة هي مناصحتهم وإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في الذكر عن مودتهم بقوله وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعني أن الميل إلى هؤلاء من أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء والمودة لهم بسبب مخالفة الدين قيل نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وستأتي قصته في سورة الممتحنة وروي عن عبد الله بن مسعود في

هذه الآية قال ولو كانوا آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم أحد أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «متعنا بنفسك يا أبا بكر» أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبد الله بن عمير أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبا عبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبت التصديق في قلوبهم فهي مؤمنة موقنة مخلصة وقيل حكم لهم بالإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي قواهم بنصر منه وإنما سمى نصره إياهم روحا لأن به حيي أمرهم. وقيل بالإيمان وقيل بالقرآن وقيل بجبريل وقيل برحمته وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ إنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأن أعظم النعم وأجل المراتب ثم لما ذكر هذه النعم أتبعه بما يوجب ترك المودة لأعداء الله سبحانه وتعالى فقال أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والله أعلم بمراده.

سورة الحشر

سورة الحشر قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة الحشر فقال قل سورة النضير وهي مدنية أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحشر (59): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وهم طائفة من اليهود وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا وظهر على المشركين قال بنو النضير والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلّى الله عليه وسلّم ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة» وقد تقدمت القصة في سورة آل عمران وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر على النبي صلّى الله عليه وسلّم من الحصن فعصمه الله منهم وأخبره بذلك وقد تقدمت القصة في سورة المائدة. فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية قال نعم فقالوا ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم اخرجوا من المدينة فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ثم تنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى كانوا في براز من الأرض فقال بعض اليهود لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب الموت قبله ولكن أرسلوا إليه كيف

[سورة الحشر (59): آية 2]

نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن آمنوا بك آمنا بك وصدقناك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما كان من الغد صبحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم. وقال ابن عباس: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ما بقي، وقيل أعطى كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاء ففعلوا ذلك وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة، فذلك قوله عز وجل: [سورة الحشر (59): آية 2] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ يعني التي كانت بالمدينة. قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان لِأَوَّلِ الْحَشْرِ قال الزهري كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام وقيل إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل كان هذا: أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام في أيام عمر، وقيل كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ما ظَنَنْتُمْ يعني أيها المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا أي من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخل كثير وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أتاهم أمر الله وعذابه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وهو أن الله أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قال الزهري وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقيل كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغضا وقيل كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها وقال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَاعْتَبِرُوا يعني فاتعظوا وانظروا ما نزل بهم يا أُولِي الْأَبْصارِ يعني يا ذوي العقول والبصائر.

[سورة الحشر (59): الآيات 3 إلى 5]

[سورة الحشر (59): الآيات 3 الى 5] وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ يعني الخروج من الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا يعني بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ أي الذي لحقهم ونزل بهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي خالفوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ الآية وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وأحرقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا. واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأن ذلك كان بإذن الله تعالى (ق) عن ابن عمر قال: حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزل ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ البويرة اسم موضع لبني النضير وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير قال ابن عباس النخل كلها لينة ما خلا العجوة وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان وقيل النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنية وقيل اللينة النخل كلها من غير استئناف وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه هي لون من النخل وقيل كرام النخل وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهو شديد الصفرة ويرى نواه من خارج يغيب فيه الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبه إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم ذلك وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائما هو لمن غلب عليه فأخبر الله أن قطعها كان بإذنه، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود والمعنى ولأجل إخزاء اليهود أذن الله في قطعها احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق وكذلك قطع أشجارهم ونحوها. [سورة الحشر (59): آية 6] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) قوله عز وجل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي ما رد الله على رسوله مِنْهُمْ أي من يهود بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يعني أوضعتم وهو سرعة السير مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على جمل، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من أعدائه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم

[سورة الحشر (59): آية 7]

أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة (ق) عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرّحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلا ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره فقال «وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب» الآية قال فقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينكم أموال بني النضير فو الله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا نعم قال ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟ قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قلتم ادفعها إلينا فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهدا لله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت وإلا فلا تكلماني فقلتما ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنه فادفعاه إليّ فإني أكفيكماه. [سورة الحشر (59): آية 7] ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعني بني هاشم وبني المطلب وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم من المصالح. واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن

[سورة الحشر (59): آية 8]

الخطاب «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين إلى قوله والذين جاءوا من بعدهم» ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم كَيْ لا يَكُونَ الفيء دُولَةً والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسمه فيما أمره به وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ أي من مال الفيء والغنيمة وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي من الغلول وغيره فَانْتَهُوا وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره (ق) عن عبد الله بن مسعود أنه قال «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به ونهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» أخرجه أبو داود والترمذي. وقال هذا حديث حسن الأريكة كل ما أتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أمر الفيء إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي على ترك ما أمركم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو نهاكم عنه ثم بين من له الحق في الفيء فقال عز وجل: [سورة الحشر (59): آية 8] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي رزقا وقيل ثوابا من الله وَرِضْواناً أي أخرجوا من ديارهم طلبا لرضا الله عز وجل: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا» وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.

[سورة الحشر (59): آية 9]

[سورة الحشر (59): آية 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكنا مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي حزازة وغيظا وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية «فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ». (ق) عن أبي هريرة قال «قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا» (خ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» وفي رواية «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة فقالت الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عز وجل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» والشح في كلام العرب البخل مع الحرص وقد فرق بعض العلماء بين البخل والشح فقال البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع. ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بما أرادوا وروي أن رجلا قال لابن مسعود إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال إني أسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل وقال ابن عمر ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمع عين الرجل فيما ليس له وقيل الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقاه شح نفسه (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع» أخرجه أبو داود الهلع

[سورة الحشر (59): آية 10]

أشد الجزع والمراد منه أن الشحيح يجزع جزعا شديدا ويحزن على شيء يفوته أو يخرج من يده والخالع الذي خلع فؤاده لشدة خوفه وفزعه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» أخرجه النسائي. [سورة الحشر (59): آية 10] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم إلى يوم القيامة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أخبر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي غشا وحسدا وبغضا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فكل من كان في قلبه غل أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين وليس له في المسلمين نصيب وقال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرون والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه الثلاث منازل (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (م) عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة «يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسبوهم» عن عبد الله بن مغفل قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال مالك بن أنس: من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا هذه الآية ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى - إلى- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ- إلى- رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال مالك بن مغول قال الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قال حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. وروي عن جابر قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر. وروي أن ابن عباس سمع رجلا ينال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: من أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا قال أفمن الأنصار أنت؟ قال لا قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان. قوله عز وجل: [سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 12] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني أظهروا خلاف ما أضمروا وهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه

[سورة الحشر (59): الآيات 13 إلى 16]

يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود من بني قريظة وبني النضير وإنما جعل المنافقين إخوانهم لأنهم كفار مثلهم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ أي منها وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً يعني إن سألنا أحد خلافكم وخذلانكم فلا نطيعه فيكم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعيننكم ولنقاتلن معكم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ يعني المنافقين لَكاذِبُونَ أي فيما قالوا ووعدوا ثم أخبر الله عن حال المنافقين فقال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا ولم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يعني لو قدروا نصرهم أو لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم. [سورة الحشر (59): الآيات 13 الى 16] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) لَأَنْتُمْ يعني يا معشر المسلمين أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله ذلِكَ أي الخوف منكم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يعني عظمة الله تعالى: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرئ جدر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضا شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ثم ضرب لليهود مثلا فقال تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً يعني مشركي مكة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس «كمثل الذين من قبلهم» يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة ثم ضرب مثلا آخر للمنافقين واليهود جميعا في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله

سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما فلما انفتل بعدها رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها؟ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو؟ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف

[سورة الحشر (59): آية 17]

إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبدا ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قال الله تعالى: [سورة الحشر (59): آية 17] فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان وذلك الإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلا صالحا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم، فقالت إن شئتم لافتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث،

[سورة الحشر (59): الآيات 18 إلى 23]

فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها» أخرجه مسلم بتمامه وهذا لفظه وأخرجه البخاري مفرقا حديث جريج تعليقا وحديث المرأة وابنها خاصة. المومسات الزواني جمع مومسة وهي المرأة الفاجرة والبغيّ الزانية أيضا وقوله يتمثل بحسنها أي يتعجب منه ويضرب به المثل وقوله ذو شارة حسنة أي صاحب جمال ظاهر في الهيئة والملبس والمركب ونحو ذلك والجبار العاتي المتكبر القاهر للناس. [سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غدا وكل ما هو آت فهو قريب، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيدا وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر الله فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا ينفعها وعنده أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله «ولتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزا عظيما. قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزا وعقلا كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها. وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزا وعقلا يدل على أنه تمثيل. قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم.

ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحمة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرّحمن أشد مبالغة من الرّحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته الْقُدُّوسُ أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته السَّلامُ أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق. فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن. قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليما، وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، الْمُؤْمِنُ قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه: ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرب والنكر أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم في أبيات منها: حتى احتوى بينك المهيمن من ... خندف عليا زانها النطق وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه: جل المهيمن عن صفات عبيده ... ولقد تعالى عن عقول أولي النهى راموا بزعمهم صفات مليكهم ... والوصف يعجز عن مليك لا يرى الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر الْجَبَّارُ قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد: وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس صفة ذم وكذلك الْمُتَكَبِّرُ في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله فكان مذموما في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك

[سورة الحشر (59): آية 24]

كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم. [سورة الحشر (59): آية 24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه وتعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة، وقيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره الْبارِئُ أي المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود الْمُصَوِّرُ أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده وقيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض وقيل الخالق المبدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارئ المنشئ لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه وأنشأه على صور مختلفة وأشكال متباينة وقيل معنى التصوير التخطيط والتشكيل فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا وإنما قدم الخالق على البارئ لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارئ على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان كذلك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب والله أعلم.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة (مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الممتحنة (60): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الآية (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إلى قوله سَواءَ السَّبِيلِ روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة وقيل إنه موضع قريب من مكة والأول أصح والظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج والعقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمسلمة جئت؟ قالت لا قال أمهاجرة جئت؟ قالت لا قال فما جاء بك؟ قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها وأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي

[سورة الممتحنة (60): الآيات 2 إلى 5]

صلّى الله عليه وسلّم بما فعل فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانا فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب فبحثوا وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع، فقال علي والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسل السيف وقال أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت؟ فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا منهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يدا وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يدريك يا عمل لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يعني أصدقاء وأنصارا تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بأسباب المحبة وقيل معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم وَقَدْ كَفَرُوا أي وحالهم أنهم كفروا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأن آمنتم، كأنه قال يفعلون ذلك لإيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط جوابه متقدم والمعنى إن كنتم خرجتم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وقوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ أي من المودة للكفار وَما أَعْلَنْتُمْ أي أظهرتم بألسنتكم منها وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي الإسرار وإلقاء المودة إليهم فقال: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ طريق الهدى ثم أخبر عن عداوة الكفار فقال تعالى: [سورة الممتحنة (60): الآيات 2 الى 5] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي يظفروا بكم ويروكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بالضرب والقتل والشم والسب وَوَدُّوا أي تمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله ولا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم ولا توادوهم لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ أي لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وترك مناصحتهم ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين عصيتم الله لأجلهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ يخاطب حاطبا

[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 إلى 8]

والمؤمنين ويأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وَالَّذِينَ مَعَهُ أي من أهل الإيمان إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ يعني المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بريء وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي جحدناكم وأنكرنا دينكم وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ والمعنى أن إبراهيم عليه السلام وأصحابه تبرؤوا من قومهم وعادوهم لكفرهم فأمر حاطبا والمؤمنين أن يتأسوا بهم إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به وإنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه وكان من دعاء إبراهيم ومن معه من المؤمنين رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، وقيل معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 8] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني في إبراهيم ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي اقتداء حسن لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي إن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن خلقه الْحَمِيدُ أي إلى أهل طاعته وأوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة وعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من كفار مكة مَوَدَّةً ففعل الله تعالى ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولان لهم أبو سفيان وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي علي جعل المودة بينكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب منهم وأسلم ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين قال ابن عباس نزلت في خزاعة وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخص الله في برهم وقال عبد الله بن الزبير نزلت في أمه وهي أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضبابا وأقطا وسمنا وهي مشركة فقالت أسماء لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليّ بيتا حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها منزلها وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها»، (ق) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قالت «قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدتهم فاستفتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها قال نعم صليها»، زاد في رواية قال ابن عيينة فأنزل الله فيها لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ثم ذكر الله الذي نهى عن صلتهم وبرهم فقال تعالى:

[سورة الممتحنة (60): الآيات 9 إلى 10]

[سورة الممتحنة (60): الآيات 9 الى 10] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ وهم مشركو مكة أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الآية (خ) عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ- إلى- وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يمتحن بهذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ- إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن؟ قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بايعتك كلاما يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال. واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظا صريحا فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظا صريحا وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن ما أَنْفَقُوا أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن

[سورة الممتحنة (60): آية 11]

أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد: والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما. قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما. وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقام أبو العاص بمكة مشركا ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَسْئَلُوا أي أيها المؤمنون ما أَنْفَقْتُمْ يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم وَلْيَسْئَلُوا يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ما أَنْفَقُوا من المهر ممن تزوجها منكم ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الزهري ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله عز وجل: [سورة الممتحنة (60): آية 11] وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) وَإِنْ فاتَكُمْ أيها المؤمنون شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي فلحقن بهم مرتدات فَعاقَبْتُمْ معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ أي إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة «1» بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجبا أو مندوبا وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد

_ (1) قوله فاطمة، تقدم أن اسمها قريبة فلعل في اسمها خلافا، وذكر الخطيب أولا أن اسمها قريبة وثانيا فاطمة كما هنا والله أعلم اهـ.

[سورة الممتحنة (60): آية 12]

النساء منسوخا بقوله تعالى فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فعلى هذا كان رد المهر واجبا. والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوبا. واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. [سورة الممتحنة (60): آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية قال المفسرون لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وفرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا أتته النساء يبلغنه وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبايعهن عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا وما رأيناك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَسْرِقْنَ فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري يحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال وَلا يَزْنِينَ فقالت هند أو تزني الحرة؟ فقال وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت هند ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ فقالت هند والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة قال ابن الجوزي وجملة من أحصى من المبايعات أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام، (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئا وما مست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد امرأة لا يملكها» وأما تفسير الآية فقوله تعالى: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أراد به وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا تلحق المرأة بزوجها غير ولده وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فهذا هو البهتان المفتري وليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عنه قد تقدم ذكره ومعنى بين أيديهن وأرجلهن أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن به أو تنهاهن عنه وقيل في كل أمر وافق طاعة الله وكل أمر فيه رشد وقيل هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه وأن لا تحدث المرأة الرجال الأجانب ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر مع غير ذي محرم، قال ابن عباس في قوله

[سورة الممتحنة (60): آية 13]

وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ إنما هو شرط شرطه الله على النساء أخرجه البخاري (ق) عن أم عطية قالت «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا فانطلقت ثم رجعت فبايعها»، (ق) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت «كان فيما أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» أخرجه أبو داود عن أنس رضي الله عنه «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية فنسعدهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا إسعاد في الإسلام» أخرجه النسائي، (م) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النائحة والمستمعة» أخرجه أبو داود، وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ يعني إذا بايعنك على هذه الشروط فبايعهن وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عن أميمة بنت رقية قالت «بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسوة فقال لنا فيما استطعتن وأطقتن قلنا الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا قلت يا رسول الله بايعنا قال سفيان يعني صافحنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. [سورة الممتحنة (60): آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني من اليهود وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك» قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني اليهود وذلك أنهم عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبوا به فيئسوا من أن يكون لهم ثواب أو خير في الآخرة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يعني كما يئس الذين ماتوا على الكفر وصاروا في القبور من أن يكون لهم ثواب في الآخرة وذلك أن الكفار إذا دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله تعالى وقيل معناه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم والمعنى: أن اليهود الذين عاينوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يؤمنوا به قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الصف

سورة الصف وفيها قولان: أحدهما أنها مدنية وهو قول ابن عباس والجمهور. والثاني أنها مكية وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الصف (61): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا وأنزل الله هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون. [سورة الصف (61): الآيات 3 الى 6] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي عظم بغضا عند الله أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئا ولم يفوا به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه

[سورة الصف (61): الآيات 7 إلى 14]

الحديث «تراصوا في الصف» ومعنى الآية إن الله يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص. قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي قيل: إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ يعني تؤذونني وأنتم عالمون علما قطعيا أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي فَلَمَّا زاغُوا أي عدلوا ومالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي أمالها عن الحق إلى غيره وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعا ممن قد تقدم وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال اسْمُهُ أَحْمَدُ عن أبي موسى قال «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن يأتوا النجاشي» وذكر الحديث، وفيه قال سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه» أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلّى الله عليه وسلّم يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم «1» يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل (ق) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي يوم القيامة وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وقد سماه الله تعالى رؤوفا رحيما» وأحمد يحتمل معنيين أحدهما أنه مبالغة من الفاعل ومعناه أن الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل وهو أكثر حمدا لله من غيره والثاني أنه مبالغة من المفعول ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها من غيره، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قيل هو عيسى صلّى الله عليه وسلّم وقيل هو محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر. [سورة الصف (61): الآيات 7 الى 14] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

_ (1) قوله قال نعم إلخ كذلك في نسخة وفي أخرى قال نعم أمة أحمد حكماء اهـ من هامش.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي ومن أقبح ظلما ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ معنى الآية أي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم، وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وكانوا اثني عشر رجلا أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «حواري» الزبير فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الجمعة

سورة الجمعة (مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثلاثون كلمة وسبعمائة وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) قوله عز وجل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه رَسُولًا مِنْهُمْ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أميا مثلهم وإنما كان أميا لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من دنس الشرك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي القرآن وقيل الفرائض وَالْحِكْمَةَ قيل هي السنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يدركوهم ولكنهم جاءوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي قهر الجبابرة الْحَكِيمُ أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته.

[سورة الجمعة (62): الآيات 4 إلى 8]

[سورة الجمعة (62): الآيات 4 الى 8] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمدا صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفرا لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرءون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ يعني بئس مثلا مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالما وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه قُلْ أي قل يا محمد يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي من دون محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ادعوا على أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ أي لا ينفعكم الفرار منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد. [سورة الجمعة (62): آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي الوقت الصلاة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نداء سواه «كان إذا جلس صلّى الله عليه وسلّم على المنبر أذن بلال» (خ) عن السائب بن يزيد قال «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء» زاد في رواية «فثبت الأمر على ذلك»، ولأبي داود قال «كان يؤذن بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد وذكر نحوه» الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعا كالمنارة. واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها

يوم العروبة، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرّحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون» أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أصحاب السير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجدا فجمع فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطب. وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ بقوله فلما مشى معه (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» وفي رواية «فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة» وذكره زاد مسلم «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة» والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام وَذَرُوا الْبَيْعَ يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعا وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ذلِكُمْ أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء خَيْرٌ لَكُمْ أي من المبايعة في ذلك الوقت إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم. (فصل: في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها) وفيه مسائل: (المسألة الأولى): في فضلها (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها»، زاد في رواية «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (ق) عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»، وفي رواية «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلا كغسل الجنابة (م) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

قال «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا» قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو (خ) عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذاك في كل سنة يوما فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي (خ) عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة» الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده. (المسألة الثانية): في إثم تاركها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على منبره «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من «ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه» أخرجه أبو داود والنسائي وللترمذي نحوه (م) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم». (المسألة الثالثة): في تأكيد وجوبها قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض»، أخرجه أبو داود وقال طارق «رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعضا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع منه شيئا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة على من سمع النداء» أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله»، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم

نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال «إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين» ولأبي داود نحوه فيه بجؤاثى قرية من قرى البحرين. (المسألة الرابعة): في تركها لعذر كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس «أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم» زاد في رواية «فتمشون في الطين والدحض والزلق»، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلّى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد. (المسألة الخامسة): في العدد الذي تنعقد به الجمعة اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلا وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحرارا بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب: لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلا ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع. (المسألة السادسة): لا يجوز أن يسافر الرجل يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت أما إذا سافر قبل الزوال وبعد طلوع الفجر فإنه يجوز غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة كحج أو غزو، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيما فلا يسافر حتى يصلي الجمعة يدل على جوازه ما روي عن ابن عباس قال «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ألحقهم فلما صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه فقال ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم» أخرجه الترمذي وروى أن عمر رأى رجلا عليه أهبة السفر وسمعه يقول لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت فقال له عمر اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. وللجمعة شرائط وسنن وآداب مذكورة في كتب الفقه وفي هذا القدر كفاية والله أعلم.

[سورة الجمعة (62): الآيات 10 إلى 11]

[سورة الجمعة (62): الآيات 10 الى 11] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) قوله عز وجل: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيرا قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيرا حتى تذكره قائما وقاعدا ومضطجعا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً (ق) عن جابر قال «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبلت عير تحمل طعاما فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا إثنا عشر رجلا فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما» وفي رواية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب قائما فجاءت عير من الشام وذكر نحوه» وفيه «إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر» ولمسلم «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم» وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلا. وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» وقال مقاتل «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم كم بقي في المسجد؟ فقالوا اثني عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية» وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق، وقوله تعالى انفضوا أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائما اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة «سئل ابن مسعود أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال أما تقرؤون وتركوك قائما» قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائما خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافا لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافا لأبي حنيفة ومالك.

(ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام) (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب خطبتين يقعد بينهما» وفي رواية أخرى «كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن» (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي صلّى الله عليه وسلّم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» زاد في رواية «فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب»، (م) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً، (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا» زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا» وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه «ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله» أخرجه أبو داود (م) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كانت خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت» عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام «فأما صفة صلاة الجمعة» فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهرا ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهرا، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلّى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعا وإن انفض من العدد واحدا، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعا (خ) عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (م) عن عبيد الله بن أبي رافع قال «استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد الحمد سورة الجمعة في الأولى وإذا جاءك المنافقون في الثانية قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك

قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بهما يوم الجمعة»، (م) عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين» عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» أخرجه أبو داود والنسائي. وقوله تعالى: قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ أي ما عند الله من الثواب والأجر على الصلاة والثبات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ الذي جاء بهما دحية وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعني أنه تعالى موجد الأرزاق وأصلها منه فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا، والله تعالى أعلم.

سورة المنافقين

سورة المنافقين مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثمانون كلمة وتسعمائة وستة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) قوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان ثُمَّ كَفَرُوا أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله والله يشهد إنهم لكاذبون فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي بالكفر فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن. [سورة المنافقون (63): الآيات 4 الى 6] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني أن لهم أجساما ومناظر حسنة وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا

أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يعني أنهم لا يسمعون صوتا في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله عليهم ثم ابتدأ فقال تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن الحق. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي يعرضون عما دعوا إليه وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أي يا محمد أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (ذكر القصة: في سبب نزول هذه الآية) قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاها رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلّى الله عليه وسلّم في عز من الرّحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلّى الله عليه وسلّم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما استقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ما بلغك ما قال صاحبك

عبد الله بن أبي فقال أسيد وما قال؟ قال يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا قالوا وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك بالليل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة فقيل من هو؟ قال رفاعة بن زيد بن التابوت فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وقال ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين فلما وافى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإذن زيد وقال يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك (ق) عن زيد بن أرقم قال «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم قال فلووا رؤوسهم وقوله كأنهم خشب مسندة قال كانوا رجالا أجمل شيء» (ق) عن جابر قال «غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بات معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبر بسكعة المهاجري الأنصاري فقال دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر ألا أقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه» ولمسلم رواية «وفيها فقال لا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره» وزاد الترمذي فيه «فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله لا تنقلب حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم العزيز ففعل» قال أصحاب السير وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فلما جاء عبد الله بن أبي قال له ابنه وراءك قال ويلك ما لك قال لا والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولتعلمن اليوم من الأعز ومن الأذل فشكا عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صنع ابنه عبد الله فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن خل عنه يدخل فقال عبد الله أما إذا جاء أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنعم فدخل قالوا فلما نزلت هذه السورة وتبين كذب المنافقين قيل يا أبا حباب إنه

[سورة المنافقون (63): الآيات 7 إلى 9]

قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستغفر لك فلوى رأسه وقال أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ الآية ونزل. [سورة المنافقون (63): الآيات 7 الى 9] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا عنه وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يعني أن أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فرد الله عليهم بقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلّى الله عليه وسلّم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي. [سورة المنافقون (63): الآيات 10 الى 11] وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ قال ابن عباس يريد زكاة الأموال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ أي فأزكي مالي وَأَكُنْ وقرئ وأكون مِنَ الصَّالِحِينَ أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي أحج وأزكي وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملا من خير أو شر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة التغابن

سورة التغابن وهي مدنية في قول الأكثر وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ إلى آخر ثلاث آيات وهي ثماني عشرة آية ومائتان وإحدى وأربعون كلمة وألف وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) قوله عز وجل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يعني أنه تعالى متصرف في ملكه كيف يشاء تصرف اختصاص لا شريك له فيه وله الحمد لأن أصول النعم كلها منه وهو الذي يحمد على كل حال فلا محمود في جميع الأحوال إلا هو وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء كما يشاء بلا مانع ولا مدافع هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال ابن عباس: إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا (م) عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لهم وهم في أصلاب آبائهم» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الزرق فما الأجل فيكتب ذلك وهو في بطن أمه» وقال جماعة في معنى الآية إن الله تعالى خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم فقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم اختلفوا في تأويلها فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة وقال عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب وقيل فمنكم كافر أي بأن الله خلقه وهم الدهرية وأصحاب الطبائع ومنكم مؤمن أي بأن الله خلقه وجملة القول فيه أن الله تعالى خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله وبمشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه هذا طريق أهل السنة فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه عالم بكفر الكافر وإيمان المؤمن.

[سورة التغابن (64): الآيات 3 إلى 6]

[سورة التغابن (64): الآيات 3 الى 6] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي إنه أتقن وأحكم صوركم على وجه لا يوجد مثله في الحسن والمنظر من حسن القامة والمناسبة في الأعضاء وقد علم بهذا أن صورة الإنسان أحسن صورة وأكملها وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في القيامة يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ معناه أنه لا تخفى عليه خافية فاستوى في علمه الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ يخاطب كفار مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني خبر الأمم الخالية فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي جزاء أعمالهم وهو ما لحقهم من العذاب في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة ذلِكَ أي الذي نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا معناه أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَكَفَرُوا أي جحدوا وأنكروا وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي عن إيمانهم وعبادتهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ أي عن خلقه حَمِيدٌ أي في أفعاله ثم أخبر الله تعالى عن إنكارهم البعث فقال تعالى: [سورة التغابن (64): الآيات 7 الى 13] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ أي قل لهم يا محمد بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أي يوم القيامة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ أي لتخبرن بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أمر البعث والحساب يوم القيامة فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما ذكر حال الأمم الماضية المكذبة وما نزل بهم من العذاب قال فآمنوا أنتم بالله ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن سماه نورا لأنه يهتدى به في ظلمات الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه مطلع عليكم عالم بأحوالكم جميعا فراقبوه وخافوه. قوله عز وجل: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ من الغبن وهو فوت الحظ والمراد في المجازاة والتجارة وذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غبن والمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة وذلك لأن كل كافر له أهل ومنزل في الجنة لو أسلم فيظهر يومئذ غبن كل كافر يتركه الإيمان ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وقيل إن قوما في النار يعذبون وقوما في الجنة ينعمون فلا غبن أعظم من هذا وقل هو غبن المظلوم للظالم لأن المظلوم مغبون في الدنيا فصار في الآخرة غابنا لظالمه وأصل الغبن في البيع والشراء وقد ذكر الله في حق الكافرين «انهم خسروا وغبنوا في شرائهم فقال تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ وقال في حق المؤمنين

[سورة التغابن (64): الآيات 14 إلى 16]

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ وقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فخسرت صفقة الكافرين وربحت صفقة المؤمنين وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ على ما جاءت به الرسل من الإيمان بالبعث والجنة والنار وَيَعْمَلْ صالِحاً أي في إيمانه إلى أن يموت على ذلك يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي بوحدانية الله وقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي الدالة على البعث أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء الله وقدره وإرادته وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق أنه لا يصيبه مصيبة من موت أو مرض أو ذهاب مال ونحو ذلك إلا بقضاء الله وقدره وإذنه يَهْدِ قَلْبَهُ أي يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم لقضاء الله تعالى وقدره وقيل يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُوا اللَّهَ أي فيما أمر وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي فيما جاء به عن الله وما أمركم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود ولا مقصود إلا هو وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. [سورة التغابن (64): الآيات 14 الى 16] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ عن ابن عباس قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعنه قالوا لهم صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة فقال تعالى فاحذروهم أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ثم هاجر فرأى الذين قد سبقوه بالهجرة فقد فقهوا في الدين فهم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه ومنعوه عن الهجرة لما لحقوا به ولا ينفق عليهم ولا يصيبهم بخير فأمره الله بالعفو والصفح عنهم وقال عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرق عليهم فيقيم فأنزل الله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم بحملهم إياكم على ترك طاعة الله فاحذروهم أي أن تقبلوا منهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي فلا تعاقبوهم على خلافكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة وقد يقع الإنسان بسببهم في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام وغصب مال الغير ونحو ذلك اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني الجنة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب أولادكم ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم قال بعضهم لما ذكر الله العداوة أدخل من للتبعيض فقال إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهم لم يخلوا من الفتنة واشتغال القلب بهم وكان عبد الله بن مسعود يقول لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى أهل ومال وولد إلا يشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

[سورة التغابن (64): الآيات 17 إلى 18]

عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ما أطقتم وهذه الآية ناسخة لقوله «اتقوا الله حق تقاته» وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أي لله ولرسوله فيما يأمركم به وينهاكم عنه وَأَنْفِقُوا أي من أموالكم حق الله الذي أمركم به خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي ما أنفقتم في طاعة الله وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم تفسيره. [سورة التغابن (64): الآيات 17 الى 18] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً القرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيبة نفس يعني إن تقرضوا أي تنفقوا في طاعة الله متقربين إليه بالإنفاق يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يجزكم بالضعف إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الزيادة وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ يعني يحب المتقربين إليه حَلِيمٌ أي لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والله أعلم.

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الطلاق (65): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نادى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم خاطب أمته لأنه المقدم عليهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب وقيل معناه يا أيها النبي قل لأمتك فأضمر القول إذا طلقتم النساء أي إذا أردتم تطليقهن فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لزمان عدتهن وهو الطهر لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتغيظ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» زاد في رواية «كان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وفي رواية لمسلم «إنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ولمسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل عمر وأبو الزبير يسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن» «1». (فصل) اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن شاء طلق قبل أن يمس، والطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق

_ (1) قوله في قبل عدتهن. قال في شرح مسلم هي قراءة ابن عباس وابن عمر وهي شاذة لا تثبت قرآنا بالإجماع ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا اهـ.

الحامل بعد ما جامعها أو طلق التي لم تر الدم لا يكون بدعيا ولا سنة، ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعيا لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قبل أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأمره أن يتعرف الحال ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدا عصى الله تعالى ووقع الطلاق لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لم يأمره بالمراجعة، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في حال الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر وما رواه نافع عن ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فأمر استحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق كما أنه يكره النكاح للطلاق، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم فلو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثا لا يكون بدعيا وهو قول الشافعي وأحمد وذهب بعضهم إلى أنه بدعة وهو قول مالك وأصحاب الرأي. قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي عدة أقرائها فاحفظوها قيل أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا، وقيل للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي واخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني إذا كان المسكن الذي طلقها فيه الزوج له بملك أو إكراء وإن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكري لها منزلا غيره ولا يجوز للزوج أن يخرج المرأة من المسكن الذي طلقها فيه وَلا يَخْرُجْنَ يعني ولا يجوز للمرأة أن تخرج ما لم تنقض عدتها لحق الله تعالى فإن خرجت لغير ضرورة أثمت فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدما أو غرقا جاز لها أن تخرج إلى منزل آخر وكذلك إذا كان لها حاجة ضرورية من بيع غزل أو شراء قطن جاز لها الخروج نهارا ولا يجوز ليلا، يدل على ذلك أن رجالا استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالة جابر وقد كان طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها فإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وراجعة والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس: الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود وقيل معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة النشوز وقيل خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعده من الأحكام وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي فيطلق لغير السنة أو تجاوز هذه الأحكام فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة. عن محارب بن دثار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» وأخرجه أبو داود مرسلا وله في رواية عنه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به حرام عليها رائحة الجنة» وأخرجه أبو داود والترمذي.

[سورة الطلاق (65): آية 2]

[سورة الطلاق (65): آية 2] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي إذا قربن من انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهن بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي على الرجعة وعلى الفراق أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق. عن عمران بن حصين أنه سئل عن رجل يطلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. أخرجه أبو داود وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وأشهدوا إذا تبايعتم وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وفائدة هذا الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وأن لا يموت أحد الزوجين فيدعي الآخر ثبوت الزوجية ليرث وقيل أمر بالإشهاد للاحتياط مخافة أن تنكر الزوجة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجا غيره وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ يعني أيها الشهود لِلَّهِ أي طلبا لمرضاة الله وقياما بوصيته والمعنى اشهدوا بالحق وأدوها على الصحة ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قيل معناه ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة. وقال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك أسر ابن له يسمى مالكا فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أسر العدو ابني وشكا إليه أيضا فاقة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب منهم إبلا وجاء بها إلى أبيه. وعن ابن عباس قال: غفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً أي في ابنه. [سورة الطلاق (65): آية 3] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني ما ساق من الغنم وقيل أصاب غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم نعم ونزلت الآية وقال ابن مسعود ومن يتق الله يجعل له مخرجا من كل شيء ويرزقه من حيث لا يحتسب هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه وقال الربيع بن خثيم يجعل له محرجا من كل شيء ضاق على الناس وقيل محرجا من كل شدة وقيل مخرجا عما نهاه الله عنه وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يعني من يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي منفذ أمره وممض في خلقه ما قضاه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي جعل لكل شيء من شدة أو رخاء أجلا ينتهى إليه وقال مسروق في هذه الآية إن الله بالغ أمره توكل عليه أم لم يتوكل عليه غير أن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. [سورة الطلاق (65): الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) قوله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ قيل لما نزلت وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

[سورة الطلاق (65): الآيات 6 إلى 7]

ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري يا رسول الله فما عدة من تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله عز وجل: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض فلا يرجى أن يحضن وهن العجائز الآيسات من الحيض إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في حكمهن ولم تدروا ما عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني الصغائر اللاتي لم يحضن بعد فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغ سن الآيسات فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء وتبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن عمر أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك وقال الحسن تتربص سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهذا كله في عدة الطلاق وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها وهو قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (ق) «عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح وأنت والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي» لفظ البخاري ولمسلم نحوه وزاد قال ابن شهاب ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنها لا يقربها زوجها حتى تطهر وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة ذلِكَ أي ذلك الذي ذكر من الأحكام أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي لتعلموا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ يعني مطلقات نسائكم مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ أي من سعتكم وطاقتكم فإن كان موسرا يوسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيرا فعلى قدر الطاقة وَلا تُضآرُّوهُنَّ أي لا تؤذوهن لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ يعني في مساكنهن فيخرجن وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي فيخرجن من عدتهن. (فصل: في حكم الآية) اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة ونعني بالسكنى مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها الزوج فيها ملك الزوج يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها وأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلاق الثلاث أو باللعان فلها السكنى حاملا كانت أو غير حامل عند أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أنه قال لا سكنى لها إلا أن تكون حاملا وهو قول الحسن والشعبي.

واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، يروى ذلك، عن ابن عباس وهو قول الحسن والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد ومنهم من أوجبها بكل حال يروى ذلك عن ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق النفقة إلا أن تكون حاملا لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وأما الدليل على ذلك من السنة فما روي عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لها ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده فإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به» أخرجه مسلم واحتج بهذا الحديث من لم يجعل لها سكنى وقال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة له فيه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان في لسانها ذرابة: وأما المعتدة عن وطء الشهبة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملا وأما المعتدة عن وفاة الزوج فلا نفقة لها عند أكثر أهل العلم وروي عن علي أن لها النفقة إن كانت حاملا من التركة حتى تضع وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. واختلفوا في سكناها وللشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء وهو قول علي وابن عباس وعائشة وبه قال عطاء والحسن وهو قول أبي حنيفة. والثاني: أن لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق. واحتج من أوجب لها السكنى بما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري «أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألته أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو أمر بي فنوديت فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» أخرجه أبو داود والترمذي، فمن قال بهذا القول قال إذنه لفريعة أولا بالرجوع صار منسوخا بقوله آخرا «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» ومن لم يوجب السكنى قال أمرها بالمكث في بيتها آخرا استحبابا لا وجوبا. قوله عز وجل: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ يعني أولادكم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني على إرضاعهن، وفيه دليل على أن اللبن وإن كان قد خلق لمكان الولد فهو ملك للأم وإلا لم يكن لها أن تأخذ عليه أجرا وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف وقيل يتراضى الأب والأم على أجر مسمى والخطاب للزوجين جميعا أمرهم أن يأتوا بالمعروف وما هو الأحسن ولا يقصدوا الضرار، وقيل المعروف هاهنا لا أن يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا المرأة في حق

[سورة الطلاق (65): الآيات 8 إلى 12]

الولد ورضاعه وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي في حق الولد وأجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر للصبي مرضعا غير أمه وذلك قوله: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي على قدر غناه وَمَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فكان بمقدار القوت فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي على قدر ما آتاه الله من المال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً أي في النفقة إِلَّا ما آتاها يعني من المال والمعنى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني في النفقة سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة. قوله تعالى: [سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ أي عصت وطغت والمراد أهل القرية عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي وأمر رسله فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي بالمناقشة والاستقصاء وقيل حاسبها بعملها في الكفر فجزاها النار وهو قوله وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وقيل في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر أنواع البلاء وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي شدة أمرها وجزاء كفرها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسرانا في الدنيا والآخرة أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يخوف كفار مكة أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول ثم نعتهم فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني القرآن رَسُولًا أي وأرسل إليكم رسولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ قرئ مبينات بالخفض أي تبين الحلال من الحرام والأمر والنهي وقرئ بالنصب ومعناه أنها واضحات لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل يرزقون طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ يعني بعضها فوق بعض وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي في العدد يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي الوحي إلى خلقه من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره ينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار وبالصيف والشتاء ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاته وينقله من حال إلى حال فيحكم بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك هذا، وقيل في كل سماء من سماواته وأرض من أرضيه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية وأنه قادر على الإنشاء بعد الإفناء وكل الكائنات جارية تحت قدرته داخلة في علمه والله تعالى أعلم.

سورة التحريم

سورة التحريم (مدنية وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وسبع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة التحريم (66): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذكر سبب نزولها، (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلّى الله عليه وسلّم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقا منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال سقتني حفصة شربة عسل قال جرست نحله العرفط فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي» (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فتواطيت أنا وحفصة أنا أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قوله إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ لعائشة وحفصة وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً لقوله «بل شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا» زاد في رواية «يبتغي بذلك مرضاة أزواجه». (شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما) قولها كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلواء والعسل الحلواء بالمد وهو كل شيء حلو وذكر العسل بعدها وإن كان داخلا في جملة الحلواء تنبيها على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام قولها في الحديث الثاني فتواطيت أنا وحفصة هكذا ذكر في الرواية وأصله فتواطأت أي اتفقت أنا وحفصة قولها إني لأجد منك ريح مغافير هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة وبالفاء يكون بالحجاز وقيل العرفط نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة

[سورة التحريم (66): الآيات 2 إلى 3]

وثمره خبيث الرائحة، وقال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك، وقيل رائحته كرائحة النبيذ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يوجد منه رائحة كريهة قولها جرست نحله العرفط هو بالجيم والراء وبالسين المهملتين ومعناه أكلت نحله العرفط فصار منه العسل قولها في الحديث الثاني فقال شربت عسلا عند زينب بنت جحش وفي الحديث الأول أن الشرب كان عند حفصة بنت عمر بن الخطاب وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه قال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح حيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله وأكمل فائدة يريد قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة وحفصة كما اعترف به عمر في حديث ابن عباس وسيأتي الحديث قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى يعني الحديث الأول الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم وكذا ذكره القرطبي أيضا وقال المفسرون في سبب النزول «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة وخلا بها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي بها صلّى الله عليه وسلّم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلّى الله عليه وسلّم حتى حلف أن لا يقربها عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت له أمة يطؤها بها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية أخرجه النسائي قال العلماء الصحيح في سبب نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح قال النسائي إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية. وأما التفسير فقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي من العسل أو ملك اليمين على اختلاف الرواية فيه وهذا التحريم تحريم امتناع عن الانتفاع بها أو بالعسل لا تحريم اعتقاد بكونه حراما بعد ما أحله الله فالنبي «صلّى الله عليه وسلّم امتنع عن الانتفاع بذلك مع اعتقاده أن ذلك حلال تبتغي مرضاة أزواجك أي تطلب رضاهن بترك ما أحل الله لك والله غفور رحيم أي غفر لك ذلك التحريم. [سورة التحريم (66): الآيات 2 الى 3] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي بين وأوجب لكم تحليل أيمانكم بالكفارة وهو ما ذكر في سورة المائدة فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته فأعتق رقبة وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم وَهُوَ الْعَلِيمُ أي بخلقه الْحَكِيمُ أي فيما فرض من حكمه. (فصل) اختلف العلماء في لفظ التحريم فقيل ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو قال حرمتك فإن

[سورة التحريم (66): آية 4]

نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى ظهارا فظهار وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقا عتقت وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين وإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه وهذا قول أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين وإليه ذهب الشافعي وإن لم ينو شيئا ففيه قولان للشافعي أحدهما أنه يلزمه كفارة اليمين، والثاني لا شيء عليه وأنه لغو فلا يترتب عليه شيء من الأحكام وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطؤها وإن حرم طعاما فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» وفي رواية «إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» لفظ الحميدي. قوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحدا وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت بذلك حفصة عائشة وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على قول حفصة لعائشة عَرَّفَ بَعْضَهُ قرئ بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرئ عرف بالتشديد، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلّى الله عليه وسلّم كره أن ينتشر ذلك في الناس فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه قالَتْ يعني حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ أي بما تكنه الضمائر الْخَبِيرُ أي بخفيات الأمور. [سورة التحريم (66): آية 4] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) قوله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ يخاطب عائشة وحفصة أي من التعاون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والإيذاء له فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما أن تتوبا وذلك بأن سرهما ما كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتناب مارية، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتين قال الله عز وجل إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر وحججت معه فلما كان عمر ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز ثم أتاني فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما قال عمر وا عجبا لك يا ابن العباس قال الزهري كره منه ما سأله عنه ولم يكتمه قال هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني

فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك يريد عائشة وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينزل يوما ويأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم قلت ماذا أجاءت غسان؟ قال لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذ راجعتني فقالت ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله قد دخلت علي حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم قال فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى» قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت «لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في ليلة تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر يكون تسعا وعشرين زاد في رواية وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة ثم قال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها حتى بلغ إلى قوله عظيما قالت عائشة قد علم رسول الله والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة»، زاد في رواية «أن عائشة قالت لا تخبر نساءك أني اخترتك فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا» ولمسلم عن ابن عباس عن عمر نحوه وفيه قال «دخلت عليه فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول فنزلت هذه الآية عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير»، وفيه أنه استأذن رسول

[سورة التحريم (66): آية 5]

الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له وأنه قام على باب المسجد فنادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه. (شرح بعض ألفاظه) قوله فعدلت معه بالإداوة أي فملت معه بالركوة فتبرز أي أتى البراز وهو الفضاء من الأرض لقضاء الحاجة. العوالي جمع عالية وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة قوله ولا يغرنك أن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة أوسم منك أي أكثر حسنا وجمالا منك قوله فكنا نتناوب النزول التناوب هو أن يفعله الإنسان مرة ويفعله الآخر بعده المشربة بضم الراء وفتحها الغرفة قوله فإذا هو متكئ على رمال حصير يقال رملت الحصير إذا ضفرته ونسجته والمراد به أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير قوله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة الأهبة والأهب جمع إهاب وهو الجلد قوله من شدة موجدته الموجدة الغضب. قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تعاونا على إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي وليه وناصره وَجِبْرِيلُ يعني وجبريل وليه وناصره أيضا وإنما أفرده وإن كان داخلا في جملة الملائكة تعظيما له وتنبيها على علو منزلته ومكانته وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب صالح المؤمنين أبو بكر وعمر وقيل هم المخلصون من المؤمنين الذين ليسوا بمنافقين وقيل هم الأنبياء وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين ظَهِيرٌ أي أعوان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينصرونه. [سورة التحريم (66): آية 5] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) عَسى رَبُّهُ أي واجب من الله إِنْ طَلَّقَكُنَّ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ثم وصف الأزواج اللواتي كان يزوجه بهن فقال مُسْلِماتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ أي مصدقات بتوحيد الله تعالى: قانِتاتٍ أي طائعات وقيل داعيات وقيل مصليات بالليل تائِباتٍ أي تاركات للذنوب، لقبحها أو كثيرات التوبة عابِداتٍ وكثيرات العبادة سائِحاتٍ أي صائمات وقيل مهاجرات وقيل يسحن معه حيث ساح ثَيِّباتٍ جمع ثيب وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه وَأَبْكاراً أي عذارى جمع بكر وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن فأخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله أزواجا خيرا منهن تخويفا لهن.

[سورة التحريم (66): الآيات 6 إلى 9]

[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس بالانتهاء عما نهاكم الله عنه والعمل بطاعته وَأَهْلِيكُمْ يعني مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك، ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ يعني الكبريت، لأنه أشد الأشياء حرا وأسرع إيقادا عَلَيْها مَلائِكَةٌ يعني خزنة النار وهم الزبانية غِلاظٌ أي فظاظ على أهل النار شِدادٌ يعني أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار لم يخلق الله الرحمة فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي لا يخالفون الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامره والانتقام من أعدائه يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان. (فصل) وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحا وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالا ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة (م) عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة الحديث (م) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ هذا إطماع من الله تعالى لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلا وتكرما لا وجوبا عليه وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي لا يعذبهم بدخول النار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يعني على الصراط يَقُولُونَ رَبَّنا يعني إذا انطفأ نورا المنافقين أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تقدم تفسيره.

[سورة التحريم (66): الآيات 10 إلى 12]

[سورة التحريم (66): الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي بين شبها وحالا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها واعلة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها واهلة وقيل اسمها والعة ووالهة كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وقوله من عبادنا إضافة تشريف وتعظيم فَخانَتاهُما قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما وكانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن أحد أخبرت به الجبابرة من قومها وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومها على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار وإذا نزل به ضيف بالنهار دخنت لتعلم قومها بذلك وقيل أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لم يدفعا عن امرأتيهما مع نبوتهما عذاب الله وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وهذا مثل ضربه الله تعالى للصالحين والصالحات من النساء وأنه لا ينفع العاصي طاعة غيره ولا يضر المطيع معصية غيره وإن كانت القرابة متصلة بينهم وأن القريب كالأجانب بل أبعد وإن كان القريب الذي يتصل به الكافر نبيا كامرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان عن امرأتيهما شيئا فقطع بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية ويتكل على صلاح غيره وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ثم ضرب مثلا آخر يتضمن أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعا وأن وصلة المسلم بالكافر لا تضر المؤمن فقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ يعني آسية بنت مزاحم قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت به امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس فكانت تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف الله لها عن بيتها في الجنة وقيل إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة، من درة بيضاء وانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألما وقيل رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب فيها وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني وشركه وقال ابن عباس عمله يعني جماعه وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي عن الفواحش والمحصنة العفيفة فَنَفَخْنا فِيهِ أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية مِنْ رُوحِنا إضافة تمليك وتشريف كبيت الله وناقة الله وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده بكلماته المنزلة على أنبيائه وَكُتُبِهِ يعني الكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ يعني كانت من القوم القانتين أي المطيعين وهم رهطها وعشيرتها لأنهم كانوا أهل بيت صلاح وطاعة الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. والله أعلم بمراده.

سورة الملك

سورة الملك مكية وهي ثلاثون آية وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ولأبي داود نحوه، وفيه «تشفع لصاحبها» عن ابن عباس قال «ضرب بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر إنسان وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الملك (67): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) قوله عز وجل: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي له الأمر والنهي والسلطان فيعز من يشاء ويذل من يشاء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من الممكنات الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قيل أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا جعل الله الدنيا دار حياة وفناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء وإنما قدم الموت لأنه أقرب إلى قهر الإنسان، وقيل قدمه لأنه أقدم وذلك لأن الأشياء كانت في الابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والعلقة ونحو ذلك ثم طرأ عليها الحياة وقال ابن عباس خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلقت الحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقاها في العجل فخار وحيي وقيل إن الموت صفة وجودية مضادة للحياة، وقيل الموت عبارة عن زوال القوة الحيوانية وإبانة الروح عن الجسد وضده الحياة وهي القوة الحساسة مع وجود الروح في الجسد وبه سمي الحيوان حيوانا وقيل إن الموت نعمة لأن الفاصل بين حال التكليف في هذه الدار وحال المجازاة في دار القرار والحياة أيضا نعمة إذ لو لاها لم يتنعم أحد في الدنيا ولم يصل إليه الثواب في الآخرة لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم فيما بين الحياة إلى الموت أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا روي عن ابن عمر مرفوعا أحسن عملا أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته وقال الفضيل بن عياض أحسن عملا أخلصه وأصوبه، وقال أيضا العمل لا يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة وقيل أيكم أزهد في الدنيا وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب المنتقم ممن عصاه الْغَفُورُ أي لمن تاب إليه ورجع عن إساءته.

[سورة الملك (67): الآيات 3 إلى 8]

[سورة الملك (67): الآيات 3 الى 8] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً يعني طبقا على طبق بعضها فوق بعض كل سماء مقبية على الأخرى وسماء الدنيا كالقبة على الأرض قال كعب الأحبار سماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو قال نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء وما بين السماء إلى الحجب السبعة صحار من نور، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي ما ترى يا ابن آدم في شيء مما خلق الرّحمن اعوجاجا ولا اختلافا ولا تناقضا بل خلقهن مستقيمة مستوية فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي كرر النظر هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي من شقوق وصدوع ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ قال ابن عباس مرة بعد مرة يَنْقَلِبْ أي ينصرف إِلَيْكَ فيرجع الْبَصَرُ خاسِئاً أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوي وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى من الأرض وهي التي يراها الناس بِمَصابِيحَ أي بكواكب كالمصابيح في الإضاءة وهي أعلام الكواكب، وقال ابن عباس بنجوم لها نور وقيل خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ورجوما للشياطين وهو قوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ قال ابن عباس: يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع. فإن قلت جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها وجعلها رجوما للشياطين يقتضي زوالها فكيف الجمع بين هاتين الحالتين. قلت قالوا إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وترمي الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب ومثلها كمثل قبس يؤخذ من النار وهي على حالها وَأَعْتَدْنا لَهُمْ أي وأعتدنا للشياطين بعد الاحتراق في الدنيا عَذابَ السَّعِيرِ أي في الآخرة وهي النار الموقدة وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي ليس العذاب مختصا بالشياطين بل لكل من كفر بالله من إنس وجن عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثم وصف جهنم فقال تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً هو أول صوت نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات وَهِيَ تَفُورُ أي تغلي بهم كغلي المرجل وقيل تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل، تَكادُ تَمَيَّزُ أي تتقطع مِنَ الْغَيْظِ من تغيظها عليهم كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي جماعة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها يعني سؤال توبيخ وتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذركم. [سورة الملك (67): الآيات 9 الى 16] قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا يعني للرسول ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وهذا اعتراف منهم بأنه أزاح

[سورة الملك (67): الآيات 17 إلى 27]

عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا وقالوا ما نزل الله من شيء إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فيه وجهان أحدهما وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار للرسل والثاني يحتمل أن يكون من كلام الخزنة للكفار والمعنى لقد كنتم في الدنيا في ضلال كبير وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أي من الرسل ما جاءوا به أَوْ نَعْقِلُ أي نفهم منهم، قال ابن عباس لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ وقيل معناه لو كنا نسمع سمع من يعي ونعقل عقل من يميز وننظر ونتفكر ما كنا في أصحاب السعير فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ هو في معنى الجمع أي بتكذيبهم الرسل وقولهم «ما نزل الله من شيء» فَسُحْقاً أي بعدا لِأَصْحابِ السَّعِيرِ قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون ربهم ولم يروه فيؤمنوا به خوفا من عذابه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يعني جزاء أعمالهم الصالحة وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ قال ابن عباس نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل بما قالوا فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد فأخبره الله أنه لا يخفى عليه خافية فقال تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ثم أكد ذلك بقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ يعني ألا يعلم من خلق مخلوقه، وقيل ألا يعلم الله من خلق والمعنى ألا يعلم الله ما في صدور من خلق وَهُوَ اللَّطِيفُ أي باستخراج ما في الصدور الْخَبِيرُ بما فيها من السر والوسوسة. قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا الذلول المنقاد من كل شيء والمعنى جعلها لكم سهلة لا يمتنع المشي فيها لحزونتها وغلظها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أمر إباحة وكذا قوله وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ومناكبها جوانبها وأطرافها ونواحيها وقيل طرقها وفجاجها وقال ابن عباس جبالها والمعنى هو الذي سهل لكم السلوك في جبالها وهو أبلغ التذلل وكلوا من رزقه أي مما خلقه الله لكم في الأرض وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي وإليه تبعثون من قبوركم ثم خوف كفار مكة فقال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ قال ابن عباس يعني عقاب من في السماء إن عصيتموه أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي تتحرك بأهلها وقيل تهوي بهم والمعنى أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تجيء وتذهب. [سورة الملك (67): الآيات 17 الى 27] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً يعني ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ أي عند الموت في الآخرة كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري إذا عاينتم العذاب وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقا. قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ أي يضممن أجنحتهن إذا ضربن بهن جنوبهن بعد البسط ما يُمْسِكُهُنَّ أي حال القبض والبسط

[سورة الملك (67): الآيات 28 إلى 30]

إِلَّا الرَّحْمنُ والمعنى: أن الطير مع ثقلها وضخامة جسمها لم يكن بقاؤها وثبوتها في الجو إلا بإمساك الله عز وجل إياها وحفظه لها إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ استفهام إنكار أي لا جند لكم يَنْصُرُكُمْ أي يمنعكم مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي من عذاب الله قال ابن عباس أي من ينصركم مني إن أردت عذابكم إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ يعني من ذا الذي يرزقكم المطر إن أمسكه الله عنكم بَلْ لَجُّوا أي تمادوا فِي عُتُوٍّ أي نبو وتكبر وَنُفُورٍ أي تباعد عن الحق ثم ضرب مثلا للكافر والمؤمن فقال تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أي كابا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا وهو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة أَهْدى أي هو أهدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أي قائما معتدلا لا يبصر الطريق عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني المؤمن يمشي يوم القيامة سويا قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني أنه تعالى ركب فيكم هذه القوى لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم فاستعملتموها في غير ما خلقت له فلهذا قال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعم الله صرفها في وجه مرضاته فلما صرفتموها في غير مرضاته فكأنكم ما شكرتم رب هذه النعم الواهب لها قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي يوم القيامة والمعنى أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هذا سؤال يحتمل وجهين: أحدهما أنه سؤال عن نزول العذاب بهم والثاني أنه سؤال عن يوم القيامة فأجاب الله عن ذلك بقوله قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أمره بإضافة العلم إلى الله تعالى وتبليغ ما أوحي إليه فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني العذاب في الآخرة على قول أكثر المفسرين، وقيل يعني العذاب ببدر زُلْفَةً أي قريبا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اسودت وعلتها الكآبة والمعنى قبحت وجوههم بالسواد وَقِيلَ لهم أي وقالت لهم الخزنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ من الدعاء أي تتمنون وتطلبون أن يعجله لكم وقيل من الدعوى أي تدعون أنه باطل. [سورة الملك (67): الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) قُلْ يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي فأبقانا وأخر في آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي إنه واقع بهم لا محالة وقيل في معنى الآية قل أرأيتم إن أهلكني الله أي فعذبني ومن معي أو رحمنا أي فغفر لنا فنحن مع إيماننا خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم أو يمنعكم من عذاب أليم وأنتم كافرون وهذا قول ابن عباس، قُلْ أي قل لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا أي نحن آمنا به وعبدناه وأنتم كفرتم به فَسَتَعْلَمُونَ أي عند معاينة العذاب مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي نحن أم أنتم وهذا تهديد لهم ثم ذكرهم ببعض نعمه عليهم على طريق الاحتجاج فقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ قيل يريد ماء زمزم وقيل غيرها من المياه غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر تراه العيون وتناله الأيدي والدلاء، وقال ابن عباس معين أي جار والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والمعنى أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد أن يقولوا هو الله تعالى فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون معه من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية فهذا محال، والله أعلم.

سورة ن

سورة ن مكية وهي اثنان وخمسون آية وثلاثمائة كلمة وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القلم (68): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) قوله عز وجل: ن قال ابن عباس هو الحوت الذي على ظهره الأرض وعنه «إن أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال فإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ن والقلم وما يسطرون» قيل اسم النون بهموت وقيل لوثيا وعن علي بلهوث. قال أصحاب السير والأخبار: لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخلت تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله تعالى من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدمه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة سنة وفوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقر عليها قدما الملك وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فتكن في صخرة فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة قيل فكل الدنيا بما عليها حرفان قال لها الجبار سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس كوني فكانت. قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهر الأرض فوسوس إليه فقال له أتدري ما على ظهرك يا ليوثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم على ظهرك فهم ليوثا أن يفعل ذلك فبعث له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن لها فخرجت قال كعب الأحبار فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت وعن ابن عباس أيضا أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر: إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجام أراد بالنون الدواة وعن ابن عباس أيضا أن نونا حرف من حروف الرّحمن إذا جمعت الرّحمن وقيل هو

[سورة القلم (68): الآيات 2 إلى 4]

مفتاح اسمه ناصر ونصير وقيل اسم للسورة وَالْقَلَمِ هو القلم الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ويقال أول ما خلق الله القلم فنظر إليه فانشق نصفين ثم قال اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه وَما يَسْطُرُونَ أي وما يكتب الحفظة من أعمال بني آدم وقيل إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين فيحتمل أن يكون المراد وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ويكون الجمع في وما يسطرون للتعظيم لا للجمع. [سورة القلم (68): الآيات 2 الى 4] ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ما أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هذا جواب القسم أقسم الله بنون والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو رد لقولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والمعنى إنك لا تكون مجنونا قد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة فنفى عنه الجنون وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة لله وهو كما يقال ما أنت بمجنون والحمد لله وقيل إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والأخلاق الحميدة والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينفي حصول الجنون فنبه الله تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم إنك لمجنون وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقوص ولا مقطوع ومنه قول لبيد: عبس كواسب ما يمن طعامها أي ما يقطع يصف بذلك كلابا ضارية، وقيل في معنى الآية إنه غير مكدر عليك بسبب المنة والقول هو الأول ومعناه إن لك على احتمالك الطعن وصبرك على هذا القول القبيح وافترائهم عليك أجرا عظيما دائما لا ينقطع، وقيل إن لك على إظهار النبوة وتبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى الله تعالى والصبر على ذلك وبيان الشرائع لهم أجرا عظيما فلا تمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الأمر العظيم الذي قد حملته ثم وصفه بما يخالف حال المجنون فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وهذا كالتفسير لقوله ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه ولما كانت أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاملة حميدة وأفعاله المرضية الجميلة وافرة وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والتشديد في المعاملات ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل والبذل وحسن الأدب والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى مع طلاقة الوجه وإدامة البشر فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا وصفه الله تعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن هو آداب القرآن سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت كان خلقه القرآن وقال قتادة هو ما كان يأتمر من أوامر الله وينتهي عنه من مناهي الله تعالى والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن وقيل سمى الله خلقه عظيما لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والله سبحانه وتعالى أعلم. (فصل: في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) من ذلك ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» (م) عن

[سورة القلم (68): الآيات 5 إلى 8]

النواس بن سمعان قال «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» أخرجه أبو داود وعنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا»، (ق) عن البراء رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن فاحشا ولا متفحشا» وكان يقول «خياركم أحاسنكم أخلاقا» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال «خدمت النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا» زاد الترمذي «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»، (خ) عنه قال «إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت» زاد في رواية «ويجيب إذا دعي» وعنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له» أخرجه الترمذي، (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «ما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم»، زاد مسلم عنها «وما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى» (ق) عن أنس قال «كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضحك وأمر له بعطاء»، (ق) عنه رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به» النغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار (م) عن الأسود قال «سألت عائشة ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة» المهنة الخدمة عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أخرجه الترمذي قوله تعالى: [سورة القلم (68): الآيات 5 الى 8] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) فَسَتُبْصِرُ أي يا محمد وَيُبْصِرُونَ يعني أهل مكة إذا نزل بهم العذاب بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال ابن عباس معناه بأيكم المجنون وقيل الباء بمعنى «في» معناه فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أو فريقهم وقيل المفتون هو الشيطان الذي فتن بالجنون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ معناه إنهم رموه بالجنون والضلال ووصفوا أنفسهم بالعقل والهداية فأعلم الله تعالى أنه هو العالم بالفريقين الضال والمهتدي والمجنون والعاقل فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يعني مشركي مكة وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم.

[سورة القلم (68): الآيات 9 إلى 10]

[سورة القلم (68): الآيات 9 الى 10] وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وقيل أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما أبطن ومعنى الآية أنهم تمنوا أن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك وقيل معناه ودوا لو تكفر فيكفرون وهو أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ أي ضعيف حقير ذليل وقيل هو من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز وقال ابن عباس كذاب وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه قيل هو الوليد بن المغيرة وقيل هو الأسود بن عبد يغوث وقيل هو الأخنس بن شريق. [سورة القلم (68): الآيات 11 الى 15] هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) هَمَّازٍ أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب وقيل هو الذي يغمز بأخيه في المجلس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي فتان يسعى بالنميمة ليفسد بين الناس مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل بالمال وقال ابن عباس مناع للخير أي يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، مُعْتَدٍ أي ظلوم يتعدى الحق أَثِيمٍ أي فاجر يتعاطى الإثم عُتُلٍّ أي غليظ جاف وقيل هو الفاحش السيئ الخلق وقيل هو الشديد في الخصومة بالباطل وقيل هو الشديد في كفره وقيل العتل الأكول الشروب القوي الشديد ولا يزن في الميزان شعيرة يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا في النار دفعة واحدة بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي مع ما وصفناه به من الصفات المذمومة زنيم وهو الدعي الملصق في القوم وليس منهم قال ابن عباس يريد مع هذا هو دعي في قريش وليس منهم قيل إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة وقيل الزنيم هو الذي له زنمة كزنمة الشاة وقال ابن عباس في هذه الآية نعت من لا يعرف حتى قيل زنيم فعرف وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها وعنه أيضا قال يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها قال ابن قتيبة لا نعلم أن الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرئ على الخبر ومعناه فلا تطع كل حلاف مهين لأن كان ذا مال وبنين أي لا تطعه لماله وبنيه وقرئ أأن كان ذا مال وبنين بالاستفهام ومعناه ألأن كان ذا مال وبنين إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي جعل مجازاة النعم التي خولها من المال والبنين الكفر بآياتنا وقيل لأن كان ذا مال وبنين تطيعه ثم أوعده فقال تعالى: [سورة القلم (68): الآيات 16 الى 20] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف والمعنى نسود وجهه فنجعل له علما يعرف به في الآخرة وهو سواد الوجه فعبر بالأنف عن الوجه وقال ابن عباس سنسمه بالسيف وفعل به ذلك يوم بدر، وقيل معناه سنلحق به شيئا لا يفارقه أي سنسمه ميسم سوء يريد نلحق به عارا لا يفارقه كما أن السمة لا تمحى ولا يعفى أثرها. وقد ألحق الله به بما ذكر من عيوبه عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم الذي لا يخفى قط وقيل معناه سنكويه على وجهه. وقوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ روي عن

[سورة القلم (68): الآيات 21 إلى 31]

ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال بستان باليمن يقال له الضروان دون صنعاء بفرسخين يطؤه أهل الطريق وكان غرسه قوم من أهل الصلاة وكان لرجل فمات فورثه ثلاث بنين له وكان يترك للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل إذا طرح من فوق النخل إلى البساط وكل شيء يخرج من المنجل إلى البساط فهو أيضا للمساكين وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه بنوه هؤلاء الإخوة الثلاثة قالوا والله إن المال قليل وإن العيال كثير وإنما كان هذا الأمر يفعل لما كان المال كثيرا والعيال قليلا فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل فتحالفوا بينهم يوما أن يغدوا غدوة قبل خروج الناس فليصر من نخلهم فذلك قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا أي تحالفوا لَيَصْرِمُنَّها أي ليقطعن ثمرها مُصْبِحِينَ أي إذا أصبحوا قبل أن يخرج إليهم المساكين وقبل أن يعلم بها المساكين، وَلا يَسْتَثْنُونَ أي ولم يقولوا إن شاء الله وقيل لا يستثنون شيئا للمساكين من ثمر جنتهم فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي عذاب من ربك ولا يكون الطائف إلا بالليل وهو قوله تعالى: وَهُمْ نائِمُونَ وكان ذلك الطائف نارا أنزلت من السماء فأحرقتها وهو قوله تعالى: فَأَصْبَحَتْ أي الجنة كَالصَّرِيمِ أي كالليل الأسود المظلم وقيل تصرم منها الخير فليس فيها شيء ينتفع به وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بلغة خزيمة. [سورة القلم (68): الآيات 21 الى 31] فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) فَتَنادَوْا أي فنادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ يعني لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني الثمار والزرع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي قاطعين ثماركم فَانْطَلَقُوا أي مشوا إليها وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتسارون يقول بعضهم لبعض سرا أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي على قصد ومنع وقيل معناه على جد وجهد وقيل على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم وقيل على حنق وغضب من المساكين وقال ابن عباس على قدرة قادِرِينَ أي عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد فَلَمَّا رَأَوْها أي رأوا الجنة محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي لمخطئون الطريق أضللنا عن مكان جنتنا وليست هذه جنتنا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي قال بعضهم قد حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم ليصرمنها مصبحين سماه تسبيحا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته، وعلى التفسير الثاني أن الاستثناء بمعنى لا يتركون شيئا للمساكين من ثمر جنتهم يكون معنى لولا تسبحون أي تتوبون وتستغفرون الله من ذنوبكم وتفريطكم ومنعكم حق المساكين وقيل كان استثناؤهم سبحان الله وقيل هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم من نعمه قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا معناه أنهم نزهوه عن الظلم فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي بمنعنا المساكين حقوقهم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا قالُوا يا وَيْلَنا دعوا على أنفسهم بالويل إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي في منعنا حق الفقراء والمساكين وقيل معناه طغينا في نعم الله فلم نشكرها ولم نصنع ما كان يصنع آباؤنا من قبل ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا:

[سورة القلم (68): الآيات 32 إلى 42]

[سورة القلم (68): الآيات 32 الى 42] عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ قال ابن مسعود بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا قال الله تعالى: كَذلِكَ الْعَذابُ أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ثم أخبر بما أعد الله للمتقين فقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي عند ربهم في الآخرة ولما نزلت هذه الآية قال المشركون إنا نعطي في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تعالى تكذيبا للمشركين أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ يعني أن التسوية بين المسلم والمجرم غير جائزة فكيف يكون أفضل أو يعطى أفضل منه ولما قال تعالى ذلك على سبيل الاستبعاد والإنكار قال لهم على طريق الالتفات ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يعني هذا الحكم المعوج أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أي نزل من عند الله فِيهِ أي في ذلك الكتاب تَدْرُسُونَ أي تقرؤون إِنَّ لَكُمْ فِيهِ أي في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي تختارون وتشتهون أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ معناه ألكم عهود ومواثيق مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة إِنَّ لَكُمْ أي في ذلك العهد لَما تَحْكُمُونَ أي لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله تعالى ثم قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل لهم شركاء يعني ما كانوا يجعلونه لله شريكا وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم جعلوها شركاء لله، وقيل معنى شركاء شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي في دعواهم يَوْمَ يُكْشَفُ أي فليأتوا بشركائهم في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم عَنْ ساقٍ أي عن أمر فظيع شديد قال ابن عباس هو أشد ساعة في القيامة تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم فظيع يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة شمر عن ساقك إذا قام في ذلك الأمر ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب كشفت الحرب عن ساق وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق ثم قال ابن عباس هو يوم كرب وشدة وأنشد أهل اللغة أبياتا في هذا المعنى فمنها ما أنشده أبو عبيدة لقيس بن زهير: فإن شمرت لك عن ساقها ... فدنها ربيع ولا تسأم ومنها قول جرير: ألا رب ساهي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقد كثر مثل هذا في كلام العرب حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا يا محمد هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة

أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيرا ابن الله قال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فماذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيقولون يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية لتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيام لإخوانهم الذين في النار فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا، وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر أو أخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم أبدا» لفظ مسلم والبخاري نحوه بمعناه. (فصل: في شرح ألفاظ الحديث وما يتعلق به) أما الرؤية وما يتعلق بها فسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى. قوله «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك

هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله وغيره اعلم أن هذا الحديث من أكبر أحاديث الصفات وأعظمها وللعلماء فيه وفي أمثاله قولان: أحدهما: وهو قول معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوقين وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم وقال الخطابي هذا الحديث تهيب القول فيه شيوخنا فأجروه على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب. والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلّى الله عليه وسلّم فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته بالإتيان فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازا وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا وقيل المراد بيأتيهم الله يأتيهم بعض ملائكته قال القاضي عياض وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال ويكون هذا الملك هو الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدوث الظاهرة على الملك والمخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يصور ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم وهذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة أنا ربكم رأوا عليه علامة من علامات المخلوقات مما ينكرونه ويعلمون بذلك أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه. وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فالمراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى الله تعالى لهم في الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم على هذه الصفة يرونه شيئا من مخلوقاته وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون بذلك أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وإنما عبر عن الصفة بالصورة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة. وقوله في حديث أبي سعيد «أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها» معنى رأوه فيها أي علموها وهي صفته المعلومة للمؤمنين وهي أنه لا يشبهه شيء وقولهم «نعوذ بالله منك لا نشرك بالله» إنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا عليه سمات المخلوق. قوله «فيكشف عن ساق وفي رواية للبخاري يكشف ربنا عن ساقه» ذكر هذه الرواية البيهقي في كتاب الأسماء والصفات، قال أبو سليمان الخطابي فيحتمل أن يكون معنى قوله فيكشف عن ساقه أي عن قدرته التي تكشف عن الشدة وضبط يكشف بفتح الياء وضمها وقد تقدم تفسير كشف الساق وقيل المراد بالساق في هذا الحديث نور عظيم. وورد ذلك في حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله «يوم يكشف عن ساق قال نور عظيم يخرون له سجدا تفرد به روح بن حبان مولى عمر بن عبد العزيز وهو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها وموالي عمر بن عبد العزيز كثيرون ففي إسناده مجهول أيضا وقال ابن فورك ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمن عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف قال القاضي عياض وقيل قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة وقد تكون ساقا مخلوقة جعلها الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة، قيل معناه كشف الحزن وإزالة للرعب عنهم وما كان غلب على عقولهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ويتجلى الله لهم فيخرون سجدا قال

[سورة القلم (68): آية 43]

الخطابي وهذه الرؤية في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أولياء الله وإنما هذه الرؤية امتحان الله لعباده وقوله فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة هذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده ومعنى طبقة واحدة أي فقارة واحدة كالصحيفة فلا يقدر على السجود وقوله ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة معناه ثم يرفعون رؤوسهم وقد أزال المانع لهم من رؤيته وتجلى لهم فيقولون أنت ربنا وقوله ثم يضرب الجسر على جهنم الجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان وهو الصراط وتحل للشفاعة بكسر الحاء وقيل بضمها من حل ومعناه وتقع الشفاعة ويؤذن فيها قوله دحض مزلة أي تزلق فيه الأقدام ولا تثبت قوله فيه خطاطيف جمع خطاف وهو الذي يخطف الشيء وكلاليب جمع كلوب وهو الحديدة التي يعلق بها اللحم والحسك الذي يقال له السعدان نبت له شوك عظيم من كل جانب قوله فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم معناه أنهم ثلاثة أقسام قسم يسلم فلا يناله شيء أصلا وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص وقسم يكردس أي يلقى ويسقط في جهنم وفي هذا إثبات الصراط وهو مذهب أهل السنة وأهل الحق وهو جسر يجعل على متن جهنم وهو أرق من الشعر وأحد من السيف فيمر عليه الناس كلهم فالمؤمنون ينجون على حسب منازلهم وأعمالهم والآخرون يسقطون في جهنم أعاذنا الله منها، ومعنى مناشدة المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار شفاعتهم لهم وقوله فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير ومثقال نصف دينار من خير ومثقال ذرة قال القاضي عياض قيل معنى الخير اليقين قال والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ وإنما يكون هذا الخير زائدا عليه من عمل صالح وذكر خفي وعمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى أو نية صادقة ومثقال الذرة مثل لأقل الخير لأن ذلك أقل المقادير وقول المؤمنين لم نذر فيها خيرا أي صاحب خير وقوله تعالى: «شفعت الملائكة هو بفتح الفاء وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» هؤلاء الذين معهم مجرد الإيمان فقط ولم يعملوا خيرا قط وتفرد الله تعالى بعلم ما تكنه القلوب فالرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان فقط ومعنى قبض قبضة أي جمع جماعة. قوله قد عادوا حمما أي صاروا فحما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة جمع فوهة وهي أول النهر. قوله فيخرجون كاللؤلؤ أي في الصفاء في رقابهم الخواتم قيل معناه أنه يعلق في رقابهم أشياء من ذهب أو غير ذلك مما يعرفون بها والله أعلم. قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ السجود يعني الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر أو كصفيحة نحاس فلا يستطيعون السجود. [سورة القلم (68): آية 43] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وقد علاها النور والبهاء وتسود وجوه الكفار والمنافقين ويغشاهم ذل وخسران وندامة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني في دار الدنيا كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وذلك أنهم كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ يعني أنهم كانوا يدعون إلى الصلاة وهم أصحاء فلا يأتونها قال كعب الأحبار والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة.

[سورة القلم (68): الآيات 44 إلى 51]

[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 51] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) قوله عز وجل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي دعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم ولا تشغل قلبك بهم وكلهم إليّ فإني أكفيك إياهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنأخذهم بالعذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فعذبوا يوم بدر بالقتل والأسر، وقيل في معنى الآية كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار والتوبة. وهذا هو الاستدراج لأنهم يحسبونه تفضيلا لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب إهلاكهم فعلى العبد المسلم إذا تجددت عنده نعمة أن يقابلها بالشكر وإذا أذنب ذنبا أن يعاجله بالاستغفار والتوبة. وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. وقيل معناه أمهلهم إلى الموت فلا أعاجلهم بالعقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي عذابي شديد وقيل الكيد ضرب من الاحتيال فيكون بمعنى الاستدراج المؤدي إلى العذاب أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ المغرم الغرامة والمعنى أتطلب منهم أجرا فيقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به وهو استفهام على سبيل الإنكار فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم لقضاء ربك قيل إنه منسوخ بآية السيف وَلا تَكُنْ في الضجر والعجلة كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني يونس بن متى إِذْ نادى ربه أي في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غما لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي حين رحمه وتاب عليه، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أي لطرح بالفضاء من بطن الحوت على الأرض وَهُوَ مَذْمُومٌ أي يذم ويلام بالذنب. وقيل في معنى الآية لولا أن تداركته نعمة من ربه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم ينبذ بعراء القيامة أي بأرضها وفضائها فإن قلت هل يدل قوله وهو مذموم على كونه كان فاعلا للذنب. قلت الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كلمة لولا دلت على أنه لم يحصل منه ما يوجب الذم الثاني لعل المراد منه ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة يدل عليه قوله تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ والفاء للتعقيب أي اصطفاه ورد عليه الوحي وشفعه في قومه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي النبيين. قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعين فنظرت قريش إليه وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حججه، وقيل كانت العين في بني أسد حتى أن كانت الناقة أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته خذي المكتل والدراهم فائتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقيل كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط ما عناه فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعين ويفعل به مثل ذلك فعصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم وأنزل وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم قال ابن عباس: معناه ينفذونك وقيل يصيبونك بعيونهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وقيل يصرعونك وقيل يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، ومنه قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يهلكني يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن وهو قوله لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة ويحدون النظر إليه بالبغضاء وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن قال تعالى ردا عليهم.

[سورة القلم (68): آية 52]

[سورة القلم (68): آية 52] وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) وَما هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس موعظة للمؤمنين قال الحسن: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية (ق)، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العين حق» زاد البخاري «ونهى عن الوشم» (م) عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه الترمذي قوله العين حق أخذ بظاهر هذا الحديث جماهير العلماء وقالوا العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد قولهم «أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند قابلة هذا الشخص الذي هو العائن لشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله وقوله ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، فيه إثبات القدر وأنه حق والمعنى أن الأشياء كلها بقدر الله ولا يقع شيء إلا على حسب ما قدر الله وسبق به علمه ولا يقع شرر العين وغيره من الخير والشر إلا بقدرة الله وفيه صحة إثبات العين وأنها قوية الضرر إذا وافقها القدر، والله أعلم.

سورة الحاقة

سورة الحاقة مكية وهي اثنتان وخمسون آية ومائتان وست وخمسون كلمة وألف وأربع وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) قوله عز وجل: الْحَاقَّةُ يعني القيامة سميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها. وقيل لأن فيها تحقيق الأمور فتعرف على الحقيقة وفيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب. وقيل الحاقة النازلة التي حقت فلا كاذبة لها. وقيل الحاقة هي التي تحق على القوم أي تقع بهم، مَا الْحَاقَّةُ استفهام ومعناه التفخيم لشأنها والتهويل لها والمعنى أي شيء هي الحاقة وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال على أنه من العظم والشدة أمر لا تبلغه دراية أحد ولا فكره وكيف قدرت حالها فهي أعظم من ذلك. [سورة الحاقة (69): الآيات 4 الى 10] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. وقيل كذبت بالعذاب أي الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل بهم فقرع قلوبهم فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي طغيانهم وكفرهم. وقيل الطاغية الصيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة. وقيل الطاغية الفرقة التي عقروا الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي شديدة الصوت في الهبوب لها صرصرة. وقيل هي الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها عاتِيَةٍ أي عتت على خزنتها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليهم سبيل وجاوزت الحد والمقدار فلم يعرفوا مقدار ما خرج منها. وقيل عتت على عاد فلم يقدروا على دفعها عنهم بقوة ولا حيلة سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي أرسلها وسلطها عليهم وفيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب فنفى هذا المذهب بقوله سخرها عليهم وبين الله تعالى أن ذلك بقضائه وقدره وبمشيئته لا باتصال الكواكب، سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ذات برد ورياح شديدة. قال وهب هي الأيام التي سماها العرب العجوز لأنها أيام ذات برد ورياح شديدة وسميت عجوزا لأنها تأتي في عجز الشتاء وقيل لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربها فاتبعتها الريح حتى قتلتها حُسُوماً أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور، وذلك أن الريح المهلكة

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 إلى 17]

تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور ولا انقطاع حتى أهلكتهم، وقيل حسوما شؤما وقيل لهذه الأيام حسوما لأنها تحسم الخير عن أهلها والحسم القطع. والمعنى أنها حسمتهم بعذاب الاستئصال فلم تبق منهم أحدا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي في تلك الليالي والأيام صَرْعى أي هلكى جمع صريع قد صرعهم الموت كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي ساقطة وقيل خالية الأجواف شبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رؤوس فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية، قيل إنهم لما أصبحوا موتى في اليوم الثامن كما وصفهم الله تعالى بقوله أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ حملتهم الريح فألقتهم في البحر فلم يبق منهم أحد. قوله تعالى: وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرئ بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وقرئ بفتح القاف وسكون الباء أي ومن قبله من الأمم الكافرة الْمُؤْتَفِكاتُ يعني قرئ قوم لوط يريد أهل المؤتفكات، وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم وهو قوله بِالْخاطِئَةِ أي بالخطيئة والمعصية وهو الشرك فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ، قيل يعني موسى بن عمران وقيل لوطا والأولى أن يقال المراد بالرسول كلاهما لتقدم ذكر الأمتين جميعا فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يعني نامية وقال ابن عباس شديدة وقيل زائدة على عذاب الأمم. [سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 17] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه وذلك في زمن نوح عليه الصلاة والسلام وهو الطوفان حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ يعني حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فصح خطاب الحاضرين في الجارية أي السفينة التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه، لَكُمْ تَذْكِرَةً أي عبرة وموعظة وَتَعِيَها أي تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي حافظة لما جاء من عند الله. وقيل أذن سمعت وعقلت ما سمعت وقيل لتحفظها كل أذن فتكون عظة وعبرة لمن يأتي بعد والمراد صاحب الإذن والمعنى ليعتبر ويعمل بالموعظة. قوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ يعني النفخة الأولى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي رفعت من أماكنها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي كسرتا وفتتتا حتى صارتا هباء منبثا والضمير عائد إلى الأرض والجبال فعبر عنهما بلفظ الاثنين فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي ضعيفة لتشققها وَالْمَلَكُ يعني الملائكة عَلى أَرْجائِها يعني نواحيها وأقطارها وهو الذي لم ينشق منها قال الضحاك تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم يعني الحملة يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ثَمانِيَةٌ يعني ثمانية أملاك، وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. الأوعال تيوس الجبل وروى السدي عن أبي مالك قال إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسموات والأرض ورؤوسهم تحت العرش، وعن عروة بن الزبير قال حملة العرش منهم من صورته على صورة الإنسان ومنهم من صورته على صورة النسر ومنهم من صورته على صورة الثور ومنهم من صورته على صورة الأسد. وعن ابن عباس قال صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أمية بن أبي الصلت في شيء من الشعر فقال:

[سورة الحاقة (69): الآيات 18 إلى 24]

رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث يرصد عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام أخرجه أبو داود بإسناد صحيح غريب عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم إذ مرت سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تدرون ما اسم هذه قلنا نعم هذا السحاب قال والمزن قالوا والمزن قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعنان قالوا والعنان ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا والله ما ندري قال: فإن بعد ما بينهما إما قال واحدة وإما قال اثنتان وإما ثلاث وسبعون سنة وبعد التي فوقها كذلك وكذلك حتى عدهن سبع سموات كذلك ثم فوق السماء السابعة بحرا أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك» أخرجه الترمذي وأبو داود زاد في رواية «وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء»، عن ابن مسعود قال ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفضاء كل سماء وأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة عام وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم». أخرجه أبو سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهما موقوفا على ابن مسعود قال ابن خزيمة اختلاف خبر العباس وابن مسعود في قدر المسافة على اختلاف سير الدواب. وعن ابن عباس قال: «لحملة العرش قرون ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام». وعن عبد الله بن عمر قال «الذين يحملون العرش ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام» وعن شهر بن حوشب قال «حملة العرش ثمانية فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» وروي عن ابن عباس في قوله يومئذ ثمانية قال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل: [سورة الحاقة (69): الآيات 18 الى 24] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أي على الله تعالى للحساب لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي فعلة خافية. والمعنى أنه تعالى عالم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء منها وأن عرضكم يوم القيامة عليه ففيه المبالغة والتهديد، وقيل معناه لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفيا في الدنيا فإنه يظهر أحوال الخلائق فالمحسنون يسرون بإحسانهم والمسيئون يحزنون بإساءتهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» أخرجه الترمذي وقال ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ أي تعالوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ والمعنى أنه

[سورة الحاقة (69): الآيات 25 إلى 34]

لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له، وقيل يقول ذلك لأهله وأقربائه إِنِّي ظَنَنْتُ أي عملت وأيقنت وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن في الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي في الآخرة والمعنى أني كنت في الدنيا أستيقن أني أحاسب في الآخرة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي في حالة من العيش مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمن من العقاب فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة قُطُوفُها دانِيَةٌ أي ثمارها قريبة لمن يتناولها ينالها قائما وقاعدا ومضطجعا يقطفونها كيف شاؤوا كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية يريد أيام الدنيا. [سورة الحاقة (69): الآيات 25 الى 34] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، قيل تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها. وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وذلك لما نظر في كتابه ورأى قبائح أعماله مثبتة عليه تمنى أنه لم يؤت كتابه لما حصل له من الخجل والافتضاح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أي لم أدر أي شيء حسابي لأنه لا طائل ولا حاصل له وإنما كله عليه لا له يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ تمنى أنه لم يبعث للحساب والمعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها والقاطعة للحياة أي ما أحيا بعدها قال قتادة تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره منه إليه أي من الموت في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من الموت ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي لم يدفع عني يساري ومالي من العذاب شيئا هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وقيل ضلت عنه حجته حين شهدت عليه الجوارح بالشرك وقيل معناه زال عني ملكي وقوتي وتسلطي على الناس وبقيت ذليلا حقيرا فقيرا خُذُوهُ أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه فَغُلُّوهُ أي أجمعوا يديه إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي أدخلوه معظم النار لأنه كان يتعاظم في الدنيا ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة ذَرْعُها أي مقدارها والذرع التقدير بالذراع من اليد أو غيرها سَبْعُونَ ذِراعاً قال ابن عباس بذرع الملك. وقال نوف البكالي سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان كل ذراع سبعون ذراعا، وقال الحسن الله أعلم أي ذراع هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو أن رضاضة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت في رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. الرضاض: الحصباء الصغار، وقوله مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة. الجمجمة قدح من خشب وجمعه جماجم والجمجمة الرأس وهو أشرف الأعضاء وقال وهب لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ أي أدخلوه فيها قال ابن عباس تدخل في دبره وتخرج من منخره. وقيل تدخل في فيه وتخرج من دبره إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي لا يصدق بوحدانية الله وعظمته، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ولا يحث نفسه على إطعام المسكين ولا يأمر أهله بذلك وفيه دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين لأن الله تعالى عطفه على الكفر وجعله قرينه. قال الحسن في هذه

[سورة الحاقة (69): الآيات 35 إلى 45]

الآية أدركت أقواما يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلا وعن بعضهم أنه كان يأمر أهله بكثير المرقة لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الثاني بالإطعام. [سورة الحاقة (69): الآيات 35 الى 45] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي ليس له في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ يعني صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم وقيل هو شجر يأكله أهل النار لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي الكافرون. قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ قيل إن لا صلة والمعنى أقسم. وقيل لا رد لكلام المشركين كأنه قال ليس الأمر كما يقول المشركون ثم قال تعالى أقسم وقيل لا هنا نافية للقسم على معنى أنه لا يحتاج إليه لوضوح الحق فيه كأنه قال لا أقسم على أن القرآن قول رسول كريم فكأنه لوضوحه استغنى عن القسم. وقوله بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يعني بما ترون وتشاهدون وبما لا ترون وما لا تشاهدون أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع المكونات والموجودات، وقيل أقسم بالدنيا والآخرة. وقيل بما تبصرون يعني على ظهر الأرض وما لا تبصرون أي ما في بطنها. وقيل بما تبصرون يعني الأجسام وما لا تبصرون يعني الأرواح. وقيل بما تبصرون يعني الإنس وما لا تبصرون يعني الملائكة والجن. وقيل بما تبصرون من النعم الظاهرة وما لا تبصرون من النعم الباطنة. وقيل بما تبصرون هو ما أظهره الله من مكنون غيبه لملائكته واللوح والقلم وجميع خلقه وما لا تبصرون هو ما استأثر الله بنعمه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه، ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى إِنَّهُ يعني للقرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني تلاوة رسول كريم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: الرسول هو جبريل عليه السلام فعلى هذا يكون المعنى إنه لرسالة رسول كريم والقول الأول أصح لأنهم لم يصفوا جبريل بالشعر والكهانة وإنما وصفوا بهما محمدا صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت قد توجه هنا سؤال وهو أن جمهور الأمة وهم أهل السنة مجمعون على أن القرآن كلام الله فكيف يصح إضافته إلى الرسول. قلت أما إضافته إلى الله تعالى فلأنه هو المتكلم به وأما إضافته إلى الرسول فلأنه هو المبلغ عن الله تعالى ما أوحى إليه ولهذا أكده بقوله تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ليزول هذا الإشكال. قال ابن قتيبة لم يرد أنه قول الرسول وإنما أراد أنه قول الرسول المبلغ عن الله تعالى. وفي الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به عن أن يقول عن الله تعالى وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ يعني أن هذا القرآن ليس بقول رجل شاعر ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلا. والمعنى أنكم لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي وليس هو بقول رجل كاهن ولا هو من جنس الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ يعني لا تتذكرون البتة تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل يعني القرآن، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وذلك أنه لما قال إنه لقول رسول كريم أتبعه بقوله تنزيل من رب العالمين ليزول هذا الإشكال. قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي اختلق علينا محمد بَعْضَ الْأَقاوِيلِ يعني أتى بشيء من عند نفسه لم نقله نحن ولم نوجه إليه لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي لأخذناه بالقوة والقدرة وانتقمنا منه باليمين أي بالحق. قال

[سورة الحاقة (69): الآيات 46 إلى 52]

ابن عباس لأخذناه بالقوة والقدرة قال الشماخ يمدح عرابة ملك اليمن: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين أي بالقوة فعبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه. والمعنى لأخذنا منه اليمين أي سلبناه القوة فعلى هذا المعنى الباء زائدة. وقيل معنى الآية ذللناه وأهناه كفعل السلطان بمن يريد أن يهينه، يقول لبعض أعوانه خذ بيده فأقمه. وإنما خص اليمين بالذكر لأنه أشرف العضوين. [سورة الحاقة (69): الآيات 46 الى 52] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ قال ابن عباس يعني نياط القلب، وقيل هو حبل الظهر. وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه. وقيل هو عرق يتصل من القلب بالرأس، قال ابن قتيبة لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد منه أنه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قطع وتينه والمعنى أنه لو كذب علينا وتقول علينا قولا لم نقله لمنعناه من ذلك إما بواسطة إقامة الحجة عليه بأن نقيض له من يعارضه ويظهر للناس كذبه فيكون ذلك إبطالا لدعواه، وإما أن نسلب عنه قوة التكلم بذلك القول الكذب حتى لا يشتبه الصادق بالكاذب، وإما أن نميته، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي مانعين يحجزوننا عن عقوبته والمعنى أن محمدا لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم مع علمه أنه لو تكلمه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه وإنما قال حاجزين بلفظ الجمع وهو وصف أحد ردا على معناه وَإِنَّهُ يعني القرآن وذلك أنه لما وصفه بأنه تنزيل من رب العالمين بواسطة جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين ما هو فقال تعالى: لَتَذْكِرَةٌ أي لعظة لِلْمُتَّقِينَ أي لمن اتقى عقاب الله وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فيه وعيد لمن كذب بالقرآن وَإِنَّهُ يعني القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ يعني يوم القيامة والمعنى أنهم يندمون على ترك الإيمان به لما يرون من ثواب من آمن به وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ معناه أنه حق معين لا بطلان فيه ويقين لا شك ولا ريب فيه فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزه ربك العظيم واشكره على أن جعلك أهلا لإيحائه إليك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة سأل سائل

سورة سأل سائل وتسمى المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية ومائتان وأربع وعشرون كلمة وتسعة وعشرون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المعارج (70): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) قوله عز وجل: سَأَلَ سائِلٌ قرئ بغير همزة وفيه وجهان الأول أنه لغة في السؤال والثاني أنه من السيل. ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب وقيل سال واد من أودية جهنم. وقرئ سأل سائل بالهمز من السؤال بِعَذابٍ قيل الباء بمعنى عن أي عذاب واقِعٍ أي نازل وكائن وعلى من ينزل ولمن ينزل ولمن ذلك العذاب فقال الله تعالى مجيبا لذلك السؤال. [سورة المعارج (70): الآيات 2 الى 4] لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) لِلْكافِرينَ وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعذاب قال بعضهم لبعض: من أهل هذا العذاب ولمن هو سلوا عنه محمدا فسألوه فأنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين أي هو للكافرين. والباء صلة ومعنى الآية دعا داع وطلب طالب عذابا واقعا للكافرين. وهذا السائل هو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» الآية فنزل به ما سأل فقتل يوم بدر صبرا وهذا قول ابن عباس، لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي أن العذاب واقع بهم لا محالة سواء طلبوه أو لم يطلبوه إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة، لأن العذاب واقع بهم في الآخرة لا يدفعه دافع مِنَ اللَّهِ أي بعذاب من الله، والمعنى ليس لذلك العذاب الصادر من الله للكافرين دافع يدفعه عنهم ذِي الْمَعارِجِ قال ابن عباس ذي السموات سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها. وقيل ذي الدرجات وهي المصاعد التي تعرج الملائكة فيها. وقيل ذي الفواضل والنعم وذلك لأن أفضاله وأنعامه مراتب وهي تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وإنما أفرده بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفه وفضل منزلته. وقيل إن الله تعالى إذا ذكر الملائكة في معرض التخويف والتهويل أفرد الروح بالذكر وهذا يقتضي أن الروح أعظم الملائكة إِلَيْهِ أي إلى الله عز وجل فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي من سني الدنيا. والمعنى أنه لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة وأقل من ذلك وذكر أن مقدار ما بين الأرض السابعة السفلى إلى منتهى العرش مسافة خمسين ألف سنة. وقيل إن ذلك اليوم هو يوم

[سورة المعارج (70): الآيات 5 إلى 14]

القيامة قال الحسن هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس في مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا وليس يعني أن مقدار طول ذلك اليوم خمسون ألف سنة دون غيره من الأيام لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود لا آخر له. ولو كان له آخر لكان منقطعا وهذا الطول في حق الكفار دون المؤمنين. قال ابن عباس يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال «قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» وقال ابن عباس معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة. وقال عطاء ويفرغ الله تعالى منها في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وقال الكلبي يقول الله تعالى لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من نهار. وقال يمان هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة فعلى هذا يكون المعنى ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل معناه سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفيه تقديم وتأخير. [سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 14] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) فَاصْبِرْ أي يا محمد على تكذيبهم إياك صَبْراً جَمِيلًا أي لا جزع فيه وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي العذاب بَعِيداً أي غير كائن وَنَراهُ قَرِيباً أي كائنا لا محالة لأن كل ما هو آت قريب، وقيل الضمير في يرونه بعيدا يعود إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة والمعنى أنهم يستبعدونه على جهة الانكسار والإحالة ونحن نراه قريبا في قدرتنا غير بعيد علينا فلا يتعذر علينا إمكانه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي كعكر الزيت وقال الحسن كالفضة المذابة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف المصبوغ. وإنما شبه الجبال بالمصبوغ من الصوف لأنها ذات ألوان أحمر وأبيض وغرابيب سود ونحو ذلك فإذا بست الجبال وسيرت أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح. وقيل العهن الصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ثم عهنا منفوشا ثم تصير هباء منثورا وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل قريب قريبه لشغله بشأن نفسه والمعنى لا يسأل الحميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لهول ذلك اليوم وشدته. وقيل لا يسأله الشفاعة ولا يسأله الإحسان إليه ولا الرفق به كما كان يسأله في الدنيا وذلك لشدة الأمر وهول يوم القيامة يُبَصَّرُونَهُمْ أي يرونهم وليس في القيامة مخلوق من جن أو إنس إلا وهو نصف عين صاحبه فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسألهم ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه. وقال ابن عباس يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعد ذلك، وقيل يعرف الحميم حميمه ومع ذلك لا يسأله عن حاله لشغله بنفسه. وقيل يبصرونهم أي يعرفونهم أما المؤمن فيعرف ببياض وجهه وأما الكافر فيعرف بسواد وجهه يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى المشرك لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي عذاب يوم القيامة بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته وقيل قبيلته وقيل أقربائه الأقربين الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمه ويأوي إليها وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني أنه يتمنى لو ملك هؤلاء وكانوا تحت يده ثم إنه يفتدي بهم جميعا ثُمَّ يُنْجِيهِ أي ذلك الفداء من عذاب الله.

[سورة المعارج (70): الآيات 15 إلى 23]

[سورة المعارج (70): الآيات 15 الى 23] كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) كَلَّا أي لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّها لَظى يعني النار ولظى اسم من أسمائها وقيل: الدركة الثانية من النار سميت لظى لأنها تتلظى أي تلتهب، نَزَّاعَةً لِلشَّوى يعني الأطراف كاليدين والرجلين مما ليس بمقتل. والمعنى أن النار تنزع الأطراف فلا تترك عليها لحما ولا جلدا. وقال ابن عباس: تنزع العصب والعقب وقيل تنزع اللحم دون العظام وقيل تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ثم تأكله فذلك دأبها. وقيل لمكارم خلقه ومحاسن وجهه وأطرافه، تَدْعُوا يعني النار إلى نفسها مَنْ أَدْبَرَ أي عن الإيمان وَتَوَلَّى أي عن الحق فتقول له إليّ يا مشرك إليّ يا منافق إليّ إليّ. قال ابن عباس تدعو الكافر والمنافق بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقيل تدعو أي تعذب قال أعرابي لآخر دعاك الله أي عذبك الله وَجَمَعَ فَأَوْعى يعني وتدعو من جمع المال في الوعاء ولم يؤد حق الله منه، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قال ابن عباس الهلوع الحريص على ما لا يحل. وقيل شحيحا بخيلا. وقيل ضجورا وقيل جزوعا، وقيل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر وإذا أصابه المال لم ينفق. وقال ابن كيسان خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. قيل أراد بالإنسان هنا الكافر وقيل هو على عمومه ثم استثنى الله عز وجل فقال تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ وهذا استثناء الجمع من الواحد لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ يعني يقيمونها في أوقاتها وهي الفرائض. فإن قلت كيف قال على صلاتهم دائمون ثم قال بعده على صلاتهم يحافظون؟ قلت معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها، وأن لا يتركوها في شيء من الأوقات وأن لا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه. وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة منها ما هو سابق للصلاة كاشتغاله بالوضوء وستر العورة وإرصاد المكان الطاهر للصلاة، وقصد الجماعة وتعلق القلب بدخول وقتها وتفريغه عن الوسواس والالتفات إلى ما سوى الله عز وجل. وأما الأمور المقارنة للصلاة فهي أن لا يلتفت في الصلاة يمينا ولا شمالا وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع والخوف وإتمام ركوعها وسجودها. وأما الأمور الخارجة عن الصلاة فهو أن يحترز عن الرياء والسمعة خوف أن لا تقبل منه مع الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها وطلب الثواب فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها وهيئاتها. وروى البغوي بسنده عن أبي الخير قال سألنا عقبة بن عامر عن قوله عز وجل الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون أبدا؟ قال لا ولكنه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.

[سورة المعارج (70): الآيات 24 إلى 39]

[سورة المعارج (70): الآيات 24 الى 39] وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ يعني الزكاة المفروضة لأنها مقدرة معلومة. وقيل هي صدقة التطوع وذلك بأن يوظف الرجل على نفسه شيئا من الصدقة يخرجه على سبيل الندب في أوقات معلومة لِلسَّائِلِ يعني الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ يعني الفقير المتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي يؤمنون بالبعث بعد الموت والحشر والنشر والجزاء يوم القيامة وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي خائفون ثم أكد ذلك الخوف فقال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ يعني أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ولا اجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين فلا جرم ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء. قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ تقدم تفسيره في سورة المؤمنين. قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي يقومون فيها عند الحكام ولا يكتمونها ولا يغيرونها وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر وفي تركها تموت وتضيع، وقيل أراد بالشهادة الشهادة له بأن لا إله إلا الله واحد لا شريك له ولهذا عطف عليها وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ثم ذكر ما أعده لهم فقال تعالى: أُولئِكَ يعني من هذه صفته فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ قوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فما بالهم قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ يعني أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين حلقا وفرقا، والعزون جماعات في تفرقة أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ قال ابن عباس: معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي نعيم كما يدخلها المسلمون ويتنعمون فيها وقد كذبوا نبيي، كَلَّا أي لا يدخلها ثم ابتدأ فقال تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي من الأشياء المستقذرة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة نبه الله على أنهم خلقوا من أصل واحد وشيء واحد وإنما يتفاضلون بالمعرفة ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال «يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة»، وأخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد. وقيل في معنى الآية إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقيل معناه إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون ولم نخلقهم كالبهائم بلا علم ولا عقل. [سورة المعارج (70): الآيات 40 الى 44] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) فَلا أُقْسِمُ يعني وأقسم وقد تقدم بيانه بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ يعني مشرق كل يوم من السنة

ومغربه. وقيل يعني مشرق كل نجم ومغربه إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ معناه إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بمن هو خير منكم فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي في أباطيلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ نسختها آية القتال ثم فسر ذلك فقال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور سِراعاً أي إلى إجابة الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يعني إلى شيء منصوب كالعلم والراية ونحوه. وقرئ بضم النون والصاد وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها يُوفِضُونَ أي يسرعون ومعنى الآية أنهم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يغشاهم هوان ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة الذي كانوا يوعدون به في الدنيا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة نوح

سورة نوح مكية وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وأربعة وعشرون كلمة وتسعمائة وتسعة وتسعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة نوح (71): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) قوله عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي بأن خوف قومك وحذرهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم وأبين لكم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا وَاتَّقُوهُ أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم وَأَطِيعُونِ أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يغفر لكم ذنوبكم. ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان، قالَ يعني نوحا عليه الصلاة والسلام رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي نفارا وإدبارا عن الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون وَأَصَرُّوا على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بك اسْتِكْباراً أي تكبرا عظيما ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي معلنا قال ابن عباس: بأعلى صوتي.

[سورة نوح (71): الآيات 9 إلى 17]

[سورة نوح (71): الآيات 9 الى 17] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي كررت لهم الدعاء معلنا وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سببا لاتساع الخير والرزق. وأن الكفر سبب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا. وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم. وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء. وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. وقيل أراد بالسماء السحاب، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر إذا نزل السماء بأرض قوم ... فحلوا حيثما نزل السماء يعني المطر مدرارا أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالا بعد حال. وقيل مدرارا أي متتابعا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ أي يكثر أموالكم وأولادكم وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي البساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة. وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم. وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشركون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً يعني تارة بعد تارة وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق. وقيل معناه خلقكم أصنافا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضا وهذا مما يدل على وحدانية الله وسعة قدرته أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي بعضها فوق بعض. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً يعني في سماء الدنيا وقوله فيهن هو كما يقال أتيت بني تميم وإنما أتى رجلا منهم وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يعني مصباحا مضيئة. قال عبد الله بن عمرو إن الشمس والقمر وجوههما إلى السموات وضوء الشمس والقمر فيهن جميعا وأقفيتهما إلى الأرض ويروى هذا عن ابن عباس أيضا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أراد مبدأ خلق آدم وأصل خلقه من الأرض والناس كلهم من ولده وقوله نباتا اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتا. وقيل تقديره أنبتكم فنبتم نباتا وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا ولما قال أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم نباتا عجيبا وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة الله

[سورة نوح (71): الآيات 18 إلى 23]

تعالى وصفة الله تعالى غير محسوسة لنا فلا يعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر بهذا أن العدول عن تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف. [سورة نوح (71): الآيات 18 الى 23] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض بعد الموت وَيُخْرِجُكُمْ أي منها يوم البعث إِخْراجاً يعني إخراجا حقا لا محالة وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أي فرشها لكم مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي طرقا واسعة. قوله تعالى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي لم يجيبوا دعوتي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً يعني كبيرا عظيما يقال كبيرا وكبارا بالتشديد والتخفيف والتشديد أشد وأعظم في المبالغة والماكرون هم الرؤساء والقادة ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح عليه الصلاة والسلام وتحريش السفلة على أذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه والاستماع منه. وقيل مكرهم هو قولهم لا تذرن آلهتكم وتعبدوا إله نوح، وقال ابن عباس في مكرهم قالوا قولا عظيما. وقيل افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله وَقالُوا يعني القادة للأتباع لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركن عبادتها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً هذه أسماء آلهتهم وإنما أفرد بالذكر وإن كانت داخلة في جملة قوله لا تذرن آلهتكم لأنهم كانت لهم أصنام هذه الخمسة المذكورة هي أعظمها عندهم. قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ذلك ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين من المسلمين، (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس في قوله ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، قال كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت الأوثان، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف والعزى لسليم وغطفان وجشم، ومناة كانت

[سورة نوح (71): الآيات 24 إلى 28]

لخزاعة بقديد وإساف ونائلة وهبل كانت لأهل مكة. ولذلك سمت العرب أنفسهم بعبد ود وعبد يغوث وعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء. [سورة نوح (71): الآيات 24 الى 28] وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس. وقيل أضل كبراء قوم نوح كثيرا من الناس وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا يعني ولا تزد المشركين بعبادتهم الأصنام إلا ضلالا وهذا دعاء عليهم وذلك أن نوحا عليه السلام كان قد امتلأ قلبه غضبا وغيظا عليهم فدعا عليهم. فإن قلت كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بعث ليصرفهم عنه. قلت إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وقيل إنما أراد بالضلال في أمر الدنيا وما يتعلق بها لا في أمر الآخرة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا أي بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً أي في حالة واحدة وذلك في الدنيا كانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب. واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة عذاب القبر وذلك لأن الفاء تقتضي التعقيب في قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا، وهذا يدل على أنه إنما حصل دخول النار عقيب الإغراق ولا يمكن حمله على عذاب الآخرة لأنه يبطل دلالة الفاء، وقيل معناه أنهم سيدخلون نارا في الآخرة فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصدق الوعد في ذلك والأول أصح فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً يعني تنصرهم وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً يعني أحد يدور في الأرض فيذهب ويجيء من الدوران. وقيل أصله من الدار أي نازل دار إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ قال ابن عباس وغيره كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم بعد ذلك أرحام النساء وأيبس أصلاب الرجال وذلك قبل نزول العذاب بأربعين سنة. وقيل بسبعين سنة وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكم جميعا ولم يكن معهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى أعقمهم قبل العذاب رَبِّ اغْفِرْ لِي وذلك أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل، وقيل يحتمل أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل. وقيل يحتمل أنه حين دعا على الكفار أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم فاستغفر من ذلك لما فيه من طلب حظ النفس أو لأنه ترك الاحتمال. وَلِوالِدَيَّ وكان اسم أبيه ملك بن متوشلخ واسم أمه سمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل لم يكن بين آدم ونوح عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينهما عشرة آباء وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً أي داري وقيل مسجدي وقيل سفينتي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وهذا عام في كل مؤمن آمن بالله وصدق الرسل، وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا ودمارا فاستجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم جميعا والله أعلم.

سورة الجن

سورة الجن وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) قوله عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت وجود الجن فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة، واعترف بوجودهم جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف. وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجود الجن لكن اختلفوا في ماهيتهم، فقيل الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، وقيل إنها جواهر وليست بأجسام ولا أعراض ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور والآفات ولا يعلم عدة أنواعهم إلا الله تعالى، وقيل إنهم أجسام مختلفة الماهية لكن تجمعهم صفة واحدة وهي كونهم حاصلون في الحيز موصوفون بالطول والعرض والعمق، وينقسمون إلى لطيف وكثيف وعلوي وسفلي ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية وأن يكون لها علم مخصوص وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة أو شاقة يعجز البشر عن مثلها. وقد يتشكلون بأشكال مختلفة وذلك بإقدار الله تعالى إياهم على ذلك، وقيل إن الأجسام متساوية في تمام الماهية وليست البنية شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة فأنكروا وجود الجن وقالوا البنية شرط للحياة وإنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة، وهذا قول منكر وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب والسنة. (فصل) اختلف الرواة هل رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجن فأثبتها ابن مسعود فيما رواه عنه مسلم في صحيحه وقد تقدم حديثه في تفسير سورة الأحقاف عند قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وأنكرها ابن عباس فيما رواه عنه البخاري ومسلم. قال ابن عباس «ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ

[سورة الجن (72): الآيات 5 إلى 9]

وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل الله تعالى على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ زاد في رواية «وإنما أوحي إليه قول الجن» أخرجاه في الصحيحين، قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس هذا معناه أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع، صادف هؤلاء النفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه وعلى هذا فهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحي إليه من قوله قل أوحى إليّ أنه استمع نفر من الجن وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون. والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول إلى الإنس والجن فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره. وهذا الحديث يقتضي أن الرجم بالنجوم ولم يكن قبل المبعث. وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه وآخرون إلى أنه كان لكن زاد بهذا المبعث وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين هذا آخر كلام القرطبي والله أعلم. عكاظ سويقة معروفة بقرب مكة كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية وأول الإسلام وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة لتغير هوائها. ومكة من تهامة معدودة ونخلة واد من أودية مكة قريب منها. وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يظهر لأصحابه واقعة الجن وكما أنه مبعوث إلى الإنس فهو أيضا مبعوث إلى الجن لتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وقوله استمع نفر من الجن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة قيل كانوا تسعة من جن نصيبين. وقيل سبعة سمعوا قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم فَقالُوا أي لما رجعوا إلى قومهم، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً قال ابن عباس رضي الله عنهما بليغا أي ذا عجب يعجب منه لبلاغته وفصاحته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي يدعو إلى الصواب يعني التوحيد والإيمان فَآمَنَّا بِهِ أي بالقرآن وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهودا وقيل كانوا نصارى وقيل كانوا مجوسا ومشركين وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي جلال ربنا وعظمته، ومنه قول أنس «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» أي عظم قدره وقيل الجد الغنى. ومنه الحديث «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس: عظمت قدرة ربنا وقيل أمر ربنا وقيل فعله وقيل آلاؤه ونعماؤه على خلقه وقيل علا ملك ربنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً أي أنه تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس به والله تعالى منزه عن كل نقص وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني جاهلنا قيل هو إبليس عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي كذبا وعدوانا وهو وصفه تعالى بالشريك والولد أي الشطط وهو مجاوزة الحد في كل شيء. [سورة الجن (72): الآيات 5 الى 9] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كنا نظن أن الإنس والجن صادقون في قولهم إن لله

[سورة الجن (72): الآيات 10 إلى 16]

صاحبة وولدا وأنهم لا يكذبون على الله في ذلك فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد كذبوا على الله. قوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمته فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، فَزادُوهُمْ رَهَقاً وذكره ابن الجوزي في تفسيره بغير سند ومعنى الآية زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا، قال ابن عباس إثما. وقيل طغيانا وقيل غيا وقيل شرا وقيل عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا وعظمة ويقولون يعني عظماء الجن سدنا الجن والإنس. والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا يعني الجن كَما ظَنَنْتُمْ أي يا معشر الكفار من الإنس أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يعني يقول الجن وأنا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغ السماء الدنيا واستماع كلام أهلها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً يعني من الملائكة شَدِيداً وَشُهُباً أي من النجوم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أرصد له ليرمى به. وقيل شهابا من الكواكب ورصدا من الملائكة، عن ابن عباس قال «كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زاد فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي بين جبلين أراه قال بمكة فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض»، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلا فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض. وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية. [سورة الجن (72): الآيات 10 الى 16] وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي برمي الشهب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومعنى الآية لا ندري هل المقصود من المنع من الاستراق هو شر أريد بأهل الأرض أم أريد بهم صلاح وخير وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي دون الصالحين مرتبة. قيل المراد بهم غير الكاملين في الصلاح وهم المقتصدون فيدخل فيهم الكافر وغيره كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة والقدة القطعة من الشيء، قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين. وقيل أهواء مختلفة وشيعا متفرقة لكل فرقة هوى كأهواء الناس وذلك أن الجن فيهم القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغير ذلك من أهل الأهواء، فعلى هذا

[سورة الجن (72): الآيات 17 إلى 19]

التفسير يكون معنى طرائق قددا أي سنصير طرائق قددا وهو بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب مختلفة متفرقة، وقيل معناه كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وَأَنَّا ظَنَنَّا الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي علمنا وأيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي لن نفوته إن أراد بنا أمرا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي إن طلبنا فلن نعجزه أينما كنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ أي لما سمعنا القرآن آمنا به وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي نقصانا من عمله وثوابه وَلا رَهَقاً يعني ظلما وقيل مكروها يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون العادلون عن الحق، قال ابن عباس وهم الذين جعلوا لله أندادا فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي قصدوا طريق الله وتوخوه أَمَّا الْقاسِطُونَ يعني الذين كفرواكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً يعني وقودا للنار يوم القيامة. فإن قلت قد يتمسك بظاهر هذه الآية من لا يرى لمؤمني الجن ثوابا وذلك لأن الله تعالى ذكر عقاب الكافرين منهم ولم يذكر ثواب المؤمنين منهم. قلت ليس فيه تمسك له وكفى بقوله فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب والله أعدل وأكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. فإن قلت كيف يعذب الجن بالنار وقد خلقوا منها. قلت وإن خلقوا من النار فقد تغيروا عن تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر والله تعالى قادر أن يعذب النار بالنار قوله عز وجل: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اختلفوا فيمن يرجع الضمير إليه فقيل هو راجع إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم والمعنى لو استقام الجن على الطريقة المثلى الحسنى لأنعمنا عليهم وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وقيل معناه لو ثبت الجن الذين سمعوا القرآن. على الطريقة التي كانوا عليها قبل استماع القرآن ولم يسلموا لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي لوسعنا الرزق عليهم. [سورة الجن (72): الآيات 17 الى 19] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين «لأسقيناهم ماء غدقا» يعني كثيرا وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين. والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيرا وعيشا رغدا. وإنما ذكر الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله «لنفتنهم فيه» أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه. وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم والقول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه يَسْلُكْهُ أي يدخله عَذاباً صَعَداً، قال ابن عباس شاقا وقيل عذابا لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة. قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة، وذكر الله تعالى فيدخل فيه

[سورة الجن (72): الآيات 20 إلى 27]

مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها. وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير الله تعالى، قال سعيد بن جبير «قالت الجن للنبي صلّى الله عليه وسلّم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد لله» وروي عنه أيضا أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره، (م) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه» الآراب الأعضاء، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعرا ولا ثوبا: الجبهة واليدين والركبتين والقدمين» وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر» كف شعره عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة وقد نهي عن ذلك. قوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُوهُ يعني يعبد الله ويقرأ القرآن وذلك حين كان يصلي الفجر ببطن نخلة كادُوا يعني الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني يركب بعضهم بعضا من الازدحام عليه حرصا على استماع القرآن، قاله ابن عباس. وعنه أيضا أنه من قول النفر من الجن الذين رجعوا إلى قومهم فأخبروهم عن طاعة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم له واقتدائهم به في الصلاة. وقيل في معنى الآية لما قدم عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره ويظهر هذا الأمر وينصره على من ناوأه وعاداه. وأصل البلد الجماعة بعضهم فوق بعض. [سورة الجن (72): الآيات 20 الى 27] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) قُلْ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وقرئ على الأمر إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنما أدعو ربي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» أي لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا وإنما الضار والنافع والمرشد والمغوي هو الله تعالى. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي لم يمنعني منه أحد إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه وقيل حرزا أحترز به وقيل مدخلا في الأرض مثل السرب أدخل فيه إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي ففيه الجوار والأمن والنجاة. وقيل معناه ذلك الذي يجبرني من عذاب الله يعني التبليغ وقيل إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه. وقيل معناه لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا عن الله عز وجل فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني ولم يؤمن فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ يعني العذاب يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ أي عند نزول العذاب مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أهم أم المؤمنون قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ يعني العذاب وقيل يوم القيامة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ

رَبِّي أَمَداً أي أجلا وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل عالِمُ الْغَيْبِ أي هو عالم ما غاب عن العباد فَلا يُظْهِرُ أي فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به أَحَداً أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته. قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن. فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جريا على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر الله تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع الله على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله. والذي ينبغي أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات الأولياء خلافا للمعتزلة وأنه يجوز أن يلهم الله بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك. ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» أخرجه البخاري قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون. ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم»، ففي هذا إثبات كرامات الأولياء ولا يقال لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي عن غيرها ولا نسد الطريق إلى معرفة الرسول من غيره فنقول الفرق بين معجزة النبي وكرامة الولي أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرون بالتحدي، ولا يجوز للولي أن يدعي خرق العادة مع التحدي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة وقد يظهر على يد الولي أمر خارق للعادة من غير دعواه. وهذا أيضا يدل على ثبوت نبوة النبي لأن الكرامة إنما تظهر على يد من هو معتقد للرسول متابع له فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر الخارق على يد متابعه. وأما الكاهن فليس بمتبع للرسول وقد انسد باب الكهانة بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فمن ادعى منهم اطلاعا على غيب فقد كفر بما جاء به القرآن وكذلك حكم المنجم والله تعالى أعلم، وقوله تعالى: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بين يدي الرسول ومن خلفه وذكر البعض دال على جميع الجهات رَصَداً أي حفظه من الملائكة يحفظونه من الشيطان أن يسترق السمع من الملائكة ويحفظونه من الجن أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة فيخبروا به قبل الرسول. وقيل إن الله تعالى كان إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان عنه فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره وإن جاء ملك قالوا له هذا رسول ربك.

[سورة الجن (72): آية 28]

[سورة الجن (72): آية 28] لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) لِيَعْلَمَ أي ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم أَنْ أي أن جبريل قد بلغ إليه رسالات ربه وقيل معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن الله قد حفظهم ودفع عنهم. وقيل معناه ليعلم الله أن الرسل قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فيعلم الله ذاك ظاهرا موجودا فيوجب فيه الثواب وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي علم الله ما عند الرسل فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف ما خلق لم يفته شيء حتى مثاقيل الذر والخردل، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة المزمل

سورة المزمل مكية قيل غير آيتين منها وهما قوله وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وقيل غير آية وهي إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ الآية وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف. قال المفسرون كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتزمل في ثيابه أول ما جاءه جبريل فرقا منه فكان يقول زملوني زملوني حتى أنس به. وقيل خرج يوما من البيت وقد لبس ثيابه فناداه جبريل يا أيها المزمل، وقيل معناه متزمل النبوة أي حاملها والمعنى زملت هذا الأمر فقم به واحمله فإنه أمر عظيم وإنما لم يخاطب بالنبي والرسول لأنه كان في أول الأمر ومبدئه، ثم خوطب بالنبي والرسول بعد ذلك، وقيل كان صلّى الله عليه وسلّم قد نام وهو متزمل في ثوبه فنودي يا أيها المزمل قُمِ اللَّيْلَ أي للصلاة والعبادة واهجر هذه الحالة واشتغل بالصلاة والعبودية وكان قيام الليل فريضة في ابتداء الإسلام إِلَّا قَلِيلًا أي صل الليل إلا قليلا تنام فيه وهو الثلث ثم بين قدر القيام فقال تعالى: نِصْفَهُ أي قم نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي إلى الثلث. [سورة المزمل (73): آية 4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف إلى الثلثين خيره بين هذه المنازل فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يقومون على هذه المقادير وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه، فكان يقوم الليل كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قيل ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه السورة وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة. وقيل ستة عشر شهرا. وكان قيام الليل فرضا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس وثبتت فريضته على النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (م) عن سعد بن هشام قال «انطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان القرآن. قلت فقيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة».

[سورة المزمل (73): الآيات 5 إلى 6]

وقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن عباس بينه بيانا وعنه أيضا «اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا»، وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفا حرفا أثره في أثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق. وترتيلا تأكيد في الأمر به وأنه لا بد للقارئ منه، وقيل إن الله تعالى لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن حتى يتمكن المصلي من حضور القلب والتأمل والفكر في حقائق الآيات ومعانيها فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور وجلاله وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة، والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة. (فصل) (خ) عن قتادة قال «سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم يمد بسم الله ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم» عن أم سلمة رضي الله عنها وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته فقالت «ما لكم وصلاته ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا»، أخرجه النسائي وللترمذي قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرّحمن الرّحيم، ثم يقف وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف» وفي رواية أبي داود قالت «قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته آية آية» (ق) عن عبد الله بن مغفل قال «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته»، (ق) عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال «جاء رجل إلى ابن مسعود قال إني لأقرأ المفصل في ركعة قال عبد الله هذّا كهذّ الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة» وفي رواية «فذكر عشرين سورة من المفصل» الهذ سرعة القطع والمراد به هنا سرعة القراءة والعجلة فيها، وقوله لا يجاوز تراقيهم التراقي جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وعند مخرج الصوت، والنظائر جمع نظير وهو الشبه والمثل. عن عائشة رضي الله عنها قالت «قام النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن»، أخرجه الترمذي وللنسائي عن أبي ذر نحوه وزاد «والآية إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» عن سهل بن سعد قال «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نقرأ فقال: الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرءوا القرآن قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقال السهل يتعجل لقراءته ولا يتأجله» أخرجه أبو داود وزاد غيره في رواية «لا يجاوز تراقيهم» عن جابر رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال: اقرءوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقومونه كما يقوم القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» أخرجه أبو داود عن ابن مسعود قال «لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» قوله تعالى: [سورة المزمل (73): الآيات 5 الى 6] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن عباس شديدا. وقيل ثقيلا يعني كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق، وقيل سماه ثقيلا لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس وقيل ثقيلا لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام. وقيل ثقيلا على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة. وقيل ثقيلا أي ليس

[سورة المزمل (73): الآيات 7 إلى 10]

بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان. وقيل سماه ثقيلا لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. وقيل ثقيلا في الوحي وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة»، (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل إلي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» (م) عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه» وفي رواية «كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه» قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقا أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد، وقوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم. وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ. روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار. وقرئ وطأ بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد على المصلي وأثقل. من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشد وأثقل وقال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وقيل أثبت للخير وأحفظ للقراءة من النهار وقيل هي أوطأ للقيام وأسهل على المصلي من ساعات النهار لأنه خلق لتصرف العباد والليل والخلوة برب العباد ولأن الليل أفرغ للقلب من النهار ولا يعرض له في الليل حوائج وموانع مثل النهار وأمنع من الشيطان وأبعد من الرياء وهو قوله تعالى: وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أصوب قراءة وأصح قولا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات وقيل معناه أبين قولا بالقرآن. والحاصل أن عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأبعد عن الرياء وأكثر بركة وأبلغ في الثواب وأدخل في القبول. [سورة المزمل (73): الآيات 7 الى 10] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك واشتغالك. وقيل فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصا وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعا والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه. وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله. وقيل معناه وتوكل عليه توكلا واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة الله وطاعته.

[سورة المزمل (73): الآيات 11 إلى 19]

فإن قلت كيف قال تبتيلا مكان تبتلا ولم يجيء على مصدره؟ قلت جاء تبتيلا على بتل نفسك إليه تبتيلا فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلا فهو كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتا، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلا وتبتلت تبتيلا فتبتيلا محمول على معنى بتل إليه تبتيلا وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله تعالى لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولا التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا لله تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلا بما وعدك من النصر على الأعداء وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي واعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال. [سورة المزمل (73): الآيات 11 الى 19] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر. وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى: إِنَّ لَدَيْنا أي عندنا في الآخرة أَنْكالًا يعني قيودا عظاما ثقالا لا تنفك أبدا وقيل أغلالا من حديد وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً أي وجيعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا يعني رملا سائلا وهو الذي إذا أخذت منه شيئا يتبعك ما بعده إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا أهل مكة رَسُولًا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أي فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة، خوّف بذلك كفار مكة ثم خوّفهم يوم القيامة فقال تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يعني شيوخا شمطا من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم، فابعث بعث النار من ذريتك. (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول لبيك وسعديك» زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد

[سورة المزمل (73): آية 20]

وترى النّاس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود، وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا» أما ما يتعلق بمعنى الحديث فقوله أن تخرج من ذريتك بعث النار فمعناه ميز أهل الجنة من أهل النار، وأما الرقمة بفتح الراء وإسكان القاف فهي الأثرة في باطن عضد الحمار. وقوله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة وثلث أهل الجنة، وشطر أهل الجنة فيه البشارة العظيمة لهذه الأمة وجعلهم ربع أهل الجنة أولا ثم الثلث ثم الشّطر لفائدة حسنة، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد مرة دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته وفيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر الله وحمده على إنعامه عليهم، وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة، وسرورهم بها، وأما ما. يتعلق بمعنى الآية الكريمة، والحديث في قوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وقوله صلّى الله عليه وسلّم «ويشيب الوليد» ففيه وجهان: الأول عند زلزلة السّاعة قبل خروجهم من الدّنيا، فعلى هذا هو على ظاهره الثاني أنه في القيامة، فعلى هذا يكون ذكر الشّيب مجازا، لأن القيامة ليس فيها شيب، وإنما هو مثل في شدة الأمر، وهوله يقال في اليوم الشّديد يوم تشيب فيه نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تعاقب على الإنسان أسرع فيه الشيب. قال المتنبي: والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم فلما كان الشّيب من لوازم كثرة الهموم والأحزان جعلوه كناية عن الشّدة والهول، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن الطفل لا تمييز له، وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون سن الشّيخوخة والشّيب. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وصف اليوم بالشّدة أيضا وأن السّماء مع عظمها تنفطر به، وتتشقق فما ظنك بغيرها من الخلائق، وقيل تتشقق لنزول الملائكة، وقيل به أي بذلك المكان، وقيل الهاء ترجع إلى الرّب سبحانه وتعالى أي بأمره وهيبته. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي كائنا لا محالة فيه، ولا خلف إِنَّ هذِهِ أي آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي مواعظ يتذكر بها فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالإيمان والطاعة. قوله تعالى: [سورة المزمل (73): آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي أقل من ثلثي الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي تقوم نصفه وثلثه وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني المؤمنين، وكانوا يقومون معه الليل وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى. لا يفوته علم ما يفعلون، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة. قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل: علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من القيام فقال تعالى: علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة ذلك فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فعاد عليكم بالعفو

والتخفيف، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد، وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه، وقيل نسخ ذلك التّهجد، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضا بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. القول الثاني: أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من قرأ خمسين آية في يوم أو ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يحاججه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر». وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال: في رواية «من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين» وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال: قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» ثم ذكر الله حكمة النّسخ والتّخفيف. فقال تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يعني أن المريض يضعف عن التّهجد باللّيل فخفف الله عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يعني المسافرين للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون من رزق الله وهو الربح في التجارة وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة والمجاهدين، وذلك لأن المجاهد والمسافر مشتغل في النهار بالأعمال الشّاقة، فلو لم ينم بالليل لتوالت عليه أسباب المشقة، فخفف الله عنهم لذلك. روي عن ابن مسعود: قال «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشّهداء ثم قرأ عبد الله: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله» فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن وإنما أعاده للتأكيد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة من صلة الرحم وقرى الضيف، وقيل يريد سائر الصّدقات، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء ومراعاة النيّة والإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى بما يخرج والصرف إلى المستحق. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه وأجره هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه وروى البغوي بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله قال ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا كيف يا رسول الله؟ قال: إنما قال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي لذنوبكم وتقصيركم في قيام الليل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لجميع الذنوب، والله تعالى أعلم.

سورة المدثر

سورة المدثر وهي مكية وقيل غير آية من آخرها وهي ست وخمسون آية ومائتان وخمس وخمسون كلمة وألف حرف وعشرة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (ق) عن يحيى بن كثير قال «سألت أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أبو سلمة سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا. فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني» وصبوا علي ماء باردا فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وذلك قبل أن تفرض الصلاة وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي- وذكر نحوه- فإذا هو قاعد على عرش في الهواء- يعني جبريل- فأخذتني رجفة شديدة» (ق) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري «عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وفي رواية «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع. فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضا في بدء الوحي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حتى بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ- فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده» الحديث. قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كما صرح به في حديث عائشة، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه أيضا قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل

عليه أيضا قوله «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر» وأيضا قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع» فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السّماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي، أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه» روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم، ومعناه فرعبت منه وفزعت. وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع» أي كثر نزوله، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم. وأما التّفسير فقوله عز وجل: يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما سماه مدثرا لقوله صلّى الله عليه وسلّم دثروني، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى، فجعل النّبوة كالدثار واللباس، مجازا قُمْ فَأَنْذِرْ أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه أربعة أوجه: أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز. أما الوجه الأول: فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلّى الله عليه وسلّم بصون ثيابه من النجاسات، وغيرها خلافا للمشركين. الوجه الثاني: معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب. الوجه الثالث: معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة: وشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيرهم وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه. الوجه الرابع: وهو حمل الثّياب والتّطهير على المجاز، فقيل معناه وقلبك فطهر عن الصّفات المذمومة، وقيل معناه وخلقك فحسن وسئل ابن عباس عن قوله، وثيابك فطهر فقال: لا تلبسها على معصية ولا غدر أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع والعرب تقول في وصف الرّجل بالصّدق والوفاء هو طاهر الثّياب، وتقول لمن غدر إنه لدنس الثّوب، والسّبب في ذلك أن الثوب كالشّيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوه كناية عن الإنسان كما يقال الكرم في ثوبه والعفة في إزاره، وقيل إن من طهر باطنه طهر ظاهره. وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يعني أترك الأوثان ولا تقربها وقال ابن عباس: اترك المآثم، وقيل الشّرك والمعنى اترك كل ما أجب لك العذاب من الأعمال والأقوال.

[سورة المدثر (74): الآيات 6 إلى 14]

[سورة المدثر (74): الآيات 6 الى 14] وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما نهي عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئا لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع، وقيل معناه لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا أعط لله وأراد به وجه الله. وقيل معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم الله به عليك وأعطاك. وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية، فإن المن يحبط العمل وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله تعالى وقيل معناه فاصبر لله على ما أوذيت فيه، وقيل معناه إنك حملت أمرا عظيما فيه محاربة العرب والعجم، فاصبر على ذلك لله عز وجل، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى، وقيل الثانية وهو الأصح فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ أي شديد عَلَى الْكافِرِينَ يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم غَيْرُ يَسِيرٍ أي غير هين. فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه. قلت: فائدة التكرار التّأكيد كقوله: أنا محب لك غير مبغض، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد، والمعنى ذرني وإيّاه، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى الوحيد في قومه. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثير يمد بعضه بعضا دائما غير منقطع، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار: وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وقيل كان له غلة شهر بشهر، وَبَنِينَ شُهُوداً أي حضورا بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب، وقيل معنى شهودا أي رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطا مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش.

[سورة المدثر (74): الآيات 15 إلى 18]

[سورة المدثر (74): الآيات 15 الى 18] ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) ثُمَّ يَطْمَعُ أي يرجو أَنْ أَزِيدَ أي أزيده مالا وولدا وتمهيدا كَلَّا أي لا أفعل ولا أزيده قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله وولده حتى هلك إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا والمعنى أنه كان معاندا في جميع دلائل التوحيد والقدرة والبعث والنبوة منكرا للكل، وقيل كان كفره كفر عناد وهو أنه كان يعرف هذا بقلبه وينكره بلسانه وهو أقبح الكفر وأفحشه سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً يعني سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي فيها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سأرهقه صعودا. قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وقال الكلبي: الصعود صخرة ملساء في النّار يكلف الكافر أن يصعدها لا يترك يتنفس في صعوده يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد فيصعدها في أربعين عاما، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه، ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدا قوله عز وجل إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي فكر في الأمر الذي يريده ونظر فيه وتدبره ورتب في قلبه كلاما، وهيأه لذلك لأمر وهو المراد بقوله وَقَدَّرَ أي وقدر ذلك الكلام في قلبه وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله الْمَصِيرُ قام النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلّى الله عليه وسلّم لاستماعه أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلي ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا فقال له الوليد ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ فقال وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم. فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا اللهم لا، قال تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب، قالوا اللهم لا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه، فقالت قريش للوليد فما هو فتفكر في نفسه، ثم قال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل، وأهله، وولده، ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عز وجل: إِنَّهُ فَكَّرَ أي في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وقدر في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. [سورة المدثر (74): الآيات 19 الى 29] فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي عذب، وقيل لعن كيف قدر وهو على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ كرره للتأكيد، وقيل معناه لعن على أي حال قدر من الكلام ثُمَّ نَظَرَ أي في طلب ما يدفع به القرآن ويرده ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ أي كلح وقطب وجهه كالمهتم المتفكر في شيء يدبره ثُمَّ أَدْبَرَ أي عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ أي حين دعى إليه فَقالَ إِنْ هذا الذي يقوله محمد ويقرؤه إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى ويحكى عن السحرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما الله قال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ أي سأدخله

[سورة المدثر (74): الآيات 30 إلى 32]

سَقَرَ هو اسم من أسماء جهنّم وقيل آخر دركاتها وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ أي وما أعلمك أي شيء هي سقر، وإنما ذكره على سبيل التّهويل والتّعظيم لأمرها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قيل هما بمعنى كما تقول صد عني وأعرض عني وقيل لا بد من الفرق وإلا لزم التكرار فقيل معناه لا تبقى أحدا من المستحقين للعذاب إلا أخذته، ثم لا تذر من لحوم أولئك شيئا إلا أكلته وأهلكته، وقيل لا يموت فيها ولا يحيا أي لا تبقى من فيها حيا ولا تذر من فيها ميتا كلما احترقوا جددوا وأعيدوا، وقيل لا تبقى لهم لحما ولا تذر منهم عظما، وقيل لكل شيء ملال وفترة إلا جهنم ليس لها ملال ولا فترة فهي لا تبقى عليهم ولا تذرهم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ جمع بشرة أي مغيرة للجلد حتى تجعله أسود قال مجاهد: تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادا من اللّيل وقال ابن عباس: محرقة للجلد، وقيل تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. [سورة المدثر (74): الآيات 30 الى 32] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي على النار تسعة عشر من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر جاء في الأثر «إن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة قد نزعت منهم الرّحمة يدفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم» وقال عمرو بن دينار: إن أحدهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية. قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع من ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم يعني الشجعان أفيعجز كل عشر منكم أن تبطش بواحد منهم يعني خزنة جهنم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي أنا أكفيكم منهم سبعة عشر عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني أنتم اثنين ويروى عنه أنه قال أنا أمشي بين أيديكم على الصّراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يعني لا رجالا آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ أي عددهم في القلة إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لم يكونوا عشرين، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد، القليل على تعذيب جميع من في النار. وأجيب عن قولهم لم لم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر. وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك، فمن اعترف بكمال قدرة الله، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن العدد كان موجودا في كتابهم وأخبر به النّبي صلّى الله عليه وسلّم

[سورة المدثر (74): الآيات 33 إلى 41]

على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي، فازدادوا بذلك إيمانا وتصديقا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلا يَرْتابَ أي ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضا بحال غيرهم كأنه قال: وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر، والنفاق وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وَالْكافِرُونَ أي مشركو مكة. فإن قلت لم يكن بمكة نفاق فكيف قال، وليقول الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون وهذه السورة مكية. قلت لأنه كان في علم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبره عما سيكون وهو كسائر الإخبار بالغيوب فعلى هذا تصير الآية معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر، وقيل يحتمل أن يراد بالّذين في قلوبهم مرض أهل مكة لأن فيهم من هو شاك وفيهم من هو قاطع بالكذب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يعني أي شيء أراد الله بهذا المثل العجيب، وإنما سموه مثلا لأنه استعارة من المثل المضروب لأنه مما غرب من الكلام وبدع استغرابا منهم لهذا العقد واستبعادا له، والمعنى أيّ غرض قصد في جعل الملائكة تسعة عشرة لا عشرين ومرادهم بذلك إنكار هذا من أصله وإنه ليس من عند الله فلهذا سموه مثلا كَذلِكَ أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق به كذلك يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لأن الله تعالى بيده الهداية والإضلال وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ هذا جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر، والمعنى أن الخزنة تسعة عشر، ولهم أعوان وجنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خلقوا لتعذيب أهل النار وقيل كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية فكذلك جنوده غير متناهية، وَما هِيَ يعني النار إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي إلا تذكرة وموعظة للناس، وقيل ما هي يعني آيات القرآن ومواعظه إلا تذكرة للناس يتعظون بها كَلَّا أي لا يتعظون ولا يتذكرون، وقيل معناه ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه خزنة النار وقيل كلا هنا بمعنى حقا وَالْقَمَرِ. [سورة المدثر (74): الآيات 33 الى 41] وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى ذاهبا، وقيل دبر بمعنى أقبل تقول العرب دبرني فلان أي جاء خلفي فاللّيل يأتي خلف النهار وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وتبين وهذا قسم وجوابه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعني إن سقر لإحدى الأمور العظام، وقيل أراد بالكبر دركات النار وهي سبعة جهنم ولظى والحطمة والسّعير وسقر والجحيم والهاوية نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل يحتمل أن يكون نذيرا صفة للنار، والمعنى أن النّار نذير للبشر قال الحسن: والله ما أنذر بشيء أدهى من النار، وقيل يجوز أن يكون نذيرا صفة لله تعالى، والمعنى أنا لكم منها نذير فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أي يتقدم في الخير والطّاعة أو يتأخر عنهما فيقع في الشر والمعصية، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر، وقد تمسك بهذه الآية من يرى أن العبد غير مجبور على الفعل وأنه متمكن من فعل نفسه. وأجيب عنه بأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى وقيل إضافة المشيئة إلى المخاطبين على سبيل التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وقيل هذه المشيئة لله تعالى، والمعنى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر. قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي مرتهنة في النّار بكسبها ومأخوذة بعملها إِلَّا أَصْحابَ

[سورة المدثر (74): الآيات 42 إلى 51]

الْيَمِينِ فإنهم غير مرتهنين بذنوبهم في النار، ولكن الله يغفرها لهم، وقيل معناه فكوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفك الراهن رهنه بأداء الحق الذي عليه. واختلفوا في أصحاب اليمين من هم فقيل هم المؤمنون المخلصون، وقيل هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم، وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال الله تعالى لهم: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين وهو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثما يرتهنون به وعن ابن عباس قال هم الملائكة فِي جَنَّاتٍ أي هم في بساتين يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يتساءلون المجرمين وعن صلة فيقولون لهم. [سورة المدثر (74): الآيات 42 الى 51] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قيل وهذا يقوي قول من قال إن أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لم يعرفوا الذنوب التي توجب النّار، وقيل معناه يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين، فعلى هذا التفسير يكون معنى ما سلككم، أيّ يقول المسؤولون للسّائلين قلنا للمجرمين ما سلككم، أي أدخلكم وقيل ما حبسكم في سقر، وهذا سؤال توبيخ وتقريع قالُوا مجيبين لهم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أي لله في الدّنيا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي لم نتصدق عليه وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي في الباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء على الأعمال وهو يوم القيامة حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت قال الله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قال ابن مسعود: تشفع الملائكة والنّبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الآية، وقال عمران بن حصين: الشّفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون. روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يصف أهل النار فيعذبون قال فيمر بهم الرجل من أهل الجنة، فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا قال فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال، ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا، فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه» فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أيّ عن مواعظ القرآن كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع حمار مُسْتَنْفِرَةٌ قرئ بالكسر أي نافرة وقرئ بالفتح أي منفرة مذعورة محمولة على النفار فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قيل القسورة جماعة الرّماة لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس وعنه أنها القناص وعنه قال: هي حبال الصيادين، وقيل معناه فرت من رجال أقوياء وكل ضخم شديد عند العرب قسورة وقسور وقيل القسورة لغط القوم وأصواتهم وقيل القسورة شدة سواد ظلمة اللّيل وقال أبو هريرة: هي الأسد وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن هربوا منه شبههم بالحمر في البلادة والبله، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء. [سورة المدثر (74): الآيات 52 الى 56] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك، وقيل إن المشركين قالوا يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح، وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك كَلَّا أي لا يؤتون الصحف وهو ردع لهم عن هذه الاقتراحات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي لا يخافون عذاب الآخرة والمعنى أنهم لو خافوا النّار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة، لأنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدّلالة على صحة النّبوة فطلب الزّيادة يكون من باب التعنت كَلَّا أي حقا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ يعني إنه عظة عظيمة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو حقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم وقيل هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية: هو أهل التّقوى وأهل المغفرة قال الله تبارك، وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي وليس بالقوي في الحديث وقد تفرد به عن ثابت، والله تعالى أعلم بمراده.

سورة القيامة

سورة القيامة مكية وهي أربعون آية ومائة وتسع وتسعون كلمة وستمائة واثنان وخمسون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) قوله عز وجل: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اتفقوا على أن المعنى أقسم، واختلفوا في لفظ لا فقيل إدخال لفظة لا على القسم مستفيض في كلام العرب وأشعارهم، قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر قالوا: وفائدتها تأكيد القسم كقولك لا والله ما ذاك كما تقول تريد والله فيجوز حذفها. لكنه أبلغ في الرّد مع إثباتها، وقيل إنها صلة كقول الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ وفيه ضعف لأنها لا تزاد إلا في وسط الكلام لا في أوله. وأجيب عنه بأن القرآن في حكم السّورة الواحدة بعضه متصل ببعض يدل عليه أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة، ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ وجوابه في سورة ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جاريا مجرى الوسط وفيه ضعف أيضا لأن القرآن في حكم السّورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز، وقيل لا رد لكلام المشركين المنكرين للبعث أي ليس الأمر كما زعموا، ثم ابتدأ فقال أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللّوامة، وقيل الوجه فيه أن يقال إن لا هي للنفي، والمعنى في ذلك كأنه قال لا أقسم بذلك اليوم ولا بتلك النّفس إلا إعظاما لهما فيكون الغرض تعظيم المقسم به وتفخيم شأنه، وقيل معناه لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإنه إثباته أظهر من أن يقسم عليه. وروى البغوي في تفسير القيامة عن المغيرة بن شعبة قال: يقولون القيامة وقيامة أحدهم موته وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال أما هذا فقد قامت قيامته وفيه ضعف لاتفاق المفسرين على أن المراد به القيامة الكبرى لسياق الآيات في ذلك. وقوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قيل هي التي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء، وقيل اللوامة هي التي تندم على ما فات فتقول لو فعلت ولو لم تفعل وقيل ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا تقول هلا ازددت وإن عملت شرا تقول يا ليتني لم أفعل وقال الحسن: هي نفس المؤمن إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي، وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه، ولا يعاتبها، وقيل هي النّفس الشّريفة التي تلوم النّفوس العاصية يوم القيامة بسبب ترك التّقوى، وقيل هي النّفس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وقيل هي النّفس الشّقية العاصية يوم القيامة بسبب ترك التقوى، وقيل هي النفس الشقية تلوم نفسها

[سورة القيامة (75): الآيات 4 إلى 5]

حين تعاين أهوال يوم القيامة فتقول «يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله» فإن قلت أيّ مناسبة بين يوم القيامة، وبين النّفس اللّوامة حتى جمع بينهما في القسم. قلت وجه المناسبة أن في يوم القيامة تظهر أحوال النفوس اللّوامة من الشقاوة أو السعادة فلهذا حسن الجمع بينهما في القسم وقيل إنما وقع القسم بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبدا تستحقر فعلها واجتهادها في طاعة الله تعالى وقيل إنه تعالى أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنّفس اللّوامة فكأنه قال أقسم بيوم القيامة تعظيما لها ولا أقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها لأن النّفس الكافرة أو الفاجرة لا يقسم بها، فإن قلت المقسم به هو يوم القيامة، والمقسم عليه هو يوم القيامة، فيصير حاصله أنه أقسم بيوم القيامة على وقوع القيامة وفيه إشكال. قلت إن المحققين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربها في الحقيقة، فكأنه قال أقسم برب القيامة، وقيل لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن ثم لتحاسبن يدل عليه قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقيل جواب القسم قوله: [سورة القيامة (75): الآيات 4 الى 5] بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ومعنى أيحسب الإنسان أيظن هذا الكافر أن العظام بعد تفرقها ورجوعها رميما، ورفاتا مختلطة بالتراب وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض أن لن نجمع عظامه، أي لا يمكننا جمعها مرة أخرى وكيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد، وما علم أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة وهو ختن الأخنس بن شريق الثقفي وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول اللهم اكفني جاري السوء يعني عديّا والأخنس وذلك أن عديّا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا محمد حدثني متى تكون القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عدي بن ربيعة لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام فأنزل الله عز وجل. أيحسب الإنسان يعني هذا الكافر أن لن نجمع عظامه يعني بعد التفرق والبلاء فنحييه ما كان أول مرة، وقيل ذكر العظام وأراد بها نفسه جميعها لأن العظام قالب النّفوس، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها، وقيل إنما خرج على وفق قول هذا المنكر، أو يجمع الله العظام بلى قادرين يعني على جمع عظامه، وتأليفها وإعادتها إلى التركيب الأول والحالة، والهيئة الأولى وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو أن نسوي بنانه يعني أنامله فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، فلا يقدر أن يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرهما، وقيل معناه أظن الكافر أن لن نقدر على عظامه بلى نقدر على جمع عظامه حتى نعيد السّلاميات على صغرها إلى أماكنها، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان فمن يقدر على جمع العظام الصغار، فهو على جمع كبارها أقدر وهذا القول أقرب إلى الصواب، وقيل إنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم به الخلق. قوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ما عاش لا ينزع عن المعاصي ولا يتوب وقال سعيد بن جبير يقدم الذّنب ويؤخر التوبة، ويقول سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت وهو على سوء حاله وشر أعماله، وقيل هو طول الأمل يقول أعيش فأصيب من الدّنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت وقال ابن عباس: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجرا لميله عن الحق.

[سورة القيامة (75): الآيات 6 إلى 13]

[سورة القيامة (75): الآيات 6 الى 13] يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أيّ متى يكون يوم القيامة والمعنى أن الكافر يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام السّاعة قال الله تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي شخص البصر عند الموت فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا، وقيل تبرق أبصار الكفار عند رؤية جهنم، وقيل برق إذا فزع وتحير لما يرى من العجائب، وقيل برق أي شق عينه وفتحها من البريق وهو التلألؤ وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي أظلم وذهب ضوءه، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يعني أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران، وقيل يجمع بينهما في ذهاب الضّوء، وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى يَقُولُ الْإِنْسانُ يعني الكافر المكذب يَوْمَئِذٍ أي القيامة أَيْنَ الْمَفَرُّ أي المهرب وهو موضع الفرار كَلَّا أي لا ملجأ لهم يهربون إليه وهو قوله لا وَزَرَ أي لا حرز ولا ملجأ ولا جبل، وكانوا إذا فزعوا لجئوا إلى الجبل فتحصنوا به، فقيل لهم لا جبل لكم يومئذ تتحصنون به وأصل الوزر الجبل المنيع، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر ومنه قول كعب بن مالك. الناس آلت علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر ومعنى الآية أنه لا شيء يعصمهم من أمر الله تعالى لا حصن ولا جبل يوم القيامة يستندون إليه من النار إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يعني مستقر الخلق وقال عبد الله بن مسعود: إليه المصير والمرجع وهو بمعنى الاستقرار، وقيل إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار، وذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة برحمته ومن شاء أدخله النار بعدله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ قال ابن مسعود وابن عباس: بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيئ وما أخر بعد موته من سنة حسنة، أو سيئة يعمل بها، وعن ابن عباس أيضا بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه، وقيل بأول عمله وآخره وهو ما عمله في أول عمره وفي آخره، وقيل بما قدم من ماله لنفسه قبل موته وما أخر من ماله لورثته. [سورة القيامة (75): الآيات 14 الى 21] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ أي بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله وهي سمعه وبصره وجوارحه، وإنما دخلت الهاء في البصيرة لأن المراد من الإنسان جوارحه، وقيل معناه بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وفي رواية عن ابن عباس بل الإنسان على نفسه شاهد فتكون الهاء للمبالغة كعلامة وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ يعني ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه، فإنه لا ينفعه لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه، وقيل معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره، وقيل إن أهل اليمن يسمون السّتر معذارا وجمعه معاذير، فعلى هذا يكون معناه ولو أرخى السّتور وأغلق الأبواب ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه، وهذا في حق الكافر لأنه ينكر يوم القيامة فتشهد عليه جوارحه بما عمل في الدنيا. قوله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التّنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه قال ابن جبير: قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحركها فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. قال فاستمع وأنصت

[سورة القيامة (75): الآيات 22 إلى 29]

ثم إن علينا أن تقرأه، قال فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرأه، وفي رواية كما وعده الله تعالى لفظ الحميدي، ورواه البغوي من طريق البخاري وقال فيه: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، كان مما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله عز وجل الآية، التي في لا أقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، قال إن علينا أن نجمعه في صدرك، وتقرأه فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك. قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى وفي رواية كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه يخشى أن ينفك منه فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، أيّ نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه، ومعنى الآية لا تحرك بالقرآن لسانك، وإنما جاز هذه الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه لتجعل به أي بأخذه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أي جمعه في صدرك وحفظك إياه وَقُرْآنَهُ أي قراءته علينا والمعنى سنقرئك يا محمد بحيث تصير لا تنساه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي لا تكن قراءتك مقارنة لقراءة جبريل عليك بل اسكت حتى يتم جبريل ما يوحى إليك، فإذا فرغ جبريل من القراءة، فخذ أنت فيها، وجعل قراءة جبريل قراءته لأنه بأمره نزل بالوحي ونظيره. «من يطع الرسول فقد أطاع الله» وقيل معناه اعمل به واتبع حلاله، وحرامه، والقول الأول أولى لأن هذا ليس موضع الأمر باتباع حلاله وحرامه وإنما هو موضع الأمر بالاستماع حتى يفرغ جبريل من قراءته فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل بالوحي أصغى إليه فإذا فرغ من قراءته وعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحفظه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي أن نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل وقيل إذا أشكل شيء من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والحلال والحرام، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عن معانيه لغاية حرصه على العلم فقيل له نحن نبينه لك. قوله تعالى: كَلَّا أي حقا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أي تختارون الدنيا على العقبى وتعملون لها يخاطب كفار مكة. [سورة القيامة (75): الآيات 22 الى 29] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ناضِرَةٌ من النضارة، وهي الحسن قال ابن عباس: حسنة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل ناعمة، وقيل مسفرة مضيئة، وقيل بيض يعلوها نور وبهاء وقيل مشرقة بالنعيم. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح: تنتظر الثّواب من ربها، قال الأزهري: ومن قال إن معنى قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلانا أي انتظرته ومنه قول الحطيئة: وقد نظرتكم أعشاء صادرة ... للورد طال بها حوزي وتنساسي فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم

فضلك، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب، ولا الانتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى. (فصل: في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة) قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام، وليس هذا موضع ذكرها، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك. وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه وخدمه، وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أخرجه التّرمذي وقال: هذا حديث غريب، وقال: وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه (ق) عن جرير بن عبد الله قال «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس، وقبل الغروب» قوله «لا تضامون» روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضا ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله: «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر» معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تضارون في القمر ليلة البدر، قالوا: لا يا رسول الله قال: هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكم سترونه كذلك» أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي. وليس عنده في أوله أن أناسا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا قوله ليس دونها سحاب. قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى تضارون وتضامون واحد. عن أبي رزين العقيلي قال: «قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة؟ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال: فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم» أخرجه أبو داود (م) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» والأحاديث في الباب كثيرة وهذا القدر كاف والله أعلم. قوله عز وجل: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي عابسة كالحة

[سورة القيامة (75): الآيات 30 إلى 40]

متغيرة مسودة قد أظلمت ألوانها، وعدمت آثار النعمة، والسرور منها لما أدركها من اليأس من رحمة الله تعالى: وذلك حين يميز بين أهل الجنة والنار تَظُنُّ أي تستيقن والظّن هنا بمعنى اليقين أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أن يفعل بهم أمر عظيم من العذاب والفاقرة الدّاهية العظيمة والأمر الشّديد الذي يكسر فقار الظهر ويقصمه وقيل الفاقرة دخول النار، وقيل هي أن تحجب تلك الوجوه عن رؤية الله تعالى: كَلَّا أي حقا إِذا بَلَغَتِ يعني النفس كناية عن غير مذكور التَّراقِيَ جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت ومنه قول دريد بن الصمة: ورب عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقي وَقِيلَ يعني وقال من حضره مَنْ راقٍ أي هل من طبيب يرقيه ويداويه مما نزل به ويشفيه ويخلصه من ذلك برقيته ودوائه، وقيل لما نزل به من قضاء الله ما نزل التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقيل هذا من قول الملائكة الذين يحضرونه عند الموت يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه إذا خرجت فيصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وَظَنَّ أي أيقن الذين بلغت روحه التراقي أَنَّهُ الْفِراقُ يعني الخروج من الدنيا وفراق المال والأهل والولد وَالْتَفَّتِ أي اجتمعت السَّاقُ بِالسَّاقِ أي الشدة بالشدة يعني شدة مفارقة الدنيا مع شدة الموت وكربه، وقيل شدة الموت بشدة الآخرة، وقيل تتابعت عليه الشدائد لا يخرج من كرب إلا جاءه ما هو أشد منه، وقال ابن عباس: أمر الدنيا بأمر الآخرة فكان في آخر يوم من أيام الدّنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وقيل الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، وقيل هما ساقا الميت إذا لفتا في الكفن، وقيل هما ساقاه عند الموت ألا تراه كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى عند النزع، وقيل إذا مات يبست ساقاه فالتفت إحداهما بالأخرى. [سورة القيامة (75): الآيات 30 الى 40] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم. قوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن، ولم يصلّ لله تعالى: وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان والتصديق ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر ويختال في مشيته، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل. وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب. وأحق وأولى به. يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة: ذكر لنا «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة. وكان نبي الله يقول صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً أي ماء قليلا مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصيب في الرحم، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي صار الإنسان علقة بعد النطفة

فَخَلَقَ فَسَوَّى أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين ثم فسرهما فقال الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي خلق من مائة أولادا ذكورا وإناثا أَلَيْسَ ذلِكَ أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، فليقل بلى ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ فبلغ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فليقل آمنا بالله» أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال «كان رجل يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» والله سبحانه وتعالى أعلم:

سورة هل أتى

سورة هل أتى وتسمى سورة الإنسان أيضا وهي مدنية كذا قال مجاهد، وقتادة والجمهور، وقيل مكية يحكى ذلك عن ابن عباس وعطاء بن يسار ومقاتل، وقيل فيها مكي ومدني، فالمكي منها قوله وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها مدني قاله الحسن وعكرمة وقيل إن المدني من أولها إلى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ومن هذه الآية إلى آخرها مكي حكاه الماوردي وهي إحدى وثلاثون آية ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعة وخمسون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) قوله عز وجل: هَلْ أَتى أي قد أتى عَلَى الْإِنْسانِ يعني آدم عليه الصلاة والسلام حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب. وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طينا، وبقي أربعين سنة حمأ مسنونا وأربعين سنة صلصالا كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئا ولم يكن شيئا يذكر. روي عن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: لم يكن شيئا مذكورا فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئا مذكورا يعني أنهم كانوا نطفا في الأصلاب. ثم علقا، ومضغا في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أي مني الرجل ومني المرأة أَمْشاجٍ أي أخلاط قال ابن عباس وغيره: يعني ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب، وعظم فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة

[سورة الإنسان (76): الآيات 3 إلى 5]

صفراء. وكل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود: هي العروق التي تكون في النطفة، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج. نَبْتَلِيهِ أي لنختبره بالأمر والنهي فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها. [سورة الإنسان (76): الآيات 3 الى 5] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل، وبعثه الرسل وإنزال الكتب. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً يعني إما موحدا طائعا لله، وإما مشركا بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره، وطاعته عن معصيته، وقيل في معنى الآية إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر، وأوعد الكافر فقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا في جهنم لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ يعني يشدون بها وَأَغْلالًا أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم وَسَعِيراً يعني وقودا لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ يعني فيها شراب كانَ مِزاجُها كافُوراً قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك. فإن قلت إن الكافور غير لذيذ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به. قلت قال أهل المعاني: أراد بالكافور بياضه، وطيب ريحه وبرده. لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس: هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافورا، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم. بذلك الكافور والمسك والزنجبيل. [سورة الإنسان (76): الآيات 6 الى 9] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) عَيْناً بدلا من الكافور وقيل أعني عينا يَشْرَبُ بِها أي يشرب منها عِبادُ اللَّهِ قال ابن عباس أولياء الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم. قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي

يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب. والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج، والعمرة، وغير ذلك من الواجبات، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئا ليس بواجب عليه، وذلك بأن يقول: لله عليّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله. وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليّ كذا، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به (خ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (ق) عن ابن عباس قال: «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفي بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى. وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي منتشرا فاشيا ممتدا، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض، وفي أولياء الله وأعدائه، وقيل فشا سره في السموات. فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته. قوله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى: بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسون به أهل الحاجة، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام. لأن به قوام الأبدان، وقيل على حب الله عز وجل أي لحب الله مِسْكِيناً يعني فقيرا وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب وَيَتِيماً أي صغيرا وهو الذي لا أب له يكتسب له، وينفق عليه وَأَسِيراً قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين، وقيل هو الأسير من أهل الشرك. أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم وإن أسراهم يومئذ أهل الشرك. فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى، وإن كانوا على غير ديننا، وأنه يرجى ثوابه، ولا يجوز أن يعطوا من الصدقة الواجبة كالزكاة والكفارة، وقيل الأسير المملوك، وقيل الأسير المرأة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان» يعني أسرى، وقيل غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك. واختلفوا في سبب نزول الآية، فقيل نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الدحداح صام يوما فلما كان وقت الإفطار جاءه مسكين، ويتيم، وأسير فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد. فنزلت هذه الآية فيه، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير فقبض ذلك الشعير فطحن منه ثلثه، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه فلما فرغ أتى مسكين فسأل فأعطوه ذلك ثم عمل الثلث الثاني فلما فرغ أتى يتيم فسأل فأعطوه ذلك، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأعطوه ذلك وطووا يومهم وليلتهم فنزلت هذه الآية. وقيل هذه عامة في كل من أطعم المسكين واليتيم والأسير لله تعالى وآثر على نفسه إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لأجل وجه الله تعالى: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم. فأثنى به عليهم، وقيل قالوا ذلك منعا للمحتاجين من المكافأة، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يراد به غيره. فهذا هو الإخلاص، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما، وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى لأن فيهما شركا، ورياء فنفوا ذلك عنهم بقولهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.

[سورة الإنسان (76): الآيات 10 إلى 16]

[سورة الإنسان (76): الآيات 10 الى 16] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم عَبُوساً وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازا كما يقال نهاره صائم، والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة. قَمْطَرِيراً يعني شديدا كريها يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه، والقمطرير الشديد، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي الذي يخافونه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي حسنا في وجوههم وَسُرُوراً أي في قلوبهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة الله واجتناب معصيته، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار جَنَّةً وَحَرِيراً أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير مُتَّكِئِينَ فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً يعني لا يؤذيهم حر الشمس، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولا أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ أي سخرت وقربت قُطُوفُها أي ثمارها تَذْلِيلًا أي يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه كانت قواريرا قوارير من فضة قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها، قال الكلبي: إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة، ولكنها أصفى من الزجاج. قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص. والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم. [سورة الإنسان (76): الآيات 17 الى 21] وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) وَيُسْقَوْنَ فِيها أي في الجنة كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة، وقيل هو النبت المعروف، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى: كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مشورا الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس:

[سورة الإنسان (76): الآيات 22 إلى 28]

فكأن طعم الزنجبيل ... به إذ ذقته سلافة الخمر فلما كان الزنجبيل مستطابا عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس: كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي سلسلة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليها في طرقهم، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه، وصفائه، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوما، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة. قوله عز وجل: وَإِذا رَأَيْتَ قيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به ثَمَّ يعني إلى الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً أي لا يوصف عظمه وَمُلْكاً كَبِيراً قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكا لا زوال له ولا انتقال عالِيَهُمْ أي فوقهم ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً يعني طاهرا من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولا، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم كرشح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد. [سورة الإنسان (76): الآيات 22 الى 28] إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها. إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت. فهو لكم بأعمالكم، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه، وهو الثواب، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات. قوله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ أي يا محمد الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا قال ابن عباس: متفرقا آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي لعبادته فهي من

[سورة الإنسان (76): الآيات 29 إلى 31]

الحكمة المحضة، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال، وقيل هو عام في جميع التكاليف، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفا خاصا كالعبادات والطاعات أو عاما متعلقا بالغير كالتبليغ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل أراد به أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم نهاه أبو جهل عنها، وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء، والمال فارجع عن هذا الأمر، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية. فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم. الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قيل المراد من الذكر الصلاة، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان، والمقصود أن يكون ذاكرا لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه. قوله عز وجل: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار مكة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني الدار العاجلة، وهي الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا يعني شديدا وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به، ولا يعملون له نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أي قوينا وأحكمنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا. وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي إذا شئنا أهلكناهم، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم. [سورة الإنسان (76): الآيات 29 الى 31] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) إِنَّ هذِهِ أي السورة تَذْكِرَةٌ أي تذكير وعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ أي لنفسه في الدنيا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي وسيلة بالطاعة، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عز وجل في سياق الآية. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوال خلقه وما يكون منهم حَكِيماً أي حيث خلقهم مع علمه بهم يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق وَالظَّالِمِينَ يعني المشركين أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة المرسلات

سورة المرسلات (مكية وهي خمسون آية ومائة وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) قوله عز وجل: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً اعلم أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوها: الأول: أن المراد بأسرها الرّياح ومعنى المرسلات عرفا الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس، وقيل عرفا أي كثيرا فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً يعني الرّياح الشّديدة الهبوب، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً. يعني الرياح اللّينة، وقيل هي الرياح التي أرسلها نشرا بين يدي رحمته، وقيل هي الرّياح التي تنشر السحاب، وتأتي بالمطر فالفارقات فرقا يعني الرياح التي تفرق السحاب، وتبدده فالملقيات ذكرا يعني أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة قلعت الأشجار، وخربت الديار، وغيرت الآثار. فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب، فيلجئون إلى الله تعالى ويذكرونه، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر، والمعرفة في القلوب عند هبوبها. الوجه الثاني: أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ومعنى والمرسلات عرفا. الملائكة الذين أرسلوا بالمعروف من أمر الله، ونهيه وهذا القول رواية عن ابن مسعود فالعاصفات عصفا يعني الملائكة تعصف في طيرانهم، ونزولهم كعصف الرياح في السرعة، والناشرات نشرا يعني أنهم إذا نزلوا إلى الأرض نشروا أجنحتهم، وقيل هم الذين ينشرون الكتب، ودواوين الأعمال يوم القيامة فالفارقات فرقا. قال ابن عباس: يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، وقيل يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة فعلى هذا يكون الملقى هو جبريل وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. الوجه الثالث: أن المراد بأسرها آيات القرآن، ومعنى المرسلات عرفا آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل عرف وخير فالعاصفات عصفا يعني آيات القرآن تعصف القلوب بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف وهو النبت المتكسر، والناشرات نشرا يعني آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين. فالفارقات فرقا يعني آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل فالملقيات ذكرا يعني آيات القرآن هي الذّكر الحكيم الذي يلقى الإيمان والنور في قلوب المؤمنين.

[سورة المرسلات (77): الآيات 5 إلى 23]

[سورة المرسلات (77): الآيات 5 الى 23] فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) الوجه الرابع: أنه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئا واحدا بعينه فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الرياح ويكون المراد بقوله فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة. فإن قلت وما المجانسة بين الرياح والملائكة حتى جمع بينهما في القسم قلت الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه فحسن الجمع بينهما في القسم عذرا أو نذرا أي للإعذار والإنذار من الله، وقيل عذرا من الله ونذرا منه إلى خلقه، وهذه كلها أقسام وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ أي من أمر الساعة ومجيئها لَواقِعٌ أي لكائن نازل لا محالة، وقيل معناه إن ما توعدون به من الخير والشر لواقع بكم. ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محي نورها وقيل محقت وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شقت وقيل فتحت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي قلعت من أماكنها وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ وقرئ وقتت بالواو ومعناهما وأحد أي جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي أخرت وضرب الأجل لجميعهم كأنه تعالى يعجب لعباده من تعظيم ذلك اليوم، والمعنى جمعت الرسل في ذلك اليوم لتعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم، ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ قال ابن عباس يوم فصل الرّحمن فيه بين الخلائق ثم أتبع ذلك تعظيما وتهويلا فقال تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي وما أعلمك بيوم الفصل وهو له وشدته وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بالتوحيد والنبوة والمعاد والبعث والحساب. قوله تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني الأمم الماضية بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعني السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وهم كفار قريش، أي نهلكهم بتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي إنما نفعل بهم ذلك لكونهم مجرمين وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني النطفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعني وقت الولادة وهو معلوم لله تعالى لا يعلم ذلك غيره فَقَدَرْنا قرئ بالتشديد من التقدير، أي قدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي المقدرون له وقرئ بالتخفيف من القدرة، أي قدرنا على خلقه، وتصويره كيف شئنا فنعم القادرون حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة. [سورة المرسلات (77): الآيات 24 الى 32] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي المنكرين للبعث لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً يعني وعاء وأصله الضم والجمع أَحْياءً وَأَمْواتاً يعني تكفتهم أحياء على ظهرها بمعنى تضمهم في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتا في بطنها في قبورهم، ولذلك تسمى الأرض أما لأنها تضم الناس كالأم تضم ولدها وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض رَواسِيَ شامِخاتٍ يعني جبالا عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً يعني عذابا

[سورة المرسلات (77): الآيات 33 إلى 48]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يعني أن هذا كله أعجب عن البعث فالقادر عليه قادر على البعث. قوله عز وجل: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يعني يقال للمكذبين بيوم القيامة في الدنيا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو العذاب ثم فسره بقوله انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يعني دخان جهنم إذا سطع وارتفع تشعب، وتفرق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم. فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله تعالى في ظل عرشه، وقيل يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب على رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم لا ظَلِيلٍ أي إن ذلك الظل لا يظل من حر وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي لا يرد عنهم لهب جهنم والمعنى أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لا يدفع عنهم حر اللهب إِنَّها يعني جهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ جمع شرارة وهي ما تطاير من النار كَالْقَصْرِ يعني كالبناء العظيم ونحوه قيل هي أصول الشجر، والنخل العظام واحدتها قصرة وسئل ابن عباس عن قوله، تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ فقال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك ودونه وندخرها للشتاء، وكنا نسميها القصر. [سورة المرسلات (77): الآيات 33 الى 48] كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) كَأَنَّهُ يعني الشرر جِمالَتٌ جمع الجمال، وقال ابن عباس: هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الجمال (صفر) جمع أصفر يعني أن لون ذلك الشرر أصفر وأنشد بعضهم: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى وقيل الصفر هنا معناه الأسود لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة، وقيل هي قطع النحاس، والمعنى أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ يعني بحجة تنفعهم قيل هذا في بعض مواطن القيامة ومواقفها، وذلك لأن في بعضها يتكلمون وفي بعضها يختصمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يؤذن واختير ذلك لأن رؤوس الآي بالنون فلو قال فيتعذروا لم يوافق الآيات، والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع، والمعنى لا يكون إذن واعتذار قال الجنيدي: أي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه. فإن قلت قد توهم أن لهم عذرا، ولكن قد منعوا من ذكره. قلت ليس لهم عذر في الحقيقة لأنه قد تقدم الإعذار والإنذار في الدّنيا فلم يبق لهم عذر في الآخرة، ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا أن لهم عذرا فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يعني أنه لما تبين إنه لا عذر لهم، ولا حجة فيما أتوا به من الأعمال السيئة، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عنهم لا جرم قال في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ يعني بين أهل الجنة وأهل النار، وقيل هو الفصل بين العباد

[سورة المرسلات (77): الآيات 49 إلى 50]

في الحقوق والمحاكمات جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ يعني مكذبي هذه الأمة والذين كذبوا أنبياءهم من الأمم الماضية. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بها لأنفسكم فاحتالوا وهم يعلمون أن الحيل يومئذ منقطعة لا تنفع وهذا في نهاية التوبيخ والتقريع فلهذا عقبة بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الشرك فِي ظِلالٍ جمع ظل وهو ظل الأشجار وَعُيُونٍ أي في ظلهم عيون ماء وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتلذذون بها كُلُوا وَاشْرَبُوا أي ويقال لهم كلوا واشربوا، وهذا القول يحتمل أن يكون من جهة الله تعالى بلا واسطة، وما أعظمها من نعمة أو يكون من جهة الملائكة على سبيل الإكرام هَنِيئاً أي خالص اللّذة لا يشوبه تنغيص بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الطاعات إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قيل المقصود منه تذكير الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل ذلك الخير العظيم. فلما لم يفعلوا ذلك وقعوا في قوله. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قوله عز وجل: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا يقول الكفار مكة كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا إلى منتهى آجالكم، وهذا وإن كان ظاهر اللفظ أمرا إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي مشركون بالله مستحقون للعقاب لا جرم أتبعه بقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي وإذا قيل لهم صلوا مع محمد وأصحابه لا يصلون فعبر عن الصلاة بلفظ الركوع لأنه ركن من أركانها وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. [سورة المرسلات (77): الآيات 49 الى 50] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بعد نزول القرآن إذا لم يؤمنوا به فبأي شيء يؤمنون والله أعلم.

سورة النبأ

سورة النبأ وتسمى سورة عم يتساءلون والتساؤل مكية وهي أربعون آية ومائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) قوله عز وجل: عَمَّ أصله عن ما يَتَساءَلُونَ عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام، ومعناه التفخيم كقولك، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به، وهم المؤمنون ومن مكذب به، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن كَلَّا هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم، والمعنى ليس الأمر كما قالوا سَيَعْلَمُونَ أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وعيد على أثر وعيد، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب، والثواب، والعقاب فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا وبساطا لتستقر عليها الأقدام وَالْجِبالَ أَوْتاداً يعني للأرض حتى لا تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكورا وإناثا. [سورة النبإ (78): الآيات 9 الى 18] وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله، ومع ذلك تحصل الراحة، وأصل السبت القطع، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في

[سورة النبإ (78): الآيات 19 إلى 25]

الأعمال وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون، ولهذا سمي الليل لباسا على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هربا من عدو ونحو ذلك. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي سببا للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني الشمس مضيئة منيرة، وقيل الوهاج الوقاد، وقيل جعل في الشمس حرارة ونورا والوهج يجمع النور والحرارة وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني الرياح التي تعصر السحاب. وهي رواية عن ابن عباس: وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء، أي وأنزلنا بالمعصرات، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث، وقيل المعصرات السّموات، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا مدرارا متتابعا يتلو بعضه بعضا، ومنه الحديث «أفضل الحج العج والثج»، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها وَنَباتاً أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي الحساب كانَ مِيقاتاً أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتا يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يعني لنفخة الأخيرة فَتَأْتُونَ أَفْواجاً يعني زمرا زمرا من كل مكان للحساب. [سورة النبإ (78): الآيات 19 الى 25] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي عن وجه الأرض فَكانَتْ سَراباً أي هباء منبثا كالسراب في عين الناظر إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أي طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس «إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة»، وقيل كانت مرصادا أي معدة لهم، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم لِلطَّاغِينَ أي الكافرين مَآباً أي مرجعا يرجعون إليها لابِثِينَ فِيها أي في جهنم أَحْقاباً جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقابا. قلت ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما روي عن الحسن قال: إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال لابثين فيها أحقابا، فو الله ما

[سورة النبإ (78): الآيات 26 إلى 37]

هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال: «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا». الوجه الثاني: أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية، والحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها. الوجه الثالث: أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً قال ابن عباس: البرد النوم وقيل بردا أي روحا وراحة، وقيل لا يذوقون بردا ينفعهم. وَلا شَراباً أي يغنيهم عن عطش إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً أي لكن يشربون حميما قيل هو الصفر المذاب، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقا قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده، وقيل هو صديد أهل النار. [سورة النبإ (78): الآيات 26 الى 37] جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) جَزاءً وِفاقاً أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي التي جاءت بها الأنبياء، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب كِذَّاباً، أي تكذيبا قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير وَكُلَّ شَيْءٍ أي من الأعمال أَحْصَيْناهُ أي بيناه وأثبتناه كِتاباً أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علما لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا فَذُوقُوا أي يقال لهم ذوقوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه. قوله عز وجل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي فوزا أي نجاة من العذاب، وقيل فوزا بما طلبوه من نعيم الجنة، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعا لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم. ثم فسره فقال حَدائِقَ جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون وَأَعْناباً التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب وَكَواعِبَ جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن أَتْراباً يعني مستويات في السن وَكَأْساً دِهاقاً قال ابن عباس: مملوءة مترعة، وقيل متتابعة، وقيل صافية لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم لَغْواً أي باطلا من الكلام وَلا كِذَّاباً أي تكذيبا والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضا ولا ينطقون به جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حسابا أي كافيا وافيا، وقيل حسابا يعني كثيرا، وقيل جزاء بقدر أعمالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

[سورة النبإ (78): الآيات 38 إلى 40]

وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، وقيل لا يملكون منه خطابا أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم. [سورة النبإ (78): الآيات 38 الى 40] يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل هو جبريل عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس: الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوفا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون من عظم خلقه مثلهم، وقال ابن مسعود: الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا وحده، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفا والملائكة صفا، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة لا يَتَكَلَّمُونَ يعني الخلق كلهم إجلالا لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي في الكلام وَقالَ صَواباً أي حقا في الدنيا وعمل به، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرّحمن في الشفاعة له، وذلك الشخص ممن كان يقول صوابا في الدنيا، وهو لا إله إلا الله ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي سبيلا يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه نَّا أَنْذَرْناكُمْ أي خوفناكم في الدنياذاباً قَرِيباً أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ يعني من خير أو شر مثبتا في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة. يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً قال عبد الله بن عمرو «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها. فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا» وقيل يقول الله عز وجل للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا ترابا، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم، وكنت اليوم ترابا وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا ترابا فيعودون ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا، وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير، والرحمة، قال يا ليتني كنت ترابا يعني متواضعا في طاعة الله في الدنيا، ولم أكن جبارا متكبرا، وقيل إن الكافر ها هنا هو إبليس، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة النازعات

سورة النازعات مكية وهي ست وقيل خمس وأربعون آية ومائة وسبع وتسعون كلمة وسبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات هل هي صفات لشيء واحد أم لأشياء مختلفة على أوجه واتفقوا على أن المراد بقوله فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً وصف لشيء واحد وهم الملائكة: الوجه الأول: في قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم. كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، والغرق من الإغراق أي، والنازعات إغراقا وقال ابن مسعود: «إن ملك الموت، وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء» وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً الملائكة تنشط نفس المؤمن أي تسلها سلّا رفيقا فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وإنما خص النزع بنفس الكافر والنشط بنفس المؤمن، لأن بينهما فرقا فالنزع جذب بشدة والنشط جذب برفق، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة، وقيل هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه. يقال له سابح فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وقيل هم الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. الوجه الثاني: في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني النفس حين تنزع من الجسد، فتغرق في الصدر ثم تخرج وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، قال ابن عباس: هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة، وذلك لأنه يعرض عليه مقعده في الجنة قبل أن يموت وقال علي بن أبي طالب: هي أرواح الكفار تنشط بين الجلد، والأظفار حتى تخرج من أفواههم بالكرب والغم. [سورة النازعات (79): الآيات 3 الى 7] وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني أرواح المؤمنين حين تسبح في الملكوت فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني استباقها إلى الحضرة المقدسة. الوجه الثالث: في قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، يعني النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، يعني النجوم

[سورة النازعات (79): الآيات 8 إلى 14]

والشمس والقمر يسبحون في الفلك. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. الوجه الرابع: في قوله تعالى وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. يعني خيل الغزاة تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها وهي الناشطات نشطا لأنها تخرج بسرعة إلى ميدانها، وهي السابحات في جريها، وهي السابقات سبقا لاستباقها إلى الغاية. الوجه الخامس: في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الغزاة حين تنزع قسيها في الرمي فتبلغ غاية المد وهو قوله غرقا، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، أي السّهام في الرمي وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني الخيل والإبل حين يخرجها أصحابها إلى الغزو. الوجه السادس: ليس المراد بهذه الكلمات شيئا واحدا، فقوله والنازعات يعني ملك الموت ينزع النفوس غرقا حتى بلغ بها الغاية، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني النفس تنشط من القدمين بمعنى تجذب، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني السفن، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني مسابقة نفوس المؤمنين إلى الخيرات والطاعات. أما قوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، فأجمعوا على أنهم الملائكة قال ابن عباس: هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله عز وجل: العمل بها وقال عبد الرّحمن بن سابط يدبر الأمر في الدنيا أربعة أملاك جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، واسمه عزرائيل، فأما جبريل فموكل بالرّياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنّبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى أقسم الله بهذه الأشياء لشرفها، ولله أن يقسم بما يشاء من خلقه، أو يكون التقدير، ورب هذه الأشياء، وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن، ولتحاسبن، وقيل جوابه «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وقيل هو قوله: [سورة النازعات (79): الآيات 8 الى 14] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني النفخة الأولى يتزلزل ويتحرك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلق تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، وقال قتادة: هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله عز وجلّ وقيل الرّاجفة التي تزلزل الأرض، والجبال والرادفة التي تشق السماء، وقيل الراجفة القيامة والرّادفة البعث يوم القيامة روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذهب ربع اللّيل قام وقال: أيّها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه. قوله عز وجل: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي خافقة قلقة مضطربة، وقيل وجله زائلة عن أماكنها أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها خاشعة ذليلة، والمراد بها لكفار بدليل قوله تعالى: يَقُولُونَ يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون بعد الموت. أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يعني أنرد إلى أول الحال، وابتداء الأمر فنصير أحياء بعد الموت كما كنا أول مرة والعرب تقول رجع فلان في حافرته، أي رجع من حيث جاء فالحافرة عنده اسم لابتداء الشيء وأول الشيء ويقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه الذي جاء منه يحفره بمشيئته، فحصل بأثر قدميه حفر فهي محفورة في الحقيقة، وقيل الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم سميت حافرة لأنها يستقر عليها الحافر، والمعنى أإنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها، وقيل الحافرة النار أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي بالية وقرئ ناخرة وهما بمعنى، وقيل الناخرة المجوفة التي يمر فيها الريح

[سورة النازعات (79): الآيات 15 إلى 27]

فتنخر أي توصت قالُوا يعني المنكرين للبعث إذا عاينوا أهوال القيامة تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي رجعة غابنة يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت. فَإِنَّما هِيَ يعني النفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة يجمعون بها جميعا فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض سميت ساهرة لأن عليها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل هي التي كثر الوطء عليها كأنها سهرت، والمعنى أنهم كانوا في بطن الأرض. فلما سمعوا الصيحة صاروا على وجهها، وقيل هي أرض الشام وقيل أرض القيامة، وقيل هي أرض جهنم. [سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 27] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) قوله عز وجل: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يا محمد وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم شق عليه حين كذبه قومه، فذكر له قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه كان يتحمل المشاق من قومه ليتأسى به إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً هو اسم واد بالشام عند الطور اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي علا وتكبر وكفر بالله فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي تتطهر من الشّرك والكفر، وقيل معناه تسلم وتصلح العمل وقال ابن عباس: تشهد أن لا إله إلا الله وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فَتَخْشى يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه فَأَراهُ أي أرى موسى فرعون الْآيَةَ الْكُبْرى يعني اليد البيضاء والعصا فَكَذَّبَ يعني فرعون بأنها من الله وَعَصى أي تمرد وأظهر التجبر ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الإيمان يَسْعى يعمل الفساد في الأرض فَحَشَرَ أي فجمع قومه وجنوده فَنادى أي لما اجتمعوا فَقالَ يعني فرعون لقومه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي لا رب فوقي، وقيل أراد أن الأصنام أرباب وهو ربها وربهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي عاقبة فجعله عبرة لغيره بأن أغرقه في الدنيا ويدخله النار في الآخرة، وقيل أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون وهما قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى أي يخاف الله عز وجل ثم عاتب منكري البعث فقال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها معناه أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السّماء عندكم في تقديركم. فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد، لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها وعظم أحوالها كان يسيرا فبين تعالى: أن خلق السماء أعظم، وإذا كان كذلك كان خلقكم بعد الموت أهون على الله تعالى: فكيف تنكرون ذلك مع علمكم بأنه خلق السموات والأرض ولا تنكرون ذلك. ثم إنه تعالى ذكر كيفية خلق السّماء والأرض فقال تعالى:

[سورة النازعات (79): الآيات 28 إلى 44]

[سورة النازعات (79): الآيات 28 الى 44] رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) رَفَعَ سَمْكَها يعني علو سمتها، وقيل رفعها بغير عمد فَسَوَّاها أي أتقن بناءها، فليس فيها شقوق، ولا فطور، وَأَغْطَشَ أي أظلم لَيْلَها والغطش الظلمة وَأَخْرَجَ أي وأظهر وأبرز ضُحاها أي نهارها، وإنما عبر عن النهار بالضحى لأنه أكمل أجزاء النهار في النور، والضوء، وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان بسبب غروب الشمس وطلوعها، وهي في السماء ثم وصف كيفية خلق الأرض. فقال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها ومدها قال أمية بن أبي الصلت: دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر فإن قلت ظاهر هذه الآية، يقتضي أن الأرض خلقت بعد السّماء بدليل قوله تعالى بَعْدَ ذلِكَ وقد قال تعالى: في حم السّجدة ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فكيف الجمع بين الآيتين وما معناهما. قلت خلق الله الأرض أولا مجتمعة، ثم سمك السماء ثانيا، ثم دحا الأرض بمعنى مدها وبسطها. ثالثا، فحصل بهذا التفسير الجمع بين الآيتين، وزال الإشكال قال ابن عباس: خلق الله الأرض بأقواتها، من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقيل معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي مع ذلك أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أي فجر من الأرض عيونها، ومرعاها أي رعيها، وهي ما يأكله النّاس، والأنعام واستعير الرعي للإنسان على سبيل التّجوز. وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي الذي أخرج من الأرض هو بلغة لكم ولأنعامكم. قوله عز وجل: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يعني النّفخة الثانية، التي فيها البعث، وقيل الطامة القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتعلو عليه، والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمل في الدنيا من خير، أو شر. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى يعني أنه ينكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق فَأَمَّا مَنْ طَغى أي كفر وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي لمن هذه صفته وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي المحارم التي يشتهيها وقيل هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه بين يديه جلّ جلاله للحساب فيتركها لذلك فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي لمن هذه صفته. قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ أي يا محمد عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى ظهورها وقيامها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي لست في شيء من علمها وذكراها حتى تهتم لها وتذكر وقتها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها لا يعلم متى تقوم الساعة إلا هو، وقيل معناه فيم إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السّؤال، ثم قال أنت يا محمد من ذكراها، أي من علامتها، لأنك آخر الرّسل، وخاتم الأنبياء، فكفاهم ذلك دليلا على دنوها، ووجوب الاستعداد لها. [سورة النازعات (79): الآيات 45 الى 46] إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي إنما ينفع إنذارك من يخافها. كَأَنَّهُمْ يعني الكفار يَوْمَ يَرَوْنَها أي يعاينون يوم القيامة. لَمْ يَلْبَثُوا أي في الدنيا، وقيل في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها. فإن قلت العشية ليس لها ضحى فما معنى قوله أَوْ ضُحاها؟ قلت قيل إن الهاء والألف صلة، والمعنى لم يلبثوا إلا عشية، أو ضحى، وقيل إضافة الضّحى إلى العشية، إضافة إلى يومها، كأنه قال: إلا عشية أو ضحى يومها. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة عبس

سورة عبس مكية وهي إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثون وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة عبس (80): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) قوله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّى أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى يعني ابن أم مكتوم، واسمه عمرو، وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديما بمكة، وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وأبي بن خلف، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكرر النّداء، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقطعه كلامه، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان، والعبيد، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك يكرمه إذا رآه، ويقول مرحبا بمن عاتبني الله فيه ويقول له هل لك من حاجة، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين، وقيل قتل شهيدا بالقادسية قال أنس: رأيته يوم القادسية، وعليه درع ومعه راية سوداء، عن عائشة رضي الله عنها قالت «أنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يقول يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأسا فيقول لا ففي هذا أنزلت» أخرجه التّرمذي، وقال حديث غريب وَما يُدْرِيكَ أي أي شيء يجعلك داريا لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك. [سورة عبس (80): الآيات 4 الى 15] أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي الموعظة أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما له من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتعرض له، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا يؤمن، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم

[سورة عبس (80): الآيات 16 إلى 25]

وَهُوَ يَخْشى أي الله عز وجل فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل وتعرض عنه كَلَّا أي لا تفعل بعدها مثلها إِنَّها يعني الموعظة وقيل آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي موعظة للخلق فَمَنْ شاءَ أي من عباد الله ذَكَرَهُ أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن، ومحله عنده فقال عز وجل فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني القرآن في اللّوح المحفوظ مَرْفُوعَةٍ أي رفيعة القدر عند الله، وقيل مرفوعة في السّماء السابعة مُطَهَّرَةٍ يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس: يعني كتبة، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير، ثم أثنى عليهم. بقوله: [سورة عبس (80): الآيات 16 الى 25] كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) كِرامٍ أي هم كرام على الله بَرَرَةٍ أي مطيعين له جمع بار. قوله عز وجل: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر وطرد ما أَكْفَرَهُ أي أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب، وقيل في أمية بن خلف، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر، وقيل الآية عامة في كل كافر، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن الله تعالى: خالقه منه فقال تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ لفظه استفهام ومعناه التّقرير، ثم فسر ذلك فقال تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني خلقه أطوارا نطفة ثم علقة، ثم مضغة، إلى آخر خلقه، وقيل قدره يعني خلق رأسه، وعينيه ويديه، ورجليه على قدر ما أراده ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعل له قبرا يوارى فيه، وقيل جعله مقبورا، ولم يجعله ملقى للسّباع، والوحوش والطّيور، أو أقبره معناه ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. ثم قال تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أحياه بعد موته للبعث، والحساب وإنما قال تعالى ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة الله تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم كَلَّا ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وإنكار البعث والحساب لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره به ربه، ولم يؤد ما فرض عليه، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه، ويسره ودبره له وجعله سببا لحياته، وقيل مدخل طعامه ومخرجه. ثم بين ذلك فقال تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني المطر. [سورة عبس (80): الآيات 26 الى 37] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي بالنبات فَأَنْبَتْنا فِيها أي بذلك الماء حَبًّا يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان وَعِنَباً يعني أنه غذاء من وجه، وفاكهة من وجه، فلهذا أتبعه الحب وَقَضْباً يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب، أي يقطع في كل الأيام، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب.

[سورة عبس (80): الآيات 38 إلى 42]

وَزَيْتُوناً وهو ما يعصر منه الزيت وَنَخْلًا وَحَدائِقَ جمع حديقة غُلْباً يعني غلاظ الأشجار، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض. وقال ابن عباس: طوالا وَفاكِهَةً يعني جميع ألوان الفاكهة وَأَبًّا يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام، وقيل فاكهة ما يأكله الناس، والأب ما يأكله الدّواب. وقال ابن عباس: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس. والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله: وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (خ) عن أنس أن عمر قرأ وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال فما الأب، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه. مَتاعاً لَكُمْ يعني الفواكه والحب، والعشب منفعة لكم وَلِأَنْعامِكُمْ ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه، والمراد من الفرار التّباعد، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحشرون حفاة عراة غرلا، فقالت امرأة أيبصر أحدنا، أو يرى بعضنا عورة بعض قال: يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح ولما ذكر الله تعالى حال القيامة، وأهوالها بين حال المكلفين، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء. فوصف السّعداء بقوله تعالى: [سورة عبس (80): الآيات 38 الى 42] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء، وقيل مسفرة من قيام اللّيل، وقيل من أثر الوضوء، وقيل من الغبار في سبيل الله ضاحِكَةٌ أي عند الفراغ من الحساب مُسْتَبْشِرَةٌ أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة الله، ورضوانه. ثم وصف الأشقياء فقال تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي تعلوها، وتغشاها ظلمة، وكسوف وقال ابن عباس: تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء أُولئِكَ أي الذين صنع بهم هذا هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ جميع كافر وفاجر والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة التكوير

سورة التكوير مكية وهي تسع وعشرون آية ومائة، وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثون حرفا. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» أخرجه الترمذي. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) قوله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس: أظلمت، وغورت، وقيل اضمحلت، وقيل لفت كما تلف العمامة، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها، قال ابن عباس: يكور الله الشّمس، والقمر، والنّجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا. (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة» قيل إن الشّمس، والقمر، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سببا لازدياد الحر في جهنم. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تناثرت من السماء، وسقطت على الأرض. قال الكلبي وعطاء: تمطر السّماء يومئذ نجوما، فلا يبقى نجم إلا وقع وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي عن وجه الأرض، فصارت هباء منثورا. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها، واحدتها عشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت، وتركت هملا بلا راع أهملها أهلها، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة. وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني من دواب البر حُشِرَتْ أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض. وقال ابن عباس: حشرها موتها قال: وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال ابن عباس: أوقدت فصارت نارا تضطرم، وقيل فجر بعضها في بعض العذاب، والملح حتى صارت البحار كلها بحرا واحدا وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار، وقيل سجرت أي يبست، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة. قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت، واضطربت، وفزعت الإنس، والجن، واختلطت الدّواب، والطّير، والوحش، وماج بعضهم في بعض. فذلك قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ

[سورة التكوير (81): الآيات 8 إلى 13]

فحينئذ تقول الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فينطلقون إلى البحر، فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم، وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا، وستة في الآخرة، وهي ما ذكر بعد هذه. وهو قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار، وقيل ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله، وقيل زوّجت النّفوس بأعمالها، وقيل زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين، وقيل معنى زوّجت ردت الأرواح إلى الأجساد. [سورة التكوير (81): الآيات 8 الى 13] وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ يعني الجارية التي دفنت، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيئدها، أي يثقلها حين تموت، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. تدفن البنات حية مخافة العار، والحاجة، وروي عن ابن عباس قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإذا ولدت غلاما حبسته، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف، أو شعر وتركها ترعى الإبل، والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر بئرا في الصّحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، فإذا نظرت دفعها من ورائها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الوائدة، والموءودة في النّار» أخرجه أبو داود، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال: ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ معناه تسأل الموءودة، فيقال لها، بأي ذنب قتلت، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها. لأنها قتلت بغير ذنب. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي نزعت، وطويت، وقيل قلعت كما يقلع السقف، وقيل كشفت، وأزيلت عمن فيها. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت لأعداء الله تعالى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت لأولياء الله. [سورة التكوير (81): الآيات 14 الى 22] عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا. قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ لا زائدة والمعنى أقسم، وقد تقدم ذلك في قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ يعني النّجوم تبدو بالليل، فتظهر، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب، وقيل هي النّجوم الخمسة زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد،

[سورة التكوير (81): الآيات 23 إلى 29]

تخنس في مجاريها، أي ترجع وراءها في الفلك، وتنكس، أي تستر وقت اختفائها، وقيل إنها تخنس، أي تتأخر عن مطالعها، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار، وقيل هي الظباء، وهي رواية عن ابن عباس، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل بظلامه وقيل أدبر، والعسعسة رقة الظّلام، وذلك يكون في طرف الليل. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر. وفي تنفسه قولان أحدهما: أن في إقبال الصبح روحا، ونسيما فجعل ذلك نفسا على المجاز الثاني، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون، فإذا تنفس وجد راحة، فكأنه تخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى: إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن الله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود، وحملها على جناحه، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وأنه صاح صيحة بثمود، فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي في المنزلة والجاه مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات تطيعه الملائكة، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله أَمِينٍ يعني على وحي الله تعالى إلى أنبيائه وَما صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يخاطب كفار مكة بِمَجْنُونٍ وهذا أيضا من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى الله عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه. [سورة التكوير (81): الآيات 23 الى 29] وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) وَلَقَدْ رَآهُ يعني رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال: لن تقوى على ذلك قال، بلى قال، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح، قال لا يسعني ذلك، قال: فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات، قال: لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق، والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل عن صورته، وضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته» وَما هُوَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السّماء، وما اطلع عليه مما كان غائبا عن علمه من القصص والأنباء. بِضَنِينٍ قرأ بالظاء، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة، وقرئ بضنين بالضاد، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب، ولا يبخل به عليكم، ويخبركم به، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وهو أجرة الكاهن، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفى الله عنه تلك التهمة، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب. وَما هُوَ يعني

القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ يعني إن القرآن ليس بشعر، ولا كهانة كما قالت قريش، وقيل كانوا يقولون إن شيطانا يلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك عنه، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأين تعدلون عن القرآن، وفيه الشفاء، والهدى، والبيان، وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم. إِنْ هُوَ يعني ما في القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي يتبع الحق، ويقيم عليه، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته فقال تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أعلمهم الله أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله، وتوفيقه، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله تعالى ولا شرا إلا بخذلانه، ومشيئته والله تعالى أعلم.

سورة الانفطار

سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) قوله عز وجل: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح، فصارت بحرا واحدا، وقيل معنى فجرت فاضت. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي بحثرت، وقلب ترابها وبعث من فيها منه الموتى أحياء. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يعني علمت في ذلك اليوم ما قدمت من عمل صالح، أو سيئ، وأخرت بعدها من حسنة أو سيئة، وقيل ما قدمت من الصّدقات وأخرت من الزّكوات، وهذه أحوال يوم القيامة. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي ما خدعك، وسول لك الباطل حتى صنعت ما صنعت، وضيعت ما أوجب عليك، والمعنى ماذا أمنك من عقابه، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل في أبي الشّريق، واسمه أسيد بن كلدة، وقيل كلدة بن خلف، وكان كافرا ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يعاقبه الله وأنزل الله هذه الآية، وقيل الآية عامة في كل كافر وعاص، يقول ما الذي غرك، قيل غره حمقه، وجهله وقيل تسويل الشّيطان له، وقيل غره عفو الله عنه حيث لم يعاجله بالعقوبة في أول مرة بربك الكريم، أي المتجاوز عنك، فهو بكرمه لك لم يعاجلك بعقوبته بل بسط لك المدة لرجاء التّوبة. قال ابن مسعود «ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة. فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم! ماذا عملت؟ فيما علمت يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين»، وقيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة فيقول لك يا ابن آدم ما غرك بربك الكريم ماذا كنت تقول. قال: أقول غرني ستورك المرخاة، وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه، وقال ما غرك بي أقول غرني بربك بي سالفا وآنفا، وقال أبو بكر الوراق لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت غرني كرم الكريم، وقال بعض أهل الإشارة. إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه، وصفاته كأنه لقنه حجته في الإجابة حتى يقول غرني كرم الكريم. [سورة الانفطار (82): الآيات 7 الى 15] الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) الَّذِي خَلَقَكَ أي أوجدك من العدم إلى الوجود فَسَوَّاكَ أي جعلك سويا سالم الأعضاء، تسمع

[سورة الانفطار (82): الآيات 16 إلى 19]

وتبصر فَعَدَلَكَ أي عدل خلقك في مناسبة الأعضاء فلم يجعل بعضها أطول من بعض، وقيل معناه جعلك قائما معتدلا حسن الصّورة، ولم يجعلك كالبهيمة المنحنية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم، وجاء في الحديث «إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ»، وقيل معناه إن شاء ركبك في صورة إنسان، وإن شاء في صورة دابة أو حيوان، وقيل في أي صورة ما شاء ركبك من الصور المختلفة بحسب الطول، والقصر، والحسن، والقبح والذكورة، والأنوثة، وفي هذه دلالة على قدرة الصانع المختار القادر. وذلك أنه لما اختلفت الهيئات، والصفات دل ذلك على كمال القدرة، واتساع الصنعة، وأن المدبر المختار هو الله تعالى. قوله عز وجل: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي بيوم الحساب والجزاء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يعني رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كِراماً أي على الله كاتِبِينَ أي يكتبون أقوالكم وأعمالكم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعني من خير أو شر. قوله عز وجل إِنَّ الْأَبْرارَ يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء ما افترض الله عليهم، واجتناب معاصيه. لَفِي نَعِيمٍ يعني نعيم الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ روي أن سليمان بن عبد الملك قال: لأبي حازم المزني ليت شعري ما لنا عند الله، فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله، قال: أين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء. [سورة الانفطار (82): الآيات 16 الى 19] وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي عن النّار ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ قيل المخاطب بذلك هو الكافر، وهو على وجه الزّجر له، وقيل هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: والمعنى أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ التكرير لتعظيم ذلك اليوم، وتفخيم شأنه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي لا تملك نفس كافرة لنفس كافرة شيئا من المنفعة وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يعني أنه لم يملك الله في ذلك أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا، والله أعلم.

سورة المطففين

سورة المطففين مدنية في قول ومكية في قول: وقيل فيها ثمان آيات مكية وهي من قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخرها، وقيل فيها آية مكية، وهي قوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقيل إنها نزلت بين مكة، والمدينة زمن الهجرة، وهي ست وثلاثون آية ومائة وتسع وستون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) قوله عز وجل: وَيْلٌ أي قبح وهي كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال ويل له وويل عليه، وقيل ويل اسم واد في جهنم لِلْمُطَفِّفِينَ يعني الذين ينقصون المكيال والميزان لأنه لا يكاد المطفف يسرق في الكيل والوزن، إلا الشيء اليسير الطّفيف قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلا. فأنزل الله عز وجل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل، وقيل لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وبها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية وجعل الويل للمطففين ثم بين من هم. فقال تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ يعني أنهم إذا اكتالوا من النّاس، ومن وعلى يتعاقبان، وقيل معناه إذا اكتالوا من النّاس، أي اشتروا شيئا استوفوا عليهم لأنفسهم الكيل والوزن. [سورة المطففين (83): الآيات 3 الى 7] وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يعني وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للناس كما يقال نصحتك ونصحت لك. يُخْسِرُونَ أي ينقصون الكيل والوزن وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع إلى غيره ناقصا، ويتناول الوعيد القليل والكثير لكن إذا لم يتب منه فإن تاب منه ورد الحقوق إلى أهلها قبلت توبته ومن فعل ذلك، وأصر عليه كان مصرا على كبيرة من الكبائر، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والذرع، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن، قال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، وقال قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك، قال الفضيل: بخس الميزان سواد يوم القيامة. أَلا يَظُنُّ أي ألا يعلم ويستيقن أُولئِكَ أي الذين يفعلون هذا الفعل، وهم المطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ يعني من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمره وجزائه وحسابه (ق) عن نافع «أن ابن عمر تلا أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، قال يقوم أحدهم في

[سورة المطففين (83): الآيات 8 إلى 14]

رشحه إلى أنصاف أذنيه»، وروي مرفوعا عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «تدنو الشّمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل» زاد التّرمذي أو ميلين «قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض، أو الميل ما تكتحل به العين قال فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديه إلى فيه» قوله عز وجل: كَلَّا قيل إنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من بخس الكيل والميزان، فليرتدعوا عنه فعلى هذا تم الكلام هنا، وقيل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ أي الذي كتبت فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال ابن عمر هي الأرض السابعة السفلى، وفيها أرواح الكفار وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله عز وجل إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين رق، فليتم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وقيل هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها فتقلب، ويجعل كتاب الفجار تحتها، قال وهب: هي آخر سلطان إبليس وجاء في الحديث «الفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب في جهنم مفتوح»، وقيل معناه لفي سجين لفي خسار وضلال، وقيل إنه مشتق من السجن، ومعناه لفي حبس وضيق شديد. [سورة المطففين (83): الآيات 8 الى 14] وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك، وقيل إنما قال ذلك تعظيما لأمر سجين كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس هذا تفسيرا للسجن وإنما هو بيان للكتاب المذكور في قوله إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ والمعنى إن كتاب الفجار مرقوم أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثّوب لا ينسى ولا يمحى حتى يحاسبوا به، ويجازوا عليه، وقيل مرقوم رقم عليه بشر كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر، وقيل مرقوم أي مختوم وهو بلغة حمير وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قيل إنه متصل بقوله يوم يقوم النّاس لرب العالمين ومعنى الآية ويل لمن كذب بهذا اليوم، وقيل معناه مرقوم بالشّقاوة، ثم قال ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم من ذلك الكتاب المرقوم عليهم بالشقاوة الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي بيوم القيامة إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوز عن نهج الحق أَثِيمٍ هو مبالغة في الآثم وهو المرتكب الإثم والمعاصي إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأولين. قوله عز وجل: كَلَّا أي لا يؤمن ثم استأنف فقال بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن العبد إن أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي قال الله: بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح وأصل الرّان الغلبة ومعنى الآية أن الذّنوب والمعاصي غلبت على قلوبهم وأحاطت بها، وقيل هو الذنب على الذّنب حتى يميت القلب وقال ابن عباس: ران على قلوبهم طبع عليها، وقيل الرين أن يسود القلب من الذّنوب، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرّين والإقفال أشد من الطّبع وقيل الرّين التغطية، والمعنى أنه يغشى القلب شيء كالصدى فيغطيه فعند ذلك يموت القلب.

[سورة المطففين (83): الآيات 15 إلى 20]

[سورة المطففين (83): الآيات 15 الى 20] كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) كَلَّا قال ابن عباس يريد لا يصدقون وقيل معناه ليس الأمر كما يقولون إن لهم في الآخرة خيرا ثم استأنف فقال تعالى: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قيل عن كرامته ورحمته ممنوعون، وقيل إن الله لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهذا التّفسير فيه ضعف أما حمله على منع الكرامة والرّحمة فهو عدول عن الظّاهر بغير دليل، وكذا الوجه الثاني فإن من حجب عن الله فإن الله لا ينظر إليه نظر رحمة، ولا يزكيه والذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنهم محجوبون عن رؤية الله، وهذا هو الصّحيح واحتج بهذه الآية من أثبت الرّؤية للمؤمنين قالوا: لولا ذلك لم يكن للتّخصيص فائدة، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتّهديد للكفار، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمنين، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمنين قال الحسن: لو علم الزّاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدّنيا. وقيل كما حجبهم في الدّنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وسئل مالك عن هذه الآية، فقال: لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقال الشافعي في قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ دلالة على أن أولياء الله يرون الله جلّ جلاله وعنه كما حجب قوما بالسّخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبون عن الله يدخلون النّار. فقال عز من قائل ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي لداخلو النّار ثُمَّ يُقالُ أي تقول لهم الخزنة هذَا أي هذا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يعني في الدنيا كَلَّا أي ليس الأمر كما يتوهمه الفجار من إنكار البعث، وقيل كلا أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه، ثم بين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ جمع علي من العلو، وقيل هو موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه وتقدم من حديث البراء المرفوع إن عليين في السّماء السابعة تحت العرش وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه، وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس في رواية عنه في الجنة، وقيل هي سدرة المنتهى، وقيل معناه علو بعد علو وشرف بعد شرف، وقيل هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظّمها الله وأعلاها. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تنبيها له على عظم شأنه كِتابٌ مَرْقُومٌ ليس تفسير العليين، والمعنى أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين فيه ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة، وقيل مكتوب فيه أعمالهم وعليون محل الملائكة وضده سجين، وهو محل إبليس وجنوده. [سورة المطففين (83): الآيات 21 الى 27] يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، أي يحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال: يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة لكرامة المؤمن. قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المطيعين لله لَفِي نَعِيمٍ يعني نعيم الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي الأسرة في الحجال يَنْظُرُونَ أي إلى ما أعد الله لهم من نعيم الجنة، وقيل ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النّار، وقيل ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يعني أنك إذا رأيتهم تعرف أنهم من أهل النعمة لما ترى على وجوههم من النّور والحسن والبياض، قيل النضرة في الوجه والسرور في

[سورة المطففين (83): الآيات 28 إلى 34]

القلب يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ يعني الخمر الصّافية الطّيبة البيضاء مَخْتُومٍ يعني ختم على ذلك الشراب ومنع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختمه الأبرار. فإن قلت قد قال في سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ والنهر لا يختم عليه فكيف طريق الجمع بين الآيتين، قلت يحتمل أن يكون المذكور في هذه الآية. في أوان مختوم عليها، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار، وإنما ختم عليها لشرفها ونفاستها خِتامُهُ مِسْكٌ أي طينته التي ختم عليه بها مسك بخلاف خمر الدّنيا فإن ختامها طين وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه، وعاقبته مسك، وقيل يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الرّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عز وجل، ليحصل لهم هذا الشّراب المختوم بالمسك وقيل أصله من الشيء النّفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن ويبخل وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أي شراب ينصب عليهم من غرفهم ومنازلهم وقيل يجري في الهواء مسنما فيصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلأت أمسك وأصل هذه الكلمة من العلو ومنه سنام البعير لأنه أعلاه، وقيل هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف شراب أهل الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونه صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة، وسئل ابن عباس عن قوله من تسنيم فقال: هذا مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. [سورة المطففين (83): الآيات 28 الى 34] عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي منها وقيل يشربها الْمُقَرَّبُونَ أي صرفا وقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أشركوا يعني كفار قريش أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي أهل مكة كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي من عمار وخباب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين يَضْحَكُونَ أي منهم ويستهزئون بهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يعني مر المؤمنون الفقراء بالكفار الأغنياء يَتَغامَزُونَ يعني يتغامز الكفار والغمز الإشارة بالجفن والحاجب أي يشيرون إليها بالأعين استهزاء بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ يعني الكفار انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي معجبين بما هم فيه، وقيل ينقلبون بذكرهم كأنهم يتفكهون بحديثهم وَإِذا رَأَوْهُمْ يعني رأوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي هم في ضلال يأتون محمدا ويرون أنهم على شيء. قال الله عز وجل: وَما أُرْسِلُوا يعني المشركين عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين حافِظِينَ أي لأعمالهم والمعنى أنهم لم يوكلوا بحفظ أعمالهم قوله عز وجل: فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ وسبب هذا الضحك أن الكفار لما كانوا في الدّنيا يضحكون من المؤمنين لما هم فيه من الشدة والبلاء فلما أفضوا إلى الآخرة انعكس ذلك الأمر فصار المؤمنون في السرور والنّعيم وصار الكفار في العذاب والبلاء، فضحك المؤمنون من الكافرين لما رأوا حالهم وقال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النّار وهم فيها ويقال لهم اخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم فيفعل ذلك بهم مرارا والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم وقال كعب بين الجنة والنّار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه في الدّنيا من الكفار اطلع عليه من تلك الكوى وهو يعذب فيضحك منه فذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.

[سورة المطففين (83): الآيات 35 إلى 36]

[سورة المطففين (83): الآيات 35 الى 36] عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهو السرير ويتخذ في الحجلة وهي الكلة يزين بها البيت، وأرائك الجنة من الدر والياقوت يَنْظُرُونَ يعني إليهم وهم في النّار يعذبون قال الله تعالى هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي جوزي الكفار ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي بالمؤمنين من الاستهزاء والضحك وهذا الاستفهام بمعنى التقرير، وثوب، وأثيب بمعنى، قال أوس: سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق (مكية وهي خمس وعشرون آية ومائة وسبع كلمات وأربعمائة وثلاثون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) قوله عز وجل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ يعني عند قيام السّاعة وهي من علاماتها وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي سمعت أمر ربها بالانشقاق، وأطاعته من الأذن وهو الاستماع وَحُقَّتْ أي حق لها أن تطيع أمر ربها وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ يعني مد الأديم العكاظي وزيد في سعتها، وقيل سويت فلا يبقى فيها بناء ولا جبل وَأَلْقَتْ ما فِيها أي أخرجت ما في بطنها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ أي من ذلك الذي كان في بطنها من الموتى والكنوز وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ واختلفوا في جواب إذا فقيل جوابه محذوف تقديره إذا كان هذه الأشياء يرى الإنسان الثواب أو العقاب، وقيل جوابه يا أيّها الإنسان إنك كادح والمعنى إذا انشقت السّماء لقي كل كادح ما عمله وقيل جوابه وأذنت وحينئذ تكون الواو زائدة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي ساع إليه في عملك سعيا والكدح عمل الإنسان وجهده في الأمرين الخير والشّر، وقيل معناه عامل لربك عملا وقيل معناه إنك كادح في لقاء ربك وهو الموت، والمعنى أن هذا الكدح يستمر بك إلى الموت، وقيل معناه إنك تكدح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك. فَمُلاقِيهِ أي فملاق جزاء عملك. [سورة الانشقاق (84): الآيات 8 الى 17] فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سوف من الله واجب والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله، فيعرف بالطاعة، والمعصية ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز له عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة فيه على صاحبه، ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه، ولا الحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذرا، ولا حجة فيفتضح (ق) عن ابن أبي مليكة أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من حوسب عذب قال: فقلت، أو ليس يقول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا

[سورة الانشقاق (84): الآيات 18 إلى 21]

يسيرا قالت فقال إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني في الجنة من الحور العين والآدميات مَسْرُوراً أي بما أوتي من الخير والكرامة وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ يعني أنه تغل يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره، فيعطي كتابه بشماله من وراء ظهره، وقيل تخلع يده الشّمال فتخرج من وراء ظهره فيعطي بها كتابه فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يعني عند إعطائه كتابه بشماله من وراء ظهره يعلم أنه من أهل النّار فيدعو بالويل والهلاك، فيقول يا ويلاه يا ثبوراه وَيَصْلى سَعِيراً أي ويقاسي التهاب النّار وحرها إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً يعني باتباع هواه وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلينا ولن يبعث والحور الرجوع بَلى ليس الأمر كما ظن بل يحور إلينا، ويبعث ويحاسب إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي من يوم خلقه إلى أن يبعث قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ تقدم الكلام فَلا أُقْسِمُ في سورة القيامة. وأما الشّفق فقال مجاهد: هو النهار كله وحجته في ذلك أنه عطف عليه فيجب أن يكون المذكور أولا هو النهار فعلى هذا الوجه يكون القسم باللّيل والنهار اللذين فيهما معاش العالم وسكونه، وقيل هو ما بقي من النّهار وقال ابن عباس، وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشّمس، وهو مذهب عامة العلماء، وقيل هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة وهو مذهب أبي حنيفة وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضم ما كان منتشرا بالنهار من الخلق والدواب والهوام وذلك أن اللّيل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه، وقيل وما عمل فيه ويحتمل أن يكون ذلك تهجد العباد، فيجوز أن يقسم به. [سورة الانشقاق (84): الآيات 18 الى 21] وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع وتم نوره وذلك في الأيام البيض، وقيل استدار واستوى، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى لَتَرْكَبُنَّ قرئ بفتح الباء وهو خطاب الواحد والمعنى لتركبن يا محمد طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ يعني سماء بعد سماء وقد فعل الله ذلك معه ليلة أسري به، فأصعده سماء بعد سماء، وقيل درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى: وقيل معناه لتركبن حالا بعد حال (خ) عن ابن عباس قال: لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال هذا لنبيكم صلّى الله عليه وسلّم ومعنى هذا يكون لك الظفر والغلبة على المشركين حتى يختم لك بجميل العاقبة فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وقرئ لتركبن بضم الباء، وهو الأشبه ويكون خطاب الجمع والمعنى لتركبن أيّها النّاس حالا بعد حال وأمرا بعد أمر، وذلك في موقف القيامة تتقلب بهم الأحوال فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وقال ابن عباس يعني الشّدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، وقيل حال الإنسان حالا بعد حال رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم كهل ثم شيخ، وقيل معناه لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم. (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لتتبعن سنن من كان قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى قال فمن»، وقيل في معنى الآية إنه أراد به السّماء تتغير لونا بعد لون فتصير تارة وردة كالدّهان وتارة كالمهل وتنشق مرة وتطوي أخرى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بالبعث والحساب وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ يعني لا يصلون فعبر بالسّجود عن الصّلاة لأنه جزء منها، وقيل أراد به سجود التلاوة وهذه السّجدة أحد سجدات القرآن عند الشّافعي ومن وافقه (ق) عن رافع قال «صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد، فقلت ما هذا قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم فلا أزال

[سورة الانشقاق (84): الآيات 22 إلى 25]

أسجد فيها حتى ألقاه ولمسلم عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. [سورة الانشقاق (84): الآيات 22 الى 25] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ يعني بالقرآن والبعث وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ يعني يجمعون في صدورهم من التكذيب فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني على عنادهم وكفرهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير مقطوع ولا منقوص في الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة البروج

سورة البروج مكية وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلمات وأربعمائة وخمسة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البروج (85): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) قوله عز وجل: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ يعني البروج الاثني عشر وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب حكمة الباري جلّ جلاله، وهو سير الشّمس والقمر الكواكب فيها على قدر معلوم لا يختلف وقيل البروج والكواكب العظام سميت بروجا لظهورها وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يعني يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليوم الموعود يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشّاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه» أخرجه الترمذي وضعف أحد رواته من قبل حفظه وهذا قول ابن عباس والأكثرين أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد يوم التّروية، والمشهود يوم عرفة وإنما حسن القسم بهذه الأيام لعظمها وشرفها، واجتماع المسلمين فيها، وقيل الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة، وقيل الشّاهد هم الأنبياء والمشهود أي عليهم هم الأمم وقيل الشاهد هو الملك والمشهود أي عليه هو آدم وذريته، وقيل الشّاهد هذه الأمة ونبيها صلّى الله عليه وسلّم والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة، وقيل الشّاهد الأنبياء والمشهود له هو محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الأنبياء قبله شهدوا له بالنبوة وقوله، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها، وعظمها. وجواب القسم قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي لعن وقتل وقيل جوابه إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ والأخدود الشق المستطيل في الأرض. واختلفوا فيهم فروي عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى السّاحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى السّاحر ضربه، وإذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال اليوم أعلم الرّاهب أفضل أم الساحر فأخذ حجرا ثم قال اللهم إن كان أمر الرّاهب أحب إليك من أمر السّاحر، فاقتل هذه الدّابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها فمضى الناس، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني أنت أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك مبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ

فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي النّاس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك فآمن به فشفاه الله عز وجل فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك فقال ربي: فقال أو لك رب غيري قال ربي، وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام فجيء بالغلام، فقال له الملك أي بني إنه قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الرّاهب فجيء له بالرّاهب، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك، فقيل له ارجع عن دينك فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فقال: وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام ثلاثا، فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري ولا تقاعسي فإنك على الحق». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم. وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين، وفيه إنقاذ النفس من الهلاك والأكمه هو الذي خلق أعمى، والميشار بالياء وتخفيف الهمزة وروي بالنون وذروة الجبل بالضم والكسر أعلاه، ورجف تحرك واضطرب والقرقور بضم القاف الأولى السفينة الصغيرة وانكفأت انقلبت، والصّعيد هنا الأرض البارزة والسّكك الطّرق والأخدود الشّق العظيم في الأرض، وأقحموه أي ارموه وتقاعست أي تأخرت وكرهت الدخول في النار. وقال ابن عباس: «كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه يسلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك». وذكر نحو حديث صهيب وقال وهب بن منبه: إن رجلا كان قد بقي على دين عيسى، فوقع إلى نجران فأحبوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النّار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخدود وحرق اثني عشر ألفا ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق. وقال: محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر إن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها انبعثت دما، وإذا تركت ارتدت مكانها وفي

[سورة البروج (85): الآيات 5 إلى 10]

يده خاتم حديد فيه مكتوب ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه. وقال: سعيد بن جبير وابن أبزى لما انهزم أهل اسفندهار، قال: عمر بن الخطاب أيّ شيء يجري على المجوس من الأحكام، فإنهم ليسوا بأهل كتاب، فقال علي بن أبي طالب بلى قد كان لهم كتاب، وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم، فغلبت على عقله فوقع على أخته فلما ذهب عنه السكر ندم، وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت: المخرج منه أنّك تخطب الناس وتقول إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته. فقام خطيبا بذلك فقال إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات فقال الناس بأجمعهم معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به، ما جاءنا به من نبي، ولا أنزل علينا في كتاب، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا به فجرد لهم الأخدود، وأوقدوا فيها النيران وعرضهم عليها فمن أبى قذفه في النار ومن أجاب أطلقه. وروي عن علي قال كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي بعث من الحبشة إلى قومه ثم قرأ عليّ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ الآية، فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم الكفار، فقتل أصحابه وأخذ من انفلت منهم فأوثقوه ثم خدوا له أخدودا فملؤوها نارا، فمن تبع ذلك النبي رمي به في النار ومن تابعهم تركوه فجاؤوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت، فقال الصبي يا أماه قعي ولا تقاعسي وقيل كانت الأخدود ثلاثة واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس حرقوا بالنار فأما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي وأما التي بفارس فبختنصر ويزعمون أنهم أصحاب دانيال وأما التي باليمن فذو نواس يوسف فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهم قرآنا وأنزل في التي بنجران اليمن وذلك أن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة، فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحملهم بذلك على الصبر، وتحمل المكاره في الدين. [سورة البروج (85): الآيات 5 الى 10] النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) وقوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ، هو تعظيم لأمر تلك النار قال الربيع بن أنس نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بقبض أرواحهم، قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، أي جلوس عند الأخدود وَهُمْ يعني الملك الذي خد الأخدود وأصحابه عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم شُهُودٌ أي حضور وقيل يشهدون أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الصنم، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ قال ابن عباس ما كرهوا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، وقيل ما عابوا ولا علموا فيهم عيبا إلا إيمانهم بالله الْعَزِيزِ، يعني إن الذي يستحق العبادة هو الله العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يدافع، الْحَمِيدِ يعني الذي يستحق أن يحمد ويثنى عليه، وهو أهل لذلك وهو الله جل جلاله، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فهو المستحق للعبادة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي من أفعالهم بالمؤمنين. شَهِيدٌ وفيه وعد عظيم للمؤمنين ووعيد عظيم للكافرين. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا أي عذّبوا وأحرقوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بالنار ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر وفيه دليل على أنهم إذا تابوا وآمنوا يقبل منهم، ويخرجون من هذا الوعيد، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة، وأن توبة القاتل مقبولة، وأنهم إن لم يتوبوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ يعني لهم عذاب جهنم بكفرهم، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين، وقيل لهم عذاب الحريق في

[سورة البروج (85): الآيات 11 إلى 20]

الدنيا وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ارتفعت إليهم من الأخدود فأحرقتهم، ولهم عذاب جهنم في الآخرة ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال تعالى: [سورة البروج (85): الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يخلقهم أولا في الدنيا، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت ليجازيهم بأعمالهم في القيامة وَهُوَ الْغَفُورُ يعني لذنوب جميع المؤمنين. الْوَدُودُ أي المحب لهم، وقيل المحبوب أي يوده أولياؤه ويحبونه، وقيل يغفر ويود أن يغفر، وقيل هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة. ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه. الْمَجِيدُ قرئ بالرفع على أنه صفة لله تعالى لأن المجد من صفات التعالي والجلال، وذلك لا يليق إلا بالله تعالى. وقرئ المجيد بالكسر على أنه صفة للعرش أي للسرير العظيم إذ لا يعلم صفة العرش وعظمته إلا الله تعالى وقيل أراد حسنه فوصفه بالمجيد فقد قيل إن العرش أحسن الأجسام، ثم قال تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ يعني أنه لا يعجزه شيء ولا يمنع منه شيء طلبه، وقيل فعال لما يريد لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب، فهو يدخل أولياءه الجنة برحمته، لا يمنعه من ذلك مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر. هَلْ أَتاكَ أي قد أتاك حَدِيثُ الْجُنُودِ أي خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا على الأنبياء ثم بين من هم فقال تعالى: فِرْعَوْنَ يعني وقومه وَثَمُودَ وكانت قصتهم عند أهل مكة مشهورة بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قومك يا محمد. فِي تَكْذِيبٍ يعني لك وللقرآن كما كذب من كان قبلهم من الأمم، ولم يعتبروا بمن أهلكنا منهم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم. [سورة البروج (85): الآيات 21 الى 22] بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي كريم شريف كثير النفع والخير ليس هو كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قرئ بالرفع على أنه نعت للقرآن، محفوظ يعني أن القرآن من التبديل والتغيير والتحريف، وقرئ محفوظ بالكسر على أنه نعت للوح لأنه يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب وسمي محفوظا لأنه حفظ من الشياطين من الزيادة والنقص، وهو عن يمين العرش، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عزّ وجلّ وصدق بوعده واتبع رسله، أدخله الجنة» وقال: واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه من نور، وكلامه سر معقود بالعرش وأصله في حجر ملك والله تعالى أعلم بمراده.

سورة الطارق

سورة الطارق مكية وهي سبع عشرة آية، وإحدى وستون كلمة، ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) قوله عز وجل: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قيل نزلت في أبي طالب وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم نارا ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله، فعجب أبو طالب فأنزل الله والسماء والطارق يعني النجم يظهر بالليل، وكل ما أتاك بالليل فهو طارق، ولا يسمى ذلك بالنهار، وسمي النجم طارقا لأنه يطرق بالليل قالت هند: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق تريد أن أباها نجم في علوه وشرفه. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قيل لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يعرفه، حتى بينه الله له بقوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ، أي المضيء المنير، وقيل المتوهج، وقيل المرتفع العالي، وقيل هو الذي يرمى به الشيطان فيثقبه أي ينفذه، وقيل النجم الثاقب هو الثريا لأن العرب تسميها النجم، وقيل هو زحل سمي بذلك لارتفاعه، وقيل هو كل نجم يرمى به الشيطان لأنه يثقبه فينفذه، وهذه أقسام أقسم الله بها، وقيل تقديره ورب هذه الأشياء وجواب القسم قوله تعالى: [سورة الطارق (86): الآيات 4 الى 9] إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ، يعني أن كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، قال ابن عباس: هم الحفظة من الملائكة، وقيل حافظ من الله تعالى يحفظها، ويحفظ قولها، وفعلها، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير، ثم يحل عنها، وقيل يحفظها من المهالك والمعاطب إلا ما قدر لها. قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ يعني نظر تفكر واعتبار مِمَّ خُلِقَ أي من أيّ شيء خلقه ربه، ثم بيّن ذلك فقال تعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ يعني من مني دافِقٍ، أي مدفوق مصبوب في الرحم، وأراد به ماء الرجل، وماء المرأة، لأن الولد مخلوق منهما وإنما جعله واحدا لامتزاجهما يَخْرُجُ يعني ذلك الماء وهو المني، مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يعني صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي عظام الصدر والنحر. قال ابن عباس: هي موضع القلادة من الصدر، وعنه أنها بين ثديي المرأة، قيل إن المني، يخرج من جميع أعضاء الإنسان، وأكثر ما

[سورة الطارق (86): الآيات 10 إلى 17]

يخرج من الدماغ، فينصب في عرق في ظهر الرجل، وينزل في عروق كثيرة من مقدم بدن المرأة، وهي الترائب، فلهذا السبب خصّ الله تعالى، هذين العضوين بالذكر إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يعني إن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل، وقيل قادر على رد الماء في الصلب الذي خرج منه، وقيل قادر على رد الإنسان ماء كما كان من قبل، وقيل معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا، إلى النطفة وقيل إنّه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، وقيل معناه إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء قادر على إعادته حيا بعد موته، وهو أهون عليه، وهذا القول هو الأصح، والأولى بمعنى الآية لقوله تعالى بعده يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وذلك يوم القيامة. قيل معناه تظهر الخبايا. وقيل معنى تبلى تختبر، وقيل السرائر هي فرائض الأعمال كالصوم، والصلاة، والوضوء، والغسل من الجنابة، فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربّه عزّ وجلّ وذلك لأن العبد قد يقول صليت ولم يصلّ، وصمت ولم يصم، واغتسلت ولم يغتسل، فإذا كان يوم القيامة يختبر حتى يظهر من أداها ومن ضيعها. قال عبد الله بن عمر: يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زينا في وجوه وشينا في وجوه، يعني من أدى الفرائض كما أمر كان وجهه مشرقا، مستنيرا يوم القيامة، ومن ضيعها أو انتقص منها كان وجهه أغبر. [سورة الطارق (86): الآيات 10 الى 17] فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) فَما لَهُ أي لهذا الإنسان المنكر البعث. مِنْ قُوَّةٍ أي يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ أي ينصره من الله، ثم ذكر قسما آخر فقال تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي ذات المطر، سمي به لأنه يجيء ويرجع ويتكرر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي تتصدع وتنبثق عن النبات، والشجر، والأنهار، وجواب القسم. قوله تعالى: إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي إنه لحق وجد يفصل بين الحق والباطل. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي باللعب والباطل. إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة، يَكِيدُونَ كَيْداً يعني يحتالون بالمكر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه. وَأَكِيدُ كَيْداً يعني أجازيهم على كيدهم بأن استدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل ولا تدع بهلاكهم. قال ابن عباس: هذا وعيد لهم من الله عز وجل، ثم لمّا أمره بإمهالهم بيّن أن ذلك الإمهال قليل. فقال تعالى: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً يعني قليلا، فأخذهم الله يوم بدر ونسخ الإمهال بآية السيف، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

سورة الأعلى

سورة الأعلى مكية وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وأحد وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) قوله عزّ وجلّ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي قل سبحان ربي الأعلى، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال سبحان ربي الأعلى»، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون، فعلى هذا يكون الاسم صلة، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم، ولذكره محترم. وقال ابن عباس: سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى. عن عقبة بن عامر، قال: «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين، وقيل خلق الإنسان مستويا معتدل القامة. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه، وقيل قدر السعادة لأقوام، والشقاوة لأقوام، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له، وعليه، وقيل قدر الخير والشر، وهدى إليهما، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها، وهو قوله تعالى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك. [سورة الأعلى (87): الآيات 5 الى 14] فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) فَجَعَلَهُ يعني المرعى بعد الخضرة غُثاءً أي هشيما يابسا باليا كالغثاء الذي تراه فوق السيل. أَحْوى أي أسود بعد الخضرة، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود. قوله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك. فَلا تَنْسى يعني ما يقرأ عليك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا نزل جبريل بالوحي، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأولها، مخافة أن ينساها، فأنزل الله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس شيئا بعد ذلك إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن تنساه وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور، وقيل معناه إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم تذكره بعد ذلك، كما

[سورة الأعلى (87): الآيات 15 إلى 19]

صح من حديث عائشة رضي الله عنها. قال: «سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية «كنت أسقطتهن من سورة كذا» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هذا الاستثناء لم يقع، ولم يشأ الله أن ينسيه شيئا. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعني من القول والفعل. وَما يَخْفى يعني منهما والمعنى، أنه تعالى يعلم السر والعلانية. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نهون عليك أن تعمل خيرا ونسهله عليك حتى تعمله، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة، وقيل هو متصل بالكلام الأول، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان، ثم وعده فقال: ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه، ولا تنساه. فَذَكِّرْ أي فعظ بالقرآن. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي مدة نفع الموعظة، والتذكير، والمعنى عظ أنت، وذكر أن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، إنما عليك البلاغ. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتعظ من يخشى الله تعالى. يَتَجَنَّبُهَا أي الذكرى ويتباعد عنها. َْشْقَى أي في علم الله تعالى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي النار العظيمة الفظيعة، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة، والنار الصغرى هي نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها أي في النار فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة طيبة تنفعه. قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس: وقيل قد أفلح من كان عمله زاكيا، وقيل هو صدقة الفطر، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: أعطى صدقة الفطر. [سورة الأعلى (87): الآيات 15 الى 19] وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: خرج إلى العيد فصلّى وكان ابن مسعود يقول: رحم الله امرأ تصدق ثم صلّى. ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع: كان ابن عمر إذا صلّى الغداة يعني يوم العيد قال: يا نافع أخرجت الصدقة، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى، وإن قلت لا قال: فالآن فأخرج، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلّى. فإن قلت فما وجه هذا التأويل، وهذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. قلت يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وهذه السورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، وكذا نزل بمكة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وكان ذلك يوم بدر. قال عمر بن الخطاب: كنت لا أدري أي جمع سيهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر. ووجه آخر وهو أنه كان في علم الله تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه، وقيل وذكر اسم ربه فصلّى يعني الصلوات الخمس، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد، وبالصلاة صلاة العيد. قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج: كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا لا قال: لأن الدنيا حضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل، وقيل إن أريد بذلك الكفار،

فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة، وهو خير وأبقى. إِنَّ هذا أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا، وهو أربع آيات. لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة، بل جميع الشرائع متفقة عليه. عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال «دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله، قال: ركعتان تركعهما، قلت يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قلت يا رسول الله، فما كان صحف موسى، قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت، كيف يفرح؟! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟! عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب! عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل»! أخرج هذا الحديث رزين في كتابه، وذكره ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. ولم يعلم عليه شيئا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد في ركعة ركعة». أخرجه الترمذي والنسائي. وعن عبد العزيز بن جريج قال «سألنا عائشة بأي شيء كان يوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد المعوذتين»، أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي. وقال: حديث حسن غريب، والله أعلم.

سورة الغاشية

سورة الغاشية مكية وهي ست وعشرون آية واثنتان وتسعون كلمة وثلاثمائة واحد وثمانون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ أي قد أتاك حَدِيثُ الْغاشِيَةِ يعني القيامة، سمّيت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها، وقيل الغاشية النار، سمّيت بذلك لأنها تغشى وجوه الكفار وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة خاشِعَةٌ يعني ذليلة، والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، فعبر به عنه. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال ابن عباس: يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وأصحاب الصوامع، لا يقبل الله منهم اجتهادا في ضلال بل يدخلون النار يوم القيامة. ومعنى النصب الدؤوب في العمل بالتعب. (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، أما الرواية فإنها تختص بمن أحدث في دين الإسلام شيئا ابتدعه من عنده فهو مردود عليه لا يقبل منه. وأما الرواية الثانية فإنها تشتمل على كل عامل في دين الإسلام، أو غير دين الإسلام فإنه مردود عليه إذا لم يكن تابعا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم. وقيل في معنى الآية عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار. وقيل عاملة ناصبة في النار، لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية عن ابن عباس قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وقيل يجرون على وجوههم في النار، وقيل يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار وهو قوله تعالى: تَصْلى ناراً حامِيَةً قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله عزّ وجلّ: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فيدفعون إليها ورودا عطاشا، فهذا شرابهم، ثم ذكر طعامهم فقال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قيل هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية عن ابن عباس، فإذا يبس لا تقربه دابة، وقيل الضريع في الدنيا هو الشوك اليابس الذي له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك، أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا من النار، قال أبو الدرداء: إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة،

[سورة الغاشية (88): الآيات 7 إلى 17]

ولا مريئة، فإذا أدنوه من وجوههم سلخ جلدة وجوههم، وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قال المفسرون فلما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذبوا في ذلك، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا فإذا يبس لا تأكله فأنزل الله تعالى: [سورة الغاشية (88): الآيات 7 الى 17] لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يعني إن هذا الطعام لا تقدر البهائم على أكله فكيف يقدر الإنسان على أكله، فهو إذا لا يسمن ولا يغني من جوع. فإن قلت قد ذكر الله تعالى في هذه الآية أنّه لا طعام لهم إلا من ضريع، وذكر في موضع آخر أنه لا طعام لهم إلا من غسلين، فكيف الجمع بينهما؟!. قلت إن النار دركات فعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طعامه الزقوم لا غير، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين. ثم وصف أهل الجنة فقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي متنعّمة ذات بهجة وحسن، ونعمة، وكرامة لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي لسعيها في الدنيا راضية في الآخرة حيث أعطيت الجنة بعملها. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قيل هو من العلو الذي هو الشرف، وقيل من العلو في المكان، وذلك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، كل درجة كما بين السماء والأرض. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي ليس فيها لغو ولا باطل. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ على وجه الأرض في غير أخدود، وقيل تجري حيث أرادوا من منازلهم، وقصورهم. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أهلها الجلوس عليها تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، ثم ترتفع إلى مواضعها وَأَكْوابٌ يعني الكيزان التي لا عرى لها. مَوْضُوعَةٌ يعني عندهم بين أيديهم، وقيل موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب منها وجدوها مملوءة. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ يعني وسائد ومرافق مصفوفة، بعضها جنب بعض أينما أراد أن يجلس وليّ الله جلس على واحدة، واستند إلى الأخرى. وَزَرابِيُّ يعني البسط العريضة قال ابن عباس: هي الطنافس التي لها خمل، واحدتها زربية مَبْثُوثَةٌ أي مبسوطة، وقيل متفرقة في المجالس. قوله عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أهل التفسير لما نعت الله عزّ وجلّ ما في هذه السورة مما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكرهم الله صنعه، فقال: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإنما بدأ بالإبل لأنها من أنفس أموال العرب، ولهم فيها منافع كثيرة والمعنى إن الذي صنع لهم هذا في الدنيا هو الذي صنع لأهل الجنة ما صنع وتكلمت علماء التفسير في وجه تخصيص الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات، فقال: مقاتل لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا النادر منهم، وقال الكلبي لأنها تنهض بحملها وقد كانت باركة، وقال قتادة: لما ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها قالوا كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال: أما الفيل فإن العرب بعيدة العهد به، ثم هو لا خير فيه لأنه لا يركب على ظهره، ولا يؤكل لحمه، ولا يحلب دره، والإبل أعزّ مال للعرب، وأنفسه

[سورة الغاشية (88): الآيات 18 إلى 26]

تأكل النوى وألقت وغيره، وتخرج اللبن، ومن منافع الإبل أنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف حتى أن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء، ومنها أنها فضلت على سائر الحيوانات بأشياء، وذلك أن جميع الحيوانات إنما تقتنى إما للزينة أو للركوب، أو للحمل، أو للبن، أو لأجل اللحم، ولا توجد جميع هذه الخصال إلا في الإبل، فإنها زينة، وتركب فيقطع عليها المفازات البعيدة، وتحمل الثقيل، وتحلب الكثير، ويأكل من لحمها الجم الغفير، وتصبر على العطش عدة أيام، ومنها أن يحمل عليها، وهي باركة ثم تنهض بحملها بخلاف سائر الحيوانات، ومنها أنها ترعى في كل نبات في البراري مما لا يرعاه غيرها من الحيوانات، وهي سفن البر يحمل عليها الثقيل، ويقطع عليها المفاوز البعيدة. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. فإن قلت كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والأرض والجبال، ولا مناسبة بينهما ولم بدأ بذكر الإبل قبل السماء والأرض والجبال؟ قلت لما كان المراد ذكر الدلائل الدالة على توحيده وقدرته، وأنه هو الخالق لهذه الأشياء جميعها، وكانت الإبل من أعظم شيء عند العرب فينظرون إليها ليلا ونهارا، ويصاحبونها ظعنا وأسفارا ذكرهم عظيم نعمته عليهم فيها ولهذا بدأ بها ولأنها من أعجب الحيوانات عندهم. [سورة الغاشية (88): الآيات 18 الى 26] وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ يعني فوق الأرض بغير عمد، ولا ينالها شيء. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ أي على الأرض نصبا ثابتا راسخا لا يزول. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت، ومهدت بحيث يستقر على ظهرها كل شيء. قال ابن عباس: المعنى هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غير الله القادر على كل شيء. ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي فعظ إنما أنت واعظ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمسلط فتكرههم على الإيمان، وهذه الآية منسوخة نسختها آية القتال. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ استثناء منقطع عما قبله معناه لكن من تولى وكفر بعد التذكير فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله النار، وإنما قال: الأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب مثل الجوع، والقحط والقتل، والأسر، فكانت النار أكبر من هذا كله. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم بعد الموت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يعني جزاءهم بعد الرجوع إلينا، والله أعلم.

سورة الفجر

سورة الفجر مكية وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية ومائة وتسعون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) قوله عزّ وجلّ: وَالْفَجْرِ أقسم الله عزّ وجلّ بالفجر وما بعده لشرفها وما فيها من الفوائد الدينية وهي أنها دلائل باهرة، وبراهين قاطعة، على التوحيد، وفيها من الفوائد الدنيوية أنها تبعث على الشكر. واختلفوا في معاني هذه الألفاظ، فروي عن ابن عباس، أنه قال: الفجر هو انفجار الصبح في كل يوم، أقسم الله تعالى به لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس، وسائر الحيوانات في طلب الأرزاق، وذلك يشبه نشر الموتى من قبورهم للبعث. وعن ابن عباس أيضا أنه صلاة الفجر، والمعنى أنه أقسم بصلاة الفجر لأنها مفتتح النهار، ولأنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وقيل إنه فجر معين. واختلفوا فيه، فقيل هو فجر أول يوم من المحرم، لأن منه تنفجر السنة، وقيل هو فجر ذي الحجة، لأنه قرن به الليالي العشر، وقيل هو فجر يوم النحر، لأن فيه أكثر مناسك الحج، وفيه القربات. وَلَيالٍ عَشْرٍ قيل إنما نكرها لما فيها من الفضل، والشرف الذي لا يحصل في غيرها. روي عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج، وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، وذكر الحديث، وروي عن ابن عباس قال: هي العشر الأواخر من رمضان، لأن فيها ليلة القدر، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا ليله، وشد مئزره، وأيقظ أهله، يعني للعبادة وقيل هي العشر الأول من المحرم، وهو تنبيه على شرفه، ولأن فيه يوم عاشوراء. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قيل الشفع هو الخلق، والوتر هو الله تعالى يروى ذلك عن أبي سعيد الخدري، وقيل الشفع هو الخلق كالإيمان والكفر، والهدى، والضلالة، والسعادة، والشقاوة، والليل، والنهار، والأرض، والسماء، والشمس، والقمر، والبر، والبحر، والنور، والظلمة، والجن، والإنس. والوتر هو الله تعالى، وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر. وقيل هما الصلوات منها شفع ومنها وتر عن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الشفع والوتر قال: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب وعن ابن عباس قال: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب، وعن عبد الله بن الزبير قال: الشفع النفر الأول، والوتر النفر الأخير، وروي أن رجلا سأله عن الشفع، والوتر، والليالي العشر فقال: أما الشفع والوتر فقول الله عزّ وجلّ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهما الشفع والوتر، وأما الليالي العشر فالثمان، وعرفة والنحر، وقيل الشفع الأيام، والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة معه، وهو يوم القيامة،

[سورة الفجر (89): الآيات 4 إلى 8]

وقيل الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع، فكأنه أقسم بالجنة، والنار. وقيل الشفع أوصاف المخلوقين المتضادة، مثل العز، والذل، والقدرة، والعجز، والقوة، والضعف، والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، والبصر، والعمى، والموت، والحياة، والوتر، صفات الله تعالى التي تفرد بها عزّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. [سورة الفجر (89): الآيات 4 الى 8] وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي إذا سار وذهب، وقيل إذا جاء، وأقبل، وأراد به كل ليلة، وقيل هي ليلة المزدلفة، وهي ليلة النحر التي يسار فيها من عرفات إلى مزدلفة فعلى هذا يكون المعنى والليل الذي يسار فيه. هَلْ فِي ذلِكَ أي فيما ذكرت قَسَمٌ مقنع ومكتفي في القسم فهو استفهام بمعنى التأكيد. لِذِي حِجْرٍ أي لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل له، ولا ينبغي كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، وسمي نهيه لأنه ينهى عما لا يحل، ولا ينبغي وأصل الحجر المنع، ولا يقال ذو حجر إلا لمن هو قاهر لنفسه ضابط لها عما لا يليق، كأنه حجر على نفسه ومنعها ما تريد، والمعنى إن من كان ذا لب، وعقل علم أن ما أقسم الله عزّ وجلّ به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل تدل على توحيده، وربوبيته. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. قيل جواب القسم قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ، واعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ورب هذه الأشياء ليعذبن الكافر يدل عليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ، وقوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ؟ أي ألم تعلم وإنما أطلق لفظ الرؤية على العلم لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت معلومة عندهم. وقوله: أَلَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنه عام لكل أحد. كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ المقصود من ذلك تخويف أهل مكة وكيف أهلكهم وهم كانوا أطول أعمارا، وأشد قوة، من هؤلاء فأما عاد فهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، ومنهم من يجعل عادا اسما للقبيلة لقوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وإرم هو جد عاد على ما ذكر في نسبه عاد. وقيل إن المتقدمين من قوم عاد كانوا يسمون بإرم اسم جدهم. وقيل إرم هم قبيلة من عاد، وكان فيهم الملك، وكانوا بمهرة اسم موضع باليمن وكان عاد أباهم فنسبوا إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح وقال الكلبي: إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود أهل السواد، وأهل الجزيرة، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود، وأبقى أهل السواد، وأهل الجزيرة وقال سعيد بن المسيب: إرم ذات العماد دمشق وقيل الإسكندرية، وفيه ضعف لأن منازل عاد كانت من عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف. وقيل إن عادا كانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى، وهي التي قال الله تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وسموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمد سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية ابن عباس. وقيل سموا ذات العماد لطول قامتهم يعني طولهم، مثل العماد في الشبه، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا، وقوله الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ يعني لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة، وهم الذين قالوا «من أشد منا قوة». وقيل سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيد عمده ورفع بناءه، وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا بعده، وقهرا البلاد والعباد فمات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له

[سورة الفجر (89): الآيات 9 إلى 10]

ملوكها وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها فدعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله وتجبرا روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب، والفضة، وأحجار اللؤلؤ والياقوت وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحدا هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة فقال الرجل في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤ ترابها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدّث بما رأى فبلغ ذلك معاوية، فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد بن عاد قال: فحدثني حديثها فقال لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صحراء نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصنا يعني سورا واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. [سورة الفجر (89): الآيات 9 الى 10] وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) قوله عزّ وجلّ: وَثَمُودَ أي وفعل بثمود مثل ما فعل بعاد الَّذِينَ جابُوا أي قطعوا الصَّخْرَ أي الحجر بِالْوادِ يعني بوادي القرى وكانت ثمود أول من قطّع الصخر ونحته واتخذوا مساكن في الجبال وبيوتا. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ سمي بذلك لكثرة جنوده وكثرة مضاربهم وخيامهم التي كانوا يضربونها، إذا نزلوا، وقيل معناه ذي الملك كما قيل في ظل ملك راسخ الأوتاد. وقيل سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت عنده امرأة مؤمنة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال لها ما يبكيك قالت الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهنا وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت صدقت فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وقري أني إلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها:

[سورة الفجر (89): الآيات 11 إلى 15]

اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قلبها ثم قال اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعا فقالت لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ فأتى بابنتها فلما اضطجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا في المهد صغارا أطفالا وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث الأم أن ماتت فأسكنها الله الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهى إليه الرجلان، وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلون فلما رأوا ذلك انصرفوا فقال، حزقيل: اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤاله وأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون وهل معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال ما رأيت مما يقول شيئا فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه قال: وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وفرعون كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها، فقالت يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثهم، عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فلعل بك الجنون الذي كان بها، قالت: ما بي جنون وإن إلهها وإلهك وإلهي وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فبصق عليها وضربها، وأرسل إلى أبيها وأمها فدعاهما وقال لهما: إن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها، قالت: أعوذ بالله من ذلك، إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال لها أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق، وزوجك إله العماليق قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقا فقولا له أي يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله. فقال لهما فرعون أخرجا عني ثم مدها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون، فعند ذلك «قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجّني من فرعون وعمله»، فقبض الله روحها وأدخلها الجنة. [سورة الفجر (89): الآيات 11 الى 15] الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني عادا وثمودا وفرعون عملوا بالمعاصي، وتجبروا، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ يعني لونا من العذاب صبّه عليهم، وقيل هو تشبيه بما يكون في الدنيا من العذاب بالسوط، وقيل هو إشارة إلى ما خلط لهم من العذاب، لأن أصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض وقيل هذا على الاستعارة، لأن السوط غاية العذاب فجرى ذلك لكل نوع منه. وقيل جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال ابن عباس يعني بحيث يرى ويسمع، وقيل عليه طريق العباد، لا يفوته أحد وقيل عليه ممر الناس لأن الرصد والمرصاد الطريق. وقيل ترجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم، وقيل إنه يرصد أعمال بني آدم. والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من المرصاد، وقد قيل أرصد النار على طريقهم حتى تهلكهم.

[سورة الفجر (89): الآيات 16 إلى 21]

قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ أي امتحنه رَبُّهُ أي بالنعمة فَأَكْرَمَهُ أي بالمال وَنَعَّمَهُ أي بما يوسع عليه فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أي بما أعطاني من المال والنعمة. [سورة الفجر (89): الآيات 16 الى 21] وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ يعني بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ أي فضيق عليه، وقيل قتر. رِزْقَهُ أي وقد أعطاه ما يكفيه. فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي أذلني بالفقر، قيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر، وقيل ليس المراد به واحدا بعينه، بل المراد جنس الكافر، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته فرد الله تعالى على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال تعالى: كَلَّا أي ليس الأمر كذلك، أي لم أبتله بالغنى لكرامته، ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرزق وقلته، ولكن الغنى والفقر بتقدير الله جلّ جلاله وحكمته فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويضيق على المؤمن لا لهوانه، لكن لأمر اقتضته حكمة الله تعالى، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته، وقد يوسع على الإنسان من أصناف المال ليختبره، أيشكر أم يكفر، ويضيق عليه ليختبره، أيصبر أم يضجر، ويقلق. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أي لا يعطونه حقه الثابت له في الميراث قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يطعمون مسكينا، ولا يأمرون بإطعامه، وقرئ ولا يحاضون ومعناه، ولا يحض بعضهم بعضا على ذلك. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث أَكْلًا لَمًّا أي شديدا، والمعنى أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم، وقيل الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا والمعنى يحبون جمع المال، ويولعون به، وبحبه. كَلَّا أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، من الحرص على جمع المال وحبه. وقيل معناه لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وغيره من المسلمين، ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم، وذلك حين لا ينفعهم الندم. فقال تعالى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي دقت وكسرت مرة بعد مرة، وكسر كل شيء عليها من جبل وبناء وغيره، حتى لا يبقى على ظهرها شيء. [سورة الفجر (89): الآيات 22 الى 28] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) وَجاءَ رَبُّكَ اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيها وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها، وتأولها بعض المتأخرين، وغالب المتكلمين فقالوا ثبت بالدليل العقلي، أن الحركة على الله محال، فلا بد من تأويل الآية. فقيل في تأويلها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء. وقيل جاء أمر ربك وقضاؤه. وقيل وجاء دلائل آيات ربك فجعل مجيئها مجيئا له تفخيما لتلك الآيات. وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي تنزل ملائكة كل سماء صفا صفا على حدة، فيصطفون صفا بعد صف، محدقين بالجن والإنس، فيكونون سبع

[سورة الفجر (89): الآيات 29 إلى 30]

صفوف. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة بِجَهَنَّمَ قال ابن مسعود: في هذه الآية تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيط وزفير حتى تنصب عن يسار العرش يَوْمَئِذٍ يعني يوم يجاء بجهنم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي يتعظ الكافر ويتوب. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يعني أنه يظهر التوبة، ومن أين له التوبة. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي قدمت الخير، والعمل الصالح لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق هو الأسر في السلاسل، والأغلال، وقرئ لا يعذب، ولا يوثق بفتح الذال والثاء، ومعناه لا يعذب عذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وهو أمية بن خلف، وذلك لشدة كفره وعتوه. قوله عزّ وجلّ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الثابتة على الإيمان، والإيقان، المصدقة بما قال الله تعالى، الموقنة التي قد أيقنت بالله تعالى، وبأن الله ربها، وخضعت لأمره، وطاعته، وقيل المطمئنة المؤمنة، الموقنة، وقيل هي الراضية بقضاء الله، وقيل هي الآمنة من عذاب الله، وقيل هي المطمئنة بذكر الله قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد بأحد، وقيل في حبيب بن عدي الأنصاري، وقيل في عثمان حين اشترى بئر رومة وسبلها وقيل في أبي بكر الصديق والأصح أن الآية عامة في كل نفس مؤمنة مطمئنة، لأن هذه السورة مكية ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ما وعد ربك من الجزاء والثواب، قيل يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا. قال عبد الله بن عمر: إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان، وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك، إلا صلّى عليها حتى يؤتى بها الرّحمن جل جلاله، فتسجد له ثم يقال لميكائيل اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعا عرضه، وسبعون ذراعا، طوله وينبذ له فيه الروح والريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين، وأرسل قطعة من بجاد أي من كساء أنتن من كل نتن، وأخشن من كل خشن، فيقال أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم، وربك عليك غضبان وقيل في معنى قوله ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى صاحبك وهو الجسد، وإنما يقال لها ذلك عند البعث فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى أجسادها، وهو قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية عن ابن عباس. وقيل ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته راضِيَةً أي عن الله بما أعد لك مَرْضِيَّةً أي رضي الله عنها، وقيل لها في الدنيا ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فإذا كان يوم القيامة قيل لها. [سورة الفجر (89): الآيات 29 الى 30] فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي في جملة عبادي، الصالحين المصطفين وَادْخُلِي جَنَّتِي قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي، وقال: بعض أهل الإشارة في تفسير هذه الآية يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى ربك بتركها، والرجوع إليه هو سلوك سبيل الآخرة والله أعلم.

سورة البلد

سورة البلد (مكية وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البلد (90): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي مقيم به، نازل فيه، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلّى الله عليه وسلّم مقيم بها وقيل حل أي حلال، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل، والأسر، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها، أحل الله عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل، وأمر بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم آخرين، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ثم قال بعد ذلك إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها، وشرفها، وحرمتها، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلّى الله عليه وسلّم، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى في الماضي، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة، وخروجه منها، فكان كما وعده، وقيل في معنى قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيدا، ويستحلون قتلك فيه، وإخراجك منه. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ يعني آدم وذريته أقسم الله تعالى بمكة لشرفها، وحرمتها، وبآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به، وجواب القسم قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال ابن عباس: في نصب، وقيل يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وعنه أيضا قال: في شدة من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، وفصاله، ومعاشه، وحياته، وموته وأصل الكبد الشدة، وقيل لم يخلق الله خلقا يكابد، ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن ابن عباس أيضا قال: الكبد الاستواء، والاستقامة، فعلى هذا يكون المعنى، خلقنا الإنسان منتصبا معتدل القامة، وكل شيء من الحيوان يمشي منكبا، وقيل منتصبا، رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه.

[سورة البلد (90): الآيات 5 إلى 11]

[سورة البلد (90): الآيات 5 الى 11] أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) أَيَحْسَبُ أبو الأشد من قوته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني أيظن لشدته في نفسه، أنه لا يقدر عليه الله، وقيل هو الوليد بن المغيرة المخزومي. يَقُولُ يعني هذا الكافر أَهْلَكْتُ أي أنفقت مالًا لُبَداً أي كثيرا من التلبيد الذي يكون بعضه فوق بعض. يعني في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني أيظن أن لله لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وقيل كان كاذبا في قوله، إنه أنفق ولم ينفق جميع ما قال والمعنى أيظن أن الله لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته. ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ يعني أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقروه بها كي يشكره، وجاءه في الحديث «إن الله عزّ وجلّ يقول: ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك فرجك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه». وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال أكثر المفسرين طريق الخير والشر والحق، والباطل، والهدى، والضلالة، وقال ابن عباس: الثديين فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين يكون ذلك خيرا له من إنفاقه في عداوة من أرسله الله إليه، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدّخول في الأمر الشّديد، وذكر العقبة مثل ضربه الله تعالى: لمجاهدة النّفس، والهوى، والشّيطان في أعمال الخير، والبر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله عزّ وجلّ: لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرّقبة، والإطعام، وقيل إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بالعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين. كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها، وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم، وقيل هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله ومجاهدة النفس، وقيل هي الصّراط يضرب على متن جهنم كحد السّيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا، وأن بجنبيه كلاليب وخطاطيف، كأنها شوك السّعدان فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في الناس منكوس، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفارس، ومنهم من يمر كالرّجل يعدو، ومنهم من يمر كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفا ومنهم الزّالون ومنهم من يكردس في النار، وقيل معنى الآية: فهلا سلك طريق النجاة ثم بين ما هي. فقال تعالى: [سورة البلد (90): الآيات 12 الى 17] وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ يعني عتق الرقبة وهو إيجاب الحرية لها، وإبطال الرق، والعبودية عنها، وذلك بأن يعتق الرجل الرّقبة التي في ملكه، أو يعطي مكاتبا ما يصرفه في فكاك رقبته ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه» وروى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النّسمة، وفك الرّقبة قال أوليسا واحدا قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظّالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظّمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير» وقيل في معنى الآية وفك رقبة من رق الذّنوب بالتّوبة وبما يتكلفه من العبادات، والطاعات التي يصير بها إلى رضوان الله، والجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي في يوم ذي مجاعة والسغب الجوع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة يريد يتيما بينك وبينه قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ يعني قد لصق بالتراب من

[سورة البلد (90): الآيات 18 إلى 20]

فقره وضره وقال ابن عباس: هو المطروح في التّراب لا يقيه شيء والمتربة الفقر، ثم بين أن هذه القرب لا تنفع إلا مع الإيمان بقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والمعنى أنه كان مؤمنا تنفعه هذه القرب، وكان مقتحما العقبة، وإن لم يكن مؤمنا لا تنفعه هذه القرب ولا يقتحم العقبة وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني وصى بعضهم بعضا على الصبر على أداء الفرائض، وجميع أوامر الله ونواهيه. وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي برحمة الناس وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله. [سورة البلد (90): الآيات 18 الى 20] أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) أُولئِكَ يعني أهل هذه الخصال أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم. والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

سورة الشمس

سورة الشمس مكية وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمة ومائتان وسبعة وأربعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي إذا بدا ضوءها والضّحى حين ترتفع الشّمس، ويصفو ضوءها، وقيل الضّحى النهار كله لأن الضحى هو نور الشمس، وهو حاصل في النهار كله، وقيل الضحى هو حر الشمس لأن حرها ونورها متلازمان، فإذا اشتد نورها قوى حرها وهذا أضعف الأقوال. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور، وقيل تلاها في الاستدارة وذلك حين يكمل ضوءه، ويستدير وذلك في اللّيالي البيض، وقيل تلاها تبعها في الطلوع، وذلك في أول ليلة من الشّهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال فكأنه تبعها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها يعني جلا ظلمة الليل بضيائه وكشفها بنوره، وهو كناية عن غير مذكور لكونه معروفا وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة. لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر. [سورة الشمس (91): الآيات 5 الى 8] وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن بناها، وقيل والذي بناها فعلى هذا كأنه أقسم به وبأعظم مخلوقاته، ومعنى بناها خلقها، وقيل ما بمعنى المصدر أي والسماء وبنائها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها وسطحها على الماء وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي عدل خلقها وسوى أعضاءها هذا إن أريد بالنّفس الجسد وإن أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سواها أعطاها القوى الكثيرة كالقوة الناطقة، والسامعة والباصرة، والمفكرة، والمخيلة وغير ذلك من العلم، والفهم، وقيل إنما نكرها لأنه أراد بها النّفس الشّريفة المكلفة التي تفهم عنه خطابه، وهي نفس جميع من خلق من الإنس والجن فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال ابن عباس: بين لها الخير والشّر وعنه علمها الطّاعة والمعصية، وعنه عرفها ما تأتي وما تتقي، وقيل ألزمها فجورها، وتقواها، وقيل وجعل فيها ذلك بتوفيقه إيّاها للتّقوى، وخذلانه إياها للفجور، وذلك لأن الله تعالى خلق في المؤمن التّقوى، وفي الكافر الفجور (م) عن أبي الأسود الديلي قال: قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وثبتت الحجة عليهم، فقلت بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم، فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأختبر عقلك «إن

[سورة الشمس (91): الآيات 9 إلى 14]

رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم، من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها» (م) عن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال: لا بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير قال: ففيم العمل؟ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وهذه أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وما بعدها لشرفها ومصالح العالم بها، وقيل فيه إضمار تقديره ورب الشمس وما بعدها. وأورد على هذا القول أنه قد دخل في جملة هذا القسم قوله، وَالسَّماءِ وَما بَناها وذلك هو الله تعالى، فيكون التقدير رب السماء، ورب من بناها، وهذا خطأ لا يجوز وأجيب عنه بأن ما إن فسرت بالمصدرية فلا إشكال وإن فسرت بمعنى من فيكون التقدير ورب السّماء الذي بناها وجواب القسم قوله تعالى: [سورة الشمس (91): الآيات 9 الى 14] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها المعنى لقد أفلح من زكاها أي فازت وسعدت نفس زكاها الله أي أصلحها وطهرها من الذّنوب، ووفقها للطاعة. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى، وأفسدها، وأصله من دس الشّيء إذا أخفاه فكأنه سبحانه وتعالى أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره، وزكاه، وخسارة من خذله، وأضله حتى لا يظن أحد أنه يتولى تطهير نفسه، أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق (م) عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها، ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها». قوله عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وهم قوم صالح عليه الصّلاة والسّلام بِطَغْواها أي بطغيانها وعدوانها، والمعنى أن الطغيان حملهم على التكذيب حتى كذبوا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحا انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف، وكان رجلا أشقر أزرق العين قصيرا فعقر الناقة (ق) عن عبد الله بن زمعة «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب وذكر الناقة، والذي عقرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في أهله مثل أبي زمعة» لفظ البخاري قوله عارم أي شديد ممتنع. قوله تعالى: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه الصّلاة والسّلام ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة الله وإنما قال لهم ذلك لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقرها وإنما أضافها إلى الله تعالى لشرفها كبيت الله. وَسُقْياها أي وشربها ولا تتعرضوا للماء يوم شربها فَكَذَّبُوهُ يعني صالحا فَعَقَرُوها يعني الناقة فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي فدمر عليهم ربهم وأهلكهم والدمدمة هلاك استئصال، وقيل دمدم أي أطبق عليهم العذاب طبقا حتى لم ينفلت منهم أحد بِذَنْبِهِمْ أي فعلنا ذلك بهم بسبب ذنبهم، وهو تكذيبهم صالحا عليه الصّلاة والسّلام وعقرهم الناقة فَسَوَّاها أي فسوى الدّمدمة عليهم جميعا وعمهم بها، وقيل معناه فسوى بين الأمة وأنزل بصغيرهم، وكبيرهم، وغنيهم، وفقيرهم العذاب، وَلا يَخافُ عُقْباها أي لا يخاف الله تبعة من أحد في هلاكهم كذا قال ابن عباس: وقيل هو راجع إلى العاقر والمعنى لا يخاف العاقر عقبى ما قدم عليه من عقر الناقة، وقيل هو راجع إلى صالح عليه الصّلاة والسّلام والمعنى لا يخاف صالح عاقبة ما أنزل الله بهم من العذاب أن يؤذيه أحد بسب ذلك والله أعلم.

سورة والليل

سورة والليل مكية وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الليل (92): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) قوله عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى النّهار بظلمته فيذهب الله بضوئه. أقسم الله تعالى بالليل لأنه سكن لكافة الخلق يأوى فيه كل حيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب، والحركة، ثم أقسم بالنهار بقوله وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي بان وظهر بعد الظلمة لأن فيه حركة الخلق في طلب الرزق وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي ومن خلق فعلى هذا يكون أقسم بنفسه تعالى، والمعنى والقادر العظيم الذي قدر على خلق الذكر، والأنثى من ماء واحد إن أريد به جنس الذكر والأنثى، وقيل هما آدم وحواء، وإنما أقسم بهما لأنه تعالى ابتدأ خلق آدم من طين وخلق منه حواء من غير أم وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أي إن أعمالكم لمختلفة فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها روى أبو مالك الأشعري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» قوله موبقها أي مهلكها. قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي أنفق ماله في سبيل الله عز وجل: وَاتَّقى أي ربه، وفيه إشارة إلى الاحتراز عن كل ما لا ينبغي. [سورة الليل (92): الآيات 6 الى 10] وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال ابن عباس صدق بقول لا إله إلا الله وعنه صدق بالخلف به، أي أيقن أن الله سيخلف عليه ما أنفقه في طاعته، وقيل صدق بالجنة، وقيل صدق بموعد الله عز وجل الذي وعده أنه يثيبه فَسَنُيَسِّرُهُ فسنهيئه في الدنيا لِلْيُسْرى أي للخلة والفعلة اليسرى، وهو العمل بما يرضاه الله. قوله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أي بالنّفقة في الخير والطاعة وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله تعالى فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بلا إله إلا الله أو كذب بما وعده الله عز وجل من الجنة والثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي فسنهيئه للشّر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضى الله تعالى فيستوجب بذلك النار، وقيل نعسر عليه أن يأتي خيرا وفي الآية دليل لأهل السّنة وصحة قولهم في القدر وأن التّوفيق والخذلان والسّعادة والشّقاوة بيد الله تعالى، ووجوب العمل بما سبق له في الأزل (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس، وجعل ينكت

[سورة الليل (92): الآيات 11 إلى 18]

بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» زاد مسلم «1» «وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السّعادة فيصير لعمل أهل السّعادة وأما من كان من أهل الشّقاوة، فيصير لعمل أهل الشّقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى المخصرة بكسر الميم كالسّوط والعصا، ونحو ذلك مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالتاء المثناة فوق ضرب الأرض بذلك أو غيرها مما يؤثر فيه الضرب، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أنه اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه، فأنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني سعي أبي بكر وأمية بن خلف، وقيل كان لرجل من الأنصار نخلة وفرعها في دار رجل فقير وله عيال، فكان صاحب النخلة إذا طلع نخلته ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان ذلك الفقير، فينزل الرجل عن نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه في فيه حتى يخرجها فشكا ذلك الرّجل الفقير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلقي النّبي صلّى الله عليه وسلّم صاحب النّخلة فقال له: تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة فقال الرجل: إن لي نخلا، وما فيه أعجب إليّ منها ثم ذهب، فسمع بذلك أبو الدحداح رجل من الأنصار، فقال لصاحب النخلة هل لك أن تبيعها بحش يعني حائطا له فيه نخل، فقال هي لك فأتى أبو الدّحداح إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشتريها مني بنخلة في الجنة، فقال نعم فقال هي لك فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك الرجل الفقير جار الأنصاري صاحب النخلة قال خذها لك ولعيالك فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول فيه ضعف لأن هذه السورة مكية، وهذه القصة كانت بالمدينة فإن كانت القصة صحيحة تكون هذه السورة قد نزلت بمكة، وظهر حكمها بالمدينة، والصحيح أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأمية بن خلف لأن سياق الآيات يقتضي ذلك. [سورة الليل (92): الآيات 11 الى 18] وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) قوله عز وجل: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي الذي بخل به إِذا تَرَدَّى أي إذا مات، وقيل هوى في جهنم إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضّلالة وذلك أنه لما عرفهم ما للمحسن من اليسرى، وما للمسيء من العسرى أخبرهم أن بيده الإرشاد والهداية وعليه تبيين طريقها، وقيل معناه إن علينا للهدى والإضلال فاكتفى بذكر أحدهما، والمعنى أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأصرف أعدائي عن العمل بطاعتي، وقيل معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله سبيله. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي لنا ما في الدّنيا والآخرة فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق فَأَنْذَرْتُكُمْ أي يا أهل مكة ناراً تَلَظَّى أي تتوقد وتتوهج لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني الشّقي الَّذِي كَذَّبَ يعني الرّسل وَتَوَلَّى أي عن الإيمان وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني التّقي الَّذِي يُؤْتِي أي يعطي مالَهُ يَتَزَكَّى أي يطلب عند الله أن يكون زاكيا لا يطلب بما ينفقه رياء ولا سمعة وهو أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين قال ابن الزبير: كان يبتاع الضعفاء فيعتقهم، فقال له أبوه أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال منع ظهري أريد فأنزل الله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السّورة، وذكر محمد ابن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق

_ (1) (قوله زاد مسلم إلخ) حديث مسلم «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» إلخ.

[سورة الليل (92): الآيات 19 إلى 21]

الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشّمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وأقوى، وهو على دينك أعطيكه قال قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه، وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر بلال سابعهم، وهم عامر بن فهيرة شهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: كذبوا ورب البيت ما تضر اللّات، والعزى، ولا تنفعان فرد الله تعالى: عليها بصرها وأعتق النّهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فرآهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول والله لا أعتقهما أبدا فقال أبو بكر كلا يا أم فلان فقالت كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال فبكم قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان ومر بجارية من بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها وأعتقها فقال عمار بن ياسر: يذكر بلالا وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء وإعتاق أبي بكر إيّاهم وكان اسم أبي بكر عتيقا فقال في ذلك: جزى الله خيرا عن بلال وصحبه ... عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل عشية همّا في بلال بسوءة ... ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل بتوحيد رب الأنام وقوله ... شهدت بأن الله ربي على مهل فإن تقتلوني فاقتلوني فلم أكن ... لأشرك بالرحمن من خيفة القتل فيا رب إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجني ثم لا تملي لمن ظل يهوى الغي من آل غالب ... على غير حق كان منه ولا عدل قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال له أتبيعه قال نعم أبيعه بنسطاس عبد لأبي بكر وكان نسطاس صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر، فلما قال أمية أبيعه بغلامك نسطاس اغتنمه أبو بكر، وباعه به فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده. فأنزل الله عز وجل: [سورة الليل (92): الآيات 19 الى 21] وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أي عند أبي بكر مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي من يد يكافئه عليها إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي لم يفعل ذلك مجازاة لأحد ولا ليد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب مرضاته وَلَسَوْفَ يَرْضى أي بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والخير والكرامة جزاء على ما فعل، والله أعلم.

سورة والضحى

سورة والضّحى مكية وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة واثنان وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) قوله عز وجل: وَالضُّحى اختلفوا في سبب نزول هذه السّورة على ثلاثة أقوال: القول الأول (ق) «عن جندب بن سفيان البجلي قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» وأخرجه التّرمذي عن جندب قال كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار فدميت إصبعه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت قال: فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودع محمدا ربه فأنزل الله عز وجل: [سورة الضحى (93): الآيات 3 الى 5] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وقيل إن المرأة المذكورة في الحديث المتفق عليه هي أم جميل امرأة أبي لهب. القول الثاني: قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرّوح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عليه. القول الثالث: قال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس الوحي، وجبريل عنه أن جروا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إبطائه فقال إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقيل اثنا عشر يوما وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما، وقيل أربعون يوما فلما نزل جبريل عليه الصلاة والسلام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك فقال جبريل: إني كنت إليك أشد شوقا، ولكني عبد مأمور. ونزل وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأنزل الله هذه السّورة قوله عز وجل: وَالضُّحى قيل أراد به النهار كله بدليل أنه قابله باللّيل كله في قوله، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، وقيل وقت الضحى وهي السّاعة التي فيها ارتفاع الشّمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قال ابن عباس أقبل بظلامه وعنه إذا ذهب وقيل معناه غطى كل شيء بظلامه، وقيل معناه سكن فاستقر ظلامه فلا يزاد بعد ذلك، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى وجواب القسم قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وإنما قال قلى ولم يقل

[سورة الضحى (93): الآيات 6 إلى 8]

قلاك لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه وما قلى أحدا من أصحابك ومن هو على دينك إلى يوم القيامة. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي الذي أعطاك ربك في الآخرة خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدّنيا، وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتى يرضى (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد، واسأله ما يبكيك، وهو أعلم فأتى جبريل، وسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» عن عوف بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا» أخرجه التّرمذي قال حرب بن شريح سمعت جعفر بن محمد بن علي يقول إنكم يا معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وإنا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقيل في معنى الآية ولسوف يعطيك ربك من الثواب فترضى، وقيل من النّصر والتّمكين وكثرة المؤمنين فترضى وحمل الآية على ظاهرها من خيري الدّنيا والآخرة معا أولى، وذلك أن الله تعالى أعطاه في الدّنيا النصر الظفر على الأعداء وكثرة الأتباع، والفتوح في زمنه، وبعده إلى يوم القيامة وأعلى دينه وإن أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشّفاعة العامة، والخاصة، والمقام المحمود وغير ذلك، مما أعطاه في الدّنيا والآخرة ثم أخبر عن حاله صغيرا وكبيرا قبل الوحي وذكر نعمه عليه وإحسانه إليه. فقال عز وجل: [سورة الضحى (93): الآيات 6 الى 8] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً أي صغيرا فَآوى أي ألم يعلمك الله يتيما من الوجود الذي هو بمعنى العلم، والمعنى ألم يجدك يتيما صغيرا حين مات أبوك، ولم يخلف لك مالا، ولا مأوى فجعل لك مأوى تأوي إليه وضمك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة. وذلك أن عبد الله مات ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل فكفله جده عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب إلى أن قوي، واشتد وتزوج خديجة، وقيل هو من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النّظير فآواك إليه وأيدك وشرفك بنبوته واصطفاك برسالته. وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي عما أنت عليه اليوم فَهَدى أي فهداك إلى توحيده ونبوته، وقيل وجدك ضالا عن معالم النّبوة وأحكام الشّريعة، فهداك إليها وقال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل عليه السّلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القافلة فمنّ الله عليه بذلك، وقيل وجدك ضالًّا نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك، وقيل ووجدك بين أهل الضّلال فعصمك من ذلك وهداك إلى الإيمان وإلى إرشادهم، وقيل الضلال هنا بمعنى الحيرة وذلك لأنه كان صلّى الله عليه وسلّم يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل الله إليك، فهداك لبيانه فهذا ما قيل في هذه الآية ولا يلتفت إلى قول من قال إنه صلّى الله عليه وسلّم كان قبل النّبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام لأن نبينا

[سورة الضحى (93): الآيات 9 إلى 11]

صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشئوا على التّوحيد، والإيمان قبل النّبوة وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده ويدل على ذلك أن قريشا لما عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ورموه بكل عيب سوى الشّرك وأمر الجاهلية فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلا إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه ولنقل ذلك فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به. ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الرّاهب حين استحلف النبي صلّى الله عليه وسلّم باللّات والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فرأى بحيرا علامة النّبوة فيه وهو صبي فاختبره بذلك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما، ويؤكد هذا شرح صدره صلّى الله عليه وسلّم في حال الصغر واستخراج العلقة منه وقول جبريل هذا حظ الشيطان منك وملؤه حكمة وإيمانا وقوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وقال الزّمخشري: ومن قال كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه على خلوهم من العلوم السمعية، فنعم وإن أراد أنه كان على دين قومه، فمعاذ الله والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النّبوة وبعدها من الكبائر، والصّغائر الشّائنة، فما بال الكفر والجهل بالصّانع ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ والله أعلم. قوله عز وجل: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى يعني فقيرا فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم، وقيل أرضاك بما أعطاك من الرّزق، وهذه حقيقة الغني (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» العرض بفتح العين والراء المال (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربي عز وجل مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت: يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا وفلانا كذا قال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت بلى يا رب» قال: ألم أجدك ضالًّا فهديتك؟ قلت بلى يا رب قال ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت بلى يا رب زاد في رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب». فإن قلت كيف يحسن بالجواد الكريم أن يمن بإنعامه على عبده، والمن مذموم في صفة المخلوق، فكيف يحسن بالخالق تبارك وتعالى. قلت إنما حسن ذلك لأنه سبحانه وتعالى: قصد بذلك أن يقوي قلبه، ويعده بدوام نعمه عليه فظهر الفرق بين امتنان الله تعالى الممدوح وبين امتنان المخلوق المذموم لأن امتنان الله تعالى زيادة إنعامه، كأنه قال ما لك تقطع رجاءك عني ألست الذي ربيتك وآويتك وأنت يتيم صغير أتظنني تاركك ومضيعك كبيرا. بل لا بد وأن أتم نعمتي عليك فقد حصل الفرق بين امتنان الخالق، وامتنان المخلوق، ثم أوصاه باليتامى، والمساكين، والفقراء فقال عز وجل: [سورة الضحى (93): الآيات 9 الى 11] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب به لضعفه، وكذا كانت العرب في الجاهلية تفعل في أمر اليتامى يأخذون أموالهم، ويظلمونهم حقوقهم روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ويشير بإصبعيه» (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة، والوسطى، وفرج بينهما» وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يعني السائل على الباب يقول لا تزجره إذا سألك فقد كنت فقيرا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا برفق ولا تكهر بوجهك في وجهه وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النّخعي

السّائل: يريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل توجهون إلى أهليكم بشيء وقيل السائل هو طالب العلم فيجب إكرامه وإسعافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه ولا ينهر ولا يلقى بمكروه وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قيل أراد بالنّعمة النّبوة أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاك الله، وقيل النعمة هي القرآن أمره أن يقرأه ويقرئه غيره، وقيل أشكره لما ذكره نعمه عليه في هذه السّورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضّلالة والإغناء بعد العيلة والفقر أمره أن يشكره على إنعامه عليه، والتحدث بنعمة الله تعالى شكرها. عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعطي عطاء فليجزه إن وجد فإن لم يجد فليثن عليه فإن من أثنى عليه فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» أخرجه التّرمذي وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر يقول «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب» والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضّحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن فيقول الله أكبر وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال المشركون: هجره شيطانه، وودعه، فاغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك فلما نزلت والضّحى كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرحا بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة ألم نشرح

سورة ألم نشرح مكية وهي ثمان آيات وسبع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) قوله عز وجل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استفهام بمعنى التّقرير، أي قد فعلنا ذلك ومعنى الشرح الفتح بما يصده عن الإدراك والله تعالى فتح صدر نبيه صلّى الله عليه وسلّم للهدى، والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصده عن إدراك الحق، وقيل معناه ألم نفتح قلبك ونوسعه ونلينه بالإيمان، والموعظة، والعلم، والنبوة، والحكمة، وقيل هو شرح صدره في صغره (م) عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السّلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشّيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمدا قد قتل فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره» وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي حططنا عنك وزرك الذي سلف منك في الجاهلية فهو كقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقيل الخطأ والسّهو وقيل ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها، وقيل المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها لأن الوزر في اللغة الثقل تشبيها بوزر الجبل، وقيل معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلا فسمى العصمة وضعا مجازا. واعلم أن القول في عصمة الأنبياء قد تقدم مستوفى في سورة طه عند قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وعند قوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. [سورة الشرح (94): الآيات 3 الى 6] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي أثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض وهو الصوت الخفي الذي يسمع من المحمل، أو الرحل فوق البعير، فمن حمل الوزر على ما قبل النّبوة قال هو اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمور كان فعلها قبل نبوته إذ لم يرد عليه شرع بتحريمها، فلما حرمت عليه بعد النبوة عدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها فوضعها الله عنه وغفرها له ومن حمل ذلك على ما بعد النبوة قال: هو ترك الأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقوله عز وجل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه سأل جبريل عن هذه الآية، ورفعنا لك ذكرك قال: قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي» قال ابن عباس: يريد الأذان، والإقامة، والتّشهد، والخطبة على المنابر، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافرا، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة فليس خطيب ولا

متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به، وقال مجاهد يريد التأذين وفيه يقول حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النّبيين، وإلزامهم الإيمان به، والإقرار بفضله، وقيل رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله «محمد رسول الله» وفرض طاعته على الأمة بقوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» ومن يطع الله ورسوله فقد فاز، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء ثم وعده باليسر، والرخاء بعد الشّدة والعناء، وذلك أنه كان في شدة بمكة فقال تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وإنما كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرّجاء قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» وقال ابن مسعود: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخله عليه ويخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين قال المفسرون في معنى قوله لن يغلب عسر يسرين إن الله تعالى كرر لفظ العسر، وذكره بلفظ المعرفة، وكرر اليسر بلفظ النكرة، ومن عادة العرب. إذا ذكرت اسما معرفا ثم أعادته كان الثاني هو الأول وإذا ذكرت اسما نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول كقولك كسبت درهما فأنفقت درهما. فالثاني غير الأول وإذا قلت كسبت درهما، فأنفقت الدرهم فالثاني هو الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسرا واحدا، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين، فكأنه قال فإن مع العسر يسرا إن مع ذلك العسر يسرا آخر وزيف أبو على الحسن بن يحيى الجرجاني صاحب النظم هذا القول، وقال قد تكلم الناس في قوله لن يغلب عسر يسرين فلم يحصل منه غير قولهم إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران وهو قول مدخول فيه إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين فمجاز قوله لن يغلب عسر يسرين أن الله عز وجل بعث نبيه صلّى الله عليه وسلّم وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فاغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره فعدد الله نعمه عليه في هذه السّورة، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم. فقال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي لا يحرنك الذي يقولون فإن مع العسر الذي في الدّنيا يسرا عاجلا، ثم أنجز ما وعده وفتح عليه القرى القريبة، ووسع ذات يده حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السّنية ثم ابتدأ فضلا آخر من أمور الآخرة فقال تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً والدّليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين، والمعنى أن مع العسر الذي في الدّنيا للمؤمن يسرا في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية فقوله لن يغلب عسر يسرين أي إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة، فدائم أبدا غير زائل، أي لا يجتمعان في الغلبة فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص قال القشيري: كنت يوما في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقالت: أرى الموت لمن أصبح ... مغموما له أروح فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف في الهواء:

[سورة الشرح (94): الآيات 7 إلى 8]

ألا يا أيها المرء ... الذي الهم به برح وقد أنشد بيتا لم ... يزل في فكره يسنح إذا اشتد بك العسر ففكر ... في ألم نشرح فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح قال فحفظت الأبيات ففرج الله عني وقال إسحاق بن بهلول القاضي: فلا تيأس إذا أعسرت يوما ... فقد أيسرت في دهر طويل ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل فإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل وقال أحمد بن سليمان في المعنى: توقع لعسر دهاك سرورا ... ترى العسر عنك بيسر تسرى فما الله يخلف ميعاده ... وقد قال إن مع العسر يسرا وقال غيره: وكل الحادثات إذا تناهت ... يكون وراءها فرج قريب [سورة الشرح (94): الآيات 7 الى 8] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) قوله عز وجل: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ لما عدد الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم نعمه السالفة حثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، والنصب التعب قال ابن عباس: إذا فرغت من الصّلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام اللّيل، وقيل إذا فرغت من التّشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقيل إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك، وقيل إذا فرغت من تبليغ الرّسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين. قال عمر بن الخطاب إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته. السبهلل الذي لا شيء معه، وقيل السبهلل الباطل وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي تضرع إليه راغبا في الجنة راهبا من النار، وقيل اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه والله أعلم.

سورة والتين

سورة والتين (مكية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة التين (95): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) قوله عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قال ابن عباس: هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قيل إنما خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التّنغيص، وفيه غذاء ويشبه فواكه الجنة لكونه بلا عجم. ومن خواصه أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يخرج بطريق الرشح ويلين الطبيعة، ويقلل البلغم وأما الزيتون فإنه من شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به وشجرته في أغلب البلاد ولا يحتاج إلى خدمة وتربية وينبت في الجبال التي ليست فيها دهنية ويمكث في الأرض ألوفا من السنين، فلما كان فيهما من المنافع، والمصالح الدّالة على قدرة خالقهما لا جرم أقسم الله بهما، وقيل هما جبلان فالتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، واسمهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما ينبتان التين والزيتون، وقيل هما مسجدان فالتين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وإنما حسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة، وقيل التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء، وقيل التين مسجد نوح الذي بناه على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس وَطُورِ سِينِينَ يعني الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصّلاة والسّلام وسينين اسم للمكان الذي فيه الجبل سمي سينين وسيناء لحسنه ولكونه مباركا وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني الآمن، وهو مكة حرسها الله تعالى لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيده ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد وهذه أقسام أقسم الله بها لما فيها من المنافع والبركة وجواب القسم قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يعني في أعدل قامة، وأحسن صورة، وذلك أنه تعالى خلق كل حيوان منكبا على وجهه يأكل بفيه إلا الإنسان فإنه خلقه مديد القامة حسن الصورة يتناول مأكوله بيده مزينا بالعلم، والفهم، والعقل، والتّمييز، والمنطق. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يعني إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله والسّافلون هم الضّعفاء، والزمنى والأطفال والشّيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا لأنه لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، وقيل ثم رددناه إلى النّار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض ثم استثنى. فقال تعالى:

[سورة التين (95): الآيات 6 إلى 8]

[سورة التين (95): الآيات 6 الى 8] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يردون إلى النار أو إلى أسفل سافلين وعلى القول الأول يكون الاستثناء منقطعا، والمعنى ثم رددناه أسفل سافلين فزال عقله وانقطع عمله فلا تكتب له حسنة لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضّعف، فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملون في حالة الشّباب والصّحة وقال ابن عباس: هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم فعلى هذا القول السبب خاص وحكمه عام قال عكرمة ما يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل وروي عن ابن عباس: قال إلا الذين قرءوا القرآن وقال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني غير مقطوع لأنه يكتب له بصالح ما كان يعمل قال الضّحاك: أجر بغير عمل ثم قال إلزاما للحجة. فَما يُكَذِّبُكَ يعني يا أيها الإنسان وهو خطاب على طريق الالتفات بَعْدُ أي بعد هذه الحجة والبرهان بِالدِّينِ أي بالحساب والجزاء، والمعنى فما الذي يلجئك أيها الناس إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك، ومبدأ خلقك، وهرمك، فتعتبر وتقول أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذبك بالمجازاة، وقيل هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى فمن يكذبك أيها الرّسول بعد ظهور هذه الدّلائل، والبراهين أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي بأقضى القاضين يحكم بينكم وبين أهل التكذيب يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشّاهدين» أخرجه الترمذي وعن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر فصلّى العشاء الأخيرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه صلّى الله عليه وسلّم» والله تعالى أعلم.

سورة العلق

سورة العلق (مكية وهي تسع عشرة آية واثنتان وتسعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا) قال أكثر المفسرين هذه السّورة أول سورة نزلت من القرآن وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ (ق) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة» ولمسلم «الصّادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الوحي» وفي رواية حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ثم قال لخديجة أي خديجة ما لي وأخبرها الخبر قال لقد خشيت على نفسي قالت له خديجة كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرّحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: أيّ ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو مخرجيّ هم؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال: حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. (فصل) في هذا الحديث دليل صحيح صريح على أن سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن وفيه رد على من قال إن المدثر أول ما نزل من القرآن، وقد تقدم الكلام على ذلك والجمع بين القولين في أول سورة المدثر وهذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلّى الله عليه وسلّم أو من غيره من الصحابة ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وإنما ابتدئ

[سورة العلق (96): آية 1]

صلّى الله عليه وسلّم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك، فيأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأول علامات النبوة توطئه للوحي، وأما التّحنث فقد فسر في الحديث بالتعبد، وهو تفسير صحيح لأن أصل التحنث من الحنث، وهو الإثم، والمعنى أنه فعل فعلا يخرج به من الإثم وقولها فجأة الحق أي جاءه الحق بالوحي بغتة. قوله: فغطني بالغين المعجمة، والطاء المشالة المهملة، أي عصرني، وضمني ضما شديدا، وهو قوله حتى بلغ مني الجهد قال العلماء: والحكمة في الغط شغله عن الالتفات إلى غيره، والمبالغة في صفاء قلبه ولهذا كرره ثلاثا. قوله: زملوني زملوني كذا هو في الروايات مكرر مرتين، ومعناه غطوني بالثياب، وقوله حتى ذهب عنه الرّوع أي الفزع قولها كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا يروى بضم الياء وبالخاء المعجمة من الخزي أي لا يفضحك الله، ولا يكسرك، ولا يهينك ولا يذلك وروي بفتح الياء وبالحاء المهملة وبالنون أي لا يحزنك من الحزن الذي هو ضد الفرح وقولها وتحمل الكل أي الثقيل والحوائج المهمة، وتكسب المعدوم أي تعطي المال لمن هو معدوم عنده ومعنى كلام خديجة أنك لا يصيبك مكروه لما جعل فيك من مكارم الأخلاق وحميد الفعال. وخصال الخير وذلك سبب السلامة من مصارع السوء. قولها: وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية مسلم «وكان يكتب الكتاب العربي يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب» ومعناهما صحيح وحاصله أنه تمكن من دين النصرانية بحيث صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية إن أراد، أو بالعربية إن أراد ذلك، قوله هذا النّاموس الذي أنزل الله على موسى هو بالنون والسين المهملة، يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام ومعنى النّاموس صاحب خبر الخير. إنما سمي جبريل بذلك لأن الله خصه بالوحي إلى الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام قوله يا ليتني فيها، أي في أيام النّبوة وإظهار الرّسالة جذعا أي شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك، وهو قوله وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي قويا بالغا قولها ثم لم يلبث ورقة أن توفي أي فلم يلبث أن مات قبل ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله كي يتردى التّردي الوقوع من علو، وذروة الجبل أعلاه قوله تبدى له أي ظهر له قوله فيسكن لذلك جأشه أي قلبه، وقيل الجأش هو ثبوت القلب عند الأمر العظيم المهول، وقيل الجأش هو ما ثار من فزعه وهاج من حزنه والله أعلم. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة العلق (96): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) قوله عزّ وجلّ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبا، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة الَّذِي خَلَقَ يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء.

[سورة العلق (96): الآيات 2 إلى 10]

[سورة العلق (96): الآيات 2 الى 10] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها، وأحسنها خلقه مِنْ عَلَقٍ جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضا اقْرَأْ كرره تأكيدا وقيل الأول اقرأ في نفسك، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف. فقال تعالى: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عينا بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين، وقيل الأكرم هو الذي لا الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة. لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش، فسأل بعضهم عن الكلام، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قيل يحتمل أن يكون المراد علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فيكون المراد من ذلك معنى واحدا، وقيل علمه من أنواع العلم، والهداية، والبيان، ما لم يكن يعلم، وقيل علم آدم الأسماء كلها، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي حقا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أي يتجاوز الحد، ويستكبر على ربه أَنْ أي لأن رَآهُ اسْتَغْنى أي رأى نفسه غنيا وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالا فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغ متكبر. [سورة العلق (96): الآيات 9 الى 19] أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة (م) عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقيل نعم فقال واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» فأنزل الله هذه الآية، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه كلا إن الإنسان ليطغى إلى قوله كلا لا تطعه قال: وأمره بما أمره به زاد في رواية، فليدع ناديه يعني قومه (خ) عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد التّرمذي عيانا ومعنى أرأيت تعجبا للمخاطب وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفائدة التنكير في قوله عبدا تدل على أنه كامل العبودية، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية، وهذا دأبه وعادته، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة، ولا يلزم من ذلك أيضا عدم جواز منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل، وصوم

التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني العبد المنهي وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى يعني في الإخلاص والتوحيد أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ يعني أبا جهل وَتَوَلَّى أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبدا إذا صلّى وهو على الهدى آمر بالتّقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا أَلَمْ يَعْلَمْ يعني أبا جهل بِأَنَّ اللَّهَ يَرى يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم كَلَّا أي لا يعلم ذلك أبو جهل لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ يعني عن إيذاء محمد صلّى الله عليه وسلّم وعن تكذيبه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال على البدل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي صاحبها كاذب خاطئ. قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة انتهره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو جهل: أتنتهرني فو الله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا، ورجالا مردا وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم فزبره فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن غريب صحيح، ومعنى فليدع ناديه أي عشيرته وقومه فلينتصر بهم، وأصل النادي المجلس الذي يجمع الناس، ولا يسمى ناديا ما لم يكن فيه أهله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يعني الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس: يريد زبانية جهنم سموا بذلك لأنهم يدفعون أهل النّار إليها بشدة مأخوذ من الزّبن وهو الدفع كَلَّا أي ليس الأمر على ما هو عليه أبو جهل لا تُطِعْهُ أي في ترك الصّلاة وَاسْجُدْ يعني صل لله وَاقْتَرِبْ أي من الله (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء» وهذه السّجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشّافعي فيسن للقارئ، والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت» أخرجه مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة القدر

سورة القدر وهي مدنية وقيل إنها مكية والقول الأول أصح، وهو قول الأكثرين، قيل إنها أول ما نزل بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنا عشر حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القدر (97): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن كناية عن غير مذكور فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر فوضعه في بيت العزة، ثم نزل به جبريل عليه السّلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم نجوما متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحسب الوقائع، والحاجة إليه، وقيل إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور، والأحكام، والأرزاق، والآجال، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض في الأزل، قيل للحسين بن الفضل أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض قال: نعم قيل له فما معنى ليلة القدر قال سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها على اللّيالي من قولهم لفلان قدر عند الأمير، أي منزلة وجاه، وقيل سميت بذلك لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولا، وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها. (فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها) (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، واختلف العلماء في وقتها فقال بعضهم إنها كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم رفعت لقوله صلّى الله عليه وسلّم حين تلاحى الرجلان «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم» وهذا غلط ممن قال بهذا القول لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلّى الله عليه وسلّم قال في آخره «فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة»، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن ليلة القدر رفعت قال كذب من قال ذلك قلت هي في كل شهر رمضان استقبله قال نعم. ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها، فقيل هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في

ليلة أخرى هكذا أبدا قالوا: وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة وقال: مالك والثّوري وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل بل تنتقل في رمضان كله، وقيل إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبدا في جميع السنين لا تفارقها، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة، وصاحبيه وروي عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرّحمن. أما إنه علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وقال جمهور العلماء: إنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة فقال أبو رزين العقيلي: في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل هي ليلة سبعة عشر وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر يحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان والله سبحانه وتعالى أعلم. (ذكر الأحاديث الواردة في ذلك) (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين (ق) عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال «اعتكفنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العشر الأواسط فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا فأتانا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه، وأنا رأيت هذه الليلة، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا فو الذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم، وكان المسجد على عريش، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين»، وفي رواية نحوه إلا أنه قال «حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر»، وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثا عن عبد الله بن أنيس قال: «كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة القدر وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت فوافيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال كم اللّيلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي اللّيلة، ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثا وعشرين» أخرجه أبو داود. وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ومال إليه الشّافعي أيضا (خ) عن الصّنابحي، أنه سأل رجلا هل سمعت في ليلة القدر شيئا قال، أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها في أول السبع من العشر الأواخر، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال: «قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين قيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال: كان يدخل المسجد إذا صلّى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلّى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته» أخرجه أبو داود ولمسلم عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين» قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين (خ) عن ابن عباس قال التمسوها في أربع وعشرين، وقيل في ليلة خمس وعشرين دليله قوله صلّى الله عليه وسلّم «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»، وقيل هي ليلة سبع وعشرين يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وإليه ذهب أحمد (م) عن زر بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر قال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي

[سورة القدر (97): الآيات 3 إلى 5]

رمضان يحلف، ولا يستثني، فو الله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها عن معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «في ليلة القدر، قال ليلة سبع وعشرين» أخرجه أبو داود، وقيل هي ليلة تسع وعشرين دليله قوله «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وقيل هي ليلة آخر الشهر، عن ابن عمر قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة القدر وأنا أسمع، فقال هي في كل رمضان» أخرجه أبو داود قال ويروى موقوفا عليه. (ذكر ليال مشتركة) عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر «اطلبوها ليلة سبع وعشرين من رمضان، وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، ثم سكت» أخرجه أبو داود عن عتبة بن عبد الرّحمن قال: حدثني أبي قال ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول «التمسوها في تسع يبقين أو في خمس يبقين، أو في ثلاث يبقين أواخر الشهر» قال وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد أخرجه التّرمذي (خ) عن عبادة بن الصّامت قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» قوله فتلاحى رجلان أي تخاصم رجلان، وقوله فرفعت لم يرد رفع عينها، وإنما أراد رفع بيان وقتها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هي في العشر في سبع مضين أو سبع يبقين يعني القدر» وفي رواية «في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» قال أبو عيسى: «روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان» قال الشّافعي: كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له نلتمسها في كذا، فقال التمسوها في ليلة كذا قال الشّافعي: وأقوى الروايات عندي في ليلة إحدى وعشرين قال البغوي وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصّلاة الوسطى في الصّلوات الخمس، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه، ورضاه في الطّاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام السّاعة ليجتهدوا في الطاعات حذرا من قيامها، ومن علاماتها. ما روى الحسن رفعه «إنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها» (ق) عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر الأواخر أحيا اللّيل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر» ولمسلم عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره» (ق) عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان» عن عائشة قالت «قلت يا رسول الله إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح أخرجه النسائي وابن ماجة. [سورة القدر (97): الآيات 3 الى 5] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها، وهذا على سبيل

التعظيم لها، والتّشويق إلى خيرها ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه: فقال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ابن عباس: ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بني إسرائيل حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لذلك، وتمنى ذلك لأمته فقال: يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا، وأقلها أعمالا، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر، فقال ليلة القدر خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السّلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة، وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أرى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أي لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر أخرجه مالك في الموطأ قال المفسرون: معناه العمل الصّالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة. الوجه الثاني: من فضلها قوله عزّ وجلّ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يعني إلى الأرض وسبب هذا أنهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وظهر أن الأمر بخلاف ما قالوه وتبين حال المؤمنين وما هم عليه من الطاعة، والعبادة، والجد، والاجتهاد نزلوا إليهم ليسلموا عليها ويعتذروا مما قالوه، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم وَالرُّوحُ يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله أكثر المفسرين: وفي حديث أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون، ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ» ذكره ابن الجوزي، وقيل إن الرّوح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشّمس إلى طلوع الفجر، وقيل إن الروح ملك عظيم ينزل مع الملائكة، تلك الليلة فِيها أي في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمر ربهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي بكل أمر من الخير والبركة، وقيل بكل ما أمر به وقضاه من كل أمر. الوجه الثالث: من فضلها قوله تعالى: سَلامٌ أي سلام على أولياء الله وأهل طاعته قال الشّعبي: هو تسليم الملائكة في ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، وقيل الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمنا أو مؤمنة يسلمون عليه من ربه عزّ وجلّ، وقيل تم الكلام عند قوله مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ثم ابتدأ فقال تعالى: سَلامٌ هِيَ يعني القدر سلامة وخير ليس فيها شر، وقيل لا يقدر الله في تلك اللّيلة ولا يقضي إلا السلامة، وقيل إن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يحدث فيها أذى حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي أن ذلك السّلام أو السّلامة تدوم إلى مطلع الفجر، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

سورة لم يكن

سورة لم يكن وتسمى سورة البينة وهي مدنية قاله الجمهور، وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية هي ثمان آيات، وأربع وتسعون كلمة وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البينة (98): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنّصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل كتاب وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله وتشبيههم الله بخلقه، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك، والثاني المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله الجنسين في قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي منتهين عن كفرهم وشركهم وقيل معناه زائلين حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي حتى أتتهم لفظه مضارع ومعناه الماضي الْبَيِّنَةُ أي الحجة الواضحة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم، وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين، قال الواحدي في بسيطة: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما، وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الإمام فخر الدين في تفسيره إنه لم يلخص كيفية الأشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عما ذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني قال والجواب عنه من وجوه: أولها: وأحسنها الوجه، الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال وَما

[سورة البينة (98): الآيات 5 إلى 8]

تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا، فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخا، وإلزاما قال الإمام فخر الدين: وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوها أخر قال: والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي تلك البينة رسول من الله يَتْلُوا أي يقرأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم صُحُفاً أي كتبا يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب مُطَهَّرَةً أي من الباطل والكذب والزّور، والمعنى أنها مطهرة من القبيح، وقيل معنى مطهرة معظمة، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون فِيها أي في الصحف كُتُبٌ أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام قَيِّمَةٌ أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال تعالى: [سورة البينة (98): الآيات 5 الى 8] وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) وَما أُمِرُوا يعني هؤلاء الكفار إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس: ما أمروا في التوراة، والإنجيل، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة، وتجريدها عن شوائب الرّياء، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة. كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات، قال أصحاب الشّافعي: الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا، فتجب النية في الوضوء، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصا له، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة من النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافا لربه عزّ وجلّ بالرّبوبية، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» حُنَفاءَ

أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وقيل حنفاء أي حجاجا وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم فليس بحنيف وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي المفروضة عند محلها وَذلِكَ أي الذي أمروا به دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة ردا إلى الملة، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة، وقيل القيمة جمع القيم، والقيم، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولا وأتبعه بالعمل ثانيا ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين. قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم. فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب. قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أذلهم الله في الدّنيا، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب. فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا: فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين: رضا به ورضا عنه، فالرضا به أن يكون ربا ومدبرا، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك، وقيل: رضي الله أعمالهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة ذلِكَ أي هذا الجزاء والرضا لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال وسماني قال نعم فبكى» وفي رواية البخاري «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال الله سماني لك، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه»: (شرح غريب الحديث) أما بكاء أبي فإنه بكى سرورا، واستصغارا لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما: كونه منصوصا عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكره هذه النعمة.

وأما تخصيص هذه السّورة بالقراءة، فإنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات عظيمة، وكان الحال يقتضي الاختصار، وأما الحكمة في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة على أبي فهي أن يتعلم أبي القراءة من ألفاظه صلّى الله عليه وسلّم، وضبط أسلوب الوزن المشروع وقدره بخلاف ما سواه من النّعم المستعملة في غيره فكانت قراءته على أبي ليتعلم أبي منه لا ليتعلم هو من أبي وقيل إنما قرأ على أبي ليتعلم غيره التواضع والأدب وأن لا يستنكف الشريف وصاحب الرتبة العالية أن يتعلم القرآن ممن هو دونه، وفيه تنبيه على فضيلة أبي والحث عن الأخذ عنه وتقديمه في ذلك فكان كذلك بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسا وإما ما في القراءة وغيرها، وكان أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة وهي مكية وقيل مدنية وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسعة وأربعون حرفا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» أخرجه التّرمذي وقال: حديث غريب وله عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له نصف القرآن ومن قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عدلت له ثلث القرآن» وقال حديث غريب. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) قوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي تحركت حركة شديدة، واضطربت، وذلك عند قيام الساعة، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل، وشجر، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان أحدهما: وهو قول الأكثرين، أنها في الدّنيا، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها، وما في بطنها من الدّفائن، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب، والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع، فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها، لأن الكبد مستور في الجوف، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور، واستعار القيء للإخراج، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتا. وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان. أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فإذا وقعت سأل عنها، وقيل مجاز الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فيقول الإنسان ما لها، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر، فتشكوا العاصي، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له «عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

[سورة الزلزلة (99): الآيات 7 إلى 8]

هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس: أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة، والعقل، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي عن موقف الحساب بعد العرض أَشْتاتاً أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر وهو قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99): الآيات 7 الى 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه، وماله، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ وكان أحدهما يأتيه السائل، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود: أحكم آية في القرآن فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وسمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير، فقال ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب، وقالا فيها مثاقيل كثيرة، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم: مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة العاديات

سورة العاديات وهي مكية في قول ابن مسعود وغيره مدنية في قول ابن عباس، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) قوله عزّ وجلّ: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فيه قولان أحدهما، أنها الإبل في الحج قال عليّ كرم الله وجهه: هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، وعنه قال كانت أول غزاة في الإسلام بدرا، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزّبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات؟ فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها مد أعناقها في السير وأصله من حركة النار في العود. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يعني أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها فيضرب الحجر حجرا آخر فيوري النّار، وقيل هي النيران بجمع فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الإبل تدفع بركبانها يوم النّحر من جمع إلى منى والسنة أن لا يدفع حتى يصبح والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم أشرق ثبير كيما نغير فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أي هيجن بمكان سيرها غبارا. [سورة العاديات (100): الآيات 5 الى 11] فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي وسطن بالنقع جمعا وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للتّرغيب وفيه تقريع لمن لم يحج بعد القدرة عليه، فإن الكنود هو الكفور، ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك القول الثاني في تفسير والعاديات، قال ابن عباس وجماعة هي الخيل العادية في سبيل الله والضبح صوت أجوافها إذا غدت قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس، والكلب، والثعلب، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع أو تعب، وهو من قول العرب ضبحته النّار إذا غيرت لونه، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً يعني أنها توري النّار بحوافرها إذا سارت في الحجارة، وقيل هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها وقال ابن عباس: هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي باللّيل فيوري أصحابها نارا، ويصنعون طعامهم، وقيل هو مكر الرّجال في الحرب، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصّباح لأن النّاس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد، فَأَثَرْنَ بِهِ أي بالمكان نَقْعاً أي غبارا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي دخلن به أي بذلك النّقع وهو الغبار، وقيل صرن بعدوهن وسط جمع العدو، وهم الكتيبة وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصّحة، وأشبه بالمعنى، لأن الضبح من صفة

الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها، وإثارة الغبار أيضا، وإنما أقسم الله بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية، والدنيوية، والأجر، والغنيمة، وتنبيها على فضلها، وفضل رباطها في سبيل الله عزّ وجلّ، ولما ذكر الله تعالى المقسم به ذكر المقسم عليه. فقال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور وهو جواب القسم قال ابن عباس: الكنود الكفور الجحود لنعمة الله تعالى، وقيل الكنود هو العاصي، وقيل هو الذي يعد المصائب، وينسى النّعم، وقيل هو قليل الخير مأخوذ من الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت شيئا، وقال الفضيل بن عياض الكنود: الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، وضده الشّكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قال أكثر المفسرين: وإن الله على كونه كنود الشّاهد، وقيل الهاء راجعة إلى الإنسان، والمعنى أنه شاهد على نفسه بما صنع وَإِنَّهُ يعني الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال لَشَدِيدٌ أي لبخيل والمعنى أنه من أجل حب المال لبخيل، وقيل معناه وإنه لحب المال وإيثار الدّنيا لقوي شديد أَفَلا يَعْلَمُ يعني هذا الإنسان إِذا بُعْثِرَ أي أثير وأخرج ما فِي الْقُبُورِ يعني من الموتى وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي ميز وأبرز ما فيها من الخير والشر إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ أي جمع الكناية لأن الإنسان اسم جنس يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي عالم والله تعالى خبير بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم على كفرهم وإنما خص أعمال القلوب بالذّكر في قوله، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات التي في القلوب لما حصلت أعمال الجوارح والله أعلم.

سورة القارعة

سورة القارعة مكية وهي ثمان آيات وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) قوله عزّ وجلّ: الْقارِعَةُ أصل القرع الصّوت الشّديد، ومنه قوارع الدّهر أي شدائده، والقارعة من أسماء القيامة. سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع، والشدائد وقيل سميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته، مَا الْقارِعَةُ تهويل وتعظيم، والمعنى أنها فاقت القوارع في الهول والشّدة وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها فهم أحد وكيفما قدرت أمرها فهي أعظم من ذلك يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ الفراش هذه الطير التي تراها تتهافت في النار سميت بذلك لفرشها، وانتشارها، وإنما شبه الخلق عند البعث بالفراش، لأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة. بل كل واحدة تذهب إلى غير جهة الأخرى، فدل بهذا التشبيه على أن الخلق في البعث يتفرقون، فيذهب كل واحد إلى غير جهة الآخر، والمبثوث المتفرق، وشبههم أيضا بالجراد فقال: كأنهم جراد منتشر وإنما شبههم بالجراد لكثرتهم قال الفراء: كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا فشبه الناس عند البعث بالجراد لكثرتهم بموج بعضهم في بعض، ويركب بعضهم بعضا من شدة الهول. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي كالصّوف المندوف، وذلك لأنها تتفرق أجزاؤها في ذلك اليوم حتى تصير كالصّوف المتطاير عند الندف، وإنما ضم بين حال الناس وحال الجبال، كأنه تعالى نبه على تأثير تلك القارعة في الجبال العظيمة الصّلدة الصّلبة حتى تصير كالعهن المنفوش، فكيف حال الإنسان الضّعيف عند سماع صوت القارعة ثم لما ذكر حال القيامة قسم الخلق على قسمين فقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ يعني رجحت موازين حسناته قيل هو جمع موزون، وهو العمل الذي له قدر وخطر عند الله تعالى، وقيل هو جمع ميزان وهو الذي له لسان وكفتان توزن فيه الأعمال فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان، فإن رجحت فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فتخف ميزانه، فيدخل النار، وقيل إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار، فيقتص منه على قدرها ثم يخرج منها، فيدخل الجنة أو يعفو الله عنه بكرمه، فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه، ورحمته، وأما الكافرون فقد قال: في

حقهم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً روى عن أبي بكر الصّديق أنه قال: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدّنيا، وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية في الجنة، وقيل في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي رجحت سيئاته على حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي مسكنة النّار سمي المسكن أمّا لأن الأصل في السكون الأمهات، وقيل معناه فأم رأسه هاوية في النّار، والهاوية اسم من أسماء النار، وهي المهواة التي لا يدرك قعرها فيهوون فيها على رؤوسهم، وقيل كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال هوت أمه أي هلكت حزنا وثكلا وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ يعني الهاوية ثم فسرها فقال نارٌ حامِيَةٌ أي حارة قد انتهى حرها نعوذ بالله وعظمته منها والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة التكاثر

سورة التكاثر مكية وهي ثمان آيات وثمان وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) قوله عزّ وجلّ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي شغلتكم المفاخرة، والمباهاة، والمكاثرة بكثرة المال، والعدد، والمناقب عن طاعة الله ربكم، وما ينجيكم من سخطه، ومعلوم أن من اشتغل بشيء أعرض عن غيره، فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه وشغله في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه عزّ وجلّ. فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان، والأقرباء تفاخر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السّعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويدل على أن المكاثرة، والمفاخرة بالمال مذمومة، ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ «فقال يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح (خ) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه ماله وأهله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى متم ودفنتم في المقابر يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه، فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك قيل نزلت هذه الآية في اليهود، قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالا، وقيل نزلت في حيين من قريش، وهما بنو عبد مناف، وبنو سهم بن عمرو، وكان بينهم تفاخر فتعادوا القادة، والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عددا، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكاثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا نعد موتانا فعدوا الموتى حتى زار والقبور، فعدوهم فقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددا فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن لأن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ يدل على أمر مضى، فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول مجيبا هب إنكم أكثر عددا، فماذا ينفع ثم رد الله تعالى عليهم فقال: [سورة التكاثر (102): الآيات 3 الى 8] كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) كَلَّا أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء بالتّكاثر والتّفاخر، وقيل المعنى حقا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد لهم

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كرره توكيدا والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت، فهو وعيد بعد وعيد، وقيل معناه كلا سوف تعلمون يعني الكافرين ثم كلا سوف تعلمون يعني المؤمنين وصاحب هذا القول يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينا وجواب لو محذوف والمعنى لو تعلمون علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التّكاثر والتّفاخر، قال قتادة كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد، وإن ما أوعدوا به لا يدخله شك ولا ريب، والمعنى أنكم ترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت ثُمَّ لَتَرَوُنَّها يعني مشاهدة عَيْنَ الْيَقِينِ وإنما كرر الرّؤية لتأكيد الوعيد ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ يعني أن كفار مكة كانوا في الدّنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه لأنهم لم يشكروا رب النّعيم حيث عبدوا غيره ثم يعذبون على ترك الشكر، وذلك لأن الكفار لما ألهاهم التّكاثر بالدّنيا، والتّفاخر بلذاتها عن طاعة الله والاشتغال بشكره سألهم عن ذلك، وقيل إن هذا السّؤال يعم الكافر، والمؤمن، وهو الأولى لكن سؤال الكافر توبيخ، وتقريع لأنه ترك شكر ما أنعم الله به عليه، والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم لأنه شكر ما أنعم الله به عليه، وأطاع ربه فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم الله عليه. يدل على ذلك ما روي «عن الزّبير قال لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التّمر والماء قال أما أنه سيكون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن واختلفوا في النعيم الذي يسأل البعد عنه، فروي عن ابن مسعود رفعه قال لتسألن يومئذ عن النّعيم قال الأمن، والصحة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد» أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال صلّى الله عليه وسلّم ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة، قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين فلان قالت ذهب يستعذب لنا الماء إذا جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب فقال: كلوا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياك والحلوب، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النّعيم» وأخرجه التّرمذي بأطول من هذا «وفيه ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وروي عن ابن عباس قال: النّعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العبيد يوم القيامة فيم استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وقيل يسأل عن الصحة والفراغ والمال (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»، وقيل الذي يسأل العبد عنه هو القدر الزائد على ما يحتاج إليه فإنه لا بد لكل أحد من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، وقيل يسأل عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن، وقيل عن الإسلام فإنه أكبر النّعم، وقيل يسأل عما أنعم به عليكم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أنقذكم به من الضّلال إلى الهدى، والنّور وامتنّ به عليكم والله أعلم.

سورة العصر

سورة العصر مكية قاله ابن عباس والجمهور وقيل هي مدنية وهي ثلاث آيات وأربع عشر كلمة وثمانية وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) قوله عزّ وجلّ: وَالْعَصْرِ قال ابن عباس: هو الدّهر قيل أقسم الله به لما فيه من العبر، والعجائب للنّاظر وقد ورد في الحديث «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وذلك لأنهم كانوا يضيفون النّوائب والنّوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيها على شرفه وأن الله هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النّوائب والنّوازل كان بقضاء الله وقدره، وقيل تقديره ورب العصر، وقيل أراد بالعصر اللّيل والنّهار لأنهما يقال لهما العصران، فنبه على شرف الليل والنهار لأنهما خزانتان لأعمال العباد، وقيل أراد بالعصر آخر طرفي النهار أقسم بالعشي كما أقسم بالضّحى، وقيل أراد صلاة العصر أقسم بها لشرفها ولأنها الصّلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى لما قيل هي صلاة العصر والذي في مصحف عائشة رضي الله عنها وحفصة والصّلاة الوسطى صلاة العصر وفي الصحيحين «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» وقال صلّى الله عليه وسلّم «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»، وقيل أراد بالعصر زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ نبه بذلك على أنه زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي لفي خسران ونقصان قيل أراد بالإنسان جنس الإنسان بدليل قولهم كثر الدرهم في أيدي الناس أي الدرهم وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران، لأن الخسران هو تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك السّاعة في طاعة أو معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر وإن كانت في طاعة، فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعا وخسرانا، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران، وقيل إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة وحبها والإعراض عن الدّنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية، والأسباب الدّاعية إلى حب الدّنيا ظاهرة، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدّنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في خسار وبوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم، وقيل أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني فإنهم ليسوا في خسر، والمعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله تعالى فهو في

صلاح وخير وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك. وَتَواصَوْا أي أوصى بعض المؤمنين بعضا بِالْحَقِّ يعني بالقرآن والعمل بما فيه، وقيل بالإيمان والتّوحيد وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي على أداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده، وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدّنيا وهرم لفي نقص وتراجع إلا الذين آمنوا، وعملوا الصّالحات فإنهم تكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم وهي مثل قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الهمزة

سورة الهمزة مكية وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الهمزة (104): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ أي قبح، وقيل اسم واد في جهنم لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن عباس هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب وقيل معناهما واحد وهو العياب المغتاب للناس في بعضهم قال الشاعر: إذا لقيتك من كره تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزا وقيل بل يختلف معناهما فقيل الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللّمزة الذي يعيبك في الوجه، وقيل هو على ضده، وقيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللّمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم، وقيل هو الذي يهمز بلسانه ويلمز بعينه، وقيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يرمق بعينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه، وقيل الهمزة المغتاب للناس واللمزة الطعان في أنسابهم وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب وأصل الهمز الكسر والقبض على الشيء بالعنف، والمراد منه هنا الكسر من أعراض الناس والغض منهم، والطعن فيهم، ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم، وأفعالهم، وأصواتهم ليضحكوا منه، وهما نعتان للفاعل على نحو سخرة وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب. كان يقع في الناس ويغتابهم وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ورائه ويطعن عليه في وجهه، وقيل نزلت في العاص بن وائل السّهمي، وقيل هي عامة في كل شخص هذه صفته كائنا من كان، وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ والحكم، ومن قال إنها في أناس معينين قال أن يكون اللّفظ عاما لا ينافي أن يكون المراد منه شخصا معينا وهو تخصيص العام بقرينة العرف والأولى أن تحمل على العموم في كل من هذه صفته ثم وصفه فقال تعالى: [سورة الهمزة (104): الآيات 2 الى 9] الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الَّذِي جَمَعَ مالًا وإنما وصفه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز يعني وهو بإعجابه بما جمع من المال يستصغر الناس ويسخر منهم، وإنما نكر مالا لأنه بالنسبة إلى مال هو أكثر منه

كالشّيء الحقير وإن كان عظيما عند صاحبه فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر بالشيء الحقير وَعَدَّدَهُ أي أحصاه من العدد، وقيل هو من العدة أي استعده وجعله ذخيرة وغنى له يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت ليساره وغناه قال الحسن ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ومعناه أن الناس لا يشكون في الموت مع أنهم يعملون عمل من يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت كَلَّا رد عليه أي لا يخلده ماله بل يخلده ذكر العلم، والعمل الصّالح ومنه قول علي: مات خزان المال، وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، وقيل معناه حقا لَيُنْبَذَنَّ واللام في لينبذن جواب القسم فدل ذلك على حصول معنى القسم، ومعنى لينبذن ليطرحن فِي الْحُطَمَةِ أي في النار، وهو اسم من أسمائها مثل سقر ولظى، وقيل هو اسم للدركة الثانية منها وسميت حطمة لأنها تحطم العظام وتكسرها، والمعنى يا أيّها الهمزة اللمزة الذي يأكل لحوم الناس، ويكسر من أعراضهم إن وراءك الحطمة التي تأكل اللحوم وتكسر العظام وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ أي نار لا كسائر النيران نارُ اللَّهِ إنما أضافها إليه على سبيل التفخيم والتعظيم لها الْمُوقَدَةُ أي لا تخمد أبدا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أوقد على النّار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» أخرجه التّرمذي قال ويروى عن أبي هريرة موقوفا وهو أصح الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب، والمعنى أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد، وإنما خص الفؤاد بالذكر لأنه ألطف شيء في بدن الإنسان، وأنه يتألم بأدنى شيء، فكيف إذا اطلعت عليه واستولت عليه، ثم إنه مع لطافته لا يحترق إذ لو احترق لمات صاحبه، وليس في النار موت، وقيل إنما خصه بالذكر لأن القلب موطن الكفر، والعقائد، والنيات الفاسدة. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قال ابن عباس: أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب، وقال قتادة: بلغنا أنهم عمد يعذبون بها في النّار، وقيل هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، والمعنى أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممدودة، وقيل أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا ينفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح، وممددة صفة العمد، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة نعوذ بالله من النار، وحرها والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الفيل

سورة الفيل مكية وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الفيل (105): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ كانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس، وذكره الواقدي أن النجاشي ملك الحبشة كان بعث أرياط إلى اليمن، فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة بن الصّباح بن يكسوم، فساخط أرياط في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين، فكان طائفة مع أرياط، وطائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط، واجتمعت الحبشة لأبرهة، وغلب على اليمن، وأقره النّجاشي على عمله، ثم إن أبرهة رأى النّاس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله عزّ وجلّ، فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب إلى النّجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج لها ليلا، فدخل وتغوط فيها ولطّخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ عليّ، فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلا لم ير مثله عظما، وجسما، وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائرا إلى مكة، وخرج معهم الفيل، فسمعت العرب بذلك، فعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتلوه فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر فقال يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستحياه وأوثقه وكان أبرهة رجلا حليما، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم، خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، وأخذ نفيلا فقال نفيل أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطّاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل بحناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال له إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال، إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال ولا

لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه الصّلاة والسّلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبين ذلك فو الله ما لنا به قوة قال فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم على العسكر، وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال فما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك، ومنزلتك عنده قال فأرسل إلى أنيس، فأتاه فقال، له إن هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة يطعم النّاس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له، فيكلمك فقد جاء غير ناصب، ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلا جسيما، وسيما فلما رآه أبرهة عظمه، وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه، فأجلسه معه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك إلى الملك فقال الترجمان: ذلك له فقال له عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك قال لم قال جئت إلى بيت هو دينك، ودين آبائك، وهو شرفكم، وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال ما كان ليمنعه مني قال فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشا الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشّعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفا عليهم من معرة الحبش، ففعلوا وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ حلقة الباب وجعل يقول: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا وقال أيضا: لا هم إن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم و ... كعبتنا فأمر ما بدا لك ثم ترك عبد المطلب الحلقة، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس، وقد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلا لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال كان معه اثنا عشر فيلا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بإذنه، وقال له أبرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه، ومرافقه، ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله عزّ وجلّ طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال

الحمص، والعدس، فلما غشين القوم أرسلناها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل قوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه ويتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وفي ذلك يقول نفيل: فإنك ما رأيت ولن تراه ... لدى حين المحصب ما رأينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا وخرج القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون في كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعتها مدة من قيح، ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطّير، فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك قال الواقدي: وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم، والفيل الآخر شجعوا، فحصبوا أي رموا بالحصباء، وقال بعضهم انفلت أبو يكسوم وزير أبرهة، وتبعه طير، فحلّق فوق رأسه حتى بلغ النّجاشي فقص عليه القصة، فلما أنهاها وقع عليه حجر من ذلك الطير، فخر ميتا بين يدي النجاشي قال أمية بن أبي الصّلت: إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يعوي كأنه معقور وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة يستطعمان الناس، وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل، أن فئة من قريش أججوا نارا حين خرجوا تجارا إلى أرض النّجاشي، فدنوا من ساحل البحر، وثم بيعة للنّصارى تسميها قريش الهيكل، فنزلوا فأججوا النّار واشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح، فاضطرم الهيكل نارا فانطلق الصّريخ إلى النّجاشي فأسف غضبا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة، وكان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلا نبيها نبيلا تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلا لعبد المطلب فقال له عبد المطلب: ماذا عندك فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك؟ فقال أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء، فصعد الجبل فقال أبو مسعود لعبد المطلب اعمد إليّ مائة من الإبل، فاجعلها لله وقلدها نعلا، واجعلها لله ثم أبثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئا، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها، وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت ربا يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه، وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه ونحر له جزورا، فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيرا بيضاء نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين قرارها قال أراها قد دارت على رؤوسنا، قال: هل تعرفها؟ قال والله ما أعرفها ما هي بنجدية، ولا بتهامية، ولا عربية، ولا شامية، قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب في مناقيرها حصى، كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضا أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم، فلما توافت الرجال كلهم أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها رجعت من حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل، فمشيا حتى صعدا ربوة، فلم يؤنسا أحدا ثم دنوا فلم يسمعا حسا فقال بات القوم سامرين، فأصبحوا نياما فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم

[سورة الفيل (105): الآيات 2 إلى 5]

فيخرقها حتى تقع في دماغه، وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب، فأخذ فأسا من فؤوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض، فملأه من الذهب الأحمر، والجواهر، وحفر لصاحبه مثله فملأه ثم قال لأبي مسعود اختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معا فقال أبو مسعود فاختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب إني أرى أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا، وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به، وساد عبد المطلب بذلك قريشا، وأعطته القادة فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عزّ وجلّ عن كعبته، واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقيل كان قبل مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة، والأصح الذي عليه الأكثرون من علماء السير، والتواريخ، وأهل التفسير أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم يقولون ولد عام الفيل، وجعلوه تاريخا لمولده صلّى الله عليه وسلّم وأما التّفسير فقوله عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم، وذلك لأن هذه الواقعة كانت قبل مبعثه بزمان طويل إلا أن العلم بها كان حاصلا عنده لأن الخبر بها كان مستفيضا معروفا بمكة وإذا كان كذلك فكأنه صلّى الله عليه وسلّم علمه وشاهده يقينا، فلهذا قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، قيل كان معهم فيل واحد، وقيل كانوا فيلة ثمانية، وقيل اثني عشر وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود، وقيل وإنما وحده لو فاق الآي، وفي قصة أصحاب الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله تعالى وعلمه، وحكمته إذ يستحيل في العقل أن طيرا تأتي من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها ناسا مخصوصين، وفيها دلالة عظيمة على شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعجزة ظاهرة له وذلك أن الله تعالى إنما فعل ذلك لنصر من ارتضاه، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم الدّاعي إلى توحيده، وإهلاك من سخط عليه، وليس ذلك لنصرة قريش، فإنهم كانوا كفارا لا كتاب لهم، والحبشة لهم كتاب فلا يخفى على عاقل، أن المراد بذلك نصر محمد صلّى الله عليه وسلّم فكأنه تعالى قال أنا الذي فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل تعظيما لك، وتشريفا لقدومك، وإذ قد نصرتك قبل قدومك فكيف أتركك قبل ظهورك. [سورة الفيل (105): الآيات 2 الى 5] أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ يعني مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي تضييع وخسار، وإبطال ما أرادوا أضل كيدهم، فلم يصلوا إلى ما أرادوا من تخريب البيت، بل رجع كيدهم عليهم، فخربت كنيستهم، واحترقت، وهلكوا وهو قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ يعني طيرا كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضا، وقيل أبابيل أقاطيع كالإبل المؤبلة، وقيل أبابيل جماعات في تفرقة قيل لا واحد لها من لفظها، وقيل واحدها أبالة، وقيل أبيل، وقيل أبول مثل عجول قال ابن عباس: كانت طيرا لها خراطيم، كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وقيل رؤوس كرؤوس السباع، وقيل لها أنياب كأنياب السباع، وقيل طير خضر لها مناقير صفر، وقيل طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا تصيب شيئا إلا هشمته، ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها فبعضها على ما حكاه ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كل واحد بما بلغه من صفاتها، والله أعلم. قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ قال ابن مسعود: صاحت الطّير، ورمتهم بالحجارة، وبعث الله ريحا، فضربت بالحجارة، فزادتها شدة، فما وقع حجر منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه

خرج من دبره مِنْ سِجِّيلٍ قيل السّجيل اسم علم للدّيوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال، والمعنى ترميهم بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون بما كتب الله في ذلك الكتاب، وقيل معناه من طين مطبوخ كما يطبخ الأجر، وقيل سجيل حجر، وطين مختلط، وأصله سنك، وكل فارسي معرب، وقيل سجيل الشّديد. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يعني كزرع وتبن أكلته الدّواب، ثم راثته، فيبس، وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم، وتفرقها بتفرق أجزاء الرّوث، وقيل العصف ورق الحنطة، وهو التبن، وقيل كالحب إذا أكل، فصار أجوف وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف، والله تعالى أعلم.

سورة قريش

سورة قريش مكية وقيل مدنية والأول أصح وأكثر وهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة قريش (106): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) قوله عزّ وجلّ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ اختلفوا في هذه اللام، فقيل هي متعلقة بما قبلها وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم بما صنع بالحبشة، فقال فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي هلك أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف، ولهذا جعل أبي بن كعب هذه السّورة وسورة الفيل واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه ببسم الله الرّحمن الرّحيم والذي عليه الجمهور من الصحابة وغيرهم، وهو المشهور أن هذه السّورة منفصلة عن سورة الفيل وأنه لا تعلق بينهما وأجيب عن مذهب أبي بن كعب في جعل هذه السّورة، والسورة التي قبلها سورة واحدة بأن القرآن كالسورة الواحدة يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه معنى بعض وهو معارض أيضا بإطباق الصّحابة، وغيرهم على الفصل بينهما، وأنهما سورتان فعلى هذا القول اختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله لِإِيلافِ، فقيل هي لام التعجب، أي اعجبوا الإيلاف قريش رحلة الشّتاء والصّيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بعبادته، فهو كقوله على وجه التعجب اعجبوا لذلك، وقيل هي متعلقة بما بعدها تقديره، فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة والإيلاف من ألفت الشيء إلفا وهو بمعنى الائتلاف فيكون المعنى لإيلاف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تتقطعا، وقيل هو من ألفت كذا، أي لزمته وألفنيه الله ألزمنيه الله، وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر، فهو من قريش، ومن لم يلده النضر، فليس بقرشي (م) عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الناس تبع لقريش في الخير والشر» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الناس تبع لقريش في هذا الشّأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم» عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أراد هوان قريش أهانه الله» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن غريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم أذقت أول قريش نكالا، فأذق آخرهم نوالا» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح غريب. النكال: العذاب، والمشقة، والشّدة، والنّوال: العطاء، والخير، وسموا قريشا من القرش، والتقريش وهو الجمع، والتكسب، يقال فلان يقرش لعياله، ويقترش لهم، أي يكتسب وذلك لأن قريشا كانوا قوما تجارا وعلى جمع المال، والأفضال حراصا، وقال أبو ريحانة سأل معاوية عبد الله بن عباس لم سميت قريش قريشا قال لدابة تكون في البحر هي من أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا

[سورة قريش (106): الآيات 2 إلى 4]

تؤكل، وتعلو ولا تعلى، قال وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم وأنشده شعر الجمحي. وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجة البحر ... وعلى سائر البحور جيوشا تأكل الغث والسمين ولا تترك ... فيه لذي الجناحين ريشا هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا ولهم في آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا يملأ الأرض خيلة ورجالا ... يحشرون المطي حشرا كميشا وقيل إن قريشا كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب، وأنزلهم الحرم فاتخذوه مسكنا فسموا قريشا لتجمعهم، والتقرش التجمع يقال تقرش القوم إذا تجمعوا، وسمي قصي مجمعا لذلك قال الشاعر: أبو كم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر [سورة قريش (106): الآيات 2 الى 4] إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) وقوله تعالى: إِيلافِهِمْ هو بدل من الأول تفخيما لأمر الإيلاف، وتذكيرا لعظم المنة فيه. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال ابن عباس كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم، ويعبدوا رب هذا البيت، وقال الأكثرون كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة: رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، ورحلة في الصيف إلى الشام، وكان الحرم واديا مجدبا لا زرع فيه، ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم، وكانوا لا يتعرض لهم أحد بسوء، وكانوا يقولون قريش سكان حرم الله وولاة بيته وكانت العرب تكرمهم، وتعزهم، وتعظمهم لذلك، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، فشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام، فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، أهل الساحل حملوا طعامهم في البحر على السفن إلى مكة وأهل البر حملوا على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة وأهل البر بالمحصب وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة وألفوا بالأبطح فامتار أهل مكة من قريب، وكفاهم الله مؤنة الرحلتين جميعا وقال ابن عباس: كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني، والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وقال الكلبي: كان أول من حمل السمراء يعني القمح إلى الشام، ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر: قل للّذي طلب السّماحة والنّدى ... هلّا مررت بآل عبد مناف هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن إكفاف الرّائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي والقائمين بكل وعد صادق ... والرّاحلين برحلة الإيلاف عمرو العلا هشيم الثّريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ يعني الكعبة، وذلك أن الإنعام على قسمين أحدهما: دفع

ضر، وهو ما ذكره في سورة الفيل، والثاني جلب نفع، وهو ما ذكره في هذه السّورة، ولما دفع الله عنهم الضّر، وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان أمرهم بالعبودية، وأداء الشكر، وقيل إنه تعالى لما كفاهم أمر الرّحلتين أمرهم أن يشتغلوا بعبادة رب هذا البيت. فإنه هو الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ومعنى الذي أطعمهم من جوع، أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر، وقيل في معنى الآية أنهم لما كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم، فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجوع، والجهد، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخصبت البلاد، وأخصب أهل مكة بعد القحط، والجهد، فذلك قوله تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، أي بالحرم وكونهم من أهل مكة حتى لم يتعرض لهم أحد في رحلتهم، وقيل آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم الجذام، وقيل آمنهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالإسلام والله أعلم.

سورة الماعون

سورة الماعون مكية وقيل نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل والنصف الثاني بالمدينة في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق. وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وخمسة وعشرون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الماعون (107): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قيل نزل في العاص بن وائل السّهمي، وقيل في الوليد بن المغيرة، وقيل في عمرو بن عائذ المخزومي، وفي رواية عن ابن عباس أنها في رجل من المنافقين، ومعنى الآية هل عرفت الذي يكذب بيوم الجزاء، والحساب، فإن لم تعرفه. [سورة الماعون (107): الآيات 2 الى 7] فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ولفظ أرأيت استفهام، والمراد به المبالغة في التّعجب من حال هذا المكذب بالدّين وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل هو خطاب لكل واحد، والمعنى أرأيت يا أيها الإنسان أو يا أيّها العاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله، ووضوح بيانه، فكيف يليق به ذلك الذي يدع اليتيم، أي يقهره، ويدفعه عن حقه، والدع الدفع بعنف، وجفوة، والمعنى أنه يدفعه عن حقه، وماله بالظلم، وقيل يترك المواساة له وإن لم تكن المواساة واجبة، وقيل يزجره، ويضربه، ويستخف به، وقرئ يدعو بالتخفيف، أي يدعوه ليستخدمه قهرا واستطالة. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه لأنه يكذب بالجزاء، وهذا غاية البخل، لأنه يبخل بماله وبمال غيره بالإطعام. قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ يعني المنافقين، ثم نعتهم فقال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ روى البغوي بسنده عن سعد قال «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال إضاعة الوقت» وقال ابن عباس: هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. ويصلون في العلانية إذا حضروا معهم لقوله تعالى الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وقال تعالى في وصف المنافقين وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ، وقيل ساه عنها لا يبالي صلّى أو لم يصل، وقيل لا يرجون لها ثوابا إن صلوا ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، وقيل غافلون عنها ويتهاونون بها، وقيل هم الذين إن صلوا صلوها رياء وإن فاتتهم لم يندموا عليها وقيل هم الذين لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها، ولا سجودها، وقيل لما قال تعالى عن صلاتهم ساهون بلفظة عن علم

أنها في المنافقين، والمؤمن قد يسهو في صلاته والفرق بين السهوين أن سهو المنافق هو أن لا يتذكرها، ويكون فارغا عنها، والمؤمن إذا سها في صلاته تداركه في الحال، وجبره بسجود السهو فظهر الفرق بين السّهوين، وقيل السّهو عن الصّلاة هو أن يبقى ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصّلاة، وهذا لا يصدر إلا من المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصّلاة، فأما المؤمن الذي يعتقد فائدة صلاته، وأنها عليه واجبة، ويرجو الثواب على فعلها، ويخاف العقاب على تركها، فقد يحصل له سهو في الصّلاة يعني أن يصير ساهيا في بعض أجزاء الصّلاة بسبب وارد يرد عليه بوسوسة الشّيطان أو حديث النّفس، وذلك لا يكاد يخلو منه أحد، ثم يذهب ذلك الوارد عنه، فثبت بهذا الفرق أن السّهو عن الصّلاة من أفعال المنافق والسّهو في الصّلاة من أفعال المؤمن. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ يعني يتركون الصّلاة في السّر ويصلونها في العلانية، والفرق بين المنافق، والمرائي أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، والمرائي يظهر الأعمال مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدّين والصّلاح أما من يظهر النّوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرّياء، فلا بأس بذلك وليس بمراء ثم وصفهم بالبخل. فقال تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ روي عن علي أنه قال هي الزكاة، وهو قول ابن عمر والحسن، وقتادة، والضحاك ووجه ذلك أن الله تعالى ذكرها بعد الصلاة فذمهم على ترك الصّلاة ومنع الزكاة، وقال ابن مسعود: الماعون الفاس والدلو والقدر، وأشباه ذلك، وهي رواية عن ابن عباس، ويدل عليه ما روي عنه قال كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عارية الدّلو، والقدر، أخرجه أبو داود، وقال مجاهد: الماعون العارية وقال عكرمة: الماعون أعلاه الزكاة المفروضة، وأدناه عارية المتاع، وقال محمد بن كعب القرظي: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم وقيل أصل الماعون من القلة فسمي الزّكاة والصّدقة، والمعروف ماعونا لأنه قليل من كثير، وقيل الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء، والملح، والنار، ويلتحق بذلك البئر، والتنور في البيت فلا يمنع جيرانه من الانتفاع بهما، ومعنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة، فإن البخل بها في نهاية البخل قال العلماء ويستحب أن يستكثر الرجل في بيته مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ويتفضل عليهم ولا يقتصر على الواجب، والله أعلم.

سورة الكوثر

سورة الكوثر وهي مكية قاله ابن عباس والجمهور، وقيل إنها مدنية قاله الحسن وعكرمة، وقتادة وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ نهر في الجنة أعطاه الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل الكوثر القرآن العظيم، وقيل هو النّبوة، والكتاب، والحكمة، وقيل هو كثرة أتباعه، وأمته، وقيل الكوثر الخير الكثير كما فسره ابن عباس (خ) عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير أن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وأصل الكوثر فوعل من الكثرة، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثرا، وقيل الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضل بها على جميع الخلق فجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أعطيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطي النبوة، والكتاب، والحكمة، والعلم، والشفاعة، والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الأتباع، والإسلام، وإظهاره على الأديان كلها، والنّصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه وبعده إلى يوم القيامة. وأولى الأقاويل في الكوثر الذي عليه جمهور العلماء، أنه نهر في الجنة كما جاء مبينا في الحديث (ق) عن أنس قال «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ثم قال أتدرون ما الكوثر، قلنا الله ورسوله أعلم قال، فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجلّ فيه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول رب إنه من أمتي. فيقول ما تدري ما أحدث بعدك» لفظ مسلم وللبخاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لما عرج بي إلى السّماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر» شك الراوي عن أنس رضي الله عنه قال «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما الكوثر قال ذلك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزور، قال عمر إن هذه لناعمة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكلتها أنعم منها» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر، والياقوت تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح

(خ) «عن عامر بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال سألت عائشة عن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فقالت الكوثر نهر أعطيه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم شاطئاه در مجوف آنيته كعدد نجوم السماء» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبدا» زاد في رواية «وزواياه سواء» (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أمامكم حوضي ما بين جنبيه كما بين جربا وأذرح» قال بعض الرواة هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية «فيه أباريق كنجوم السّماء من ورده فشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ما بين ناحيتي وفي رواية لابتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة» وفي رواية «مثل ما بين المدينة وعمان» وفي رواية قال «إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» (م) عن أبي ذر رضي الله عنه قال «قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه، مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» (م) عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي، أي حتى يرفض عليهم، فسئل عن عرضه فقال من مقامي إلى عمان وسئل عن شرابه فقال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما: من ذهب، والآخر من الورق» (ق) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول أي ربي أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فليقالن لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي رواية «يردن عليّ ناس من أمتي الحديث» وفي آخره «فأقول سحقا لمن بدل بعدي» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض، فأقول رب أصحابي، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» ولمسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله قالوا أيا نبي الله تعرفنا قال نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون على غرّا محجلين من آثار الوضوء وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون إليّ فأقول يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض» (م) عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن، والذي نفسي بيده لأذودن عنه الرجل كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن إبله قالوا يا رسول الله وتعرفنا؟ قال نعم تردون على غرّا محجلين من آثار الوضوء ليس لأحد غيركم» عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلنا منزلا فقال ما أنتم إلا جزء من مائة ألف جزء ممن يرد على الحوض، قيل كم كنتم يومئذ قال سبعمائة أو ثمانمائة» أخرجه أبو داود. (فصل في شرح هذه الأحاديث وذكر ما يتعلق بالحوض) قال الشّيخ محيي الدّين النّووي: قال القاضي عياض أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة، والجماعة لا يتأول، ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه الخلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمر وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب بن

عبد الله، وعبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورد وأبي ذر وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة، ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصّديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر الصّديق وخولة بنت قيس وغيرهم، قال الشيخ محيي الدّين، ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمرو وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرة قلت وقد اتفقا على إخراج حديث الحوض وعن جماعة ممن تقدم ذكرهم من الصّحابة على ما سبق ذكره في الأحاديث، وفيه بيان ما اتفقا عليه، وانفرد به كل واحد منهما، وأخرجا أيضا حديث الحوض عن أسماء بنت أبي بكر الصّديق وذكرها القاضي عياض، فيمن خرج له في غير الصحيحين قال القاضي عياض وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا، وأما صفة الحوض ومقداره فقد قال في رواية «حوضي مسيرة شهر وفي رواية ما بين جنبيه كما بين جرباء، وأذرح، وفي رواية كما بين أيلة، وصنعاء اليمن، وفي رواية عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة، وفي رواية إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن» فهذا الاختلاف في هذه الروايات في قدر الحوض ليس موجبا للاضطراب فيها لأنه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعات من الصّحابة سمعوها من النبي صلّى الله عليه وسلّم في مواطن مختلفة ضربها النبي صلّى الله عليه وسلّم مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك على أفهام السامعين لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لأعلى التقدير الموضوع للتحديد بل لإعلام السامعين عظم بعد المسافة وسعة الحوض وليس في ذكر القليل من هذه المسافة منع من الكثير، فإن الكثير ثابت على ظاهره، وصحت الرواية به، والقليل داخل فيه فلا معارضة، ولا منافاة بينهما وكذلك القول في آنية الحوض من أن العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره، وأنها أكثر عددا من نجوم السّماء ولا مانع يمنع من ذلك إذ قد وردت الأحاديث الصّحيحة الثّابتة بذلك وكذلك القول في الواردين إلى الحوض الشّاربين منه، وكثرتهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنتم إلا جزء من مائة ألف جزء ممن يرد الحوض» لم يرد به الحصر بهذا العدد المذكور وإنما ضربه مثلا لأكثر العدد المعروف للسّامعين ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «من ورد شرب منه» فهذا صريح في أن جميع الواردين يشربون، وإنما يمنع منه الذين يزدادون، ويمنعون الورود لارتدادهم، وتبديلهم وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم «فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي، فيقول ما تدري ما أحدث بعدك، وفي رواية وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول أي رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ونحو هذا من الروايات المذكورة في الأحاديث السابقة، وهذا مما اختلف العلماء في معناه، وفي المراد به من هم، فقيل المراد بهم المنافقون، والمرتدون في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحتمل أنهم إذا حشروا عرفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم للسيما التي عليهم فيناديهم، فيقال له ليس هؤلاء ممن وعدت بهم إنهم قد بدلوا بعدك، أي لم يكونوا على ما ظهر من إسلامهم، وقيل المراد بهم من أسلموا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتدوا بعده في زمن أبي بكر الصّديق وهم الذين قاتلهم على الردة، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، فيناديهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان يعرفه من إيمانهم في حياته فيقال له قد ارتدوا بعدك، وقيل المراد بهم أصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وأصحاب المعاصي، والكبائر الذين ماتوا على التّوحيد، ولم يتوبوا من بدعتهم ومعاصيهم فعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء المطرودين عن الحوض بالنّار بل يجوز أن يزادوا عنه عقوبة لهم ثم يرحمهم الله، فيدخلهم الجنة من غير عذاب، وقال ابن عبد البر كل من أحدث في الدين كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء فهو من المطرودين عن الحوض قال وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، وغمط الحق، والمعلنون بالكبائر فكل هؤلاء يخاف أن يكونوا ممن عنى بهذا الحديث وقوله من شرب منه لم يظمأ أبدا قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب، والنجاة من النار، ويحتمل أن من شرب

منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهر الحديث أن جميع الأمة تشرب منه إلا من ارتد، وصار كافرا، وقيل إن جميع المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يعذب الله من شاء من عصاتهم، وقيل إنما يأخذ بيمينه الناجون منهم خاصة، والشرب من الحوض مثله. (شرح غريب ألفاظ الأحاديث) قوله فيختلج العبد منهم، أي ينتزع ويجذب منهم، قوله ما بين جنبيه كما بين جربا، وأذرح أما جربا فبجيم ثم راء ساكنة ثم باء موحدة ثم ألف مقصورة، ووقع عند بعض رواة البخاري فيها المد والقصر أولى، وهي قرية من الشام، وأما أذرح فبهمزة ثم ذال معجمة ثم راء ثم حاء مهملة، وهي في طرف الشام قريب من الشّوبك، وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم بليدة بالبلقاء من أرض الشّام، وأما أيلياء فبفتح الهمزة وإسكان المثناة تحت وفتح اللام مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين دمشق ومصر بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة وبينها وبين مصر ثمان مراحل وإلى دمشق اثنا عشر مرحلة وهي آخر الحجاز وأول الشّام، وأما صنعاء فهي قاعدة اليمن، وأكبر مدنه، وإنما قيد باليمن في الحديث لأن بدمشق موضعا يعرف بصنعاء دمشق وقد تقدم الكلام على اختلاف هذه المسافات والجمع بين رواتها قوله يشخب فيه ميزابان هو بفتح الياء المثناة تحت وبالشين والخاء المعجمتين، أي يسيل فيه وفي الحديث الآخر يغت بفتح الياء وبالغين المعجمة وكسرها، وتشديد التاء المثناة فوق، أي يدفق منه ميزابان تدفقا شديدا متتابعا قوله إني لبعقر حوضي هو بضم العين المهملة، وإسكان القاف وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردته للشرب، وقيل هو مؤخر الحوض قوله أذود الناس، أي أضرب الناس لأهل اليمن بعصاي حتى يرفض عليهم، معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن، ومعنى يرفض أي يسيل عليهم، وفيه منقبة عظيمة لأهل اليمن قوله أنا فرطكم على الحوض الفرط بفتح الفاء والراء هو الذي يتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض، والدّلاء ونحوها من آلات الاستقاء، والمعنى أنا سابقكم على الحوض كالمهيئ له قوله سحقا، أي بعدا وفيه دليل لمن قال إنهم أهل الردة إذ لا يقال للمؤمن سحقا بل يشفع قلت في حديث أنس الأول دليل لمن يقول أن سورة الكوثر مدنية وهو الأظهر لقوله بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءه يعني نام نومة ثم رفع رأسه متبسما والله أعلم. قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ معناه أن ناسا كانوا يصلون لغير الله تعالى وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي له وينحر له متقربا إلى ربه بذلك، وقيل معناه فصل لربك صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، وقيل معناه فصل الصّلاة المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنى وقال ابن عباس: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي ضع يدك اليمنى على اليسرى في الصّلاة عند النّحر، وقيل هو رفع اليدين مع التّكبير إلى النّحر حكاه ابن الجوزي، ومعنى الآية قد أعطيتك ما لا نهاية لكثرته من خير الدّارين وخصصتك بما لم أخص به أحدا غيرك، فاعبد ربك الذي أعطاك هذا العطاء الجزيل، والخير الكثير، وأعزك، وشرفك على كافة الخلق، ورفع منزلتك فوقهم فصل له واشكره على إنعامه عليك، وانحر البدن متقربا إليه إِنَّ شانِئَكَ يعني عدوك ومبغضك هُوَ الْأَبْتَرُ يعني هو الأذل المنقطع دابره نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم خارجا من المسجد وهو داخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص قالوا له من الذي كنت تتحدث معه فقال ذلك الأبتر يعني به النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان قد توفي ابن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خديجة، وقيل إن العاص بن وائل كان إذا ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله تعالى هذه السّورة وقال ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة من قريش، وذلك أنه لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصّنبور المنبتر

من قومه، فقال أنتم فنزلت فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ونزلت في الذين قالوا إنه أبتر إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي المنقطع من كل خير قولهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الصّنبور أرادوا أنه فرد ليس له ولد، فإذا مات انقطع ذكره شبهوه بالنخلة المفردة يدق أسفلها، وتسمى الصنبور، وقيل هي النّخلة التي تخرج في أصل أخرى تغرس، وقيل الصّنابر سعفات تنبت من جذع النّخلة تضربها ودواؤها أن تنقطع تلك الصّنابر منها فأراد كفار مكة أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الصّنابر تنبت في جذع نخلة فإذا انقلع استراحت النّخلة فكذا محمد إذا مات انقطع ذكره، وقيل الصّنبور الوحيد الضعيف الذي لا ولد له ولا عشيرة ولا ناصر من قريب ولا غريب فأكذبهم الله تعالى في ذلك ورد عليهم أشنع رد فقال إن شانئك يا محمد هو الأبتر الضعيف الوحيد، الحقير، وأنت الأعز، الأشرف الأعظم، والله أعلم بمراده.

سورة قل يا أيها الكافرون

سورة قل يا أيها الكافرون مكية وهي ست آيات وست وعشرون كلمة وأربعة وتسعون حرفا عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له نصف القرآن ومن قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ عدلت له ربع القرآن ومن قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عدلت له ثلث القرآن» أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب وله عن ابن عباس نحوه، وقال فيه غريب، ووجه كون هذه السّورة تعدل ربع القرآن أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب، وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح، فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السّورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى وهي من الاعتقاد وذلك من أفعال القلوب، فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم، والله سبحانه وتعالى أعلم. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) قوله عزّ وجلّ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السّورة نزلت في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السّهمي، والعاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وأمية بن خلف قالوا يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في ديننا كله تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا حظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك، ونعبد إلهك قال حتى أنظر ما يأتي من ربي فأنزل الله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد الحرام وفيه أولئك الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السّورة فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه، وقيل إنهم لقوا العباس، فقالوا يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه فيما يقول، ولآمنّا بإلهه، فأتاه العباس، فأخبره بقولهم، فنزلت هذه السّورة وقيل نزلت في أبي جهل والمستهزئين ومن لم يؤمن منهم. ومعنى ذلك، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بتبليغ الرّسالة بجميع ما أوحي إليه فلما قال الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أداه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما سمعه من جبريل عليه السّلام فكأنه صلّى الله عليه وسلّم قال أمرت بتبليغ جميع ما أنزل الله عليّ، وكان فيما نزل عليه قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقيل إن النّفوس تأبى سماع الكلام الغليظ الشّنيع من النّظير، ولا أشنع ولا أغلظ من المخاطبة بالكفر فكأنه صلّى الله عليه وسلّم قال ليس هذا من عندي إنما هو من عند الله عزّ وجلّ وقد أنزل الله عليّ قل يا أيها الكافرون والمخاطبون بقوله يا أيّها الكافرون كفرة مخصوصون قد سبق في علم الله أنهم لا

يؤمنون لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في معنى الآية قولان: أحدهما أنه لا تكرار فيها، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ثم قال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي ولست في الحال بعباد معبودكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي وقيل يحتمل أن يكون الأول للحال، والثاني للاستقبال، وقيل يصلح كل واحد منهما أن يكون للحال، والاستقبال، ولكن يختص أحدهما بالحال والثاني للاستقبال لأنه أخبر أولا عن الحال ثم أخبر ثانيا عن الاستقبال، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال وما بمعنى من أي من أعبد ويحتمل أن تكون بمعنى الذي أي الذي أعبد. القول الثاني: حصول التّكرار في الآية، وعلى هذا القول يقال إن التّكرار يفيد التّوكيد، وكلما كانت الحاجة إلى التّوكيد أشد كان التكرار أحسن، ولا موضع أحوج إلى التوكيد من هذا الموضع لأن الكفار راجعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المعنى مرارا فحسن التوكيد، والتكرار في هذا الموضع لأن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم، ومن مذاهبهم التّكرار إرادة التّوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التّخفيف، والإيجاز، وقيل تكرار الكلام لتكرار الوقت، وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن سرك أن ندخل في دينك عاما فأدخل في ديننا عاما، فنزلت هذا السّورة جوابا لهم على قولهم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم كفركم ولي إخلاصي وتوحيدي، والمقصود منه التّهديد فهو كقوله: اعملوا ما شئتم وهذه الآية منسوخة بآية القتال، والله أعلم.

سورة النصر

سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات وسبع عشرة كلمة وسبعة وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق، وأصحاب الأخبار «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صالح قريشا عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة، وقيل عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى الله عليه وسلّم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه. فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان بينهما شر قديم ثم إن بني بكر عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم أسفل مكة يقال له الوتير، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوروا واقتتلوا، وردفت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفيا حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك فقال كلمة عظيمة إنه لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه قال: فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتمو ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فانصر هداك الله نصرا أيدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنان من السماء، فقال إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، وهم رهط عمرو بن سالم، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشدد في العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا من الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل وظن أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي قال: وهل أتيت محمدا قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوته عنه فقال: أي بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني فقالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال أنا لا أشفع لك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندها الحسن بن علي غلاما يدب بين يديها فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ويحك يا أبا سفيان لقد أرى عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. فقالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني قال والله لا أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظن ذلك ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا قالوا: وما ذاك قال أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا قالوا ويلك والله ما زاد على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت قال لا والله ما وجدت غير ذلك قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أي بنية أمركم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تجهزوه، قالت نعم. قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدا إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين

عسفان، وأمج أفطر ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين. ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد فلما نزل بمر الظّهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يدرون ما هو فاعل خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببعض الطريق قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه راض فلما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب. ليلتئذ واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر. قال فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطبا، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة قال العباس: فو الله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط. فقال بديل هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال يا أبا الفضل فقلت نعم قال ما لك فداك أبي وأمي قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال: وما الحيلة قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك فردفني، ورجع صاحباه فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ، ويقولون عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا فقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد، ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء قال فاقتحمت عن البغلة سريعا، فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد، ولا عهد فدعني أضرب عنقه قال فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذت برأسه، وقلت والله لا ينجيك الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر. فو الله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به قال فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فتشهد شهادة الحق وأسلم قال العباس: فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله قال فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه قال ومرت به القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال من هؤلاء يا عباس، فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم، ثم القبيلة فيقول من هؤلاء، فأقول مزينة فيقول ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل. لا تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته عنها. فيقول ما لي، ولبني فلان حتى مر رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم في كتيبته الخضراء، وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد، وظهوره فيها وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين، والأنصار. قال ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما قلت ويحك إنها النبوة، قال فنعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال: قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا ويحك، وما تغني عنا دارك قال من دخل المسجد، فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد قال وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما وبايعاه، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام، ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون، وقال لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقه عليه برد حبرة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضع رأسه تواضعا لله عز وجل حين رأى ما أكرمه به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة وضرب قبته بأعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد، فيمن أسلم من قضاعة، وبني سليم أن يدخلوا من أسفل مكة وبها بنو بكر، وقد استنفرتهم قريش، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، وأن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لخالد والزبير حين بعثهما لا تقاتلا إلا من قاتلكما، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى فقال سعد: حين توجه داخلا اليوم يوم الملحمة اليوم يوم تستحل الحرمة فسمعها رجل من المهاجرين قيل: هو عمر بن الخطاب فقال: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب أدركه بهذه الراية. فكن أنت الذي تدخن بها، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال، وأما خالد بن الوليد، فقدم على قريش وبني بكر، والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلوه فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد ورجلان يقال لهما كرز بن جابر، وخنيس بن خالد بن الوليد شذا وسلكا طريقا غير طريقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفرا منهم سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركا ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن اطمأن أهل مكة فاستأمنه له وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقا، وكان له مولى يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان يغنيان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقتلهما معه والحويرث بن نقيد بن وهب، وكان ممن يؤذيه بمكة ومقيس صبابة، وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتدا، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وكانت ممن يؤذيه بمكة، وعكرمة بن أبي جهل فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنه فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن الحارث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنها وأما سارة فتغيبت

حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها، وأما الحويرث ابن نقيد فقتله علي بن أبي طالب قالت أم هانئ: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعلى مكة فر إليّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت: فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة وإن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمان ركعات الضحى، ثم انصرف إليّ فقال مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب فقال: قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا نقتلهما ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط، والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم، قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال: يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة، والسقاية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر، قال واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس. فبايعونه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء قال عروة بن الزبير: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هاربا منك ليقذف بنفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله، فقال هو آمن قال: يا رسول الله أعطني شيئا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جئتك به؟ فقال ويلك أغرب عني لا تكلمني قال: فداك أبي وأمي أفضل الناس، وأبر النّاس وأحلم الناس، وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال إني أخافه على نفسي قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق، قال فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين قال: أنت بالخيار أربعة أشهر «قال ابن هشام وبلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة، ودخلها قام على الصّفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم أترون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فتح الله عليه مكة أرضه، وبلاده يقيم بها فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه. فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم» قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن وثقيف، وقد نزلوا حنينا (ق) عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس فحمد الله، وأثنى عليه وقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد

من بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار إلا، وإنها ساعتي هذه فلا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تحل ساقطتها لا لمنشد، ومن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين. إما أن يفتدي وإما أن يقيد فقال العباس: إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الإذخر، فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتبوا لأبي شاه قال الأوزاعي: يعني الخطبة التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». (وأما التفسير) فقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يعني إذا جاءك يا محمد نصر الله، ومعونته على من عاداك وهم قريش. ومعنى مجيء النصر أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها يستحيل تقدمها عن وقتها أو تأخرها عنه فإذا جاء ذلك الوقت المعين حضر معه ذلك الأمر المقدر، فلهذا المعنى قال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة في قول جمهور المفسرين، وقيل هو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم على الإطلاق، والفرق بين النصر والفتح. أن النصر هو الإعانة والإظهار على الأعداء وهو تحصيل المطلوب، وهو كالسبب للفتح. فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح، وقيل النصر هو إكمال الدين وإظهاره، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يعني زمرا وأرسالا القبيلة بأسرها. والقوم بأجمعهم من غير قتال قال الحسن: لما فتح الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قالت العرب بعضها لبعض إذا ظفر الله محمد بأهل الحرم، وكان قد أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا. بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين. وقيل أراد بالناس أهل اليمن (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الإيمان يمان، والحكمة يمانية ودين الله هو الإسلام» وأضافه إليه تشريفا وتعظيما، كبيت الله وناقة الله قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً يعني فإنك حينئذ لا حق به (ق) عن ابن عباس: قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال: بعضهم لم يدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم. قال وما رأيت أنه كان دعاني يومئذ إلا ليريهم مني. قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختم السورة، فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله، ونستغفره إذ نصرنا، وفتح علينا، وسكن بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس، قال: قلت لا قال فما هو قلت هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه، فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم (ق) عن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن أنزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح، إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، وفي رواية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن، وفي رواية قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول من سبحان الله، وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، وقال أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه قد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا». قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نعيت إليه نفسه. وقال الحسن: أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم بالزيادة في العمل الصالح قيل عاش

النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة سنتين، وقيل في معنى السورة إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فاشتغل أنت بالتسبيح والتحميد، والاستغفار، فالاشتغال بهذه الطاعة يصير سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة. وفي معنى التسبيح وجهان: أحدهما نزه ربك عما لا يليق بجلاله ثم احمده. والثاني فصل لربك لأن التسبيح جزء من أجزاء الصلاة، ثم قيل عني به صلاة الشكر، وهو ما صلاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة ثمان ركعات. وقيل هي صلاة الضحى. وفي الآية دليل على فضيلة التسبيح، والتحميد حيث جعل ذلك كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح. فإن قلت ما معنى هذا الاستغفار، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قلت إنه تعبد الله بذلك ليقتدي به غيره. إذ لا يأمن كل واحد من نقص يقع في عبادته واجتهاده ففيه تنبيه على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مع عصمته وشدة اجتهاده ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه وقيل هو ترك الأفضل والأولى لا عن ذنب صدر منه صلّى الله عليه وسلّم وعلى قول من جوز الصغائر على الأنبياء يكون المعنى، واستغفره لما عسى أن يكون قد وقع من تلك الأمور منه، وقيل المراد منه الاستغفار لذنوب أمته، وهذا ظاهر لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِناتِ والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة المسد

سورة المسد مكية وهي خمس آيات وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) قوله عز وجل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (ق) «عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، ونادى يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ، قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وفي رواية «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل، فنادى يا صباحاه فاجتمعت عليه قريش». الحديث وذكر نحوه ومعنى تبت خابت وخسرت، والتباب هو الخسار المفضي إلى الهلاك، والمراد من اليد صاحبها وجملة بدنه، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله، وجميعه، وقيل إنه رمى النبي صلّى الله عليه وسلّم بحجر، فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد، وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه. فإن قلت لم كناه وفي الكنية تشريف وتكرمة قلت فيه وجوه أحدها أنه كان مشتهرا بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف الثاني أنه كان اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى الكنية لما فيه من الشّرك الثالث. أنه لما كان من أهل النّار ومآله إلى النار، والنار ذات لهب وافقت حاله كنيته، وكان جديرا بأن يذكر بها. وَتَبَّ قيل الأول أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني أخرج مخرج الخبر كما يقال أهلكه الله، وقد هلك وقيل تبت يدا أبي لهب، يعني ماله وملكه، كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وتب يعني نفسه أي وقد أهلكت نفسه ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قال ابن مسعود: لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرباءه إلى الله تعالى قال أبو لهب: إن كان ما تقول يا ابن أخي حقا، فأنا أفتدي نفسي بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ، أي شيء يغني عنه ماله، أي ما يدفع عنه عذاب الله، وما كسب يعني من المال، وكان صاحب مواش، أي ما جمع من المال أو ما كسب من المال، أي الربح بعد رأس ماله، وقيل وما كسب يعني ولده لأن ولده الإنسان من كسبه، كما جاء في الحديث «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» أخرجه التّرمذي ثم أوعده بالنّار فقال تعالى: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي نارا تلتهب عليه وَامْرَأَتُهُ يعني أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن

حرب عمة معاوية بن أبي سفيان، وكانت في نهاية العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قيل كانت تحمل الشّوك، والحسك والعضاه باللّيل، فتطرحه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لتؤذيهم بذلك وهي رواية عن ابن عباس فإن قلت إنها كانت من بيت العز والشرف فكيف يليق بها حمل الحطب؟ قلت يحتمل أنها كانت مع كثرة مالها، وشرفها في نهاية البخل والخسة، فكان يحملها بخلها على حمل الحطب بنفسها، ويحتمل أنها كانت تفعل ذلك لشدّة عداوتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا ترى أنها تستعين في ذلك بأحد بل تفعله هي بنفسها، وقيل كانت تمشي بالنميمة وتنقل الحديث وتلقي العداوة بين النّاس وتوقد نارها، كما توقد النار الحطب يقال فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به، وقيل حمالة الخطايا والآثام التي حملتها في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنها كانت كالحطب في مصيرها إلى النار. فِي جِيدِها أي عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال ابن عباس: سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها. فتلت من حديد فتلا محكما وقيل هو حبل من ليف، وذلك الحبل هو الذي كانت تحتطب به، فبينما هي ذات يوم حاملة الحزمة أعيت، فقعدت على حجر تستريح أتاها ملك، فجذبها من خلفها، فأهلكها، وقيل هو حبل من شجر ينبت باليمن يقال له المسد، وقيل قلادة من ودع، وقيل كانت لها خرزات في عنقها، وقيل كانت لها قلادة فاخرة. قالت لأنفقنها في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والله تعالى أعلم.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص (وهي مكية وقيل مدنية وهي أربع آيات، وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفا) (فصل في فضلها) (خ) عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»، وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم فقالوا: أيّنا يطيق ذلك يا رسول الله فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ثلث القرآن» (م) عن أبي الدّرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قل هو الله أحد جزءا من القرآن» (م) عن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، حتى ختمها»، وقد ذكر العلماء رضي الله عنهم في كونه صلّى الله عليه وسلّم جعل سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن أقوال متناسبة متقاربة، فقيل إن القرآن العزيز لا يعدو ثلاثة أقسام، وهي الإرشاد إلى معرفة ذات الله تعالى وتقديسه أو صفاته وأسمائه أو معرفة أفعاله، وسنته مع عباده، ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة، وهو التّقديس وازنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلث القرآن لأن منتهى التقديس في أن يكون واحدا في ثلاثة أمور لا يكون حاصلا منه من هو من نوعه وشبهه ودل عليه. قوله لَمْ يَلِدْ، ولا يكون حاصلا ممن هو نظيره، وشبيهه، ودل عليه قوله وَلَمْ يُولَدْ، ولا يكون أحد في درجته وإن لم يكن أصلا له، ولا فرعا منه، ودل عليه قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، ويجمع ذلك كله قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وجملته وتفصيله، هو قولك لا إله إلا الله فهذا سر من أسرار القرآن المجيد الذي لا تتناهى أسراره، ولا تنقضي عجائبه وقال الإمام فخر الدين الرّازي: لعل الغرض منه أن يكون المقصود الأشرف في جميع الشرائع، والعبادات معرفة ذات الله جلّ جلاله وتعالى علاؤه وثناؤه، ومعرفة أفعاله، وهذه السورة مشتملة على معرفة ذات الله تعالى، فلهذا كانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن، وقال الشّيخ محيي الدين النّووي رحمه الله، قيل معناه إن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص، وأحكام وصفات الله تعالى، وقل هو الله أحد متضمنة للصفات، فهي ثلث القرآن، وجزء من ثلاثة أجزاء، وقيل معناه أن ثواب قراءتها يتضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف. قوله يتقالها يقال استقللت الشيء، وتقللته وتقاللته أي عددته قليلا في بابه، ونظرت إليه بعين القلة قيل سميت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ سورة الإخلاص. إما لأنها خالصة لله تعالى في صفته أو لأن قارئها قد أخلص لله التوحيد، ومن فوائد هذه السّورة أن الاشتغال بقراءتها يفيد الاشتغال بالله، وملازمة الأعراض عما سوى الله تعالى وهي متضمنة تنزيه الله تعالى، وبراءته، عن كل ما لا يليق به لأنها مع قصرها جامعة لصفات الأحدية والصّمدانية، والفردانية، وعدم النّظير عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محيت عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين»، وفي رواية عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه فقرأ قل هو الله أحد مائة مرة فإذا كان يوم القيامة يقول

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 إلى 4]

الرب جلّ جلاله يا عبدي ادخل عن يمينك الجنة» أخرجه التّرمذي وقال: حديث غريب وعنه «أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قال حبك إيّاها أدخلك الجنة» أخرجه التّرمذي عن أبي هريرة قال «أقبلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبت قلت: وما وجبت قال الجنة» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) قوله عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عن أبي بن كعب «أن المشركين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم انسب لنا ربك، فأنزل الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ والصّمد الذي لم يلد، ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفوا أحد. قال لم يكن له شبيه، ولا عديل، وليس كمثله شيء» أخرجه التّرمذي وقال: وقد روي عن أبي العالية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر آلهتهم، فقالوا انسب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح وقال ابن عباس أن عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد قال إلى الله قال صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب، فنزلت هذه السّورة، وأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بالطاعون، وقد تقدم ذكرهما في سورة الرّعد، وقيل جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله تعالى أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو، وهل يأكل ويشرب، وممن ورث الربوبية، ولمن يورثها، فأنزل الله هذه السّورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني الذي سألتموني عنه هو الله الواحد في الألوهية، والرّبوبية الموصوف بصفات الكمال والعظمة المنفرد عن الشبه، والمثل والنظير، وقيل لا يوصف أحد بالأحدية غير الله تعالى فلا يقال رجل أحد، ودرهم أحد بل أحد صفة من صفات الله تعالى. استأثر بها فلا يشركه فيها أحد، والفرق بين الواحد، والأحد أن الواحد يدخل في الأحد، ولا ينعكس، وقيل إن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا، وفي النفي ما رأيت أحدا، فتفيد العموم، وقيل الواحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهيه أحد، والأحد هو المنفرد بالمعنى فلا يشاركه فيه أحد اللَّهُ الصَّمَدُ قال ابن عباس: الصمد الذي لا جوف له وبه قال جماعة من المفسرين، ووجه ذلك من حيث اللّغة أن الصّمد الشيء المصمد الصّلب الذي ليس فيه رطوبة، ولا رخاوة، ومنه يقال لسداد القارورة الصماد. فإن فسر الصمد بهذا كان من صفات الأجسام، ويتعالى الله جلّ وعزّ عن صفات الجسمية، وقيل وجه هذا القول إن الصمد الذي ليس بأجوف، معناه هو الذي لا يأكل، ولا يشرب، وهو الغني عن كل شيء، فعلى هذا الاعتبار هو صفة كمال، والقصد بقوله الله الصّمد التّنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا له الإلهية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ وقيل الصّمد الذي ليس بأجوف شيئان أحدهما دون الإنسان، وهو سائر الجمادات الصّلبة والثاني أشرف من الإنسان وأعلى منه وهو البارئ جل وعز وقال أبي بن كعب الصمد الذي لم يلد، ولم يولد لأن من يولد سيموت، ومن يموت يورث منه. وروى البخاري في أفراده عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: الصّمد هو السّيد الذي انتهى سؤدده، وهي رواية عن ابن عباس، أيضا قال هو السيد الذي كمل فيه جميع أوصاف السؤدد، وقيل هو السيد المقصود

في جميع الحوائج المرغوب إليه في الرغائب المستعان به عند المصائب، وتفريج الكرب وقيل هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتلك دالة على أنه المتناهي في السودد والشرف، والعلو والعظمة، والكمال والكرم والإحسان، وقيل الصمد الدائم الباقي بعد فناء خلقه، وقيل الصمد الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي، وقيل هو الذي لا تعتريه الآفات ولا تغيره الأوقات وقيل هو الذي لا عيب فيه وقيل الصمد هو الأول الذي ليس له زوال والآخر الذي ليس لملكه انتقال. والأولى أن يحمل لفظ الصمد على كل ما قيل فيه لأنه محتمل له، فعلى هذا يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله تعالى العظيم القادر على كل شيء وأنه اسم خاص بالله تعالى انفرد به له الأسماء الحسنى والصّفات العليا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. قوله عز وجل: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وذلك أن مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النّصارى المسيح ابن الله فكذبهم الله عز وجل، ونفى عن نفسه ما قالوا بقوله لَمْ يَلِدْ يعني كما ولد عيسى، وعزير، وَلَمْ يُولَدْ معناه أن من ولد كان له والد فنفى عنه إحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لم يتقدمه، والد كان عنه وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه، ومن كان كذلك فهو الذي لم يكن له كفوا أحد، أي ليس له من خلقه مثل، ولا نظير ولا شبيه فنفى عنه. بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ العديل والنّظير، والصّاحبة والولد (خ) عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الفلق

سورة الفلق مدنية وقيل مكية والأول أصح وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفا. (م) عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «ألم تر آيات أنزلت هذه اللّيلة لم ير مثلهن قط، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فيه بيان عظيم فضل هاتين السورتين، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه رد على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا، وفيه بيان أن لفظة قل من القرآن أيضا وأنه من أول السورتين بعد البسملة، وقد اجتمعت الأمة على هذا كله بعد خلاف ذكر فيه (خ) عن زر بن حبيش قال: «سألت أبي بن كعب عن المعوذتين قلت يا أبا الوليد إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»، وفي رواية مثلها ولم يذكر ابن مسعود عن عبد الله بن حبيب قال «أصابنا طش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بنا فخرج فقال قلت ما أقول قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح تكفيك كل شيء» وفي رواية «قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق مكة فأصبت خلوة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدنوت منه فقال قل قلت ما أقول قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، حتى تختمها ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، حتى تختمها ثم قال: ما تعوذ بالنّاس بأفضل منهما» أخرجه النسائي عن جابر بمثله، ومعنى الطّش الطشيش المطر الضّعيف، وهو قول أبي الدّرداء. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال ابن عباس وعائشة: «كان غلام من اليهود يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فدبت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت السورتان فيه». (ق) عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يخيل إليه أن يصنع الشيء ولم يصنعه» وفي رواية «أنه يخيل إليه فعل الشيء، وما فعله حتى إذا كان يوم، وهو عندي دعا الله، ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت: وما ذاك يا رسول الله قد جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب، قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق قال: فيما ذا قال في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر قال فأين هو قال في بئر ذروان، ومن الرواة من قال في بئر بني زريق فذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قلت يا رسول الله فأخرجه. قال أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخفت أن أثير

على الناس منه شرا». وفي رواية للبخاري «أنه كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك» عن زيد بن أرقم قال «سحر رجل من اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى ذلك أياما فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك، وعقد لك عقدا في بئر كذا فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا فاستخرجها، فجاء بها فحلها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط» أخرجه النسائي وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيه مشاطة من رأسه صلّى الله عليه وسلّم وأسنان من مشطه»، وقيل كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كان مغروزا بالإبر فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال وروي «أنه لبث ستة أشهر، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان» (م) عن أبي سعيد الخدري «أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك». (فصل وقبل الشروع في التفسير نذكر معنى الحديث، وما قيل فيه، وما قيل في السحر، وما قيل في الرقى) قولها في الحديث إن النبي صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء، ولم يصنعه. قال الإمام المازري: مذهب أهل السّنة، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة خلافا لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء، وزوجه وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له وهذا الحديث الصحيح مصرح بإثباته، ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوي لا يعرفها إلا الساحر، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده. فإن قلت المستعاذ منه هل هو بقضاء الله، وقدره فذلك قدح في القدرة. قلت كل ما وقع في الوجود هو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتّعوذ، والرّقى من قضاء الله، وقدره يدل على صحة ذلك. ما روى التّرمذي عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا، قال: هي من قدر الله تعالى» قال التّرمذي: هذا حديث حسن وعن عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى. (فصل) وقد أنكر بعض المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه، وزعم أنه يحط منصب النّبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع. ورد على هذا المبتدع بأن الذي ادعاه باطل لأن الدّلائل القطعية، والنقلية قد قامت على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا، وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له.

وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، وليس واطئ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام. فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة، ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد ما تخيله فتكون اعتقاداته على السّداد قال القاضي: وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الزّيغ والضّلالة، وقوله ما وجع الرجل قال مطبوب أي مسحور قوله، وجف طلعة ذكر يروى بالباء ويروى بالفاء، وهو وعاء طلع النخل. وأما الرّقى والتّعاويذ فقد اتفق الإجماع على جواز ذلك إذا كان بآيات من القرآن، أو إذ كانت وردت في الحديث، ويدل على صحته الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث أبي سعيد المتقدم أن جبريل رقي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين. أفأسترقي لهم قال نعم فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه التّرمذي وقال: حديث صحيح وعن أبي سعيد الخدري «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ ويقول أعوذ بالله من الجان، وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن غريب فهذه الأحاديث تدل على جواز الرّقية، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي لجواز أن يكون فيه كفر والله أعلم. (وأما التفسير) فقوله عز وجل قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، أراد بالفلق الصبح، وهو قول الأكثرين، ورواية عن ابن عباس لأن الليل ينفلق عن الصبح وسبب تخصيصه في التعوذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه، ويخشاه، وقيل إن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج، كما أن الإنسان ينتظر طلوع الصّباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح، وقيل إن تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين، وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت، الذي يفرج فيه هم المهمومين والمغمومين، وروي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم، وقيل هو واد في جهنم إذ فتح استعاذ أهل النار من حره، ووجهه أن المستعيذ قال: أعوذ برب هذا العذاب، القادر عليه من شر عذابه، وغيره وروي عن ابن عباس أيضا أن الفلق الخلق، ووجه هذا التأويل، أن الله تعالى فلق ظلمات بحر العدم بإيجاد الأنوار، وخلق منه الخلق، فكأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات، ومكون جميع المحدثات مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ قيل يريد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقا هو شر منه، ولأن السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل من شر كل ذي شر، وقيل من شر ما خلق من الجن، والإنس. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح، فعلى هذا الحديث المراد به القمر إذا خسف، واسود ومعنى وقب دخل في الخسوف، أو أخذ في الغيبوبة، وقيل سمي به لأنه إذا خسف اسود، وذهب ضوءه وقيل إذا وقب دخل في المحاق، وهو آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المورث للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه الآية. وقال ابن عباس: الغاسق الليل إذا وقب أي أقبل بظلمته من المشرق، وقيل سمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، والغسق البرد وإنما أمر بالتعوذ من الليل لأن فيه تنشر الآفات، ويقل الغوث وفيه يتم السحر، وقيل الغاسق الثريا إذا سقطت، وغابت، وقيل إن الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها فلهذا أمر بالتعوذ من الثريا عند سقوطها وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها،

وقيل المراد بالنفاثات بنات لبيد بن الأعصم اللاتي سحرن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والنفث النفخ مع ريق قليل، وقيل إنه النفخ فقط. واختلفوا في جواز النّفث في الرّقى، والتّعاويذ الشّرعية المستحبة فجوزه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات» الحديث وأنكر جماعة التّفل، والنّفث في الرقى، وأجازوا النّفخ بلا ريق قال عكرمة: لا ينبغي للرّاقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، وقيل النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون مذموما، ولا مكروها بل هو مندوب إليه. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ الحاسد هو الذي يتمنى زوال نعمة الغير، وربما يكون مع ذلك سعي، فلذلك أمر الله تعالى بالتعوذ منه، وأراد بالحاسد هنا اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلّى الله عليه وسلّم أو لبيد بن الأعصم وحده والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

سورة الناس

سورة الناس وهي مدنية وقيل مكية والأول أصح وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وسبعون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إنما خصص الناس بالذّكر، وإن كان رب جميع المحدثات لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس، فكأنه قال أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم فإنه هو الذي يعيذهم من شرهم، وقيل إن أشرف المخلوقات هم الناس، فلهذا خصهم بالذكر. مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ إنما وصف نفسه أولا: بأنه رب الناس، لأن الرب قد يكون ملكا، وقد لا يكون ملكا فنبه بذلك على أنه ربهم، وملكهم ثم إن الملك لا يكون إلها، فنبه بقوله إِلهِ النَّاسِ على أن الإلهية خاصة بالله سبحانه، وتعالى لا يشاركه فيها أحد، والسبب في تكرير لفظ الناس يقتضي مزيد شرفهم على غيرهم مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعني الشّيطان ذا الوسواس، والوسوسة الهمز، والصوت الخفي. الْخَنَّاسِ يعني الرجاع من الذي عادته أن يخنس أي يتأخر. قيل إن الشيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا غفل وسها وسوس، وإذا ذكر الله تعالى خنس الشيطان عنه، وتأخر وقال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب وقيل كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويجذبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكر الله تعالى رجع، ووضع رأسه على القلب فذلك قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ يعني بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع، والمراد بالصدر القلب مِنَ الْجِنَّةِ يعني الجن وَالنَّاسِ وفي معنى الآية وجهان: أحدهما: أن الناس لفظ مشترك بين الجن والإنس، ويدل عليه قول بعض العرب جاء قوم من الجن، فقيل من أنتم قالوا أناس من الجن، وقد سماهم الله تعالى رجالا في قوله يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فعلى هذا يكون معنى الآية أن الوسواس الخناس يوسوس للجن كما يوسوس للإنس. الوجه الثاني: أن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة، وهم الجن وقد يكون من الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس للإنسان تارة، ويخنس أخرى، فكذلك شيطان الإنس قد يوسوس للإنسان كالنّاصح له فإن قبل زاد في الوسوسة، وإن كره السامع ذلك انخنس وانقبض فكأنه تعالى أمر أن يستعاذ به من شر الجن والإنس جميعا (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم ينفث

فيهما، فيقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما» أخرجه مالك في الموطأ ولهما بمعناه (ق) عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار» عن ابن عباس قال: «قيل يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، قال الحال المرتحل قيل، وما الحال المرتحل قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل» أخرجه التّرمذي، والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

§1/1